ملامح الحوار المذهبي في الفكر الفقهي والأصولي عند فقهاء مدرسة مالكية العراق
ملامح الحوار المذهبي
في الفكر الفقهي والأصولي عند فقهاء مدرسة مالكية العراق
إعداد
أ. د. رضوان بن غربية *
* أستاذ الفقه وأصوله بجامعة الجزائر، حصل على الماجستير في الفقه وأصوله من جامعة أم القرى عام (1985م) وكان عنوان رسالته: «دراسة وتحقيق كتاب (الإمام في بيان أدلة الأحكام للعز بن عبد السلام)، وحصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها والتخصص نفسه عام (1989م) بتقدير امتياز وكان عنوان رسالته: «دراسة وتحقيق كتاب (الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي لابن عبد الهادي)» له العديد من الكتب والدراسات.
مقدمة للموضوع: القيمة الحضارية للحوار المذهبي.
يطلق الحوار في أصل اللغة على الحديث الذي يجري بين شحصين أو أكثر. تقول: حاوره محاورة، وحوارًا، جاوبه وجادله وفي التنزيل: {قال له صاحه وهو يحاور}([1]) ومنه كذلك تحاوروا، تراجعوا الكلام بينهم وتجادلوا، قال تعالي: {والله يسمع تحاوركما}([2]).
فالحوار بهذا المعنى مصطلح يصدق على أفعال المشاركة التي لا يمكن للفرد أن يحققها إلا من خلال الاتصال والاحتكاك، ولهذا فالجواب فيه مطلوب.
وفي الصحاح: والمحاورة: المجاوبة والتحاور التجاوب([3]).
ومن معاني الحوار ابتغاء الصواب، فأنت تتعلم من محاورك ما تضيف به شيئًا إلى ما عندك، وهو من أدوات التبديل والتغيير كذلك، إذا ظهر لدى المحاور ما يثير رأيك ويدعم مقولتك، وبهذا يمكن تفسير قول الشافعي فيما اشتهر عنه «مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب».
وقول مالك رحمه الله فيما رواه عنه معن بن عيسى قال: «سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما خالف فاتركوه»([4]).
فالحوار لا يمكن أن ينمو وينشأ بين أقوام أصيبوا بثقافة الجمود الذهني، أو في وسط من تهيكل فقههم على التقليد المطلق. فإنهم بهذا غير قادرين على الدخول في حوار جاد وإذا دخلوه فإنهم غير قادرين على الاستمرار فيه، لأن الحوار متصل بالاجتهاد والقدرة على التوليد والتجدد، وأصحاب الكسل الذهني والتقليد المطلق غير قادرين على شيء من ذلك([5]).
فالإنتاج في مجال الاجتهاد الفقهي كما فهمه الأوائل في عصور الازدهار عمل في غاية الأهمية يعتمد على الثقة بالنفس واستثمار الوسائل التي تدعم الإبداع في مجال الفكر والثقافة. والانفتاح في شكله الحواري عامل أساسي في تكوين العقل المنتج، حيث إن الوعي بأهمية البناء الفقهي في كثير من الأحيان يعتمد على المقارنة والموازنة. وقطع خيوط الحوار والتواصل مع المخالف لا يشكل في نهاية المطاف إلا نموذجًا للانغلاق المذهبي المقيت، فعقلية البعد الواحد التي يتمتع بها كثير من منتسبي المذاهب جنت على ضرورة من ضرورات التفوق العلمي والتقدم الفكري والاجتماعي، وهي حتمية الانفتاح والتكامل الاجتهادي بين المذاهب. «هذا الانغلاق قد يكون متعمدًا في كثير من الأحيان من قبل جهات لا ترى إمكانية لاستمرارها في ظل الانفتاح على الآخرين، لأن وجودها غير مشروع، أو لأنها تحمل ثقافة هشة، أو أفكارًا غير مشروعة وحين تنعدم أجهزة الاتصال فإن التلاعب بالناس يصبح سهلا...» ([6]) وتفاديًا لهذه الظاهرة القبيحة عمل كبار فقهاء المذهب المالكي في مدارسه المختلفة على تكريس مبدأ الانفتاح على آراء ومذاهب فقهاء الأمصار الآخرين، فرأينا الكتب التي اهتمت بالحوار الفقهي ككتب ابن رشد([7]) (ت 595هـ) الحفيد، وابن العربي([8]) (ت 543هـ)، والقاضي ابن القصار وابن عبد البر([9]) (ت 463) والقاضي عبد الوهاب بن نصر وغيرهم([10]) ممن لا يسع المجال لذكرهم.
ولقد تعلمنا من ديننا وتراثنا أننا نثبت الحقائق مهما كان مصدرها لأنها حقائق، وبغض النظر عن قائلها، فالعبرة بالقول لا بالقائل، وكم من مذهب أو اجتهاد هجر بسبب قائله، وفي التاريخ نماذج على هذا التقهقر الحضاري، والانكماش الفقهي الذي أصاب المذاهب، وانتهت فصوله بإعلان غلق باب الاجتهاد. والذريعة عند هؤلاء المتمذهبين في رفضهم الحوار والانفتاح، هو اعتقادهم أن ما رآه الإمام مقدس لا يمكن العدول عنه، وأن في مدارسة آراء المخالف تنازل، وقد يخدش في صحة الانتساب المذهبي. والأمة إذا استصعبت فتح مجال الحوار مع الذات فهي أمة تفتقر إلى الثقة بالنفس، هذه الثقة التي اكتسبها إمام دار الهجرة بعد تجربة ومخابرة طويلة لمبادئ الانفتاح والحوار مع الذات وعبر عنها في كثير من المواقع بقوله إذا سئل فيما لا يمكن الإجابة عنه: «لا أدري»([11]) ولم يؤثر ذلك في اجتهاده رضي الله عنه.
بل قال مرة وكله ثقة: «جنة العالم: لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله»([12]).
واستحالة الحوار في حقيقته يتضمن رفض النقد،» لأن الذي يرفض الحوار سيكون رفضه للنقد أشد، لأن الحوار كثيرًا ما يشتمل على نقد مخفف، مبطن باللباقة والكياسة، فإذا رفض الحوار فهذا يعني أن فرص عقد جلسات للنقد البناء والتناصح المخلص ستكون ضئيلة جدًا([13]) وحينئذ فإنه لا مناص من الدخول تحت قوله تعالى: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون}([14]).
بذور الحوار في الفقه الاجتهادي عند مالك بن أنس رحمه الله تعالى:
لقد عرفت الأمة الإسلامية مرحلة مشرقة من الانفتاح الحضاري المشهود، والذي بموجبه تربعت على عرش القيادة في العطاء والإنتاج العلمي الغزير فترة من الزمن ليست بالقصيرة، شهد لها بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
فكان ذلك دليلًا ناصعًا على الوعي بالذات، ومقياسًا دقيقًا بخطورة وأهمية المسؤولية المنوطة بها في مجال البناء والتنمية بمختلف أشكالها وأنماطها الفكرية منها والاجتماعية والسياسية.
ودخلت أمتنا بذلك في مواجهة التحديات الداخلية والمتمثلة في بناء الإنسان السوي، وإقامة المجتمع الواعي بذاته وبرسالته، الحامل لدعائم النهضة والتفوق، فكان لكل ذلك وأكثر أن هيأ الله تعالى لإنجاز هذا المشروع الضخم رجالًا وأئمة حملوا لواء هموم هذا المجتمع، فترجموا المبادئ إلى سلوكات، وتغلغلوا بعظمة إخلاصهم في نفوس الآخرين، وجسدوا مبادئ الأمة الواحدة في حدود مساحة واسعة من تعدد الآراء، وسعة الأفكار، وتنوع الاجهادات، فهزموا بذلك منطق عقلية البعد الواحد في فهم حقائق الأشياء، ووضعوا اعتبارًا لا محدودًا في تقديم المنهج على الأشخاص، فنتج عن هذا التلاحم والتكامل رؤية جمعية لقضاءات تشييد المشروع الرباني المنشود، وذلك في حدود ما رسمه قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوًا السبل فتفرق بكم عن سبيله}([15]).
ولعل من أبرز وأهم آليات هذا المنهج والمرسوم بـ«الصراط المستقيم»، هو مجموعة من القيم والفضائل شاعت عند أئمتنا وفقهائنا، وأخذت مساحة واسعة من مناهجهم في التفكير والاجتهاد، واصطبغت بها أخلاقهم، فكانت مادة أساسية أضاءت صفحة من تاريخ أمتنا الثقافي والعلمي. امتدت طولًا وعرضًا وعمقًا لا زالت شاهدة على نصاعة ثروتنا الفقهية رغم ما أصابها من محن وإحن، شوهت بعض أوراقه الذابلة، هذه القيم التي لا تكاد تخلو منها فترة من فترات ازدهار ثقافتنا يمثلها بكل حيوية واقتدار الإمام رحمه الله تعالى.
لقد أسس رحمه الله ورضي عنه لفضيلة الحوار العلمي، والمشاركة الفقهية الفعالة، وانفتح في اجهاداته بكل ثقة ووعي على آراء ومذاهب الآخرين، إيمانًا منه بالبناء الجمعي للفكر والثقافة، واستطاع بفعل هذا التبادل في النظر، والتكامل في المشاورة أن يزيل كثيرًا من الشبهات، ويحقق العديد من الانتصارات في مجال إثبات صحة الرأي، وإقناع الطرف المقابل به.
ولقد أدرك الإمام رحمه الله تعالى أن أهمية الحوار لا تكمن في السعي إلى توحيد الرأي دائمًا، بقدر ما هى عملية حسن تقديم وجهة نظر الأطراف المتحاورة بعضها لبعض. أي أن يرى كل طرف الطرف الآخر ما لا يراه، وإذا ما أدى الحوار إلى تضييق شقة الخلاف، ذلك بحسن الاختيار وآداب المناقشة فذاك هو المبتغى في تصور مالك وقناعته، وكان رحمه الله يمارس ذلك في مناظراته، أكد ذلك القاضي ابن القصار([16]) (ت 398هـ) لما سئل في هذا، قال رحمه الله: «سألتموني أرشدكم الله أن أجمع لكم ما وقع إلي من الأدلة في مسائل الخلاف بين مالك بن أنس رحمه الله وبين من خالفه من فقهاء الأمصار رحمة الله عليهم... وأن الله خصه بحسن الاختيار، ولطيف الحكمة، وجودة الاعتبار...» ([17]).
ولإمام دار الهجرة تجارب في إدارة فن الحوار والمشاركة في المساجلات العلمية في مجال الفقه والأصول والسياسة والإفتاء، حتى في التعليم والتربية وتبقى المراسلة العلمية والأخوية التي تمت بينه وبين الفقيه المصري الليث بن سعد([18]) (ت 175هـ) تحمل من الدلالات والإشارات الواضحة على قدرة الإمام في انتزاع الموافقة، وإقناع خصمه بصواب مذهبه وقوة اختياراته في مجال الأصول مع الأدب الجم في الخطاب والمناقشة.
قال رحمه الله بعد السلام والتحية: «... فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه، واعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس، عندنا ببلدنا الذي نحن فيه وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاءهم منك...» ([19]).
هذه أصول للمناظرة ساقها مالك، وصدر بها كلامه ورسالته، تحمل معاني عالية في السلوك الحسن والذوق الرفيع في الخطاب والمحاورة.
ثم بعد الانتهاء من مضمون الرسالة وموضوع الحوار، ينهي مالك حديثه بقوله من نفس جنس مقدمته: «فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني أرجو أن لا يكون دعائي إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده والنظر لك والظن بك، فانزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحًا، وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل حال...» ([20]).
وكان جواب الليث رحمه الله تعالى عن هذه الرسالة فائقًا في لغته وأسلوبه، جامعًا لمعاني وأهداف الحوار، برهن على مقدرته في الانفتاح على مذهب محاوره والتسليم بوجهة نظر مالك في اعتماد مذهب أهل المدينة أصلًا من أصول الاستدلال قال رحمه الله تعالى:
«... وقد أصبت بالذي كتبت من ذلك إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين...» ([21]).
لقد برهن مالك رحمة الله عليه من خلال هذه المراسلة على أنه محاور ناجح أسس لهذا المنهج مبكرًا، ودعمه بما وقع له من حوار وانفتاح مع ذاته وعلمه واجتهاده، حيث ظهرت بوادر النقد وهي ممارسة حوارية مع الإمام مالك إذ نهج سبيل النقد في أحاديث موطئه، حتى صارت أحاديثه تناهز الست مئة في النسخ المتأخرة بعد أن كان يضم عشرة آلاف حديث في نسخه الأولى. وتأكيدًا لهذا النهج الحواري قال يحيى بن سعيد القطان([22]) (ت 198هـ): «كان علم الناس في زيادة وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط علمه كله من كثرة التحري»([23]).
وعلى هذا السنن البين سار أئمة المذهب وحذاقه من بعده، فقد وقف عبد الرحمن ابن القاسم أشهر تلاميذ مالك مستدركًا على شيخه ومخالفًا له لكثير من الآراء التي ذهب إليها، وحاوره بكل أدب في أحكامها، وألف العلامة المالكي أبو عبيد الجبيري (ت 378هـ) في ذلك كتابًا سماه: (التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدرنة)، والكتاب كما في مقدمة ابن القصار، جمع من مسائل الخلاف بين الإمامين واشترط فيه مصنفه رحمه الله أن يكون عادلًا محاورًا لكلا الطرفين بما تيسر من علم الكتاب والسنة([24]).
وفي هذا الإطار فسح المذهب الدور لبقية المذاهب للإدلاء بآرائهم حول أصوله واجتهاداته، وذلك في حدود النقد البناء، فتعرض بجملة من الحوارات والانتقادات من جهة الحنفية والشافعية. فألف محمد بن الحسن الشيباني كتابه الشهير (الحجة على أهل المدينة) وكتاب (الرد على مالك فيما خالف قيه السنة) للشافعي وغيرها مما لا يمكن حصره في هذا المجال.
وإذا كان النقد سبيلًا لإنعاش الحوار وتطوره، فقد حازه نقاد المالكية في كثير من مصنفاتهم ولعل من أهم الأمثلة على ذلك ما صنعه الإمام سحنون([25]) (ت 240) مع (أسدية) أسد بن الفرات([26]) (ت 213هـ) فلاحظ رحمه الله ضعف عزو رواياتها، واختلاط مسائلها، وعدم تذييلها بالآثار، وعدم مقابلتها بأصول ابن القاسم التي سمعها من مالك، فرحل بها إليه ليحقق نقولها وليتقن عزو مسائلها طرحًا للشك ودفعًا للاشتباه، من ثم يمكن عد عمل سحنون في تهذيب (الأسدية) وتبويبها وتصحيحها عملًا نقديًا([27]) حواريًا أجراه سحنون مع أسد، غمرته روح أخوية، كان الهدف منها تقوية المذهب وترقية اجتهاداته.
وبهذا يكون التعاون العلمي والحوار الجاد الذي دار بين الثلاثي المالكي، ابن القاسم، وأسد، وسحنون قد أسفر عن ولادة أكثر الكتب الفقهية اعتمادًا عند المالكية منذ تأليفها إلى زماننا، وأصبح الثنائي ابن القاسم وسحنون حجري الزاوية في مدرسة مالك الكبرى قديمًا وحديثًا، حتى إن القول بأنهما مهندسا المذهب، ومرسخا أصوله بعد مؤسسه لا يعدو الحقيقة بحال([28]).
بالإضافة إلى اللقاءات والمناقشات التي أجراها مالك مع كبار الأئمة، الذين التقى بهم من مختلف المشارب والمذاهب.
وكان على رأس هؤلاء الإمام القاضي أبو يوسف([29]) (ت 182هـ)، حيث رحل إلى مالك وأخذ عنه بعد أن ناظره في مسائل كان يقول فيها بمذهب العراقيين كزكاة الخضر ومسألة مقدار المد والصاع، فرجع لقول مالك، ثم رجع إلى العراق بأفكار أهل الحجاز فمزجها بمذهب العراقيين، ورجع عن كثير من المسائل إلى رأي مالك فهو أول من قرب بين المذهبين وأزال الوحشة...» ([30]).
وكذا الفقيه الحنفي محمد بن الحسن الشيباني([31]) (ت 189هـ) «أخذه عن مالك كبح جماحه عن التغالي في الرأي فأدخل بسبب ذلك تعديلًا كبيرًا على أهل الرأي»([32])، وإذا كان الحوار يعتبر دعامة أساسية من دعامات الموضوعية، وإذا كان الإنصاف شكلًا من أشكال هذه الموضوعية، فإن مالكًا أدرك ذلك بفعله وثقته بنفسه وترجم لذلك بكلمة لا أدري في كثير من أجوبته.
وفي معرض هذا قال عبد الرحمن بن مهدي([33]) (ت 198هـ): كنا عند مالك فجاءه رجل فقال: جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلادي مسألة.
قال: سل، فسأله عنها، فقال: لا أحسن.
قال: فأي شيء أقول لأهل بلادي؟.
قال: تقول: قال مالك لا أحسن([34]).
وهذا من ثوابت الموضوعية التي يقتضيها الحوار العلمي، وهو معرفة حدود الذات والوقوف دون نكران موقفًا صحيحًا أمام أية مسألة أو رأي يعرض للمناقشة، إذ الجهل في هذا وخيم العواقب، حيث يؤدي في بعض الأحيان إلى الكبر والغرور والتهور وقد يؤدي في أحيان أخرى إلى نكران الذات وعدم الاستفادة من إمكاناتها المقدورة لها([35]).
فمالك رحمه الله أنصف نفسه مما لا يحسن، وترك الجواب بكل شجاعة وثقة لمن يتقنه، وإيمانًا منه أن العلم تفرق بين أهله والتكامل والانفتاح هو الذي يجمعه. وفي هذا السياق ذاته، وفي إطار نقد الذات ووصفها بالقصور وعدم الكمال، وأنه لا يمكن جمع الناس على رأي واحد أو كتاب فريد، وأنه ينبغي اعتبار كل الآراء في العمل الاجتهادي، قال للخليفة المهدي لما طلب منه هذا الأخير أن يضع كتابًا يحمل الأمة عليه: «يا أمير المؤمنين، أما هذا السقع - وأشار إلى المغرب - فقد كفيتكه، وأما الشام ففيهم الرجل الذي علمته يعني الأوزاعي، وأما أهل العراق فهم أهل العراق([36]).
وهذا هو البعد عن الذاتية، والذي يعتبر دعامة في بناء الموضوعية في الحوار فاحترام الرأي الثاني، والتأكيد على محاورته واستملاء موقفه، وإشراكه في العملية الاجتهادية، وفي تشييد صرح المجتمع الواعي أمر تنبه إليه إمام دار الهجرة وخابر أهميته، فكان هذا الموقف الموضوعي منه، رغم الحوافز التي أحاطت بالطلب.
وقد تحادث الخليفة المنصور مع مالك في موضوع تدوين علم أهل المدينة، وإلزام أهل الأمصار به بغية منه في توحيد الرأي وجمع الاجتهاد في مذهب واحد، لكن مالكًا بثاقب عقله ورزانة علمه، وبنظرته الفقهية الاستراتيجية، رفض طلب الخليفة.
روى محمد بن سعد([37]) (ت 230هـ)، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور، دعاني فدخلت عليه، فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إنني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعت يعني «الموطأ» فتنسخ نسخًا ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإنني رأيت أهل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، سمعوا أحاديث، ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به»([38]).
فانظر إلى قوله: «دع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم... فترك الاختيار في العمل بما يترجح هو هدف الحوار، وكان مالكًا يدعر لاحترام رأي المحاور، والمخالف، وكذا الانفتاح على كل الاجتهادات، وأن ساحة العمل الفقهي تسع كل الأطراف، فلا مجال إذًا لوأد الإبداع والابتكار والحجر على العقول، بدعوى توحيد الرأي والقضاء على بذور الخلاف.
فكان هذا من مالك رحمه الله من أجمل مظاهر الإنصاف... وإنصاف المخالف بذكر ميوله واعتبارها وتقدير اختياره والانتصار له ليس بالأمر الهين أو اليسير على النفس البشرية، لكن العالم الأصبحي رضي الله عنه - الذي اكتسب تزكية تنويه في العلم والفقه، والذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم «يخرج الناس من المشرق والمغرب، فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة»([39]) وفي رواية: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة»([40]) قال سفيان بن عيينة([41]) (ت 198هـ) إنه مالك بن أنس - أدرك أهمية المشاركة والمذاكرة في بناء المجتمع السوي. وأن العمل الاجتهادي في حقل الفقه صرح لا يتأتى تشييده إلا بتوظيف كل الطاقات واستثمار كافة الجهود بغض النظر عن مصدرها أو قائلها، تلك هي مسؤولية أخلاقية تجلت في المسيرة الفقهية عند مالك رحمه الله تعالى.
فهو في هذا يكون رحمه الله قدم نفسه وخصوصيته العلمية قربانًا في سبيل المنهج لحفظ حيوية الأمة، وهؤلاء لا يقلن بذلًا عن الذين يضحون بأرواحهم لصيانة حياة الأمة([42]).
ومن مفردات المنهج الحواري، الانتصاف من الذات وإيثار الحق على النفس فهو من الصفات المندوب إليها، حيث يعمل الفقيه المجتهد على نقد آرائه، والكشف عن خطأ حكمه في سبيل نصاعة الحقيقة، وحفظ مراشد الحق من الانطماس، فالعلم ينمو والفقه يزدهر لما تتاح له فرصة الاستمرار والحياة، والتراجع عن قول قاله عالم أو فقيه إلى الصواب مهما كان قائله يقتضيه نمو العالم وتحضره في فهم أساليب الحوار والوعي بقيمه.
ومن ذلك ما ذكرته مصادر الفقه والتاريخ عن تراجع مالك عن بعض آرائه لما تبين له خطأ اختياره، ولم يمنعه ذلك من الانتصاف لنفسه، وإنصاف غيره في حوار صامت اقتنع مالك على إثره بما ورد على لسان محاوره.
فقد روى ابن وهب([43]) (ت 197هـ) رحمه الله قال: سمعت مالكًا يسأل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة فقال: وما هي؟ فقلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه»([44]) فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع»([45]).
وقد شارك مالك رحمه الله كذلك سياسيًا، واجتماعيًا بتوجيهاته ونصائحه، والتي لا تكاد تنقطع على شكل مراسلات وحوارات مباشرة، وغير مباشرة وجهها إلى الخلفاء والأمراء، واستطاع أن يمكن لنفسه بينهم بانفتاحه على أسئلتهم ومجالسته إياهم، والعمل على الاستجابة لرغباتهم فيما لا يتنافى وأوامر الشارع ونواهيه. ودعمًا لهم علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطييبًا لقلوبهم، وحثهم علي مراعاة مصالح الرعية، قبل عطاياهم بغية المحافظة على علاقة الود واستقرار المجتمع وكان لا يمنعه ذلك من إبداء الرأي الصائب في مكانه وزمانه، وقد اعتاد الدخول على الخلفاء باستمرار، ولما قيل له: «إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون، فقال: يرحمك الله فأين المتكلم بالحق»([46]) ولا مجال لإنقاذ الحق والقول به إلا بالحوار والمذاكرة الدائمة، ولا حرج عندئذ في الدخول عليهم، والالتفاف بهم لأجل مناصحتهم وإقناعهم بفعل الخير، وصد بطانة السوء عن استلاب ذلك منهم.
وفي (ترتيب المدارك)، وصف مالك رحمه الله المشاركة في الحوار السياسي بأنه الفضل الذي ليس بعده فضل، قال: «حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه أن يدخل على ذي السلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر.... فإذا كان فهو الفضل الذي ليس بعده فضل»([47]).
وقد أفرز هذا الود الذي انتهجه مالك في سيرته السياسية، والفقهية مكانة تبوأها، ووجاهة مكنته من إيصال كثير من الخير للناس، كما أسس بذلك لثقافة الحوار بين الحاكم والمجتمع، وأكد على ضرورة التعاون والتكامل في ذلك.
وإذا كان الانغلاق يعني «اللا موضوعية» في لغة علماء المناهج فإن الحوار يعني الانفتاح الواعي بكل معانيه، وقد مارسه الإمام، ووضع له عنوانًا في بداية مشواره الاجتهادي، ونزع صفة التقديس على أفراد المجتهدين واختياراتهم إلا ما أعطاه الله عز وجل لأسبابه وقال في ذلك قولته المشهورة: «كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر»([48]).
وهذا ما يمكن نعته اليوم، بـ«المنهج فوق الأشخاص»([49]).
وقد امتد هذا العطاء، في بناء هذه الظاهرة الحضارية والتي وضع لبنتها الأولى مالك ابن أنس رحمه الله تعالى عند نخبة ممن أنجبتهم مدرسته في أنحاء مختلفة من عالمنا الإسلامي.
وإذا كانت المذاهب الفقهية الأخرى قد أصابها من حظ الانفتاح والحوار الفقهي ما أصاب المذهب المالكي، فإن ذلك يرجع بالأساس لكون أصول هذه المذاهب هو (الموطأ) بمادته ومنهجه واجتهاداته. فأصل مذهب الشافعي ومادة اجتهاده «الموطأ»، إنما تعقبه في بعض المواضع، وخالفه في ترجيح الروايات، ورأس المال لفقه الإمام محمد في (المبسوط) وغيره هو الموطأ([50]).
فهو عمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه، ومصباح مذهب أبي حنيفة، ونبراسه، وهذه المذاهب بالنسبة للموطأ كالشروح للمتون، وهو منها بمنزلة الدوحة من الغصون، وإن الناس وإن كانوا من فتاوى مالك في رد وتسليم، وتنكيت وتقويم، فما صفا لهم المشرب، ولا تأتى لهم المذهب إلا بما سعى في ترتيبه، واجتهد في تهذيبه...» ([51]).
وإذا كانت جل المدارس المالكية قد تشبعت بثقافة حوارية، وانفتاح فقهي واجتهادي على نمط ما لمسناه عند مؤسسها الأول، فإن مدرسة العراق نالت قصب السبق في هذا المجال، وأبانت عن منهج متكامل يشكل امتدادًا طبيعيًا لسياسة المذهب التي اعتمدها مالك في أصوله وفروعه.
مبادئ الحوار المذهبي في منهج فقهاء مدرسة مالكية العراق.
لقد كان الحوار أشد ظهورًا، والتزامًا، وتطبيقًا عنه فقهاء مالكية العراق حيث جعلوا من الانفتاح، ومن مبادئ المشاركة والمناظرة مع غيرهم من إخوانهم فقهاء المذاهب منهجًا وسبيلًا، ترجمه بكل جدارة عميد تلاميذ مالك في العراق بعه ذلك الشافعي([52]) (ت 204هـ) رحمه الله، الذي أسس لهذا المنهج بقوله: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب»([53]) وهي لا شك ثمرة خطفها من ثقافة شيخه ورسمها بعد ذلك في فكره الأصولي والفقهي، فعدت بعد ذلك (رسالته الأصولية) أول إنتاج في مجال الدراسات الأصولية المقارنة التي اعتمدت الحوار والموازنة والمقارنة سبيلًا لتشييد ثقافة البناء الاجتهادي، فكان حظها بعد ذلك أن نالت القبول عند الموافق والمخالف، فعكف عليها العلماء شرحًا وتعليقًا واختصارًا.
ولما كان الحوار لا يقوم إلا على إدراك المحاور، أن ليس كل ما يراه قطعيًا نهائيًا وأنه من خلال الحوار والانفتاح يستطيع الفقيه أن يضيف شيئًا إلى ما عنده في صورة إثراء، أو في صورة تغيير وتبديل([54]). عمد الشافعي رحمه الله تعالى - ردًا على طلب أحد أبرز تلاميذه مالك بالبصرة وهو عبد الرحمن بن مهدي - إلى مكاتبته وإجابته على بعض استفساراته فكانت (الرسالة) المذكورة([55]).
وحيث إن البناء الفقهي يعتمد على بلورة الآراء وتجميعها، والقدرة على توسيع دائرة إقناع المحاور والمشارك في الرأي، وحشد المزيد من الثقة، فضل الشافعي تحقيقًا لذلك التخلي عن بعض حقوقه في الابتكار الاجتهادي، وتبني منهج تعميم الاجتهاد الفقهي على الناس، قال فيما اشتهر عنه وهو على فراش المرض: «وددت أن الخلق يعلمون ما في هذه الكتب، على أن لا ينسبوا إلي منها شيئًا([56]).
يقتضي دعمها، وذلك من خلال توفر أطر للمنافسة والحوار والنقد المضاد إلى جانب التجديد والمحاكاة الثقافية مع المذاهب الأخرى، وهنا تتجلى عظمة وفعالية الاجتهاد والتفوق العلمي وقدرة المذهب على العطاء والتأثير واستيعاب النافع مما أنجزته المذاهب الأخرى فهو كالجسم تقاس حيويته وقدرته بالجهد المبذول وامتصاص الغذاء، والتفاعل مع الدواء([57]).
هذه الوظيفة الحضارية والإنسانية السامية للفقه الإسلامي، أخذت حيزًا كبيرًا، ومساحة واسعة في الفكر الفقهي والأصولي عند فقهاء المالكية بالعراق وانطبعت في سلوكاتهم واستصحبت في كتاباتهم وحواراتهم ومناظراتهم. ففي إطار المذهب كانت الرحلة عاملًا مهمًا في توسيع دائرة التواصل والتحاور بين مختلف مدارس المذهب.
فقد قام أغلب مشاهير فقهاء المغاربة والأندلس في القرن الرابع برحلات إلى العراق فعلموا وتعلموا، وأفادوا واستفادوا، كالفقيه أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي([58]) (ت 392هـ) الأندلسي الذي زار العراق وسمع أبا بكر الأبهري، وأبا عمران الفاسي([59]) (ت 430هـ)، الذي سمع بالعراق أبا الفتح بن أبي الفوارس([60]) (ت 412هـ)، وأبا أحمد الفرضي وأبا الحسن بن الفضل العطار، ودرس الأصول على القاضي أبي بكر الباقلاني، ومن الذين نزحوا إلى المغرب من أهل العراق أو أوشكوا على ذلك أبو عبد الله الحسين بن حاتم الرازي تلميذ القاضي الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب الذي كان عازما على الالتحاق بالأندلس([61]).
وفي مجال الأصول فإن الفضل فيه يعود إلى فقهاء المدرسة البغدادية التي اتصل بها كبار فقهاء المالكية من المدارس الأخرى وأخذوا عنهم واستفادوا من طرائقهم في التأليف والنظر وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن العاص السعدي القرطبي([62]) (ت 330هـ) الذي وصف بكونه نظارًا وله كتاب (الدلائل والأعلام على أصول الأحكام) حيث دخل بغداد، وسمع من ابن الجهم وأبي الفرج وأبي يعقوب الرازي([63]).
ولعل الذي يؤكد تفوق المالكية ببغداد في هذا المجال، وأنهم نجحوا في اعتماد الحوار والمشاركة في العمل الأصولي، ما جاء أن أبا عمران الفاسي القيرواني قد أشاد بطريقتهم ومسلكهم في النظر والجدل عندما زار العراق. قال: «رحلت إلى بغداد، وكنت قد تفقهت بالمغرب والأندلس عند أبي الحسن القابسي([64]) (ت 403هـ)، وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول، فلما حضرت مجالس القاضي أبي بكر الباقلاني، ورأيت كلامه في الأصول والفقه، مع المؤالف والمخالف حقرت نفسي وقلت: لا أعلم من العلم شيئًا، ورجعت عنده كالمبتدئ([65]) إشارة منه إلى ما تمتلكه هذه المدرسة من قدرات علمية في مجال المناظرة والمحاورة، مع المؤالف والمخالف.
ومن أبرز من قام بمد جسور التلاقح والتبادل بين هذه المدارس وطريقة البغداديين بصورة واضحة وعميقة، العلامة الأصولي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي([66]) (ت 474هـ) والذي استفاد كثيرًا من المنهج البغدادي في الاستدلال الأصولي وانطبع بمسلك فقهاء مالكية العراق في المجال الجدلي الذي يقوم على المحاورة والنظر، فكان رائدًا وممثلًا حقيقيًا لنهج هذه المدرسة في الأندلس.
ومناظراته الشهيرة مع ابن حزم وغيره مشاهدة على ذلك، وكان أبو بكر بن العربي يعرف ما لأبي الوليد الباجي من السبق عليه في هذا المجال فكان يقول: «لم يأت قبلي إلى الأندلس بمثل ما أتيت به من علم المشرق إلا أبو الوليد الباجي»([67]).
وبقية هذه الجسور متواصلة جيلًا بعد جيل تعلمًا وتعليمًا، وانفتاحًا ومشاركة وذلك عن طريق القراءة والاطلاع على المؤلفات، واكتساب الإجازات التي تتصل أسانيدها بمؤلفيها([68]).
بل ذهب بعضهم إلى اختيار آرائهم وترجيح توجهاتهم وأساليبهم، كما هو معروف عند ابن عبد البر وابن العربي، والمازري، وابن رشد الحفيد وغيرهم ممن اعتنوا بالخلاف العالي([69]).
ومن هنا كان ابن أبي زيد القيرواني يوصي طلبته بالاعتماد على مصنفاتهم للوقوف على أساليب الحوار وطرق النقد قال: «وإن كان لك رغبة في الرد على المخالفين من أهل العراق والشافعي، فكتاب (ابن الجهم) إن وجدته، وإلا اكتفيت بكتاب الأبهري إن كسبته وكتاب (الأحكام) لإسماعيل القاضي، وإلا اكتفيت باختصارها للقاضي ابن العلاء([70]). (ت 344هـ)، والكتاب (الحاري) لأبي الفرج إن كسبته ففيه فوائد؛ وان استغنيت عنه لقلة لهجك بالحجة، فأنت عنه غني بمختصر ابن عبد الحكم أو كتاب الأبهري... وإن دخلت العراق فاكتب في مسائل الخلاف ما تجد لأهل الوقت من الحجة والاستدلالات»([71]).
وفي إشارة إلى أهمية معاني الحوار والنقد وحسن النظر عند فقهاء مالكية العراق قال الفقيه الناقد أبو عبد الله المازري مشيدًا بها: «ومن عجيب ما ينبغي أن يتفطن له، أن هؤلاء المتأخرين من المغاربة تحوم خواطرهم على هذه المعاني التي أبرزها حذاق أهل العراق إلى الوجود»([72])، فهذا تلميح لأسبقية مالكية العراق في فن النظر والنقد، وهما دعامتان أساسيتان للحوار الناجح والمثمر.
ومن ناحية أخرى، لقد كان للمدرسة المصرية تأثير واضح لا يدحض في المدرسة البغدادية، وذلك من خلال مؤلفات ابن عبد الحكم خاصة، فقد روى الأبهري سماع ابن عبد الحكم([73]) وقال: «قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمس مئة مرة، و(الأسدية) خمسًا وسبعين مرة»([74]) كما كان للمدونة دور في صقل الفقه العراقي، وكانت من ضمن مراجعهم، فقد قرأها الأبهري (خمسًا وأربعين مرة) ([75]) «بل إن سماعات ابن القاسم وآراءه لم تلبث أن أضحت هي الراجحة، حيث إن القاضي عبد الوهاب رجح مسائل المدونة؛ لرواية سحنون لها عن ابن القاسم، وانفراد ابن القاسم بمالك ... » ([76]) هذا الترجيح يؤكد مرة أخرى على أن الحوار بين المدارس الفقهية المالكية أنتج كتلة فقهية متماسكة في أصولها وفروعها.
وبجانب الرحلة أخذت المراسلات والمكاتبات العلمية والأخوية مكانة مرموقة في دعم أواصر الحوار والتبادل في تعاطي الآراء الفقهية ومناقشتها، قال عياض: وكانت المراسلات بين علماء طرفي العالم الإسلامي، بغداد والقيروان توضح أن كلا البلدين كان على علم بما يجد عند الآخر في ميدان الفكر...» ([77]) ونموذج ذلك، المراسلة التي تمت بين ابن أبي زيد القيرواني([78]) (ت 386هـ) وأبي بكر الأبهري ببغداد بخصوص رسالته الفقهية، فأجابه الأبهري بكتاب ألفه ردًا على رسالته سماه (مسلك الجلالة في مسند الرسالة) كما تناولها القاضي عبد الوهاب بشرح نفيس سماه (شرح الرسالة) ([79]) كما ضمن ابن أبي زيد القيرواني كتابه الحافل (النوادر والزيادات) من المسائل الفقهية والمنقولة عن طريق المكاتبة والمساءلة فكان رحمه الله تعالى كلما نزلت به نازلة كتب بها إلى علماء العراق وغيرهم يستفسرهم عن حقيقتها وحكمها.
ومن خلال هذا العرض الموجز لبعض أساليب الحوار الذي اتسمت به المدرسة المالكية العراقية على مستوى ترشيد المذهب والقفز به نحو التفتح الذاتي تبين لنا مدى المكانة العلمية التي يتمتع بها المذهب في بلاد الرافدين، وأن فقهاءه قد نالوا من حظ خدمة هذا المذهب ما لم تتوفر لغيرهم، وقد شهد بعضهم لذلك حتى قال: «لولا الشيخان، والمحمدان، والقاضيان لذهب المذهب، فالشيخان: أبو محمد بن أبي زيد، وأبو بكر الأبهري، والمحمدان، والقاضيان محمد بن سحنون، ومحمد ابن المواز، والقاضيان: أبو محمد عبد الوهاب بن نصر، وأبو الحسن بن القصار([80]). فقد جعل القائل دورهم في خدمة المذهب مع دور بقية المدارس مناصفة([81]).
ثانيًا: على المستوى الخارجي مع بقية المذاهب:
لقد بدأ الاتصال مبكرًا بين المذهب المالكي في العراق وسائر المذاهب الأخرى خاصة المذهبين الحنفي والشافعي، ويمكن اعتبار المحاورة الهادئة التي جمعت الشافعي وهو أحد أبرز تلاميذ مالك بالفقيه الحنفي محمد بن الحسن الشيبان، والتي دارت رحاها ببغداد أول احتكاك على هذا المستوى الراقي بين المذهبين.
قال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكًا، وما كان على صاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت. قال فغضبت وقلت: نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أو أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أقيس، فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان أولى بالكلام.
وفي رواية قال الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسن يومًا، فدار بيني وبينه كلام واختلاف حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدر وتنقطع أزراره، فكان فيما قلت له يومئذ:
نشدتك بالله، هل تعلم أن صاحبنا. يعني مالكًا- كان عالمًا بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم، قلت: وعالمًا باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم نعم»([82]).
هذا النفس الحواري في استعراض محاسن المذهب ممثلًا في رئيسه، بدأ في تمدد مستمر وتطور ملحوظ، حتى أضحى المخالف يشيد بمناقبه، ويستمع إلى مقرراته واجتهاداته بل يقدمها أحيانًا على اختيارات أشياخه، وهو ما لفت إليه الرجل الثاني في المذهب الحنفي أنظار أتباعه. «كان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس عليه حتى يضيق بهم الموضع، وإذا حدثهم عن غير مالك من شيوخ الكوفيين لم يجئه إلا اليسير.
وكان يقول: ما أعلم أحدًا أسوأ ثناء على صاحبكم منكم، إذا حدثتكم عن مالك ملأتم علي الموضع، وإذا حدثتكم عن أصحابكم - يعني الكوفيين - إنما تأتون مكرهين»([83]).
ولا يمكن تفسير ذلك من منظور علمي وموضوعي إلا بأن المذهب المالكي في الديار العراقية، قد نال قبولًا وانتشارًا بسبب رحابة فقهه واتزان أصوله لذلك لا نجد غرابة في أن يتبوأ أصحاب مالك في العراق مكانة تأهلوا من خلالها لقيادة الحياة الدستورية والقضائية وكذا العلمية فترة ليست بالقصيرة، برهنوا من خلالها على مرونة المذهب وقدرته الفائقة على استيعاب الرأي والرأي المخالف في مجال بناء الاجتهاد الفقهي وتطوره، ولما كان الخلاف باق لا ينقطع كما قال ذلك ابن القصار والأبهري، والباقلاني، وابن خويز وأبو تمام البصري وجمهور فقهاء مالكية بغداد، اتخذ هؤلاء مسلك الحوار والتذاكر والانفتاح على غيرهم لأجل تقويض أركان مساحة الاختلاف المؤدي إلى التأثيم والتضليل([84]).
وقال القاضي عبد الوهاب في هذا النسق في كتابه النفيس (الملخص أو التلخيص)
«وان كان الخلاف في مسائل الاجتهاد والفروع... لا يجوز أن يجزموا معه بتحريم الذهاب إلى الآخر...» أي عدم الممانعة في التزام الرأي الآخر([85]).
ويمكن لنا بعد هذا كله حصر مواقع الحوار ومسالكه عند أئمة مالكية العراق في المجالات التالية:
أولًا: في القضاء: تعتبر مؤسسة القضاء من أهم المؤسسات الدستورية التي يعتمد عليها نظام الحكم في بسط العدالة والحفاظ على الحريات وتقرير الحقوق والواجبات، فهي ملجأ المظلومين، ومحط أنظار عامة الناس وخاصتهم فبصلاحها تصلح الأمم وتتحقق المصالح وبفسادها تختل أنظمة الحياة كلها فهي ميدان رحب فسيح لإشاعة روح التعاون والتكامل والتناصح، كما أنها تعد مدرسة لاحتكاك الأفكار ومذاكرة الآراء ومراجعتها، لذا يفترض فيمن يتولى مهمة القضاء الإلمام بأصول الاجتهاد وآراء المذاهب، والقضاء بما يراه مناسبًا ومحققًا للمصالح التي قصد الشارع تحقيقها، بغض النظر عن انتمائه المذهبي واختياره الفقهي، فأتاحت هذه المؤسسة مجالًا واسعًا لنشاط فقهاء المالكية بالعراق، ودخلوا من أبوابها الفسيحة لعالم الحوار والمشاركة في بناء المجتمع فتصدر لهذه الوظيفة أعلام كان على رأسهم سليمان بن بلال([86]) (ت 176هـ) تلميذ مالك الأول بعد تصدره للإفتاء، حيث ولاه الرشيد قضاء بغداد، ثم تبعه في ذلك المؤرخ المشهور محمد بن عمر الواقدي([87]) (ت 207هـ) كان مستشارًا وقاضيًا للرشيد والمأمون، وقتيبة بن سعيد الخراساني([88]) (ت 240) الذي ولي قضاء بغداد، وهكذا توالت نخبة لا يمكن حصرها من أفذاذ مالكية العراق على مؤسسة القضاء والتدوين، إلى أن توج ذلك بمجيء أسرة بني حماد([89]) والذين وصفهم القاضي عياض بأنهم أئمة المذهب وأعلامه بالعراق، ومنهم اقتبس، تقلدوا ببغداد المظالم والقضاء والفتيا والتدريس([90]).
وكان القاضي إسماعيل بن إسحاق([91]) (ت 282هـ) أبرزهم على الإطلاق أدرك أهمية القضاء في الحياة الفكرية والاجتماعية ودوره الناجح في بعث سهام التحاور والتشاور بين النخب المثقفة وشرائح المجتمع المختلفة، فكان أن تقرب من الخليفة المأمون بداية فولاه المظالم بمصر، وكانت تلك العلاقة والانفتاح على الخليفة وطبقة الحكام سببًًا في انتشار المذهب المالكي ببغداد، حيث تولى القضاء مدة اثنتين وثلاثين سنة، وقيل: نيفا وخمسين سنة ما عزل عنه إلا سنتين([92]) وابن عمه أبي عمر محمد بن يوسف([93]) (ت 320هـ) الذي تصدره بعد وفاة القاضي إسماعيل إلى سنة (320هـ) ما عزل عنه إلا أيام فتنة ابن المعتز([94]).
ولا شك أن تبني الدولة للمذهب وتوليتها أئمته القضاء، وبالتالي تنزيله في واقع الناس ينعشه ويقويه ويزيد من مساحة أتباعه وقرائه والتأليف فيه وتأصيله وتفريعه، إذ هو مرجع الناس في تعاملهم وخصوماتهم([95]).
وقد تقاسم بعد ذلك فقهاء المالكية القيادة القضائية والسياسية والتعليمية، وكذا الفكرية طوال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وحملوا راية المذهب عن طريق الحوار العلمي والتبادل الثقافي والاجتهاد التعددي فوجدوا لذلك آذانًا صاغية من كل المذاهب الأخرى كالمذهب الحنفي والشافعي، وتقاسموا معهم الوظائف، ودلوا عليهم في أحيان أخرى.
ومن نوادر الأدب العالي في مجال الانفتاح على الرأي المخالف ما حدث به الحافظ أبو الحسن الدارقطني([96]) (ت 385هـ) من أن إسماعيل القاضي دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير وهو يمارس مهنة القضاء، وكان نصرانيًا فقام له ورحب به، فرأى إنكار الشهود لذلك فلما خرج قال: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين.... الآية}([97])، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكتت الجماعة عند ذلك»([98]).
ودعما للتكامل المذهبي بين الأ ثمة نصب القاضي إسماعيل الفقيه الشافعي أبا العباس أحمد بن سريج([99]) (ت 303هـ) كاتبًا يكتب قضاءه، وهو الذي ألف كتاب (التوسط بين محمد بن الحسن وإسماعيل القاضي) ([100]).
ومما يحفظ لأئمة المالكية ببغداد في مجال الاعتداد بالرأي المخالف - واعتبار التكامل في المسؤولية، والإشارة بها لمن هو أهل لها حتى ولو كان على خلاف المذهب - ما ذكره صاحب المدارك: سئل الأبهري أن يلي القضاء فامتنع، فاستشير فأشار بأبي بكر الرازي([101]) ... وكان حنفي المذهب ... »([102]).
وبقيت مؤسسة القضاء بأيدي كبار فقهاء مالكية بغداد، حيث وجدوا من خلالها ضالتهم في نشر مبادئ الحوار والتبادل العلمي، والتكامل الثقافي، رغبة منهم في بناء مجتمع موحد ومنسجم في تفكيره واجتهاده، فكان لهم ذلك بما أنتجوه في عالم المعرفة من علوم وفنون لا زالت شاهدة على مكانتهم وتفوقهم في مجال البحث والمناظرة.
ثانيًا: في المجال الفقهي:
تأثر فقهاء مالكية العراق بما وصل إليهم من إمدادات فقهية من مدرسة المدينة، عن طريق كبار الفقهاء الذين مكنتهم رحلاتهم العلمية من الاتصال بأصحاب مالك وأخذوا عنهم أقواله ورواياته، ورجع هؤلاء إلى العراق يحملون ثروة فقهية امتزجت بمبادئ الحوار، وتطورت هذه المبادئ وتشكلت في أذهان نخبة من الفقهاء أسسوا لفن المشاركة الفقهية بكل معانيها. فقالوا كلمتهم ورفعوا أصواتهم، وبينوا آراءهم، ودافعوا عن مذهب إمامهم، وتناولوه درسًا ومدارسة وريسًا...»([103]) وتعلموا من المذاهب الأخرى، وألفوا في الخلافيات، وتوسعوا في مناقشة المذاهب وعقد المجالسات معهم، ومقارنة أقوالهم بأقوال مالك وأصحابه، ونقد أدلتهم والرد عليها، وكتاب (المبسوط) للعلامة إسماعيل بن إسحاق القاضي خير من يمثل هذا المنهج بكل جدارة، فقد كانت التوسعة في الاختلاف جزءًا من تفكيره الاجتهادي، وهو أول من أعلن معاداة الرأي الواحد ودعاته. قال رحمه الله: «إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة لأن يقول الناس بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا([104]). قال أبو عمر: كلام إسماعيل حسن جدًا([105]).
ولأهمية كتاب (المبسوط) ضمن الدواوين التي من خلالها تعرف طريقة البغداديين في الفقه والتأليف ولكون هذا السفر لعب دورًا بارزًا في مجال الترجيحات والمشاركة الفقهية بكل معانيها طار في الآفاق صيته وذاعت شهرته، حتى أصبح معتمدًا عند سائر فقهاء مدارس المالكية المغرب والأندلس، فقد حفظ لنا (المنتقى)([106]) للباجي من اقتباساته ونكته، كما سجل لنا ابن أبي زيد القيرواني في كتابه الحافل (النوادر والزيادات)([107]) من مناظراته الفقهية وحواراته العلمية النافعة ما يشفي الغليل في مجال دراسة فقه الخلاف العالي وإدارته.
ومن الذين تميزوا على أقرانهم بسعة الاطلاع على فقه المذاهب الأخرى وشاركوا في بناء الفكر الاستثماري وتطوره، القاضي أبو الحسن بن القصار، والقاضي عبد الوهاب بن نصر، والشيخ أبو بكر الأبهري وغيرهم ممن يعدوا بمثابة بداية حقيقية لمشاركة مالكية بغداد في تأسيس وتطوير علم الخلاف([108])، الذي يقوم أساسًا على الحوار المذهبي، والموازنة الفقهية والتبادل الاجتهادي بين الفقهاء، فكان هذا الإسهام سببًا في الثقة التي اكتسبها فقهاء المالكية ببغداد عند غيرهم من أئمة المذاهب الأخرى وأتباعهم، ومما يذكر في هذا الشأن أن أصحاب الشافعي، وأصحاب آبي حنيفة كانوا إذا اختلفوا في أقوال أثمتهم يسألون أبا بكر الأبهري، فيرجعون إلى قوله([109]) وهو إمام مالكي ببغداد بلا منازع، وكذا ابن الباقلاني الذي عرف بحسن الاستنباط وسرعة الجواب إذ كان في المناظرة كأنه خطيب، قال ابن ناجي في (معالم الإيمان): «إنه كان يقرئ المذاهب الأربعة، ويذكر كل مذهب وحجته، ثم يرجح مذهب مالك»([110]).
وفي هذا السياق ذكر أبو عبد الله بن سعدون الفقيه أن «سائر الفرق رضيت بالقاضي أبي بكر الباقلاني في الحكم بين المتناظرين»([111]).
هذه هي أوصاف هؤلاء لما تربعوا على قمة الاجتهاد الفقهي، وأنشؤوا قواعده على غرار فقهاء الأحناف والشافعية، وتناولوا المسائل الفقهية بالتحليل والتفريع وألفوا في الخلاف أسفارًا، وتواليف بديعة كـ(عيون الأدلة) لابن القصار، و(الإشراف على نكت مسائل الخلاف) للقاضي عبد الوهاب، وكتاب (الحاوي) لأبي الفرج عمر بن محمد الليثي (ت 331هـ)، و(مسائل الخلاف) و(الحجة على مذهب مالك) لأبي بكر بن الجهم المعروف بابن الوراق المروري([112]) (ت 329 هـ) وكتاب (مسألة الجواب والدلائل والعلل) لأبي بكر الأبهري، وغيرها مما لا يمكن حصره، وما لا يسعفنا الوقت في عد مناقبه في مجال الإبداع الفقهي والنبوغ الاجتهادي الذي يعتمد كل الآراء دون إقصاء وهو ما عبر عنه ابن القصار لما سئل عن جواز النظر في الكتب وعزو ما فيها إلى أصحابها، ذكر جواز ذلك إذا كانت مما هو مشهور كـ(الموطأ)، و(الجامع) للثوري و(الأم) للشافعي، و(السنن في الفقه) للأوزاعي وغيرها، ثم قيد ذلك بقوله: «يجوز إن كان الكتاب صحيحًا مقروءًا على العلماء معارضا بكتبهم»([113]). وهذا لعمري فهم دقيق لمعنى التكامل الفقهي في العمل الاجتهادي، وهو بهذا يؤسس لما يتكلم عنه اليوم (بالاجتهاد الجماعي) والحوار المذهبي. وكتاب (عيون الأدلة) ترجمة فعلية وعملية لهذا المنحى الذي يتحدث عنه ابن القصار في المجال النظري.
فهو عبارة عن معلمة فقهية من حق كل الفقهاء أن يفتخروا بها، جمعت آراء الأئمة والعلماء على اختلاف مذاهبهم، فعكف ابن القصار على دراسة هذه الآراء ومحاورة أصحابها من خلال منهج جاد في النظر والاستدلال، وتوج ذلك باختيارات وترجيحات فضلها وقدمها بصرف النظر عن قائلها؛ لأن الأهم في نظر الفقيه المحاور هو القول والمذهب بغض النظر عن قائله، وقد أكد هذا المنهج في مقدمته الأصولية بقوله: «يمنع تقليد المفضول مع وجود الفاضل بغض النظر عن انتمائه أو مذهبه، فالعلم والأمانة هما مبلغ ذلك، فمن كان أعلى رتبة في ذلك، استفتاه وقبل قوله وفتواه.... لأن هذا أوثق لدينه وأحوط لما يقدم عليه من أمر شريعته...» ([114]).
كان هذا شعارًا للمشاركة والمشاورة التزم به صاحب (عيون الأدلة) في مشواره الفقهي ولا ضير بعد ذلك أن يتلقى وسائل التشجيع والتأييد من محاوريه اعترافًا بجهوده في مجال تنمية فقهية جماعية يشترك الجميع في تشييدها، فهذا أبو حامد الإسفراييني([115]) (ت 406هـ) الفقيه والأصولي الشافعي قال في مناظرة جمعته مع العلامة المالكي القاضي عبد الوهاب بن نصر في خصوص كتاب (عيون الأدلة) وأهميته في مجال الموازنة الفقهية القائمة على روح التفقه والتفهم: «ما ترك صاحبكم لقائل ما يقول([116])، كما حلاه أبو إسحاق الشيرازي([117]) الأصولي الشافعي الذي انتهت إليه رئاسة الشافعية في زمانه (ت 476 هـ) عندما وصف هذا الكتاب بقوله: «وله كتاب في مسائل الخلاف الكبير لا أعرف لهم كتابا في الخلاف أحسن منه»([118]).
وبرهن ابن القصار من خلال هذا السفر الكبير أن الفقيه المالكي أكثر الفقهاء انخراطًا في ساحة المذاهب، وأبعدهم عن التقوقع وأنشدهم لحرية الاختيار، وأنصفهم للرأي إذا قويت حجته وبانت شوكته.
ففي المسألة 73 من كتابه «عيون الأدلة»:
اختار قول أبي حنيفة في حكم صلاة المهدوم عليه خلافًا لكبار فقهاء المالكية كابن القاسم وأشهب.
وفي المسألة 148 خالف مالكًا رحمه الله في صلاة الرجل إلى جنبه امرأة، فذهب إلى أنه لا يقف بجنبها، وكأنه وافق أبا حنيفة في ذلك.
وفي المسألة 225، وردت موافقته لقول الشافعي في خطبة الإمام وحده دون من تنعقد بهم الجمعة قال: «والذي يوجبه النظر عندي أن لا تصح بحضرة الجماعة» والى هذا ذهب الشافعي.
وفي المسألة 271 وافق قول بعض أصحاب الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في عدم تغسيل المقتول في المعركة إذا عرف أنه كان جنبًا وليس لمالك في ذلك نص.
وفي المسالة 420 خالف مالكًا في صيام المغمى عليه، فلم يفرق بين أن يغمى عليه أكثر النهار أو أقله، وفرق مالك بينهما([119]).
هذه بعض اختيارات ابن القصار والتي قدمها نتيجة محاورة مستمرة وجادة ونقاش علمي لمختلف الآراء، ولا يسع المتتبع لهذه الآراء وغيرها في المجال الفقهي إلا أن يتيقن من قدرة هذا الفقيه على الانفتاح والذوبان في مذهب غيره إذا وجد هذا الأخير ينسجم والراجح الذي ينبغي أن يسار إليه.
وعلى نفس خطى ابن القصار واصل بكل حفاوة واقتدار رئيس مالكية العراق في وقته القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر طريق الانفتاح، وأسلوب المحاورة التي ورثها عن شيخه وتفقه بها عنه، كما ذكر ذلك هو عن نفسه «صحبت الأبهري، وتفقهت على أبي الحسن بن القصار...»([120])، والتفقه هو التبين والتبصر في الترجيح والاختيار، وكتابه الحافل (الإشراف) يعتبر مسرحًا حقيقيًا نقل فيه القاضي تجربته في مجال النظر والاستدلال والحوار والنقاش الذي دار بينه وبين فقهاء المذاهب الأخرى، وقد أهله لذلك انغماسه في مدارسة آراء المخالفين ومحاورتهم من خلال إقراء مصنفاتهم واستعراض اجتهاداتهم، فإنه لا تكاد تخلو مسألة من مسائل الكتاب إلا وفيها ذكر للمخالف، وقد شهد له كبار معاصريه بجودة قريحته وتمرسه في الخلافيات والنظر وكانت له مجالسات مستمرة في هذا الميدان حلاه بها أبو إسحاق الشيرازي قال: «أدركته وسمعت كلامه في النظر»([121])، وقد عد البعض الشيرازي وعلو شأوه في هذا المجال من تلاميذه([122])، ويكفيه فخرًا أن ابن حزم([123]) رحمة الله عليه (ت 456هـ) نوه بتقدمه في النظر، كما يزيده ذلك زينة أنه أنجب في هذا المجال أحد المستقلين من دعاة الاجتهاد، العلامة النظار الناقد أبا عبد الله المازري([124]) (ت 536هـ) الذي قاد لواء الحوار المذهبي والنقد الفقهي في الغرب الإسلامي فكان ثمرة يانعة لم تقر بها أعين المذاهب الأخرى في مجال البحث الفقهي المتطور.
إن القاضي عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كل مؤلفاته أكد على ضرورة من ضرورات الاجتهاد وهي أن الفقيه المستنبط هو من يتعامل مع الأقوال تعامل الناقد الأمين والمرجح الذكي، يبحث عما هو أقرب إلى الحق وأدعى للقبول، متوخيًا في كل هذا وجود الدليل فهو يدعو إلى الاجتهاد، ويدعو معه إلى الترجيح بمقتضى الدليل دون اعتقاد الحق في أقاويل المخالفين في قول فلان دون قول غيره، ولا في مذهب دون ما سواه من المذهب([125]).
وبالجملة فإن أفضل ما يمثل المنهج البغدادي في الدراسات المقارنة، والتي اهتمت بالخلاف العالي هي مصنفات القاضي عبد الوهاب، والتي أضحت محل اهتمام المتأخرين من فقهاء مدارس المالكية الأخرى، وطارت كتبه وأفكاره واستحسنت طريقته المستقلة في النقد عند الحذاق من الفقهاء، وكتابه (التلقين) كان خير سفير لهذه الأفكار، فشرحه أئمة عظام أمثال: «المازري([126]) في القيروان وابن العربي في الأندلس، وهو أحد الكتب الخمسة التي عليها المعول في ضبط مسائل المذهب وفق فروعه، حسب عبارة القرافي (ت 684هـ) في مقدمة ذخيرته([127]) والله أعلم.
ثالثًا: في المجال الأصولي:
يقوم المذهب المالكي على أصول اجتهادية، وخطه تشريعية تضمنت مقرراتها اعتبار المصالح التي يقوم عليها المجتمع السوي، ودرء المفاسد التي تخل بوظيفته الإنسانية، فكان مؤدى ذلك أن تبنى المذهب قواعد ومناهج اجتهادية تأسست في مجملها على اعتبار المآل في التصرفات، بغية منها في تجميع شتات المذاهب في الاجتهادات، وإلجاء الاختلافات المزعومة إلى أضيق السبل وذلك بصرف الأنظار إلى خدمة الهدف، وتوجيه سهام المنافسة إلى ترقيته وتطوره.
فدخل رجال المذهب ومنظروه من نافذة هذه الأصول في محاورات مذهبية عرفت نقاشًا حادًا، وإثراء لا مثيل له في تاريخ الحركة الفقهية قديمًا وحديثًا. وأفضى هذا الإثراء في نهاية المطاف عن ميلاد مناهج تشريعية أسهمت معظمها في تدعيم سياسة الحوار المذهبي التي انتهجها مالك رحمه الله تعالى في أولى خطاه الاجتهادية([128]).
وما حدث حول حجية عمل أهل المدينة من نقاش معتبر وثري، وما قدمه فقهاء مالكية العراق في بيان حقيقته والاستدلال بالعمل به لشاهد على الموضوعية العالية التي تمتع بها فقهاء المالكية، فقد شاركوا بكل فعالية وإنصاف في بيان صحة الاحتجاج بهذا الأصل، وفندوا الحجة في صحة العمل الاجتهادي، وأنكروا وجود نقل عن مالك يفيد حجية هذا القسم عنده. قال القاضي عبد الوهاب: «وإجماع أهل المدينة من طريق الاستنباط والاجتهاد ليس بحجة عند كافة البغداديين، وهو الذي كان يقول به الشيخ أبو بكر الأبهري؛ لأن أهل المدينة وعلماءها بشر يخطئ ويصيب، والعصمة إنما تثبت لجميع الأمة دون بعضها، فلا يؤمن معه وقد وقع الخطأ في بعض ما اجتهدوا فيه»([129]).
لقد استبق القاضي رحمه الله تعالى المخالف في انتقاد ما يجب انتقاده من مذهبه، ولم يمنعه ذلك من التأكيد على وقوع الخطأ فيما طريقه الاجتهاد، وفي مضمار الإنصاف المطلوب في الحوارات الجادة والمثمرة والذي اتخذه فقهاء مالكية العراق مسلكًا لهم في مناظراتهم، ولما احتج على مالك في عمل أهل المدينة وإجماعهم بعمل أهل مكة وإجماعهم، لأنهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم كما شاهده أهل المدينة، فهل يجب اعتبار إجماعهم وعملهم؟.
قال القاضي ابن القصار في: (مقدمته الأصولية) «إن اتفق لهم ذلك كانوا هم وأهل المدينة سواء فيما نتلوه عنه صلى الله عليه وسلم»([130]).
وقد نالت مسألة إجماع أهل المدينة حظًا وافرًا، وانتزعت مساحة واسعة في مصنفات أصول مدرسة مالكية بغداد، فقد تناولها القاضي عبد الوهاب بأسلوب حواري مفعم بالأدب العالي، الذي أضفى على المناقشة روحًا من المسؤولية تنبئ عن تفقه تميز به القاضي في كل مداخلاته العلمية، فقد أجلى أسئلة المعارض على لسانه، ثم أجوبته العلمية الهادئة مع الأمانة في نقل أدلة المعارض دون شطط، حيث صدر بها المسألة، وقدمها على مذهبه مستعملًا ألفاظًا حوارية تليق بمقام المناظرة كقوله: «فإن قيل: فقد أجيب، وإن قال: قيل له، وقال: هذا غلط، والظاهر كذا...، مع توظيف لغة الاتباع بدل التقليد، والأمة الواحدة بدل الجماعة، والمعتقد يوجب العمل، وقول المخالف أظهر في النظر وأطرد في الاستدلال....» ([131])، مع ضرب الأمثلة باستمرار للوقوف بكل إنصاف على رأي المخالف بحيثياته وأوصافه.
فالرسالة صورة حية في أدب الجدال والمناظرة، ارتقى في موضوعها القاضي إلى مصاف المبدعين في لغة التحاور الفقهي والأصولي، وليس هذا بالأمر المستغرب منه، وقد قال في (ملخصه الأصولي): باب القول في صحة النظر: «اعلم أن النظر صحيح ومثمر للعلم بالمنظور فيه، ومفيد لحقيقته، إذا رتب على سننه، واستوفي على واجبه، وهو قول كافة أهل العلم...» ([132]).
والمقصود بقوله: (إذا رتب على سننه...) هو آدابه في الاختلاف، وذكر الآراء والمذاهب، وتعميم أسلوب التحاور في اكتساب المخالف دون قهر أو ظلم أو تعسف وخروج عن سنن التآلف وهدي السنة في التنوع والتعدد.
هذه مواضعات لا تكاد تخلو منها مصنفات الخلاف العالي في الفقه والأصول عند مالكية العراق بشكل عام، رسمها القاضي ابن نصر رحمه الله تعالى منهجًا في كتاباته، وأسلوبًا في مناقشاته ومحاوراته.
وفي كتابه (المقدمات في أصول الفقه) ساق القاضي من الألفاظ والمصطلحات ما يكفل لأن يصنف هذا المجتهد الحاذق ضمن دعاة الانفتاح، فقد ورد على لسانه من مفردات النظر ما لا يحصى، ومعاني الاعتبار، والتدبر، والتبين، والتفهم، وكذا الاستدلال، ونبذ التقليد، والعدول عن الانقياد إلى قول من لا يعلم...» لأن صحة المذهب لا تتبين من فساده باعتقاد المعتقد له، وشدة تمسكه به، وإنما يتميز صحيح المذاهب من فاسدها، وحقها من باطلها بالأدلة الكاشفة عن أحوالها، والمميزة بين أحكامها...) ([133]).
وفي هذا وغيره انحياز تام للقاضي للحق واتباعه، بغض النظر عن قائله ومذهبه ونبذ التقليد والتعصب حتى ولو كان ذلك للمذهب وإمامه، وهو عين التكامل والتكافل المذهبي، الذي يؤسس له القاضي في نظرة انفتاحية مبكرة على الرأي الآخر، واحتجاج القاضي دائمًا في هذا بما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج والاستدلال في مسائل الأحكام ومناظرة بعضهم لبعض، حتى اتهم - لكثرة تأكيده في درسه وكتاباته على هذه المعاني - أنه يدعو إلى ترك التمذهب بما هو عليه المذهب المالكي، قال رحمه الله: فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درس مذهب مالك بن أنس... قلنا هذا ظن منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك إلا إلى أمر قد عرفنا صحته، وعلمنا صوابه بالطريق التي قد بيناها...) ([134]).
هذه بعض مسالك هذه المدرسة في الاحتجاج لمذهب مالك ونصرة اختياراته والتي تقوم على النظر والتمرس على الحوار ومدارسة أصول وقواعد مذاهب الأئمة، ونبغوا في ترجيح أقوالهم منطلقين في ذلك من منهج نظري عقلي يعتمد على التحليل المنطقي للصور الفقهية والاستدلال الأصولي، متأثرين في ذلك بالبيئة الفقهية في العراق، والتي كان منهج أهل الرأي السائد فيها([135])، وهو ما يشار إليه عند المالكية المتأخرين بطريقة العراقيين ويمثلهم في ذلك تمثيلًا حسنًا ما أنجزه ابن القصار في (المقدمة الأصولية)، والتي كما أشرنا نالت حظًا وافرًا من امتداح الفقهاء لها أثناء المذاكرات والحوارات التي أنجزت في العراق بين مختلف المذاهب.
وكذا القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ) والذي يعتبر أحد أهم المنعطفات في تاريخ أصول الفقه بعد الإمام الشافعي، حيث أقحم هذا الفن في دائرة المناظرة والجدل بشكل أوسع، كما أدخل عليه الكلام ووسع من مساحة الحوار في مسائله وقواعده، وكتابه (التقريب والإرشاد) حافل بما لا يمكن الحديث عنه في غضون هذه الورقات، فكان ابن الباقلاني بحق شيخًا ينسب إليه فضل التطور الأصولي في القرنين الرابع والخامس الهجريين.
وقد اشتهر القاضي أبو بكر بمناظراته وحواراته الكثيرة التي دارت بينه وبين رؤساء الفرق والمذاهب في المجال الكلامي والفقهي والسياسي، وقد عقد القاضي عياض لذلك فصلًا استعرض فيه تفاصيل هذه المناظرات فانظرها([136]).
ومن هؤلاء النخبة الفقيه الناقد محمد بن خويز منداد([137]) (ت 390 هـ) صاحب الاختيارات المشهورة في المذهب، وأحد المجتهدين الحذاق الذين نبذوا التقليد، فقد وصفه في تعريفه: (بأنه رجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه الحجة... والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع) ([138]). وهي عبارات تنضح بالوعي الفقهي الذي كان يتمتع به هذا العلم، ولفرط التحرر الذي عرف به وكثرة الانفتاح على آراء ومذاهب العلماء من غير المالكيين، نسب رحمه الله تعالى إلى الشذوذ في اعتناق الاجتهادات الفقهية، قال ابن حجر: «وعنده شواذ عن مالك، واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب»([139])، لكن المتتبع لآرائه واختياراته يلحظ مدى قوة ترجيحاته المبررة بالدليل المقنع بغض النظر عن موافقتها أو مخالفتها لما استقر عليه المذهب([140])، ويكفيه فخرًا تتلمذه فقهيًا على شيخ مالكية العراق أبي بكر الأبهري وهو واحد من الذين شدت إليهم الرحال في طلب العلم من المشرق والمغرب.
عوامل انتشار الانفتاح ولغة التحاور عنه فقهاء مدرسة مالكية العراق
أولًا: العامل العلمي:
لقد بلغ ذروته في القرن الرابع الهجري، والذي عرف بالقرن الذهبي، حيث ضرب فيه العلماء والفقهاء بسهم كبير، فكانت لهم الحظوة عند أولي الأمر، فتسابق الفقهاء في الإبداع في مجالات مختلقة من علوم الشريعة وغيرها، وولع الخلفاء والأمراء بالعلم والثقافة، ففتحوا أبواب قصورهم للفقهاء، وأضحوا نصيرين لهم، وقربوهم ومكنوهم من وسائل البحث، وبعثوا فيهم روح المنافسة، وأقاموا بينهم المناظرات، فأصبحت بغداد تعج ثقافة ونموًا فكريًا لا نظير له، واستقبلت عاصمة الخلافة طلاب العلم ومنحتهم لجوءًا علميًا مكنهم من أن ينهلوا من مواردها المختلفة... ووفرت الأسباب، وأسست لذلك مراكز مختلفة وبعضها متخصصة من (بيت الحكمة)، و(دار العلم)، ومساجد بغداد العامرة، التي كانت لا تنقطع عن حلقات العلم المختلفة يديرها علماء من مختلف المذاهب([141]).
وقد عرفت الحركة العلمية تقدمًا متواصلًا واهتمامًا بالغًا في بغداد آنذاك حيث كانت من أكبر المراكز التي نشطت فيها التيارات العلمية والثقافية والسياسية، فعملت كل طائفة على عرض بضاعتها، واتخذت لذلك وسائل وأساليب كثيرة كان من أبرزها المناظرات والحوارات والمساجلات العلمية بين الفقهاء والمذاهب، وكان هذا النمو السريع الذي شكل وجهًا مشرقًا للفقه والتطور الاجتهادي من جراء المنافسة الشريفة، والاحتكاك الإيجابي، فقد كان ذلك عاملًا مهمًا في بروز أعلام كثيرين من مختلف المذاهب والتيارات أسسوا لعلم المناظرة وآداب الخلاف ووضعوا المناهج المتفوقة لذلك، وكان على رأس هؤلاء فقهاء بارزين أنجبتهم مدرسة مالكية بغداد، رصد معظمهم العلامة المؤرخ الحافظ الخطيب البغدادي([142]) (ت 463هـ) في كتابه الحافل (تاريخ بغداد)، حيث سجل طرفًا من هذه الأسماء اللامعة في عالم الفقه والأصول، وما أنجزته في مجال الاجتهاد، وما أضافوه لآداب المناظرة والمذاكرة من دعامة فاقت كل التصورات عند المهتمين بتاريخ العلوم وتطورها([143]).
ثانيًا: عامل التأثر بمدرسة المدينة
لقد كان للارتباط الوثيق الذي جمع فقهاء مالكية بغداد بمدرسة المدينة المنورة أثره الواضح في تكوين المسار الاجتهادي للمدرسة العراقية، وقد كان لفعل الرحلة إليها عاملًا مهما في هذا التكامل بأصحاب مالك حيث أخذوا عنهم أقوال مالك وفقهه ورواياته بكل ما كانت تحمله من أوصاف وآداب ونكت في الاجتهاد والتعليم والفتوى، وحتى في مجال السجال الحواري والمناظرات ذات الطابع الأصولي والفقهي، والتي دارت رحاها بين مالك وفقهاء المدينة وغيرهم من الوافدين إليها من كل أسقاع الأرض. فنقلوا هذه الثروة العلمية المدنية إلى بغداد، والتي أسسها مالك على هدى من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وأضفى عليها طابعًا حضاريًا وتربويًا ظهر جماله بشكل واضح في عرض مذهبه وتسويق آرائه، وبيان اجتهاداته. فكانت مناظراته وحواراته الفردية والجماعية، والتي تعددت أشكالها وتنوعت مضامينها مادة علمية جاهزة نسج على منوالها فقهاء بغداد بعد ذلك، منهجهم في نشر المذهب وتوسيع دائرة أنصاره في العراق، فكان أن خص أعلامه بتقلد المظالم والقضاء والفتيا والتدريس([144]).
ومن خلال هذا الاهتداء الفقهي الذي تطبع به فقهاء بغداد، ولد مسار جديد في التأليف عند مالكية العراق، يتمثل في الاحتجاج للمذهب، وحسن إدارة أدلته بالمناظرة والحوار البناء، كما تمثل ذلك في مناقشة المذاهب الأخرى خاصة المذهب الحنفي والشافعي، ومقارنة أقوالهم بأقوال مالك ونقد أدلتهم والرأي عليها([145]).
ثالثًا: عامل التكامل النقلي والعقلي في الاستدلال:
توظيف النقل والعقل في عملية الاستدلال لمسائل الفقه والأصول، منهج اعتمده فقهاء مالكية العراق بالأصالة في الاحتجاج للمذهب ودفع أدلة خصومهم ونقض أقوالهم بالنظر والجدال، ولعل التفقه العقلي هو السبيل الوحيد لفسح المجال أمام الرأي الآخر للإفصاح عن قناعته وعرض أدلته، وقد نبغ فقهاء المالكية في هذا الشأن، وقويت شوكتهم وحجتهم في الممارسة الاجتهادية، ودخلوا ميدان المناظرة مع المذاهب الأخرى فحصل لهم بذلك تفوق علمي في المناظرة والخلاف بشقيه الأدنى والأعلى، واستمعوا لغيرهم وجالسوا نظراءهم من الفقهاء والعلماء وأعني بهم الحنفية الذين ملكوا مسلك النظر العقلي وتوسعوا في لغته وأسسوا للقواعد والأصول ومقارنة الأقوال بعضها ببعض وترجيح بعضها على بعض([146]).
هذا المنهج الذي تفوقت فيه المدرسة البغدادية عن سائر المدارس الأخرى، والذي وطن للعمل الاجتهادي على أسس من النظر، وفتح المجال أمام لغة التحاور بلغ ذروته على أيدي طبقة من الأشياخ الذين تولوا زمام قيادة المذهب بعد ذلك كان على رأسهم قاضي القضاة إسماعيل بن إسحاق «وهو أول من بسط قول مالك واحتج له وأظهره بالعراق»([147]).
قال عياض: «وصنف في الاحتجاج له والشرح له ما سار لأهل هذا المذهب مثالًا يحتذونه وطريقًا يسلكونه»([148]).
وعلى نهجه نسج تلاميذه فألفوا في الخلاف الأصولي والفقهي، وتمرسوا في النظر والمناظرة، وتمكنوا من الحوار وآدابه في صد آراء المخالفين، وأسسوا بذلك» لعلم أصول الفقه المالكي «فألفوا فيه وانتصروا لمنازع اختياراتهم وردوا على مخالفيهم من المذاهب...» ([149]).
رابعًا: عامل التحضر
فإن للرقي الحضاري دوره الفعال في إرساء مبادئ الانفتاح وأسس وآداب الحوار بين كل طبقات المجتمع، ناهيك عن النخبة المثقفة التي تقوده، لقد وفر هذا العامل المهم كثيرًا من الفرص والمساحات لفقهاء مالكية بغداد، ولغيرهم من فقهاء المذاهب في تكوين العقل الموضوعي الواعي بضرورة الانفتاح والمشاركة في البناء العلمي القائم على المنافسة الشريفة في المجال الاجتهادي والاختيار الفقهي.
فالاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي، والاعتناء بالمجال الثقافي والعلمي الذي عرفته عاصمة الخلافة آنذاك فتق مساحات واسعة أمام التفكير العقلي السليم الذي يؤمن بمبدأ المقارنة والموازنة بين الآراء، ثم ليصدر بعد ذلك بثمأنها القرار المناسب([150])، وهي صيغة موضوعية لعلاج فعال للاختلاف بين وجهات النظر.
فالمتحضر هو من يملك القدرة على كسب المزيد من الثقة بطرق الحوار والمناقشة المفعمة بالحجج المقنعة، وبالاعتدال والإنصاف لآراء المحاور، فهو بهذا التصرف يعبر عن استقرار علمي واجتماعي، وحياة اقتصادية ماتعة وفرت له كل أسباب التفكير السليم القائم على روح التعاون والتبادل في مجالات الحياة كلها. «حيث إن خلفاء بني العباس لم يألوا جهدًا في إمتاع دولتهم بالسعادة والرخاء... عاملين بما أوتوا من إمكانات على تثقيف الأذهان فبلغ العرب في عهدهم درجة رفيعة من الحضارة، فحاولوا.... أن يفوقوا الروم في التجارة والصناعة والفنون والآداب والعلوم...» ([151]).
ولعل أسرة بني حماد التي استوطنت البصرة وملكت ما يربو من ست مئة بستان، كانت في سعة كبيرة من الرزق والغنى أنجبت لنا نخبة من العلماء عكفوا على دراسة المذهب تعلمًا وتعليمًا ونشرًا وتأليفًا، فحصل لهم بسبب هذا التفوق الدنيوي والديني هيبة وقربة لدى السلطان والناس، فمكنوا من مناصب القضاء والفتيا([152]) وأعانهم ذلك على الاحتكاك الشديد والتغلغل الإيجابي في أوساط عامة الناس وخاصتهم، فكونوا بذلك في بيئة حضارية مع مخالفيهم من المذاهب الأخرى ببغداد مزاجًا عامًا يمثل نقطة التعادل والتبادل، وهي الخلاصة المركزة لكل أوجه التشابه والتخالف بين أفراد تلك البيئة([153]). قال الفرغاني: «لا نعلم أحدًا بلغ ما بلغ آل حماد بن زيد، ولم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة من اتخاذ المنازل والضياع والكسوة والآلة، ونفاذ الأمر في جميع الأقطار ... وكان فيهم على اتساع الدنيا رجال صدق وخير وأبهة وورع وعلم وفضل، فانظر رحمك الله كيف كانت بيوت العلم في الإسلام»([154]).
إن ما سجلناه من ملامح لمظاهر الحوار الفقهي والمذهبي عند فقهاء مدرسة مالكية العراق يعتبر في حقيقته امتدادًا طبيعيًا للمنهج الاجتهادي الذي أسس عليه المذهب، فمن خلاله برهن فقهاء العراق على سعة دائرة تفكيره في بناء العمل الفقهي على نمط الحوار والانفتاح، الذي شيد عليه مالك رحمه الله تعالى آراءه واجتهاداته الأولى والله تعالى أعلى وأعلم.
أ. د. رضوان بن غربية
أستاذ بكلية العلوم الإسلامية جامعة الجزائر
التاريخ: 8 جمادى الثانية 1423هـ الموافق لـ16 أوت 2002
ثبت المصادر والمراجع:
1- أحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد الباجي (ت 474هـ)، ت عبد المجيد تركي، ط/1، دار المغرب، بيروت 1407هـ/1986م.
2- أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض - أحمد بن محمد المقري (ت 1041هـ)، ت: عبد السلام هراس، سعيد أعراب، صندوق إحياء التراث الإسلامي، 1400هـ/1980م
3- أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، محمد الفاضل بن عاشور، تونس مكتبة النجاح.
4 - الأنساب، عبد الكريم السمعاني (ت 562هـ)، ت: عبد الرحمن المعلمي، ط/2، نشر محمد أمين دمج، بيروت 1400هـ 1980م.
5- ابن خويز منداد وآراؤه الأصولية، د. ناصر قارة، دكتوراه كلية العلوم الإسلامية، جامعة الجزائر.
6- الإجماع للقاضي عبد الوهاب بن نصر (ت 422هـ) مطبوع ضمن المقدمة الأصولية.
7- إرشاد السالك إلى مناقب مالك، يوسف بن حسن بن عبد الهادي (ت 909هـ)، مخطوط مكتبة الأسد دمشق.
8- الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب، ت: الحبيب بن طاهر، ط/1، 1420/1999م، دار ابن حزم بيروت.
9- إصطلاح المذهب عند المالكية - د. محمد إبراهيم علي - مطبوع على الآلة الراقنة.
10 - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ابن قيم الجوزية (751هـ)، ت: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل بيروت.
11 - الانتقاء في فضائل الأئمة، أبو عمر بن عبد البر (ت 463هـ)، ت: عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، دار البشائر الإسلامية بيروت 1417هـ/1998م.
12- البحر المحيط، بدر الدين الزركشي (ت 794هـ)، ت: عمر سليمان الأشقر، ط/2، وزارة الأوقاف الكويتية 1415هـ/1992م.
13 - البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774هـ)، القاهرة 1351/1358م.
14 - برنامج المجاري، أبو عبد الله المجاري الأندلسي (ت 862هـ)، ت: أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط/1، 1982م.
15 - تاج التراجم، قاسم بن قطلوبغا (ت 879هـ)، بغداد 1962م.
16 - تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393هـ)، ت: أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة 1956م.
17 - تاريخ الإسلام، شمس الدين الذهبي (ت 748هـ)، ت: عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي بيروت، ط/2، 1414هـ/1993م.
18 - تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463هـ)، القاهرة 1931م.
19- تاريخ علماء الأندلس، أبو الوليد ابن الفرضي، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والنشر 1966م.
20- ترتيب المدارك، عياض بن موسى اليحصبي (ت 544هـ)، ت: أحمد باكير محمود - مكتبة الحياة، بيروت، وكذلك ط وزارة الأوقاف المغربية، ت: مجموعة من العلماء.
21- تسهيل دراية الموطأ، صدر به كتاب المسوى، ولي الله الدهلوي، الحجاز مكة المكرمة، المطبعة السلفية 1351هـ.
22- التفريع، لابن الجلاب (ت 378هـ)، ت: حسين الدهمان، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط/1، 1408هـ/1987م.
23 - جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر ابن عبد البر (ت 463هـ)، ت: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، ط/2، 1416هـ/1996م.
24- الجامع الصحيح «سنن الترمذي» محمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ): أحمد شاكر وجماعته، القاهرة 1928هـ/1962م.
25 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، محمد بن فتوح الحميدي (ت 488هـ)، القاهرة 1956م.
26- الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327هـ).
27 - الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، عبد القادر القرشي (ت 775هـ)، ت: عبد الفتاح الحلو، القاهرة.
28 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهانى (ت 430هـ)، القاهرة.
29- دراسات في مصادر الفقه المالكي، ميكلوش موراني، دار الغرب الإسلامي.
30- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، ابن فرحرن (ت 799هـ)، ت: محمد الأحمدي أبو النور، القاهرة 1351هـ.
31 - الذب عن مذهب مالك، لابن أبي زيد القيرواني مخطوط شستربتي، دبلن إرلندا رقم 100.
32 - الذخيرة، شهاب الدين القرافي، ت: محمد حجي، ط/1 دار الغرب الإسلامي بيروت 1994م.
33- الرد على من أخلد إلى الأرض، السيوطي (ت 911هـ)، ت: فؤاد عبد المنعم أحمد، ط/1 مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية، مصر 1984م.
34- رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وافريقيا، عبد الله بن محمد المالكي (ت 453هـ)، القاهرة 1951م.
35 - السنن، سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني (ت 275هـ)، ت: عزت عبيد الدعاس حمص 1969/1970م.
36- السنن الكبرى، البيهقي (ت 458هـ)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية الهند 1352هـ.
37- السنن لابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275هـ)، ت:معمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية بيروت.
38- سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، أحمد بن عثمان (ت 748هـ)، ت: مجموعة من الأساتذة، مؤسسة الرسالة، ط الأولى، 1409هـ - 1988م.
39 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد مخلوف (ت 1360هـ)، القاهرة 1349هـ.
40 - شرح التلقين، لأبي عبد الله المازري (ت 536هـ)، ت: الشيخ محمد المختار السلامي، ط/1 دار الغرب الإسلامي بيروت 1979م.
41- شرح الموطأ، محمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت1122هـ)، صححه جماعة من العلماء، دار الفكر للطباعة والنشر 1401/1981م.
43- صفة الصفوة، عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597هـ)، ت: فاخوري والقلعجي، بيروت 1979م.
44- الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، ابن بشكوال، (ت 578هـ)، القاهرة 1966م.
45- طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي (ت 717هـ)، ت: الحلو، الطناحي، القاهرة 1964/1976م.
46- طبقات الفقهاء، إبراهيم بن علي، أبو إسحاق الشيرازي (ت 476هـ)، ت: إحسان عباس، ط/2، بيروت 1981م.
47- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد (ت 236هـ)، دار الصادر بيروت.
48- عنوان الدراية لمن عرف من العلماء في المئة السابعة ببجاية، الغبريني، ت: محمد بن أبي شنب ط/الثعالبية الجزائر 1910م.
49- عيون المجالس، اختصار عيون الأدلة، القاضي عبد الوهاب بن نصر (ت 422هـ)، رسالة ماجستير، ت: سمية بوسرية، كلية العلوم الإسلامية، جامعة الجزائر.
50- الغنية، للقاضي عياض، ت: ماهر زهير جرار، ط/1 دار الغرب الإسلامي 1402هـ/1982م.
51- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، السلفية 1390هـ.
52- فصول في التفكير الموضوعي، د. عبد الكريم بكار، دار القلم دمشق، ط/1، 1420هـ/1999م.
53- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (ت 1376هـ)، ت/القاري ط/1، المكتبة العلمية المدينة المنورة.
54- فهرس ابن عطية، ت: محمد أبو الأجفان، محمد الزاهي، ط/2 دار الغرب الإسلامي بيروت 1983م.
55- لسان الميزان، أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ).
56- المذهب المالكي مدارسه ومؤلفاته، خصائصه وسماته، محمد المختار المامي، رسالة دكتوراه مطبوعة على الآلة الراقنة جامعة محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
57- المستدرك، محمد بن عبد الله الحاكم (ت 405هـ)، حيدر أباد الهند 1341هـ.
58- المسند، أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ)، الميمنية مصر 1313هـ.
59- المسوى، شرح الموطأ، ولي الله الدهلوي، الحجاز، مكة مطبعة السلفية 1351هـ.
60- مشاهير علماء الأمصار، محمد بن حبان البستي، عني بتصحيحه فلا يشهمر، القاهرة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1379هـ/1959م.
61- معالم الإيمان، في معرفة أهل القيروان، عبد الرحمن بن محمد الدباغ (ت 699هـ)، الخانجي 1970م.
62- المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين، دار أمواج بيروت، ط/2 1407هـ/1987م.
63- المعونة، على مذهب عالم المدينة، القاضي عبد الوهاب، ت: د. عبد الحق حميش، دار الفكر.
64 - المقدمة الأصولية، أبو الحسن بن القصار، ت: محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي، ط/1، 1996م.
65- المقدمات في أصول الفقه، القاضي عبد الوهاب، مطبوع ضمن مقدمة ابن القصار.
66- مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. عبد الكريم بكار، دار القلم دمشق، ط/1، 1420هـ/1999م.
67 - الملخص (التلخيص في أصول الفقهه)، القاضي عبد الوهاب، مطبوع ضمن المقدمة الأصولية لابن القصار.
68- المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (ت 474هـ)، دار الكتاب العربي بيروت) 1332هـ.
69- منهجية الخلاف والنقد الفقهي عند الإمام المازري، رسالة دكتوراه، دار الحديث الحسنية المغرب.
70- الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفهدي، تصدرها جمعية المستشرقين الألمانية، بيروت 1962/1983م.
71- وفيات الأعيان،: أحمد بن محمد بن خلكان (ت 681هـ)، بيروت 1978م.
72- ومضات فكر، محمد الفاضل ابن عاشور، الدار العربية للكتاب 1981م، ليبيا تونس.
([1]) الكهف الآية: 37.
([2]) المجادلة الآية: 1، وانظر المعجم الوسيط 1/105.
([3]) الصحاح للجوهري 2/640.
([4]) تاريخ الذهبي 11/217.
([5]) فصول في التفكير الموضوعي «عبد الكريم بكار» ص215.
([6]) نفس المصدر ص 227.
([7]) انظر: ترجمته في التكملة لابن الأبار 2/553، الوافي بالوفيات 2/114.
([8]) انظر: ترجمته في الصلة 2/591، وفيات الأعيان 4/296، الوافي 3/330.
([9]) انظر: ترجمته في ترتيب المدارك 4/808، الصلة 2/657، وفيات الأعيان 7/66.
([10]) المذهب المالكي مدارسه ومؤلفاته، خصائصه وسماته، رسالة دكتوراه: محمد المختار محمد المامي ص178.
([11]) انظر: ترتيب المدارك 1/144، 152 سير الذهبي 8/77.
([12]) السير للذهبي 8/77.
([13]) فصول في التفكير الموضوعي ص215، 216.
([14]) المؤمنون: 53.
([15]) الأنعام: 153.
([16]) انظر: ترجمته في (ترتيب المدارك 4/602، شجرة النور 1/92).
([17]) انظر: المقدمة الأصولية ص3.
([18]) انظر: ترجمته في (طبقات ابن سعد 7/517، مشاهير علماء الأمصار ص191، السير للذهبي 8/136).
([19]) انظر: ترتيب المدارك 1/64، 65.
([20]) انظر: نفس المصدر 1/64/65.
([21]) ترتيب المدارك 1/65، وانظر: الرد الكامل لليث في إعلام الموقعين 3/83 وبعدها.
([22]) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7/293، تاريخ بغداد 14/135.
([23]) انظر ترتيب المدارك 2/73، شرح الزرقاني على الموطأ 1/7.
([24]) مقدمة ابن القصار ص214.
([25]) ترجمته في ترتيب المدارك 4/128 ص60، السير للذهبي 8/535.
([26]) ترجمته في المدارك 2/465، الديباج 1/305.
([27]) انظر: منهجية الخلاف والنقد الفقهي عند الإمام المازري رسالة دكتوراه، دار الحديث الحسنية – المغرب ص18.
([28]) انظر: اصطلاح المذهب عند المالكية، دور النشوء، تأليف الدكتور محمد إبراهيم علي ص52- 53.
([29]) انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 6/378، تاج التراجم ص 60، سير الذهبي 8/535.
([30]) انظر: الفكر السامي 1/434- 435.
([31]) انظر: ترجمته في السير للذهبي 9/134، وفيات الأعيان 4/184.
([32]) الفكر السامي 435.
([33]) انظر: ترجمته في طبقات بن سعد 7/297، سير الذهبي 9/192.
([34]) تاريخ الذهبي 11/330، حلية الأولياء 6/323، صفة الصفوة 2/179.
([35]) فصول في التفكير الموضوعي ص50.
([36]) الانتقاء لابن عبد البر ص80.
([37]) ترجمته في الجرح والتعدييل 7/262 سير الذهبي 10/664.
([38]) انظر: الانتقاء ص80/81.
([39]) أخرجه أحمد 2/299 والترمذي رقم (2682)، والحاكم في المستدرك 1/91، والبيهقي 1/361، كلهم من حديث سفيان بن عيينة ورجاله ثقات، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
([40]) انظر: تخريج الحديث في هامش رقم 2.
([41]) انظر: ترجمته في طبقات ابن سعد 5/497، سير الذهبي 8/454.
([42]) الانتقاء ص 52، فصول في التفكير الموضوعي ص131.
([43]) انظر: ترجمته في طبقات ابن سعد 7/518، ترتيب المدارك 2/421.
([44]) أخرجه أبو داود في باب غسل الرجلين من كتاب الطهارة 1/32، وابن ماجه، باب تخليل الأصابع من كتاب الطهارة 1/152، والترمذي في باب تخليل الأصابع من أبواب الطهارة رقم 40، 1/57.
([45])
([46]) الجرح والتعديل 1/30.
([47])ترتيب المدارك 1/207- 208.
([48]) سير الذهبي 8/93.
([49]) فصول في التفكير الموضوعي 173.
([50]) تسهيل دراية الموطأ للدهلوي ص23.
([51]) المسوى شرح الموطأ 1/63. وانظر كذلك اصطلاح المذهب عند المالكية، دور النشوء ص100.
([52]) انظر: ترجمته في تاريخ بغداد 2/56، سير الذهبي 10/5.
([53]) وكذا قوله: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» اشتهر هذا كله عن الشافعي وتناقله العلماء عنه.
([54]) فصول في التفكير الموضوعي ص215.
([55]) الانتقاء ص122- 123.
([56]) الانتقاء 138.
([57]) انظر مقدمات للنهوض بالعمل الدعوى ص61- 62.
([58]) ترجمته في تاريخ علماء الأندلس 1/249، ترتيب المدارك 4/642.
([59]) انظر: ترجمته في جذوة المقتبس 388، ترتيب المدارك 4/702.
([60]) ترجمته في تاريخ بغداد 1/352، السير للذهبي 17/223.
([61]) انظر: ترتيب المدارك 1/15، مقدمة محقق التفريع 1/98- 99.
([62]) ترجمته في: ترتيب المدارك 6/145، شجرة النور 87- 88.
([63]) انظر: مقدمة محقق الإشراف 1/57- 58.
([64]) ترتيب المدارك 4/616، وفيات الأعيان 3/320.
([65]) المدارك 2/586- 587.
([66]) ترجمته في ترتيب المدارك 8/117، شجرة النور 120.
([67]) انظر: أعلام الفكر الإسلامي ص52، مقدمة محقق الإشراف 1/75,
([68]) انظر: لمعرفة تفاصيل هذه الإجازات فهرس ابن عطية ص110، الغنية ص 199، عنوان الدراية ص316، برنامج المجاري ص103، وكذا مقدمة محقق الإشراف 1/76- 77.
([69]) المذهب المالكي مدارسه ومؤلفاته ص77.
([70]) ترجمته في الوافي بالوفيات 10/217، سير الذهبي 15/537.
([71]) انظر: الذب عن مذهب مالك لابن أبي زيد، مخطوط، شيستربيتي رقم 100، ص13، وانظر: منهجية الخلاف والنقد الفقهي عند المازري ص13.
([72]) انظر: شرح التلقين 465.
([73]) انظر: ومضات فكر 2/66- 67.
([74])ترتيب المدارك 6/186.
([75])ترتيب المدارك6/186.
([76]) ترتيب المدارك 3/246، اصطلاح المذهب، دور التطور ص10.
([77]) المدارك 1/15.
([78]) ترجمته في المدارك 4/492، الديباج المذهب 1/427.
([79]) انظر: مقدمة محقق التفريع 1/100.
([80]) انظر: معالم الإيمان 3/137.
([81]) انظر: مقدمة محقق الإشراف 1/65.
([82]) الانتقاء لابن عبد البر 56- 57.
([83]) الانتقاء ص 57- 58.
([84]) المقدمة الأصولية لابن القصار ص159، إحكام الفصول 492.
([85]) البحر المحيط 4/535.
([86]) انظر: ترجمته في ترتيب المدارك 3/30- 32، شجرة النور ص57.
([87])ترجمته في ترتيب المدارك 3/210.
([88]) ترجمته في ترتيب المدارك 3/360.
([89]) تنسب هذه الأسرة لحماد بن زيد، وانظر ترجمته في ترتيب المدارك 4/15.
([90]) انظر: ترتيب المدارك 4/276.
([91]) ترجمته في تاريخ بغداد 6/284، الديباج 1/282.
([92]) الديباج 1/287.
([93]) ترجمته في تاريخ بغداد 3/401- 402، سير الذهبي 14/555.
([94]) المدارك 5/10- 12، وابن المعتز هو عبد الله بن المعتز أحد خلفاء بني العباس تولى الخلافة يومًا وليلة فقتل سنة 296هـ، تاريخ بغداد 10/95.
([95]) المذهب المالكي مدارسه ومؤلفاته ص48.
([96]) ترجمته في تاريخ بغداد 12/34، سير الذهبي 16/449.
([97]) سورة الممتحنة الآية: 8.
([98]) المدارك 2/74.
([99]) ترجمته في طبقات ابن السبكي 3/21، سير الذهبي 14/201.
([100]) المدارك 2/187.
([101]) هو أحمد بن علي المعروف بالجصاص، انتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي، له أحكام القرآن وغيره، (ت 370هـ)، انظر الجواهر للقرشي 1/84، البداية والنهاية 11/256.
([102]) المدارك 6/188.
([103]) مقدمة محقق التفريع 1/90- 91.
([104]) انظر: المقدمة الأصولية لابن القصار ص113.
([105]) جامع بيان العلم وفضله 2/82.
([106]) انظر: المنتقى على سبيل المثال 1/24، 136، 263 وغيرها كثير.
([107]) انظر: دراسات في مصادر الفقه المالكي، ميكلوش ص191- 192.
([108]) انظر: مقدمة محقق الأشراف 1/32، ومقدمة محقق التفريع 1/93.
([109]) انظر: ترتيب المدارك 6/185.
([110]) انظر: الفكر السامي للحجوي 2/18.
([111]) ترتيب المدارك 1/586- 587.
([112]) ترجمته في الدياج 2/185، شجرة النور 78.
([113]) المقدمة الأصولية 36.
([114]) المقدمة لابن القصار ص26.
([115]) ترجمته في طبقات الشيرازي 103، تاريخ بغداد 4/368، سير الذهبي 17/193.
([116]) ترتيب المدارك 7/71.
([117]) ترجمته في الأنساب 9/361، سير الذهبي 18/452.
([118]) طبقات الفقهاء ص 168.
([119]) انظر: هذه المسائل وأكثر في مقدمة محقق عيون المجالس اختصار عيون الأدلة للقاضي عبد الوهاب 1/96- 97.
([120]) الديباج 2/26.
([121]) طبقات الفقهاء ص168، المدارك 2/692، سير الذهبي 17/431.
([122]) مقدمة محقق الإشراف 1/69.
([123]) ترجمته في وفيات الأعيان 3/325، سير الذهبي 18/184.
([124]) ترجمته في وفيات الأعيان 4/285، الديباج 2/250.
([125]) انظر: قوله في وجوب الاجتهاد والترجيح بمقتضى الدليل المعونة 3/1747، وانظر مقدمة محقق عيون المجالس 1/70.
([126]) صدر كتاب الصلاة منه في ثلاثة مجلدات بتحقيق المختار السلامي عن دار الغرب 1997، وحقق قسمًا منه زكي عبد الرحيم بخاري، وجمال عزون بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
([127]) انظر: مقدمة الذخيرة للمؤلف 1/36.
([128])ومن أبرز هذه المناهج الحوارية «مراعاة الخلاف، والاستحسان، والحكم بأقل ما قيل، واعتبار العادة والعرف، والقضاء بما جرى به العمل وغيرها».
([129])مسائل في أصول الفقه من كتاب المعونة للقاضي عبد الوهاب ص 224- 245 والملخص له. انظر
المقدمة الأصولية ص 254.
([130]) المقدمة الأصولية ص79.
([131]) الإجماع للقاضي عبد الوهاب عن مقدمة ابن القصار ص259- 296.
([132]) انظر: فصول مختارة في أصول الفقه مع المقدمة الأصولية ص291.
([133]) المقدمات في أصول الفقه مع المقدمة لابن القصار ص300- 302.
([134]) الرد على من أخلد إلى الأرض ص107- 110.
([135]) انظر: أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 3/22.
([136]) ترتيب المدارك 2/589 وبعدها.
([137]) انظر: ترجمته في ترتيب المدارك 2/626، الديابج 2/229.
([138]) انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض ص 106، إعلام الموقعين 2/178.
([139]) لسان الميزان 5/291.
([140]) انظر: هذه الاختيارات ضمن رسالة دكتوراه للأخ الدكتور ناصر قارة وعنوانها «ابن خويز منداد وآراؤه الأصولية»، جامعة الجزائر.
([141]) انظر: مقدمة محقق التفريع 1/50.
([142]) انظر: ترجمته في طبقات الشافعية 3/12، سير أعلام النبلاء 11/413.
([143]) انظر: مقدمة محقق الإشراف 1/15- 16.
([144]) انظر: ترتيب المدارك 4/274.
([145]) انظر: مقدمة محقق الإشراف 1/28- 30- 31.
([146]) نفس المصدر 1/32، 36.
([147]) ترتيب المدارك 4/280، 281.
([148]) نفس المصدر والجزء والصفحة.
([149]) مقدمة محقق الإشراف 1/35.
([150]) فصول في التفكير الموضوعي ص 275.
([151]) عن مقدمة محقق التفريع 1/43.
([152]) الفكر السامي 2/103، مقدمة محقق التفريع 1/91، ترتيب المدارك 2/166.
([153]) فصول في التفكير الموضوعي 267.
([154]) المدارك 2/167، الفكر السامي 2/104.