السلام العالمي والإسلام

نافذ الشاعر

قضية السلام العالمي قضية لا زالت الدنيا تسعى لتحقيقها على مر العصور والأزمان، فكلما التقى كبار القادة والمفكرين والعلماء والأدباء في محفل من المحافل، أو في مؤتمر من المؤتمرات ناقشوا هذا الموضوع، وقالوا إننا نتمتع بكل شيء إلا سكينة القلب. وهذا يؤكد أن السلام لا يكون خارجيا فقط بل هناك سلام داخلي هو سكينة القلب، بل لا قيمة للسلام الظاهري إذا لم يتيسر للمرء سلام القلب.
وهكذا، فإن جميع الناس اليوم يتمنون السلام، ولكنهم يفشلون في تحقيقه، لأن بينهم آلاف الفروق والاختلافات، فمصالحهم مختلفة، وعواطفهم متباينة، وميولهم متفاوتة، ومشاربهم شتى.. فكيف يمكن أن تتمتع الدنيا كلها بالسلام رغم هذا التفاوت الكبير في ميول الناس وحاجاتهم؟
لذلك فلا يمكن أن يحققوا الأمن والسلام أبدا، فإننا نشاهد اليوم في كل البيوت أن الوالدين إذا غابا عن أنظار الأولاد لبعض الوقت، أخذوا في الشجار والعراك حتى يجرح بعضهم بعضا ويمزق بعضهم ثياب بعض، وإذا حضر الوالدان تظاهرا الأولاد أمامهما كالمساكين وكأنه لم يجر شيء من الشجار والخصام، لأنهم يدركون بفطرتهم أن الآباء يريدون لأولادهم أن يعيشوا في أمن وسلام.
وبالمثل فإن الدنيا إنما تنعم بالسلام إذا حكمتها ذات عليا تريد لهم أن يعيشوا في سلام، وتريد أن تهيئ لهم السلام، وتريد إصدار الأوامر التي تؤدي إلى إرساء دعائم السلام، وقد أخبرنا القرآن الكريم أن من أسماء الله تعالى "السلام" أي مانح السلام؛ حيث ورد هذا الاسم الإلهي بين الأسماء التي عددها الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر (الملك القدوس السلام) وهو أمر للنبي أن يدعو الناس إلى الله مانح السلام للدنيا ومنبع جميع أنواع السلام.. فكما أن الآباء لا يطيقون الخصام أو الفساد بين أولادهم، بل يعاقبون من أولادهم من يُفسد السلام، ويحبون من أولادهم من يحافظ على جو السلام، كذلك هناك إله فوقكم لا يرضى بذلك، لأن من أسمائه السلام، وما لم يسلك المرء سبيل السلام لن يكون محبوبا عند الله تعالى.
إن بوسع كل إنسان أن يدرك أن مجرد تمني السلام لن ينشر السلام في العالم، لأن المرء يحب السلام لنفسه ولا يريده للآخرين عادة. فمثلا حين يقول أحدهم إن الغنى نعمة، فلا يعني بذلك أن ما عند عدوه من مال هو نعمة، إنما يعني أن المال نعمة له ولأصحابه فقط. وعندما يقول أحدهم أن الصحة نعمة فلا يعني بقوله هذا أن صحة عدوه نعمة، إنما يعني أن الصحة نعمة بالنسبة له فقط، إذ لا يريد المرء الصحة لعدوه بل يريد له أن يظل فقيرا ومريضا على الدوام.
فإذا كانت هذه حال أهل الدنيا فإن مجرد تمني السلام، سيؤدي حتما فيها إلى الفساد، لأن الذين يتمنون السلام إنما يتمنونه لأنفسهم أو لشعبهم فقط، أما لعدوهم فيريدون له أن لا يتمتع بالسلام أبدا، ولو حققنا أمنيتهم تلك فلن يتمتع بالسلام إلا قلة من الناس، أما باقي العالم فسوف يظل محروما من السلام.
ومن الواضح أن السلام الذي ليس سلاما عالميا لا يمكن أن يسمى سلاما حقيقيا، إنما يتأتى السلام الحقيقي إذا أدرك الإنسان أن فوقه ذاتا عليا لا تريد السلام له فحسب، إنما تريده للعالم أجمع، وأن المرء إذا أراد السلام لنفسه أو لشعبه أو لبلده فقط فلن يحظى بالنصرة والرضا من تلك الذات العليا، فثبت أن إرساء السلام العالمي مستحيل إلا بالترويج لهذه العقيدة.
إذن فإن القرآن الكريم قد قام بتطهير نوايا الناس من كل فساد حين أعلن أن الله تعالى هو (الملك القدوس السلام). ومن الحقائق الثابتة أن الأعمال لا تصلح ما لم تصلح النيات، وكل ما يوجد في العالم من فساد وحروب إنما يرجع إلى فساد النيات، لأن نوايا الناس لا تتفق مع أقولهم، ولا تتفق أقوالهم مع نواياهم. فمثلا يعلن العالم كله اليوم أن الحرب أمر سيئ مقيت، ولكن ليس المراد من قولهم هذا إلا أن إعلان غيرهم الحرب ضدهم أمر سيئ مقيت، أما إذا هم بدأوا الحرب ضد غيرهم فلا بأس في ذلك. ولا يوجد هذا العيب عندهم إلا لأنهم لا ينظرون إلى رضا تلك الذات العليا التي هي السلام. إنما يفكرون أنهم سوف يعملون بهذه المبادئ ما دامت تصب في مصلحتهم.
إن الناس يقضون على سلام الآخرين من أجل مصلحتهم دائما، ولكن هذه العقيدة ستمنعهم من ذلك، حين يدركون أن هناك ذاتا عليا سوف تعاقبهم إذا فعلوا ذلك. لا شك أن الطفل حين يستولي على لعبة طفل آخر يجلب السكينة لنفسه، لكنه يقضي على سكينة صاحبه في نفس الوقت. فلا جرم أنه يفرح بينما صاحبه يبكي، ولكن هل تظن أن أباه أو أمه أو أستاذه سيسمح للطفل المعتدي بالاستمرار في التمتع بلعبة صاحبه؟ كلا، إنهم لن يتحملوا ذلك بل سوف ينزعوا منه اللعبة ويردوها لصاحبها، وعندها يدرك الطفل المعتدي أن السلام الذي يناله المرء على حساب الآخرين لا يدوم أبدا، إنما السلام الحقيقي ما لا يكون فيه هضم لحقوق الآخرين.
وليس بخاف على أي امرئ مدى الشمولية والتفصيل التي تناول بها الإسلام هذه القضية، في حين نجد الأديان الأخرى لم تقدم للناس أي نوع من السلام بهذا الصدد، أما قولهم (من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا. ومن سخّرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين..) (متى39:5-41) فلن يكون حلا للقضايا العالمية، بل إن العمل بهذه التعاليم يؤدي إلى الفساد بدلا من إرساء السلام، فمثلا إذا كان احد يريد أن يحمل أمتعته إلى بيته فأراد أن يقهر أحدا على حملها، فإن المسيحية تأمر هذا الشخص أن يُذعن له ولا يقاومه، ولكن عليه أن لا يتوقف عند بيته بل يأخذه بعيدا عن بيته بميل آخر! فهل العمل بهذه التعاليم يضمن لأحد السلام؟ كلا، بل إن صاحب المتاع سوف يضطر لحمل أمتعته ثانية، كما أن الشخص الثاني سيضطر لحملها إلى ميل زائد، هذا يعني أن كليهما لم يجد السلام بل وجدا عناء وتعبا.
باختصار، لا يمكن أن يتأتي السلام الحقيقي ما لم يؤمن الناس بوجود ذات عليا تهب السلام. والإسلام هو الدين الوحيد الذي علّم الناس أن الله سبحانه وتعالى هو واهب السلام حينما قال: (الملك القدوس السلام).

ولقد بين الله عزوجل أن هناك شيئين أساسين ينزعان الأمن والسلام من نفس الإنسان، أولهما: الشرك بالله، وثانيهما: مخالفة الفطرة.
أما السبب الأول وهو الشرك فقد جاءت إليه الإشارة بقوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)(آل عمران151)وقوله: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ؟ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ، أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)(الأنعام 81-82). لذلك فلا يمكن إرساء السلام العالمي إلا عن طريق التوحيد الكامل، فمن المستحيل أن يتمتع العالم بالأمن والسلام بدون قيام التوحيد الكامل، لأنه ما دامت تعاليم الأديان مختلفة ونظرياتها متباينة، فلا يمكن أن يدوم السلام في العالم إلا إذا تمت بين الناس مؤاخاة حقيقية، ولا يمكن أن تتم بينهم مؤاخاة إلا بواسطة إله واحد.
فإذا قام التوحيد الكامل في الدنيا، انتهت مثل هذه النزاعات والحروب، لأن درس الأخوة والمساواة الذي يعلمنا إياه التوحيد لا يمكن أن نتلقاه بأي طريق آخر. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعط درس الأخوة بشكل منفصل عن التوحيد، بل عندما علمهم التوحيد، نشأت الأخوة بينهم تلقائيا كنتيجة منطقية للتوحيد.
والسبب الثاني: هو مخالفة الفطرة، فإذا كان التوحيد هو الذي يرسي دعائم السلام، فإن الشرك هو الذي يدمر السلام، لأنه مخالف لفطرة الإنسان، وقد نبهنا الله تعالى إليه في قوله: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) (الحج71) ومعناه أن السلام إنما يدمر في الدنيا حين يترك الإنسان دين الفطرة ويتبع التقاليد الفارغة والعادات الزائفة. فلو تمسك الإنسان بالأمور الفطرية لما حصلت في الدنيا خلافات ولا نزاعات، ومن اجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام دين الفطرة، والدين الذي يوافق الفطرة هو القادر على إرساء السلام في العالم، ولن يستطيع أي دين نشر الأمن في الدنيا إلا الذي يكون نسخة منه محفوظة في عقولنا ونفوسنا، إذ كيف يمكن أن يدعونا الله تعالى إلى تعليم لم يجعل فطرتنا منسجمة معه، ولم يجعل عقولنا وأذهاننا مستعدة له ومهيأة لقبوله. ولذلك قال الله تعالى هنا: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) أي قل لهم إنكم تتبعون ما يخالف الفطرة الإنسانية، وأنا ادعوكم إلى ما هو في فطرتكم، فكلما حاول الإنسان أن يدرس فطرته اعترف قلبه من تلقائه أن الكتاب الذي يحمله محمد صلى الله عليه وسلم في يديه حق وصدق، لأن نسخته الأخرى موجودة في عقله وفطرته.

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=347719

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك