الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي

الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي
دراسة تحليلية نقدية

الدكتور
عبد الراضي محمد عبد المحسن

مقدمــــة

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الخاتم المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً بوحي قرآني، مبيِّن لما سبقه من الوحي ومهيمن عليه. وبعد،
فعندما شرع العالم الإسلامي يتلمس طريقاً للخلاص من سطوة العالم الغربي المتشرع بالنصرانية والمتسلط على مقدرات العالم الإسلامي وعلى جوانب عدة من حياته الثقافية والفكرية والعلمية منذ إسقاط الخلافة العثمانية وبدء الحقبة الاستعمارية، أخذ المسلمون في استجلاء طبيعة التسلط الغربي، ومجالاته وأدواته، وأبعاده، وأشكاله، وخطورته على الحياة الدينية والفكرية في العالم الإسلامي بوصفها القوة المحركة للنشاط الإنساني والسياج الواقي من مخاطر مسخ الهوية وتذويب الكيان وتدمير المناعة الذاتية اللازمة لبناء الحضارات وتأسيس الأمم والكيانات.
فاتجهت الأنظار إلى الاستشراق والتنصير (التبشير) وحدهما بوصفهما بيت الداء والأداة الفاعلة للعالم الغربي في الصراع والسيطرة، فاستفاضت الدراسات والبحوث حول الاستشراق والمستشرقين، والتبشير والمبشرين، رصداً: لأنشطتهم، وجهودهم، ومناهجهم، وآرائهم، ومعالجاتهم الفكرية للديانة الإسلامية، ونبيها، وقرآنها، وأصولها الإيمانية، وتشريعاتها التعبدية، وقوانينها الأخلاقية، وإنجازاتها الحضارية، ومجتمعاتها البشرية.
فأقيمت الندوات والمؤتمرات، وأُعِدَّتْ الكشافات والموسوعات، وتأسست مراكز البحوث والأقسام العلمية بالكليات والجامعات.
وذلك دون التفات أو عناية تذكر بالفكر اللاهوتي وعلاقته بالدراسات الاستشراقية والتنصيرية التي ولدت في كنف الفكر اللاهوتي، ونشأت وترعرعت في عنايته، فكان اللاهوتيون والفكر اللاهوتي التربة التي غذَّت الدرس الاستشراقي، والجذر الذي استوت عليه سوق البحوث الاستشراقية والتنصيرية ونمت أغصن وفروع الاستشراق والمستشرقين والتنصير والمنصرين.
فقد كان اللاهوتيون والرهبان هم الطبقة المثقفة في العالم النصراني، فكانوا الأقدر على القيام بمهام العمل الاستشراقي والتنصيري بحكم المعرفة العلمية وبحكم الدوافع المحركة لمثل هذا العمل؛ لذلك جاء اللاهوتيون والرهبان في طليعة المستشرقين والمبشرين، وما زالت لهم اليد الطولى سواء من خلال أديرتهم المختلفة المنتشرة في ربوع العالم الإسلامي، مثل:
البندكتيين، الفرنسيسكان، الدومينيكان، اليسوعيين، الآباء البيض، الكيوشيين، الكرمليين. أو من خلال المؤسسات اللاهوتية الرسمية المسؤولة عن العمل التنصيري والاستشراقي جزءاً من العمل الكهنوتي في الكنيسة.
ولا يمكن كذلك بحال إغفال دور الفكر اللاهوتي في صياغة الوعي الثقافي والحضاري والفكر الديني في العالم الغربي، الذي وإنْ أعلى راية العلمانية إلا أنه لاهوتيّ بحت في رؤيته للإسلام.
ولم تنحصر أهمية الدَّور اللاهوتي في كون اللاهوتيين هم القاعدة البشرية للنشاط الاستشراقي والتنصيري حول الإسلام، بل تجاوزته إلى الطبيعة النوعية للعمل اللاهوتي ضد القرآن الكريم:
فقد كان اللاهوتيون أصحاب المبادرة الأولى في التصدي للقرآن الكريم بحثاً ودراسة وتصنيفاً وهجوماً بواسطة القديس يوحنا الدمشقي أحد كبار آباء الكنيسة اليونانية الذي عاش في بلاط بني أمية، وقد ظلّت الدراسات القرآنية حكراً على اللاهوتيين قروناً طويلة قبل أن يعرف تاريخ الدراسات القرآنية غيرهم من المختصين العارفين باللغة العربية والثقافة الإسلامية ممن يسمى بالمستشرق.
إذ إن ذلك يعود إلى ما بعد عام (711ﻫ) (1311م) أي بعد سبعة قرون من ظهور الإسلام، عندما قرر مجمعُ فيينا الكنسي إنشاء خمسة كراسٍ لتعليم اللغة العربية في أكبر خمس جامعات في أوربا (باريس، أكسفورد، بولونيا، سلمنكا، جامعة الإدارة المركزية البابوية) وعَيَّن للتدريس فيها مدرسين كاثوليكيين؛ من أجل التمهيد والإعداد لارتداد العرب إلى المسيحية( ).
وكان اللاهوتي المعروف الأب بطرس الموقر رئيس رهبان دير كلوني القائم على أول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم (538ﻫ) (1143م)، فكانت أول لغة من لغات العالم الغربي يمكن أن تُقرأ بها معاني القرآن الكريم.
ومثّل القديس توما الإكويني (622- 673ﻫ) (1225- 1274م) اللاهوتي الدومينيكاني الذي يعد أكبر مفكري الغرب في العصور الوسطى، والذي أصبح فكره اللاهوتي المذهب شبه الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، مثَّل برأيه اللاهوتي في القرآن الكريم نقطة فارقة في تاريخ الجدل الديني ضد القرآن الكريم.
وجاء اللاهوتي مارتن لوثر (888- 953ﻫ) (1483ـ 1546م)؛ ليؤسس بتفكيره اللاهوتي حول القرآن الكريم، العقيدة والفكر الديني للبروتستانت طوال القرون الستة المنصرمة.
وربما يكون السبب وراء غياب الاهتمام اللازم بالفكر اللاهوتي حول القرآن الكريم ما تتطلبه مثل هذه الدراسات من تخصص منهجي في حقل الديانات المقارنة، ومعرفة جيدة بتاريخ الفكر الغربي عامة، والفكر اللاهوتي على وجه الخصوص، وإلمام واسع بمصادره التي تكون في الأعم الأغلب باللغات الأوربية، وهي متطلبات قلما تتوافر لكثير من المهتمين بالاستشراق؛ نظراً لوفرة الترجمات العربية لتاريخ الاستشراق وأعمال المستشرقين، ولكون أكثر الباحثين حول الاستشراق من ذوي الاختصاص في الدراسات العربية أو الإسلامية العامة.
لأجل ذلك استلزمت الضرورة العلمية ودواعي المنهجية البحث في الفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني؛ لتجلية جوانب ذلك الفكر، ومصادره، وطرائقه، وتأثيره في صياغة الوعي الثقافي والفكري الغربي بالقرآن الكريم وانعكاسات ذلك على توجهات الاستشراق وغيره من الأنشطة العلمية والثقافية في الغرب، وكذلك طروحات الفكر اللاهوتي عبر مراحله التاريخية، ومن خلال أطيافه المذهبية المتعددة: اللاهوت السرياني (اليوناني)، اللاهوت البيزنطي، اللاهوت اللاتيني، اللاهوت الكاثوليكي، اللاهوت البروتستانتي.
وما كان لنا أن نقارف خطايا المؤاخذات على الغربيين (لاهوتيين ـ مستشرقين ـ مبشرين) في بحوثهم عن الإسلام والعروبة من تجافٍ عن الموضوعية، وتجاوز لأصول المنهجية العلمية في تحصيل المعلومات وإصدار الأحكام.
فكان المنهج التحليلي النقدي هو الأنسب لمعالجة الموضوع في قراءة تحليلية دقيقة لمعطيات الفكر اللاهوتي في كل مرحلة من مراحله على حدة من خلال أبرز النماذج الفكرية اللاهوتية التي عرفت بها المرحلة، مع تقويم نتاج الفكر اللاهوتي في كل مرحلة، ثم التعقيب في الخاتمة بقراءة تحليلية شاملة لمعطيات الفكر اللاهوتي عبر مراحله مجتمعة، قراءة تهدف إلى استخلاص المعالم الأساسية المؤلَِّفة لهيكله.
والتماساً للموضوعية وتحرياً لأصول المنهجية العلمية في استقصاء المعلومات وإصدار الأحكام، فإن اعتماد البحث كان على مصادر تاريخ الفكر اللاهوتي في مظانها الأصلية، فلم يُعوَّل على أي مرجع وسيط لباحث مسلم أو عربي، بل إن الحرص كان كبيراً على تأصيل الرؤى اللاهوتية حول الوحي القرآني من المصادر الأجنبية، فلم يُعتمد في الكتب المترجمة إلا على النـزر اليسير الذي لا يجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وذلك كي نضمن الإفلات من قبضة الادعاء بأننا نحن ـ المسلمين ـ ذاتيون لا نكتب عن الآخر إلا ما نستشعره وليس ما هو كائناً.
وقد جاء البحث في خمسة مطالب وخاتمة، خصص مطلب لكل مرحلة من مراحل اللاهوت الخمسة: السرياني، البيزنطي، اللاتيني، البروتستانتي، الكاثوليكي .
أما الخاتمة فجاءت قراءة تحليلية شاملة لمعطيات المراحل الخمس، وذلك بهدف استخلاص المعالم الأساسية المؤلِّفة لهيكل الفكر اللاهوتي حول القرآن الكريم، ثم ذُيِّل البحث بقائمة تفصيلية لمصادره ومراجعه.
والله أسأل أن يكون من وراء القصد، وأن يكون التوفيق قدر البحث وحظه، وأن يعلمنا ـ سبحانه ـ ما جهلنا، وأن ينفعنا بما قد نكون علمنا، فله الحمد والمنة في البدء والختام.

المطلب الأول
الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي السرياني

يقصد باللاهوت السرياني لاهوت النصارى الناطقين باللغة السريانية في سوريا الذين اعتنقوا العقيدة المونوفيزية القائلة بطبيعة واحدة في المسيح، ويسمى أتباع تلك العقيدة كذلك باليعاقبة، نسبة إلى الأسقف يعقوب البرادعي الذي نظّم الكنيسة السريانية في القرن السادس الميلادي( ).
وتضم الكنيسة السريانية إلى جانب اليعاقبة طائفة الروم الأرثوذكس التي تقول بالطبيعتين والمشيئتين، مثل: اللاتين، لكنها تخالفهم في قولها بانبثاق الروح القدس من الآب وحده .
وبذلك لا يكون اللاهوت السرياني موحداً، ولا يؤلِّف كنيسة مستقلة، بل يجمع رؤىً وأفكاراً لاهوتية متعددة تتبع كنائس مختلفة، إنما الجامع بينها هو اللغة السريانية التي حُفظت بها الكتابات اللاهوتية وبها كان يتم تداول الأفكار وإقامة الطقوس والشعائر.
وقد كان النصارى السريان في خط المواجهة الأول مع الوحي القرآني، فصدر عنهم أول رد فعل عقدي نصراني تجاه بزوغ الوحي القرآني، ويرجع ذلك إلى أن اليعاقبة كانوا أوائل الطوائف النصرانية التي عايشت انتصار الإسلام في فتوحات بلدان المشرق وبخاصة بلاد الشام ومصر، إذ كان ينتشر مذهب الطبيعة الواحدة، وأهم الكتابات اللاهوتية حول الوحي القرآني في مرحلة المواجهة المبكرة تُلتمس لدى:
القديس يوحنا الدمشقي (56 ـ 132ﻫ)(675 ـ 749م):
يوحنا الدمشقي أول لاهوتي نصراني ترد في كتاباته مقالات عن الإسلام والوحي القرآني، وليس ذلك فحسب مناط أهمية كتاباته، ولكن الأثر الكبير الذي خلَّفته تلك الكتابات في بناء موقف اللاهوت النصراني من الإسلام عامة ومن الوحي القرآني خاصة.
فقد كوَّنت رؤية الدمشقي ورأيه في الوحي القرآني الوعي اللاهوتي النصراني بالوحي القرآني، وغدت نظرية علمية معوّلاً عليها لدى علماء اللاهوت في الأعصر التالية بدءاً باللاهوت البيزنطي، ومروراً باللاهوت اللاتيني، وانتهاء باللاهوت الكاثوليكي والبروتستانتي المعاصر( ).
ويرجع الأثر البالغ ليوحنا الدمشقي إلى احتكاكه المباشر بالإسلام حضارة وديناً وشعباً حيث عاش بين المسلمين وفي بلاط الخلافة الأموية، كما أن إجادته العربية مكَّنته من الاطلاع المباشر على القرآن الكريم، وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ مما أعطى آراءه في الإسلام طابع الخصوصية والمعرفة العميقة الواقعية بالإسلام ونبيه( ).
لذلك عُدَّت آراؤه اللاهوتية في القرآن الكريم ونبي الإسلام أفضل ما جاء به يوحنا من آراء لاهوتية، بل إن الفكر المسيحي في الغرب قد استقر على أن يوحنا الدمشقي لم يأت برأي لاهوتي أصيل سوى تلك الآراء( ).
وقد وردت آراء يوحنا الدمشقي اللاهوتية حول الوحي القرآني في القسم الثاني من عمله اللاهوتي المعنون بـ ((ينابيع المعرفة)) والذي ضمَّنه آراءه في الإسلام في إطار تأريخه للبدع والهرطقات، وتتلخص رؤية الدمشقي اللاهوتية للإسلام ونبيه وكتابه في( ):
1 ـ الطعن في جذور الإسلام الإبراهيمية الحنيفية، وذلك بوصف المسلمين بـ السرازنيين (Saracens)، لأن هذا الوصف تشويه إتيمولوجي لجذور الإسلام، فالسرازنة تعني التي أبعدتهم سارة باحتقار، إشارة إلى استبعادهم من رابطة الإبراهيمية التي جمعت أبناء سارة من اليهود والنصارى.
2 ـ تصنيف الإسلام بوصفه هرطقة مسيحية جديدة مُؤْذنة بقدوم المسيح الدجَّال.
3 ـ تأليف النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ القرآن الكريم اعتماداً على المصادر الثلاثة الآتية:
ـ المعرفة المشوهة بأسفار العهد القديم والعهد الجديد.
ـ أحلام اليقظة التي تلقاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم.
ـ التعلم على يد الراهب الأريوسي المهرطق.
وتقوم بنية الرؤية اللاهوتية الدمشقية على أسطورة تعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على يد راهب أريوسي منشق عن الكنيسة، ولما كان الاختلاف مع الآراء اللاهوتية السائدة في الكنيسة يُعد انشقاقاً يُطعن صاحبه على الملأ، ويحكم عليه بالهرطقة، فإن ما يترتب على ذلك أن يكون ما تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم على يد هذا الراهب هرطقه مسيحية، وبهذا صنّف الدمشقي الإسلام، ثم حاول تفسير الاختلافات العقدية الجذرية بين القرآن الكريم واللاهوت المسيحي، وبخاصة رفض القرآن الحاسم ونفيه صحة الاعتقاد في: ألوهية المسيح، وبنوة المسيح، والتثليث، والصلب والفداء، وهي أساس اللاهوت المسيحي التي لا يتم الإيمان النصراني إلا بها، فأرجع تلك الاختلافات إلى الآراء المنشقة التي اعتنقها ودعا إليها آريوس أسقف الإسكندرية الذي رفض كل محاولات تأليه المسيح ومساواته بالله تعالى، وبقي عند كونه عليه السلام عبداً ورسولاً.
ويعد الأساس الذي قامت عليه الرؤية اللاهوتية للدمشقي موضع الوهن والغموض والاختلاف فيها، فقد بدأ الخلاف واسعاً في اللاهوت البيزنطي واللاهوت اللاتيني اللذين تلقيا رؤية الدمشقي بالقبول، حول تعيين شخصية معلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحديد هويته المذهبية، والدور الذي قام به في ظهور الوحي القرآني( ):
فقد تعددت الأسماء المقترحة لهذا المعلم، فظهر باسم: سيرجيوس، نسطوريوس، جيورجيوس، نيكلاوس، يوحنا.
كما تباينت هويته اللاهوتية، فهو يبدو أريوسيًّا مرة، ومرة نسطوريًّا، وأخرى مونوفيزتيًّا من دعاة القول بالطبيعة الواحدة.
وكذلك اضطرب اللاهوتيون البيزنطيون، واللاتينُ حول الدور الذي قام به ذلك الراهب الأسطورة، وهل قام بتعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطريقة سرية غامضة أقرب إلى الأسرار الصوفية، أو أنه هو الذي قام بتأليف القرآن بنفسه؟
واختلفوا كذلك حول الغرض الذي قام لأجله المعلم بتعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهل كان نتيجة فشله في الحصول على رتبة كنسيَّة أعلى كان قد ترشح لها، أو أن أخلاقه السيئة كانت وراء تسخير نفسه للشيطان وقيامه بمساعدة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تكوين نحلة جديدة؟
ولا شك أن هذا التباين من خصائص عالم الأساطير المرن القابل للتغيرّ والتباين حسب المزاج الثقافي والنفسي لمتلقي الأسطورة، وهذا يختلف عن عالم الحقائق التاريخية والعلمية التي لا تحتمل الاختلاف إلا في حواشيها وليس في معالمها الأساسية .
ولقد مارس التصور اللاهوتي ليوحنا الدمشقي حول القرآن نفوذاً منقطع النظير على كل فكر لاهوتي يحاول فهم الإسلام وفق مقياس مرسوم مثلما فعل بطرس الموقر (485 ـ 551ﻫ) (1092م ـ 1156م) فيما بعد، وقد استمر الأمر على ذلك النحو حتى القرن العشرين كما يحكى الأب روبير كاسبار المستشرق اللاهوتي المعروف من جماعة (الآباء البيض) التبشيرية، عن أستاذه الأكاديمي الذي بدأ محاضرته عن الإسلام عام 1952م بقوله:
((إن الإسلام ديانة شيطانية، وشيطانية خاصة جدًّا، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكذِّب اشتمال القرآن على بعض الحقائق والعناصر الإيجابية، فإن تلك الأشياء حيلة شيطانية خالصة، تخفَّى الشيطان وراءها ليضل الأرواح، فهي كما يقول الصوفية من تلبيس إبليس))( ).
ويضيف الأب روبير كاسبار مفسراً ذلك المسلك اللاهوتي: ((إن الغرب لم يفهم الإسلام على حقيقته أبداً، بل ولم يحاول ذلك مطلقاً، وكذلك أفاضل المسيحية الذين عاشوا في جوار الإسلام مثل: يوحنا الدمشقي، وتيودور أبو قرة، وبولس أسقف صيدا، لم يتمكنوا من إدراك جوهر الإسلام وعظمته، فهو دين عبادة الإله الواحد الأحد، ويمكن تفسير ذلك باكتفاء العالم المسيحي عبر قرون طويلة بتلطيخ الإسلام ونبيه بأسخف الأقوال من دون أن يكلف نفسه عناء دراسة مضمون الاعتقاد الإسلامي؛ إذ إن الأعمال التي قام بها الغرب المسيحي لم يكن هدفها صحيحاً، فأول ترجمة لمعاني القرآن تلك التي قام عليها بطرس الموقر رئيس رهبان دير كلوني لم تكن هي وما تلاها من ترجمة سوى أدوات لتوجيه المزيد من الإدانات ضد القرآن، تلك الإدانات التي امتدت سلسلتها على مدى قرون، وحملت أشهر الأسماء والأعلام))( ).
ولكنّ التفسير الذي قدمه الآب روبير كاسبار لمسلك الفكر اللاهوتي القائم على ميراث أسطورة يوحنا الدمشقي لم يصب كبد الحقيقة، فقد بيَّن طرائق اللاهوتيين في التعاطي مع حقيقة الوحي القرآني، إلا أن قطعه بأن اللاهوتيين لم يدركوا جوهر الحقيقة القرآنية القائم عليها جوهر الاعتقاد الإسلامي تقوم دونه شواهد عدة:
ليس أعلاها قدراً مئات الآلاف من النصارى المهتدين للإسلام وفي مقدمتهم العديد من اللاهوتيين أمثال: الحسن بن أيوب، وعلى بن ربن الطبري، وإبراهيم خليل أحمد، ونصر بن عيسى بن سعيد المتطيب، وعبدالله يحيى، وعبد الأحد داود، وعبد الله الترجمان ... إلخ، والذين ما كانوا ليتركوا ما هم عليه من اعتقاد وما هم فيه من سلطان كهنوتي إلا لإدراكهم جوهر الحقيقة القرآنية وقناعتهم بأنهم قد اختاروا الأصوب والأجدر بالقناعة.
وليس أدناها قدراً اتهام جميع اللاهوتيين النصارى بالغباء والجهل منذ ظهور الإسلام حتى اليوم، وذلك ما لا يعقل ولا يقول به عاقل.
إنما مردُّ الأمر كله إلى أسباب أُخر حالت بين مفكري اللاهوت والإقرار بحقيقة الوحي القرآني، منها:
1 ـ تهديد الوحي القرآني للسلطان الكهنوتي للاهوتيين، ذلك السلطان الذي منحهم صفة القداسة والعصمة، ومنحهم حق التشريع وإقرار العقائد وتقنين الكتب المقدسة، مما نبّه عليه القرآن الكريم في
قوله تعالى: ﮋﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﮊ [التوبة: ٣١].
وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الربوبية بالتشريع، عندما سمع عديَّ بن حاتم الطائي (وكان نصرانياً قبل الدخول في الإسلام) قول الله تعالى ذلك، فقال يا رسول الله ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما أنّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه))( ).
2 ـ إبطال القرآن لأسس اللاهوت النصراني التي تبناها اللاهوتيون وأقاموا عليها فكرهم مثل: ألوهية المسيح، وبنوة المسيح لله، والتثليث، وعقيدة الصلب والفداء، وكذلك فضح القرآن لتحريف اللاهوتيين للعهد الجديد بإقرارهم كتباً ورسائل مقطوعة السند ومضطربة المتن.
ويمثل ذلك الموقف القرآني نزعاً لمشروعية الفكر اللاهوتي التي أقامها اللاهوتيون على دعوى تلقي المعتقدات اللاهوتية من الحلقة الأخيرة في سلسلة الوحي الإلهي الممثلة في يسوع المسيح ابن الله، الكلمة التي تجسدت بشراً.

المطلب الثاني
الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي البيزنطي

اللاهوت البيزنطي: هو اللاهوت الذي تقرره الكنيسة الشرقية الناطقة باللغة اليونانية، والتي كانت تستمد نفوذها من سلطة الدولة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، وكانت الآراء المقررة في المجامع المنعقدة بواسطتها تمثل الرأي اللاهوتي للكنيسة الأم، وذلك قبل بدء الانشقاق الذي فرق بين اللاهوت اللاتيني واللاهوت البيزنطي، وكان أساسه الاختلاف حول انبثاق الروح القدس الأقنوم الثالث في التثليث، وهل مصدره الآب وحده أو مصدره الآب والابن معاً؟
وقد تبنىَّ اللاهوت البيزنطي الرؤية اللاهوتية ليوحنا الدمشقي حول الوحي القرآني بحذافيرها؛ لأنها كانت مصدر المعرفة المتاح للبيزنطيين عن الوحي المحمدي، فانعكست بجلاء وحماسة واضحة في جميع المؤلفات والكتابات البيزنطية حول الإسلام( ).
ويمكن استجلاء ذلك على سبيل المثال لدى المؤلف البيزنطي: الراهب تيوفانيس هومولوجيتس Theophanes Homologetes
المولود في القسطنطينية عام (143ﻫ)760م، عندما عرض للحديث عن الوحي القرآني مع بداية التأريخ (1ﻫ) للعام 622م الذي هاجر فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وذلك في كتابه (تاريخ العالم: من (000 ـ 198ﻫ) (285 ـ 813م).
فقد عكس آراء الدمشقي كما تعكس المرآة مرئياتها؛ إذ تبع خطى الدمشقي حذو النعل بالنعل، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم لديه نبياً كاذباً، لم يتلق وحياً صادقاً، وإنما بواسطة تعليم هرطقي جاء بتعاليم هرطقية مسيحية.
وقد حقق كتاب هومولوجيتس انتشاراً واسعاً وتأثيراً في اللاهوت اللاتيني عندما تمت ترجمته إلى اللاتينية فيما بين عامي (260 ـ 262ﻫ) (873 ـ 875م)( ).
وهناك كتابات أخرى تفصيلية عن الوحي القرآني تبنت تصورات الدمشقي في مؤلفات مستقلة، مثل كتاب (نقد الأكاذيب الواردة في كتاب العرب المحمديين) لنيكتياس، وكتاب (ضد تمجيد الأمة المحمدية)، (ضد الصلوات والتراتيل المحمدية) للأمبراطور البيزنطي جان كنتا كوزين( ).
وبخلاف ذلك لا نجد في الفكر اللاهوتي البيزنطي أية خصائص مميزة أو علامات فارقة أو إسهامات ذات قيمة في رؤيته للوحي القرآني، وربما يعزى ذلك إلى ندرة المصادر المعرفية المتاحة للبيزنطيين حول الإسلام، وكذلك الجهل باللغة العربية ـ وهي وعاء القرآن ولغته المسطور بها ـ حتى ذلك الحين. إذ لم تكن قد ظهرت بعد ترجمة كاملة لمعانيه إلى إحدى اللغات الأوربية الشائعة، إذ كانت ترجمة دير كلوني اللاتينية عام (538ﻫ) (1143م) هي أول ترجمة غربية كاملة لمعاني القرآن الكريم.
وفي هذا الإطار عديم الجدوى العلمية والفكرية يمكن وضع التفسير النفسي للوحي القرآني الذي ظهرت بواكيره في هذه المرحلة، وأصبح عنصراً أساسياً في العديد من المؤلفات اللاهوتية في المرحلة اللاتينية، حيث فُسِّرت حالات تلقي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وما كان يصحبه من صلصلات وأهوال نوعية تخص ظواهر الوحي الإلهي، فُسِّرت بنوبات من الصرع أو الهستريا أو الهلوسة.
وقد تلقت الدراسات الاستشراقية هذا التفسير بقبول حسن، فتصدر الكثير من الدراسات والبحوث، وتصدى للرد عليه العديد من المستشرقين أنفسهم، وكذلك من الدارسين المسلمين بردود مقنعة جعلت هذا التفسير يتوارى ويخبو.
ويبدو أن هذا التفسير البيزنطي لمظاهر الوحي القرآني قد قاد البيزنطيين إليه النقص المعرفي بالإسلام من جانب، وبالحضور الطاغي لمظاهر الوحي لدى جماعات الأنبياء في العهد القديم، التي كان أبرزها: النشوة، الانجذاب، الرقص، حلول الروح الخيرة أحياناً، وأحياناً أخرى حلول الروح الشريرة( ).
المطلب الثالث
الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي اللاتيني

