أساليب المستشرقين في ترجمة معاني القرآن الكريم دراسة أسلوبية لترجمتي سيل وآربري لمعاني لقرآن الكريم إلى الإنجليزية

أساليب المستشرقين في ترجمة
معاني القرآن الكريم
دراسة أسلوبية لترجمتي سيل وآربري لمعاني لقرآن الكريم إلى الإنجليزية

إعداد
د. حسن سعيد غزالة
مقدمة
كما هو معروف فشلت كثير من ترجمات القرآن الكريم لمختلف لغات العالم الحية، وعلى رأسها الإنجليزية، في ترجمة معانيه. لكنها تفاوتت فيما بينها في مدى اقترابها من التعبير عن المعنى المقصود بشكل عام. يدور هذا البحث حول مدى نجاح ترجمتين إنجليزيتين استشراقيتين شهيرتين لمعاني القرآن الكريم، (الأولى لجورج سيل، والثانية لآرثر آربري، وكلاهما إنجليزي) أو فشلهما في الاقتراب من أسلوب القرآن الكريم، وبالتالي من المعنى المقصود.
تعتمد دراسة أسلوب الترجمتين المذكورتين على اعتبار الأسلوب كخيار متاح للمترجم من متن اللغة فيما يتعلق بشكل النص وتنضيده على الصفحة، واختيار الكلمات والمصطلحات والتعابير والصور البيانية والبلاغية، والبنى النحوية للجمل والعبارات الفعلية والتراكيب اللغوية وأنماطها، والسمات الصوتية والمحسنات البديعية المختلفة. وباختيار المترجم لشكل معين للنص دون غيره، ولنمط معين من الجمل، وللفظة دون سواها، ولسمة صوتية دون غيرها، يعني أنه فضلها على غيرها متاحة له في مخزون اللغة، وإذا أغفلها يعني أنه اختار ذلك كحل أفضل من استخدامها، وإذا زاد فيها أو أنقص فيعني هذا أنه رجح الزيادة على النقص، أو النقص على الزيادة.
تقوم الدراسة على مقارنة الخيارات الأسلوبية في ترجمة كل من جورج سيل (1734/1877م) وآرثر آربري (1964م). ثم تقارَن خيارات المترجمين بأسلوب النص القرآني الأصل، وإلى أي مدى وفقا أو فشلا في نقله ولو بشكل تقريبي. تمكننا هذه الدراسة من الحكم على أسلوب الترجمتين المذكورتين وانعكاس ذلك على المعنى، ومدى قبولهما أو رفضهما. وتسعى هذه الدراسة الأسلوبية أيضا إلى إنصاف المترجمين والحكم على ترجمتيهما من خلال الترجمة من دون التأثر بآراء وأحكام سابقة على شخصيتي المترجمين. ونعتقد أن معظم الباحثين والنقاد في هذا المجال غالوا في هجومهم على الترجمات الاستشراقية بشكل عام، وأطلقوا عليها أحكاماً تعميمية ولم يستثنوا منها أحداً من المستشرقين؛ إذ اتسمت بعض هذه الأحكام بالجور أحياناً، لأنها بنيت على السلبيات، مع إغفال تام للإيجابيات. حتى إن بعض الباحثين نبشوا سلبيات لا وجود لها؛ بغية دعم حججهم، وهذا ليس من الإنصاف.لذا نأمل أن توفر هذه الدراسة الأسلوبية منطلقاً جيداً لحكم أكثر إنصافاً على ترجمات المستشرقين للقرآن الكريم، وهذا مبدأ قرآني عظيم يقضي بالحكم بالعدل بين جميع الناس، مسلمين وغير مسلمين. كما ينبغي تجنب وضع كل هذه الترجمات في سلة واحدة. بل إن المترجم نفسه قد يجيد في أشياء ويخفق في أشياء. وتتضمن الدراسة النقاط التالية:

أسلوب الشكل العام للنص وتصميمه
اعتمد سِيل على أسلوب النص النثري المتواصل الذي يتألف من جمل متواصلة تفصل بينها علامة الترقيم، النقطة، علماً أن كل أنواع علامات الترقيم الأخرى مستخدمة في النص، مما يعني أن المترجم اعتبر النص القرآني المترجم كأي نص آخر، وهذا غير وارد. كما أن استخدامه للنقطة داخل الآية الواحدة (فعل هذا آربري أيضاً) يخلط على القارئ أمر بداية الآية ونهايتها. كما أنه لا وجود للفقرات أو لأي نوع من التقسيم أو التجزيء للسورة الواحدة، أو حتى الفصل بين الآيات بمسافة في الطباعة (كما فعل آربري بشكل عام، وبأساليب طباعية مختلفة). وهذا الشكل من النصوص ممل ولا ينم عن تقدير المترجم لخصوصية الشكل العام للنص الأصل حق التقدير. انعكس هذا الانطباع العام سلباً على الترجمة، علماً أن الأمر قد لا يكون مقصوداً من المترجم، ولكن هذا الانطباع يطرح نفسه تلقائياً. فالآيات تحولت إلى جمل متراصة يصعب تمييزها بسهولة عند القراءة. كما أن المترجم قسم بعض الآيات إلى أكثر من جملة، لتضاف سلبية أخرى للشكل العام لنص الترجمة.
أيضاً مما لفت الانتباه في النص المترجم كتابة بعض الكلمات والعبارات بحروف مائلة زادها المترجم في ترجمته، أو بغية إبرازها وإضفاء أهمية أكبر عليها. وهذا غير مقبول في ترجمة القرآن الكريم بشكل خاص لسببين: أولهما، لا يجوز إيلاء أهمية في القرآن الكريم لآيات دون سواها، فآيات القرآن كلها في مرتبة واحدة في الترجمة. وثانيهما، أن المترجم بهذا الأسلوب يتدخل في النص فيبرز ما يريد ويقلل من أهمية ما لا يريد من دون سبب وجيه.
أما استخدام المترجم لأسلوب التوكيد هذا في إشارة إلى إضافات وزيادات أدخلها في النص، فهذا أمر وارد بل ومفضل بغرض الدلالة على ما زاده على النص الأصل، سواء من باب التفسير للتوضيح، أم لسد ما يسمى بالفرج اللفظية (وهي كلمات وإشارات تضاف في متن نص الترجمة للتبيين والتوضيح وتجنب الغموض نظراً لاحتمال وقوعه عند قارئ الترجمة، أو لعجز نحوي أو معجمي في اللغة الهدف عن مجاراة اللغة الأصل في قوة التعبير أو الإيجاز، أو اختلاف بين اللغتين في القواعد والنحو)، وسيأتي ذكرها لاحقاً في هذه الدراسة.
من جهة أخرى، اعتمد المترجم بشكل أساسي على أسلوب التعليق والتفسير المسهب من خلال الحواشي، وهذا أسلوب ضعيف في الترجمة إلا في ترجمة معاني القرآن الكريم، فهو الأسلوب الأفضل نظراً للحاجة الماسة للتفسير والشرح والتوضيح كما هو معلوم. في هذا الأسلوب بالذات يتفوق جورج سيل على آرثر آربري الذي اقتصر على الترجمة من دون أي تعليق أو شرح أو حاشية، مما أدى إلى إبقاء الكثير من الغموض والصعوبة في الترجمة الإنجليزية. وقد يسر الله القرآن للذكر, إلا أن المسلم الذي لم يتعلم العربية والعلوم المساعدة لا يهتدي لمعرفة مضامين القرآن, فكيف بمن قام به مانعا الكفر والعجمة؟ لكن آربري كان محقاً في عدم إبراز كلمات أو تعابير معينة، لا بأسلوب الكتابة المائلة ولا بغيره حفاظاً على إيلاء أهمية متساوية لكل آية من آيات القرآن الكريم، وبهذا الأسلوب ضَمِن حياده في هذا الصدد. من جهة أخرى، اعتمد آربري على أسلوب المقطع الشعري وشكل القصيدة في نصه المترجم، واعتبر هذا شكلاً مميزاً لم يسبقه إليه أحد في أي ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن الكريم، كما ذكر في مقدمة ترجمته. في اعتقادنا، هذا غير مقبول؛ لأنه قد يوحي للقارئ الإنجليزي بالنظم الشعري للنص الأصل، وكما هو معلوم يعد القرآن الكريم أبعد ما يكون عن الشعر، لذا يعتبر هذا الشكل الشعري لترجمة آربري من المساوئ لا من المحاسن.

أسلوب المفردات والبنى النحوية
1- العنوان:
اختار سيل كلمة واحدة فقط عنواناً لترجمته لمعاني القرآن الكريم، وهي (القرآن)، والتي توحي بأن النسخة المترجمة إلى الإنجليزية هي الأصل عن النسخة العربية الأصلية، وأن هذا هو القرآن بالإنجليزية تماماً كما هو بالعربية. وهذا طبعاً غير وارد (علماً أنه أورد عنواناً فرعياً على الصفحة الأولى بعد الغلاف؛ ليصبح العنوان: (القرآن مترجماً إلى الإنجليزية من الأصل العربي). وكان الأولى كتابة هذا العنوان كاملاً على الغلاف. أما آربري فاختار عنوان (القرآن مفسراً) رداً حسب قوله على مزاعم بعدم إمكان ترجمة القرآن الكريم. بل نرى التفسير المسهب عند سيل الذي لم يأت في عنوانه على ذكر التفسير. لكن يعتبر عنوان آربري مسوغاً إذا كان المقصود منه الإيحاء بأن القرآن الكريم لا يترجم بل يمكن أن يفسَّر فقط.
2- نمط اللغة:
استخدم كلا المترجمَين: سيل وآربري ألفاظاً إنجليزية تعود إلى عهد اللغة الإنجليزية الحديثة (وهي لغة شكسبير)، أي ما يسمى خطأً باللغة الإنجليزية القديمة. فالإنجليزية القديمة (حتى 1150م) تكاد تكون مبهمة ولا تفهم من الإنجليز أنفسهم، إلا كليمات لا تتجاوز نسبة 10% من النص. فهي غريبة عليهم تماماً. أفضل منها بقليل ما يسمى بالإنجليزية المتوسطة (حتى 1480م)، يليها عهد الإنجليزية الحديثة حتى (1750م) حيث بدأ عصر اللغة الإنجليزية الحديثة بنشر قاموس الدكتور جونسون للغة الإنجليزية. وتعتبر اللغة الإنجليزية الحديثة لغة مفهومة بشكل عام مع اختلاف في بعض قواعدها ومفرداتها لكنها لا تعيق الفهم.
صحيح أن سيل استخدم كثيراً من الكلمات التي تعود إلى تلك الحقبة من اللغة الإنجليزية، لكن آربري الذي أخذ عليه هذا لم تخل ترجمته من كثير من هذه الكلمات، والفرق بينهما في الكم فقط. من ناحية أخرى، ربما يعتبر استعمال كلمات إنجليزية غير معاصرة معيقاً للفهم، إلا أنه دليل على استخدام لغة رفيعة المستوى تليق بلغة القرآن العظيم. وهذه وجهة نظر تستحق الوقوف عندها، علماً أن عبد الله يوسف علي ومحمد بيكثول استخدما مفردات مشابهة أيضاً، وللسبب نفسه.
3- أسلوب التبجيل:
تفاوت المترجمان في استخدامهما لأسلوب التبجيل تبعاً للأصل ولو في بعض الأحيان على أقل تقدير. فتارة يتفوق سيل على آربري، مثال: ﮋﭾ ﭿ ﮀ ﮊ [آل عمران: ٤٠]، ترجمها سيل إلى:when old age has overtaken me، بينما ترجمها آربري إلى: seeing I am an old man. وتارة أخرى يتفوق آربري على سيل، مثال : ﮋ ﭳ ﭴ ﭵﮊ [مريم: ١٦]: ترجمها آربري إلى: make commemoration، لكن سيل قال: remember. وتارة ثالثة يتساويان في الميزان كقول آربري في ترجمة
ﮋ ﭿ ﮀﮊ [البقرة: ٢٦]: strike a similitude وقول سيل: propound a parable، وكلتاهما جيدة، وفي أكثر الأحيان يتطابقان تماماً في الترجمة، والأمثلة كثيرة. أيضاً يتساويان أحياناً في الضعف كترجمتهما لكلمة )يعبد( إلى: serve. بشكل عام التقى المترجمان في ترجماتهما التبجيلية أكثر مما اختلفا مع أرجحية لآربري، وبخاصة فيما يتعلق بلفظ الجلالة (الله) (God) والإشارات والضمائر العائدة إليه، حيث يستخدم آربري الحرف الكبير للضمير العائد للفظ الجلالة، بينما لا يفعل ذلك سيل. وهذه نقطة غاية في الأهمية. فالتبجيل يحصل في التهجئة بالإنجليزية، كما هو في الترجمة واختيار الألفاظ المناسبة. لكن سيل من جهة أخرى يكتب لفظ الجلالة (GOD) ولفظة (رب) LORD بحروف كبيرة دائماً إعلاء لشأنهما.
4- أسلوب الاحتشام:
وردت في القرآن عبارات ومفردات عن المعاشرة الزوجية وما شابهها في أعلى درجات الاحتشام. حرص المترجمان على الحفاظ على هذا الاحتشام في الإنجليزية، من الأمثلة على ذلك:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﮊ [يوسف: ٢٣] (she …desired him to lie with her) (سيل)، وأفضل منها: woman…solicited him) (the (آربري). وافقه في هذا يوسف علي: seduced him) (she ، وزيدان: (and the woman began to tempt him). وهذه الترجمات الثلاث الأخيرة جيدة ولم تخرج عن الحشمة، وهي أفضل بكثير من ترجمة بكثول الذي غالى في التعميم إلى درجة التعتيم بقوله: asked of him an evil act she؛ إذ يندرج تحت (عمل السوء) القتل والاعتداء والضرب والسب والشتم والخيانة ومعاصٍ أخرى كثيرة، ولا تدل بالضرورة على المراودة حصراً. على أية حال لا ترقى أي من الترجمات السابقة إلى عظمة الأصل وبلاغته.
–ترجمة ﮋ ﭛ ﭜ ﮊ [يوسف: ٢٣] إلى: take me (آربري) و(come hither) (سيل)، علماً أن الأولى أكثر احتشاماً وعمومية، مثلها مثل ترجمة بكثول: come، وتعتبران أفضل من ترجمة يوسف علي come dear to me على أية حال كل هذه الترجمات ملتزمة بالحشمة إلى حد معقول.
ﮋ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﮊ [يوسف: ٢٤] .
(سيل)
She resolved within herself to enjoy him, and he would have resolved to enjoy her.
(آربري)
…for she desired him, and he would have taken her.
لا شك أن هذه الروايات محتشمة ومقبولة لغوياً وأسلوبياً، ولم تتعد حدود الأدب، لكنها تبقى دون الأصل بكثير بحشمته وبلاغته.
ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﮊ [البقرة: ٢٢٣ ]:
(آربري)
Your women are a tillage for you, so come unto your tillage as you wish.
(سيل)
Your wives are your tillage, there fore unto your tillage in what manner soever ye will.
تعتبر هاتان الترجمتان من الترجمات الناجحة نظراً لمحافظتهما على المصطلح العربي الأصل )حرث( (tillage)، وهو قمة الاحتشام وقوة التعبير ودقة البيان. كلا المترجمَين -والحق يقال- حريص على أسلوب الاحتشام في ترجمته, دونما إساءة ولا تعد للحدود.
5- أسلوب استخدام المفردات السهلة:
مال المترجمان كلاهما إلى استخدام المفردات السهلة بشكل عام، اللهم إذا ما استثنينا المفردات القديمة بعض الشيء. فقد ابتعدا في معظم الأحيان عن أسلوب استعراض العضلات المتمثل في استخدام كلمات ومصطلحات غريبة وصعبة ومعقدة وطنانة رنانة. والهدف من ذلك التعبير عن المعنى بلغة سهلة وسلسة مما ييسر الفهم على القارئ، ومن أمثلة ذلك: ﮋ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ * ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﮊ [الكهف: ١٠٩ –١١٠ ]
(سيل):
Say, if the sea were ink to write the words of my LORD, verily the sea would fail, before the words of my LORD would fail; although we added another sea like unto it as a further supply. Say, Verily I am only a man as ye are. It is revealed unto me that your GOD is one only GOD: let him therefore who hopeth to meet his LORD, work a righteous work; and let him not make any other to partake in the worship of his LORD.
(آربري):
Say: if the sea were ink for the Words of my Lord, the sea would be spent before the Words of my Lord are spent, though We brought replenishment the like of it. Say: I am only a mortal the like of you; it is revealed to me that your God is One God. So let him, who hopes for the encounter with his Lord, work righteousness, and not associate with his Lord's service anyone.
إذا ما استثنينا كلمة replenishment عند آربري، لا نجد كلمة صعبة في ترجمة هاتين الآيتين في آخر سورة الكهف، مما يسهل على القارئ الفهم والمتابعة والاستيعاب دونما صعوبات تذكر.
لكن قد يكون استسهال المفردات على حساب بلاغة القرآن الكريم وفصاحته وبيانه. مثلاً في ترجمة ﮋ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﮊ [مريم: ٤].
قال آربري:
…behold the bones within me are feeble and my head is all aflame with hoariness.
وقال سيل:
…verily my bones are weakened and my head is become white with hoariness(
وفي ترجمته لقوله تعالى: ﮋ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊ [مريم: ٨]
قال آربري:
…and I have attained to the declining of old age.
أما سيل فترجمها إلى:
…and I am now arrived at a great age, and am decrepit.
صحيح أن آربري أكثر متابعة ودقة لصورة الأصل العربي، إلا أن كلا المترجمَين أخفق في الاقتراب من الصورة البيانية البليغة للأصل. بشكل عام كان الأسلوب السهل في استخدام الألفاظ طاغياً عند المترجمَين مما سهل الفهم، لكنه ابتعد عن روح الأصل ووقعه وبلاغته.

6- أسلوب الاتساق في استخدام المفردات:
عانى المترجمان من عدم الاتساق في استخدام ترجمات مختلفة بالمعنى نفسه، فمرة يترجم سيل (اذكر) إلى: remember وأخرى إلى:
make commemoration وثالثة إلى: mention. كما أنه يترجم )يعبد( أحياناً إلى: serve وأخرى إلى: worship. على أية حال، هذه حالات استثنائية عند سيل. أما عند آربري فحالات متكررة في ترجمته.
فعلى سبيل المثال، يترجم لفظ (الرحمن) في البسملة دائماً إلى: The Merciful بينما يترجمها إلى: All-Merciful في سورتي الرحمن ومريم وغيرهما. لكنه يعود لترجمتها في سورة الإسراء إلى: The Merciful. أما في سورتي طه والحجرات فيترجمها إلى: The All-compassionate، وهذه نقطة ضعف في أي ترجمة لأنها تنعكس سلباً على الدقة عند المترجم.
7- أسلوب الإطالة والاقتضاب:
يعتبر أسلوب الإطالة ظاهرة طاغية في أي ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية بشكل عام، ولا غرابة في ذلك؛ إذ لا يضاهي بلاغته في الإيجاز أحد من البشر. لكن اختلف المترجمون في النسبة. فعند (سيل) مثلاً تبدو الإطالة هي القاعدة لا الاستثناء للأسباب التالية:
1- بلاغة القرآن وإعجازه في الإيجاز. (مثال: مر بنا ﮋ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﮊ وآلاف الأمثلة الأخرى غيره).
2- التفسير المسهب والزيادة داخل النص لكثير من الآيات أو الأجزاء منها مثل ترجمته لقوله تعالى في سورة مريم ﮋ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﮊ [مريم: ٥٠] إلى:
We bestowed on them through our mercy the gift of prophecy, and children and wealth, and we caused them to deserve the highest commendations.
3- إضافة شروحات زائدة وخارجة عن النص أحياناً (مثال: ترجمته لقوله تعالى: ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﮊ [مريم: ٤٨] على لسان إبراهيم عليه السلام في سورة مريم إلى:
it may be that I shall not be unsuccessful in calling on my Lord, as ye are in calling upon them
(حيث أضاف العبارة المشار إليها بخط).
أما آربري فقد أطال كثيراً عند الضرورة القصوى فحسب (كما مر في مثالنا عن ترجمته لقوله تعالى: ﮋ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﮊ وغيره كثير)، وتجنب التفسير والزيادات والحشو. بيد أنه فشل في الترجمة أن يأتي بها وفيها خصائص النص القرآني من الإيجاز والبيان وغيرها. لا شك أن سيل أسهب في الإطالة وبالغ لإدراكه استحالة ترجمة معاني القرآن بأسلوب مقتضب مطابق لأسلوب القرآن الكريم. لكن آربري من ناحية أخرى بالغ في الاقتضاب محاولة منه أن يقترب من الأصل, وأنى له ذلك؟ كما أنه بتركه للتفسير والشرح كلية أدى إلى إبقاء الكثير من المضامين والمعاني والإشارات مبهمة للقارئ الإنجليزي غير المسلم على وجه الخصوص. ليس هذا فحسب، فقد بدت بعض الترجمات خاطئة بسبب ذلك. مثال ذلك ترجمته لسورة (البلد) (Land) (أي الأرض). ولو أنه وضحها بين قوسين بقوله (مكة المكرمة)، أو أضاف كلمة أخرى مثل (holy) أو (secure) (الأمين) لكان صواباً، ولفهم أنها ترجمة للأرض المقدسة في الحالة الأولى، والبلد الأمين في الحالة الثانية. كما أن ترجمته الكلمة دون توضيح المراد بها في ترجمته للآيات في مطلع كل من سورتي (المرسلات) و(الذاريات): عتم على القارئ المعنى تماماً.
إذاً لا يعتبر أسلوب الاقتضاب الأسلوب الأمثل في الترجمة دائماً. وحتى لو كان كذلك في الترجمة بشكل عام، فالأمر مختلف تماماً حينما نتحدث عن ترجمة معاني القرآن الكريم.
8- أسلوب سد الفرج اللفظية:
ينص هذا الأسلوب في نظرية الترجمة على قيام المترجم بإضافة كلمات وإشارات وضمائر وأسماء وأفعال يرى أنها غائبة في نص الترجمة وضرورية لتوضيح إشارة غامضة أو لتعويض كلمة (أو كلمات) ناقصة في لغة الهدف. إذاً في حالة النقص أو الغموض (النحوي/ القواعدي أو المعجمي/اللفظي) يقوم المترجم بإضافة لفظة أو أكثر لتعويض النقص أو إزالة الغموض.
