وقفة مع الفاروق في إذاعة ألمانية

خواطر حول الدور المهني للإعلام في الدولة والمجتمع

بحسب ابن كثير في "البداية والنهاية" نقلا عن ابن جرير الطبري وسواه كانت وفاة عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه قبل نهاية عام 23هـ بثلاثة أيام أو أربعة، أي في 26 أو27 من ذي الحجة 23هـ، ويقابل ذلك 5 أو 6/11/644م، على أن ابن كثير يذكر رواية أخرى فيقول: (وقال علي بن محمد المدائني: عن شريك، عن الأعمش -أو جابر الجعفي- عن عوف بن مالك الأشجعي، وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال: طُعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، والقول الأول هو الأشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم). ويمكن التوفيق بين الروايتين عند الإشارة إلى أن وفاته رضي الله تعالى عنه، كانت بعد الطعنات التي تلقاها أثناء صلاة الفجر بثلاثة أيام.
على أي حال قد تعني الرواية الثانية أن وفاته توافق بالتأريخ الميلادي يوم 3/11/644م، وعلى الأرجح أن المستشرق والمحرر الإذاعي الألماني توبياس ماير (Tobias Mayer) أخذ بهذه الرواية فأعد حلقة عن الخليفة الراشد الثاني لبرنامج "علامة زمنية" الأشبه ببرامج "حدث في مثل هذا اليوم" لمحطة "إذاعة غرب ألمانيا - WDR" وتولت بث هذه الحلقة عدة محطات إذاعية ألمانية أخرى، يوم 3/11/2009م.
درس المحرر توبياس ماير "الإسلاميات" في جامعة توبينجن، واللغة العربية في سورية، وقضى سنوات في سورية والأردن وفلسطين المحتلة وعُمان وتركيا وأذربيجان، وأسس عام 2007م حلقة شبكية للصحفيين المتخصصين بالشؤون الإسلامية، وله كتابات عديدة تتناول جوانب من التاريخ الإسلامي القديم والحديث والشخصيات التاريخية الإسلامية، منها كتاب بعنوان "الإسلام" عام 1992م، وآخر بعنوان "عالم الشرق" عام 1994م، وثالث حول وصول عمر بن عبد العزيز للخلافة عام 2000م، وركز منذ ذلك الحين على العمل كمحرر مستقل للإذاعات الألمانية.
ومن المنتظر أن يعدّ للبرنامج المذكور نفسه في أكثر من إذاعة حلقة عن موقعة الجمل تُبث يوم 17/12/2009م، وأخرى عن هدم أصنام قريش في الكعبة المشرفة يوم فتح مكة تُبث يوم 11/1/2010م.
أوردت حلقة 3/11/2009م بعض مآثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مثل تحديد يوم الهجرة بداية للتأريخ الإسلامي، واعتماده الشورى في حكمه مع التنويه بأن هذا ما يقرره القرآن الكريم، والفتوحات الواسعة النطاق هلال عشرة أعوام دون إكراه أصحاب الديانات الأخرى على الدخول في الإسلام، فكان في محتوى الحلقة نظرة تاريخية منصفة نسبيا، إلا أنها لم تكن تخلو من تأثير موروث الفكر التأريخي الغربي عن المسلمين، لا سيما عند استشهاد معدّها ببعض المتخصصين في العلوم السياسية والتاريخ، ومن ذلك مثلا القول إن الدواوين أنشئت من أجل ضبط جباية "الجزية" وتوزيعها فحسب، وتسمية "الجزية" ضريبة على الأفراد بعد الفتوحات، التي كانت في نظر من استشهد المحرر بأقوالهم "من أجل تأمين مصادر مالية للدولة الوليدة عبر الجزية"، دون الإشارة إلى ما يسدده المسلمون من زكاة وخراج وغيرهما، بما في ذلك ما فُرض في عهد الخليفة الثاني رضي الله عنه نفسه من "ضرائب" على طعام الأثرياء أعلى منها على طعام الفقراء.
يبقى رغم ذلك أن هذه الحلقة وسواها، جزء من الاهتمام الإعلامي المتصاعد في ألمانيا للتعريف بالإسلام وتاريخه وبالشخصيات والأحداث الإسلامية بأساليب جديدة، أقرب إلى الإنصاف، وإن لم تكن خالية من أحكام مسبقة، ومؤثرات ثقافية صادرة عن طريقة كتابة تاريخ الإسلام في الغرب حتى الآن.
الإعلام الألماني -كنموذج على الأرجح للإعلام في الغرب عموما- يستجيب بذلك لحاجة ملحة، بغض النظر عن دوافع أخرى وأساليب الإخراج، فالوجود الإسلامي البشري في ألمانيا تجاوز في هذه الأثناء حسب المصادر الرسمية حدود 5 في المائة من السكان، ويزيد على ذلك في بلدان غربية أخرى، ويبلغ على الأرجح زهاء 5 في المائة في الاتحاد الأوروبي، و7 في المائة في القارة الأوروبية، وما دام الإسلام "قضية" مطروحة على المجتمع عموما، من منطلقات مختلفة ولدوافع متباينة، لا بد أن تتجاوب وسائل الإعلام مع الاحتياجات المعرفية، ولا يزال القسط الذي يساهم به المسلمون أنفسهم في أوروبا محدودا، لأسباب ذاتية من حيث الإعداد المهني والقدرات العملية وكذلك القصور عن التخطيط والعمل في هذا الاتجاه، ولأسباب خارجية معيقة أيضا.
إلا أننا نرصد قصورا إعلاميا في الغرب على صعيد طرح الرؤية الإسلامية لقضايا معاصرة، رغم وجود بدايات أولية لإعادة النظر في الأفكار السائدة عن تحييد الدين واعتباره "مسألة شخصية"، إلا أننا نرصد مثل هذا القصور -ربما بدرجة أكبر- في ساحة الإعلام العربي نفسه، ولا ينفي ذلك انتشار ما يوصف بالفضائيات الإسلامية. ويقابل ذلك ازدياد اهتمام الإعلام العربي بمعناه الأوسع، أي ما يشمل المسلسلات التلفازية مثلا، بطرح أحداث تاريخية إسلامية، لم تكن تُطرح من قبل في إنتاج فني راقٍ ومتكامل، وهو ما برز للعيان في عطاء الإنتاج السوري في السنوات القليلة الماضية بالتعاون مع جهات أخرى، لا سيما من البلدان الخليجية والمغرب، كما هو معروف عن مسلسلات صلاح الدين الأيوبي، وصقر قريش، والظاهر بيبرس، والحجاج، وغيرها.
لا يستهان بدور هذه المسلسلات، إلا أن تأثيرها يبقى أقرب إلى تأثير "الرواية" منه إلى تأثير "طرح القضايا المعنية" بمنظور إسلامي، وهو ما يؤمل استحداث برامج إعلامية له، ترقى إلى مستوى المادة المطروحة، وإلى الاحتياجات المتزايدة على صعيد المعرفة والتوعية.
إن اهتمام إذاعات ألمانية بمناسبات تاريخية إسلامية اهتماما مهنيا يكشف عن استيعاب "دور الإعلام في الدولة والمجتمع"، ومواكبته تدريجيا للمتغيرات السكانية والاجتماعية والمعرفية، مما يمكن أن يوصل إلى مزيد من الإيجابيات واضمحلال السلبيات بمرور الزمن، وبحيث يتجاوز المفعول الآني لما تصنعه الأحداث السياسية وغيرها.
وإن استيعاب "دور الإعلام في الدولة والمجتمع" على مستوى البلدان العربية والإسلامية، استيعابا قويما، يمكن أن يساهم في تصحيح كثير من الانحرافات التطبيقية التي جعلت غالبية وسائل الإعلام في واد، والاحتياجات الفعلية لجمهورها أولا، ولواقع هذه البلدان ومستقبلها ثانيا، في واد آخر.

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك