بدايات المذهب المالكي في المغرب والأندلس
رغم الاتجاه التصاعدي في منحى انتشار المذهب المالكي في المغرب الأقصى منذ مطلع القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، فقد ظل هذا الانشار يتسم بالقلة والمحدودية حتى عتبة القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، حيث عرف آنذاك صحوة متميزة شكَّلت ظاهرة ذلك القرن، مما يستدعي تفسير هذه الصحوة وأبعادها والعوامل المحرِّكة لها.
إن اكتساح المذهب السنّي لخارطة العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري لم يكن نتيجة صراع عسكري تقليدي ضد المذهب الشيعي الذي كان بدوره قد اكتسح المجال الإسلامي في القرن الذي سبقه، بل عوَّلت القوى السنية في مقاومتها للتيار الشيعي على أسلوب آخر، يتجلى في إنشاء المدارس النظامية كأداة لكسر شوكة الشيعة، وإفشال مخططاتهم السياسية. وقد وعى الوزير السلجوقي نظام المُلك أن تأسيس مثل تلك المدارس يُعدّ أسلوباً أكثر نجاعةً من الأسلوب الحربي لأنه يُحقِّق عن طريق الدعوة، نشر المذهب السّني وتكوين أُطرٍ من الفقهاء والدُعاة ما لا يستطيع أن يُحقّقه بحد السيف، فضلاً عما يرجى من وراء هذه المدارس من إحياء للثقافة السنية، ومن ثم اعتُبرت المدرسة النظامية أول مدرسة بُنيت لتحقيق مشروع التوسع السني.
في غمرة هذا المد السني، بات بديهياً أن يصل إلى المغرب والأندلس المذهب المالكي، وذلك بفضل التجارة التي شكَّلت عاملا مهمّاً في التسرّب إلى تلك المنطقة. وبالمثل، شكّلت الرحلات العلمية التي قام بها علماء المغرب والأندلس من أجل التتلمذ على يد شيوخ المدارس النظامية في بغداد، رافداً آخر من روافد الصحوة المالكية في بلاد الغرب الإسلامي. ففي غمرة هذا الاكتساح السنّي، شدّ العلماء المغاربة والأندلسيون الرحال إلى بغداد، من بينهم أبو علي الصدفي، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو بكر بن العربي، وغيرهم من العلماء الذين وجدوا المدارس النظامية في أوج إشعاعها، فتشبّعوا بآرائها، وعادوا إلى أقطارهم تحدوهم رغبة جامحة في نشر المذهب السنّي المالكي بكل الوسائل المتاحة.
ومع ذلك لا يأتي فهم الصحوة المالكية في المغرب والأندلس خلال القرن الخامس الهجري من دون الرجوع إلى الحقبة التي سبقتها. فمنذ عصر الأدارسة الذي بدأ من سنة 172 هـ، أخذ المذهب المالكي في التسرّب إلى داخل المغرب. وعلى الرغم من اعتناق الأمير إدريس الأول المذهب الشيعي الزيدي، إلاّ أنه لم يحاول فرضه على أهل المغرب، وفضَّل ـ بدلاً من ذلك ـ الجهاد للقضاء على جيوب المذاهب الخارجية، وكافة المذاهب ذات الطابع البدعي، أو تلك التي كانت تُعتبر من وجهة نظره مارقة وخارجة عن المألوف، وفي مقدمتها المذهب البرغواطي.
وسار ابنه إدريس الثاني على النهج نفسه، فلم يدخل معركة خاسرة مع فقهاء المالكية، بل يُستشف من بعض النصوص أنه كان متعاطفاً معهم. وحسبنا أن عهده شهد تدفق موجة من الفقهاء المالكيين الأندلسيين والقيروانيين الذين وفدوا على مدينة فاس، وهي فرصة اهتبلها لاستقطابهم جميعاً.
وفي هذه الحقبة أيضاً تم إدخال كتاب الموطأ إلى المغرب، فكان لذلك أثره الكبير في تعميم المذهب المالكي وذيوعه في أوساط المغاربة. فما كاد القرن الرابع الهجري يُشرف على النهاية حتى كانت أصول هذا المذهب وفروعه قد بدأت بصماتها الأولى في مرافق الحياة العامة.
ويُخيَّل إلينا أن موقف الأدارسة المرن من المذهب المالكي جاء إفرازاً لروح الانفتاح والتسامح الفكري اللذين ميّزا فكر الأدارسة، وما تمخض عن ذلك من تقارب وانفتاح على المذاهب الأخرى. كما جاء بمثابة موقف سياسي ضد الخوارج الذين أنكروا خلافة الأمويين والعباسيين معاً. وبما أن الأندلس كانت تحت حكم الأمويين والمغرب تحت حكم العلويين الأدارسة، فقد عمل حكام المنطقتين على ترسيخ مذهب مالك نكايةً بالمذهب الخارجي. كما لا يُستبعد أن يكون لموقف الإمام مالك من ثورة محمد النفس الزكية، ووقوفه إلى جانبه، دور في دفع الأدارسة إلى العمل بمذهبه.
حلقات مفقودة من تاريخ الحضارة في الغرب الإسلامي، بتصرف، إبراهيم القادري بوتشيش، دار الطليعة ـ بيروت، 2002
المصدر: http://www.andalusite.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=34...