عبر التاريخ: التسامح لغة الخالدين وضياع السلاطين
رافد علاء الخزاعي
الشر والخير مجبولين في النفس البشرية ويحدد مسارهما الواقعي وتأرجحها النواميس الإلهية والقوانين السائدة وقوة تنفيذها فهكذا مع نزول أبينا ادم على هذه المعمورة نزل معه الشر المتمثل بالشيطان ليرسم أجندته عبر الغيرة والحسد واستهجان الأخر وهضم حقوقه واستغلاله أبشع استغلال عبر وضع قيود السيطرة الفردية إلى الجماعية التي تسمى في عالمنا بالاستعمار أو الاستحمار أو السيطرة القومية أو الدينية تحت مسميات ما انزل الله بها من سلطان فنرى تطور الصراع عبر عمر البشرية من صراع عائلي ابتداء بين قابيل وهابيل وبعدها صراع قبلي واثني وديني وقومي .
وهكذا كانت الأديان السماوية التوجيهية التي حاولت رسم مسار العدالة والحق على الأرض لتصطدم بالإطماع البشرية المتوارثة فهذا نبينا نوح بعد دعوته لقومه أكثر من عشرة قرون أصابه اليأس من الإصلاح وتحقيق مبتغى رسالته السماوية فدعا عليهم بالغرق والموت وهكذا كان أنبياء الله صالح وهود ولوط عليهم السلام كانت العقوبة إلهية في تحقيق مسار العدالة في إنزال العقوبة الآنية بالشر المتنامي في النفس البشرية ولكن تغير الإصلاح في الدعوة للخير مع من خلال طرح نبينا إبراهيم صلى الله عليه وعلى اله وسلم في الدعوة نحو الرقي الإنساني والبناء المجتمعي فتحول خيار القتل للمصلح أو النبي أو الرسول وهكذا ذبح رسول التسامح الأول يحيى عليه السلام تحت إقدام عاهرة إرضاء للشر المتناهي وهكذا نرى التسامح في خطاب نبينا هارون وهو يعتذر لموسى إن قومي استضعفوني وعبدوا العجل انه تربية البيئة التي كانت مستحلة من ال فرعون عكس القسوة التي تربى عليها نبي الله موسى في البيت الفرعوني واكتسبها في شبابه ليهذب بعدها في مدرسة الصحارى بالرعي والزواج ورغم الشدة التي تعامل بها نبينا موسى انه لم يصل الأرض الموعدة وتحقيق الهدف المنشود حتى وفاته وحتى استعان الأنبياء بعدها بالجن في تهذيب الشر في زمن نبينا داود وسلميان عليهم السلام هو الخوف المرسوم بالسيطرة على النفس البشرية في تخليصها من الشر المتوارث للوصول إلى التقوى المطلوبة بالتسامح حتى جاء نبينا عيسى عليه السلام بالمعجزات المختصة بالذات الإلهية المصحوبة بالتسامح المفرط حتى شبه لهم صلبه وبصلبه هو قتل للخير الموجود على الأرض ليتحول بعدها قوة الكنيسة العسكرية المتمثلة بظل اله على الأرض في الملوك في نشر المسيحية بالقوة والوقوف إمام التقدم العلمي والفكري واستعباد البشر بالحكم الإلهي المطلق وتتطور الدعوة النهائية للحق برسالة نبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم لتكملة الرسالات من خلال الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ومن خلالها أذي رسولنا الكريم وإتباعه من طواغيت قريش ونرى التسامح المطلق في فكر نبينا معلم الإنسانية صلى الله عليه واله وسلم يتجلى من خلال معاملته لأسرى بدر في فك أسرهم من خلال تعليم عشرة من المسلمين للكتابة والقراءة ومن خلالها أمن اغلب الأسرى بعد إن شع نور الحرف الإسلامي في أحلام العدالة وهكذا تجلى التسامح النبوي ذروته في فتح مكة في عفوه لأهلها وجعلهم من الطلقاء بدون قيد وشرط ليتحول هولاء الطلقاء بعد عقدين من الزمن حربة