دور الإعلان في تبدّل القيم

إذا كان للإعلانات التجارية الدور الكبير في حث الناس على الاستهلاك، وعلى شراء ما يلزم وما لا يلزم خدمة لأصحاب رؤوس الأموال، فإن له دوراً آخر في رسم سلوكيات الناس وعلاقتهم فيما بينهم.

ويحاول البعض التخفيف من تأثير الإعلانات في حياة الناس وسلوكياتهم، ويرون أن الإنسان هو الذي يقرّر أن ينجرف في تيار الاستهلاك، أو يصمد في وجه إغراءاته.. لكن هذا ليس صحيحاً، فللإعلان سطوته على الناس، وتتسلّل آثاره في نمط الحياة دون أن يشعر الفرد بأنّه بات يتخذ سلوكاً معيناً في كيفية أكله ولباسه وطريقة عيشه، متماهياً مع صورة الإنسان في الإعلان الذي يبدو دوماً سعيداً فرحاً، وكأن الحياة سهلة يسيرة تمرّ دون أن تنغّص عليه عيشه!.

برّ الوالدين

والملاحظ في كثير من الإعلانات رسم سلوكيات جديدة بين أفراد الأسرة، من ذلك إعلان يظهر تذمّر الابن لأنّ أبويه استطاعا زيارته في بلاد الاغتراب أكثر من مرّة، ما حدا به وبزوجته إلى الانتقال من شقتهما في باريس إلى أخرى، دون إعلام والديه بإقامته الجديدة، وكان مفاجأة الأبوين عندما وصلا إلى باريس وقرعا باب منزل ولديهما السابق، أنه انتقل دون أن يترك لهما عنوانه الجديد.. كلّ هذا يظهر في شريط إعلاني لأحد المصارف.

صحيح أم معايير برّ الوالدين تختلف من مجتمع إلى آخر، وتتبدّل صورته مع ثورة الاتصالات، كأن يكتفي الوالدان بسؤال أولادهم عن حالهما عبر الاتصالات الهاتفية أو مواقع التواصل الاجتماعي، على نحو مباشر (صوت وصورة) أو غير مباشر، إما أنّ يتهرّب الأبناء من آبائهم، بصفتهم فضوليين ومتطفّلين على حياتهم حسب اعتقادهم- عبر زيارتهم إياهم- فأمر غير مقبول، ويتسلّل مفهوم رفض العلاقة الحميمة بين الأهل والأبناء عبر وسائل عديدة، منها الإعلان، إلى جانب كم هائل من الأفلام والمسلسلات الغربية، التي تظهر ابتعاد الأبناء عن الأهل بعد سن الثمانية عشر أمراً طبيعياً له خصوصيته يجب على الأهل والمجتمع مراعاته وتقبّله.

الأجنبي في مقابل الوطني

تُعزّز بعض الإعلانات نظرية أن البضائع والسلع الأجنبية أفضل من مثيلاتها الوطنية، وتعمل على ترسيخ هذا المفهوم، ليلهث المتلقي وراء السلع المستوردة خدمة للرساميل الأجنبية، وللمستوردين، فعلى سبيل المثال، تكون مادة الإعلان الرئيسة، أنّ البضائع في المتجر الفلاني كلّها أجنبية، وأن السلع الوافدة من الخارج، وتحديداً من الدول الأوروبية أو من الولايات المتحدة أو كندا، هي أفضل من المنتوجات الوطنية، مع ما يحمله هذا التأكيد من خطورة على الصناعة الوطنية، وعلى حركة تصريف البضائع في الأسواق المحلية التي يغرقها التجار بالمنوجات الأجنبية، فلا تستطيع الوطنية منها منافستها.

وبعض تلك الإعلانات توحي للنساء أنهنّ لن يصبحن عصريات إلا إذا اقتنين البضائع الأوروبية من المتجر الفلاني، فإذا أرادت إحداهنّ التباهي أمام قريناتها بما تسوّقته، فإنها تخبرهنّ أن البضائع والحاجيات التي ابتاعتها من السوق أجنبية لا وطنية.

إن كثيراً من المجتمعات العربية والإسلامية ما تزال تشعر بعقدة النقص أمام الدول التي استعمرتها في القرون الماضية، وما تزال مستلبة أمامها، حيث تشعر أنها قاصرة عن اللحاق بها، فترزح تحت شعور أن تلك الدول هي الأفضل والأقوى، وأن كلّ ما تصدره إلينا جيّد وجذّاب، دون الأخذ بحسبان أنها ما زالت تعمل جاهدة لتصريف بضائعها، وخير طريق إلى إقناع الناس باستهلاك منتوجاتهم هو الإعلان الذي يتغلغل إلى حواس المواطن الخمس.

ضرب السياحة الداخلية

جميلة هي الأماكن الأثرية والسياحية في بلادنا، لكن الوزارات المختصّة لا تروّج على نحو كاف لأهميّة تلك الأماكن، فتزاحمها الإعلانات في الدعوة إلى زيارة بلدان باتت تعتمد لجذب السائحين، على عماراتها وأبراجها الحديثة للتسوّق من المحلات التجارية الأجنبية الكبرى، فلا معالم تاريخية أو أثريّة مهمّة فيها، إنما أسواق وأسواق تشبع عطش اللاهثين وراء الاستهلاك التي تفرغ جيوب المواطنين.

القيمة للمظهر الخارجي

قديماً قيل:"المرء بأصغريه" يعني بهما القلبَ واللسان، وقيل لهما الأصغران لِصغر حجمهما ويجوز أن يسمّيا الأَصغرين ذهاباً إلى أنّهما أكبر ما في الإنسان معنىً وفضلاً، أما اليوم، فيضعك الإعلان أمام قيم جديدة: فقيمتك اليوم بنوع حذائك وثوبك وعطرك، وبمشروب الطاقة الذي وجب أن تعتمده كي لا تظهر كأنك عجوز لا حول له ولا قوّة أمام الشباب وهم يمارسون هوياتهم الرياضية المفضلّة.. وقيمتك بما تستهلكه وتبتاعه من منتوجات، أما الثقافة، فلا بأس بالثقافة السطحية والسخيفة، ولتدع العلوم المهمة لغيرك وكن المتلقي لكل ما ينتجه الغرب..

كثيرة هي النماذج التي تدخل في منظومة القيم التي أخذ الإعلان يزحزحها حتى أطاحها في مجتماعتنا العربية والإسلامية، ونظرة فاحصة أمام شاشات التلفزة، تدلّنا على دور الإعلان في رسم سلوكيات الناس عن قصد، لا عن غير قصد.. بهدف الربح السريع دون الالتفات إلى طبيعة العلاقات الإنسانية التي تحكم مجتمعاتنا.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7474

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك