علم المكي والمدني في عيون المستشرقين

علم المكي والمدني
في عيون المستشرقين
عرض ونقد

بقلم
الأستاذ الدكتور
زيد عمر عبد الله العيص

المقدمة
الحمد لله منَزل الكتاب، وهازم الأحزاب، والصلاة والسلام على النبي محمد، والآل والصحب الكرام، أما بعد:
فقد نبتت نابتة في ميدان الدراسات الشرقية بعامة والدراسات القرآنية بخاصة عرفت بالمستشرقين.
كان القرآن الكريم بنصوصه وعلومه محور دراسة غالبية هؤلاء، وقد سوَّدوا في هذا المجال عشرات الآلاف من الصفحات أتوا فيها بالعجب العجاب، وكان الخطأ فيها هو الأصل، وتوارى في ثناياها النَّزر اليسير مما فيها من صواب.
أسهمت عوامل عدة ـ أكثرها مصطنع ـ في الترويج لنتاج المستشرقين منها تستُّرهم خلف المنهجية العلمية وظهورهم بمظهر الباحث عن الحقيقة المتجرد لها، وقد مُكِّن أكثرهم من كراسي البحث العلمي في الجامعات، وفي المجامع العلمية واللغوية. فاتخذوها منابر لبثِّ أفكارهم. وإذا كان الله تعالى قد قال في شأن المنافقين في عهد النبوة: ﮋﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﮊ [التوبة: ٤٧ ]، فإننا نقر بكل أسف أن فينا سمَّاعين للمستشرقين.
نرى ـ في ضوء ما ذكر ـ ضرورة أن يُلتفت إلى هذا النتاج، بأن يعرض له أصحاب الاختصاص، كلٌّ في مجاله لبيان ما فيه من اعوجاج، والكشف عن أنهم أصحاب لجاج. وهو ما تهدف إليه هذه الندوة التي تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
سوف تعنى هذه الدراسة بعلم المكي والمدني، فهو واحد من علوم قرآنية شتى سعى المستشرقون أن يتخذوا منها وسيلة للترويج لفرية كبرى، تواصى بها عامتهم وهي إنكار الوحي، والقول ببشرية القرآن الكريم.
تعرض الدراسة بإيجاز لمفهوم المكي والمدني، ولخصائص الأسلوب والمضمون، التي ميزت كلاًّ منهما؛ بغية أن توضع في نصابها، وتُعطى حجمها الطبيعي للحيلولة دون استغلالها من قبل المستشرقين الذين رأوا في هذه الخصائص مدخلاً ثميناً حين جعلوا كل ميزة شبهة.
لقد استخدم المستشرقون في دراستهم مناهج بحث تساعدهم، مثل المنهج الذاتي والمنهج العفوي التلقائي، وأعرضوا عن مبادئ البحث العلمي وهو ما سيظهر جلياً في هذه الدراسة الموجزة.
لقد درستُ شُبَه هؤلاء، وتصدَّى لها باحثون جادُّون، وهو ما سَهَّل المهمة علينا، فأردنا أن نضرب بسهم في هذا المجال؛ لتكون هذه الدراسة لبنة تضاف إلى لبنات تدعو الحاجة إلى كثير منها؛ بغية كَشْفِ هذه الشبهات والتحذير منها وبيان زيف هذه الفئة.
*****

كلمة في التعريف بالمكي والمدني وذكر خصائص كلّ منهما:
يحسن بنا أن نعرض ابتداءً لمفهوم المكي والمدني وبعض مسائل تتصل به؛ ليكون تمهيداً لدراستنا هذه.
تباينت وجهات نظر أهل الشأن في مفهوم المكي والمدني، فنظر إليه بعضهم من زاوية المكان، فقال: ما نزل من القرآن الكريم في مكة فهو مكي، وما نزل منه في المدينة فهو مدني ( ).
وهذا التوجُّه محلُّ نظر عند أهل التحقيق؛ لأنه يُفضي إلى خروج آيات عدة من هذين الوصفين، فقد صح أن ثمة آيات نزلت في غير مكة والمدينة، فقد نزل في تبوك على سبيل المثال قول الله تعالى: ﮋ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﮊ [التوبة: ٤٢ ]، وقوله تعالى: ﮋﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮊ [التوبة: ٦٥ ]، وغير هذا ليس بالقليل.
إن هذا التعريف غير جامع، ويُفْضي إلى القول بأن في القرآن ما ليس مكياً ولا مدنياً، وهو ما رأيناه في تقسيم ابن النقيب ( )، حين قال: ((ومنه ما ليس بمكي ولا مدني، ألجأ إليه اعتبار المكان))، وهو تعريف لن تتحقق في ضوئه الأغراض المرجوة من هذا الموضوع.
ثمة فريق نظر إلى المكي والمدني في ضوء خطابه للإنسان، فما كان خطاباً بـﮋ ﮜ ﮝﮊ فهو مكي، وما كان خطاباً بـﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ فهو مدني ( )؛ لأن الكفر كان غالباً على أهل مكة، والإيمان كان الغالب على أهل المدينة.
ينسبون في هذا المقام لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: ((كل شيء في القرآن ﮋ ﮜ ﮝ ﮊ أنزل بمكة، وكل شيء في القرآن ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ أنزل بالمدينة ))( ).
إن صح هذا عنه رضي الله عنه، فقد قاله من باب التغليب، وإلاَّ فقد صح أن في سورة البقرة _ وهي مدنية باتفاق _ قولـه تعالى: ﮋ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮊ [البقرة: ٢١ ] وغيرها كذلك، كما صح أن سورة النساء مدنية باتفاق، وفيها قولـه تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﮊ [النساء: ١].
ثم إن المسألة أوسع بكثير من أن تُحصر في مصطلحات وردت في قلة من الآيات يكون المعول عليها في تحديد سور بأكملها أهي مكية أم مدنية؟ وبخاصة أن كثيراً من السور تخلو منها.
إن هذا القول كسابقه لا حَظَّ له من النظر، ولهذا أعرض عنهما المحققون، وعرَّضوا بمن روَّج لهما.
ثمة قول ثالث عليه أهل التحقيق ينظر إلى المكي والمدني باعتبار الزمان، فقالوا: ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني ( ).
ظهر هذا المفهوم في وقت مبكر، ومال إليه الجمهور من العلماء، فهذا يحيى بن سلام البصري (ت 200ﻫ) يقول: ((ما نزل بمكة وما نزل بطريق المدينة قبل أن يبلغ النبي المدينة فهو مكي، وما نزل على النبي في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو مدني))( ).
هذا مفهوم تطمئن النفس إليه، ويمكن الاعتماد عليه؛ لأنه جامع مانع، ويمكن أن تظهر آثاره وثماره عند تلمُّس المسائل المتصلة بالمكي والمدني كالنسخ والتدرج في الأحكام، والكشف عن مراحل الدعوة وسماتها.
ليس يخفى على أهل الشأن أن لا أثر لتاريخ النُّزُول في ترتيب الآيات في سورها بَلْهَ السور في القرآن، فَثَمَّة اعتبارات أخرى مصدرها الوحي كانت وراء هذا الترتيب المعجز.
لا أثر يذكر كذلك لتاريخ النُّزُول في الكشف عن معاني غالبية الآيات القرآنية، وإن توهم بعض المعاصرين ( ) غير هذا وسعى إلى إغراء الباحثين بالاشتغال بهذا الترتيب والقيام به.