التدمير للركائز الإسلامية من خلال استغلالهم لتسامح الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنهلذوي القربى لسيطرتهم على أركان الحكم الإسلامي وتأسيس مافيا مالية نعم مافيا مالية للسيطرة على أركان الحكم الإسلامي الذي بدا بالتوسع بعد الفتوحات الإسلامية رغم إجراءات الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسائلة ومعاقبة الولاة حتى وصلت إلى مناصفته أموالهم مع بيت أموال المسلمين فكان العدل العمري وبعده عدل أمير المؤمنين علي ابن طالب عليه السلام في محاربة الفساد وإحقاق العدل جعلهم مستهدفين للاغتيال والقتل ونرى قمة التسامح في سبيل بناء الدولة في صلح الإمام سيدنا الحسن من اجل الحفاظ على الأمة لتنتهي بواقعة الدم في كربلاء في استباحة حرمة ال رسول الله صلى الله عليهم أجمعين نعم من هنا بدا وعاظ السلاطين في جعل قوة السلطة وجعل ما يسمى الخليفة هو الحاكم المطلق في تسلم أمور المسلمين رغم إن صيغة الحكم الإسلامي لم تنزل بها إيه قرائنية مفصلة لطبيعة الحكم وإنما قامت على ثوابت(العدل.الشورى.المساواة) وهذا واضح من خلال وثيقة المدينة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بعد هجرته للمدينة المنورة وفي الخلافة الثانية أضاف الخليفة الثني عمر بن الخطاب شورى النخبة (في اللجنة السداسية الذين اختارهم) وشورى المسجد من خلال خطبة الجمعة فكم من مرة تم تقويم الخلافة في المسجد وأضاف أمير المؤمنين علي بن طالب عليه السلام سلطة القضاء فوق سلطة الخليفة واستمرت حتى حكم المأمون لتضاف سلطة المستشار أو الحكماء في تأسيسه بيت الحكمة وهكذا أصبح التسامح والمساواة أوجه في القرن الثالث الهجري في الذي يسمى بحق الانصهار القومي في ابراز الثقافة العربية الإسلامية رغم وجود تيار دم وقتل في زمن بعض الخلفاء آنذاك وخصوصا في زمن المتوكل في قتل العلماء وتكفيرهم مثل قتل الحلاج وكان التسامح يسبب ضياع السلطان والقسوة كانت تشكل قوة الصراع في تثبيت السلطة كما في زمن الحجاج والمنصور وهارون الرشيد فهكذا نرى المتسامحين خالدين عبر التاريخ فهذا احد الشعراء....
فقلْ للعيونِ الرُّمدِ للشمسِ أعينٌ .. تراها بحقٍّ في مغيبٍ ومطْلعِ
وسامحْ عيوناً أطفأ اللهُ نورها .. بأبصارِها لا تستفيقُ ولا تعي
إن الغضب هو سمة المتسلطين الذين يحكمون بالنار والدم عبر التاريخ فهذا فيلسوف الصين كونفوشيوس يؤكد (إنَّ الرجل الغاضب يمتلئ دائماً سُمّاً ) ونرى التسامح في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه « إذا سمعت كلمة تؤذيك فطأطئ لها حتى تتخطاك » .وفي شعر حاتم الطائي
وأغفرُ عوراء الكريم ادِّخارهُ .. وأُعرضُ عن شتْم اللئيمِ تكرُّما
إن الإعراض ليس يعني التجاهل التام وإنما إيجاد السبل الكفيلة لتقويم الآخرين ضمن منهج تربوي مدروس يزيل العتمة. ان الغفران والتسامح فضيلة لا يقوى عليها سوى كبار النفوس، لكنها فضيلة لا تدخل في سمات شخصية الإنسان بقدر ما تكون فلسفة في حياته يتبناها ويؤمن بها، قد تتغير في أي وقت وفي أي مرحلة من مراحل حياته كما كل أفكارنا ومبادئنا التي تتغير وتتبدل عندما تجبرنا تجاربنا الحياتية في أحيان كثيرة على تغيير طباعنا الجميلة بل ورمي خصالنا الإنسانية في سلة المهملات إلى غير رجعة.
في السياسة وإدارة الحكم وتنفيذ القانون يعتبر التسامح ضعف ورغم ذلك لن يغير من حقيقة أن تكرار التسامح مع البعض ما هو إلا غباء اجتماعي في معظم الأحيان بالرغم من أنه كان يصنف في علم النفس (بالذكاء العاطفي) اذ لا يخفى على أحد أن قرار الغفران هو نوع من أنواع الذكاء العاطفي، كونه يشكل موقفا إيجابيا في التعاطي مع أذى الآخرين وحماقاتهم. كما أن فيروس التسامح الذي يصيبنا يقوي جهاز المناعة وعندما نكون في حالة حب وتسامح مع الآخرين نستطيع مقاومة المرض والإرهاق والاكتئاب كما أنه يعيد الأمن والاستقرار للعلاقات الإنسانية بين البشر.. لهذه الحقيقة العلمية جذور تاريخية ودينية فمن منا لا يعرف أو يحفظ الوصية العظيمة التي تبجل المغفرة والتسامح لسيدنا المسيح والتي تقول " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر" إن الانتقام ولغة الثار هي حطب لنار إذا اتقدت يصعب إطفائها يقول دوج هورتون ( إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه، فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً، فقل: لعل له عذر لا أعلمه ) ويؤكد على ان الانتقام والرد بالمثل هو انتحار (في سعيك للانتقام احفر قبرين .. أحدهما لنفسك) وأنا أقول إن هناك دائما من هو على استعداد للأخذ بنصيحته والانتحار كرها وانتقاما حتى لو حفر القبر لنفسه فقط فالمتغيرات في العراق ألان من صراع اثني وطائفي وقومي لا حل إمامه الأمن خلال المساواة وتعزيز مفهوم الهوية العراقية الوطنية المبنية على مبدءا العدالة الاجتماعية في تقاسم الثروات والخدمات بعدالة تامة لأننا ليس بحاجة إلى مقابر جماعية جديدة وأحواض تيزاب وأنفال أخرى إننا بحاجة لبناء وطن هويته الإخوة والتسامح وقبول فكر الأخر. مع الاحتفاظ بالخصوصيات الفردية .
إن قوقعة الوصي عبد الإله حول نفسه أو تسامح الزعيم عبد الكريم قاسم بسياسة عفا الله عما سلف أو دموية الحرس القومي والبعث وحبال الشيوعيين أو تيزاب ناظم كزار ومثرامات صدام ومقابره لا تنفع العراق في الوقت الحاضر وإنما ينفعنا الإصغاء لروح العقل والاحتكام على خط الشروع في الإصلاح الدستوري والقانوني المحتكم للتمثيل العادل لكل مكونات الشعب العراقي عبر صناديق الانتخابات من اجل بناء الدولة المدنية المرتكزة على العدالة الاجتماعية.