استخدم سيل هذا الأسلوب كثيراً في ترجمته إلى حد الإفراط، فأضاف ما يلزم وما لا يلزم. على سبيل المثال، أضاف لفظة (مصر) نسبة للملك غير الموجودة في قوله تعالى في سورة يوسف: ﮋ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ [يوسف: ٤٣]. كما أضاف (في منامي): in my dream بعد (أرى) وأضاف إلى ﮋ ﯰ ﯱ ﮊ [يوسف: ٤٣] لفظة )ذُرة(:corn. وأضاف )إنها( (They are) إلى ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﮊ [يوسف: ٤٤] كما أضاف صاحب يوسف في السجن: Joseph's fellow-prisoner، إلى ﮋ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ [يوسف: ٤٥]. ولعل هذه الإضافات مسوَّغة إلى حد ما، أما إضافته الطويلة في ترجمته لـ: ﮋ ﭥ ﮊ في الآية نفسها إلى: (أرسلوني إلى الشخص الذي سيؤولها لي. وذهب إلى السجن وقال):
…go unto the person who will interpret it unto me. And he went to the prison and said…
وإضافته قبل ﮋ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮊ لعبارة: )ولما عاد السقاء وأخبرهم بذلك(:، وإضافته قبل ﮋ ﯣ ﯤ ﯥ ﮊ [يوسف: ٥١] لعبارة: (وعندما مثلت النسوة بين يدي الملك): And when the women were assembled before the king. هذه الإضافات وغيرها كثير من شاكلتها وصلت إلى حد الإفراط وتجاوزت حدود الضرورة إلى الحشو الزائد، مما أضعف الترجمة وحولها إلى شرح مطول.
أما آربري الذي عنون ترجمته بـ )القرآن مفسراً(، فعلى النقيض من سيل اتبع أسلوب تفادى أي إضافات أو زيادات إلى درجة الإفراط. فقد تجنبها حتى في حالات الضرورة القصوى (كما مر معنا قبل قليل في ترجمته لسورة البلد إلى: land من دون أي تحديد أو وصف أو إشارة تميزها على أنها )البلد الحرام( حصراً؛ وكذلك ترجمته للنعت دون ذكر المنعوت في بداية كل من سورتي (المرسلات) و(الذاريات) يعتبر هذا الأسلوب كما أشرنا من قبل متميزاً في غير ترجمة القرآن الكريم. فإعجاز بلاغته تعجز أهل اللغة العربية، فكيف بغيرهم ممن لا يعرفونها؟ إن أسلوب ملء الفرج اللفظية في لغة الهدف أسلوب مستحسن في حالات الضرورة القصوى حتى لا تطول الترجمة ويكثر الحشو، وتتحول إلى شرح زائد لا حاجة لنا به، مما يضعفها ويقلل من احترام المترجم لقارئه الذي لا يعتبر جاهلاً بكل شيء.
9- أسلوب التوضيح:
اتسم أسلوب ترجمة سيل بالولع الشديد بالتوضيح داخل النص وخارجه من خلال التعليق والحواشي. وكان في كثير من الأحيان محقاً في ذلك نظراً للحاجة الماسة إلى هذا الأسلوب عند ترجمة معاني القرآن الكريم على وجه التحديد، وإلا شاب كثير من معاني الآيات والإشارات الغموض في فهم معانيها باللغة الإنجليزية. وقد ورد في الفقرة السابقة أمثلة على ذلك، وأن هذا الأسلوب ضروري في ترجمة معاني القرآن الكريم، لكن المترجم أفرط في ذلك فأفسد بعض ترجماته.
أما آربري فقد اكتفى بالمتابعة الحرفية للنص الأصل وأن تكون بلغة سهلة واضحة ميسرة مقتضبة بقدر الإمكان. لكن فاته أن هذا غير كاف عند ترجمة معاني القرآن العظيم. إذ لا بد من توضيح إشارات مستترة كثيرة يصعب جداً على القارئ الإنجليزي أن يستنبطها بنفسه. نزيد على ما ورد من أمثلة فيما سبق ترجمته لسورة الطور بـ (الجبل): mount، وهي ترجمة عامة لا تشير إلى جبل الطور. وقد ترجم آربري (الطور) إلى ما يسمى في نظرية الترجمة بالمصنِّف، أو اللفظة المصنِّفة لها، وهي الكلمة المعرِّفة لمصطلح يحتمل الغرابة وشارحة له؛ بغية التعريف به تعريفاً عاماً، أهي مدينة، مثلاً، أم بحر، أم جبل، أم اسم علم، أم موقع، أم ساحة، أم ماذا؟ وتوضع بين قوسين: فتكون الترجمة الطبيعية (للطور) (جبل الطور): The Mount of Aṭṭūr.
10- ترجمات خاطئة:
وردت أخطاء وهفوات عند المترجمين مردها سوء الفهم بشكل عام. ونبدأ بسيل فإنه لم يميِّز بين الفجر والصبح والفلق، فكلها عنده: daybreak، ومن أخطائه الفادحة أيضاً ترجمته للحروف المقطعة في بدايات بعض السور: (مثل: الم-الر- ن-كهيعص- طه- يس وغيرها)؛ إذ ترجمها إلى أحرف هجائية إنجليزية مقابلة، فأصبحت ألف لام ميم (إيه-إل-إم ِALM)، وألف لام راء (إيه-إل-آر ALR)، ونون (إن N)، وكاف ها يا عين صاد (سي- إتش- واي- إيه- إس C-H-Y-A-S)) وطه (تي-إتش-T. H.) وياسين (واي-إس .Y. S) وكلها لا تمت بصلة إلى الأصل الذي يجب أن يكتب كما يقرأ، لا كما يهجأ.
أما آربري فلم يدرك في ترجمته للبسملة الفرق بين الصفة المشبهة، صيغة المبالغة للفظ (الرحمن)، وصيغة اسم الفاعل راحم. فترجم (الرحمن) إلى: Merciful، من دون مبالغة الأصل في ترجمتها Most Merciful/All-Merciful. أخطأ آربري أيضاً في ترجمة (أحلام) في سورة يوسف إلى: nightmares أي كوابيس، بدلاً عن: dreams أي أحلام. أيضاً ترجم (سوياً) في سورة مريم إلى: though being without fault أي بريئاً من الخطأ، بينما هي (وأنت صحيح معافى): with no bodily defect. ومن أخطائه أيضاً ترجمته لقوله تعالى: ﮋ ﮑ ﮒ ﮓ * ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ [القيامة: ٣٤ ، ٣٥] إلى: nearer to thee and nearer then nearer to thee and nearer، بدلاً عن Woe be unto thee; and then woe be unto thee. لكن سيل لم يرتكب هذا الخطأ، كما أنه ترجم (أحلام) إلى: dreams. لكن كليهما فشل في ترجمة (أرى): vision، أي رؤيا، في قوله تعالى في سورة يوسف: ﮋ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ [يوسف: ٤٣] ويؤكد صواب هذه الترجمة لفظة (رؤيا) التي وردت في آخر الآية نفسها ﮋ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﮊ [يوسف: ٤٣]. ولم يفلح في ترجمة (أرى) إلى: vision، سوى عبد الله يوسف علي. أما بكثال ومجمع الملك فهد فترجماها إلى: dream. أيضاً لوحظ على آربري أخطاؤه في تسمية بعض السور، مثال ذلك ترجمته لسورة البلد إلى: land، (وقد مر بنا مناقشتها)، وسورة الواقعة إلى: Terror، بدلاً عن: The Inevitable Event، و(المُلك) إلى: Kingdom، والأولى أن تترجم إلى: The Sovereignty، التي تَفْضل: Dominion، التي قد تنطوي على مضامين سلبية (هناك مزيد من التفصيل عن أخطاء آربري عند ساب (2002) ومهر علي (2002)، علماً أن مهر علي كان أكثر تحاملاً وأقل دقة في ترجماته المقترحة البديلة، مثلاً اعتراضه غير الصحيح على حذف المترجم لـ: (أل) التعريف: the قبل: praise أي الحمد، وتصويبه المجانب للصواب لترجمة آربري الصحيحة لـ: ﮋﭟ ﭠﮊ إلى: doom، إذ تحمل هذه الكلمة أكثر من معنى، وهذا أحدها. كما أنه اعترض على ترجمة (بالمر) للفظة (ضرباً) في قوله تعالى: ﮋﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥﮊ [البقرة: ٢٧٣] إلى: knock about، وهي دقيقة، فظن مهر علي خطأ أنها (يقرع)، وهي ليست كذلك؛ لأنها فعل مركب: a phrasal verb، يحمل معنى مختلفاً. ولو أنه أخذ على (بالمر) استخدامه لأسلوب العامية ترجمة لهذه العبارة المليئة بالفصاحة والبلاغة والبيان، باستخدامه هذا الفعل؛ لأن الأفعال المركبة أقرب إلى الأسلوب العامي، لكان محقاً. كانت أخطاء الترجمة عند آربري على نحو عامّ عديدة كما هي عند سيل، لكنهما اشتركا في أخطاء واختلفا في أخرى.
نستنتج مما سبق أن أي ترجمة استشراقية لمعاني القرآن الكريم إنجليزية كانت أم غير ذلك، لا تخلو من أخطاء وهفوات غير مقصودة ترجع في مجملها لكون المترجم أعجميا، ولصعوبة لغة القرآن الكريم وبلاغته الإعجازية، ولوجود نقاط ضعف عند المترجم أحياناً، أو لسوء فهم للمعنى أو خلط في معاني الكلمة نفسها( ). وهذه الأخطاء لا تسوغ شن هجوم على كل المترجمين المستشرقين واعتبار أخطائهم كلها مقصودة لتشويه لغة القرآن الكريم، إلى درجة ربطهم بالصهيونية من خلال الإسرائيليات، علماً أن كثيراً منهم عاشوا وماتوا قبل ظهور الحركة الصهيونية! راجع عبد المحسن(2002) والتمسماني(2002)، وغيرهما ممن أدانوا كل المستشرقين والترجمات الاستشراقية، وفي الوقت نفسه أشادوا ببعض الأسماء كوصف التمسماني لعربية آرثر آربري بالفذة، ولترجمته بالرائعة والممتازة! ولسيل بشيخ المترجمين الإنجليز! فبأي الرأيين نأخذ؟ مع تسجيل تحفظنا على ما قاله عن ترجمة آربري وعن مشيخة سيل!. كما هو معروف، وكما ذكر الباحث نفسه، فالإسرائيليات موجودة في كتب إسلامية عديدة بما فيها كتب التفسير، لكن لم يوجه لأصحابها تهمة التحريف والتشويه والإدانة والشجب، فالإنسان إنسان، يخطئ ويصيب. من جهة أخرى كل من ترجم القرآن أخطأ حتى المترجمين المسلمين( ). بعبارة أخرى، إننا مطالبون بالعدل والإنصاف ورؤية ترجمات المستشرقين حتى المتجنين منهم بعينين اثنتين، لا بعين واحدة، كما فعل شيخ الشباب (1421ﻫ/2001م) على سبيل المثال، حيث شهد لمراتشي بالوفاء في ترجمته للنص القرآني على غير ما هو متوقع قياساً على عنوان ترجمته: (افتراء القرآن)، كما أنه رأى في ترجمة سيل رأياً إيجابياً بالمقارنة مع أسلافه من المترجمين الإنجليز، على الرغم من مغالطاتها. وهذا ما ندعوه بالدقة العلمية التي تحلى بها شيخ الشباب وغيره من الباحثين الذين أنصفوا حتى الخصوم.
فالأخطاء، إذاً أمر طبيعي عند كل المترجمين ومن طبائع البشر. أما المغالطات فأمر آخر مختلف تماماً تستوجب الوقوف عندها، كما في النقطة التالية.
11- أسلوب المغالطات:
وردت في ترجمة سيل مغالطات عدة جاء معظمها في التعليق والحواشي، لسببين رئيسين: الأول، إقحامه تفسيرات نصرانية أو إسرائيليات لبعض الأحداث مأخوذة من كتّاب إنجليز. أما الثاني: فيرجع إلى قلة المصادر التي استعان بها في ترجمته؛ إذ تكرر عنده ذكر ثلاثة أسماء فقط، وهي: البيضاوي، والزمخشري، وجلال الدين (أو ربما صاحب الجلالين!) (علماً أن هذه الأسماء وردت عند بكثول أيضاً كمراجع). والبيضاوي والزمخشري ليسا من الأسماء المشهورة في هذا المجال. يعني هذا أنه لم يتوسع كثيراً في قراءاته لمعاني القرآن الكريم وتفسيره. وأحسب أن من الصعب الحكم على هذه المغالطات ما إذا كانت مقصودة أم غير مقصودة. فالنية لا يعلم بها إلا الله عز وجل؛ إذ تتردد هذه المغالطات عند النصارى بشكل عام. ومهما كان المستشرق حيادياً أو موضوعياً فهو نصراني متأثر بنصرانيته بشكل أو بآخر، ودليل ذلك أنه بقي على نصرانيته، ولو أسلم لاختلف الأمر تماماً. وما بقاء سيل وآربري وغيرهما على دينهم بعد ترجمة معاني القرآن ودراستهم له إلا دليلٌ على غفلتهم عن حقيقته من جهة، ومن جهة أخرى تمسكهم بمعتقداتهم النصرانية التي أورد سيل بعضها، وعلى رأسها إشارته إلى أن القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم؛ علماً أنه ناقض إشارته هذه في مناسبات كثيرة في ترجمته وتعليقاته وتفسيراته. وفي تقديم الترجمة أكد السير إدوارد دينيسون روس (Sir Edward Denison Ross) أن كل الدارسين للقرآن الكريم (ومنهم سيل طبعاً) يدركون أن النص الأصل للقرآن الكريم بالعربية لا يمكن أن يكون أبداً من كلام محمد صلى الله عليه وسلم وتأليفه، بل هو كلام الله منَزل على نبيه:
It is well for all who study the Quran to realize that the actual text is never the composition of the Prophet, but is the word of God addressed to the Prophet.
وأردف قائلاً: إن فهم الأوربيين للإسلام ظل لقرون عدة مرهوناً بتقارير مشتتة متنافرة لنصارى متعصبين حاقدين على الإسلام، أخفوا مناقبه وتجاهلوها وشوهوها، بينما أشاعوا بين الناس ما رأوه, بل وحرفوه وفسروه بما يوافق أهواءهم ومعتقداتهم هم. يقصد (روس) أن حملات التشويه والتحريف للإسلام في أوربا شوهت صورة الإسلام عند الأوربيين وأبعدتهم عن معرفته على حقيقته. فهو الدين -كما يقول روس- الذي اعتنقه العرب والفرس والهنود والأتراك ليجمعهم تحت راية التوحيد، بعد أن كانوا عبدة للنجوم أو للبشر أو للأصنام. وكانت بساطة عقيدة الإسلام أكبر عامل في انتشار الإسلام بين هذه الأمم.
هذا دليل آخر على أن هناك بعض الجوانب الإيجابية في الترجمات الاستشراقية للقرآن الكريم، لذا ينبغي لنا ألا نتسرع ونطلق الأحكام إلا على من صرح بنفسه بعداوته للإسلام جهاراً نهاراً، أو لم يحتمل صنيعه إلا الحمل على ذلك، ولاسيما اليهود من المستشرقين. مثلاً مغالطات سيل مرفوضة، لكن من ناحية أخرى أعطت تعليقاته وحواشيه في غالبيتها معلومات عن مواقف وأحداث وأشخاص وتفسيرات توسع فيها المترجم؛ بغية الإيضاح والتبيين وإجلاء الغموض.
هناك مغالطات عرضية وردت في متن نص الترجمة تمثلت في بعض الإضافات والتفسيرات الزائدة، ناتجة في أغلب الظن عن سوء فهم، مثال ذلك إضافة المترجم لكلمة (مكة) في مواضع كثيرة ورد فيها الخطاب لكل الناس بصيغة ﮋ ﮜ ﮝ ﮊ [البقرة: ٢١]، كما في سورتي البقرة والحج وغيرهما. فَهِم المترجم خطأ(أو عمداً؟) أن الخطاب لأهل مكة فحسب. وهذا خطأ جسيم، بل هي مغالطة؛ لأن الخطاب للناس أجمعين ذكر مهر علي (2002) هذه المغالطة وغيرها عند سيل). لكنه تجنب هذه المغالطة في مواضع أخرى. كذلك الشأن بالنسبة لترجمته للآية الكريمة: ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [سبأ: ٣٥] فقد ترجمها خطأً أيضاً إلى )أهل مكة قالوا( والإشارة هنا عامة وليست لأهل مكة حصراً.
أما آربري فتميزت ترجمته بخلوها من هذه المغالطات، لكن وردت مغالطة على لسان بكثول رددها مشيداً بها، وهي وصف القرآن (بالسنفونية المعجزة)، وإحدى سوره (بالترنيمة المنتشية)، وأن كل سورة تعج (بألوان من الإيقاعات)، وأن للقرآن (طبيعة رابسودية جذلة)، و(وقعاً دراماتيكياً)، و(جمالاً أخاذاً). إن الحديث عن القرآن بهذه العبارات بقصد الثناء عليه ليس في مكانه؛ لأنها تشبيهات وصور موسيقية لا تليق به، فهو أرفع من أن يشبه بالموسيقى، خاصةً وأنها محرمة. كما أن العلاقة بين المشبه والمشبه به علاقة حسن وأحسن، ولا يمكن تصور أي شيء على أنه أحسن من القرآن. فهو يعلو ولا يعلى عليه دائماً، فكيف إذاً يشبه بسينفونية وهي أدنى منه بكثير؟ هذه مغالطة لغوية بلاغية.
12- الأسلوب البلاغي:
إن أسلوب القرآن من أوله لآخره أسلوب بلاغي إعجازي من دون استثناء، لذلك فشل المترجمان سيل وآربري كما فشل غيرهما من مترجميه إلى أي لغة كانت في محاولاتهم مجاراة هذا الأسلوب البلاغي. ولكي نتأكد من ذلك ما علينا إلا أن نطبق الترجمة العكسية للآيات بالإنجليزية ونردها إلى العربية حسب ما نفهمها بالإنجليزية بمعزل عن معرفتنا لها بالعربية. وهذا مثال مأخوذ من ترجمة آربري المعروف بضلوعه باللغة العربية، يقول في ترجمة قوله تعالى: ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﮊ [آل عمران: ١٥٩].

It was by some mercy of God that thou wast gentle to them: hadst thou been harsh and hard of heart; they would have scattered from about thee. So pardon them, and pray forgiveness for them, and take council with them in the affair, and when thou art resolved, put thy trust in God; Surely God Loves those who put their trust [in Him].
[الزيادة الأخيرة بين قوسين من إضافتنا نظراً لنقصها من الأصل]. لو حاولنا ترجمتها وفقاً لاختبار الترجمة العكسية إلى العربية مرة أخرى (ولاسيما ممن لا يحفظ الآية)؛ لخرجنا برواية ترجمة افتراضية كالتالي:
(لقد كنت برحمة من الله لطيفاً/مهذباً معهم؛ ولو كنت فظاً قاسي القلب، لتفرقوا من حولك. لذا اعف/اصفح عنهم/سامحهم وادع بالمغفرة لهم، واسألهم المشورة/وتشاور معهم في الشأن، وحينما تقرر/تعقد العزم، ضع ثقتك بالله، فالله بالتأكيد يحب أولئك الذين يثقون به).
وهذا ليس بقرآن بالطبع. وشتان ما بين هذه الرواية والأصل، فهي كلام عادي لا يمت إلى بلاغة القرآن بصلة. تتمثل بلاغة الأسلوب القرآني في هذه الآية بالعناصر التالية:
1- البدء بالأسلوب البلاغي النحوي التوكيدي ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﮊ
2- أسلوب التقديم والتأخير في قوله تعالى: ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﮊ مقارنة بأسلوب: (لنت لهم برحمة من الله).
3- أسلوب (لو)، البلاغي (مقارنة بـ (إذا),(إذا ما).
4- أسلوب الاسترسال ﮋ ﭢ ﭣ ﭤ ﮊ [آل عمران: ١٥٩ ] (مقارنة بأسلوب العطف: فظاً وغليظ القلب).
5- دقة اختيار الكلمات (فظ-غليظ القلب-انفضوا) (مقارنة بمرادفات مثل: جلف/شديد-قاسي القلب/متحجر القلب-تفرقوا/تشتتوا).
6- أسلوب فاء السببية المقرون بالأمر وعطف ثلاثة أفعال بعضها على بعض: ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﮊ؛ للدلالة على تتابعها وتزامنها في الوقوع.
7- ورود كلمة (أمر) (مقارنة (بشأن) أو (أمور- أمورهم) أو شؤونهم/شؤون حياتهم-المسائل-القضايا، وما شابهها).
8- دقة اختيار (فاعف واستغفر وشاور) مقارنة بمرادفات مثل: (سامح-اصفح-تجاوز-أصدر عنهم عفواً- اسأل لهم المغفرة-تشاور معهم-استشرهم- اسألهم المشورة).
9- دقة استخدام جملة الشرط وكلماتها وإيجازها ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ.
10- دقة اختيار (عزمت) و(توكل) نحواً ومعنىََ مقارنة بـ: (قررت-صممت)- (فنفِّذ-فامض قدماً).
11- دقة استخدام المتلازم اللفظي القرآني المعروف والقريب إلى قلب كل مسلم: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ ، الذي لا يضاهيه أي تعبير في اللغات الأخرى، لسبب خاص وهو أنْ لا توكل إلا على الله، إذ يجوز لنا أن نثق بالله ونثق بإنسان، ولكن لا نتوكل إلا على الله. وهذه الخصوصية لا تنقلها كلمة (trust) في الإنجليزية التي تعني (ثقة) ولا خصوصية لها في شيء. من هنا جاء خطأ المترجم آربري حينما أسقط (به) في إشارة إلى لفظ الجلالة. فخصوصية التوكل مرتبطة بالضرورة بلفظ الجلالة وحسب دائماً.
12- البلاغة في الإيجاز في الآية الكريمة في عدد الكلمات بالعربية التي تبلغ (30) كلمة، بينما ترجمت إلى الإنجليزية بـ 65 كلمة. وتعتبر ترجمة آربري هذه، وترجمة مجمع الملك فهد أقصر من غيرهما (71 كلمة عند بكثول، و69 عند كل من يوسف علي وسيل). ليس معنى هذا أن ترجمة آربري غير مقبولة، بل إن بلاغة القرآن هي التي تستعصي على المترجمين.
إن الفرق الشائع بين لغة القرآن الكريم وغيرها من أنماط اللغة، وأقربها الأدبية، هو أن اللغة القرآنية كلها بلاغة وإعجاز من أول آية في القرآن الكريم حتى آخر آية فيه. أما اللغة الأدبية التي تعتبر أكثر اللغات ثراء بالبلاغة، فلا تتعدى العبارات البلاغية فيها نسبة النصف في أحسن الحالات، كما في الشعر مثلاً. هنا إذاً تكمن الصعوبة. قد يفلح المترجم في مقارعة بعض العبارات البلاغية في النص البشري، لكنه لا يتسنى له ذلك في نص رباني كله بلاغة. لذا لا نرى ضرورة لضرب مزيد من الأمثلة، فكل آية مترجمة مثال.
يستثنى من ذلك الصور البيانية التي اختار كلا المترجمين آربري وسيل أن يترجماها ترجمة حرفية، فكانا محقين في ذلك نظراً لقدسية اللغة القرآنية التي ينبغي الحفاظ عليها. وهذه مسألة تخرج على نظرية الترجمة استثناءً. عادة ينصب اهتمام المترجم على نقل الصور البيانية والاستعارات والتعابير الاصطلاحية وغيرها من لغة البلاغة والبيان التي لمعظمها جذور ثقافية، إلى اللغة الأخرى بما يتناسب وتعابيرها المرادفة التي تعبر عن ثقافتها. فعلى سبيل المثال عادة ما تترجم الأمثال إلى أمثال في اللغة الهدف مرادفة لها ونابعة من ثقافة أهلها، كترجمة (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) بـ: A fox is not taken twice in the same snare ، ومصائب قوم عند قوم فوائد بـ: One Man's meat is another man's poison، كلا المثالين يترجم الواحد منهما الآخر في اللغة الأخرى، على الرغم من اختلاف الثقافة والصورة والكلمات؛ لأنهما يعبران عن المعنى المقصود نفسه في كل لغة. إذاً هنا ينظر إلى اللغتين، الأصل والهدف، والثقافتين على أنهما متساويتان، فلا غالب ولا مغلوب، ولا تابع ولا متبوع (راجع غزالة: 2002).
لكن الأمر يختلف عند الحديث عن لغة القرآن الكريم, إذ بما أنها لغة إلهية، يُنظر إليها على أنها في مقام أرفع من لغة البشر، وبالتالي تكون متبوعة لا تابعة، بثقافتها وصورها وبيانها؛ لئلا يختل التوازن ويختلط الأمر على الناس وتشيع فوضى الترجمة والفهم بينهم حين نَقلِ معاني القرآن الكريم لأي لغة أخرى، فعالمية القرآن والإسلام تقتضي نقل معانيهما كما هي في الأصل العربي بلاغة وبياناً وثقافة لأي لغة ينقلان إليها. وهذا سبب آخر يدعونا للحفاظ على لغته كما هي، وبذلك تبدو الترجمات متطابقة ولا تختلف إلا في أشياء بسيطة لا تعكر صفو الصورة الأصل. الاعتراض على هذا مطروح بدعوى أنه إذا كان القرآن الكريم عالمياً والإسلام للناس كافة، فاللغة العربية ليست كذلك، وبالتالي لا نلزم أهل اللغات الأخرى بها وبثقافتها التي قد تستعصي على الفهم في ثقافتهم. لا شك أن هذا اعتراض مشروع، ولا بد من التعامل معه بكل دقة وجدية. صحيح أن اللغة العربية ليست لغة العالم، لكنها إحدى اللغات العالمية الرئيسة الست. أما الجوانب الثقافية في لغة القرآن الكريم، فيمكن فهمها واستيعابها بأكثر من طريقة:
1- استخدام كلمة شارحة توضح الصورة البيانية الغامضة (كما فعل سيل في إضافته عبارة (من الخوف): of fear، بعد ترجمته للصورة البيانية ﮋﮏ ﮐ ﮑ ﮊ ترجمة حرفية صائبة للحفاظ على صورة الأصل كما هي). أورد أستاذ الترجمة الإنجليزي الشهير بيتر نيومارك ستة عشر حلاً (ما يسمى بإجراء ترجمة) للتعامل مع المصطلحات الثقافية( ).
2- استخدام ما يسمى بالمصنِّف (classifier)، وهي كلمة شارحة موضحة لصنف المصطلح أو نوعه: اسم شخص هو أم بلد، أم نبتة، أم حيوان، أم إنسان، أم نهر، أم جبل؟ وما إلى ذلك. مثال ذلك ترجمة سورة الطور -كما أشرنا من قبل- إلى جبل الطور: The Mount of Aṭṭūr / Aṭṭūr Mount.
3- الاكتفاء بالترجمة الحرفية للمعنى والكلمات حينما تكون واضحة ولا تحتاج إلى أي شرح إضافي. ولعل السياق كفيل بتوضيحها فيما بعد في السورة نفسها أو في سورة أخرى كما في ترجمة (رسول الله) في سورة (الشمس) حرفياً إلى: The Messenger of God، وتفهم إما من السياق من ذكر ثمود، قوم صالح عليه السلام، أو من السور السابقة التي صرحت بذكر رسول الله على أنه صالح عليه السلام. قد يكون التواصل السهل بين الأمم هذه الأيام مما يطوع المصطلح الثقافي الأجنبي في أي لغة حية، ولاسيما اللغات العالمية الرئيسة التي تعتبر العربية إحداها.
4- الإبقاء على الصورة البيانية الثقافية كما هي بحرفيتها في الأصل عند ترجمتها إلى لغة أخرى، ولو تعثر القارئ في فهمها من خلال مرادف لها في لغته. فكم من الأقوال المأثورة والأمثال والعبارات والمصطلحات الثقافية تبقى على حالها في لغة أخرى، وتستخدم هكذا إشارة إلى مصدرها دون حرج ولا إبهام في الفهم. أفلا نقول: يقول المثل الصيني أو الهندي أو الإنجليزي أو الفرنسي كذا وكذا؟ ألا نردد: كما يقول المثل الفرنسي: (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون)؟ وكما يقول المثل الإنجليزي: (بيت الرجل قلعته)؟ أو ما شابَهه ذلك؟
5- في حال توقع المترجم استمرار الغموض في الصورة البيانية أو الثقافية، ولم يفلح أي من الحلول السابقة، أو لم يقتنع بأي منها، بإمكانه اللجوء إلى حاشية لتوضيح الغموض باختصار. إن خصوصية لغة القرآن الكريم تضع أي مترجم في موقف صعب وتفرض عليه التزاماً أخلاقياً عظيماً بضرورة الالتزام بالنص العربي الأصل دائماً ومن دون استثناءات؛ لئلا يحصل تلاعب في طريقة التعبير والمضمون وفتح الباب للفروق الثقافية والبيانية والمجازية بشكل عام. وهذا ما حصل تماماً عندما فتح يوجين نايدا وتابر(Nida and Taber) (1969م) الباب لترجمة الإنجيل -وهو من وضع البشر- إلى ثقافات الشعوب المختلفة مع التضحية بثقافة الأصل؛ بحجة تيسير الفهم على ذوي الثقافات المختلفة عن الثقافة اللاتينية الأوربية؛ بغية إحداث تأثير في نفس قرائها، مما أطاح بالبقية الباقية من قدسية الإنجيل، وأدى إلى ظهور عدد من الأناجيل أكبر مما كانت عليه. فالإنجيل أناجيل من قبل هذا أصلاً. انطلق نايدا وتابر في ترجمتهما للإنجيل من فكرة ادعاء أنها جديدة-وما هي بجديدة كما يقول دينيس ستامب (Stamp) (1993م)، وشولت وبيجنيت (Schulte and Biguenet) (1992م) وغيرهم- تقوم على تصنيف ما سمياه (المطابقة الشكلية) (formal equivalence) على أنه مفهوم قديم جامد، واقترحا بديلاً عنه ما اصطلحا على تسميته (بالمطابقة المتحركة)(dynamic equivalence) ، وحيَّدا لغة الإنجيل من أي قدسية أو خصوصية، ونظرا إليها على أنها لغة كأي لغة من لغات النصوص الأخرى. وركزا في ترجمتهما على فهم فحوى الرسالة المقصودة وأنه على المترجم إعادة صياغة جوهر هذه الرسالة (أو فحواها) بحيث تكون ذات وقع مؤثر على المتلقي. بعبارة أخرى، يلغَى أي وجود للأصل كلغة لها مقوماتها النحوية والأسلوبية والدلالية والبلاغية والثقافية، ويحل محلها هذا الترادف المتحرك المؤثر الذي يُحدث وقعاً قوياً على المتلقي الذي يستجيب للأوامر والنواهي؛ بناء على هذا التأثير فيه، لا بناء على أوامر إلهية أو ربانية تطاع لمجرد أنها في كتاب مقدس كالإنجيل. من هذا المنطلق، يبدو اقتراح شيخ الشباب (1419ﻫ) أن الترجمة لغة وسيطة بين لغتين، أو ما أسماها دَفْ (Duff) (1981م) باللغة الثالثة، لا ينطبق على ترجمة لغة القرآن للأسباب السالفة الذكر.