إذا كان الأمر كذلك فإنه يفسر لنا عدم ورود شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن تحديد زمن النُّزُول أو بعبارة أخرى عدم الإشارة إلى المكي والمدني من القرآن الكريم.
نلحظ هذا الفهم عند عامة العلماء، مما ورد عنهم من إشارات، أو نطقت به بعض المقالات، فهذا أبو بكر الباقلاني يقول: ((لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول))( ).
بدا للعلماء أن معرفة المتقدم في النُّزُول من القرآن من المتأخر، أو بعبارة أخرى ـ في ضوء التعريف المختار ـ معرفة المكي والمدني لا يخلو من فوائد تستدعي الحاجة الوقوف عليها في مواطن عدة، وبخاصة الأحكام منها، وما يتصل بالناسخ والمنسوخ، وهو ما كان حاضراً لدى أهل الاختصاص، وعبَّر عن ذلك النحاس بقوله: ((إنما نذكر ما أنزل بمكة لأن فيه أعظم الفائدة في الناسخ والمنسوخ، لأن الآية إذا كانت مكية، وكان فيها حكم، وكان في غيرها حكم غيره نزل بالمدينة علم أن المدنية نسخت المكية)) ( ).
إن من يعنى كذلك بتتبع مراحل الدعوة، والكشف عن خصائصها، لابد أن يستحضر المكي والمدني، لأنه الكاشف في هذا المقام، وكذا من يعرض لقضية التدرج في التشريعات، التي كانت من سمات هذا الدين، لا يستغني عن معرفة المكي، والمدني.
يمكن القول ـ على هَدْي مما سبق ـ: إن في معرفة المكي من المدني فوائد لا تخفى، ولما لم يكن بين أيدينا نصوص شرعية تحدد لنا ما كان مكياً، وما كان مدنياً، تلمَّس العلماء سبلاً موصلة لهذا الغرض، فكان أن رأوا وسيلتين هما: طريق السماع، وطريق القياس ( ).
نعني بطريق السماع: تلك الروايات الواردة عن الصحابة الكرام الذين عاصروا التَّنْزِيل، وحضروا المشاهد، وعايشوا الأحداث، فهم أعرف الناس بنُزُول القرآن زماناً ومكاناً.
فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول فيما يرويه عنه البخاري: ((والذي نفسي بيده ما من آية إلاَّ وأنا أعلم أين نزلت وفيما نزلت)) ( ) وما هو إلا أنموذج للصحب الكرام في هذا المقام.
ليس يتعذر على الباحث أن يظفر بروايات عن الصحابة الكرام تنص على أن سورة كذا نزلت في المدينة، أو أن آيات بعينها نزلت في موضع كذا.
حسبنا دليلاً على هذا ما رواه مسلم في ((صحيحه)) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فسألوه، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: ﮋﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﮊ [الإسراء: ٨٥ ]( ).
كانت الوسيلة الثانية في معرفة المكي والمدني، قياسية، وهي تقوم على استحضار مجموعة من الخصائص، أمكن لأهل الشأن جمعها، من خلال النظر في كلٍّ من المكي والمدني، فبدا لهم بعد طول نظر، ومزيد تأمل، أن ثمة خصائص تكاد تصاحب كلاًّ من المكي والمدني يمكن عند استحضارها واعتبارها التفريق بينهما، ومعرفة السور المكية من المدنية.
شجَّع أهلَ الاختصاص على اعتمادها، والأخذ بها، مجيءُ شيء منها عن الصحب الكرام، كالقول المتقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه في اعتبار ﮋ ﮜ ﮝ ﮊ مكياً، و ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ مدنياً، وكقول عروة بن الزبير: ((ما كان من حَدٍّ أو فريضة أنزلها الله عز وجل في المدينة، وما كان من ذكر الأمم والقرون أنزل بمكة))( ).
نشط أهل الاختصاص في استخلاص هذه الميزات للمكي، والمدني، سواء ما كان منها ذا صلة بالمعاني، أو بالمباني، ونعني هنا الأسلوب والمضمون، بغية الاستعانة بها في تحديد المكي والمدني، كلما دعت حاجة، أو استدعى موقف.
ويمكننا أن نوجز ما سبق بما يلي:
1. السور والآيات المكية كانت بعامتها قصيرة، شديدة في الأسلوب، بخلاف الآيات، والسور المدنية، فكانت طويلة ذات أسلوب لين.
2. تضمنت السور المكية الوعد، والوعيد، والتوبيخ، ولهذا كان الخطاب فيها بيا أيها الناس، حتى كثر ورود كلمة " كلا " التي هي للردع والزجر في السور المكية، ولم ترد في السور المدنية، فصارت علامة على التفريق بين المكي والمدني، في حين امتازت السور المدنية بالحديث عن التشريعات في كافة المجالات، وكان الخطاب فيها بيا أيها الذين آمنوا.
3. كثر الحديث في السور المكية، عن الأمم السابقة، وأحوالها مع أنبيائها، في حين كثر الحديث في السور المدنية، عن محاجة أهل الكتاب، والمنافقين.
4. برزت في السور المكية ظاهرة القسم، والتكرير، وضرب الأمثلة الحسية، والتشبيه، والفاصلة القرآنية التي تشبه السجع، في حين ندر في القرآن المدني، وجود هذه المظاهر ( ).
هذا مجمل ما أورده العلماء، في بيان الفروق بين المكي والمدني، حرصت على دمجه، واختصاره ليناسب المقال المقام، وهي فروق ـ كما أكد العلماء ـ نسبية، غالبة حتى إنه لم ينفرد قسم بواحد منها، دون القسم الآخر كما سنرى.
لقد أدَّتْ هذه الفروق ـ على أية حال ـ الأغراض التي سيقت من أجلها في مجال التشريع، وتتبُّع مراحل الدعوة، وفي مجال الاحتكام إليها في تحديد السور التي لم يرد دليل خارجي من قول مأثور، أو سبب نزول يحدد أمكية هي أم مدنية؟
لقد وضع العلماء هذه الفروق بعد ملاحظة واستقراء، ولم يكن يرد في خلدهم أن ثمة طائفة قادمة تحت جنح الظلام، تسلك منهجاً، لا خطام له، ولا زمام، تسعى لتوظيف هذه الفروق لإثبات مقرر سابق، والترويج لأفكار لاحظ لها من الصحة ولا اعتبار، إنهم المستشرقون.
تتجه جهود المستشرقين في مجال الدراسات القرآنية، إلى إثبات أن القرآن الكريم من وضع النبي، محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا صلة له بالوحي إطلاقاً، ويتعذَّر على الباحث المحقق أن يستثني أحداً من المستشرقين من هذا المعتقد، وبخاصة الرموز منهم، ولا يدخل من أسلم منهم في حديثنا هذا. وفي هذا يقول د. السباعي: ((جمهور المستشرقين على إنكار الوحي))( ).
لا يجد الباحث صعوبة في إيراد عشرات الأسماء، للمستشرقين الذين يعتقدون هذا المعتقد، وجعلوه مقرراً سابقاً، بنيت عليه دراساتهم من أمثال الفرنسي هنري لامانس (ت 1937م)، والألماني كارل بروكلمان (ت 1972م)، والفرنسي رايموند شارل، والأمريكي غوستاف فون (ت 1972م)، والفرنسي أندري ميكال، والفرنسي كازانوفا (ت 1926م)، والفرنسي لويس ماسينيون (ت 1962م)، وغير هؤلاء كثير يمكن الوقوف على آرائهم ومقولاتهم في مظانها ( ).
تعددت مسالك المستشرقين، في الترويج لأفكارهم، وبخاصة تلك المتصلة بمصدر القرآن الكريم كما أشرنا، وكان من بين الأبواب التي ولجها المستشرقون، باب المكي، والمدني، وهو ما يملي علينا أن نستحضر أن حديثهم عن المكي والمدني، كان حلقة في سلسلة هدفت إلى النيل من القرآن الكريم. فجاء عرضهم له كأنه وسيلة لغاية.
أغرى المستشرقين في هذا المجال وجودُ دراسات في التراث الإسلامي أقرَّ فيها أهلها أن ثمة خصائص وميزات لكل من المكي والمدني ـ سبق ذكرها ـ ترقى لأن تصبح فروقاً قائمة برأسها.
سعى المستشرقون إلى توظيفها، لإثبات مقررات سابقة، واعتمد أكثرهم المنهج الذاتي، وهو يقوم على استحضار المستشرق لانتماءاته سواء أكانت دينية، أم علمية أم تاريخية، عند دراستهم لمباحث العلوم الإسلامية، بحيث جاء نتاجهم وبدرجات متفاوتة، مستجيباً لثقافاتهم، لا لما تفرضه الدراسة العلمية للمصادر الإسلامية من نظريات ورؤى ( ).
يحسن بنا ونحن نعرض لشبهات المستشرقين، حول المكي والمدني، أن نضع هذه الفروق والخصائص في نصابها الحقيقي، من خلال دراستها وتقويمها بغية بيان ما لها من آثار وثمار، رغبةً في الحيلولة دون تضخيمها، واستثمارها من قبل المستشرقين عسى أن نأتي بهذا المسلك على نظرياتهم وافتراضاتهم، وهو ما يملي علينا الدمج بين هذه الفروق في أثناء عرض ونقض شبه المستشرقين، ولعل هذا أولى من الفصل بينها.
بيد أني أبيح لنفسي، أن أسجل هنا ملحوظة عامة، بغية استحضارها في أثناء دراستنا هذه، وهي أن الفروق التي ذكرت بين المكي والمدني، لم تسلم من جناية المبالغة فيها، حتى مِنْ قِبَل أهل الاختصاص كما سيأتي بيانه.
ولا يتسم منها فرق بالكلية بل بالأغلبية النسبية، حتى ذاك الفرق الذي ردده كل من كتب في هذا الموضوع وهو كلمة (كلاّ)، فقد أطبقوا أنها لم ترد في سورة مدنية قط، بوصفها كلمة ردع وزجر، وهو أسلوب خلت منه السور المدنية.
وفي هذا يقول السيوطي في الإتقان نقلاً عن الديريني:
وما نزلت كلاّ بيثرب فاعلمَنْ
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى

قال: ((وحكمة ذلك أن نصفه الأخير، نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول منه. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم))( )، وعلى الرغم من متابعة كل من جاء بعد السيوطي( ) له فيما ذهب إليه إلاَّ أنه لا يسلم لهم على إطلاقه.
سيمر بنا في صفحة تالية أن سورة التكاثر مدنية على الراجح، ويشهد لهذا أدلة ذات شأن، وقد وردت فيها (كلا) مرتين، وبهذا تنخرم هذه الخصيصة وتصبح أغلبية كغيرها من الخصائص.
بين تأثير القرآن وتأثره:
أما الأمر الآخر الذي أود أن أسجله هنا هو ما حدث مِنْ خَلْط المستشرقين بين أمرين الفرق بينهما واضح، معتمدين على المنهج الذاتي في تفسير الظواهر، ومستحضرين المنهج العفوي التلقائي بغية التدليس على القارئ.
هذان الأمران أولهما حق ظاهر، وهو تأثير القرآن الكريم في البيئة التي نزل فيها، وثانيهما باطل، وهو تأثر القرآن بهذه البيئة وإفادته منها، وظهور آثار هذا في مضامينه وأسلوبه.
ويحسن بنا أن نعرض لهذين الأمرين بشيء من الإيجاز تجنباً للتكرير، وسوف يأتي مزيد تفصيل وبيان في ثنايا هذه الدراسة.
الأول: تأثير القرآن في البيئة.
كان القرآن الكريم يُعنى إبان نزوله بقضايا الناس، في العهدين المكي والمدني، فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى مخاطباً رسوله: ﮋ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﮊ [إبراهيم: ١].
لما كان الأمر كذلك، فقد تضمن القرآن الكريم وصفاً دقيقاً لما كان عليه أهل مكة من جهالة في أمورهم الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، فعرض لها وشنَّع على أهلها بسببها، ثم قدَّم لهم البديل، ودعاهم إلى سواء السبيل.
سلك القرآن الكريم في تحقيق هذه الأغراض وسائل متعددة، سواءً في أسلوب العرض، أو في طبيعة المضمون، وكان الوحي قريباً من الناس، رقيباً عليهم، جاهزاً لدفع شبه تطرح، أو الإجابة عن سؤال يرد، ولقد وعد الله تعالى رسوله بهذا: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﮊ [الفرقان: ٣٣].
فكان هذا المنهج يمد الرسول صلى الله عليه وسلم بالقوة، وهو يواجه خصوم الدعوة، ويبعث في نفسه الثقة المطلقة بما هو عليه، ويدعو إليه.
وكان لهذا المنهج كذلك أثره البالغ في نفوس الناس آنذاك، إذ كان المؤمن يشعر أنه في كنف الله الدائم، وأن رعاية الله تعالى تحوطه من كل جانب، كما كان يشعر الكافر والمنافق أنه تحت النظر، وأن الله له بالمرصاد يقول الله تعالى في وصف بعض أحوال المنافقين: ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮊ [التوبة: ٦٤].
ونزل مثل هذا في شأن اليهود، حين توهموا أنهم خدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم له، فقال الله تعالى فيهم: ﮋ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﮊ [آل عمران: ١٨٨].
لقد كان القرآن الكريم مرآة ناصعة البياض لعصره، تامة الصفاء، حين سجَّل الأحداث، ورصد تصرفات الناس، وقدم حلولاً وصحح مفاهيم، وقوَّم اعوجاجًا في مناحي الحياة كلها، ودونك الآيات القرآنية، مكيها ومدنيها فهي شاهدة بدلالاتها وهداياتها، وما صاحبها من أسباب نزول، على كل ما عرضنا له.
جاء الواقع شاهداً آخر حين استجاب الناس لرب العالمين، وتفاعلوا مع كتابه المبين، واتبعوا رسوله الأمين.
الأمر الثاني: تأثر القرآن بأحداث العصر، وبثقافة أهله وإفادته من هذا كله، مما يعني أنه كان متأثراً بالبيئة، لا مؤثراً فيها، وهو ما توهَّمه المستشرقون _ عامة المستشرقين _ وزعموه، أمثال: نولدكه، وجولدتسيهر، وبلاشير، ولامنْز، وكازانوفا.
هذه المقولة التي ساقها هؤلاء تؤكد بجلاء أن أهل مكة حين كفرهم كانوا أكثر احتراماً لأنفسهم، من هؤلاء الذين يدَّعون العلم والموضوعية.
لم نسمع أن أحداً من كفار مكة قال هذه المقولة، مع أنهم كانوا في بداية أمرهم، يقولون ما يقوله اليوم المستشرقون بأن القرآن الكريم ليس وحياً.
إن كفار مكة لم يروا في القرآن اضطراباً في الأسلوب، ولا تناقضاً في المضمون، وقد كانوا يشعرون أن القرآن قادم إليهم بقوة وثبات، ليغير واقعاً بكل ما فيه، وينشئ واقعاً جديداً، وهم لا حول لهم ولا قوة.
ليس يتعذَّر على منصف، أن يضع الأمور في نصابها، وأن يميز بين ما هو تفسير مقنع للأحداث، وبين ما هو تفسير متعسف لها بغية الترويج لمقررات سابقة، أو التشكيك في الثوابت.
يحار المرء في تصور طروحات المستشرقين، وهو يرى القرآن الكريم يخوض معارك ضارية مع كفار قريش، على الجهات كلها العقدية، والاجتماعية، والاقتصادية، حتى لم يبق صاحب نفوذ، أو مصلحة إلاَّ ناله من القرآن الكريم ما ناله، جرَّاء معتقد فاسد، أو مسلك مشين أو تصور منحرف.
وتكررت المشاهد في المدينة، فما إن استقر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، حتى خاض معركة حامية الوطيس مع اليهود، وقد كانوا أصحاب نفوذ وتأثير.
نزل القرآن الكريم في المدينة أول ما نزل يشنِّع على اليهود، ويكشف انحرافاتهم، ويدعو إلى مخالفتهم بما سيأتي مزيد بيان له، فكيف يسوغ مع هذا القول بأن القرآن الكريم تأثر بهذه البيئات؟!
عوَّل المستشرقون كثيراً على الفروق بين المكي والمدني، حتى قالوا إنها تدل على وجود قرآن مكي، وآخر مدني تنقطع الصلة بينهما، من حيث الأسلوب والمضمون، وهو ما رَوّجَ له بلاشير في كتابه ((المدخل إلى القرآن))( )، وهو ما يعني عندهم تأثر القرآن الكريم بالبيئتين المكية والمدنية، وما بينهما من تفاوت ظاهر ( )، الأمر الذي يدل بزعمهم على بشرية القرآن، وهي الفرية التي ما فتئ المستشرقون حولها يدندنون.
الأسلوب خصائص وشبه:
يرى المستشرقون أن البيئة المكية كانت بيئة أمية، مغلقة، فناسب أن تأتي السور قصيرة، وكذا الآيات، في حين أن المدينة كانت متحضرة بسبب وجود اليهود فناسب أن تأتي السور المدنية طويلة وكذا آياتها ( ).
هذا الطرح محل نظر من حيث الدليل والمدلول، أما الدليل فإنه لا يُسَلَّم لهم على إطلاقه، فإنا لا ننكر وجود سور مكية قصيرة، مثل قريش، والفيل، والكافرون، والمسد، والعصر، كما نقر بوجود سور مدنية طويلة، وكذا آياتها مثل البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال.
لكنا نثبت في مقابل هذا أن ثمة سوراً قصيرة، وآياتها كذلك قصيرة، وهي مدنية: إما باتفاق كالزلزلة والنصر، وإما أنها مدنية على التحقيق _ كما بدا لي _ مثل سورة الكوثر وهي أقصر سورة في القرآن، فالراجح أنها مدنية( )، ويشهد لهذا ما ورد في ((صحيح مسلم)) عن أنس بن مالك قال: ((بَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسِّماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ آنفاً سورةٌ فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر...)) ( ) وأنس مدني، أسلم بعد الهجرة، والنص صريح ولا يُدفع بالقول: إنها نزلت مرتين، فهي حجة ضعيفة، وبخاصة أن سياق الحديث يأباها.
ومثلها سورة العاديات، فقد ورد عن أنس بن مالك، وابن عباس وقتادة أنها مدنية، وقال المحقق ابن عاشور: وهو الراجح، استناداً إلى حديث ورد بسبب نزولها( ).
وكذا المعوذتان، فالمختار عند أهل التحقيق، أنهما مدنيتان، لأنهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي ( ).
ومثل هذا كذلك سورة التكاثر، فإنه وإن كان المشهور أنها مكية كسابقاتها، إلا أن المختار أنها مدنية، لما في ((صحيح البخاري)) عن أبي بن كعب ـ المدني الأنصاري ـ قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت
ﮋ ﮋ ﮌ ﮊ يعني: ((لو أنَّ لابن آدم وادياً من ذهب))( )، وساق السيوطي أدلة أخرى تؤكد أنها مدنية( ).
لست في هذا المقام بصدد تحقيق القول في هذه المسألة، فإنها تستحق طويل بحث، ومزيد تأمل، ولكن حسبي إضاءات ترشد إلى أن سوراً عدة اشتهر أنها مكية، وتبين بعد التأمل والبحث أنها مدنية، وكثير من المكي مما لم نذكره اختلف فيه اختلافاً معتبراً ( ).
أما الشق الآخر، المتعلق بطول السور المدنية، فإنه يزاحمه بجدارة، وجود سور مكية طويلة، مثل: الأنعام، والأعراف، ويونس، والإسراء، وغيرها كثير.
ولست أُنكر أن ظاهرة الآيات القصيرة، غلبت على السور المكية مثل: الحاقة، والفجر، والنازعات، ولكن هذا لا يعكر علينا صفو قولنا: إن هناك آيات قصيرة مدنية، كتلك التي وردت في السور التي تقدم ذكرها، ومثل سورة المطففين، والتي تُعَدُّ على التحقيق مدنية.
كما أن وصف القِصَر لا يصح أن يلازم الآيات المكية، فهناك سور مكية باتفاق آياتها طويلة مثل: يوسف، والإسراء، والكهف، وغيرها كثير.
إذا كان هذا في شأن الدليل، الذي لم يسلم لأصحابه على الهيئة التي يريدونها، فإن المدلول كذلك، إذ لا يخفى على منصف أن القصر والطول في الآيات والسور، منوط بالموضوعات التي تعرضها.
إن الحديث عن الجنة والنار، والزجر عن الشرك يناسبه قصر الآيات، والقصر النسبي للسور، في حين أن الحديث عن التشريعات والغزوات ومحاجة أهل الكتاب، يناسبه الطول في الآيات والسور، وهي مسألة أوضح من أن يُستدل لها عند من ضبط نفسه بمنهجية علمية.
وكان مما قاله المستشرقون: إن السور المكية فيها عنف، وشدة وسباب، وتقريع لأهل مكة، وهذا يدل على تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالبيئة المكية، وتكيَّف حديثه مع ما يمتاز به أهل مكة من غلظة وجهل وعناد ( ).
يرى المستشرقون أن هذا الأسلوب، اختفى من السور المدنية، لأنها نزلت في بيئة متحضرة، بسبب وجود اليهود في المدينة، فاختفت الشدة والسِّباب، وحل محلَّها الهدوء والمهادنة، وصار الخطاب للعقل بالأدلة والبراهين، بدلاً من العاطفة والخطابة ( ).
سعى المستشرقون إلى تضخيم هذه الخصائص، وإلى توظيفها بطريقة سيئة بتفسيرها في ضوء المنهج الذاتي الذي سيطر على دراستهم، فجاء كلامهم متضمناً عدداً من المغالطات نعرض لها بإيجاز ونبين تهافتها.
فقد ذكروا أن السور المكية تضمنت سِباباً، وشدة وتقريعاً، ليس يخفى أن أسلوب القرآن المكي كان يتسم بالقوة والتقريع، لأجل أن يكون المقال مناسباً للمقام، وهذا عين البلاغة، فالمخاطبون جاحدون، معاندون، مع علم كثير منهم بصدق النبي، فكان لابد من هذا الأسلوب التربوي.
لقد وصف كفار قريش ـ كفراً وجهلاً ـ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كذاب أَشِر، وساحر ومجنون وشاعر، فكان لابد والحالة هذه من تقريعهم وتخويفهم، وهذا يتحقق بالآيات القصيرة، ذات الفاصلة الواحدة، يتمثل فيها الإعجاز بالإيجاز، فتهتز مشاعرهم وتجبرهم على مراجعة أنفسهم، وهو ما شهد له الواقع.
نجد هذا في كثير من السور المكية منها على سبيل المثال سورة القمر، ففيها تتمثل هذه الأجواء يقول الله تعالى: ﮋ ﮬﮭﮮ ﮯ*ﮱﯓﯔﯕ ﯖ ﯗﯘ  ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ  ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ  ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ  ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ  ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ  ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ [القمر: ١ - ٨ ] فإن التربية تكون بالشدة أحياناً، ولكن هذه الآيات تخلو كليةً من السِّباب.
بيد أن السور المكية، لم تقتصر على هذا الأسلوب فقط، فقد كان فيها كلام لين ودعوة إلى الصفح، وبهذا يتساوى طرفا التربية بالترهيب والترغيب، وبالوعد والوعيد.
إننا نقرأ في السور المكية قوله تعالى: ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮊ [فصلت: ٣٤ ]، وقوله تعالى: ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ [الحجر: ٨٥ ]، وقوله تعالى: ﮋ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﮊ [الزخرف: ٨٩]، وقوله تعالى: ﮋ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ [الأعراف: ١٩٩ ]، ومثل هذا كثير.
إنَّ مما يدل على تخبُّط المستشرقين، أن بعض من روج لهذه الفرية، روَّج في موطن آخر لفرية أخرى، مناقضة لها، حين زعم (بروكلمان)( ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان في بداية أمره مهادناً لأهل مكة ومجاملاً لهم، وحريصاً على إرضائهم، واستدل على ما ذهب إليه بقصة الغرانيق المكذوبة.
وترتب على زعم المستشرقين المتقدم أن القرآن عبارة عن خطاب عاطفي، وسباب، قولهُم: إنه يخلو من البراهين العقلية، وأرجعوا ذلك إلى مستوى أهل مكة المتدني.
المضمون خصائص وشبه:
إن المتأمل في آيات السور المكية ـ وهو يستحضر هذا القول ـ ليجزم قطعاً أنه أمام فئة على الحقائق متحاملة، فإن القرآن في سوره المكية، زاخر بالآيات التي تخاطب العقل، وتتضمن البراهين العقلية الدامغة، وحسبنا هذه الآيات فإنها ناطقة بهذا، يقول تعالى: ﮋ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ [المؤمنون: ٩١ ]، ويقول تعالى: ﮋ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﮊ [الطور: ٣٥ ]، وبقوله تعالى: ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ [العنكبوت: ٤٨]. ولا أدل على هذا من أنها تركت آثاراً إيجابية ووجدت آذاناً صاغية فبادر العقلاء إلى الإسلام.
في القرآن الكريم تسع عشرة سورة مكية، افتتحت بالقسم بالأشياء المحسوسة والمنظورة لأهل قريش، وهي دعوة صريحة مفتوحة للتفكر، في هذه الأشياء المقسم بها، بغية أن تربط بالمقسم عليه، فقد أقسم بالشمس، والقمر، والليل، والنهار، والضحى، والنجوم، على أمور الوحدانية والنبوة واليوم الآخر.
إنها مظاهر بارزة، تبدو فيها الدعوة إلى التفكر والتأمل جلية، بغية ربط المحسوس، بغير المحسوس، وإعمال العقل للوصول إلى الإيمان المنشود، وهو ما كان، وشهد له واقع الصحب الكرام.
ما كان للسور المدنية أن تخلو من هذه السِّمات التي رأيناها في السور المكية، إذا دعت الحاجة إليها، ففي السور المدنية، تشنيع على اليهود، الذين ضلوا عن علم، وأضلوا غيرهم، ولم ينتفعوا بما آتاهم الله تعالى فاستحقوا قول الله فيهم: ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮊ [الجمعة: ٥ ]، وحذر منهم فقال تعالى: ﮋ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﮊ [المائدة: ٨٢].
وقال الله عز وجل في وصف المنافقين إخوان اليهود: ﮋ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﮊ [المنافقون: ٤ ]، وغير هذا كثير بحق الطوائف التي كانت تناكف الجماعة المسلمة في المدينة، فأين المهادنة والملاينة التي زعمها المستشرقون، والتي فرضتها البيئة المتحضرة على الرسول في المدينة؟
لسنا نعني خلو السور المدنية من اللين والحوار الهادئ، بيدَ أنا نورد هذا بإزاء القول: إن القرآن المدني تأثر بالبيئة المتحضرة، وكان يجامل اليهود ويهادنهم، على عكس موقف الرسول من أهل مكة.
لقد استمر أسلوب الترهيب والترغيب في السور المدنية، فإن الحاجة تدعو إليه في مواقف كثيرة، فالزجر والتهديد والوعيد صاحب كثيراً من التشريعات؛ لأن من منهج القرآن الكريم المزاوجة بين مسألتين، توهم كثيرون أنه فرق بينهما، وهما الجمع بين التشريعات، ومسائل العقيدة، وكذا العكس، فكان يأتي التشريع في سياق عقدي إيماني، وتأتي مسائل العقيدة في بعض مظاهر التشريعات، وحسبنا دليل واحد وهو قوله تعالى في سورة مدنية على الراجح، وهي سورة المطففين حين قال: ﮋ ﯖ ﯗ * ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ * ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ * ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ * ﯬ ﯭ ﮊ [المطففين: ١ – ٥].
كان من متطلبات المرحلة المدنية، مجيء التشريعات التي تنظم شؤون المجتمع والدولة، بعد أن صار للمسلمين مجتمعهم ودولتهم، وهو ما لم يكن في المرحلة المكية.
جعل العلماء وجود التشريعات في مجالاتها المتعددة علامةً على أن السور التي وردت فيها مدنية، والسور التي تخلو من التشريعات مكية. لقد كانت الجماعة المسلمة في مكة بحاجة إلى توجيه مخصوص، ثم لما استقرت هذه الجماعة في المدينة، تنوعت احتياجاتها، ويصف سيد قطب متطلبات هاتين المرحلتين، بقوله: ((لقد عاشت الدعوة الإسلامية ـ أولاً ـ المرحلة المكية حيث القلة والضعف، والشدة، والإيذاء، والكيد.. مع الأمر بالهجر الجميل والصفح، وكف الأيدي.. والصدع بالحق.
ثم عاشت الدعوة المرحلة المدنية.. فكان الأمر بالقتال، وكان النصر، وكانت الهزيمة، وكان الكيد الداخلي الخفي المتمثل في النفاق، وكان الكيد الخارجي الجلي المتمثل في تأليب اليهود ومحاولات المشركين في القضاء على المسلمين. وكانت صور من البناء النفسي الرائع في نفوس الصحابة، إلى جانب نفوس يغلب عليها الضعف مرة، والهوى مرة، وتقعد بها رغائب الأرض، وتشدها إليها مرة أخرى.
والقرآن الكريم ينْزِل في مكة ينافح عن تلك الجماعة الناشئة، فيزيح من طريقها العقبات والأشواك والشكوك... ويمدها بأسباب الإيمان والاعتقاد، حتى دارت الآيات المكية ـ عموماً ـ حول إنشاء العقيدة.. في الله، وفي الوحي، وفي اليوم الآخر، وحول إنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود، وعلاقته بخالقه..