بدأ تميز اللاهوت اللاتيني عن اللاهوت البيزنطي منذ القرن الثامن الميلادي عندما أضاف اللاتين إلى قانون الإيمان المسيحي عبارة (المنبثق من الآب والابن) عقب الفقرة المخصصة للروح القدس؛ لتصبح: ((نؤمن بالروح القدس الرب المالك والمحيي، المنبثق من الآب والابن، الذي مع الآب والابن يُسجد له ويمجّد)).
وفي عام (446ﻫ) (1054م) تم الانشقاق النهائي والفصام النكد بين اللاهوتين دينياً، وسياسياً، وثقافياً، وذلك بصدور قرارات تحريم ولعن متبادلة بين ممثل بابا كنيسة روما وبين بطريرك كنيسة القسطنطينية، ليستقل اللاهوت البيزنطي تماماً معبّراً وحده عن كنيسة القسطنطينية المعروفة باسم كنيسة الروم الأرثوذكس التي تضم كنائس: أورشليم، واليونان، وروسيا، وأوربا الشرقية الأرثوذكسية.
وقد تعددت مجالات التباين بين اللاهوتين على النحو التالي( ):
1 ـ ففي المجال السياسي: عَبَّر اللاهوت اللاتيني عن كنيسة روما المرتبطة بالممالك الأوربية الناشئة وبخاصة الجرمانية، التي تحررت من أسر إمبراطور القسطنطينية، بينما ظل اللاهوت البيزنطي معبِّراً عن كنيسة القسطنطينية وفيّاً لإمبراطورها ولإمبراطوريتها حتى سقوطها على يد السلطان محمد الفاتح (875ﻫ) (1453م).
2 ـ وفي المجال الثقافي:
كانت الهوة عميقة، فقد كان الشرق يجهل اللاتينية، وكان اللاتينُ الغربيون يجهلون اليونانية ـ لغة البيزنطيين الشرقيين ـ لغة التراث والثقافة اليونانية العريقة؛ كذلك كان اللاتين في نظر البيزنطيين جهلاء غير مثقفين.
3 ـ وفي المجال الديني:
اختلفت عقيدة اللاتين عن البيزنطيين فيما يخص طبيعة الروح القدس الأقنوم الثالث في مثلث الألوهية النصراني، وكذلك اختلفت الطقوس والشعائر وشروط الكهنة ولباسهم.
ويمثل الفكر اللاهوتي للاتين حول الوحي القرآني أغزر إنتاج؛ بسبب طول الفترة التاريخية التي عاشها الفكر اللاتيني، والتي جاوزت أربعة قرون من الزمان لم تنته عمليًّا إلا بالانشقاق البروتستانتي عن كنيسة روما في القرن الخامس عشر الميلادي.
لذلك فقد شهدت مرحلة الفكر اللاتيني سيلاً من الكتابات وجيشاً من الأعلام لا يمكن بالقطع الوقوف إلا أمامَ أبرزها التي تمثل العلامات الفارقة والنقلات الواسعة والإسهامات الواضحة، خلالَ القرون الأربعة في تاريخ الفكر اللاهوتي اللاتيني، وهي:

(1) إمبريشو الماينزي Emdricho Von Mainz
يغلب على الظن أنه كان أسقف مدينة أوجسبرج الألمانية عام (457ﻫ) (1064م) حسبما يرى Lambert von Hersfeld.
وقد طرح رؤيته اللاهوتية في صورة شعرية بعنوان: Vita Mahumeti.
وفيها يقدم لحياة النبي صلى الله عليه وسلم معلومات تاريخية خاطئة، فيبدو فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليبيّاً ويعمل خادماً لأحد القناصلة هناك، ويلتقي بساحر شرير منفي إلى ليبيا، يجعله أداة لتنفيذ خطة محكمة للانتقام من المسيحية، فيساعد الساحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصل إلى منصب الملكية في ليبيا، ثم بواسطة خدعة ماكرة يحصل على إقرار الشعب بنبوته، وهنا يقوم الساحر بتلقين محمد ما ادَّعى أنه وحي قرآني، لكن محمداً لم يكتف بمرتبة النبوة المدعاة، ولكنه كان يطمح لرتبة الألوهية( ).
ويبدو بوضوح قدر الجهالة العلمية والفكرية والمعلوماتية التي تشتمل عليها تلك الرؤية اللاهوتية التي يجهل صاحبها مكان مولد محمد صلى الله عليه وسلم وحياته، ناهيك عن مضمون دعوته أو التوحيد الخالص الذي عرفت به رسالته.

(2) جيوبرت النوجنتي Guibert von Nogent
خصص جيوبرت رئيس دير نوجنت عام (498ﻫ) (1104م) الفصل الرابع من كتابه المعنون بـ: Gesta Dei Per Francos، للحديث عن الوحي القرآني، وفي هذا الفصل يكون محمد صلى الله عليه وسلم إسكندرياً يدخل في صراع حول تولى منصب أسقف الإسكندرية، وذلك بمساعدة زاهد إسكندري يلقنه ويعلمه تعاليم هرطقية يزعم أنها وحي إلهي، مع أنها ترفض التثليث ولا تقر بألوهية عيسى( ).
ويتفق جيوبرت في تفكيره اللاهوتي مع امبريشو في تصنيف محمد صلى الله عليه وسلم على أنه نبي كاذب يستعين بالحيلة على إثبات دعوى النبوة وتلقي الوحي، وذلك بواسطة البقرة التي تحمل القرآن على سبيل الإعجاز، ولكن يختلفان في شخصية معلم محمد صلى الله عليه وسلم، فبينما المعلم لدى إمبريشو راهب نسطوري، هو لدى رئيس دير نوجنت زاهد إسكندري.
(3) الأب بطرس الموقر Petrus Venerabilis :
قام الراهب الدومينيكاني الأب بطرس الموقر برئاسة دير كلوني بفرنسا وعمره ثلاثون عاماً، وظل قائماً بها من عام (516ﻫ) (1122م) وحتى وفاته (551ﻫ) (1156م)، وخلال تلك الفترة عمل جاهداً على تفعيل الدور الدومينيكاني في الدفاع عن المسيحية في داخل أوربا وخارجها، فقام بالعديد من المهام والأعمال لهذا الغرض؛ ومنها( ):
1 ـ الإشراف على أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية؛ لتكون أول لغة أوربية تقرأ بها معاني القرآن الكريم، واستقدم لذلك الغرض كلاً من:
ـ بيتر التوليودو Petars von Toledo
ـ روبرت الكيتوني Rubert von Ketton
ـ بطرس بواتييه Petrus von Powatie
ـ هرمان الدلماطي Hermann von Dalmatia
وجميعهم باستثناء الدلماطي (غير المعروف) من الرهبان والقساوسة( ).
2 ـ الزيارات والجولات داخل فرنسا وخارجها إلى إسبانيا؛ من أجل تأسيس فروع لدير كلوني، ومن أجل جمع المعلومات عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه، ومن أجل استقدام المختصين بمعرفة اللغة العربية والعلوم الإسلامية؛ لكونه كان جاهلاً بالعربية وعلوم الإسلام.
3 ـ نشر المؤلفات الجدلية ضد القرآن ونبيه، مثل:
ـ المجموعة المختصرة من الوثائق الشيطانية المضادة للطائفة الإسلامية الكافرة وهي تتضمن أو تحاكي كتاب عبد المسيح الكندي في الرد على الهاشمي.
ـ مقدمة روبرت الكيتوني القائم بالترجمة اللاتينية.
ـ (تعاليم محمد) لهرمان الدلماطي.
ـ تاريخ المسلمين (أخبار المسلمين المعيبة المضحكة).
ـ رسالة بطرس بواتييه ضد السرازنة .
4 ـ تأليف الكتابات الجدلية ضد القرآن، وهي:
ـ خطابه إلى صديقه Bernhard von Clairvaux
ـ ضد طائفة السرازنة.
ـ خلاصة هرطقة السرازنة.
وقد جاء رأي بطرس الموقر اللاهوتي في الوحي القرآني تسويغاً للعقيدة المسيحية ودفاعاً عنها في مواجهة الإسلام، ذلك الهدف الذي جعله بطرس الأولوية الأولى لعمله في العناية بترجمة معاني القرآن وما صاحبها من كتابات لاهوتية.
لذلك كانت ترجمته اللاتينية الأولى لمعاني القرآن الكريم إبعاداً لأي خاطر حول نبوة محمد أو إلهية مصدر القرآن، فاستُبعدت بإشرافه الألفاظ اللاتينية المعبرِّة عن التنْزيل الإلهي لكلمة الله من السماء، وحلت محلها عبارة: (Coelitus missus) بمعنى المرسل من السماء( ).
فهو ينفي تلقي محمد صلى الله عليه وسلم الوحي الإلهي، ويقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن، ومعلمه هو الراهب النسطوري سيرجيوس، وأنه ادَّعى تلقِّيه من السماء بواسطة الملك جبريل، ويُرجع تصديق العرب به لعدم معرفتهم بمثل محتواه العقدي من قبل.
وينتقل بطرس الموقر بالفكر اللاهوتي حول القرآن خطوة تجاه الموضوعية عندما يفترض معياراً يقاس به صدق الوحي القرآني الذي ادعاه محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهو امتلاك المعجزة، والقدرة على التنبؤ. إذ يسوق رئيس دير كلوني حججه على نفي كون القرآن وحياً إلهياً، والمتمثلة في خلوّ القرآن نفسه من معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أن محمداً لم يكن يستطيع التنبؤ بالأحداث وكشف المستور في الماضي والحاضر والمستقبل، ويستدل على ذلك بأنه قد هُزم في إحدى حروبه، ولو كان يتلقى وحياً إلهياً لَعَرَفَ بالهزيمة ولأمكنه تجنب المعركة.
وبغض النظر عما يشتمل عليه فكر بطرس الموقر من مغالطة بشأن خلوّ القرآن من المعجزات أو التنبؤات بالأحداث، حيث الشواهد على ذلك عديدة، فإن تلك الخطوة نحو الموضوعية قد تراجعت عندما صنف بطرس الموقر الوحي المحمدي في عداد الهرطقات النصرانية، ونسب تعلم محمد صلى الله عليه وسلم ذلك إلى الراهب النسطوري سرجيوس .
فالنص القرآني القائمة معانيه بين يدي الترجمة الكلونية اللاتينية لا تشي من بعيد أو قريب بمصدر تعليم نصراني للوحي المحمدي، بل تقطع بعدم تلقى النبي صلى الله عليه وسلم أي تعليم، فهو أميّ، وظلَّ أمياً حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، ونفى القرآن كذلك مزاعم المشركين في تعلمه من حَدَّاد روميّ، وجاء القرآن ببيِّنة البيان القرآني العربي الفصيح الذي لا يتأتى من أعجمي أبداً.
والتفسير المعقول لذلك النكوص من رئيس دير كلوني عن الخطوة التي خطاها نحو الموضوعية هو الفكر التسويغي المدافع عن العقيدة المسيحية، وذلك يختلف عن الفكر التأملي البرهاني القائم على الأدلة الصحيحة والحجج اليقينية.
(4) وليم الطرابلسي Williom von Tripolis
عاش وليم الطرابلسي الدومينيكاني في مملكة أورشليم في القرن الثالث عشر الميلادي إبان الحروب الصليبية، وقد صنّف كتابين صنع بهما اسما لامعاً في قوائم المبشِّرين، واحتفظت رؤيته اللاهوتية للوحي القرآني من خلالهما بقوة تأثير كبيرة على المؤلفات التبشيرية الدومينيكانية وغير الدومينيكانية حتى اليوم( ):
فكتابه الأول المعروف اختصاراً باسم ((الأمة المحمدية)) وعنوانه الكامل ((ذكريات عن محمد، وكتاب قوانينه القرآن ومحتواه، وما الذي قال عن ربنا يسوع المسيح))، وقد خصصه للإجابة عن ثلاثة أسئلة طرحها، وهي:
1 ـ مَنْ كان محمد، ومن أين جاءت عقيدته الضالة؟
2 ـ على أي نحو وبأية طريقة تم تأليف القرآن؟
3 ـ أية تعاليم دينية تضمنها القرآن، وأي العناصر المسيحية أخذها القرآن؟
أما كتابه الثاني المعروف اختصاراً باسم ((أحوال السرازنة)) وعنوانه الكامل: ((حول أحوال السرازنة وأحوال محمد نبيهم المزيف، وحول الشعب نفسه وقوانينه))، وقد أوقفه للجواب عن ثلاثية افتراضية من التساؤلات التي طرحها:
1 ـ مَنْ كان محمد القائد والمرشد والنبي الزائف للشعب المسمى بالسرازنة؟ ومن أين أتى؟ ومتى صعد إلى مكانته المرموقة بينهم؟
2 ـ كيف تضخمت قوة هذا الشعب واتسع نفوذه؟
3 ـ ما العناصر المسيحية التي تضمنها القرآن؟
(5) القديس توما الإكويني (622 ـ 673ﻫ) (1225ـ 1274م) Thomas von Aquin
أحد أكابر طائفة الدومينيكان، وقد عُيِّن مستشاراً للبلاط البابوي، ويعد أكبر مفكري الغرب في العصور الوسطى وأعظم فلاسفة المسيحية وأكثرهم تأثيراً في الكنيسة الكاثوليكية، وقد عرض خلاصة مذهبه اللاهوتي في كتابيه: ((الخلاصة اللاهوتية)) و((الخلاصة ضد الكفار))( ):
وتعد رسالته التي أوقفها للرد على الإسلام والمعنونة بـ (DeRationibus Fidei) أكثر خصوصية من كتابه ((الخلاصة ضد الكفار))، الذي ألفه استجابة لرغبة زعيم طائفة الدومينيكان؛ للاستعانة به في تبشير المسلمين، فجاء أشبه بكتب تعليم الرهبان الدومينيكان أسلوب التنصير ومسالكه ومسائله؛ لذلك جاءت هذه الرسالة أكثر تركيزاً وميلا إلى النـزوع الفلسفي والتسويغ العقلي لقضايا الاعتقاد، ذلك الاتجاه الذي عُرف به الإكويني ونال مكانته لدى الكنيسة، مما حدا بمؤرخي اللاهوت المسيحي إلى تثمينها عالياً على أنها تكشف عن موهبة غير عادية، وُضعت في أحدِّ وأجلى حالاتها، فأنتجت أبهى الأفكار اللاهوتية والفلسفية الملتزمة بالمبادئ التبشيرية التي وضعها الإكويني نصب عينيه مستدلاً بمقولة الرسول بطرس التي صدر بها هذه الرسالة: (قدّسوا الرب المسيح في قلوبكم، وكونوا دائماً مستعدين لأن تردوا على من يطلب منكم دليل ما أنتم عليه من الرجاء) رسالة بطرس الأولى (الإصحاح 3/15)( ).
وذلك على الرغم من أن رؤية توما الإكويني اللاهوتية للقرآن لا تعطي أي انطباع بأنه قد قرأ القرآن، أو اطلع عليه في أية لغة، خاصة في اللغة اللاتينية التي ترجم إليها وكانت معروفة في أوساط المفكرين والمثقفين اللاتين، كذلك لا يظهر بحال أن الإكويني كان من العارفين بالإسلام.
ويبدو أن جهل توما الإكويني بالقرآن هو ما جعله عَزوفاً عن طرح رؤية لاهوتية حوله إلى أن اضطر إلى ذلك استجابة لطلب رئيس طائفة الدومنيكان فكتب ((الخلاصة ضد الكفار))، واستجابة للتحدي الفكري الذي فرضَتْه التساؤلات والإنكارات الإسلامية على قضايا العقيدة المسيحية، تلك التساؤلات والإنكارات التي نقلها إليه كانتور الأنطاكي، فألَّف رسالته في الردِّ على السرازنة (المسلمين).
ويبدو كذلك أن جهل توما الإكويني المعرفي بالقرآن وعدم اطلاعه عليه كان السبب وراء تلك الرؤية اللاهوتية التي جاءت مخالفة تماماً ما سبقها وما تلاها من رؤى لاهوتية حول القرآن؛ إذ إن رؤيته اللاهوتية لا تصنف الإسلام بين الهرطقات المسيحية كما هو الدارج بين اللاهوتيين، ولا تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم متعلماً على يد راهب مسيحي، ولا تقدم القرآن على أنه نتاج لعملية تلفيق بين نصوص الكتاب المقدس وغيره من الأفكار والثقافات، وإنما تضع الإسلام خارج خارطة الأديان، وتحصره في دائرة الكفر والوثنية، وتقطع الطريق على القرآن كي لا يكون مستمداً من العناصر اليهودية والنصرانية، أو يكون قائماً على قابلية التفاعل الداخلي؛ لتحكم عليه بالوثنية وتحصره فيها وتعزله عن أي دور للوحي وتبعده عن أي مكان في دائرته( ).
وإلى جانب الجهل المعرفي بالقرآن لا يمكن إغفال المؤثرات الأخرى في تكوين الرؤية اللاهوتية لتوما الإكويني، مثل وظيفته التعليمية في البلاط البابوي التي فرضت عليه ضروباً معينة من المواقف والأفكار، وكذلك
رغبته الجامحة في تسويغ العقيدة المسيحية بالبراهين العقلية والفلسفية
والدفاع عنها في مواجهة الإنكار القرآني على العقائد المسيحية الأساسية خاصة ألوهية المسيح وبنوته وقتله على الصليب فداء للبشر، فدفعته تلك الرغبة إلى تأكيد أحادية الحقيقة وأحادية جهة التماسها لدى الوحي المسيحي وحده، دون دوائر الفكر الوثني، ولما كان الفكر اللاهوتي قبله قد جعل الوحي المسيحي رافداً من روافد القرآن، فإن ذلك يعنى لدى الإكويني تعدد مصادر الحقيقة وجهات التماسها، مما اضطره إلى حَشْر القرآن في دوائر الوثنية كي يبقى الكتاب المقدس في النصرانية المصدر الوحيد للحقيقة( ).
(6) الأب ريكولدوس دي مونت كروسيز Ricoldus de Monte Crucis (641 ـ 720ﻫ) (1243 ـ 1320م)
صاحب الحياة الطويلة والرحلات العديدة والخبرة الواسعة ببلاد العالم الإسلامي: الأندلس، فلسطين، أرمينيا، بغداد؛ حيث احتك احتكاكاً قوياً بالثقافة ومصادر التشريع وأسلوب المعيشة والحياة في الإسلام، وحيث أُنشئ دير الآباء الدومينيكان الذي ينتمي إليه في عكا ولم ينته دور الدير إلا بسقوط عكا عام (690ﻫ) (1291م).
وقد وضع رؤيته اللاهوتية للوحي القرآني في كتابه:
(Contra legem Sarracenorun) الذي ألّفه لتفنيد الديانة الإسلامية كي يجد المبشرون الدومينيكان الفرصة المواتية لتحويل المسلمين إلى دين المسيح( ).
وتتمحور رؤيته اللاهوتية للوحي القرآني حول البحث في مدى صحة الوحي القرآني وأصالته، وقد صاغ هذا البحث في صورة تساؤل محوري استغرقت الإجابة عنه صفحات كتابه ذي الفصول السبعة، وهو( ):
هل القانون الإلهي الحق في القرآن أم في الكتاب المقدس لدى النصارى؟
وينطلق في محاولة الجواب عن هذا التساؤل من فرضية كون القرآن (Konglomerat) خليطاً من التعاليم والهرطقات المسيحية وغير المسيحية؛ كي يفسّر الموقف القرآني من العقائد المسيحية الأساسية، مثل: التثليث، والتجسد، فيتفق مع توما الإكويني في أن هذه العقائد فوق مستوى العقل وغير قابلة للبرهنة العقلية.
ثم يدلل ريكولدوس دي مونت على عدم أصالة الوحي القرآني بأنه يخلو من ذكر معجزة لمحمد على العكس من معجزات عيسى المذكورة في الإنجيل.
ويضيف اعتراضاً على نفي صحة الوحي القرآني بأنه يخاصم العقل من أربع جهات:
ـ السلوك الأخلاقي غير القويم لمؤلفه محمد.
ـ الإطناب والإسهاب القرآني الذي يجعله عديم القيمة، إلى جانب صياغته الفاحشة.
ـ الممارسات العقدية في الإسلام مثل شعائر الوضوء للصلوات اليومية ومفهوم الزواج والطلاق.
ـ التصور القرآني للنعيم في الجنة.
ومن أدلة دي مونت على نفي صحة الوحي القرآني دعواه ـ أي دعوى القرآن الكريم ـ أن محمداً خاتم الأنبياء (Siegel derPropheten)، وكذلك تبكيته اليهود والنصارى لعبادتهم من سوى الله، وإنكاره ألوهية المسيح ورفضه عقيدة الصلب والفداء.
ويختم رؤيته اللاهوتية بمقارنة القرآن الكريم بالوحي الإنجيلي الذي وصفه بالخاتم والمحقق لبشارات ونبوءات الكتب السماوية السابقة، إلى جانب عالمية الإنجيل، وتوافقه مع التقاليد الفلسفية والفكر العقلي، مما يقطع بكونه وحده هو القانون الإلهي الحق.
ولا شك أن تلك الرؤية اللاهوتية لدي مونت تسترعي الانتباه؛ لأنها خطت بالفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني خطوات لم يدركها القديس توما الإكويني الذي ذاع صيته، وتبتَّل الكثيرون في محراب عقلنته للاّهوت المسيحي، فقد مسح دي مونت رؤيته بطابع عقلي؛ لذلك ثبَّت لأول مرة شبهة التعارض العقلي في القرآن دليلاً على عدم أصالة الوحي القرآني، كما جعل التوافق مع العقل والفكر الفلسفي جانباً من جوانب المقارنة بين القرآن والإنجيل.
وعلى الرغم من أن رؤية دي مونت اللاهوتية حول الوحي القرآني لم تتضمن شيئاً أصيلاً من جهة التصنيف والأحكام؛ لكونها جمعت بين الأفكار اللاهوتية الجدلية القديمة المثارة للطعن في الإسلام، إلا أنها قَدَّمت بناء أكثر فاعلية في إثارة الشبهات والمطاعن حول القرآن أكثر مما قدمه توما الإكويني، فهي تمتاز عن رؤية الإكويني بتلك الفاعلية، لكنها لم تختلف عنها في اعتمادها على سلسلة الأكاذيب والافتراءات المثارة حول الإسلام والقرآن وشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
كما أنها من جانب آخر جعلت من الوهم الشخصي والتصور الذاتي للمفكر معياراً للحق والحقيقة ومقياس الخطأ والصواب، وذلك إلى جانب المغالطات الفكرية والتاريخية التي اشتملت عليها، إذ غَضَّت البصر ـ مثلاً ـ عن المعجزات التي ذكرت في القرآن لتأييد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وختمه لسلسلة النبوات والرسل، مثل معجزة الإسراء والمعراج، ومعجزة تأييده صلى الله عليه وسلم بالملائكة في غزواته، وكذلك بعض البشارات والنبوءات مثل انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم، وأخيراً وليس آخراً تحدى النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالقرآن نفسه أن يأتوا بمثله أو عشر سور منه، أو حتى سورة واحدة من سوره.
(7) الكاردينال نقولا القوسي Nikolaus von Kues :
ألماني أنفق من عمره سنوات طويلة يجمع كل ما يجده عن الإسلام، وألف كتاباً بعنوان De Pace Fidei عبارة عن محاورة بين ممثلي أديان العالم الرئيسة، وكتب عام (865ﻫ) (1460م) كتابه الشهير (غربلة القرآن)، وانتهى فيه إلى أن القرآن مكوَّن من ثلاثة عناصر( ):
الأول: النصرانية النسطورية.
الثاني: مشاعر عدائية ضد النصرانية أدخلها المستشار اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: تحريفات أتى بها المصححون اليهود بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويُلاحظ أن تعديلا جوهرياً قد أُدخل على أسطورة تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فغدا المصدر اليهودي الحي مصدراً تعليمياً للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أُفسح المجال هنا لعملية تحرير وتصحيح يهودية لنصوص القرآن الكريم.
وليس هناك تصور لاهوتي أكثر سذاجة من تصور نقولا القوسي الذي جعل من المصححين اليهود لنصوص القرآن يغضون البصر عن أقسى المؤاخذات والتقريرات القرآنية للعقيدة والأخلاق اليهودية، وكذلك الانفلات والتحريف في مجال التشريع والكتب المقدسة.
لكن التصور اللاهوتي لنقولا القوسي يمثل من جهة أخرى نقلة جديدة في تاريخ الفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني، فقد اعتمد القوسي عبر صفحات كتابه ذي المجلدات الثلاثة رؤية تفسيرية للإلهيات القرآنية من خلال الإنجيل، جاعلا من الوحي القرآني مسألة نزاع بين المسيحية الغربية والهرطقة النسطورية، ومن نقده للقرآن نقداً للنسطورية ممثلة في الطائفة المحمدية، ومن ثم عمد إلى الاصطلاحات العقدية القرآنية يحمّلها مضموناً لاهوتياً مسيحياً، ويبحث للمفاهيم اللاهوتية النصرانية عن توكيدات ودلائل وقوالب قرآنية، مثل( ):
1 ـ المسيح عيسى كلمة الله ـ الروح
تصبح الاصطلاحات القرآنية ((كلمة الله))، ((الروح)) المسندة إلى المسيح عيسى لدى القوسي منصرفة إلى الشخص الثاني في الثالوث الإلهي المسيحي، وتحمل خصائصه على الرغم من أن تلك الاصطلاحات في القرآن بعيدة تماماً عن أية ظلال تأليهية للشخص الثاني أو الشخص الثالث في مثلث الآلهة النصراني.
فكلمة الله في القرآن هي كلمة الخلق الإلهي التي بها توجد المخلوقات من عدم، أو هي الوحي المنَزل من السماء إلى الرسل لإبلاغه للخلق، أو هي قضاء الله في مخلوقاته، أما الروح فهو الملك المرسل من الله لإبلاغ وحي، أو لتنفيذ أمر منه سبحانه.
2 ـ المسيح عيسى وجه كل الشعوب
يعتمد القوسي على خطأ ترجمة دير كلوني اللاتينية الأولى لمعاني القرآن، في ترجمة كلمة ((وجيهاً)) في قوله تعالى: ﮋ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﮊ [آل عمران: ٤٥].
إلى لفظ Facies بمعنى: وجه، فيصبح المسيح عيسى لديه ((وجه كل الشعوب)) في رباط وإيماء وإشارة إلى سفر مزامير داود 45/3:
((إنك أجمل بني آدم والظرف على شفتيك انسكب، فلذلك باركك الله للأبد)).
وإلى ما ورد في إنجيل متى 3 / 17:
((وإذا صوت من السموات يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت)).
3 ـ المسيح عيسى المرسل الإلهي الأكبر
يتحول المسيح عيسى لدى نقولا القوسي إلى ((المرسل الإلهي الأكبر))؛ استناداً إلى ترجمة دير كلوني الخاطئة لبشارة الملائكة لمريم في قوله تعالى: ﮋﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ * ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ * ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ * ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ * ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮊ [آل عمران: ٤٥ – ٤٩].
فقد ترجم روبرت الكيتوني الآية (45) على النحو التالي: يامريم سوف تشاركين كلمة الله بشرى المرسل الإلهي الأكبر (Summi nuntii)
ويسوق القوسي من الترجمة الخاطئة لبقية آيات البشارة الدلائل والبراهين المؤكدة لاصطلاح المرسل الإلهي الأكبر، فالكيتوني يترجم قوله تعالى: ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮊ [آل عمران: ٤٩]. هكذا: أني قد جئت متشحاً بقوة إلهية (Cum divina Virtute Venientem) فيجعل القوسي من هذه القوة الإلهية برهاناً على المرسل الإلهي الأكبر، وبهذه القوة يفسر معجزات عيسى المسندة إليه في آيات البشارة السابقة من تحويل الطين المصور إلى طير، ومن إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإنباء بالمغيبات، فيجعل تلك المعجزات أعمالاً إلهية الطابع، قام بها المسيح بالقوة الإلهية المتشح بها، وليس بانخراق العادات والقوانين الحاكمة للكون عن طريق التدخل الإلهي أمراً وفعلاً في الطبيعة؛ كي تتعطل تلك القوانين أو تنخرق على سبيل العمل المعجز، المؤيد لنبوة الأنبياء والرسل المبعوثين للبلاغ ولهداية أقوامهم.
4 ـ المسيح عيسى الوسيط والمخلص
سخّر الكاردينال نقولا القوسي خطأ روبرت الكيتوني المتعمد للفظ ((رسول)) في دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ *ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ * ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮊ [البقرة: ١٢٧ – ١٢٩].
فقد ترجمها إلى لفظ (Mediator) بمعنى وسيط فجعلها الكاردينال نقولا القوسي شهادة قرآنية لدور المسيح ((الوسيط)) بين الله والبشر في عملية الخلق، وعملية الفداء وفي مهمة الحساب يوم الدينونة.
والقوسي بذلك لا يكون قد اعتمد ترجمة خاطئة المعنى ومخالفة للبناء العقدي وجوهر التوحيد ومضمون الإلهيات في القرآن، لكنه تجاهل بوضوح معطيات علم الأنساب الحاسمة في إلحاق المسيح عيسى بجده لأمه إسحاق غير المعنيّ أو الحاضر في ذلك الدعاء، بل ربما غير المولود حتى وقت ذلك الدعاء، أما الحفيد المدعو له من أبيه الأبعد إبراهيم وجده إسماعيل أصل العرب المستعربة الذي ينتهي إليه نسب محمد صلى الله عليه وسلم وفق المقطوع به من معطيات علم الأنساب، فهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم العربي صاحب الكتاب العربي المبين. من جهة أخرى يتغاضي القوسي عن الرفض القرآني القاطع لأي شكل من أشكال الوساطة بين الخلق والخالق سواء في الدنيا أم في الآخرة، فالخلق يأتون ربهم للحساب يوم القيامة أفراداً؛ حيث لا يخلص أحد إلا بفضل الله تعالى ثم بعمله في دار التكليف.
أما في الدنيا فلا يحمل أحد وزراً عن أحد أراد ذلك أم لم يرد،
فالكل قد أُلزم طائره في عنقه.
5 ـ التوحيد والتثليث
يرى القوسي أن محمداً رغم أنه كان متيقناً في نفسه أنه داعية توحيد مطلق وصارم، كما يبدو من سورة ((الإخلاص))، وكما يبدو من إنكاره على المكيين عبادتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ومن تبرئه من عبادات المشركين ومعبوداتهم في سورة ((الكافرين))، فإن القرآن الكريم في تصور القوسي قد أقرّ بعدة آلهة، هي: الله، والروح، والكلمة، ويرجع القوسي السبب في اتهامه القرآن بالقول بعدة آلهة إلى أنه لم يقل بالتثليث، فلو كان قد قال بالتثليث أو سكت عن رفضه؛ لأمكن الجمع والتأليف بين تلك الآلهة الثلاثة!
ولا شك أنه ما من سبيل لتفسير أو تسويغه ذلك التعسف في التأويل، وكذلك التجاهل المتعمد للأصل القرآني العربي الذي احتك به القوسي في اللغة العربية التي عاش بين أهلها وقرأ بها عديداً من المؤلفات، ولجوئه في الآن نفسه إلى ترجمة دير كلوني التي قام بها روبرت الكيتوني تلك الترجمة اللاتينية المشوهة!!

المطلب الرابع
الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي البروتستانتي

اللاهوت البروتستانتي أوضح مراحل اللاهوت النصراني من جهة تعيين تاريخ ظهوره، وظروف نشأته، والفوارق بينه وبين اللاهوت الكاثوليكي والأرثوذكسي، ويرجع ذلك إلى الإعلان المدوِّي الذي بدأ به مؤسسه مارتن لوثر حركته الإصلاحية في (1/10/923ﻫ) (31/10/1517م) بالاعتراضات الـ 95 على كنيسة روما التي قام بلصقها على باب كنيسة قصر فيتنبرج بألمانيا، ثم بتصريحه عام (925ﻫ) (1519م) أن ((البابا هو المسيح الدجال)) الذي ترتب عليه قرار حرمان لوثر من حقوقه السياسية والدينية والاجتماعية.
لكن اللاهوت البروتستانتي لم يتميز على الإطلاق بشيء عقدي عن شقيقه الكاثوليكي أو عن الأرثوذكسي الغريم التقليدي للاَّتين.
وذلك لأن مارتن لوثر لم يقصد إنشاء لاهوت جديد، أو تأسيس كنيسة جديدة، ويظهر ذلك من جانبين( ) :
أولهما: عدم مخالفته الكاثوليك في شيء من أصول العقيدة: التثليث، والصلب والفداء، الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية للمسيح مع المشيئتين، طبيعة الروح القدس وانبثاقه من الآب والابن معاً.

الثاني: حصر جميع مسائل الخلاف بينه وبين الكاثوليك في مجال الطقوس وأسرار الكنيسة، باستثناء قانون الكتاب المقدس الذي وافق فيه اليهود ورفض زيادات الكاثوليك، وبذلك يكون الخلاف بين اللاهوت البروتستانتي والكاثوليكي حول:
1 ـ الاعتقاد في عصمة البابا وقداسته التي رفضها لوثر.
2 ـ الاعتقاد في تحول الخبز والخمر في العشاء المقدس إلى جسد المسيح، ودمه، ونفسه، ولاهوته، حقيقة وواقعاً وجوهراً، وهو ما يعتقده الكاثوليك.
3 ـ صكوك الغفران الكاثوليكية.
4 ـ عدم سماح كنيسة روما إقامة الطقوس والصلوات بغير اللاتينية، فقام لوثر بترجمة الكتاب المقدس للألمانية ليتسنى الصلاة بها.
5 ـ رفض الكاثوليك زواج رجال الدين، فما كان من لوثر إلا الزواج من الراهبة كاترينا بورا استهزاء بأساقفة روما.
وقد أودع مارتن لوثر تصوره اللاهوتي للوحي القرآني في كتابيه الصادرين عام (936ﻫ) (1529م): ((الموعظة الحربية ضد الأتراك))، ((من الحرب على الأتراك))، وكذلك في مقدمة نشرته لكتاب ريكولدو دي مونت ((ضد السرازنة)) وفي تقديمه لنشرة من ترجمة دير كلوني اللاتينية للقرآن، وينتهي ذلك التصور المبني على الربط الوثيق بين عناصر الوحي والنبوة والكهنوت والرؤى الأخروية إلى أن( ): المسلمين هم عصا الرب وخدام الشيطان، وذلك بعد أن قيّم الإسلام عام (923ﻫ) (1517م) كعقوبة إلهية.
ومع أنه يتنصل من سياسة الحروب الصليبية إلا أن كتابات مارتن لوثر حول الإسلام كتابات سياسية، فهو لم يتعامل مع الإسلام كمشكلة دينية، بل كمشكلة سياسية؛ لذلك جاء تقييمه اللاهوتي للإسلام استناداً إلى الحكم والرؤى الأخروية في الكتاب المقدس على أنه قوة آخر الزمان الشريرة، التي هي أداة من أدوات المسيح الدجال، وقوة الإسلام دنيوية شريرة وليست قوة روحية.
وهو يربط بين الإسلام وبين بابا الفاتيكان، ففي تصوره اللاهوتي أن المسيح الدجال قابع في روما يشق صفوف الكنيسة، والإسلام هو المؤذن به، كما أن الإسلام يقوم بدور مماثل للبابا وإن كان يفوقه، فالشيطان يحاول من خلال أداته المسلمين ليس فقط حكم العالم الأرضي، بل كذلك مملكة المسيح ومقدساته، ويعمل أيضاً على شق صفوف أعضاء كنيسته.
لكن يبقى لديه أن البابا هو العدو الأكبر للمسيحية وليس محمداً، لأن محمداً كان أغلظ وأخشن من أن يعكر صفو العقيدة أو العقل، كما أن شيطانه طفل لا يقدر على ذلك.
وفي إطار ربطه اللاهوتي بين عناصر الوحي والنبوة والكهنوت والرؤى، فإن تصوره للقرآن جاء قاسياً، فقد تبنى اثنين من التصورات الخرقاء حول الوحي القرآني مما شاع في أدبيات الفكر اللاهوتي، وهما:
الأول: أن الشيطان هو محرِّض محمد، والقرآن عمل الشيطان، وقد تبنّى تلك الخرافة؛ ليقطع الطريق أمام أي تصور يرى في القرآن أنه كلام الله، وأن الوحي الإلهي هو مصدره، وأنه نفسه إعجاز جاء لتأييد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني: انتشار الإسلام بالسيف وليس بقوة القرآن الروحية، فالإسلام قوة دنيوية شيطانية لا تزعج فقط المسيحية لكنها تزعج كذلك أديان العالم كلها.
ويستند التصور الثاني لدى لوثر على شبهة كون القرآن لا يراعي الحياة الروحية حتى في الزواج مثلاً يسمح بتعدد الزوجات ومعاشرة الإماء، مما يتنافى مع الروحانيات.
ثم يمضى لوثر في تصوره اللاهوتي واضعاً لأول مرة معياراً للتفرقة بين الديانة المسيحية والقرآن، ألا وهو (الأمانة المقدسة) عقيدة الإيمان النصراني التي تنص على: الإيمان بالرب يسوع المسيح المولود من العذراء مريم، الذي قتل وصلب على عهد بيلاطس الأنطاكي، وقام من قبره بعد ثلاثة أيام وصعد إلى يمين أبيه في السماء، وسيأتي ليحاسب الأحياء والأموات.
فهذه الأمانة التي باعتقادها يصبح المسيحي مسيحياً؛ تبرز الخلاف الجليّ بين المسيحية والقرآن، إذ إن القرآن على الرغم من تقديره لمريم والمسيح بكونهما دون خطيئة، وأنه نبي مرسل مثل يوحنا (أي يحيى عليه السلام)، فإن ذلك لا يعارض رفضه لبنوَّة المسيح لله، ومحاسبته البشر، وصلبه وقيامته من الموتى لأجلهم، فإن هذا الرفض القرآني لتلك العقائد إلى جانب تعارضه الصريح مع قانون الإيمان المسيحي، فإنه يعني من جانب آخر رفض القرآن الحاسم كون المسيح هو المخلص، والفادي، والملك، وغافر الذنوب.
ويمكن القول ـ باطمئنان ـ إن فكر لوثر اللاهوتي حول القرآن الكريم، يمثل حداً فارقاً في تاريخ الفكر اللاهوتي، إذ إن لوثر قد فصل بوضوح بين القرآن والنصرانية من جهة الارتباط المصدري الذي دأب عليه مفكرو اللاهوت قبل لوثر؛ حيث درجوا على تصنيف القرآن كامتداد للاهوت النصراني.
والأساس الذي بنى عليه لوثر هذا الفصل هو اختلاف جوهر البناء العقدي وروحه في القرآن عن حقيقة الاعتقاد المسيحي كما تنص عليه عقيدة الإيمان النصراني وما يترتب عليها.
لكن السؤال الذي يرتبط بملاحظتنا تلك على التصور اللاهوتي للوثر: هل كان موقف لوثر اللاهوتي من الوحي القرآني موقفاً حراً نابعاً من مقررات العقل، ونتاج الفكر والتأمل وخلاصات التحليل والمقارنة، أم أن ذلك الموقف كانت وراءه دوافع أُخَر قادت إليه؟
للأسف لم يكن موقف لوثر اللاهوتي نابعاً من مقررات العقل، ونتاج الفكر والتأمل، وخلاصات التحليل والمقارنة التي شُهرت عن البروتستانت؛ إذ إن لوثر رغم أنه كان موضوعياً أكثر من القديس توما الإكويني الذي بنى موقفاً لاهوتياً عن القرآن رغم عدم اطلاعه عليه، فإن اطلاع لوثر على القرآن ودراسته لم تزده إلا عداء للوحي القرآني، ذلك العداء الذي برز في أمرين ( ):
أولهما: نشره وترجمته للألمانية بتقديم منه كتاباً معادياً للقرآن وهو كتاب ريكولدو دي مونت (ضد السرازنة) عام (949ﻫ) (1542م)، الذي يفهم من مقدمته أنه قام به بعد قراءته الحديثة جداً لنسخة من ترجمة دير كلوني اللاتينية لمعاني القرآن الكريم. التي صدرت إحدى طبعاتها بمقدمة مارتن لوثر نفسه عام (950ﻫ) (1543م).
وتفسير العداء من وراء نشره هذا الكتاب يكمن في عدوله عن ترجمة ونشر كتاب آخر أفاد منه في بناء تصوره اللاهوتي، وهو كتاب الكاردينال نقولا القوسي (غربلة القرآن)، الذي يقرب القرآن من النصرانية من جهة الجسور الروحية والمصدرية التي تربط بينهما بحسب رؤية القوسي.
الثاني: تصريحه بخلاصة موقف لاهوتي جازم من الوحي القرآني بوصفه القرآن الكريم بأنه: كتاب ليس له مثيل في اللعنة والخزي والإزعاج، فهو مليء بالأكاذيب والخرافات والمعايب.
فإذا ما بحثنا عن تفسير لعداء لوثر اللاهوتي للوحي القرآني، لا نجد سوى عاملين نفسيين؛ عامل داخلي يتمثل في عدائه وصراعه ضد البابوية في روما، فقد جعله ذلك الصراع معها يصورها على أنها الشر الأكبر، ومن ثم يلحق بها أية رؤية عقدية أو دينية تخالف رؤيته.
أما العامل الخارجي فيتمثل في الضغط العسكري العثماني على أوربا؛ حيث كانت الجيوش العثمانية على مقربة من الحدود الألمانية، بعد سقوط المجر في أيدي الخلافة العثمانية.

المطلب الخامس
الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي الكاثوليكي

اللاهوت الكاثوليكي هو الامتداد الطبيعي للاهوت اللاتيني، لكن المجمع التريدنتي (952ﻫ) (1545م) أنشأ الكثلكة المعاصرة بقيادة كنيسة روما ومقرها الفاتيكان ذات الطابع المميز لأتباعها في مقابلة البروتستانية والأرثوذكسية، وبذلك استقل الكاثوليك عن الروم الأرثوذكس وعن البروتستانت في العقيدة الإيمانية، وفي قانون الكتاب المقدس، وفي التقاليد الرسولية، وفي حقيقة التسويغ أمام الله بالنعمة اليسوعية وليس بأعمال الشريعة وحدها، وفي الأسرار الكنسية السبعة، وفي تحول العشاء المقدس إلى جسد المسيح ودمه ونفسه ولاهوته، حقيقة وفعلاً وجوهراً، وفي الكهنوت ونظامه، والزواج ونظامه( ).
واللاهوت الكاثوليكي هو امتداد للفكر اللاهوتي اللاتيني، مُعَبَّراً عنه في مقالات ومواقف كنسية تحمل الطابع الكهنوتي الرسمي، من خلال المجامع الكاثوليكية والمراسم البابوية لبابا روما المعصوم خليفة بطرس الرسول.
فقد تبنّى الكاثوليك في المجمع التريدنتي (952 ـ 971ﻫ) (1545 ـ 1563م) ـ الذي انفصلت به الكنيسة الكاثوليكية عن البروتستانتية رسمياً ـ تعاليم الآباء اللاتين كأنها صادرة عن لسان المسيح، أو مملاة من قبل الروح القدس، ومحفوظة في الكنيسة الكاثوليكية بتعاقب متواصل( ).
وقد استقر الفكر اللاهوتي الكاثوليكي بدون استثناء على أن المسيحية هي الديانة الوحيدة الحقة الموحى بها من السماء، أما الإسلام فهو ديانة وضعية مقطوعة الصلة بالوحي الإلهي، ذات كتاب ملفق( ).
لذلك لم يستطع الفكر اللاهوتي الكاثوليكي الفكاك من أَسْر تصورات وطروحات مفكري اللاتين وأحكامهم السابقة وقوالبهم المصكوكة والموروثة عن أساطير الرؤية اللاهوتية ليوحنا الدمشقي حول الوحي القرآني، على الرغم من التحول الذي طرأ على فكر الكنيسة الكاثوليكية، والذي ارتدت من خلاله محاولة الانفتاح الديني والثقافي والعلمي على الفكر الآخر غير الكاثوليكي المسيحي خاصة وغير المسيحي عامة.
فبعد أن استقر الفكر اللاهوتي الكاثوليكي قروناً طويلة على أن ((الكنيسة الكاثوليكية تمتلك وحدها الحقيقة))( )، وأن الطريق إلى الله محصور في الكاثوليكية بحسب المبدأ الذي أرساه القديس أوغسطين ((لا خلاص إلا عن طريق الكنيسة الكاثوليكية))( ). جاء المجمع الفاتيكاني الثاني عام (1385ﻫ) (1965م) في رأي الغرب بما يشبه ((ثورة كوبرنيكس)) على حد تعبير المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون( )؛ إذ أسس المجمع إدارة لشؤون غير المسيحيين، وانفتح المجمع على الآخر غير المسيحي من خلال فقرتين من فقرات مقررارته خصتا الإسلام بالتحديد:
الفقرة الأولى نصت على أن: ((مشيئة الخلاص الإلهي تشمل كذلك أولئك الذين يؤمنون بالله الخالق، ومن بينهم المسلمون ـ خاصة ـ الذين يؤمنون بإبراهيم، ويعبدون معنا الإله الواحد الرحيم الذي سيحاسب الناس يوم القيامة))( ).
والفقرة الثانية جاء نصها: ((تنظر الكنيسة بعين التقدير كذلك إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الصمد الرحيم القدير خالق السموات والأرض، الذي تكلم إلى البشر))( ).
لكن المتأمل في فحوى الفقرتين وما تلاهما من مواقف وبيانات كنسية لن يجد في الأمر ((ثورة كوبر نيكسية)) ولا ثورة نيوتونية، فمعالجة الفقرتين للإسلام كانت واضحة في:
1 ـ عدم الاعتراف بالإسلام بوصفه ديناً، فعالجت المسألة الإسلامية على أنها مسألة كيان وجماعة إنسانية اجتماعية، وليست أتباع دين سماوي.
2 ـ عدم الإقرار أو الإيحاء أو الإشارة إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بوصفه نبياً أو رسولا سار على درب النبوة المعروف في العهدين الجديد والقديم، وجاء خاتماً للرسل في أعقاب عيسى عليه السلام.
3 ـ عدم الشهادة للوحي القرآني بأنه وحي إلهي أصيل تلقاه نبي الإسلام محمد بن عبد الله من السماء بطرق الوحي الصحيحة.
وكذلك البيانات والإيضاحات الكنسية التي تلت صدور الفقرتين، والتي تضمنها أهم كتاب كاثوليكي صادر عن كنيسة روما بإشراف البابا يوحنا بولس الثاني بعنوان Kathechismus der Katholischen Kirche عام (1414ﻫ) (1993م).
فقد نص بيان الكتاب الأساسي الخاص بالوحي على أن: العقيدة المسيحية لا تستطيع أن تقبل (تجيز) أيَّ نوع من الوحي يقابل أو يفوق الوحي الذي تمَّ في المسيح، كالوحي الذي تأسست عليه بعض الديانات والطوائف غير المسيحية ( )؛ لأن الله لم تعد لديه كلمة أخرى يعطيها بعد أن أرسل ابنه المسيح الذي هو كلمته، فكل ما تكلم به للأنبياء قطعة قطعة قاله في ابنه الذي إن سُئل بعده رؤية أو وحياً فإن ذلك لن يكون حماقة فقط، بل يكون سَبّاً لله ( ) .
كما أن الأب روبير كاسبار المستشرق والمنصِّر واللاهوتي المعروف، وأستاذ الدراسات الإسلامية والمستشار البابوي لشؤون غير المسيحيين، والذي كان مسؤولا عن إعداد مسودة الفقرات الخاصة بالإسلام لعرضها على المؤتمرين في المجمع الفاتيكاني، قد بيّن في لحظة مصارحة مع النفس أن تطبيق معايير الوحي الإلهي على الوحي القرآني تثبت أنه في الجملة وحي إلهي صحيح تلقاه محمد من خلال الهالة النبوية( ).
ثم عاد في الصفحة التالية؛ ليتدارك تلك المصارحة معبراً عن الرأي اللاهوتي الرسمي للكنيسة الكاثوليكية تجاه الوحي القرآني، بقوله:
لن يسمح التلفيق القرآني والخفة في الدين بإدراج القرآن في إطار كلمات الوحي الإلهي الصحيحة( ).
وكذلك عندما أبدى بعض المنصفين الكاثوليك ممن درسوا الإسلام بعمق مثل المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل A. M. Schimmel الامتعاض من العداوة المسيحية الموروثة ضد الإسلام التي ولّدت هجوماً متواصلاً، وسوء فهم متعمد ضده. ومثل البروفيسور الكاثوليكي هيرمان شل Herman Sehell الذي صرح بأن الإسلام يجب أن يقارن بالمسيحية من جهة التقدير لتأثيره في الإنسانية وقيمته الدينية ورسالته العالمية. جاء الرد الكنسي من كلية اللاهوت الكاثوليكي بمدينة بامبرج الألمانية من خلال مجلتها Bamberger Pastoralblatt التي يصدرها أساتذة الكلية القساوسة؛ إذ لا تسمح الكنيسة أن يتولى منصب الأستاذية في كليات اللاهوت إلا القساوسة:
((لا يصدق المرء عينيه عندما يقرأ مثل هذا الكلام، لأنه يشبه الهجوم على المسيحية لا الدفاع عنها، فالحقيقة الموضوعية أن الإسلام ما هو إلا خليط من تعاليم اليهودية والنصرانية والوثنية والدعاوى التعسفية، جمع ذلك الخليط دون أي نظام إلى جانب سيل من الأكاذيب والخرافات))( ).
ومما يؤكد سلامة تحليلنا لنصوص المجمع الفاتيكاني بشأن الإسلام خاصة والديانات الأُخر عامة، ما تضمنته مقررات المجمع نفسه من نصوص حول العمل التبشيري الذي تضطلع به الكنيسة الكاثوليكية، تلك النصوص التي قام على تحليلها القس الكاثوليكي البروفيسور جوزيف هاسن فوس Josef Hasenfuss منتهياً إلى أن المجمع قد صاغ ـ في الحقيقة ـ نصاً لتكريس عالمية الكنيسة الكاثوليكية وعالمية رسالتها التي وهبها لها المسيح لتحقيق الخلاص الإلهي بواسطته، لذلك تجد الكنيسة نفسها ملزمة بواجب إبلاغ جميع الشعوب بأن طريق المسيح هو طريق الحقيقة والخلاص، وأنه لا معنى لموته وآلامه على الصليب دون شمول ذلك الخلاص جميع البشر، ودون إبلاغ توصيل تلك الرسالة إلى جميع الخلائق بواسطة الكنيسة الكاثوليكية؛ لأن خطة الخلاص الإلهي لن تتحقق بفعل التخلية بين الإنسان وبين ضميره وبواعثه الداخلية، ولا بين الإنسان وبين تعاليمه الدينية الخاصة به، فقد يسعفه ذلك وقد لا يسعفه، إنما يجب أن يضاء له طريق الخلاص والاستعداد لتلقي الإنجيل بواسطة الكنيسة الكاثوليكية ( ).
وذلك يجعل من الادعاء بوجود تحوّل في الفكر اللاهوتي الكاثوليكي تجاه الوحي القرآني أو الإسلام عامة ضرباً من تزييف الحقائق، أو خطاً مقصوداً في قراءة المحكم من النصوص والبيِّن من الأحكام، لهذا لخّص القس الكاثوليكي البروفيسور جوزيف هاسن فوس Josef Hasenfuss في أعقاب المجمع الفاتيكاني في دراسته الهامة ((الكنيسة والأديان)) موقف اللاهوت الكاثوليكي من الوحي القرآني في الخلاصة اللاهوتية التالية:
إن القرآن قد مهّد له أنبياء مثل موسى وعيسى وغيرهم، وختم بواسطة محمد الذي يدعي ختام الوحي الإلهي إلى البشر بواسطته، والذي أقام ديانة طبيعية خلطها بالاعتقاد في الله رب العالمين من خلال التأثير اليهودي والنصراني، فقاد العرب إلى ديانة توحيدية، على أساس نزعة تلفيقية لفقت بين ما استعاره من تعاليم الوحي في اليهودية والنصرانية وبين ما استعاره من ميراث الحكمة والقانون والشعائر والتصوف الديني الفارسي واليهودي( ).

خاتمة ونتائج

لقد مر الفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني بعدة مراحل وأطوار تنوعت خلالها المعطيات الفكرية، والثقافية، والجغرافية، والدينية، المؤثرة في بنية هذا الفكر لكن ظلت المعالم الأساسية المميزة لهذا الفكر والمكونة لهيكله تتمثل فيما يلي:
أولاً:
استناد هذا الفكر في بنائه إلى أسطورة تعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على يد راهب أريوسي، تلك الأسطورة التي ابتدأها يوحنا الدمشقي صاحب التصورات اللاهوتية الأولى حول الوحي القرآني، ثم غدت نظرية أساسية في الفكر اللاهوتي النصراني منذ يوحنا الدمشقي حتى عصرنا الحديث، وذلك على الرغم من التطور العلمي الكبير الذي شهده العالم النصراني في حقل مناهج البحث، ورغم الوسائل والأدوات العلمية وكذلك المصادر والمراجع والمخطوطات، وإمكانات المقابلة والمقارنة بين النصوص ومحتوياتها، التي توافرت للباحث العلمي المعاصر، والتي تقطع جميعها بأن تلك كانت مجرد أسطورة غرضها التشويه، لكنها تفتقر إلى أي سند علمي يؤيدها أو يُرَجِّحها أو حتى ينقلها من مربع الأسطورة إلى مربع الغرض العلمي ذي الحاجة إلى البرهنة والاستدلال.
ثانياً:
تألَّف الموقف اللاهوتي من الوحي القرآني بدافع محاصرة الدين الجديد ومحاولة وقف انتشاره؛ لأن علماء اللاهوت رأوا فيه الخطر الداهم والتهديد الأكبر لسلطة ومشروعية الوحي النصراني التي استمدها من دعوى كونه الحلقة الأخيرة في سلسلة الوحي الإلهي التي جاءت ناسخة للوحي اليهودي وجعلته (العهد القديم)، ومؤسِّسة للوحي النصراني ((العهد الجديد)) الذي هو كلمة السماء الأخيرة إلى الأرض متجسدة في عيسى المسيح.
ثالثاً:
ربط الفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني بين الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم في حزمة واحدة تجمع الثلاثة معاً، وذلك بتصنيف الإسلام ضمن تاريخ الهرطقات النصرانية، فالإسلام هرطقة نصرانية، ابتدعها نبيُّه الزائف الطامح إلى رئاسة دينية كبرى، وكان طريقه إليها التلفيق بين العناصر الدينية اليهودية والنصرانية بصورة أساسية إلى جانب العناصر الدينية الأخرى وتأليف القرآن الكريم من بينها، بمساعدة راهب نصراني ينتمي إلى أحد المذاهب الأساسية في النصرانية التي تبنَّت القول ببشرية المسيح، مثل الدعوة الأريوسية أو المذهب النسطوري والمدرجة في قائمة الهرطقات الكبري في تاريخ اللاهوت النصراني.
رابعاً:
تأسس الفكر اللاهوتي في بواكيره الأولى على الآراء المستقاة من معلومات الرحالة النصارى إلى بلاد الإسلام وليس على مصادر الإسلام سواء أكانت مصادر التشريع والتلقي (القرآن والسنة) أم المؤلفات العقدية والتاريخية والفقهية. ولم يكن ذلك عجزاً عن الاطلاع بسبب عدم وجود نسخة مترجمة من معاني القرآن الكريم، فإن ذلك المسوِّغ قد زال بظهور الترجمة اللاتينية بدير كلوني عام (538ﻫ) (1143م)، ومع ذلك فقد استمر الاعتماد على الخرافات والأساطير والأفكار التي تمليها العواطف العدائية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك الرؤية اللاهوتية حول الوحي القرآني لرجل في مثل وزن القديس توما الإكويني الذي لم يطلع على القرآن الكريم قط، ومع هذا صنفه في عداد كتب الوثنيين.
ولا يمكن بالقطع التغاضي عن أن دواعي الإنصاف والتجرد العلمي والفكري تفترض الفحص والوقوف المتأمل أمام المقالات الأصلية للمخالف محل النقد، خاصة إذا ما تعلق الأمر بأحكام دينية تخرج عالماً بأكمله من دائرة الإيمان والوحي السماوي، فعالم الأحكام الدينية واجب الخضوع لقانون الصدق في القول والإخلاص في العمل.
خامساً:
تغيرّت الأساليب، وطرق التصنيف، ووسائل البحث، ومصادر المعلومات عن الإسلام عبر مراحل الفكر اللاهوتي حول الإسلام، ولكن بقي المنظور اللاهوتي حول القرآن واحداً لم يتغير في الادعاء أنه كتاب غير رباني المصدر، تكثر التكهنات حول مصدره الأساسي: ما بين قائل بالمصدر اليهودي، وقائل بالمصدر النصراني، وقائل بالمصدر الوثني، والمجمع حوله في الفكر اللاهوتي أنه عديم الفائدة للنصرانية؛ لأنه لم يتضمن شيئاً جديداً بالنسبة لها.
سادساً:
لقد ظلَّت رؤية الفكر اللاهوتي للوحي القرآني واحدة عبر مراحل الفكر اللاهوتي المتعدده مع الاختلاف في التفاصيل، فقد ظل محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير حقيقي لم يتلق وحياً إلهياً، وجاء كتابه تلفيقاً وتوفيقاً بين العناصر اليهودية والنصرانية، ولم تسد هذه الرؤى مجالات الفكر اللاهوتي فقط، بل انتقلت إلى الفكر النصراني عامة، وألَّفت الوعي الثقافي والعلمي في العالم المسيحي، ووجَّهت كذلك الأنشطة البحثية والدراسية في الغرب، كالاستشراق الذي يمثل الامتداد الطبيعي للفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني.
يقول الألماني أودو شيفر Ude Schaefer: ((لقد سادت مجالاتِ بحوث النقد التاريخي صورةٌ للإسلام محملة بأسوأ المعايب، يبدو فيها النبي محمد محتالا ورجل حرب معدوم الضمير، وهناك محاولات لتغيير هذه الصورة تدريجياً نحو الموضوعية، وذلك بتقديم الإسلام في غلاف يهودي نصراني، واستمر ذلك في بحوث القرن التاسع عشر من خلال الهجوم على سيرة النبي وعلامات نبوته بتصنيفه سياسياً أنانياً محتالا، وتصنيف القرآن كخليط هزلي من التراث الديني لليهودية والنصرانية، وفي قرننا هذا ظلت قناعة البحوث في الإسلاميات أن محمداً كان مريضاً بالصرع.
وهكذا فإن صورة الإسلام في الغرب ما زالت متجذرة بالفهم المغلوط والأحكام المصوغة منذ العصور الوسطى، ولا نكاد نعدم في وقتنا المعاصر محاولات إعادة الصورة العدائية للإسلام، وتقديمه كعدو جديد للغرب))( ).
وهذا ما يؤكده كريستيان ترول Christian Troll في بحثه المعنون بـ ((الإسلام في تصور اللاهوت الكاثوليكي))( ):
((إن الإصلاحيين في القرن السادس عشر بقوا أسرى المنظور المعتاد حول الإسلام، ولم يأت مفكرو عصر التنوير بجديد على الصورة المعتادة؛ لذلك كانوا إذا صدرت عنهم مقالة إيجابية عن الإسلام كانت تأتي على الصورة التقليدية الدينية المسيحية، فقد اتبعوا في الأساس طرائق الهجوم المسيحي على الإسلام في العصور الوسطى وروحه، وإن اتخذ هجومهم صورة البحث العلمي للإسلام، فإن هذا البحث قد سلك طريقة النقد التاريخي في دراسات العهد القديم والجديد، وبات الحكم اللاهوتي على الإسلام رهين نتائج تلك الطريقة)).
سابعا:
إن التصورات اللاهوتية المختلفة حول الوحي القرآني قد نبعت من الرؤية اللاهوتية للدمشقي أو بتأثير من أسطورة الراهب معلم محمد صلى الله عليه وسلم بدون استثناء يذكر( ).
والتعبير بلفظ أسطورة التي لا يناسب مجالها بحال مجال البحوث العلمية والدراسات الفكرية الباحثة عن الحقيقة، ولا مجال الأحكام الدينية التي تتحرى الصدق والأمانة. هذا التعبير قد جعله (ر. جوت هايل R.Gottheil) عنواناً لحكايات النصارى ومقالاتهم المؤلفة بالعربية والآرامية التي جمعها حول دعوى تعلم محمد صلى الله عليه وسلم على يد راهب مسيحي( )، بما يمكن معه تلخيص الفكر اللاهوتي حول القرآن بأنه ((فكر الأسطورة)). والغريب أننا افتقدنا لاهوتياً حراً، أو مفكراً عقلانياً أو باحثاً موضوعياً، يتصدى لمحاولة تنقية الفكر اللاهوتي حول القرآن الكريم من عالم الأساطير المسيطر عليه، مع أن الدراسات اللاهوتية في الغرب قد عرفت تجربة العلامة الألماني رودولف بولتمان Rudolf Bultmann صاحب مشروع تنقية العهد الجديد من عالم الأساطير والخرافة المسيطر عليه ( ) .
ثامناً:
لم يكن الاعتماد على الخرافة والأسطورة في تأسيس الفكر اللاهوتي حول الوحي القرآني بدافع النقص المعرفي في مصادر المعلومات، وإنما كانت تُوظَّف لخدمة هدف آخر يشرحه لودفيج هاجمان Ludwig Hagemann أستاذ الدراسات الإسلامية بألمانيا، قائلا: ((الخرافات الشعبية حول محمد ونشأة الإسلام لم تقف عند حد، وكل تلك الأساطير التقليدية كانت تخدم هدفاً دعائياً واضحاً، وهو قطع الطريق أمام التفكير في أصالة الديانة الجديدة ومصداقيتها؛ لتبقي دائماً في إطار الهرطقات المسيحية المختومة بخاتم التزييف والتزوير، وعلى ذلك تكون دعوى الوحي القرآني ومصدره الإلهي
قد حوصرت وسقطت))( ).
تاسعاً:
كان الاستشراق أكبر ضحايا الخرافة والأسطورة في الفكر اللاهوتي، إذ لم يردد المستشرقون أساطير الفكر اللاهوتي كأنها مُسَلَّمات وبدهيات علمية فحسب، بل أصبح الالتزام بطروحات الفكر الأسطوري اللاهوتي معياراً للنبوغ والامتياز في الدراسات الاستشراقية. يقول إدوارد سعيد: ((سيكون مستشرقاً بحاثة ومختصاً ألمعياً ذلقاً في أيامنا هذه من يشير إلى الإسلام على أنه هرطقة آرية من الدرجة الثانية، وأن محمداً نبي لا أخلاقي، وأنه ألَّف كتابه معتمداً على كتب التوراة والإنجيل( ).
عاشراً:
كان ظهور الإسلام بوصفه التهديد الحقيقي والخطر الأكبر لسلطة الكنيسة وحقها المطلق في امتلاك ناصية الحقيقة المستمدة من امتلاكها كلمة الوحي الأخيرة، دافعاً وحيداً لمواجهة الإسلام، وموجِّهاً لطبيعة تلك المواجهة.
فقد تسربلت المواجهة بالخوف من القادم الجديد ومن قدرته على الإقناع وسرعته في الانتشار، فأنشأ ذلك الخوف أفكاراً نصرانية وأحكاماً سابقة عن الإسلام ونبيه وكتابه، كوَّنت الوعي واللاشعور الجمعي للنصارى، وجعلت الفكاك من أسرها مستحيلاً حتى اليوم وإلى حد يمكن معه التشكيك في إمكانية التخلص من ذلك يوماً ما.
وذلك بسبب ارتباط تلك الأفكار والأحكام الزائفة بما يمكن تسميته بـ: ((تحصين الذات ضد الإسلام)) مما أوقعها في آثام المغالطات الفكرية وخروقات المنهجية ومجافاة الأصول العلمية حتى ما كان منها صادراً من جهة العالم النصراني ذاته، مثل أطروحة التجديد النقدي والمعرفي لميشيل فوكو Foucault Michel في حقل المنهجية التاريخية بترك التاريخ الشامل للأفكار التعاقبية وإحلال المنهج الحفري( ).
ذلك المنهج المقترح الذي يدين الفكر اللاهوتي ومنهجيته التي حصرت الإسلام ونبيه وكتابه في إطار الحقائق التاريخية الاجتماعية، وليس في إطار الحقائق الدينية، ومن هنا راحت الطروحات والرؤى اللاهوتية تسعى فقط باتجاه البحث التهجيني الساعي إلى رصد العناصر المتشابهة بين القرآن والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وحصرها في دائرة الاقتباس والمتابعة من جانب الجديد للقديم في تجافٍ واضح للمنهجية العلمية سواء من جهة عدم التعامل مع الإسلام بوصفه حقيقة دينية تعتمد على الوحي والمعجزة، أو من جهة تعيين جوانب تلك المشابهات: وهل كانت في بعض المواد والعناصر أم كانت في جانب الروح والنسق؟
فمن جهة المنهجية العلمية فإن الإسلام ـ بوصفه حقيقة دينية ـ كانت له خصوصية ما للوحي الإلهي من تفرد وإعجاز وتوافق مع رسالات الوحي السابقة عليه في آن واحد، أي أنه لم يكن أبداً بدعاً من الأديان: ﮋﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ [فصلت: ٤٣].
ولم يكن رسوله بدعاً من الرسل: ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊ [الأحقاف: ٩].
وإنما جاء الإسلام وكتابه بمنْزلة الخلاصة والصيغة الأخيرة للأديان السماوية كافة في صورتها الأصيلة قبل أن يعرض لها العامل الزمني والنفسي الذي ألحق بها التبديل والتحريف، لذلك جاء الوحي القرآني مستهدفاً تصديق ما صحَّ منها: ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮊ [آل عمران: ٨١]، وكذلك الهيمنة عليه: ﮋ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈﮉﮊﮊ [المائدة: ٤٨] ، وكشف التحريف والتبديل الواقع في الكتب السابقة: ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ [البقرة: ٧٩].
وكذلك في العقائد : ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖﮊ [التوبة: ٣٠].
وأخيراً استهدف الوحي القرآني إكمال الدين الذي سيصحب البشرية حتى آخر رحلتها، ومن ثمّ استكمال ما فات السابقين من العناصر والأصول والقوالب المناسبة لعالمية الإسلام وكونيته التي يستمد أهليته لها من صلاحية خطابه لإنسان الحضارة في كل زمان وبقعة جغرافية على خارطة المسكونة.
إذن تبقى معضلة التصور الفكري اللاهوتي للوحي القرآني كامنة في المشكلة النفسانية للفكر اللاهوتي إزاء القرآن الكريم، تلك المشكلة التي بدون حلها وتجاوزها لا يمكن بحال تصحيح مسار أخطاء ذلك التصور واجتناب آثامه.

المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم
ثانياً: السنة النبوية
ـ سنن الترمذي، بتعليق وترقيم عزت عبيد الدعاس، المطبعة الوطنية. حمص 85 ـ 1387 ﻫ .
ثالثاً: الكتب المقدسة لدى اللاهوتيين:
ـ العهد القديم (للكاثوليك) اعتماد بولس باسيم: النائب الرسولي
للاتين، منشورات دار المشرق. بيروت 1984 م.
ـ العهد الجديد (للكاثوليك) اعتماد بولس باسيم: النائب الرسولي
للاتين، منشورات دار المشرق. بيروت 1985 م .
رابعاً: مصادر الفكر اللاهوتي:
1-Barge H., Der DominiKanermoench Ricoldus und Seine Missionsreise nach dem Orient, in: Allgemeine MissionsZeitshrift 43(1916) S: 27 – 40 .
2- Bernhard Lang, Wie wird mann Prophet in Israel? Dusseldorf 1980 .
3- Bulst, N. :
Guibert von Nogent, in: LMA IV (1989) , Sp. 1768 – 1769
- Petrus venerabilis , in: LMA IV (1993) SP. 1985 – 1987 .
4- Burns R. I ., Christian – Islamic Confrontation in the West: The Thirteenth – Century Dream of Conversion, in: American Historical Review 76 (1971) , 1386 – 1434 .
5- Caspar R., Une rencontre avec I ‘ Islam .
Evolution personelle et Vision actuelle, Spiritus, Nr.122 (Februar 1991) , Bd, XXX II .
6- Chenu M.D., Das Werk des HL Thomas von Aquin, Heidelberg 1960.
7- Christian W. Troll, Der Islam im Verstaendnis der Katholischen Teologie , in: Bamberger Theologisehes Forum, Hrg. Von: Klaus Bieberstein , … , …. LiT Verlag Muenster 2003.
8- Foucault, Michel, L’Archeologie du Savoir, Gallimard Paris 1972.
9- Francis Dvornilk, The Ecumenical Concils, Haw thorn Books. New York 1961 .
10- Gottheil R., A Christian Bahira Legend, in: Zeitschrift Fuer Assyrologie und Verwandte Gebiete 14 (1899) S: 203 – 232 .
11- Grabmann M., Die Schrift: De rationibus fidei Contra Saracenos Graecos et Armenos ad Cantorem Antioch- enum des heiligen Thomas von Aquin , in: Scholastik 17 (1942) .
12- Hagemann Ludwig :
- Christentum contr AIslam, wissenschafthliche
Buchgesellschaft, Darmmstadt, 1999 .
- Christentum und Islam zwischen Konfrontation und
Begegnung, Wuerzburg – Altenberge 1994.
- Die erste lateinische Koranuebersetzung –Mittel zur
verstaendigung zw ischen christen und Muslimen im
Mittelalter ?, in: Orientalische Kultur und euro -
Paeisches Mittelalter (Miscellanea Mediaevalia ,
Bd. 17) Berlin – New York 1985. S: 45 -58 .
- Missionstheoretische Ansaetze bei Thomas von Aquin in seiner Schrift , in: Thomas von Aquin,. Hrsg.von
A.Ziminermann, S:459- 483. Berlin – New York 1988 .
- Der Kur’an in Verstandnis und Kritik bei Nkolaus von
Kues , Ein Beitrag Zur Erhellung islamisch – christlicher
Geschichte (F Th st 21 ). Frontfurt 1976 .
- Der Islam in Verstaendnis und Kritik bei, Martin Luther,
In: T Th Z 103 , Jg , H.2 (1994) S: 131 – 151 .
13- Hoscher G., Anmerkungen zur Sichtung des Alkorans
(N v K due , Heft 7) .
14- Irsigler H. , Die Prophetie im Alten Testament, Bamberg
1994 .
15- Josef Hasenfuss, Kirche und Religionen, Verlage
Ferdinand schoeingh, Muenchen – Wien 1969 .
16- Kathechismus der Katholischen Kirche , Leipzig –
Schweis- Freiburg 1993 .
17- Kellerhals E., Artikel: Islam II, in: (RGG) Bd. III(1959) .
18- Kern W., Auserhalb der Kirche Kein Heil ? Basel – Wien 1919 .
19-Kotter B., Johannes von Damaskus, in: Theologische Realenzklopuedie XVII (1988) S: 127 – 132. London – New York- Bonn .
20- Kritzeck J., peter the Venerable and Islam, S:1–115,
Princeton 1964.
21- Luthers Brief an den Rath Zu Basel , In: K, R , Hagenbach, Luther und der Koran vor dem Rath zu Basel, in: Beitraege zur Vaterlaendischen Geschichte IX (1870 )
22- Martin Luthers Werke, Gesamtausgabe (Weimarer Ausgabe) Weimar 1883.
23- Naumann P., Einfuehrung zur Sichtung des Alkorans
(N v K due , Hoft 6).
24- Rotter E.:
- Abendland und Sarazenen , Berlin – New York
1986.
- Embricho von Mainz und das Mohammed – Bild seiner Zeit , in: Auslandsbez iehungen unter den salisechen Kaisern. hrsg- von F. stab, Speyer 1994, S: 69 – 137 .
25- Rudolf Bultmann, Neues Testament und Mythologie, in: Kerygma und MyThos, Hrsg. von, Hans – Werner Barrsch. Hamburg 1960.

26- Schwinges R.C., Kruzzugsideologie und Toleranz,
Stuttgart 1977.
27 - Stephon Hotz, Mohammed und seine Lehre in der Darstellung abendlaendischer Autoron vom Spaeten 11. bis zur Mitte des 12. Jahrhunderts, Peter Lang Verlag , Frankfurt – Bern – Bruxelles - New York – Oxford 2002 .
28- Thk L, Das Zweite Vatikanische Konzil, Bd. I, a. a.o. 205. Freiburg – Basel – Wien 1966.
29- Udo Schaefer, Glaubenswelt Islam, Georg Olms verlag , Hilde sheim – zuerich – New York 2002 .
30- Umbau Wolf, Luther and Mohammedanism: M W 31 (1941) .
31- Vedar B. Z., Crusade and Mission , European Approuches toward the Muslims, prienceton 1984.
خامساً: مصادر مترجمة من اللغات الأوربية :
1ـ إداورد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط الثانية 1984م .
2 ـ بابا دوبولس، تاريخ كنيسة أنطاكية، ترجمة استفانس حداد، منشورات النور 1984م .
3 ـ الأب جان كمبي، تاريخ الكنيسة، طبع دار المشرق بمساعدة الرابطة الكاثوليكية، بإشراف وترجمة لجنة من المطارنة والآباء اليسوعيين والفرنسيسكان، ط الأولى، بيروت 1994م .
4 ـ دانييل ساهاس، جدل يوحنا الدمشقي مع الإسلام، مجلة الاجتهاد ـ بيروت، عدد (28) السنة السابعة (1416ﻫ ـ 1995م).
5 ـ ر. و. سذرن، نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى، بترجمة على فهيم خشيم وصلاح الدين حسن، دار مكتبة الفكر، ط الأولى، طرابلس 1395ﻫ ـ 1975م .
6 ـ لويس غرديه ـ جورج قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، دار العلم للملايين، بيروت، ط الأولى 1967م .
7 ـ يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، بترجمة عمر العالم، دار قتيبة، ط الأولى، دمشق، بيروت 1417ﻫ - 1996م .
سادساً: مراجع أخرى :
الدكتور عبدالراضي محمد عبد المحسن، حركة الترجمات الاستشراقية للقرآن الكريم، مجلة ((رسالة المشرق))، مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة، المجلد العاشر 2001م، ص: 415 ـ 499.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك