استهدافات الحوار المذهبي
حسن الصفار
الحوار في المسألة الدينية تحيط به عوامل مختلفة ولا يعتمد على الجانب العقلي وحده، فالبعض من الناس قد يتصوّر ببساطة، أن المنطق و العقل كفيل بأن يحل أي نزاع في القضايا الدينية، عن طريق الدليل والبرهان، بين الأديان أو المذاهب، وكذلك بين الأطياف داخل المذهب الواحد حينما تتعدد المدارس والتوجهات، ولكن الصحيح أن العقل هو بُعد وجانب من المسألة الدينية، وهناك أبعاد أخرى غالبًا ما يكون تأثيرها أكثر من الجانب العقلي، فهناك البعد النفسي، لأن الدين يتحوّل في أعماق نفس الإنسان إلى قضية ذاتية ترتبط بأحاسيسه ومشاعره، وتختلط بها، ولذلك فإن هذه المشاعر والأحاسيس لا تدع المجال للعقل دائمًا لأن يفصل في المسألة الدينية، وإنما تتدخل لكي تشوّش على عمل العقل ودوره، بسبب انشداد الإنسان إلى الوضع الديني الذي تربّى ونشأ عليه.
وهناك بُعد آخر هو البعد الاجتماعي، فالإنسان يعيش ضمن مجتمع ديني، المسلم يعيش ضمن مجتمع المسلمين، والمسيحي ينشأ ويتربّى ضمن مجتمعه المسيحي، وهكذا الأمر بالنسبة للمذاهب، فالسني يعيش ضمن البيئة السنية والشيعي يعيش داخل بيئته الشيعية.
لذلك فإنه في المسألة الدينية غالباً ما لا يكون التعامل مع الإنسان كفرد، بل مع بيئة اجتماعية كاملة، لأن الإنسان عادة لا يفكّر في المسألة الدينية بمفرده: هل هي حق أم باطل، وإنما يأخذ بعين الاعتبار انتماءه الاجتماعي البيئي، ويكون هذا الانتماء مؤثرًا وضاغطًا عليه، ولذلك نجد في القرآن الكريم أن الله سبحانه أمر نبيه محمد أن يدعو المشككين في رسالته إلى التأمل الانفرادي حتى لا يكونوا تحت سيطرة ما يطلق عليه العقل الجمعي، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾[1] .
والنبي هنا يطلب منهم أن يقوم كل شخص بمفرده وينزوي عن جماعته وبيئته ويتفكّر في الأمر بموضوعية بعيداً عن تأثير العقل الجمعي.
وهذا أمر صعب على أكثر الناس، ولهذا تجدون أن الحوار بين أتباع الأديان والمذاهب غالبًا لا يوصل إلى نتيجة حاسمة، لأن المسألة ليست مسألة عقلية فقط، بحيث يوضح الدليل فيها فلا يجد الطرف الآخر مفرًّا من الإيمان، ولو كانت المسألة كذلك فإن نبينا محمداً عنده الدليل والمنطق، والفصاحة والبيان، فهو القائل: «أنا أفصح من نطق الضاد»، عنده كل هذه المقوّمات، ولكنه لم يستطع أن يغير المجتمعات الدينية التي كانت في عصره، فالمسيحي ظل على مسيحيته، وكذلك اليهودي. نعم، هناك بعض المجاميع منهم قبلت الدعوة الإسلامية، ولكن بقي كيان اليهود كيهود وبقي كيان النصارى كنصارى، فإذا كان رسول الله مع وضوح الحق عنده ومع قدرته البالغة التي لا توازيها أي قدرة في معرفة الحق والتعريف به، ومع ذلك لم يستطع تغيير الكيانات الدينية في مجتمعه فكيف بغيره؟، وذلك لا لقصور أو تقصير من قبله ، وإنما لعجز خارجي موضوعي، ولهذا يذكر القرآن الكريم حادثة المباهلة، وذلك حينما جاء وفد نصارى نجران وحاوروا الرسول حول نبي الله المسيح فأوضح لهم الرسول بالأدلة والبراهين ما يعتقده في المسيح ، وناقشهم وحاورهم وأثبت لهم خطأ قولهم، لكن الوفد تمسّك برأيه فلجأ الرسول كحل نهائي إلى المباهلة، لأن طريق الحوار العقلي والمنطقي لم يوصل إلى نتيجة فاتجه معهم إلى صوب طريق آخر، يقول تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[2] .
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾[3] .
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن أن كلمة الفصل والإلزام في الخلاف الديني مرجوّة ومؤخرة إلى يوم القيامة، فلو أراد أهل الأديان والمذاهب أن يحسموا الخلاف فيما بينهم في الدنيا فلن يصلوا إلى نتيجة. ليس لأن الحق متعدّد، ولا لأن الأدلة والبراهين قاصرة عن إثبات الحق، ولكن لأن عوامل أخرى غير المسألة العقلية والمنطقية تحيط بالمسألة الدينية. ولهذا تتحدث الآيات القرآنية بصراحة حول تأجيل الفصل في الخلافات الدينية، منها قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[4] .
والمراد بالنسك في الآية الممارسات العبادية، فكل أمة لها عباداتها وطريقتها وطقوسها، والمراد بالجعل الإلهي أن الله خلق البشر أحرارًا ومختارين ولهم الإرادة فيما يفعلون، ونتيجة لذلك تتنوع اختياراتهم الدينية.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[5] .
ويقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[6] .
ويقول تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[7] .
هذه الآيات الكريمة وأمثالها تقدم للإنسان المسلم صورة حول طبيعة المسألة الدينية حتى يكون متوازنًا وموضوعيًّا في رؤيته وعرض دينه على الآخرين وليستوعب مواقفهم الرافضة.
وهي لا تعني أن يتوقف الإنسان عن التبشير بما يعتقده حقاً وإنما تعني أن يضع الإنسان في اعتباره أنه ليس بالضرورة أن يتقبّل الآخرون رأيه فيما يخص دعوته الدينية، مهما كان بارعاً في عرض أدلته وبراهينه. وهناك آيات وروايات تنهى الإنسان عن الجدل في الدين إلا بالتي هي أحسن، يقول تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[8] . لأن الإنسان إذا أطلق العنان للرغبة في مجادلة الناس في أديانهم قد ينجرّ إلى أساليب ملتوية، وتعامل غير سويّ مع الآخرين، والله تعالى لا يريد ذلك للإنسان المسلم، فقد ورد عن أئمتنا من أهل البيت روايات كثيرة يحذرون فيها تلامذتهم وأتباعهم من المجادلة والمخاصمة في الدين، منها رواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق يقول: «... فلا تخاصموا الناس لدينكم، فإن المخاصمة مَمْرَضَةٌ للقلب، إن الله قال لنبيه: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾[9] ، وقال: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين﴾َ[10] ... ذروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس»[11] . وفي قوله «فإن الناس قد أخذوا عن الناس» إشارة إلى أن مصدر الاعتقادات الدينية قد يكون الأخذ عن الآخرين وتقليدهم وإتباعهم، وليس نتيجة تفكير عقلي منطقي، وقد يتضح للإنسان خطأ فكرة ما لكنه يتمسك بها اطمئنانا بمن يقلده ويتبعه.
بالطبع فإن الحديث هنا عن توصيف الواقع، بعيداً عن تقويمه من حيث الصحة والخطأ، إذ من الواضح أنه يجب على الإنسان أن يفكر في المعتقدات والأمور الدينية بموضوعية وتعقّل، وأن يستند إلى الدليل والبرهان، وليس التقليد والإتباع الأعمى، ولا الاستجابة للمؤثرات العاطفية والضغوط الاجتماعية، فالقرآن الكريم يحارب هذه الحالات التي كانت تمنع المجتمعات من القبول برسالات الأنبياء: ﴿بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾[12]
نقطة أحببت أن أثيرها على ضوء ما نشرته وسائل الإعلام من تصريحات لبعض العلماء في المملكة العربية السعودية وهم يتحدثون عن استعدادهم للحوار مع بقية المذاهب الإسلامية، كالمذهب الشيعي. كما نقلت ذلك جريدة الشرق الأوسط عن الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في عددها (9971) الصادر بتاريخ (16 صفر 1427هـ - 17 مارس 2006م) وقد ثنى على طرحه مؤيداً الشيخ صالح السدلان عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العدد (9977) الصادر بتاريخ (22 صفر 1427هـ - 23 مارس 2006م) مثل ذلك ما أعلنه الشيخ عبدالمحسن العبيكان المستشار القضائي في وزارة العدل وعضو مجلس الشورى في مكاشفاته مع جريدة المدينة ملحق الرسالة بتاريخ (17 صفر 1427هـ - 17 مارس 2006م).
وقد سمعتُ تصريحات أخرى في لقاءات ثنائية مع العديد من العلماء في المملكة العربية السعودية بهذا الاتجاه، وعندما يتحدّث هؤلاء بأنهم موافقون على الحوار ويرغبون فيه فهذا تقدّم وحالة إيجابية، بعد أن كان الموقف السائد للمدرسة السلفية هو التحفظ تجاه اللقاء والحوار مع الشيعة.
وهنا لابدّ أن أشير إلى أن مبادرة خادم الحرمين الشريفين منذ أن كان وليًّا للعهد بتبنيه للحوار الوطني هي التي فتحت المجال وشقّت الطريق، وهكذا يكون للمبادرة السياسية دور مهم في إصلاح الكثير من الواقع الذي تعاني منه مجتمعات الأمة الإسلامية، كما أن مختلف الأوضاع الإقليمية والدولية لها تأثير في الدفع بهذا الاتجاه، فنحن نشعر بتفاؤل كبير، ونستقبل هذه الدعوات الإيجابية بالتقدير والترحيب، فهذا ما كنّا نطمح إليه ويتطلع إليه كل مواطن حريص على مصلحة الوطن، وكل مسلم غيور على وحدة الأمة.
بخصوص مسألة الحوار في المسألة الدينية المذهبية أريد أن أركّز على أنها مسألة شائكة، ولذلك يشترط قبل بدء هذا الحوار أن يتحدّد الهدف منه، أما إذا لم يتحدّد هدف الحوار وآلياته فإنه لا يصل إلى النتيجة المرجوّة.
ويبدو لي أن بوصلة الحوار المذهبي ينبغي أن تتجه نحو ثلاثة أهداف:
الأول: التعارف والفهم المتبادل:
فنحن نتحاور حتى يعرف كل منّا الآخر على حقيقته، ذلك لأن الحقبة السابقة أوجدت الكثير من الغبش والتشويش، فأصبحت نظرتنا إلى بعضنا البعض غير موضوعية، فكل طرف قد يتصوّر عن الآخر أشياء ليست واقعية، ويحاسبه عليها ويبني الموقف تجاهه على أساسها دون أن يتأكد ويتبيّن، والحوار يعطي الفرصة لأن يعرض كل مذهب رأيه بوضوح
الثاني: التعايش ومنع الإساءات:
بأن ندرس صيغة التعايش بيننا على أساس الاحترام المتبادل، وعدم إساءة أي طرف للآخر، أو انتقاصه لشيء من حقوقه.
الثالث: خدمة المصالح المشتركة:
فنحن نعيش في وطن واحد، وهناك مصالح مشتركة تجمعنا في هذا الوطن، ونحن أبناء أمة واحدة، وهذه الأمة لها مصالح مشتركة وتواجه أخطاراً كبيرةً تستهدف الجميع.
ولذلك يجب أن نتحاور من أجل تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، أما إذا كان الحوار بهدف أن يُغيّر أحدنا الآخر، فنتحاور حتّى يغير الشيعة شيئاً من مذهبهم، ويتنازلوا عن بعض مبادئهم، أو أن يتخلى السلفيون عن شيء من مذهبهم ويتركوا بعض قناعاتهم، فهذا الهدف لا يوصل إلى نتيجة، والحوار يكون عقيمًا وضارًّا ولا يكون نافعًا، وذلك للأسباب التي ذكرناها في بداية الحديث، كما أن المسألة الدينية المذهبية ليست منحصرة في أشخاص المتحاورين، فمن الممكن أن يتحاور شخصان بمفردهما فيقتنع أحدهما بفكرة الآخر وينتهي الخلاف، ولكن المذاهب تؤمن بها مجتمعات وكيانات، فكيف تقتنع هذه المجتمعات وتغير قناعاتها؟.
هذا مجمل تصورنا لأهداف الحوار، ونرجو أن يتبلور هذا التوجه، وأن يتعاون الجميع من أجل مصلحة الجميع، فالفائدة للدين والوطن ولنا جميعًا، حيث رأينا أن الصراع والفرقة لا نتيجة فيها إلا الدمار كما حدث في لبنان والصومال وفي العراق الآن، وفي كل مجتمع دبّت وتصاعدت فيه الخلافات كانت نتائج ذلك خطيرة ومدمّرة للجميع.
والحمد لله رب العالمين.
[2] سورة آل عمران الآية: 61.
[3] سورة البقرة الآية: 145.
[4] سورة الحج الآية: 67 – 69.
[5] سورة المائدة الآية: 48.
[6] سورة البقرة الآية: 113.
[7] سورة آل عمران الآية: 55.
[8] سورة العنكبوت الآية: 46.
[9] سورة القصص الآية: 56.
[10] سورة يونس الآية: 99.
[11] المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج 2 ص 133.
[12] سورة الزخرف الأية:22.