الدِّين والعَلْمانية في الفكر الغربي… من هيغل إلى هابر ماس

حسين الخزاعي (الـفوهــرر)

 

- العراق

 

من بين القناعات التي لم يكن يرقى إليها كثيرٌ من الشك لدى مفكري القرن التاسع عشر أن المكانة المركزية التي يحتلها الدين في الثقافة والمجتمع قد غدت شيئًا من الماضي. فقد اعتبر هيغل، مثل مفكِّري عصر الأنوار من قبله، أن العقل، بدقته المفهومية المتفوقة، قد تخطَّى الدين. وصوَّر فويرباخ، في كتابه جوهر المسيحية (1841)، علاقةَ الإنسان بالإلوهية على أنها لعبةُ قوى محصِّلتها الصفر، ورأى أن الإلحاح على الإيمان والتقوى ينتقص من رفعة الغايات الإنسانية. فيما رأى ماركس أن الإنسان، بوصفه عالم الإنسان والدولة والمجتمع، هو الذي يخلق الدين بوصفه الوعي المقلوب لعالم مقلوب، وليس الدين هو الذي يخلق الإنسان؛ ذلك أن الدين، في نظره، هو “زفرة المخلوق المضطهَد، قلبُ عالم بلا قلب، وروح عالم بلا روح – الدين أفيون الشعوب”. وهذا ما يقتضي، في عرف ماركس، إلغاء الدين كسعادة وهمية من أجل سعادة البشر الواقعية، لا بنقد السماء والدين واللاهوت، بل بنقد الأرض والحق والسياسة التي تخلق السماء والدين واللاهوت. أما نيتشه، فقد أعلن، على لسان زرادشت، أن “الله قد مات”، ووصف المسيحية بأنها “أخلاقية العبيد”، أو منظومة اعتقادية عامية مبتذلة تلائم الخانعين الجبناء، ولم يقرِّظ من بين ممثلي المسيحية سوى أولئك الذين وجدوا متعةً بالغة في وقوفهم أمام محاكم التفتيش التي كانت تأمر بإحراقهم، مثل إغناطيوس دي لويولا.

 

فريدرِش هيغل (1770-1831)

 

لم تكن أوائل القرن العشرين بأقل سخاءً في وصفها الظاهرة الدينية. ويكفي أن نتذكر عنوان كتاب فرويد الصادر في العام 1927: مستقبل وهم. غير أننا نجد اليوم أن ما نَبَذَه فرويد بوصفه “وهمًا” قد عاد تلك العودة التي لا تبدي سوى أقل العلائم على أنها ستتوقف أو تخف في وقت قريب. والسؤال المطروح الآن هو: هل كان مفكرو الغرب مهيَّئين لتفسير هذه التطورات اللافتة؟ ومَن هو المفكر الذي يمكن أن نلجأ إليه لنرصد عنده قدرة الفكر الغربي على تناوُل هذه الظاهرة؟

 

لعلَّ يورغن هابر ماس، خاصة بعد وفاة جاك دِرِّيدا، أن يكون أبرز فلاسفة العالم الأحياء. وثمة الكثير مما يرشِّحه لأن نتتبَّع لديه هذين السؤالين اللذين نطرحهما. ومع أن هابرماس كان معروفًا، حتى فترة قريبة، كمفكر عَلماني صارم، لم تمس كتاباتُه الموضوعاتِ الدينيةَ إلا في مناسبات عابرة واستثنائية، إلا أن السنوات القليلة الأخيرة راحت تشهد شيئًا من التغيير على هذا الصعيد. ففي خريف العام 2001، وبمناسبة تسلُّمه جائزة السلام التي تمنحها رابطة الناشرين، ألقى هابرماس خطبةً عنوانها “الإيمان والمعرفة”. وبعد هجمات 11/09، شدَّد في تعليقاته على أهمية التسامح بين الفهم العَلماني والفهم الديني. وفي العام 2004، شارك في حوار مع الكاردينال يوزِف راتسنِغِر (الذي صار البابا في 19 نيسان 2005) بناءً على طلب هذا الأخير، الذي كان يُعَدُّ واحدًا من أشد المحافظين بين مطارنة أوروبا. ففي العام 2002، كان هابرماس قد نشر كتابه دفاعًا عن الإنسانية؛ وفيه نقدٌ مرير لمخاطر الهندسة الوراثية واستنساخ الإنسان ودفاع بليغ عن الحق في هوية إنسانية فريدة يعرِّضها الاستنساخُ لخطر واضح. ويبدو أن هذا الدفاع عن الهوية الفريدة هو ما أثار فضول الكاردينال واهتمامَه.

 

يورغن هابرماس (1929 )

 

ولكي نضع هذه التغييرات الهابر ماسية في سياقها ونتعمق فيها، ربما كان من الضروري أن نتلمس جذورها في مؤلَّفاته الأقدم، خاصةً الأساسية منها، ولا نكتفي بالأحداث التي دفعت إليها. ففي عمله الفلسفي الأساسي الثاني نظرية الفعل التواصلي (1981، في جزأين)، نجد أن واحدة من أفكار هابرماس الأساسية هي “إضفاء الطابع اللغوي على المقدس”؛ حيث يؤكِّد هابرماس، من خلال هذا “المصطلح الثقيل”، كما يقول هو نفسه، أن أفكار المساواة والعدل الحديثة هي استنباطات عَلمانية من التعاليم والوصايا الدينية: ذلك أن “نظرية العقد” في السياسة، تلك النظرية التي هي أساس التصور الحديث لـ”الحكم برضا المحكومين”، ما كانت لتقوم لولا عهود العهد القديم ومواثيقه؛ وكذلك الأمر بخصوص فكرة “الجدارة الداخلية” التي ينطوي عليها كل شخص، والتي تشكِّل أساس حقوق الإنسان: فهي تنبع مباشرةً من المثال المسيحي الذي يقول بتساوي البشر جميعًا في نظر الإله ألآب. ويرى هابرماس أنه لو ضمر هذا المصدر الديني من بين مصادر الأخلاق والعدالة ضمورًا كاملاً لكان من المشكوك فيه أن تتمكن المجتمعات الحديثة من تعزيز هذه المُثُل وتثبيتها كمُثُل خاصة بها.

 

ولقد لخَّص هابرماس في مقابلةٍ أُجريت معه مؤخَّرًا آراءه هذه، فرأى أن الدين قد عمل كأكثر من مجرد سلف أو محفِّز للحداثة: “إن نزعة المساواة الكونية، التي بزغت منها مُثُل الحرية والحياة الجماعية المتضامنة والانعتاق والديمقراطية، هي إرث مباشر من الأخلاق اليهودية الخاصة بالعدل والأخلاق المسيحية الخاصة بالمحبة.”

 

وفي العام 2002، نُشِرَ لهابر ماس بالإنكليزية كتابُه الدين والعقلانية: مقالات في العقل والله والحداثة، وهو عبارة عن مجموعة من كتاباته التي تتناول موضوعات دينية. وقد حرَّر هذا الكتاب وقدَّم له الفيلسوف إدوارد منديتيا، وخَتَمَه بمقابلة هامة مع هابرماس يوضح فيها هذا الأخير آراءه في عدد من المسائل الدينية. ففي صدد عودة الدين، حيث يصل هابرماس إلى حدِّ الكلام على ظهور “مجتمعات ما بعد علمانية” (ربما لأن في ذهنه الوضع الأمريكي)، يرى هابرماس أن هذه العودة تواجه البشرية بتهديدات ومخاطر لا يمكن إنكارها. فالدين، الذي وفَّر للبشر العزاء والسلوان إزاء مظالم القدر القاسية، كثيرًا ما علَّمهم أيضًا أن يرضوا بقِسْمتهم وأن يبقوا سلبيين؛ إذْ يحطُّ من قيمة النجاح الدنيوي ويغري المؤمنين بوعد الب

الأكثر مشاركة في الفيس بوك