ونزل القرآن الكريم في المدينة يعالج تطبيق تلك العقيدة، وذاك التصور في الحياة الواقعية، وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة))( ).
تلقَّف المستشرقون أمثال: جولد تسيهر، وفلهلهم رودلف، هذا بشغف، ليكون دليلاً لهم على زعم استقر في أذهانهم، وهو تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة، وإفادته من تلك البيئة بما فيها من أحكام وتشريعات كانت بين يدي اليهود، وهو ما كان يفتقده في مكة التي كان أهلها جهلة أميين ( ).
إن ادعاءً كهذا لا يقوى على الصمود أمام حقائق دامغة، يعرفها المستشرقون، لكنه التجاهل، قصد التحامل باستخدام المنهج الإسقاطي.
لا ننكر أن المرحلة المكية كان لها طابعها المميز، فقد كان أهلها كفاراً، لا يؤمنون باليوم الآخر، ويشركون مع الله آلهة أخرى، ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الحاجة ـ والحالة هذه ـ تدعو إلى مواجهة هذه العقائد بادئ الأمر بأساليب شتى وهو ما كان فعلاً.
لا يعقل بحال من الأحوال أن تنْزل التشريعات في بيئة هذه أوصافها، وقد عبرت عن هذا عائشة رضي الله عنها بقولها: ((لو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم: ﮋ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮊ [القمر: ٤٦ ]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلاَّ وأنا عنده)) ( )، إنه كلام غاية في الدقة، والعمق والوضوح؛ ذلك أن المال عزيز على النفس، والجهاد مكروه لديها، وفي الخمر لذة ومنافع، وفي النفس ميول للهروب من الضبط والمسؤولية فكان لابد أن تتقدم التخلية على التحلية، والتأسيس على البناء وهو ما كان.
لقد اتجهت جهود النبي صلى الله عليه وسلم في مكة إلى وضع القواعد والأسس، تمهيداً لمرحلة قادمة ينشأ فيها مجتمع، وتقام فيها دولة، وتملك فيها أرض، ويكون فيها سيادة، وهي مظاهر ومعالم، افتقدها المسلمون في مكة.
بيد أن هذا لا يعني أن السور المكية خَلَتْ مما له صلة بالأحكام والتشريعات، إن هذا لم يكن بحال بل إن المتأمل في هذه السور يجد أصولاً كثيرة للأحكام التي فُصِّلت في السور المدنية.
لقد وضعت السور المكية أصل تشريع الزكاة في آيات كثيرة، منها ما كان يتحدث عن الإنفاق العام، ومنها ما نص على الزكاة بخاصة، كقولـه تعالى في سورة فصلت المكية: ﮋ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﰍ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ * ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ [فصلت: ٦ - ٧ ]، ثم فصلت مقاديرها في السور المدنية.
وتحدثت السور المكية عن الشورى قبل قيام الدولة فقال الله تعالى في سورة الشورى المكية: ﮋ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮊ [الشورى: ٣٨].
بل إننا نجد في السور المكية إشارات إلى الجهاد ومباركة له حتى قبل أن يشرع، وذلك في سورة المزمل المكية ( ) في قولـه تعالى وهو يخفف على المسلمين من قيام الليل فقال سبحانه: ﮋ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮊ [المزمل: ٢٠].
يطول بنا الحديث لو طفقنا نتتبع مثل هذا في السور المكية فهو جد كبير.
لا يفوتنا هنا أن ننبه أن هذه الإشارة إلى الجهاد لا تعني ما زعمه المستشرقون من أن السور المكية تضمنت شدة وقسوة، فإن الطابع العام للسور المكية في هذا المقام هو ((خلوُّها خلواً تاماً من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة، كما خلت أيامه كلها في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة))( ).
إن قول المستشرقين أمثال تسدال، وماسيه، ونولدكه، ولامنْز ( ): إن النبي صلى الله عليه وسلم أفاد من اليهود في الأحكام والتشريعات، قول خلف، لا خطام له ولا زمام، تردُّه أدلة وبراهين لا تخفى على منصف، ولن يغره اتفاق القرآن مع التوراة في أصل بعض الأخبار، كقصة آدم، وإبراهيم، فإن مصدرهما واحد وهو الله.
لقد بدأ التشريع في المدينة فور وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فإن سورة البقرة كانت أول السور نزولاً في المدينة وهي حافلة بالأحكام والتشريعات، حتى قال ابن العربي نقلاً عن بعض شيوخه: ((إن في سورة البقرة ألف أمر، وألف حكم، وألف نهي))( ) فهل يعقل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد تأثر بهذه السرعة مع البيئة ومن فيها، وأفاد من اليهود بهذه السرعة القياسية؟
ذلك أن تفاعل الإنسان مع المجتمع والبيئة الجديدة لا يتم بسرعة بين ليلة وضحاها، وبخاصة ما يرتبط بتطور قدراته الذاتية، وتفاعله مع ثقافة المجتمع الجديد، الذي يعيشه، ويكفينا لتأكيد هذه الحقيقة أن نلقي نظرة على الجماعات المهاجرة في البلدان الأخرى، والمعاناة التي يعانونها بسبب عدم قدرتهم على التفاعل مع مجتمعات هذه البلدان، حتى إن هذه المعاناة قد تمتد إلى أجيالهم اللاحقة ( ).
إن يهود المدينة أنفسهم _ على ما فيهم من حقد على الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام _ لم يصدر مثل هذا القول عن أحد منهم، لكنه بقي قولاً مقبوراً، حتى بعثه هؤلاء المستشرقون في عصرنا.
إننا نبيح لأنفسنا أن نتنَزل مع هذا الخصم، ونفرض أن رغبة كهذه كانت لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل كانت الرغبة نفسها لدى اليهود، لقد جاور اليهود العرب في جزيرة العرب بعامة، وفي المدينة بخاصة عشرات السنين، ولم ينقل لنا قط أنهم تركوا أثراً فيمن حولهم من العرب.
كيف يتصور _ والحالة هذه _ أن ينتقل أثرهم إلى الساحة الإسلامية بهذه السرعة، وبخاصة أنه لدى الرسول صلى الله عليه وسلم وحي محفوظ ولدى اليهود عداوة سابقة للرسول صلى الله عليه وسلم مُقَدَّماً، وضنٌّ بما بين أيديهم على ما فيه من سوء وتحريف، وفي هذا يقول الله تعالى في شأنهم:
ﮋ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰍ ﰎ ﮊ [البقرة: ٧٦].
إن المرء ليعجب من تغافل هؤلاء المستشرقين - وهم يقولون ما يقولون - كيف تجاهلوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ شرَّف المدينة بهجرته إليها نزل عليه قرآن ينعى على اليهود تحريفهم للتوراة، ويشنع عليهم بسبب تلاعبهم في أحكام الله تعالى؟!
لقد كان من أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة قول الله تعالى: ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ [البقرة: ٧٩].
إن أمة ضالة هذه حالها مع كتابها، ليست أهلاً لأن تكون محل ثقة أحد، وحريٌّ بكل ناصح لأمته أن يُحَذِّر منهم، ومن تراثهم، وهو ما رأيناه من النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقات من التوراة، ينظر فيها من باب حب الاستطلاع، فعن جابر بن عبدالله، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: أمتهوكون فيها يا بن الخطاب... والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلاَّ أن يتبعني ( )، أفيعقل بعد هذا أن يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم بما عند اليهود ويفيد منه؟!
إن نظرة موازنة بين الأحكام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين ما بقى بين أيدي اليهود من أحكام، تؤكد وجود اختلاف جوهري في أكثر الأحكام بين الأمتين، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على تأصيل هذه المخالفة حتى غاظهم هذا وقالوا: ما يدع هذا الرجل شيئاً إلا خالفنا فيه ( )، ولسنا بصدد إيراد أمثلة لهذا التباين لأن المقام لا يتسع له.
ومما يحسن إيراده في هذا المقام أن بعض المستشرقين كان يرى أن يهود المدينة كانوا عرباً تهودوا، وكانت تغلب عليهم البداوة وقلة العلم بالتوراة، فكيف ينسجم هذا مع مقولاتهم السابقة؟!
سبقت الإشارة إلى وجود بعض الظواهر الأسلوبية، التي ترى في السور المكية أكثر منها في السور المدنية. ومنها: التكرير في بعض الكلمات والآيات، وقصر السور والآيات، وكثرة الفواصل، وظاهرة التوكيد، وصور التشبيه، والتي يمكن القول إنها لم تكن كثيرة في السور المدنية.
يقول د. عدنان زرزور: ((ربما زينت هذه الفروق الأسلوبية للبعض أو دفعته إلى الظن بأن القرآن الكريم قد خضع في تأليفه لظروف البيئة التي اختلفت بين مكة والمدينة، والتي انعكس أثرها على النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف أسلوبه تبعاً لذلك، وهذه هي النتيجة التي يريد أن يصل إليها الملبس على الناس)) ( ).
وأبهم صاحب العبارة فقال "البعض" ولم يصرح باسم المستشرقين أهو من باب التجاهل لهم؟ أم إنه يريد غيرهم من بني جلدتنا الذين ورد عنهم هذا الكلام وعلى رأسهم د. طه حسين، الذي قال: إن هناك قرآناً مكياً له أسلوب وقرآناً مدنياً له أسلوب آخر، وهو القول الذي يردده المستشرقون وفي مقدمتهم مرجليوث في كتابه ((مقدمة الشعر الجاهلي)) الذي ترجمه د. طه حسين ونسبه لنفسه تحت عنوان ((في الشعر الجاهلي))، والذي رد عليه كثير من العلماء.
لقد كان كفار قريش وهم على كفرهم، وعنادهم، وأميتهم، أكثر احتراماً لأنفسهم من هؤلاء المستشرقين الذين حفلت بهم الجامعات، والمجامع العلمية وظنوا أنهم على شيء.
لم يجرؤ أحد من كفار قريش أن ينال من أسلوب القرآن الكريم، ولم يتقدم أحد منهم للتحدي الذي ورد في السور المكية على مراحل، ففي سورة الإسراء المكية قوله تعالى: ﮋ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﮊ [الإسراء: ٨٨].
ثم تكرر هذا التحدي مرة أخرى في أول سورة مدنية، فقد جاء في سورة البقرة قولـه تعالى: ﮋ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ * ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂﰃ ﰄ ﮊ [البقرة: ٢٣ – ٢٤].
وفي مجيء هذا التحدي في سورة مدنية دليل قاطع على أن الأسلوب ما زال هو الأسلوب، والإعجاز ما زال هو الإعجاز، والتحدي ما زال قائماً في مكة والمدينة على حد سواء.
وهذا واحد من ردود كثيرة على من زعم من المستشرقين ( ) أن أسلوب القرآن في المدينة نزل عما كان عليه في مكة. إن اختلاف أساليب النظم القرآني إنما هي منوطة بالموضوعات التي تَعْرض لها السور؛ فإن السور التي كانت تهدف إلى بيان نذارة، أو ذكر بشارة، فإنه يناسبها السورة القصيرة والآيات الموجزة، وهو ما رأيناه في سورة المسد المكية، وسورة العصر المكية وما فيهما من نذارة. وهو ما رأيناه كذلك في سورة النصر المدنية وما فيها من بشارة، وكذا سورة الكوثر المدنية القصيرة وما فيها من بشارة كذلك.
ويقال الأمر نفسه إذا كان الموضوع في مجال طرح التشريعات والتوجيهات الربانية، والحديث عن مكارم الأخلاق، فإنه يناسب هذه الموضوعات الآيات الطويلة والسور الطويلة كذلك، وهو ما رأيناه في سورة الإسراء المكية، فإنها طويلة وكذلك آياتها؛ لأنها عرضت في جانب منها إلى الوصايا الربانية ( )، وكذلك سورة الفرقان؛ لأنها عرضت إلى بعض التوجيهات والوصايا ( ).
ورأينا الشيء نفسه، في السور المدنية، كالبقرة، وآل عمران، والنساء، فإن ما فيها من تشريعات وأحكام ناسبها أن تكون طويلة والآيات كذلك.
إن هذه النظرة العجلى لما سبق توضح بجلاء، أن القِصَر ليس مرتبطاً بمكة أو بالمرحلة التي سبقت الهجرة، والطول كذلك ليس مرتبطاً بالمدينة أو بالمرحلة التي تلت الهجرة.
وأحسب أن دراسة استقرائية للسور المدنية والمكية في القرآن الكريم سوف تؤدي إلى هذه النتيجة التي أشرنا إليها، وهي دعوة للباحثين _ وبخاصة طلاب الدراسات العليا _ للتصدي لمثل هذه الدراسات.
إن أسلوب الإيجاز والتكرير، ووحدة الفاصلة القرآنية، أو ما يسمى بالسجع، كلها أساليب تناسب المعاندين، وهم يُحذَّرون من الكفر والإعراض، ويُخوَّفون من النار، ويُتوعدون بالبعث حتى تلتقي المعاني مع الأساليب في تحريك الوجدان، وإثارة الشعور، وقرع القلوب المقفلة، والنفوس الغافلة.
لقد أسلم أكثر هؤلاء الذين كانوا في مكة، وهاجروا إلى المدينة فانضموا إلى إخوانهم الأنصار العرب، وتكوَّن منهم مجتمع إسلامي متميز.
لقد نزل القرآن الكريم في المدينة من أجل أن يعمل على تطبيق العقيدة بكل أبعادها والتي ترسَّخت في المرحلة المكية، وذلك من خلال التشريعات والأحكام التي تجعل من الإسلام واقع حياة، وكان هذا الأمر يحتاج إلى خطاب هادئ، وإلى أمة مؤمنة ملتزمة بشرع الله، تنتظر أحكامه سبحانه وتشريعاته.
ويمكن في هذا المقام أن يستعان ببعض الخصائص التي تلقي الضوء على ما ذكرنا، فإن النداء بيا أيها الناس كثر في مكة، وكان قليلاً في المدينة؛ لأنه حل محلها النداء بـ ﮋﯓ ﯔ ﯕﮊ؛ لأنها مناسبة للأوامر والنواهي والتشريعات.
إن هذا التوجه الذي ذكرناه يغني عن التفسير الذي أورده الشيخ الزرقاني _ عفا الله عنه _ وزلَّ فيه قلمه، وهو يفسر مجيء السور المكية موجزة والسور المدنية طويلة، وفيها إطناب وإسهاب؛ وذلك لأن أهل المدينة لم يكونوا يضاهئون أهل مكة في الذكاء والألمعية، وطول الباع في باحات الفصاحة، والبيان، فيناسبهم الشرح والإيضاح، وذلك يستتبع كثيراً من البسط والإسهاب، لأن دستور البلاغة لا يقوم إلا على رعاية مقتضيات الأحوال وخطاب الأغبياء بغير ما يخاطب به الأذكياء( ).
لقد غاب عن الشيخ الزرقاني _ وهو الفهيم _ أن الذين خاطبهم الله تعالى بالسور في مكة هاجروا إلى المدينة، وغاب عنه أيضاً أن عرب المدينة كانوا عرباً خلَّصاً كذلك. وعلى هدى من هذا لا يُسَلم له ما ذهب إليه.
ويحسن بنا ونحن نستدرك على الزرقاني في مقولته أن ننبه لضرورة الحذر حين التصدي لطروحات المستشرقين، فإن الباحث في غمرة الانشغال بالشبه والرد عليها قد يغفل فيقع في محظور، فيزل في طرح أو يسيء في تعبير، أو يخطئ في تفسير، فيزيد الجناية سراية.
إننا نتساءل في هذا المقام، فنقول: إذا كان الحال ما زعمه المستشرقون، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم نمت قدراته، وتأثر ببيئته الجديدة في المدينة فظهرت الفروق بين السور المكية والمدنية، فلمَ لم نلحظ هذا الفرق في الحديث النبوي ما دام المصدر واحداً عندهم؟ فلم يظهر ما يدعو إلى وجود حديث مكي وحديث مدني.
إن التأثر بالبيئة ينعكس لا محالة على الأسلوب، فيورثه تبايناً واضطراباً، وهو ما لم يلحظ البتة في أسلوب القرآن الكريم، فلو كان هناك تدنٍ في مستوى القرآن المدني ـ كما زعموا ـ لما تكرر التحدي بالإتيان بمثله في المدينة كما سبقت الإشارة.
إن الباحث، وهو يتتبع هذه الشُبه ليخشى أن يجعل لها قيمة، حين يظن ظان، أن مجرد العـرض لها، يعـني أن لها حظاً من النظـر، والحق ما قاله أبو الحسن الحصَّار:
فليس كل خلاف جاء معتبراً
إلاَّ خلاف له حظ من النظــر

ولسنا نرغب في التوسع وبخاصة أننا أتينا على أبرز شبههم في هذا المقام، والتي نقلها اللاحق عن السابق.

*****
الخاتمة
يحسن بنا ونحن في خاتمة هذه الدراسة أن نجمع ما تناثر فيها من قضايا ومسائل، ففي لَمِّ شعثها ما يعين على تقديم تصور كامل للموضوع الذي عرضت له، كشفت هذه الدراسة ـ على وجازتها ـ أن ثمة أمراً دُبِّر بليل، على أيدي المستشرقين، وتواصوا به، وهو القول ببشرية القرآن الكريم، الذي لم يكد يسلم منه أحد منهم، إما بمقاله أو بلسان حاله.
كان ميدان الدراسات القرآنية أبرز الميادين التي عبث فيها هؤلاء، فقد قاموا بدراساتهم، وهم يحملون مقررات سابقة، ونتائج جاهزة، وقد أغرتهم وغرتهم دراسات سابقة لهم في التوراة والإنجيل، أوقفتهم على خلط وتناقض وأخطاء فيها، فنالوا من القرآن الكريم.
كان إنكار الوحي منطلق الغالبية منهم في هذه الدراسات، فأثاروا الشبهات حول كثير من الموضوعات التي كان منها المكي والمدني.
كتب المستشرقون لهذا الغرض كتباً مستقلة، مثل ((مقدمة القرآن)) لريتشارد بل، و((كتاب القرآن)) لبلاشير، و((مصادر الإسلام)) لتسدال، و((تاريخ النص القرآني)) لنولدكه، إضافة إلى عشرات الكتب التي ذكرت هذه الموضوعات عرضاً.
يلحظ الباحث وهو يتتبع رحلة الاستشراق، أنهم يتابع بعضهم بعضاً، فهم ناقلون مقلدون، أكثر من كونهم باحثين ناقدين. فإن عامة المستشرقين تابعوا كبراءهم، أمثال: جولد تسيهر، وكازانوفا، ونولدكه، وبلاشير.
عُني علماء الأمة بالمكي والمدني، منذ وقت مبكر، فحُدّد مفهومه، وضُبِطت طرق معرفته، واتضحت خصائصه، وظهرت فوائده، حين أحسن العلماء توظيفه.
درست فئة هذا العلم، وهم المستشرقون، الذين استتروا خلف البحث العلمي، فنسجوا منه شبهاً، في ضوء مناهج بحث مضطربة، يسهل توجيهها، كالمنهج الذاتي، والمنهج العفوي التلقائي.
فحولت خصائص المكي والمدني، على أيديهم، وفي عيونهم، شبهاً ونقائص. سواء ما كان منها ذا صلة بالأسلوب، أو بالمضمون.
لقد كشفت دراسة المستشرقين لعلم المكي والمدني، والنتائج التي خرجوا بها، أنهم يعملون لصالح جهات مشبوهة، وليسوا بعلماء.
لقد أتت دراستهم لاحظ لها من النظر، حين زعموا أن القرآن الكريم كان في مكة خطابياً، يخلو من الحجج، في حين أنه لا تخلو سورة منه من البراهين العقلية، والأدلة المنطقية.
كذلك بان ضعف قولهم إن القرآن الكريم أهمل التشريعات في مكة، وعني بها في المدينة، وقد ثبت لنا أن هذا لم يسلم لهم من حيث الدليل والمدلول.
ظهر لنا أن محاولة المستشرقين توظيف قصر السور والآيات، وطولها، كان عبثياً حين جهلوا، أو تجاهلوا، أن الأمر كله، منوط بالموضوعات التي كانت من متطلبات المرحلة.
وتطاول المستشرقون المستعربون، على أسلوب القرآن الكريم ونظمه، حين حاولوا التفريق بين الأسلوب المكي والمدني، خدمة لأغراضهم، فجاء كلامهم جناية عليهم.

المراجع
1. الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، دار عالم الكتب، بيروت د. ت.
2. آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره دراسة ونقد، د. عمر إبراهيم رضوان، دار طيبة، الرياض ط1.
3. الاستشراق والمستشرقون مالهم وما عليهم، د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1399ﻫ.
4. البيان في عد آي القرآن، عثمان بن سعيد الداني، الكويت، ط1، 1994م.
5. تاريخ الشعوب الإسلامية، بروكلمان، ترجمة نبيه فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1977م.
6. التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، بدون معلومات.
7. صحيح البخاري، البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1421ﻫ.
8. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض ط2، 1421ﻫ.
9. العقيدة والشريعة في الإسلام، جولد تسيهر، ترجمة محمد يوسف، دار الرائد العربي، بيروت.
10. القرآن ونصوصه، د. عدنان زرزور، منشورات جامعة دمشق، ط1، 1400ﻫ.
11. قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، د. فضل حسن عباس، دار البشير، عمان، ط1.
12. كتاب القرآن، بلاشير، ترجمة رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974م.
13. محاضرات في علوم القرآن، د. غانم قدوري الحمد، دار عمار، عمان، ط 1423ﻫ.
14. مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب وزملائه، مؤسسة الرسالة، ط/1، 1419ﻫ.
15. مكي القرآن ومدنيه، محمد الهادي كريدان، المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس ط1، 1984م.
16. مناهل العرفان في علوم القرآن، عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الثراث العربي، القاهرة، د. ت.
17. الناسخ والمنسوخ، أحمد بن محمد النحاس، القاهرة، د. ط.
18. نبوة محمد في الفكر الاستشراقي المعاصر، د.لخضر شايب، الناشر مكتبة العبيكان، الرياض ط1، 1422ﻫ.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك