الإصلاح: الأصول الشرعية والمنطلقات العملية
معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
يقتضى المقام أن أحذف الألف واللام من الكلمات الأربع ليصبح العنوان الإصلاح: أصول شرعية ومنطلقات عملية .
و السبب أن الألف واللام في الكلمات الأربع تقتضي الاستغراق والعموم الأمر الذي لا يتسع له مجال علم المتكلم فضلا عن المجال الزمني لهذه الكلمة .
وجذر (ص ل ح) ومشتقاته تكرر في القرآن الكريم مائة وثمانين مرة من بينها أربعين مرة ورد بلفظ ( الإصلاح ) ومشتقاته .
تكرر جذر ( ف س د) خمسين مرة .
وقد لا يكون من السهل إيراد تعريف جامع مانع (للإصلاح ) ولكن باستهداء الآيات الكريمة يمكن أن نقدم تعريفاً للإصلاح بأنه ( حمل الإنسان نفسه أو غيره على الانتفاع الأمثل بالإمكانيات المتاحة بهدف تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة .
****
وعند صياغة المنظمين للندوة عنوان هذه الكلمة كان واضحاً في أذهانهم ولا شك الارتباط القوي بين الإصلاح والدين ، وبخاصة في المجتمعات الإسلامية وبخاصة في المجتمع السعودي حيث تتميز المملكة العربية السعودية بأن كل المواطنين السعوديين فيها والمقيمين معهم أقامة دائمة كلهم بدون استثناء مسلمون يؤمنون بأن الإسلام منهج شامل للحياة له السلطة العليا والمطلقة على تنظيم حياتهم في شتى مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
وفي تاريخ البشرية يظهر الارتباط بين الدين والإصلاح في مظهرين : أن يكون الدين أداة للإصلاح وأن يكون موضوعاً للإصلاح .
وحيث يظهر الارتباط المشار إلية في كون الدين موضوعاً للإصلاح نواجه فارقا ظاهراً ومميزا بين الإسلام والأديان الأخرى .
فيما يتعلق بالأديان غير الإسلام نلاحظ أنها تتميز بالمرونة والقابلية للتغيير والتطوير ولذا نرى الحركات الإصلاحية في هذه الأديان تتجه دائماً إلى التعديل والتغيير في فلسفتها أو مكوناتها بهدف أن تكون الأفكار الدينية ملائمة للظروف الآنية التي يعيشها الإنسان .
وقد مكن لهذا الأمر السمات المشتركة تقريباً بين الأديان غير الإسلام .
ومن هذه السمات أن شخصيات مؤسسي الأديان الأخرى أو أنبيائها – بما فيها الأديان ذات الأصل السماوي – شخصيات إيمان وليست شخصيات تاريخ بمعني إنها تفتقد التوثيق التاريخي الكافي لإقناع أتباعها عقليا بأن تلك الشخصيات وجدت فعلاً .
والسمة الثانية أن مصادر هذه الأديان أو كتبها المقدسة تفتقد التوثيق التاريخي الذي يصل إسناد هذه المصادر إلى نبيها أو مؤسسها بصورة كافية للاقتناع العقلي بأنها كلام النبي ، الأمر الذي يسمح بالاقتناع الإيماني بأن المصدر كلمة الله .
والسمة الثالثة أن هذه المصادر وقد تسربت إليها الأفكار البشرية بما تحمل من تصورات وهمية، ومعلومات كانت سائدة في وقت معين وتغيرت مع الزمن كل هذا يؤثر سلبيا على الاقتناع الإيماني بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس .
والسمة الرابعة قصور هذه المصادر عن مواجهة كل جوانب الحياة ، أو اختلال التوازن في معالجتها لجوانب الحياة ، بمعني أنها تفتقد الشمول والتكامل وكلا الآمرين يوجد المقتضى لتطوير الدين أو تعديل مساره .
أما الإسلام فتغيب فيه كل السمات المشار إليها .
فالمسلم ليس لديه فقط الاقتناع بأن نبيه شخصية تاريخية بل أنه وبقدر ما لديه من تعليم يعلم تفاصيل حياة نبيه حتى أنه قد يعلم بالتوثيق التاريخي الكافي عن التفاصيل الدقيقة للحياة العامة لنبيه أكثر مما يعرف عن جاره ، ويعلم عن التفاصيل الدقيقة للحياة الخاصة للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه وأمه .
ومصدر الإسلام القرآن توجد منه فقط صيغه واحدة ، ولا تختلف نسخة القرآن الموجودة اليوم في المغرب أو الصين ( أو أي مكان في الأرض) عن النسخة التي كتبت (وفق أدق احتياطات التوثيق) بعد خمسة عشر عاماً من انتهاء الوحي .
في خلال أربعة عشر قرناً مضت لم يكتشف في القرآن أي اختلاف أو مناقضة للواقع أو الحقائق العلمية .
والإسلام نظم جميع جوانب الحياة وتميز تنظيمه لهذه الجوانب بالتكامل والتناسق، أو كما يعبر المستشرق النمسوى المهتدي محمد أسد: “الإسلام بناء تام الصنعة وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضا ويشد بعضها بعضا فليس هناك شيء لاحاجة إليه وليس هناك نقص في شيء فنتج من ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص .ولعل الشعور بأن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت في مواضعها هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي” .
إن اليهودي لا يفقد يهوديته والنصراني لا يفقد نصرانيته إن تشكك في أن موسى أو عيسي وجدا فعلا أو تشكك في صحة إسناد الكتب المقدسة لمؤسس الدين – بحسب تعبيرهم- أو تشكك في صحة بعض محتويات الكتب المقدسة أو أن التفكير البشري تسرب إليها أو اقتنع بعدم كفايتها لتنظيم الحياة .
أما المسلم فإنه لا يبقي مسلما إن شك في وجود النبي صلى الله عليه وسلم أو موثوقية القرآن أو صحته ، أو شك في أن علاج الإسلام لجوانب الحياة علاج كاف لا يحتاج إلى تعديل أو تبديل .
إن قابلية الأديان الأخرى للتطوير والتغيير بملاحظة السمات المشار إليها أعلاه أوجبت أن يكون اتجاه المصلحين والمجددين فيها إلى تعديل مسار الأفكار الدينية لكي تتلاءم مع الظروف المتغيرة ولكي تستجيب لتطور الفكر البشري وتصورات الإنسان المتغيرة عن المجتمع الصالح .
وبالعكس فإن عدم قابلية الإسلام ذاته للتغير بالتعديل أو الإضافة أو الحذف أوجبت دائما أن يكون اتجاه المصلحين والمجددين في الإسلام أن يعودوا به إلى صورته الأولي النقية وأن يزيلوا ما علق به من تشويه أو تحريف .
فالإسلام ذاته ليس موضوعاً للإصلاح وإنما يكون به الإصلاح قال تعالى [اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ] (3) سورة المائدة
وهذا ما دعا منظمي الندوة إلى الاهتمام بالأصول الشرعية للإصلاح باعتبار أن رعاية هذه الأصول هي المطلب الأساسي لأي عمل إصلاحي منتج وصحيح يوجه للمجتمع المسلم .
أصول شرعية للإصلاح :
إننا حينما نتحدث عن الأصول الشرعية للإصلاح لا يمكن إغفال أربعة أمور أساسية تضمنتها سورة من قصار السور في القرآن [ والعصر إن الإنسان لفي خسر إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] سورة العصر .
أول هذه الأساسيات الإيمان ومن ضمن ذلك وعى من يتصدى للإصلاح بحقيقة الإسلام وطبيعته والفوارق التي تميزه عن الأديان والثقافات الأخرى ومن ذلك ما أشير إليه سابقاً .
ثانيها تطابق عمل المصلح ودعوته مع مبادئ الإسلام وتصوراته وحرص المصلح على تخليص عمله الإصلاحي من كل شائبة لا تتفق مع الإسلام .
ثالثا- تعاون المصلح مع غيره من المصلحين ومن باب أولي تفادى أي تعويق لأي عمل أصلاحي آخر بالقول أو الفعل .
وفيما يتعلق بهذا الأمر فلا شك أن الناس يختلفون في اهتماماتهم ومواهبهم وقدراتهم فيجب أخذ هذا الأمر في الاعتبار .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الرجل عن أفضل الأعمال فيجيبه الصلاة لوقتها ويسأله آخر فيجيبه بر الوالدين ويسأله ثالث فيجيبه الجهاد في سبيل الله ، ويصف أبا ذر الغفاري رضي الله عنه بأنه أصدق الناس لهجة ثم يقول له : يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً فلا تأمرن على اثنين فإذا أهتم الرجل بالإصلاح في مجال نشر العلم الشرعي وأهتم آخر به في مجال التزكية وأهتم ثالث به في مجال الاقتصاد وأهتم رابع به في مجال السياسة فإذا لم يسهل التعاون بينهم في هذه المجالات فلا يجوز بأي حال أن تتقاطع دعوات المصلحين وأن يكون عمل أحدهم معوقاً بالفعل أو القول لعمل الآخر .
والملاحظ أن الغفلة عن هذا الأمر هي من أكثر المعوقات للحركات الإصلاحية شيوعا ومصدرها في الغالب المبالغة في التركيز على مجال معين مع الغفله عن أهمية المجالات الأخرى ، كما قد يكون مصدرها المبالغة في رؤية العمل والعجب والتعصب والغلو في اعتبار الذات .
رابعها – المثابرة والمصابرة والثبات على الأمر ومقاومة المعوقات ،
فكثيرا ما يجهض الحركات الإصلاحية فتور العزم وكلل الإرادة واستطالة الطريق .
المنطلقات العملية :
وبعد فإذا كانت الأصول السابقة قواعد عامة تنطبق في كل زمان ومكان وفي مختلف الظروف والبيئات فإن الأمر يختلف عند الحديث عن المنطلقات العملية ، إذ أن منطلقات الإصلاح من حيث العمل هي أقرب إلى الخصوص من العموم فهي دائما متغيرة وفق تغير البيئة التي تعمل فيها ، سواء بالنظر للزمان أو المكان أو المجتمع ، أو أولويات احتياجات الناس .
فعند الكلام عن المنطلقات العملية فلابد من أن يقصر الكلام عن المنطلقات في بيئة معينة وفيما يتعلق بهدف معين للإصلاح .
ولهذا سوف لن يتجاوز الكلام عن المنطلقات العملية للإصلاح المجتمع السعودي كما لن يتجاوز هدف اجتياز حاجز التخلف .
وقد يكون الأجدى التركيز على ثلاثة مجالات الإدارة ، التعليم ، والاقتصاد . باعتبار إن هذه المجالات حلقات متشابكة لا يمكن فصل احدها عن الآخر ولا يمكن تحقيق تقدم للمجتمع إلا بتساوقها في حركة الإصلاح .
وتجربة المتحدث الحياتية تهديه إلى أن أول منطلق للإصلاح في مجال الإدارة هو مقاومة الغلو في إصدار القواعد التنظيمية ، إن محاضرة كاملة لا تكفي للإيضاح عن سلبيات هذا المرض ، وأثره على تخلف الإدارة .
يكفي في هذا المقام الإشارة إلى ظاهرة الميل غير السوي إلى الإسراف في الاعتماد على القواعد التنظيمية – سواء ظهرت في شكل قانون أم لائحة أم إجراء إداري – في حل المشاكل .
هذه الظاهرة يغذيها ، أن التفكير في حل المشاكل عن طريق القانون والشرطي هو العمل الأكثر سهولة فهو لا يتطلب كبير جهد ويعطي الشعور الوهمي بحل المشكلة .
في حين أن القانون حتى لو كان صائباً لا جدوى منه إلا بتنفيذه وشرط تنفيذ القانون هو متابعة التنفيذ ، ومتابعة تنفيذ القانون هي الجهد الجاهد الذي كثيراً ما يتخلف ، إن الإيمان الغالي بالقواعد القانونية حلا للمشاكل مرض شائع على كل المستويات في المجتمع .
وبالرغم من شيوع هذا المرض فقلما ينتبه إلى آثاره المدمرة على الأداء.
إن القواعد التنظيمية مثل الأدوية مضادات الحيوية تصحبها آثار جانبية ضارة ولذا ينبغي التعامل مها كما يتعامل الطبيب الحكيم مع الأدوية (مضادات الحيوية) فلا يصفها إلا عند الضرورة وبقدر الضرورة وبعد الموازنة بين آثارها الموجبة وآثارها السالبة ، وأن يصحب العلاج بها رقابة كافية لضمان تأثيرها الإيجابي ودرء تأثيرها السلبي .
الإسراف في اعتماد الإدارة على السلطة والقانون سبب كاف للقصور في متابعة التنفيذ التي هي شرط إنتاجية القانون .
إن إصدار القواعد القانونية بدون ضمان متابعة حسن تنفيذها أقوى عامل للفساد الإداري ، فالقانون في هذه الحالة إذ يعوق حرية الحركة للموظف الصالح أو المواطن الصالح ، يمنح إمكانيات غير محدودة للفساد .
إن تجربة المتحدث الشخصية قد خلقت لديه اقتناعاً بأن أول منطلق عملي للإصلاح الإداري هو مراجعة القواعد القانونية على اختلاف إشكالها . وعدم السماح بوجود أي قاعدة قانونية لا تتوفر لها الشروط اللازمة للقانون المنتج:
(1) العدالة (2) الحكمة (3) كفاية المتابعة
التعليم:
بالرغم من تغير اسم ( وزارة المعارف) إلى اسم ( وزارة التربية والتعليم) فلا يزال الاهتمام الأكبر – إن لم يكن الوحيد – الاهتمام بالتعليم بمعني التركيز في العملية التعليمية على ملء ذاكرة الطالب بالمعلومات ويمثل هدف النجاح والحصول على شهادته هدفا فاعلاً ومؤثراً ومتقدماً في سلم أولويات الطالب وولي أمره .
وفي الدعوة لإصلاح التعليم تسود الرآي العام فكرة القلق على انفصام التعليم عن حاجات السوق أو القلق على مكانة المملكة العربية السعودية في سباق التقدم في تعليم العلوم الطبيعية والرياضيات .
ولا شك إن لهذا القلق في مجاليه ما يبرره ولكن هناك أمر يجب أن تعطي له أولوية في مساعي إصلاح التعليم، وأعني بذلك مسئولية التعليم عن بناء الشخصية السوية للمواطن ، وهذا يتطلب وعى الطالب الكامل بهويته الثقافية ، والثقة بمكوناتها إذ أن القوة المعنوية لا تغني عنها القوة المادية وقد فطن المفكرون في الإصلاح حتى في المجتمعات غير المسلمة إلى أن التقدم المدني والتكنولوجي لا يمكن أن يكون بديلا عن التقدم الروحي والخلقي وربما لا نجد ابلغ من ملاحظة الزعيم الروسي حورباتشوف الذي كتب في ( بر سترويكا): “يمكن لصواريخنا أن تصل إلى مذنب هالي وتطير إلى الزهرة بدقة متناهية ولكن إلى جانب هذه الانتصارات العلمية والتكنولوجية نجد نقصا واضحاً في استخدام المنجزات العلمية . ولسوء الحظ فليس هذا كل ما في الأمر فقد بدأ تدهور تدريجي في القيم الايدلوجية والمعنوية وبدأ الفساد يسرى في الأخلاقيات العامة وزاد إدمان الخمور والمخدرات والجرائم”، “مهمتنا الرئيسية اليوم هي إن نرفع من روح الفرد ونحترم عالمه الداخلي ونعطيه قوة معنوية ونحن نسعى لأن نجعل كل قدرات المجتمع الفكرية وكل إمكانياته الثقافية تعمل من أجل تشكيل شخص نشط اجتماعيا وغني روحيا ومستقيم وحي الضمير” .
ومثل ذلك ملاحظة الزعيم الأمريكي ريشارد نكسون الذي كتب في آخر كتبه قبل وفاته بعنوان (ما بعد السلام Beyond Peace):
“الإسلام الأصولي عقيدة قوية لأنه يستجيب لحاجات الروح ، والعلمانية في الغرب لا تستطيع أن تغالبه ، وكذلك العلمانية في العالم الإسلامي إن حقيقة إننا أغني وأقوى دولة في التاريخ لا تكفي ، العامل الحاسم هو قوة الأفكار العظيمة ” .
أو ملاحظة السياسي الأمريكي جون فوستر دلاس: “إن الأمر لا يتعلق بالماديات فنحن نمتلك أكبر إنتاج عالمي في الماديات ولكننا بحاجة إلى إيمان قوى وصلب وفاعل ومن دون هذا الإيمان سيكون كل ما نملك قليلاً” .
أن السؤال الصعب كيف نحقق هذا الهدف في إصلاح التعليم ؟
لاشيء يمكن أن يعوض النقص الذي نشعر به فيما يتعلق بالمعلم ذي الكفاية وحتى يكون في الإمكان تجاوز هذه الصعوبة فيمكن اقتراح تأليف كتيبات متدرجة المستوى تكون موضوعاً للقراءة الحرة للطالب حيث يشجع عليها بكل الحوافز الممكنة ، كما تكون موضوعاً للنقاش والحوار بين الطلاب وبينهم وبين معلميهم وموجهيهم .
في مساعي إصلاح التعليم لا مناص من الانتباه لخطر متوقع وواقع مع الأسف وهو تأثر مسيرة التعليم بالأفكار الشائعة ، والمشاعر العاطفية بدلاً من الاعتماد على التفكير الموضوعي وإعمال المقاييس العقلانية والواقعية.
الاقتصاد :
مر المجتمع السعودي بتجربة رأسمالية على مقياس صغير ، ولكنها كانت كافية ليدرك المجتمع أن الاتجاه الرأسمالي في الاقتصاد ليس دائماً عامل بناء، وأنه يمكن أن يكون عامل تدمير.
ففي خلال مدة قصيرة جاوزت القروض الربوية الاستهلاكية ثلث ناتجنا القومي الإجمالي، بعد استبعاد قطاع النفط والغاز أما عقود المخاطرة في الأسهم فقد أدخلت الدموع على آلاف البيوت إن استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية أي إخراجه عن أن يكون قياماً للناس، واتخاذ المال طريقاً ذا اتجاه واحد من الفقير إلى الغني ليكون المال دولة بين الأغنياء وحتمية الظلم بين طرفي المعاملة في عقود المخاطرة وعقود الربا (تظلمون وتظلمونٍ) كل هذه السمات الثلاث من السمات الملازمة للنظام الرأسمالي .
قبل عشرين سنة عند ما حدثت كارثة الاثنين الأسود اجتمع في نيويورك بعد شهر واحد وثلاثون خبيراً اقتصادياً من ثلاث عشره دولة ، وكان التقرير الذي انتهوا إليه بعيداً عن التفاؤل فيما يتعلق بمستقبل الاقتصاد الرأسمالي وبعد سنتين كتب العالم الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل موريس آليه ، يشير إلى هذا التقرير ويوضح أن المرض المتجذر في الاقتصاد الرأسمالي كون هذا الاقتصاد عبارة عن اهرامات من الديون يرتكز بعضها على بعض في توازن هش .
وأوضح عن مسئولية النظام البنكي الغربي عن هذا الوضع حيث جعل هذا النظام من الممكن أن تستأثر عقود المخاطر بحوالي 97% من تدفق النقود بين البلدان .
وقرر أن الحل الوحيد هو التعديل الجذري للنظام البنكي الحالي .
كما أوضح أن كل أحد يدرك ذلك ولكن قوى الضغط لا تسمح بالتغيير .
في خلال هذه المدة حدثت متغيرات مهمه ساهمت في تأجيل حدوث التوقعات المتشائمة عن الاقتصاد الرأسمالي إذ تحولت روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي ، والصين إلى الاتجاه الرأسمالي .
وإذا كانت الرأسمالية تتغذى بالحرب فقد استهل القرن الواحد والعشرين بحروب تبرر وصف أحد الخبراء بأن هذا القرن بدأ بأرباح الحروب .
ولكن ذلك كله لم يبعد شبح التشاؤم الذي كان يظلل الاقتصاد الرأسمالي قبل عشرين سنة إن الكوكب الاقتصادي يعيش اليوم خطر انعدام استقرار أكبر .
لقد كتب الخبير الاقتصادي الأول لبنك مورجان ستانلي في شهر إبريل الماضي يقول ( إن أزمة كبرى ترتسم أمامنا وأن المؤسسات العالمية ( من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي وسائر آليات الهندسة المالية الدولية ) غير مجهزة لمواجهتها .
وكتب في يونيو الماضي ( إن اتجاها نحو الفوضى يسيطر على النخب الأكاديمية والسياسية العاجزة عن تفسير كيفية سير العالم الجديد) وأبلغ من ذلك أن يشير التقرير السنوي لبنك التصفيات الدولي الصادر في نهاية يونيو الماضي إلى أنه ( نظراً لتعقيد الوضع وحدود معلوماتنا فمن الصعب جدا تخيل كيف ستتطور الأمور ) ويقر التقرير بإمكانية حدوث انفجار يزعزع الأسواق إذ يعتبر أن ( هناك أسبابا عديدة للقلق من المستوى المعين من الفوضى ) .
وإذا وثقنا بدقة الإحصاءات التي تقول أن إجمالي عمليات المشتقات جاوزت ثلاثة آلاف ترليون دولار أي أكثر من مائتين وخمسين ضعفاً للناتج القومي الإجمالي لأغنى دولة في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) فإن ذلك كاف لتصور واقع الاقتصاد الرأسمالي والاتفاق مع وصف أحد الخبراء قبل ثلاثة أشهر لهذا الوضع بأنه ( سلاح التدمير الشامل المالي ) وإذا صح ما استنتجه موريس آليه من أن استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية هو سبب ما يعانيه العالم من عنت وضيق في العيش وغياب للعدالة الاجتماعية وتعقد مشاكل التشغيل فإن ذلك يهدينا في مجال الإصلاح الاقتصادي إلى وجوب أن نعيد النظر في مدى الحكمة من تسارع مسيرتنا في اتجاه الاقتصاد الرأسمالي .
ويعزز هذا الواجب واقع نظامنا المصرفي الربوي وحقيقة أنه يعبد الطريق لتتجه مدخرات مجتمعاتنا إلى الأسواق الدولية التي ليست في حاجة إليها والتي تتسم بالمنافسة الحادة مما يؤثر على الجدوى الاقتصادية لاستثمار المال الوطني وفي ظل العولمة الاقتصادية إذا لم تثبت مؤسساتنا المصرفية في معركة البقاء أمام عمالقة المصارف العابرة القارات فالمتوقع أن يزداد الأمر سوءاً .
إننا بابتعادنا عن المبادىء التي نص عليها القرآن الكريم للتعامل في المال أي بأن يكون قياماً للناس يستعمل في وظيفته الطبيعية لمواجهة حاجات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع وأن لا يكون دولة بين الأغنياء وأن لا يظلم به المتعامل فيه ولا يظلم فإن القانون الألهى [يمحق الله الربا] [ فأذنوا بحرب من الله ورسوله] لا بد أن يتحقق .
****
خــاتـمـة :
في الحديث عن المنطلقات العملية للإصلاح كما تلاحظون اقتصر الحديث عن المنطلقات ذات السمه السالبة يبرر ذلك أن التخليه قبل التحلية ، وأنه لا معنى لإقامة مؤسسة للعلاج مع الإبقاء عل مسببات المرض .
إنها لمأساة أن يكون عجزنا عن اجتياز حاجز التخلف ليس نتيجة العجز عن العمل فحسب بل نتيجة العجز عن عدم العمل إن إمكانيات الإصلاح متاحة والسبيل الوحيد للإصلاح هو الوعي بهذه الإمكانيات ووجود الإرادة للإنتفاع الأمثل بهذه الإمكانيات .
وبالله التوفيق ،،،
المصدر: http://saaid.net/arabic/653.htm