فهم الدين فهو مرفوض من الوجهة الإسلامية، إلا أن تكون استعانة على الفهم إذا تخلفت الشروط المؤهلة لذلك، أو تخلف بعض منـها، وعلى قـدر ما يتخلف من ذلك تكون الاستعانة على تحصيل المسلم لدينه من خلال مصادره المعتبرة.
وقد كان من إحدى النتائج الهامة لهذا المعنى أن نشأت في الفهم الديني اختلافات بين النظّار فيه، وهي اختلافات لئن لم تطل ما هو من أسسه الجوهرية، فإنها طالت بعض الفروع فيه مما يتعلق على وجه الخصوص بالأحكام السلوكية، وربما طالت أحيانًا بعض المسائل العقدية من حيث كيفية ثبوتها في الغالب لا من حيث أصل الثبوت الذي يتفق فيه جميع المسلمين.
وقد تتسع دائرة الاختلاف في الفهم وإن يكن فيما هو فرعي حتى تتكون من جملة الآراء ذات المنهج الموحد وذات الطبيعة المتشابهة وجهات متكاملة تمثل رؤية متفردة عن غيرها من الرؤى من حيث منهجها ومن حيث مضمونها، وهي تلك التي أصبحت تسمى في التاريخ الثقافي الإسلامي بالمذاهب، سواء كانت متأسسة على أسس فقهية مثل المذهب المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي وغيرها، أو كانت متأسسة على أسس عقدية فأصبحت تعرف بالفرق مثل الأشاعرة والمعتزلة والإباضية والشيعة وغيرها مما قد وجد في التاريخ الإسلامي أو هو موجود الآن في الساحة الإسلامية.
وهذا الاختلاف المذهبي فيما يسفر عنه من الرؤى، وفيما ينتهي إليه من التفاعل في الواقع الإسلامي يفصل في أوضاعه حد قد يكون في كثير من الأحيان حدًا دقيقًا بين مرحلتين من مراحله. مرحلة يكون فيها اختلافا مثمرًا بما ينتهي إليه من ثراء في الآراء، وسعة في التصورات، تجد فيها الحياة الإسلامية في مختلف وجوهها فسحة يرتفع فيها الحرج، وينفتح فيها باب للتطور مع ظروف الزمان، ويقوم فيها التعاون بين أصحاب المذاهب ومنتسبـي الفرق، وذلك هو شأن الاختلافات المذهبية في فروع الفقه التي ظهرت مزيّتها على مر التاريخ الإسلامي بصفة عامة، حيث قد اتسعت بها الشريعة لاستيعاب الأحوال المستجدة عبر الزمان والمكان بغير نهاية.
ولكن الاختلاف المذهبي قد ينتهي إلى مرحلة ثانية يصبح فيها مناقضًا لما تتحقق به من المصالح في مرحلته الأولى، وذلك عندما ينقلب إلى تعصب مذهبي، ينغلق فيه كل مذهب على ذاته، فيحتكر أهله الحقيقة لأنفسهم، ويلغون فيه اجتهادات الآخرين على أنها الباطل، وهو ما من شأنه أن يضيق على المسلمين واسعًا، وأن يضطرهم إلى ركوب مراكب الحرج والمشقة، بل قد يؤول إلى مآل تكون فيه الفُرقة والصراع، وينتهي إلى تشتت ثقافي واجتماعي وسياسي في الأمة، كما ينتهي بالتالي إلى قصور عن مواجهة التحديات الحضارية التي تواجه المسلمين، وفي التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه نماذج من هذا المصير الذي صار إليه الخلاف المذهبي في بعض أدواره، وخاصة عند التخلف الثقافي من تلك الأدوار.
ومما يؤسف منه أشد الأسف ما يجري به واقع المسلمين اليوم من وضع مذهبي تسود فيه الفرقة بين الطوائف، وتشيع فيه الخصومات بين أتباع المذاهب، بل تعشش في أذهان البعض منهم الأحقاد التي تتغذى من أحداث التاريخ البعيد، ومن أوهام تراكمت عبر الزمن لتتنفس أحيانًا في شكل احتراب عنيف قد يصل إلى درجة التطهير المذهبي، ولا غرو فإن الأمة تعيش زمن انحدار، وفي مثل هذا الزمن تستشري الخلافات المذهبية وتشتد تحدياتها، وهو ما يدعو الدعوة الملحة إلى تفكير جدي في التصدي لهذه التحديات بعلاجات استراتيجية بعيدة المدى تقضي على الداء من أساسه، أو تحدّ من أخطاره إلى أقصى حد ممكن على الأقل.
تقع هذه الفرقة المذهبية والحال أن الأمة بجميع طوائفها ومذاهبها تواجه تحديات حضارية ضخمة، تمتد على واجهات متعددة سياسية واقتصادية وثقافية، بعضها داخلي ناشئ من الوضع الذاتي للأمة، وبعضها خارجي ناشئ من الوضع العالمي وتفاعلاته وتفاعلات الأمة معه. وإذا كانت المذهبية في مرحلتها الصحية عنوان السعة والثراء والقدرة على التفاعل الإيجابي مع الأوضاع المستجدة، فإن هذا يقتضي أن تواجه الأمة هذه التحديات الحضارية بمذهبية إيجابية فاعلة لا بمذهبية قعيدة مفرّقة. وقد شهد التاريخ أنموذجا حيًا للمذهبية الإسلامية الإيجابية حينما استطاعت المذاهب الفقهية والفرق العقدية أن تتصدى لتحديات حضارية عاتية في الفكر والمعتقدات وأنواع العمران، فجابهتها جميعًا، واستوعبتها استفادة من خيرها ورد لباطلها على نحو ما هو معروف في هذا الشأن.
ونحسب أن من أهم ما يمكن أن يكون علاجًا للوضع المذهبي كما هو مطروح راهنًا، من أجل أن تواجه المذهبية التحديات الحضارية المطروحة على المسلمين اليوم ما كان منها داخليًا وما كان خارجيًا هو أن تتحلى هذه المذهبية بفكر حواري يكون لها ثقافة راسخة، على أساسها تُبنى العلاقات بين المذاهب وفيما بين أصحابها، وعلى منهجها تجرى المداولات بينهم، وتحل المشاكل التي تعترضهم ، بل على أساسـها تتشكل الرؤى والمبادئ والأفكار التي يتقوم بها كل مذهب من المذاهب الإسلامية، وبها تنضج وتتعدل وتصلح من ذاتها، ثم تنطلق من ذلك لتجابه التحديات الخارجية مترسمة خطى الأسلاف في الاستفادة مما هو خير نافع للمسلمين بل للإنسانية جمعاء، ورد ما هو باطل ضار.
أولاً: الحوار والفكر الحواري:
الحوار هو ضرب من التفاعل بين طرفين يقع فيه تداول الرأي بينهما في موضوع من المواضيع ذات الاهتمام المشترك، بحيث يدلي كل منهما برأيه فيه للوصول من خلال ذلك إلى قدر من الفهم يقع التوافق عليه. وإذا كان الحوار يعني في أصله اللغوي مطلق المجاوبة بين طرفين بالكلام، إلا أنه أصبح كثيرًا ما يقترن معناه بالإدلاء بالحجة في تداول الكلام، حتى كأن الحوار أصبح يطلق على تداول الرأي بالاحتجاج له، وهو صنو المجادلة التي تعني الاحتجاج والاسـتدلال كما في قولـه تـعالى مسـاويًا بين المجادلة والحـوار: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: 1]، وقد وردت الآية في المرأة التي حاورت النبي e في شأن زوجها الذي ظاهرها محتجة في طلبها عدم اعتباره ظهارها طلاقًا بحجج عدة، فهي تجادل وتحاور بمعنى واحد يتقوم بالاحتجاج.
