ظهرت في عالمنا الإسلامي منذ عدة سنوات دعوات لدراسة الغرب أو إخضاعه لدراستنا، ومن ذلك ما كتبه السيد محمد الشاهد حول أهداف هذه الدراسة فذكر منها :" طلب علوم الغـرب للإفادة من صـالحها وبيان فساد طالحهـا ، والخلفيــة الفكرية للفكر الغربي." ([1])،وأوضح من ضمن الموضوعات التي يمكن دراستها :
(أ) دراسة عقيدة الغرب دراسة موضوعية بعيداً عن الحماسة والعاطفة.
(ب) دراسة الشخصية الغربية من حيث مكوناتها وبنائها النفسي والاجتماعي .([2]) وأكد السيد الشاهد في مقالة أخرى على قضية مهـمة وهي " إن علينا أن نبحث عن مخرج من موقفنا الضعيف إلى موقع قوي مؤثر ،ولا يمكن ذلك إلاّ بدراسة علمية صادقة لما عليه أعداؤنا ولا حرج أن نتعلم من تجاربهم ومناهجهم ونأخذ منها ما ينفعنا ونترك منها ما عدا ذلك."([3])
كما أصدر الدكتور حسن حنفي كتابا ضخما بعنوان: مقدمة في علم الاستغراب ، تناول فيه أهمية دراسة الغرب فأوضح أن مهمة علم "الاستغراب" هي :" فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر ، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مـدروس ، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس. مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب لغة وثقافة وعلماً ومذاهب ونظريات وآراء."([4])وأشار في مواضع أخرى إلى مهمات أخرى لعلم "الاستغراب" ومنها أنه يسعى إلى القضـاء على " المركزية الأوروبيـة Eurocentricity ،Eurocentrism ، بيان كيف أخذ الـوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة، مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء ودور النشر الكبرى ومراكز الأبحاث العملية والاستخبارات."([5]).
ويرى حسن حنفي أنه ظهر في العالم العربي من اهتم بدراسة الغرب ولكنه أطلق على هذه الدراسات بالاستغراب " المقلوب" ويبرر هذه التسمية بأنها تؤدي إلى أنه " بدلاً من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه رأى صورته في ذهن الآخر ، بدل أن يرى الآخر في مرآة الأنا رأى الأنـا في مرآة الآخر. ولما كان الآخر متعدد المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه." وضرب حسن حنفي المثال لهذا بكتابات محمد عابد الجابري وهشام جعيط، ومحمد العروي وهشام شرابي وغيرهم.([6])
وتأتي أهمية دراسة الغرب لمواجهة حالة الانبهار التي أصابت كثيراً من أبناء الأمة الإسلامية ، فيرى البعض أن النظام السياسي الأمثل هو الذي أوجدته الحضارة الغربية وقد دعوت إلى هذه الدراسـة في كتابي الغرب في مواجهة الإسلام فقد ورد في هذا الكتاب العبارة الآتية:" انظر كيـف يدرسوننا ، وكم يبذلون من الجهود والأموال لمعرفة ما يدور في بلادنا .وهل نحن ندرسهم بالمقابل؟ بل قبل ذلك هل عرفنا أنفسنا كما يعرفون عنّا ؟ إن هذا الأمر يحتاج من مفكـرينا وعلمائنا وقفة متأنية."([7]) وقد تأكدت لي ضرورة هذه الدراسة نتيجة لما تعرفت إليه من بعض الصور الحياتية التي تدل على عدم ثقة البريطانيين في حكومتهم رغم أنها أقدم ديموقراطية في أوربا.
واستمرت مقالاتي تدعو لدراسة الغرب وكان منها مقالة بعنوان :" بل لابد من دراسة الغرب ونقده" جاءت رداً على مقالة عبد الرحـمن العرابي التي ينتقد فيها الاهتمام الزائد بالغرب والكتـابة عنه ، ومما بررت به ضرورة دراسة الغرب أنه ظهر من أبناء المسلمـين من درس في الغرب ورجع إلينا متشبعاً بالروح الغربية حريصـاً على تقليد الغرب في كل شيء فكان لابد من معرفة الغرب معرفة حقيقية ومما كتبته في حينها :" في مثل هذه الأجـواء يجب الاستمرار في دراسة الغـرب و الاطلاع على عوراته وعيوبه وتبصير الأمة بها ولا بد كذلك من دراسة إيجابيات الغـرب فإن للسلف أقوالاً في وصف أعدائهم لم يمنعهم الإسلام مـن ذكر محاسنهم وهذا ما جاء في قوله تعالى {ولا يجرمنّكم شنآن قـوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}([8])، وختمت المقالة بالقول:" إننا بحاجة لدراسة الغرب كيف نهض نهضته الصناعية المدنية ، وكيف بنى مؤسساته ثم كيف بدأ الانهيار حتى نأخذ بأسباب الانطلاق ونتجنب أسباب الانهيار."([9])
وكانت كلية الآداب بالرباط بالتعاون مع مدرسة الملك فهد العليا للترجمة وجمعية الدراسات المشرقية في المغرب ومكتب تنسيق التعريب في العالم العربي قد عقدت ندوة حول الاستشـراق عام 1994 ، وجاء في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها أحمد شحلان دعوته إلى الاهتمام بالدراسات الاستشراقية مشيراً إلى أن الهدف من ذلك هو:" أن نعرف ونقوّم الدرس الاستشراقي تاريخاً وحضارة بمنظور مغربي(إسلامي) رزين يعيد النظر في تاريخ الاستشراق ويعرِّف بمعـاهده وأعلامه ويبرز أعمالهم كما هي." ([10]) وأضاف شحلان في تلك الكلمة إلى دراسة الغرب بقوله :" أليس من الجميل أن يصبح في جامعاتنا أقسام نسميها أقسام الاستغراب في مقابل الاستشراق؟ أليس من الجميل أن نعتبر الطرف الآخر هو أيضاً موضوع الدرس والتنقيب؟"([11]) وكتبـت في حينها أؤيد ما دعا إليه الدكتور شحلان في ثلاثة مقالات أوضحت فيها جهود جامعة الإمام محمد بن سعود الإسـلامية بالرياض في دراسة الاستشراق ومنابعه الفكرية من خلال إنشاء وحدة الاستشراق والتنصير بعمادة البحث العلمي في الرياض، ثم إنشاء قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة. وأيـدت الدعوة التي نادى بها شحلان في المؤتمر المغربي وأضفت بأننا نحتاج بالفعل إلى إنشاء كلية للدراسات الأوروبية (والأمريكية) وختـمت تلك المقالات بالعبارة الآتية: " لهذا كله فلا بد من التفكـير الجاد في هذا الاقتراح بإنشاء كلية متخصصة لدراسة الغرب دراسة عميقة ، وهذه الدعوة موجهة إلى الجامعات الإسلامية بعامة وإلى الجامعات في بلادنا بخاصة. وإن جامعة الإمام التي كانت سبّاقة ورائدة في دراسة الاستشراق لقادرة بإذن الله على مثل هذه المشـروعات الكبرى بعد دراستها من قبل المتخصصين ."([12]) ونبهـت إلى أن الذي يدرس الغـرب ينبغي له أن يكون على معرفة عميقة وصحيحة بالإسلام، حتى يكون قادراً على فهم الغرب من منطلق إسلامي* .
وكتبت في مناسبة أخرى أدعو إلى إخضاع الغرب إلى الدراسـة في شتى المجالات بالقول: "لا شك أن دراسة الغرب تتطلب تخصصاً كالقانون أو الاجتماع أو السياسة أو علم الإنسان أو التاريخ ...الخ .. وقبل أن يتساءل القارئ وما شأننا بكل هذا فنقول أليس الغرب أمة يجب أن نتوجه إليهم بالدعوة ونحـن مطالبون بالشهادة على الأمم فكيف للشاهد أن يشهد دون أن يعرف معرفة دقيقة موضوع شهادته."([13])
ويرى محمد عثمان الخشت بأن فهم الغرب أمر ضروري لفهم موقفهم من الإسلام ويقول في ذلك: "ولذلك يتعين على المثقفين الإسـلاميين لا نقد الفهم الغربي للإسلام وحضارته فقط وإنما كذلك إقامة "علم الاستغراب." كعلم يدرس الحضارة الغربية لا لهدمها وبيان إفلاسها الروحي وأنها على وشك الانهيار بل لفهمها من الداخل واكتشاف هويتها بعقل مفتوح وقلب ملتزم. "([14]) ويضيـف الخشت قائلاً:" وإنما نحن نعاني مما يعاني منه الغرب في هذا الإطار فنحن لم نفهم الغرب بعـد فهماً موضوعياً ،والسبب ببساطه هو أنه لم يقم عندنا " علم الاستغراب" كعلم دقيق حتى الآن، وإنما مزاعم بهذا الشأن هي مجرد أهواء وسراب."([15])
وقد ازدادت الأصوات المنادية بدارسة الغرب فقد كتب قسطنطين زريق يقول :" إن الحضور الأمريكي في الذهن العربي ليس في مجمله صحيحاً وكافياً لأنه ليس وليداً لدينا من معرفة صادقة وموثوق بها ومن علم حي متنام." ([16])
وقد انتقد إدوارد سعيد عزوفنا في العالم العربي عن دراسة الغرب، فذكر أن العديد من المثقفين العرب المسلمين يذهبون إلى الغرب ليكتبوا عن العالم الإسلامي ومما قاله: " إن صادق جـلال العظم مثلا الذي يفترض أنه ناقد كبير قضى ثلاث سنوات في أمريكا وجل ما فعله هو تدريـس الشرق الأوسط إلى صغار أمريكا.." وأطلق سعيد على ذلك بأنه نوع من " النرجسية الـتي تدعو إلى الأسـى عند جزء من المثقفين العرب" وتساءل سعيد " لماذا لا تكون لدينا إسهامات عربية معاصرة أكثر أهمية في دراسة فرنسا وألمـانيا أو أمريكا" فالعرب أصبحوا في نظر سعيد " أسرى حالة من الـ (غيتو) لأنهم يكتبون عن العالم العربي بالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، وينظر إليهم كمخبرين محليين ."([17])
ويؤكد سعيد هذه الفكرة حين التقى مجموعة من الشباب اللبناني يكتبون عن لبنان في أمريكا، فقال لهم:" لستم هنا لكي تكتبوا عن أنفسكم، تستطيعون الكتابة عن لبنان في لبنان، هنا يتوجب عليكم أن تكتبوا وتشاركوا في الجدالات الدائرة حول أمريكا في أمريكا."([18])
ولعل إدوارد سعيد فاته أن هذا الأمر قد خطط له منذ عشرات السنين، فقد جاءت لجنة حكومية بريطانية برئاسة السير وليام هايترSir William Hayter للتعرف على الدراسات العربية الإسـلامية في أمريكا وكندا فوجدت أن معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مقيل McGill قد وجه طلابه المسلمين ليكتبوا عن بلادهم، وأقنعهم بأن هذه الكتابة ستكون في مصلحتهم لأنهم سينظرون إلى مشكلاتهم من بعد (مسافة) وربما قيل لهم " إنكم ستحررون هناك من بعض القيود في بلادكم" ، فأعجبت الفكرة أعضاء اللجنة، وجعلوها ضمن توصياتهم([19]). ولكن الأمر من هذا حـين تتحول بعض الرسائل إلى نوع من التجسس على العالم العربي الإسلامي، بما تقدمه من معلومات يصعب على الغربيين الوصول إليها، كما أشار إلى ذلك أحمد غراب من توجيه بعض الأساتذة تلاميذهم من العرب والمسلمين دراسة قضايا معينة في بلادهم.([20])
وأعود إلى إدوارد سعيد لأقتبس من مقالته التي نشرت في 17 صفر 1417 والتي أكد فيها ضرورة معرفة الآخر، فهو يقول: " ولا أعـتقد أن من الإجحاف القول إن العرب هم الأقل مساهمة في تغيير الحضارة والسياسة والمجتمع في الغرب، ونحن نتمتع في بلداننا بأحدث البضائع الاستهلاكية وكل وسائل الراحة المستوردة من الخارج وليس من يضارعنا فيم عرفة آخر طرازات سيارة مرسيدس أو البرامج التلفزيونية المفضلة، لكنني لا أعرف جهدا منظما في الجامعات العربية وفي مؤسساتنا الدينية لتعميق معرفتنا بالآخر، أي بالمجتمعات المختلفة واللغات والتواريخ التي تشكل عالمنا الحالي.."([21])
وكنت أشرت من قبل إلى مقولة عبد الرحمن العرابي بعدم ضـرورة إشغال أنفسنا بدراسة الغرب والكتابة عنه فقد كتب هاشم صـالح -تلميذ محمد أركون- منتقداًً الدعوة إلى " علم الاستغراب" بدعوى أننا ما زلنا غير قادرين على الوصول إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم في العلوم ومناهج البحث ، بل إنه استهزأ بمشروع حسن حنفي في دراسة الغرب ( الاستغراب) بقولـه: " كيـف يمكن لهذا "العلم" الغريب الشكل أن ينهض على أسس قويمة إذا كنّا عاجزين حتى الآن عن استيعاب الثورات اللاهوتية والابستمولوجية والفلسفية للفكر الغربي ، وإذا كنّا عاجزين عن إحداث مثلها في ساحة الفكر العربي ؟ وكيف يمكن لنا أن نقف موقف الند من الغرب إذا كنّا لا نملك أبسط المقومات حتى مشروع الترجمة لم نقم به كما ينبغي. "([22])
وما يمكن قوله لهذا المتعجب من دراسة المسلمين للغرب هو هل من الضروري أن يمر المسلمـون بالأدوار الفكرية والفلسفية التي مرّ بها الغرب حتى نفهم الغرب؟ وهل من الضروري أن ننقـد القرآن الكريم والسنة المطهرة وفقاً لنقد النص الذي قام به الغربيون لنصوصهم " المقدسة" حتى يمكننا أن ندرسهم ؟ ولكن ألا يعرف الكاتب أن الأمة الإسلامية مطمئنة إلى أن كتاب ربها قد نقل إليها بالتواتر فليس في الدنيا كتاب نال من العناية والاهتمام ما ناله القرآن الكريم .ومن ناحية أخرى يؤمن المسلمون بأن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}([23]) فهذا هو المنطق المعكوس أن نتوقف عن التفكير في دراسة الغرب حتى نمر بجميع المراحل الفكرية التي مر بها الغرب، وأن نطعن في نصوصنا دون النظر إلى الجهود التي بذلها العلماء المسلمون في الحفاظ على الكتاب والسنة وهي جهود لم تقم بها أمة من الأمم لحفظ كتاب ربها وسنة نبيها .
وجاءت ندوة " أصيلة " لتدعو إلى إنشاء مركز الدراسات الأمريكية فكانت المبررات التي نشرت تتلخص فيما يأتي:" فقد اتفق الحضـور على وجود بعض أشكال من عدم الفهم للعروبة والإسلام في أمريكا وهذا ما يصعب تقديم قضايا العرب والمسلمين بصفـة جيدة كذلك اتفقوا بالمقابل على عـدم التفهم العربي الكافي لأمريكا ومجتمعها وعمل إدارتها السياسية."([24]) ورأى المجتمعون أن من الأهداف التي من الممكن تحقيقها من إنشاء المعهد " تقريـب وجهات النظر وتقديم رؤية معتمدة على المعلومات المعـاصرة وليس على الحساسيات التاريخية التي تتحكم بالجانبين" أما الوسـائل التي سيستخدمها المعهد في تحقيق أهدافه فكما أشار الخبر :" تقوية الحوارات والاتصالات بين الأكاديميين والصحافيين والعلمـاء والاقتصاديين من كلا الطرفين، كما يطبع الأعمال الثقافية والفكرية التي تخدم كافة أشكال الحوار الحضاري بين الثقافتين العربية والأمريكية."([25])
ومن الطريف أنني قبل ندوة " أصيلة " بأسبوعين تقريباً وفي المحـاضرة التي ألقيتها بدعوة من نادي أبهـا الأدبي وفي 8ربيع الأول 1417 ناديت بإنشاء كلية الدراسات الأوروبية والأمريكيـة و هذا ما قلته في تلك المحاضرة:"وأجدها فرصة مناسبة لأدعو من هذا المنبر * لإنشاء كلية للدراسات الأوربية أو مركز أبحاث الـدراسات الأوروبية في المدينة المنورة، تكريما لهذه المدينة العظيمة التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية فعم نورها أرجاء الدنيا وما زال."
وقد أثار هذا الاقتراح الكثير من ردود الأفعال المؤيدة ومنها ما كتبه عبد القادر طاش مشيراً إلىً أن الواقع يشهد نقصاً في " المعرفة العلمية الموضوعية ... لابد لمثل هذا المعهد أن يعنى عناية فـائقة بالدراسات الجادة التي تقدم لنا -نحن العرب والمسلمين- رؤية عميقة وموضوعية عن الفكر الأمريكي في تجلياته الإيجابية وفي قصوره السلبي وعن التيارات الثقافية التي يموج بها المجتمع الأمريكي وذلك لنعرف أمريكا على حقيقتها عوضاً عن الاعتماد على الانطباعات العجلى والرؤى القاصرة."([26])
ولكن طاش توقف عند فكرة الحساسيات التاريخية* التي يريد مؤسسو المركز استبعادها من أن تكـون مصدراً للمعرفة فقال :" ولكننا -مع ذلك- لا ينبغي أن نقلل من أثر الدوافع التاريخية في توتير العلاقة بين الطرفين فكرياً وثقافياً. كما لا ينبغي إهمال النظر إلى العوامل الأيديولوجية والسياسية وحتى الاقتصادية التي تؤثر على تلك العلاقة سلباً أو إيجاباً .لذلك فإن الرؤية المتكاملة تفرض علينا دراسة ظاهرة العلاقة بين أمريكا والعرب في ضوء كل هذه العوامل مجتمعة ولا يمكن فصل الحاضر عن الماضي."([27])
وتعجب عبد الرحمن الراشد أن لا توجد في العالم العربي دراسة " العلوم الأمريكية بتخصيص كلية أو مركز لها." وأشار إلى أن لدى الأمريكيين العشرات من المراكز والكليات المتخصصة في تدريس وإجراء بحوث عن منطقة الشرق الأوسط . وهناك مئات الجامعات الأمريكية التي تدرس العلوم الإسلامية وحضارتها ضمن برامج مكثفة في حين أننا لا نملك قسماً واحداً متخصصاً في العلوم الأمـريكية مع أننا نعيش في القرن الأمريكي."([28])وأكد الراشد على ضـرورة هذه الدراسات بقوله بأننا " لا يمكن أن نفهم ممارسـات النظام الأمريكي سياسة واقتصاداً وثقافة من خلال تفاسير بسيطة تنطلق من روح المؤامرة الدائمة أو اللوبي الصهيوني أو لوبي السلاح ، بل هناك دولة عظمى تتنازعها قوى داخلية كبرى وتؤثر على سياساتها طروحات حزبية أهم من إسرائيل وغيرها."([29])
ولا بد هنا من التأكيد على أن أمريكا وإن كانت القوة العظمى في العصر الحاضر فإن هذا لا يمنع من دراستها ليس بالروح الانهزامية التخاذلية ، كما نؤكد ما قاله عبد القادر طاش بأننا لا ينبغـي أن نغفل العامل التاريخي أو الأيديولوجي أو السياسي أو حتى الاقتصادي في العلاقات بين العالم العربي الإسلامي وأمريكا والغرب عموماً.
وقد علّق أحد القراء على هذه القضية وأضاف بعداً جديداً بأن دراسة الولايات المتحدة وحدها لا يكفي فلا بد أن تتسع هذه الدراسات لتشمل دول الاتحاد الأوروبي ونمور آسيا والصين والهند وروسيـا.([30])وهو ما ينطبق عليه تعريفنا للآخر وفقا للمفهوم القرآني كما أوضحناها في بداية هذا البحث.
ولابد أن تنطلق رحلتنا لمعرفة الآخر من أسس شرعية، وقد كانت محاضرة الدكتور جعفر شيخ إدريس في مهرجان الجنادرية لهذا العام رائعة جدا في تحديد هذه المنطلقات، وأحب أن ألخصها هنا في النقاط الآتية:
1 - كل جماعة من البشر ترى أن ما هي عليه من المعتقد والقيم والعمل أفضل مما عليه غيرها مهما كان ما هي عليه باطلا بمقياس الشرع، والدليل على هذا قوله تعالى: {كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبؤهم بما كانوا يعملون}([31]).
2 - تتقارب الأمم مع من كان على شاكلتها، ألم تذهب جهود تركيا طوال عشرات السنين هباء للالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة، وهاهي ليتوانيا وأستونيا تدخلان السوق ولم يمض على استقلالهما سنتان أو ثلاثة.
3 - عدم الرضا التام إّلاّّ من كان على شاكلتهم، {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}([32]).
4 - إن حرصهم على أن يكون غيرهم معهم يدفعهم للضغط على المخالف ولاسيما مخالفا يساكنهم بأنواع من الضغوط تصل أحيانا حد الضرب أو السجن أو النفي أو حتى القتل {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}([33]). وقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكـبروا من قومه لنخرجنّكَ يا شُعَيْبُ والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال أولو كنا كارهين}([34]).
5 - يرى أهل بعض الحضارات والأديان أن دينهم أو حضـارتهم من خصائصهم القومية التي لا يريد أحدا أن يشاركه فيها وحتى إنهم لا يروا أنفسهم ملزمين بالتعامل معهم بالقيم الأخلاقية {ومـن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك إلا مـادمت عليه قائما، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}([35]).
6 - الرغبة الجامحة لدى بعض الحضارات في السيطرة والسيادة " تدفعهم لأن يعدوا العدة لبقاء حضارتهم والدفاع عنها في حال وجود خطر يهددها، والعمل لإخضاع الآخرين لها " وذكر الشيخ جعفر الرغبة الجامحة لدى الغرب في السيطرة، فمثلا في دولته الكبرى في الولايات المتحدة وهم لا يخفون ذلك، كما هو واقع لمن يتابع أحداث العالم بقلب واع وأفق واسع([36]).
أما موقفنا من الآخر، فقد حدد الدكتور جعفر ذلك في عدة نقاط هي:
1 - الدعوة إلى الحق عملا بقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}([37]).
2 - إعداد القوة الرادعة، فلابد أن يكون للمسلمين قوة حتى لا يظهر أحد تحدثه نفسه بالغزو، وحتى لا يكون المسلمون فتنة حيث نكون على الحق ونكون الأضعف فينفر الناس من الحق الذي معنها. (القوة من أجل السلام)* .
3 - الجنوح للسلم.
4 - تبادل المنافع.
ويخلص الدكتور جعفر إلى القول بأن (الحضارة الغربية هي التي تدفع الآخرين لمعاداتها حيث تعمل في طريق التطور الطبيعي لغيرها، وتعد كل ماعداها خطر عليها، فتتحدث عن الغربي والآخر The West & The Rest تماما كما كان بعضهم ولا يزال يصف كل من ليس على دينه بالأميين (أو الأمميين) ولا يرى أنه ملزم في التعامل معهم بخلق أو دين)([38]).
وقبل أن نختم هذه الفقرة نشير إلى أن الآخر الذي نقصده ليس هو فقط العدو الخارجي ولكن ثمة أناس من أبناء جلدتنا يمكن أن يكونوا أخطر من العدو الخارجي: هم أولئك الذين تأثروا بالفكر الغربي وأصبحت لهم مواقف مختلفة في النواحي الفكرية والثقافية والسيـاسية لا تتفق مع المنهج الإسلامي في التفكير ، فقد يبدي عـداءً للغـرب أو للآخر الحقيقي ولكنه في الوقت نفسه يتبنى كثيراً المواقف المنافية لمصالح الأمة الإسلامية والمنطلقة من المنهج الإسلامي وأضرب لذلك بأمثلة محدودة من هذه المواقف:
لقد زعم هؤلاء بأنهم حزب التنوير الحديث في العالم الإسلامي ولكن أي تنوير هذا وهم يعاندون توجهات الأمة فقد أقر مجلس الأمة في الكويت في الشهور الأخيرة منع الاختلاط في المدارس والجامعات الكويتية ولكن ظهر أعداء الفصل بين الجنسين وشنوا حملة شعواء على هذا القرار وكان من الذين كتبوا عن هذا الموضوع محمد صلاح الدين حيث كتب يقول:" جندت (في الشهور التي تلت التصديق على قرار منع الاختلاط) القوى العلمانية قواها وأطلقت عقـال أحقادها وافتراءاتها لحث الحكومة على رد القانون الجديد إلى البرلمان والتحذير من آثاره على سمعة الكويت الدولية."([39]) وتحدث صلاح الدين في المقال نفسه عن تولي حزب الرفاه رئاسة الوزارة في تركيا بعـد صراع سياسي استمر عدة شهور تحالفت فيه كل الأحزاب العلمانية لحرمان الرفاه الإسلامي من ثمار نصره الانتخابي وحقه الديموقراطي."* ووصف محمد صلاح الدين الديموقراطية التي ينادي بها العلمانيون العرب والمسلمين بأنها " ديموقراطية صليبية تقوم على أساس استئصال الإسلام ودعاته من حيـاة العباد وتوجهات البلاد ، وأن التعددية التي يتخوفون عليها هي في حقيقتها دكتاتورية مقنّعة تعتمد على نفي الشريعة وأحكام الدين من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، والسماح لكل ما عدا ذلك من مذاهب وأيديولوجيات باعتبار الإسلام هو العدو الأول والوحيد."([40])
وقد ظهرت مواقف هذا الآخر من الإسلام والمسلمين في مـواقف كثيرة منها أن إحدى الصحـف أجرت استطلاعاً عن أبرز الكتب التي أثرت في حياة المسلمين في القرن الماضي فتواطأت رؤية عدد من الذين استطلعت آراؤهم على الإشادة بكتاب علي عبد الرازق ( أصول الحكم الإسلامي) وكتاب طه حسين ( في الشعر الجاهلي ، وكتاب قاسم أمين (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)وكتب أخرى على شاكلتهما. وليت الأمر اقتصر على الاستطـلاع الذي نشرته الصحيفة بل إن الهيئة المصرية العامة للكتاب قامت بإعادة نشر هذه الكتب في طبعة فاخرة وبأسعار زهيدة -كما أشار إلى ذلك عبد الله الجفري الذي تلقى هذه الكتب هدية من الهيئة-([41])
ومن مواقف الآخر الداخلي استئثاره بالدعوات لبعض المؤتمرات والندوات واستبعاد من ليس على شاكلتهم . فقد كتب عبد العزيز عطية الزهراني حول الندوة التي نظمتها مؤسسة الأهرام بالقـاهرة تحت عنوان " مشروع حضاري عربي" فيقول الزهراني :" ليس مستغرباً من ندوة الأهرام أن تغيِّب الإسلام من محاورها وموضوعاتها فالغرب منذ عصر النهضة وحركة التنوير -في مفهومهم للنهضة والتنوير- وهـم يركضون ركض الإبل في القفار والصحارى الشاسعة دون أن يصلوا إلى نبع الماء وبقيت الحلقة الرئيسية في نهضتهم المزعومة مفقودة."([42])
وأكد الزهراني في مقالته على أهمية دور العقيدة بقوله:" إن المشروعات الثقافية والفكرية التي لم تقدر على استيعاب العبر والدروس من التاريخ في ماضيه و حاضره لن يكون لها نصيب من النجاح... وسوف تذكر الأجيال القادمة أن حضارتهم لم تكن لتتعثر لو قام المخلصون ذوو القلوب الواعية بمزجها بهذا العنصر الأساس في مكوناتها ( العقيدة ) والتي لا تكتمل بدونه"([43])
ومن مظاهر الآخر الداخلي تهجمه على التشريعات الربانية كالتهجم على مظاهر الحياة الإسلامية التي من ملامحها الحجاب حيث كتب أحدهم في جريدة الأهرام عن الملابس والاحتشام فأطلق على الحجاب بأنه غزو ثقافي بدوي قادم من الصحراء . ويعلق محمد صلاح الدين على ذلك بقوله:" وهكذا أصبحت الأحكام الشرعية مـرتعاً لعبث العابثين و المتزلفين وعدت الأوامر الإلهية حمى مستباحاً في ديار المسلمين للمنحرفين والمتحللين والعياذ بالله."([44])
و ظهر هذا الآخر الداخلي أيضاً في مجال الأدب وفي الثقافة وفي التاريخ وفي علم الاجتماع وفي الفـكر السياسي والاقتصادي . ففي مجال الأدب تبنى بعض هؤلاء نظريات الحداثة الغربية التي تنادي بالقطيـعة مع التراث ، بل إنها تسعى إلى "تحطيم السائد والموروث ، وتفجـير اللغة " وأما ما يتذرعون به من التجديد في الأشكال الأدبية للشعر والنثر فإنما جزء من الخداع الذين أتقنوا فنه، وإلاّ فإن الحداثة تتضمن نظرة متكاملة إلى الحياة والكون بعيداً عن الدين وبخاصة الدين الإسلامي. ومن الأدلة على ذلك أنهم حين أصدروا مجلة "أبواب" كانت في أول أعدادها تعلن الحرب على ما أطلقوا عليه الأصولية حيث يقول في ذلك محمد نور الدين :" أبواب تفتح أبـواباً للتحديث والديموقراطية ( على النسق الغربي، وهل هناك نسق عالمي آخر ؟) وتحـمل عصا غليظة تهش بها الأصولية والأصوليين ." ([45])
وفي المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين تحدث يوهانس يانسن Johannes Jansen تحت عنوان (فشل المشروع الليبرالي ) تناول فيه بالحديث فشل النخبة العلمانية في التأثير في المجتمع المصري بخاصة وفي العالم العربي بعامة ، وأرجع ذلك إلى أن هؤلاء يعيشـون في بروج عاجية وأن الحاجز كبير بينهم وبين عامة الشعب. وقد ذكر يانسن في ملخص موضوعه أن كتابات النخبة من أمثال حسن أحمد أمين ومصطفى أمين وفؤاد زكريا ونصر حـامد أبو زيد، ومحمد سعيد العشماوي التي تركز على الهجوم على "الأصولية" الحديثة تجد رواجاً ولهم قراء كثيرون لكنهم فشلوا في تحريك الجماهير.([46])وفي المؤتمر نفسه تحدث نبيل عبد الفتاح و هاله مصطفى -وهما من مؤسسة الأهرام- عن الحركات الإسلامية(الأصولية) وموقفها من الديموقراطية الحديثة فحشدا كثيراً من الاتهامات والدعاوى والزعومات ضد هذه الحركـات دون تمييز بين حركات تدعو إلى تحكيم شرع الله وتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع ميادين الحياة، وبين تلك التي اتخذت خط العنف مهما كان حجمها صغيراً. وأصر المتحدثان على أن الحركـات الإسلامية لا يمكن أن يكون لديها القابلية للقبول بالتعددية أو القبول بمعطيات الحضارة الغربية .([47])ولاشك أن المـحاضرين ينطلقان من منطلق العداوة للحركات الإسلامية فلم يكن النقاش حول مواقف الحركات الإسلامية عقلانياً أو منطقياً . كما أن إدارة المؤتمر ربما تعمدت أن لا يكون في الحضور من يمثل وجهة نظر الحركات الإسلامية ليناقش مثل هذه المفتريات. ومن الأمثلة على هذه الآراء قول هالة مصطفى إن قبول الإسلاميين بالديموقراطية إنما هو قبول بإجراءات الديموقراطية أما الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية لهذه الحركات فبعيدة جداً عن الجوهر التعددي للديموقراطية. كما زعمت الباحثة أن الإسلاميين يسعون إلى تأسيس الدولة الدينية التي لا يمكن أن تقبل بأي خيار آخر بعد أن يضفوا هالة من الشرعية لا تسمح بوجود خيار آخر. وكأن هالة مصطفى لم تقرأ التاريخ الإسلامي الذي يعد مضرب المثل في التسامح مع الأديان الأخرى منذ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة حيث كـتب الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيفة بينه وبين يهود يضمن لهم فيها حرية الاعتقاد وحرية التصرف في ممتلكاتهم. كما لم يعرف التاريخ الإسلامي اضطهاد أصحاب الديانات الأخرى كما عرفتها أوروبا في حركة الإصلاح الديني وفي محاكم التفتيش في أسبانيا.
|