إن المصلحون عبر التاريخ من المتسامحين قد خلدوا أنفسهم بكبرياء في التاريخ في ترسيخ ثقافة التسامح لدى الآخرين فهذا الرئيس جون كنيدي يقول« سامح أعداءك، لكن لا تنسى أسماءهم » . إما مهندس بناء الدولة الهندية الجديدة المبنية على التسامح جواهر نهرو « النفوس الكبيرة، وحدها، تعرف كيف تسامح » . إما الإمام أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه « أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة » إذا قدرت على عدوك ، فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه » أنها ثقافة الدعوة لتنمية النفس البشرية ولكن يا ترى هل تنفع في أنظمة الحكم وترسيخ العدالة. ولذلك يؤكد الشاعر الأمريكي روبرت فروست « لا يمكن لشيء أن يجعل الظلم عادلا إلا التسامح » وهو ما يشاطره الرأي كورت توشولسكي في قوله « التسامح هو الشك بأن الآخر قد يكون على حق » وإنها الطريق الأسهل لدى لغاندي أو الخيار الوحيد لبناء مجتمع الفضيلة من أعراق مختلفة في قوله « لا أحب كلمة التسامح لكنني لا أجد كلمة أفضل منها » وتسير على خطى أبيها رئيسة وزراء الهند انديرا غاندي في قولها « الغفران شيمة الشجعان » ويوكد مثلهما الفيلسوف فرانسيس بيكون وهو رجل دولة وكاتب إنجليزي، معروف بقيادته للثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على ( الملاحظة والتجريب ). من الرواد الذين انتبهوا إلى غياب جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس( عندما يأخذ المرء بثأره يتساوى مع عدوه، لكنه حين يسامحه يكن هو الأفضل) ومثله توماس بين وهو ثوري وراديكالي إنكليزي ساهم في تأسيس أمريكا الحديثة ومولف كتاب عصر العقل ( ليس التسامح عكس التعصب، بل هو تلفيق له - وكلاهما تحكم واستبداد) والشاعر جورج إليوت (ماري آن إيفانس ) وهي روائية انكليزية اختارت اسما ذكوريا لتكون كتابتها بعيد عن الرومانسية وتؤخذ مأخذ الجد من الآخرين فقد عبرت عن المتسامحين في مقولتها الشهيرة ( مسؤولية التسامح تقع على من لديهم أفق أوسع ) . نعم أنها مسؤولية عظيمة تقع على النخب والمثقفين والكتاب بعدم الانجراف وراء السياسيين والمصالح الضيقة في تعميق الهوة والفرقة وزيادة البغضاء ولكن لإيجاد الخطاب المعتدل والمشترك والسبل الكفيلة في تحقيق مجتمع العدالة الاجتماعية المرجو على أسس العدل والشورى والمساواة واقتداء بسيد التسامح الإمام السجاد علي بن الحسين من خلال صحيفته التربوية التي تقوم على بناء النفس الإنسانية المحطمة لغرض بناء مشروع العدالة الذي قال عنه الفرزدق الشاعر:
مَا قَالَ: لاَ، قَطُّ إلاَّ فِي تَشَهُّدِهِ - لَوْلاَ التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاَؤهُ نَعَمُ
مُشتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَهِ نَبْعَتُهُ - طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالخِيمُ وَالشِّيَمُ
حَمَّالُ أثْقَالِ أَقْوَامٍ إذَا فُدِحُوا - حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
إنْ قَالَ قَالَ بمِا يَهْوَي جَمِيعُهُمُ - وَإنْ تَكَلَّمَ يَوْماً زَانَهُ الكَلِمُ
وهو في وصيته لكل الحكام والسلاطين (وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك ، فيجب أن تعدل فيهم ، وتكون لهم كالوالد الرحيم ، وتغفر لهم جهلهم ، ولا تعاجلهم بالعقوبة ، وتشكر الله عز وجل على ما أتاك من القوة عليهم ).
نعم لا نقول ننسى الماضي ولكن لنرسم مسار جديد يوضع قوانين صارمة وقوية تمنع عودة حدوث الماضي المحمل بالدم والاضطهاد لان كل الدول بنت نفسها من مشارف حرب أهلية ولكنها بنت دستور وقوانين حافظت على العدالة الاجتماعية مبنية على التسامح وتقبل الأخر كما هي الولايات المتحدة الأمريكية.
واخير نكرر إن التسامح بحدود ضمان حقوق الآخرين وإحقاق العدل هو مطلب لكل الذين يريدون بناء الدولة العراقية المدنية الجديدة التي يجب إن تكون بيئة أمنة للأجيال القادمة فمنذ أول قانون وضع على هذه الأرض بعد قانون ارنمو هو قانون حمو رابي إن العدل أساسه الملك العدل المبني على الحقوق والواجبات والحفاظ على الذات البشرية في ردعها من الشر المستشري بها فليتذكر الإنسان دوما العين بالعين والسن بالسن هو القاعدة الذهبية في إدامة زخم العدل.
الدكتور رافد علاء الخزاعي
*****كل الذين أسسوا حكمهم على التسامح اغتيلوا أو قتلوا.