والمقصود بالفكر في هذا المقام، وكما نريد أن يكون مصطلحًا بيّنا تجري عليه هذه الورقة، هو المنهجية التي يجري عليها عقل الإنسان في بحثه عن الحقيقة النظرية والعملية. ولهذا التحديد أصل في المدلول اللغوي، إذ جاء في معاجم اللغة أن الفكر: هو إعمال الخاطر في الشيء(1)، إشارة إلى أنه حركة العقل في موضوعات المعرفة. كما أن ذلك المدلول هو الذي استقرت عليه الثقافة الإسلامية في استعمال هذا المصطلح، وهو ما ضبطه الجرجاني في تعريفاته، إذ يقول: "الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى مجهول"(2). ومن البيّن أن هذا الترتيب ليس هو إلا حركة العقل في البحث عن الحقيقة. أ
وما هو شائع اليوم بين أهل النظر من إطلاق الفكر، الذي هو منهج العقل في البحث عن الحقيقة، على الأفكار التي يقع التوصل إليها في ذلك البحث، ليس ناشئًا إلا من إطلاق الملزوم على اللازم كما هو من بعض عادات اللسان العربي، ولكنه إطلاق يحدث ارتباكًا في تحديد معنى هذا المصطلح واستعمالاته، وهو ما آن الأوان للرجوع به إلى الأصل الذي استقرت عليه الثقافة الإسلامية مقصودًا به منهجية النظر العقلي لا حصيلة ذلك النظر من الأفكار كما سنعتمده في هذا المقام، وكما اعتمدناه في مجمل بحوثنا في هذا الشأن(3).
والفكر الحواري هو صفة منهجية يتربى عليها العقل، فيصبح في حركته الفكرية ممتدًا إلى عقول الآخرين، يعرض عليها ما توصل إليه من أفكار: شرحا لحقيقتها، واحتجاجًا لها، بغية بيانها لتلك العقول، ووضعها أمامها على محك الامتحان، كما يصبح ممتدًا إليها لاستبانة ما توصلت هي إليه من آراء للنظر فيها، والوقوف على ما تضمنته من قوة ومن ضعف، استفادة من قوتها واتقاء لضعفها، وذلك في حركة تفاعل مشترك بين العقول ينشر فيه أصحاب المذاهب ما توصلوا إليه من الأفكار والمعتقدات للتداول، عرضًا وتفهمًا ونقدًا وتصحيحًا واقتباسًا، بحيث تمتد تلك العقول بعضها إلى بعض، وينفسح بعضها لبعض.
وفي مقابل ذلك فإن الفكر تنتفي عنه صفة الحوارية إذا كان منغلقا على ما اقتنع به من مذهب، وانكمش عن أن يمتد إلى المذهب الآخر بالعرض لما عنده هو والاختبار النقدي لما عند ذلك الآخر، فإن أصحاب المذاهب بهذا الفكر يصبحون كأنما يعيشون في جزر مغلقة، تفصلها الحواجز، ويجهل بعضها بعضًا، وينمو كل منها منعزلاً عن الآخر، وتلك كلها أسباب للتدابر الذي قد يتطور إلى أن يصبح تناقضًا ينتهي إلى الصراع المذهبي الذي تحصل به الفرقة بين المسلمين، وهو ما يمثل أحد التحديات الكبرى، ولكنه تحد ذو نشأة داخلية، من شأنه أن يعوق المذهبية الإسلامية عن مواجهة التحديات الحضارية الخارجية، والفكر الحواري كفيل بقدر كبير بأن يكون أحد أهم العناصر التي تمكن المذهبية من مواجهة هذا التحدي الداخلي، ثم الانطلاق لمجابهة التحديات الخارجية.
ثانيًا: التحديات الحضارية التي تواجه المذهبية:
إذا كانت المذهبية هي الوعاء الذي ينتظم فيه المسلمون جميعًا، وإذا كانت مناشط المسلمين إنما تتم في الغالب من خلال هذه المذهبية، فإن التحديات الحضارية التي تواجههم إنما تواجه المذهبية التي هم عليها، وإذن فإن مواجهتهم لتلك التحديات سوف يكون للمذهبية فيها دور كبير، فبقدر ما يحسنون من إدارتها بثقافة الحوار، التي أشرنا إليها آنفًا، يكونون قد وفروا عاملاً مهمًا من عوامل المواجهة لتلك التحديات، وبعكس ذلك يكون الفشل في إدارتها سببًا من أسباب الضعف في تلك المواجهة.
والتاريخ الثقافي للمسلمين شاهد على أن الفرق والمذاهب استطاعت أن تواجه التحديات الحضارية التي جابهت الأمة بكفاءة عالية كما سنشير إليه لاحقًا، وذلك حينما كانت تدير بينها حوارا علميًا حضاريًا رفيعًا، وأنها لما تعطل فيها ذلك الحوار وسقطت في الصراع السلبي أو في الانغلاق والتعصب ظلت عاجزة عن مواجهة التحديات، فكان ذلك أحد أسباب تدهور الدور الحضاري للأمة الإسلامية، فذلك دليل على أهمية الدور الحضاري للحوار المذهبي.
وإذ يواجه المسلمون اليوم تحديات حضارية كثيرة، فإن الحوار المذهبي تكون له أهمية كبيرة في مواجهة تلك التحديات، ولكن بما أن الوضع المذهبي للأمة يعيش حالة تدهور موروث من عهد الانحطاط الحضاري، فإن أول تحد ينبغي أن تقع مواجهته هو هذا التحدي الداخلي المتمثل فيما عليه الوضع المذهبي الإسلامي من غياب لثقافة الحوار بين المذاهب الإسلامية، وهو الأمر الذي أدى إلى مظاهر من الفرقة والصراع بينها لا تخطئها العين المجردة في كل ما يجري من أحداث ساخنة في العالم الإسلامي، وعلى رأسها ما يجري في أرض العراق من أحداث مؤلمة يحركها الصراع بين طوائف السنة والشيعة؛ ولذلك فإن الحديث عن مواجهة التحديات الحضارية يجب أن يتقدمه حديث عن هذا التحدي الداخلي المتمثل في تلك الفرقة المذهبية وسبل علاجها بثقافة الفكر الحواري. ويمكن أن نتعرض بعد ذلك إلى اثنين من التحديات الحضارية الكبرى التي تواجه المسلمين من منظور مواجهة كل منهما بهذه الثقافة الحوارية المذهبية، هما: تحدي الهيمنة الأجنبية، وتحدي التسارع الحضاري.
1- تحدي الفُرقة المذهبية:
إن التمذهب، كما أشرنا آنفًا، بقدر ما يكون عامل ثراء وتوسعة على المسلمين إذا التزم بالقواعد الشرعية والمنهجية للاختلاف، وأدير بفكر حواري كما وصفناه، فإنه قد يؤول إلى عامل فرقة وتشتت إذا خالف ذلك المنهج، وأدير بغير ذلك الفكر، وحينئذ فإنه سوف يكون عبئًا على الحياة الإسلامية، فينقلب ما هو منتظر منه من ثراء في الاجتهادات والآراء، وتوسعة على المسلمين في الحلول الشرعية للمشاكل التي تعترض مسيرة حياتهم إلى تعصب أعمى يحتكر الحقيقة، ويلغي اجتهادات الآخرين، فتضيق إذن سبل الاختيار بين الاجتهادات بحسب ما تقتضيه الظروف المستأنفة لما ينغلق عليه كل صاحب مذهب على مذهبه منصرفًا عن أي مذهب سواه، فتبوء المذهبية إذن بعكس ما هو مطلوب منها، وتصبح طارحة لتحديات ثقيلة على حياة المسلمين، عليهم مواجهتها من أجل وجود الحلول المناسبة لها.
واستقراء التاريخ يبين أن الأمة حينما تكون في حال قوة حضاريًا وثقافيًا فإن المذهبية فيها تكون على وجه العموم مؤدية لدورها الإيجابي، متمثلاً في إثراء العلوم بالاجتهادات الشرعية، وفي التفاعل الحواري المثمر بين أصحاب الفرق والمذاهب، وفي التفاعل بين الآراء والأطاريح تفاعلاً تتعدل به وتتقارب، مهما تخلل ذلك من بعض الشطط أحيانًا، ولنا في ذلك خير مثال في المذاهب الفقهية والفرق الإسلامية على عهد القرون الثلاثة الأولى، التي شهدت طفرة علمية واسعة النطاق في العلوم الشرعية والعقدية هي التي أسست للثقافة الإسلامية بأكملها طيلة تاريخها اللاحق. ولكن حينما تضعف الأمة حضاريًا وثقافيًا فإن المذهبية تضعف مع ضعفها، وتصاب بضروب من الانحرافات التي تتحدي مجمل الحياة بتعطيلها عن مسارها، فتصبح عبئًا يتطلب علاجًا بعدما كانت عامل ثراء وإنتاج.
ولا مراء في أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش لحظة ضعف على مستويات متعددة، حضاريًا ودينيًا وثقافيًا، وهي مع توقها إلى النهوض وتقدمها في بعض مناحيه تعاني من مخلفات الانحدار الذي رسفت فيه قرونًا طويلة؛ وهي لذلك تعاني، من بين ما تعاني من مظاهر التخلف، تحديات جمة في المجال المذهبي، إذ تشقها مذاهب وفرق كثيرة، تمتد خارطتها من أقصى اليمين تميعًا إلى أقصى اليسار تنطعًا، وهي تعيش في الغالب وضعًا من الصراع قد يكون في حال كمون أحيانًا، وقد تثيره أحيانًا أخرى أحداث ونوازل فيستشري أواره مستقطبًا الناس إلى فئتين أو أكثر استقطابًا حادًا قد تغيب فيه الضوابط المنهجية والأخلاقية بل والدينية، فإذا هو يمزق وحدة الأمة، ويذهب ريحها، ويعطل مسيرة النهضة فيها.
ولعل هذا الوضع يظهر أوضح ما يظهر في هذا الاستقطاب الحاصل اليوم بين أطراف من المتمذهبين بالتشيع وأطراف من المتمذهبين بالسنة، فإنه استقطاب كما نتابع سجالاته في مدونات كل طرف وعلى ساحات الإعلام، وكما نرى تحققاته الواقعية في أكثر من بلد من البلاد الإسلامية يتدحرج شيئُا فشيئًا نحو الخطيئة الكبرى ألا وهي الفتنة الدموية. وبالإضافة إلى هذا الاستقطاب العام فإن في داخل المذاهب الكبرى استقطاب آخر بين أطراف فيه يمكن أن تدرج هي أيضًا ضمن المذهبية، فإذا المذهب السني يتشعب على سبيل المثال إلى سلفية وصوفية وأشعرية، وإذا المذهب الشيعي يتشعب إلى مثل ذلك، وبين هذه الطوائف الداخلية مشاحنات وخصومات إذا لم تبلغ حد الاحتراب فإنها تشتت الصفوف، وتصرف الطاقات فيما لا يفيد بل فيما يضر بوحدة الأمة ومشروع نهضتها، وتطرح أحد التحديات الكبيرة التي تواجهها، ويمكن تفكيك ذلك التحدي المذهبي الكبير إلى عناصره التالية:
أ- النفي المتبادل:
لعل من أهم وأخطر ما تطرحه المذهبية اليوم في العالم الإسلامي النفي المتبادل بين الأطراف المذهبية المتعددة، وما يترتب على هذا التنافي من تداعيات سلبية كثيرة، فأتباع كل مذهب ينفون عن أصحاب المذاهب الأخرى أنهم على حق فيما يعتقدون أو على بعض الحق في ذلك، وقد يصل هذا النفي إلى الحكم بالتضليل، بل قد يصل إلى التكفير، وذلك يعني إخراج الطرف المكفَّر من دائرة الأمة، أو على الأقل وضعه على هامشها فلا يكون معه تفاعل بله أن يكون معه تعاون وتكافل.
ومن مقتضيات هذا التنافي الإفضاء إلى تعصب مذهبي يرى فيه أصحاب كل مذهب وقد نفوا الحقيقة عن غيرهم أنهم هم الذين يمتلكون تلك الحقيقة من دون الناس، ومن شأن هذا التعصب أن يسد المنافذ دون المراجعة لما تراكم في المذهب من آراء وأفكار واجتهادات في سبيل تصحيح ما عسى أن يكون قد داخلها من نقائص أو أخطاء، وفي سبيل أن تتطور تلك الآراء والاجتهادات مع تطور الظروف والملابسات إذا كانت من النوع الذي طبيعته التطور، وحينئذ فإن الأخطاء والنواقص تستصحب عبر الزمن، وتفعل فعلها في إضعاف القدرة على مواكبة الحياة وتطويرها.
وكما يفضي هذا التنافي إلى التعصب المذهبي بما يسد من أبواب المراجعة والتصحيح فإنه يفضي أيضًا إلى فوات فرصة النظر فيما انتهى إليه الآخرون من أصحاب المذاهب من آراء في اجتهاداتهم، وفرصة الاستفادة مما عسى أن يكون في تلك الآراء من خير يمكن الاستفادة منه، بل إن النفي وما يترتب عليه من تعصب ينتهي إلى صرف النظر عن مذاهب الآخرين من أجل التعرف على حقيقة ما عندهم من فكر، وإطلاق الأحكام عليهم جملة بأنهم في مربعات الخطأ إن لم يكونوا في مربعات الضلال والكفر، وإذا ما وقع النظر في ذلك الفكر فإنه كثيرًا ما يكون نظرًا غير موضوعي، يتسقط الأخطاء ويتناولها بالتشنيع والتهويل، ويأخذ المذهب بلوازمه ويجعله مذهبًا، فإذا هذا المذهب المخالف يظهر على غير حقيقته التي هو عليها عند أصحاب المتمذهبين به، مما تزداد به المسافة بعدًا والخرق اتساعًا بين المذاهب المتنافية مما من شأنه أن يفضي إلى تداعيات خطيرة في العلاقة بينها.
ب- العداء والفرقة:
قد لا يقف التحدي المذهبي عند حد التنافي وتداعياته من تعصب وانغلاق عن المراجعة والتصحيح ليتجاوز ذلك كله إلى منطقة تصبح فيها العلاقة بين أصحاب المذاهب علاقة كراهية وعداء وفرقة، إذ لما ينغلق كل مذهب على ذاته مدعيًا أنه يملك الحقيقة وغيره لا يملك منها شيئًا، ولما يُعرض أصحاب كل مذهب عن النظر في المذاهب المخالفة من أجل التعرف على حقيقتها وتبين مقولاتها، ولما يؤول الأمر إلى التقول على تلك المذاهب وإلزامها بما لم يكن من مقولاتها، فإن الأمر يؤول شيئًا فشيئًا إلى تسرب الكراهية للمذهب المخالف وأهله، بسبب ما ينطوي عليه من الباطل في المعتقدات أو في الاتجاهات الشرعية، وسرعان ما تتحول الكراهية إلى عداء متبادل بين أتباع المذاهب المتخالفة، يرى فيه كل طرف أن الطرف الآخر يمثل خطرًا عليه وعلى ما هو متمذهب به من حق، بل يمثل خطرًا على الدين نفسه إذ هو مبني على تصورات مناقضة لهذا الدين من أساسه.
وقد يتجاوز هذا العداء الدائرة النفسية بما يتضمنه من كراهية ورفض ليصبح فُرقة عملية واقعية بين أصحاب المذاهب من المسلمين، فإذا النسيج الاجتماعي يصاب بتمزقات حادة، قد تنتهي بتقطع أواصر المصاهرة وربما أواصر القرابة بصفة عامة، وإذا الأخوة الإيمانية تصاب بشروخ تذهب بكل الحقوق والواجبات التي تقتضيها تلك الأخوة من تناصر في الحق وتكافل في الملمات والمصائب وتفريج للكربات، بل قد يصل الأمر إلى التمايز في أداء العبادات والشعائر التي شرعت لتجسيد وحدة المسلمين، فإذا أتباع كل مذهب يرفضون أداءها مع أصحاب المذهب الآخر المخالف، وهذا ما هو ملحوظ في الكثير من البلاد الإسلامية التي تتعايش فيها مذاهب مختلفة.
وربما وصل هذا العداء بين المذاهب إلى فرز سياسي ينتهي إلى أن يسعى أصحاب كل مذهب ليكونوا لهم كيانا سياسيًا خاصًا بهم لا يضم غيرهم من المخالفين المذهبيين، وتلك علامة على انعدام إمكانية التعايش المشترك بينهم على أساس من وحدة الإيمان التي تقتضي وحدة الأمة ممثلة في وحدتها السياسية بما تقتضيه من بعد ديني يقوم على سياسة المجتمع بمقتضيات الأحكام الشرعية، وتلك عقيدة من المفروض أن تتجاوز كل الاختلافات المذهبية، فالفرز السياسي يُعد إذن اختراقًا لهذا المبدأ الأساسي، وهو أحد التحديات الخطيرة التي تفرزها المذهبية المنفلتة من قواعدها المثمرة، وها نحن نرى اليوم دعوات مذهبية إلى تفكيك دول إسلامية من أجل استحداث كيانات سياسية على أسس مذهبية.
وقد يصل العداء المذهبي إلى ذروته، فينتهي إلى الفتنة العنيفة، فإذا هو احتراب بين أتباع المذاهب ليس له عنوان سوى الاختلاف المذهبي الذي تراكم واستشرى واستحكم في النفوس حتى انغلقت معه كل السبل للتعايش بله التعاون والتكافل، وتعطلت به كل إمكانية لحل المشاكل التي قد تحدث بين الأطراف المذهبية، ولا يبقى مفتوحًا سوى طريق الاحتراب الذي يعصف بأعلى ما يقتضيه الإيمان من أخوة ووحدة بين المسلمين، وقد حدث في بعض حقب التاريخ الإسلامي أحداث من هذا الاحتراب، ويقع اليوم شيء منها في بعض البلاد الإسلامية التي يشتد فيها الاحتكاك بين الطوائف المذهبية، وما يقع في بلاد الرافدين من فتنة هو أحد مظاهر الاحتراب الطائفي على أسس مذهبية، وذلك هو ذروة التحدي الذي تطرحه المذهبية على كل المسلمين كافة.
2- تحدي الهيمنة الاستكبارية:
التحدي الداخلي الآنف البيان متمثلاً في التنافي والتناكر وربما في الفرقة والعداء يفضي إلى تحد آخر خارجي يجد فيه وسيلة مساعدة ومناخًا صالحًا للتمدد، وهو تحدي هيمنة القوى العظمى العالمية على المسلمين هيمنة اقتصادية وسياسية وربما عسكرية أيضًا، فلا يخفى أن العالم أصبح كلما تقدم في سلم الحضارة الغربية ذات الطابع المادي غدت العلاقات بين أطرافه محكومة أكثر فأكثر بأحكام الصراع وإن اختلفت أشكاله، وأصبح يقوى فيه أكثر فأكثر النـزوع إلى الهيمنة في مختلف ميادين الحياة، وهذا أمر لا يخطئه النظر في مسيرة العالم منذ الحركة الاستعمارية إلى الأحداث الجارية اليوم.
وهذا النـزوع إلى الهيمنة يتجه قسط كبير منه إن لم يكن الأكبر إلى العالم الإسلامي من قبل القوى العظمى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا، وذلك ما تنطق به الأحداث المتوالية، التي منها ما هو مشهود اليوم في الكثير من البلاد الإسلامية. ومن المداخل الهامة التي تدخل منها هذه الهيمنة، والتي تستثمرها في شق طريقها وإنفاذ خططها مدخل المذهبية، إذ تراهن هذه القوى على التشققات المذهبية في العالم الإسلامي، وتحاول جاهدة أن توسع من خروقها، وأن تؤجج من تناقضاتها بأكبر قدر ممكن، فحينا بالبحوث والدراسات التي تنتهي إلى إظهار أن الإسلام إنما هو إسلامات متعددة بتعدد المذاهب، وحينا آخر بتأليب طرف مذهبي على طرف آخر ونصرته عليه، وحينا ثالثًا بتأسيس أحلاف سياسية قائمة على اعتبارات مذهبية، وهكذا ينتهي الأمر إلى ضرب الوحدة الإسلامية بسيف المذهبية من أجل تحقيق الهيمنة الاستكبارية على المسلمين باختلاف مذاهبهم.
إن هذا التحدي الكبير ما كان ليجد له طريقا للنفاذ إلا بسبب خلل يصيب الأمة في واحد من مبادئها الدينية الأساسية، فيجد من تلقائه مدخلاً يحقق منه أهدافه أو بعض أهدافه، وذلكم هو مبدأ التوالي بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وفرقهم. فالمسلمون في تعاليم الدين مطالبون بمقتضى إيمانهم المشترك مهما اختلفت مذاهبهم وفرقهم بأن يكون بعضهم أولياء بعض، على معنى أن يكونوا متواصلين نفسيًا وثقافيًا واجتماعيًا وعلميًا، لا يدخل بينهم في كل ذلك من ليس منهم، فيتحابون ويتآخون، ويتعاونون ويتناصرون، ولا يقدم بعضهم في التحابب والمآخاة طرفًا من غيرهم على بعضهم الآخر، ولا يستنصر بعضهم على بعض بطرف أجنبي عنهم، وفي كل ذلك أحكام فقهية مفصلة(4).
ولكن المذهبية حينما تنحرف عن مسارها الصحيح فإنها قد تنتهك هذا المبدأ العقدي، فتطرح إذن أحد تحدياتها الكبرى على المسلمين، وذلك حينما يشتد الصراع بين أصحاب المذاهب، وينتهي إلى ضرب من العداء الذي قد يصير احترابًا، ففي هذه الحال ربما فقد أحد الطرفين ميزان التوالي بمفهومه العقدي، فاستنصر بطرف غير إسلامي على أتباع المذهب الخصيم، وركن إليه ركونًا اقتصاديًا أو عسكريًا ليكون معه ضدا على أولئك الأتباع، فإذا بالمسلمين الذين يجمعهم الإيمان يدخل بينهم بسبب المذهبية طرف من خارجهم يؤلب بعضهم على بعض، ويقوي بعضهم على بعض، وذلك اختلال في الولاء قد تكون له نتائج خطيرة على الأمة.
وإذا كان التاريخ قد حمل لنا أخبارًا عن حوادث اختل فيها هذا التوالي بين المسلمين على نحو ما وصفنا، فإنها أحداث كانت في الغالب تتخذ أشكالا سياسية، تتمثل في صراعات بين حاكم وآخر، أو إمارة وأخرى، فيستنصر شق على آخر بطرف ثالث من غير المسلمين، وذلك مثل استنصار المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية بالأندلس بطائفة من النصارى في مواجهة المرابطين، إلا أن كثيرًا من هذه الوقائع ذات الصبغة السياسية الظاهرة يتبين عند الفحص أنها تضرب بجذورها في المذهبية، ولعل ما يقع اليوم في أرض العراق من استنصار فئة من المسلمين على فئة أخرى بجيوش غير إسلامية يعد أحد التجليات لاختلال التوالي بين المسلمين بدخول غير المسلمين بينهم لأسباب مذهبية.
ومهما يكن من أن العالم اليوم تقاربت شعوبه وتعارفت ثقافاته وتشابكت مصالحه، إلا أن التوالي بين المسلمين على أساس من إيمانهم المشترك يبقى عقيدة دينية ثابتة، فمهما يكن من صراعات تنشب بين طوائف منهم يكون من الأولى أن يتدخل فيها بالصلح أو برد المعتدي على اعتدائه طرف من المسلمين، فذلك أوفق وأجدى، وهو أليق بالحفاظ على الوحدة بين المسلمين التي هي مقصد أصلي من مقاصد الدين، والتي هي أحد أكبر العواصم التي تعصم من الهيمنة، وتجابه تحدي الاستتباع والاستيلاء بمظاهره المختلفة، فإذا ما انتهت المذهبية المنحرفة إلى الخلل بهذا المبدأ مع ما يترتب عنه من تداعيات سلبية، فإن هذا الأمر يصبح من التحديات التي تطرحها المذهبية والتي يتحتم على المسلمين مواجهتها.
3- تحدي التسارع الحضاري:
إن المسلمين مطالبون بأن يوفقوا حياتهم كلها إلى أحكام الدين، وأن يواجهوا كل تطور يطرأ على حياتهم في مختلف مجالاتها باجتهاد شرعي يدرج أحوالهم الجديدة ضمن مقتضيات الدين وتوجيهاته؛ فذلك ابتلاء ابتلوا به من دون الديانات السماوية السابقة، إذ منذ تعطل نزول الوحي الذي يشرّع لمستأنفات الأطوار في حياة الإنسان، ومستجدات النوازل فيها حُمِّل المسلمون مسئولية الاجتهاد ليقوموا هم بهذه المهمة بناء على العقل المستنير بهدي الأسس والمبادئ والقواعد الخالدة التي أرشد إليها الوحي.
وإذا كان من سنة الحياة التغير والتبدل في الكثير من أوضاعها، فإن هذا التغير يتسم في الحضارة الراهنة بتسارع كبير في جميع مستويات الحياة ومجالاتها، فكلما تقدمت البشرية خطوة في الكسب الحضاري تسارعت بها تلك الخطوة إلى خطى أخرى كثيرة، حتى تصير المتابعة لهذا التغير بالفهم والاستيعاب هي في حد ذاتها أمرًا عسيرًا، فضلاً عن متابعتها بالتمثل والتطبيق في الحياة العملية، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يستهلكون الحضارة ولا ينتجونها، والمسلمون هم في أغلبهم مع شديد الأسف من هذا الفصيل.
ولعل هذا التسارع الحضاري يظهر أكثر ما يظهر في التسارع العلمي المعرفي، إنتاجًا من محاضن الإنتاج، وترويجًا بين الناس، وهو ما يطرح مشكلات كثيرة لها شديد العلاقة بالبعد الديني والقيمي والأخلاقي، ولهذا يجد المسلمون أنفسهم أمام معضلات في هذا الشأن، من مثل الوسائل التي يتم بها التدفق المعرفي، والتي يختلط فيها المشروع بغير المشروع، والمحتويات التي تحملها تلك الوسائل وتدخلها إلى البيوت بدون استئذان ومنها المفيد والضار، والصالح والطالح.
وثمة تسارع آخر في العلاقات بين بني الإنسان التي تطورت بحيث أصبح الناس كأنهم في قرية واحدة، يتعارفون فيها، وتتشابك علاقاتهم ومصالحهم الظرفية والدائمة بما لم يكن له مثيل في السابق. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك أن مدينة باريس أصبح يقطنها اليوم مليونان من المسلمين يختلطون بصفة جذرية مع سكانها الأصليين، وأوروبا أصبح يقطنها بين شرقها وغربها من المسلمين ما يقارب ستين مليونا يشكلون أحد المكونات الديموغرافية لهذه القارة الصغيرة، وذلك كله يطرح من المشكلات في التعامل بين المسلمين وغيرهم من الأفراد، وبينهم وبين المجتمع الأوروبي بصفة عامة شيئًا كثيرًا.
وتسارع العلاقات الاقتصادية بين الأمم والشعوب أمر مشهود في عالم اليوم، فهذا العالم أصبح مفتوحًا على بعضه لا تحده حدود ولا تفصله فواصل، والاتفاقيات والمنظمات التي تشرف على ذلك وتنظمه وتشرع له تتنامى باستمرار، والصفقات التجارية أصبحت تعقد بين الأسواق المتباعدة في لحظات من الزمن بوسائل الاتصال الحديثة، وكل ذلك يطرح على المسلمين إشكالات معقدة من الناحية الشرعية، ويمثل عنصرًا من عناصر التحدي المطلوب منهم مواجهته والتصدي له.
وإذا كان هذا التسارع الحضاري يضاعف من حجم الابتلاء الذي يبتلي به المسلمون من حيث ما هو مطلوب منهم من متابعة يقظة لتوفيق كل تداعياته إلى أحكام الشريعة، فإن ما يقره الإسلام من مشروعية المذهبية، وما جرى به التاريخ الإسلامي من ذلك يمكن أن يكون أحد العوامل المساعدة على مواجهة هذا التحدي ولكن إذا ما كانت المذهبية جارية على صورتها الإيجابية التي شرحناها سابقًا؛ إذ المذهبية في صورتها تلك ليست إلا تنوعًا في الاجتهاد لمجابهة المستجدات في ميادين الحياة بحسب مقتضيات الزمان والمكان، وهذا التنوع من شأنه أن يوسع من دائرة الإمكان لبسط أحكام الشريعة على طوارئ الأحداث والأحوال في حياة المسلمين، إذ بقدر ما تتعدد الحلول يسهل استيعاب تلك الأحوال والأحداث تحت أحكام الشريعة. ولكن في ذات الوقت إذا كانت المذهبية كما أشرنا آنفًا تعد عاملاً مساعدًا في التصدي لمجابهة طوارئ الأوضاع، فإن هذا التسارع سيكون أيضًا أحد أهم التحديات التي تواجهها، والتي يكون مطلوبًا منها أن يكون لها دور مهم في مجابهتها.
ثالثًا: دور الحوار المذهبـي في مواجهة التحديات الحضارية:
إن هذه التحديات الحضارية التي تواجه المسلمين اليوم ما كان منها داخليًا وما كان خارجيًا، والتي تواجه فيهم المذهبية التي هي كما أشرنا تعد عاملاً مساعدًا على التصدي إذا كانت في وضعها السليم، لا يمكن أن ينهضوا للتصدي لها مستعينين بالتنوع المذهبي إلا إذا كانت مذهبيتهم قائمة على أسس من الحوارية: ثقافة تنبني عليها العقول، وإجراءات عملية يجري عليها التعامل بين المذاهب منهجيًا ومعرفيًا وأخلاقيًا، ليكون ذلك الحوار عُدّة تدخل بها المذاهب الإسلامية ساحة التحدي الحضاري قوية فاعلة، مثلما كان الأمر في التجربة الإسلامية على عهد الازدهار حينما كانت المذهبية تتأسس على الحوار، فتواجه إذن بهذه الثقافة الحوارية التحدي الداخلي المتمثل في الفُرقة، والتحديات الخارجية المتمثلة بالأخص في الهيمنة وفي التسارع الحضاري.
1- دور الحوار المذهبي في مواجهة الفُرقة:
حينما نتأمل فيما تعانيه المذاهب الإسلامية اليوم من فًرقة على نحو ما شرحنا آنفًا فإننا نجد السبب الأكبر فيه ليس إلا غياب الفكر الحواري بين أهل المذاهب والفرق الإسلامية، سواء تمثل في مستواه الثقافي الذي تتشكل به العقول على الهيئة التي أشرنا إليها آنفًا، أو في مستواه الواقعي الإجرائي حيث يصبح الحوار بين أتباع المذاهب حركة علمية دائمة، تُبسَط فيها الآراء والاجتهادات للبحث بموازين الحجج، فيتفق على ما يتفق عليه، وتحدد الحدود فيما هو مختلف فيه، وتطرح فيها المشاكل العالقة، من أي نوع كانت، للبحث فيها عن حلول تناسب المصلحة العامة للأمة.
وحينما يغيب الحوار في مستوييه الثقافي التربوي الذي يبنى عليه الفكر، والواقعي الإجرائي الذي تجرى عليه الحركة العلمية، فإن المذهبية يكون مصيرها الانكماش والانغلاق على ذاتها، وكلما انكمش المذهب وانغلق على ذاته، وأصبح مقتصرًا على اجترار تاريخه واستنساخ مواريثه، فإنه يكون قد قطع خطوة في الاغتراب عن غيره من المذاهب، ويكون قد نسج خيوطًا في منوال التحديات التي تطرحها المذهبية كما شرحناه، عجزًا عن المراجعة والتصحيح والتطور، وتعصبًا قد يفضي إلى العداء، واختلالا في التوالي بين المسلمين؛ ولذلك فإن من ألزم ما يلزم لمجابهة هذه التحديات العمل على تأسيس لفكر حواري راسخ يكون ثقافة لأتباع المذاهب، ويكون خطة عملية لحركة علمية جارية بينهم. فمن شأن هذا التأسيس الحواري أن يواجه هذا التحدي الداخلي متمثلاً في الفرقة وتداعياتها، وذلك من خلال جملة من النتائج التي يفضى إليها من شأنها أن تفكك هذا التحدي فتبطل مفعوله أو تقلل من آثاره بدرجات كبيرة، ومن أهم تلك النتائج نذكر ما يلي:
أ- التعارف:
لعل الكثير من المشكلات التي تعرض للعلاقة بين أتباع المذاهب، والتي قد تنتهي إلى التحدي المذهبي الذي نحن بصدده، إنما هي ناشئة من جهل كل طرف بالمذهب الذي يتمذهب به الطرف الآخر على حقيقته كما هو عند أتباعه. وكثيرًا ما يكون هذا الجهل مركبًا يتجاوز الجهل بالصورة الحقيقية للمذهب لتحل محلها صورة أخرى مشوهة فيها الكثير من الزيادة والنقصان، ومن التبديل والتغيير، ومن التقولات والإلزامات، ومن إحلال شواذ الآراء محل مشهور المذهب، فإذا بالصورة الحقيقية للمذهب تغيب كليًا أو جزئيًا عن أتباع المذاهب الأخرى وتحل محلها صورة أخرى مشوهة غاية التشويه، فتفعل مفعولها السيئ في التصور وفي السلوك معًا.
ومن أهم أسباب هذا الجهل المتبادل بين أتباع المذاهب التقصير في السعي إلى العلم بها على حقيقتها من مصادرها ومن تعاريف أصحابها بها، ومؤلفات علمائها فيها، والاعتماد بدل ذلك على مصادر ومراجع من مؤلفات بعض المغمورين من أتباعها ممن هم غير معتمدين في المذهب، أو من الروايات المتناقلة في غير توثيق ولا عزو، والتي هي أقرب إلى الإشاعات منها إلى الخبر الموثوق، فكل ذلك من شأنه أن يثمر صورة مشوهة عن المذهب المخالف في مبادئه ومعتقداته، وفي تاريخه ومواقفه.
وربما عاد هذا الأمر بسبب إلى تقصير متبادل من الأطراف المذهبية، وهو التقصير المتمثل فيما يشبه أن يكون انعدامًا للمساعي الحقيقية الجادة في دراسة المذاهب المخالفة دراسة علمية موضوعية تقف بها على حقيقتها كما هي عند أهلها ومن خلال مصادرهم الموثوقة، وذلك في جهود مقصودة وذات أهداف علمية خالصة، وحينما لم يكن ذلك واقعًا، أو لم يكن واقعًا بالقدر المطلوب فإن المجال يترك للدراسات غير العلمية التي تشوه كل مذهب في عيون أتباع المذاهب المخالفة، ولا يستثنى من هذا الحكم الكثير من المؤسسات الجامعية المعنية بهذا الأمر، وخاصة من منها ذات التوجيهات المذهبية، فمقرراتها التعليمية، وبحوثها في شأن المذاهب كثيرًا ما تفتقد إلى الموضوعية العلمية.
ومن مقتضيات الفكر الحواري أن ينظم أهل المذاهب باشتراك بينهم الندوات العلمية، والحلقات الدراسية، وأن يؤسسوا المؤسسات الأكاديمية، والمجلات المختصة، لتكون هذه جميعًا ملتقى علميًا، تعرض فيه المذاهب من قبل أتباعها على حقيقتها، ويدور فيها الحوار المنهجي في القضايا المتفق عليها والقضايا المختلف فيها، فتجلى أولاً بالبيان، وتثبت ثانيًا بالحجج، ثم يعدل منها ما يعدل ويستقر ما يستقر، ولكن في كل الأحوال تفضي إلى تعارف مذهبي حقيقي لا مجال فيه للتشويه جراء التآويل والتقولات والإلزامات، ونحسب أن هذه الثمرة من ثمار الحوار تقطع أكثر من نصف الطريق في استقرار المذهبية على وضعها الصحي الذي تواجه به التحديات الداخلية والخارجية.
ب- التصحيح الذاتي:
إن كل مذهب يؤسس أفكاره ورؤاه بناء على اجتهادات تنطلق من نصوص الوحي ولكنها تتفاعل مع ابتلاءات الواقع، وباستثناء ما هو معلوم من الدين بالضرورة من تلك الأفكار والرؤى فإن كل ما هو اجتهادي منها يحمل في ذاته قابلية التصحيح والتعديل إذا ما تغيرت المعطيات الواقعية التي بنى عليها، وهذا أمر معروف في التطور المذهبي في نطاق المذهب الواحد بين جيل وجيل، أو بين عصر وعصر، بل في نطاق المجتهد الواحد من مجتهدي المذهب، كما هو شأن الإمام الشافعي فيما عرف بتطور مذهبه من قديم إلى جديد.
وحينما تتوفر فرصة الحوار بين المذاهب على نحو ما وصفنا آنفًا، فإن ذلك يتيح مجالاً مهمًا للإطلاع على اجتهادات المذاهب المخالفة في ذات القضايا، وعلى المستندات العلمية التي استندت إليها تلك الاجتهادات، وعلى النتائج العلمية التي أثمرتها حينما تكون لها علاقة مباشرة بالحياة العملية. والإطلاع على مثل هذه المعطيات كلها من شأنه أن يقدح في العقول زناد المقارنة بين الاجتهادات في مستنداتها ونتائجها، وربما أسفرت هذه المقارنة عن أن يجد صاحب المذهب عند المذهب المخالف حجة أقوى في قضية من القضايا، أو ثمرة عملية أنفع في اجتهاد من الاجتهادات، فيعود على ما عنده بالتعديل والتصحيح وفق ما وجد عند غيره، فيُفتح بذلك باب كبير من أبواب المراجعة والتصحيح، وهو باب للنضج المذهبي والتطور الإيجابي لا يكون مفتوحًا عند انغلاق المذهب على نفسه واجترار تراثه، والانصراف الكامل عما عند المذاهب الأخرى في ذات القضايا التي هو معني بها.
ومهما يكن قد حدث من تعصب مذهبي زمن الازدهار الحضاري والثقافي الإسلامي في القرون الأولى إلا أن ذلك كان محدودًا غير مفض إلى التداعيات السلبية المشار إليها سابقًا، فقد كان يدور بين المذاهب حوار علمي واسع ومثمر، تعرض فيه الآراء على بساط البحث،فيحتج كل لما يطرح من رأي، ويتفهم ما يطرح عليه بموضوعية نادرة، فإما فنده بالحجة، وإما أقره واستفاد منه؛ ولذلك فإننا نجد المذاهب الفقهية والفرق العقدية كثيرًا ما تعدل من آرائها واجتهاداتها جراء ذلك الحوار، بل كثيرًا ما كان ذلك التعديل يتم بناء على استصواب لآراء المخالفين فيستفاد منها في التعديل والتصحيح. ولم يبق ذلك مجرد تصرف ظرفي آني وإنما أصبح يجري وفق قواعد علمية ومبادئ منهجية مقررة، منها على سبيل المثال قاعدة أن "لازم المذهب ليس بمذهب"، وقاعدة: "أن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي المذهب المخالف خطأ يحتمل الصواب". وهذه تجربة ثرية ينبغي على أتباع المذاهب اليوم أن يعيدوا إحياءها في سبيل مواجهة هذا التحدي الداخلي الذي يواجه المذهبية الإسلامية.
2- دور الحوار المذهبي في مواجهة الهيمنة:
لئن كانت الهيمنة الأجنبية على الأمم والشعوب تتخذ أشكالاً متعددة، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، فإنها في الغالب تتأسس على الهيمنة الثقافية، لتكون مدخلاً لكل الأشكال الأخرى، وضامنًا لدوامها واستمرارها، وذلك ما يبدو على سبيل المثال في الحركة الاستعمارية التي استهدفت العالم الإسلامي، فقد سبقتها وواكبتها حملة للهيمنة الثقافية، استهدفت زعزعة البنية الثقافية الإسلامية في جميع مجالاتها، وعملت على إحلال القيم الثقافية الغربية محلها لتضمن بذلك النجاح في استتباع البلاد الإسلامية اقتصاديًا وسياسيًا، وهو الأمر الذي حقق قدرًا كبيرًا من النجاح.
وهذه الهيمنة الثقافية التي هي عامل استمرار لكل الأشكال الأخرى للهيمنة مازالت تمارس على المسلمين من قبل القوى العالمية الغربية باستمرارية ودأب، وبتجديد في الوسائل والطرق وتنويع فيها. ومن بين المداخل النشيطة التي تستثمر لتنشيط تلك الهيمنة وإدامتها مدخل المذهبية، فقد نشطت منذ مدة البحوث والدراسات المتعلقة بالفرق والطوائف والمذاهب الإسلامية، وتأسست من أجل ذلك الكثير من مراكز البحث والدراسة، وعقدت الآلاف من الندوات والمؤتمرات المتعلقة بهذا الشأن، وخصصت له الدوريات والصحف والمجلات ومواقع الإنترنت.
وكما هو الشأن في حركة الاستشراق القديمة فإن الهدف من هذا الدرس لم يكن علميًا أكاديميًا فقط، وإنما كان من أكبر أهدافه أن يفضي إلى تحقيق هيمنة للثقافة الغربية من خلال ضعضعة الثقافة الإسلامية العربية؛ ولذلك فإن الوجهة العامة لهذه الدراسات والبحوث كانت هي الوجهة التي تبحث عن التناقضات بين الفرق والمذاهب، وعن شواذ الأقوال والآراء فيها لتبرزها إبرازًا، وتتخذ منها قضايا أساسية في التركيبة المذهبية للثقافة الإسلامية، ولتبين جاهدة أن الإسلام ليس إسلامًا واحدًا وإنما هو إسلامات متعددة بتعدد الفرق والمذاهب، ومن ثمة تجد المدخل للهيمنة الثقافية، إذ تصبح المواجهة جارية مع كيانات ثقافية صغيرة مجزأة، وليست مع كتلة ثقافية كبرى موحدة.
إنه غير خفي اليوم ما تتعرض له الثقافة الإسلامية من هجوم عنيف من قبل القوى الكبرى المهيمنة، وهو ما بلغ ذروته فيما هو ظاهر بصفة مباشرة في التدخل السافر لأجل تغيير المناهج التعليمية في كثير من البلاد الإسلامية، وذلك في اتجاه أن يُنـزع من هذه البرامج كل ما هو مقوم أساسي من المقومات الثقافية للشخصية الإسلامية، واستبدال ذلك بالشواذ من أقوال وآراء بعض المنتسبين إلى الإسلام من الأفراد أو من الفرق والمذاهب، تُستدعى من التاريخ القديم أو من العصر الحاضر، وهكذا تصبح على سبيل المثال آراء الحلاج في التصوف، وآراء علي عبد الرازق في الخلافة، وآراء العلمانيين المحدثين في فصل الدين عن الحياة آراء ذات شأن في الثقافة الإسلامية بصفة عامة، وفي البرامج التعليمية بصفة خاصة، استثمارًا في أكثر الأحوال للخلافات المذهبية والطائفية.
وقد تعرضت الثقافة الإسلامية قديمًا إلى هجمة تستهدف زعزعتها والهيمنة عليها مثل هذه الهجمة الراهنة، وذلك حينما استنفرت الثقافات القديمة أجهزتها الدعوية والحجاجية مسيحية ويهودية ويونانية وغنوصية لتقوم بهجوم واسع على الإسلام عقيدة وشريعة، تشكك في صدقه، وتنقد مقولاته، وتعمل على إبطالها وإدخال قيمها هي ومعتقداتها مكانها، مستخدمة في ذلك وسائل مختلفة خبرية وعقلية وروحية. وقد استغلت تلك الهجمة أيضًا المذهبية الإسلامية، إذ قد حاولت الاستفراد ببعض المذاهب لتجرها إلى مبادئها القديمة وتبتعد بها عن الإسلام شيئًا فشيئًا حتى نجحت في ذلك بعض النجاح، كما يبدو في انحراف بعض الفرق الشيعية إلى مذهبية غنوصية لا صلة لها بمصادر الإسلام، وإنما هي موصولة بالتراث الشرقي القديم.
ولما كانت الثقافة الإسلامية على ذلك العهد تعيش حالة قوة وازدهار، فإنها استطاعت أن تتصدى لتلك الهجمة بكفاءة عالية، واصطنعت لذلك جملة من العلوم على رأسها علم العقيدة، ترد به على كل التحديات في هذا الشأن، حتى كان تأثيرها على مجمل البناء الثقافي الإسلامي تأثيرًا محدودًا جدًا، سوى أفكار قليلة داخلت بعض الفرق الهامشية من الفرق الإسلامية، مثل بعض الفرق التي انشقت عن الخوارج والشيعة، أما الجسم المذهبي العام فقد بقى سليمًا في جملته، لا يتجاوز الخلاف بين أطرافه ما يقدح في انتمائه الإسلامي، وإنما هي خلافات في مجال ما هو محل للاجتهاد.
ومن أهم العوامل التي ساعدت على التصدي لهذا التحدي الحضاري آنذاك ما كانت عليه المذهبية الإسلامية من قوة ذاتية أقدرها على المجابهة، ومن أهم عوامل تلك القوة ما كانت تتصف به الفرق والمذاهب بصفة عامة من فكر حواري، وما كانت تقوم عليه العلاقة بينها من تواصل علمي يتبدى في تلك الحركة الواسعة من السجال الذي يعرّف فيه كل بمذهبه وينافح عنه، ويتجه فيه كل إلى مذهب الآخر بالتبين والنقد، وهو ما أفضى إلى تلك الميزة البديعة للثقافة الإسلامية متمثلة في صبغتها الحوارية في كل العلوم، متخذة شعارها تلك المقولة الشهيرة في سائر المصنفات وهي "إن قلت ..... قلت".
إن هذه الصفة الحوارية التي كانت تتصف بها المذهبية الإسلامية، والتي عليها نشأت، وبها تطورت، جعلت الثقافة الإسلامية بثرائها المذهبي المتمثل في سعة الاجتهادات، وتنوع الأفكار، وتعدد المناهج والأساليب هي التي مكنت الثقافة الإسلامية من التصدي لتلك الهجمة التي كانت غايتها الهيمنة الثقافية، وربما كانت غاية البعض من ورائها الهيمنة السياسية والعسكرية، فقد استطاع الحوار المذهبي بما أكتسب من قوة الحجة وثراء الآراء أن يصاول المذاهب الغازية على اختلافها، وأن يردها على أعقابها، وهو ما وصفه خير وصف الإمام الغزالي حينما كان يتصدى لهجمة الفلسفة اليونانية إذ قال: "أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدّع مثبت، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعًا بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطور مذهب الواقفية، ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدًا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الإحن"(5).
بمثل هذا الموقف القديم يمكن للمذاهب الإسلامية حديثًا أن تواجه تحدي الهيمنة الغربية، التي تتخذ من الهجمة الثقافية رأس حربة تتربص وراءها كل الأشكال الأخرى للهيمنة، وذلك بأن تقوم العلاقة بينها على أساس من التعارف المتبادل، وينشأ بينها سجال علمي موضوعي رفيع المستوى، يتحاج فيه النظار على إثبات آرائهم وتمحيص الآراء المخالفة لهم، فتتأسس من ذلك قوة ثقافية في الرأي والمنهج يمكن أن تتجه بها المذاهب على اختلافها إلى مجابهة التحدي الثقافي الوارد على الإسلام والمسلمين بصفة عامة، مواجهة تستعمل فيها ذلك المخزون الحواري الثري لتبطل به الهجمات الثقافية للخصوم في حوار معها خارجي يعكس قوة ما يترسخ فيها من حوار داخلي، فيكون ذلك أحد أهم الأسلحة في مواجهة الهيمنة الحضارية الأجنبية، التي تنطلق من الثقافة لتعم كل ميادين الحياة.
3- دور الحوار المذهبي في مواجهة التسارع الحضاري:
حينما يكون أتباع المذاهب يتصفون بفكر حواري، وحينما يدور بينهم بسبب ذلك حوار واسع في القضايا المشتركة، تستجلى فيه الآراء، وتثبت فيه الحجج، فإن ذلك من شأنه أن يوسع دائرة النظر فتشمل القدر الأكبر من القضايا والمشاكل التي تعترض حياة المسلمين، وذلك من شأنه أيضًا أن تثري به الآراء في تلك القضايا، والحلول الشرعية لتلك المشاكل، إذ كل مذهب سوف يكون نظره واجتهاداته وفق مبادئه ومناهجه، وهو ما يفضي إلى التعدد في الآراء والحلول، فيكون في ذلك التعدد مصلحة للمسلمين، إذ يوفقون بحسبها حياتهم إلى مقتضيات الشريعة بحسب ما تتطلبه ظروفهم التي قد تكون متغايرة بتغاير الزمان والمكان.
وهذه الصفة الحوارية للمذهبية الإسلامية بنتائجها المشار إليها يكون المسلمون في أشد الحاجة إليها حينما تمر حياتهم بمفاصل هامة من التاريخ تشهد فيه الحياة تغيرات واسعة وسريعة، فحينئذ تواجه المسلمين حالة مكثفة من مستجدات الأحوال، ومن جديد النوازل والقضايا، فيتطلب الأمر مواجهة بما يناسبها في سعتها وسرعتها من الاجتهادات الشرعية، وهو الأمر الذي يتطلب تظافر الجهود من قبل كافة المكونات الإسلامية من المذاهب، لتتجه في معالجتها المذاهب العقدية باجتهادات عقدية فلسفية، والمذاهب الفقهية باجتهادات شرعية قانونية، والمذاهب الصوفية باجتهادات روحية، فتعطي هذه المذهبية إذن بتنوعها كافة مجالات التحدي في هذه المفاصل التاريخية الهامة.
ولا يمكن أن تقوم المذاهب بهذا الدور بكفاءة إلا حينما يدور بينها حوار واسع فيما تتصدى له من القضايا والنوازل؛ وذلك لأن هذه المذاهب وإن تنوعت وتعددت فإنها تنطلق من قدر مشترك بينها، وهو الإيمان بما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولأن طبيعة المشاكل المستجدة وكذلك طبيعة ما تواجه به من حلول، لا ينفصل فيها العقدي عن الشرعي عن الروحي، إذ هي متعلقة بالإنسان الذي تتوحد فيه هذه الأبعاد، فالعلاج ينبغي أن يكون مراعى فيه هذه الأبعاد أيضًا، وحينما يدور الحوار واسعًا بين المذاهب الإسلامية في هذه القضايا وحلولها الدينية، فإن هذا الحوار من شأنه أن يفرز حصيلة أكثر ثراء وسعة ونضجًا، إذ من شأن الحوار كما أشرنا إليه أن يوسع دائرة النظر، وأن يمتحن الاجتهادات بالنقد، فهو يجعل التصدي لمثل هذه التحديات الحضارية أشمل وأنضج.
وما يواجه المسلمون اليوم من تحد حضاري يتمثل في هذا التسارع المذهل في تغير أنماط الحياة، على نحو ما شرحنا، يعتبر من أكثر ما واجهه المسلمون من مفاصل تاريخية ذات آثار بالغة التأثير على حياتهم، ومما يزيد من تعقيد الأمر في هذه المواجهة أن هذا المفصل التاريخي باستتباعاته في تغيير أنماط الحياة يصنعه في معظمه غيرهم من أهل الحضارة الغربية، ويجدون هم أنفسهم مضطرين إلى تحمل آثاره لتشابك العلاقات بين بني الإنسان وترابطها وتعقدها، وليس لهم من مناص إلا أن يواجهوا تلك الآثار في حياتهم بحلول شرعية، إذ مطلوب منهم أن تكون كل حياتهم موفقة إلى أحكام الشرع.
ومن هنا فإن الحوار بين المذاهب الإسلامية يصبح إحدى الضرورات في التصدي لهذا التحدي الحضاري؛ ذلك لأن هذا التحدي متعدد الوجوه، معقد الخطوط، متسارع الخطى، وهو ما يتطلب تضافر الجهود من قبل جميع المذاهب والطوائف الإسلامية، ليهتم كل منها بما يليه من القضايا بحسب طبيعة تكوينه، ولتتعاون جميعًا على ذلك بأن تدير بينها حوارًا واسعًا في القضايا المطروحة عليها، تثري به الاجتهادات والحلول بإسهام الجميع فيها على اختلاف مبادئهم ومناهجهم في النظر، فيستطيع المسلمون بذلك الثراء أن يواكبوا بالحلول الشرعية المستجدات المتسارعة من أوضاع الحياة.
وعلى سبيل المثال فإن مما يواجه المسلمون اليوم من أوضاع متسارعة وجود أقليات مسلمة في البلاد الغربية، وهي أقليات كبيرة تعد بالملايين، وهي متجهة في أوضاعها إلى أن تصبح أقليات مواطنة تمثل جزءًا ثابتًا من الواقع الاجتماعي الغربي، وتعاني هذه الأقليات المتنامية من أوضاع حرجة في الكثير من مجالات حياتها، إذ هي أقليات مسلمة ولكنها تعيش في مجتمع سلطانه القانوني والاجتماعي سلطان غير إسلامي، وتواجهها جراء ذلك مشاكل معقدة.
فمثل هذا التحدي الحضاري يمكن أن يواجه بما هو أنجح وأوفق حينما تجتمع عليه الطوائف الإسلامية بفرقها العقدية سنة وشيعة وإباضية وزيدية وغيرها، وبمذاهبها الفقهية المتعددة، فتدير بينها حوارًا واسعًا في المشاكل التي تواجه هذه الأقليات، ويتناولها كل من حيث وجهته العقدية أو الفقهية، وحينئذ فإن هذا الحوار سوف يسفر عن آراء واجتهادات متعددة، تغطي كل المشاكل أو أغلبها، وتتعدد فيها الاجتهادات والحلول بحسب تعدد المذاهب، وهو ما من شأنه أن يطرح على هذه الأقليات خيارات شرعية واسعة تقوم كلها على أصول معتمدة، فتنتخب منها ما هو أنفع لأوضاعها، وأليق بمستقبلها، وذلك نتيجة للحوار الذي تثري به الاجتهادات والآراء الشرعية.
وتمتلك المذهبية الإسلامية تجربة تاريخية ثرية في هذا الشأن، يمكن أن تستفيد منها في مواجهتها الحالية لتحدي التسارع الحضاري، فقد واجهت هذه المذاهب في العصر الإسلامي الأول ذلك التوسع الكبير للمد الإسلامي على أرض شعوب وحضارات ذات أعراف وعادات وأنماط حياة معقدة غاية التعقيد، وقد اعتنقت هذه الشعوب وأتباع هذه الحضارات الإسلام القادم عليهم، وكان مطلوبًا أن تُدرج حياة هؤلاء بعاداتها وأعرافها ومختلف أنماطها ضمن أحكام الشريعة، وهو الأمر الذي يمثل تحديًا كبيرًا لكل الفرق والمذاهب الإسلامية، إذ هي مسؤولة جميعًا عن هذا الأمر.
وقد استطاعت المذاهب الإسلامية مواجهة هذا التحدي بكفاءة عالية، وذلك بما كان يدور بينها من حوار ثري في شأن هذه الأوضاع المطلوب إدراجها ضمن أحكام الدين، ما كان منها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وهو حوار ينطلق من الاختلاف المذهبي في منهجية النظر الشرعي، لتطرح فيه الآراء والاجتهادات المختلفة مشفوعة بحجتها العلمية، من أجل أن تواجه كل مشكلة بحل شرعي، مما أفضى إلى ذخيرة واسعة جدًا من الاجتهادات كافية لأن تغطي كل المشكلات، بل تعدى الأمر ذلك إلى إيجاد حلول شرعية لمشاكل تفترض افتراضًا عسى أن تحصل يوماً ما في الواقع فيكون حلها الشرعي جاهزًا(6).
لقد كان هذا الحوار المذهبي يجري بين الفقهاء من مذاهب مختلفة، بالمناظرات المباشرة، وبالمكاتبات، وبالرسائل والمؤلفات، وذلك على تباعد الأمصار بين المشرق والمغرب، والكل يدلي برأيه الشرعي في تعاون على التصدي لهذا التحدي الحضاري، على نحو ما حفظه لنا التاريخ من ذلك الحوار الرفيع الذي دار بالمراسلة بين الإمام مالك في المدينة والإمام الليث بن سعد في مصر، حتى أثمر ذلك الفقه الثري الذي شمل بالمعالجة كل مظاهر الحياة بتنوع مذهبي أثمره الحوار الذي كان دائرًا بين أئمة المذاهب على نحو ما سجله القاضي ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وما سجله الإمام ابن حزم في كتابه "المحلي في شرح المجلي".
إن هذا الحوار المطلوب اليوم من أتباع الطوائف والمذاهب الإسلامية لمواجهة تحدي التسارع الحضاري، والذي هو ضرورة بالغة في هذه المواجهة يفتقر إلى أن يتربى أتباع هذه المذاهب على فكر حواري بالمواصفات التي بيناها في فاتحة هذه الورقة، وهذا ما يستلزم جهدًا تربويًا كبيرًا يثمر عقولا قادرة على الانفتاح المعرفي على الآخرين، وقابلة لأن تتطارح معهم الرأي وتتبادل الحجة، فتأخذ وتعطي، وتفيد وتستفيد، فتثري بذلك الآراء، وتنضج على محك النقد، فتكون خزانًا يُغترف منه لمواجهة المشاكل المتسارعة، على نحو ما حصل في العهد الإسلامي الأول، حينما كانت المذهبية في حال من النضج يتأسس على ثقافة الحوار. فإذا وقعت هذه المراجعة في الثقافة المذهبية، وأصبحت ثقافة حوارية فكرًا وسلوكًا، فإن ذلك كفيل بأن ينهض لمواجهة التحدي الداخلي المتمثل في التشتت والفرقة، ومنه إلى مواجهة التحديات الحضارية الخارجيـة من مثل تحـدي الهيمنة وتحدي التسارع الحضاري.
والله ولي التوفيق
الهوامش
(1) ابن منظور – لسان العرب: مادة: فكر.
(2) الجرجاني – التعريفات: 176 (ط مكتبة لبنان مصورة عن طبعة فلوجل، بيروت 1985، وراجع أيضًا: ابن سينا – الإشارات والتنبيهات (تحقيق: سليمان دنيا، ط الحلبي، القاهرة 1947): 1/23، والرازي – المحصل: 68 (ط دار الكتاب اللبناني، بيروت 1984)، وراجع كتابنا:
(3) راجع على سبيل المثال كتابنا: دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين: 27 وما بعدها (ط المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا 1992).
(4) راجع على سبيل المثال: ابن عاشور – التحرير والتنوير: 3/217 .
(5) الغزالي – تهافت الفلاسفة: 82 (ط5 دار المعارف، 1972).
(6) لقد وجدنا في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في التراث الفقهي المذهبـي ذخيرة عظيمة من الاجتهادات التي ساعدتنا على حل الكثير من المشاكل التي تتعرض لها الأقليات المسلمة في أوروبا، ووقعت الاستفادة من ذلك استفادة كبيرة. راجع على سبيل المثال: مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عدد: 2، وقد خصص هذا العدد للبحث في قضية إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه.
المصدر: http://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=625:dour