في المحصلة النهائية، وكما يقول ستامب، يمحو الترادف المتحرك آثار النص الأصل (لأن الترجمة الجيدة في رأي نايدا وتابر يجب ألا تكشف عن أصلها الأجنبي)، وبالتالي تلغي المؤلف، بل وأكثر من ذلك تلغي القارئ الذي يقوم الترادف المتحرك بالقيام بالقراءة والفهم نيابة عنه. والأغرب من هذا كله، وكما يؤكد ستامب أيضاً، ما زال المعنى يفوت القارئ على الرغم من تطبيق نظرية الترادف المتحرك في ترجمة الإنجيل!
هذه انتقادات خطيرة وفي الصميم لأسس ترجمة الإنجيل عند نايدا وتابر، والتي قضت عليه ككتاب مقدس له خصوصيته الدينية عند النصارى. من ناحية أخرى لم تحل هذه النظرية التفلتية لا مشكلة الترادف ولا مشكلة المعنى، لكنها من دون شك نجحت في الحط من قدر الإنجيل وقدسيته، لكنها ربما نجحت في ترجمة أنماط أخرى من النصوص.
إذاً استقبلت فكرة الترادف الثابت القديمة (؟) بالهتاف والتصفيق في بدايات طرحها، وما زال لها أتباعها. ومن أهم أسباب هذا الصيت الذائع لها رفضها إسباغ أي خصوصية على لغة الإنجيل، وضرب عرض الحائط بقدسيتها، علماً أنها من وضع البشر. ترى هل هناك مترجم مسلم مستعد لضرب عرض الحائط بقدسية لغة القرآن العظيم وخصوصيتها باعتبارها كلام الله؟ هل هناك من يترجم وليس في ذهنه أن الله تعالى أنزل كل حرف من حروف القرآن، وكل بلاغة وبيان وإعجاز فيه؟ وأنه وحي منه سبحانه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟ إذا قبل المترجم أن يلغي مؤلف نص بشري، فهل يقبل أن يمس حرمة الوحي القرآني وقدسيته؟ الجواب بلا طبعاً. لقد نزل النص القرآني بشكل ومضمون محددين وثابتين نحواً وأسلوباً ومعنى، ولا يمكن المحافظة على خصوصيته وقدسيته هذه إلا بمتابعته متابعة حرفية نحواً وأسلوباً ومعنىً وبلاغة وبياناً وثقافة من دون تحريف ولا تغيير ولا إسقاط لأي عنصر نحوي أو أسلوبي أو دلالي بأي حجة كانت. بعبارة أخرى، تُطوَّع اللغة الهدف لمتطلبات لغة النص القرآني وشروطها، وليس العكس كما زعم نايدا وأتباعه. والقرآن ليس إنجيلاً على أية حال، فما نطق به الوحي الإلهي ليس كالذي نطق به البشر.
لذا من السذاجة أن تكون معايير الترجمة الأفضل للقرآن الكريم ملبية لشروط قارئ اللغة الهدف واحتياجاته، أو أن توضع بناء على مقتضيات لغته. ومن الأمثلة التي أقحمها بعض الباحثين بالنقاش على هذا الأساس -أساس مقتضيات اللغة الهدف- أسلوب التكرار في القرآن الكريم. وهو أسلوب بلاغي صرف، له مضامينه الأسلوبية والدلالية المهمة للمعنى. إذ اعتبر بعض هؤلاء الباحثين( ) أن ترجمته إلى الإنجليزية غير واردة نظراً لعدم وجوده في اللغة الإنجليزية أو عدم ملاءمته لمقتضيات اللغة أو عدم تقبل القارئ الإنجليزي له. وفي هذا مغالطات عدة:
أولاً: من الخطأ أن يعتبر أسلوب التكرار في اللغة بشكل عام مملاً وغير مقبول. فلكل أسلوب تكرار في اللغة مضامين ووظائف يحتملها نمط النص والسياق، حتى في المحادثة والمحاورة اليومية. فقد يكرر المتحدث للإفهام، أو التوضيح، أو للتأكد من أنه أوصل ما أراد أن يقول بدقة للسامع، أو للتأكيد على أمر ما، أو لمجرد العادة التي تعود عليها المتحدث، أو كإشارة ذات مضمون معين، أو غير ذلك. إذا كانت هذه حال أسلوب التكرار في المحادثة، فكيف به في القرآن الكريم، وكل حرف في القرآن في موضعه وذو مغزى؟ لا وجود للحشو والزيادة بأي صيغة كانت. والتكرار أسلوب متوارد في القرآن الكريم لأسباب بلاغية توكيدية دلالية تعد جزءاً من المعنى في السياق الذي ورد فيه التكرار. وهذا هو اعتبار المترجم الأول في نقله لأسلوب التكرار للإنجليزية، وليس ما هو معتاد في الإنجليزية ومألوف. فمن غير المقبول تقديم ما هو مألوف في الإنجليزية على مضامين أسلوب التكرار في النص القرآني. لذا التزم به آربري وسيل وقبلهما الترجمات الإسلامية بشكل عام.
ثانياً: الذريعة بأن التكرار ليس جزءاً من أسلوب اللغة الإنجليزية ادعاء يحتاج إلى مراجعة دقيقة. فأسلوب التكرار في كل مكان في اللغة الإنجليزية، ولا أدل على ذلك من اللغة الأدبية، الرواية والشعر بشكل خاص. وهذه من بدهيات اللغة سواء أكانت عربية أم إنجليزية أم أي لغة كانت حية أم ميتة، قديمة أم حديثة، فكيف بنا والحديث عن لغة القرآن؟ لذا يستحق الثناء كل من آربري وسيل وكل مترجم حافظ على التكرار في ترجمته لمعاني القرآن الكريم لما له من أهمية للمعنى، ولإدراكهم أن التكرار وظيفي ومحمل بالمضامين والمدلولات الأسلوبية، وإغفاله إغفال لهذه الوظائف والمضامين والمدلولات. فالأصل هو الأساس الذي نعمل عليه في الترجمة عادة، لاسيما إذا كان نصاً استثنائياً كالقرآن الكريم حيث كل شيء مهم وجزء لا يتجزأ من المعنى المراد، سواء أكان تكراراً أم غير ذلك. إذ لا يتصور أحد منا أن يغفل المترجم أسلوب التكرار في آيات كثيرة مثل: ﮋ ﭜ * ﭞ ﭟ * ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﮊ [القارعة: ١ - ٣] ﮋ ﮒ ﮓ ﮔ * ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮊ [التكاثر: ٣ ، ٤] ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ * ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [العلق: ١ - ٢] ﮋ ﭝ ﭞ * ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ [النبأ: ٤ ، ٥] ﮋ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ * ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ * ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ * ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﮊ [الكافرون: ٢ - ٥] ﮋ ﮯ * ﮱ ﯓ * ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﮊ [الحاقة: ١ - ٣]. ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮊ [الرحمن: ١٣] (مكررة 33 مرة في سورة الرحمن)، وغيرها كثير. فالبلاغة بينة واضحة في هذه الأمثلة وغيرها في القرآن العظيم.
13- أسلوب التوكيد:
حاول المترجمان، سيل وآربري، ما في وسعهما نقل أسلوب التوكيد في القرآن الكريم، فأفلحا أحياناً، وأخفقا أحياناً أخرى، كما يوضح الاستعراض التالي لبعض أساليب التوكيد القرآني:
1- أسلوب التكرار: كان المترجمان حريصين على نقله كما هو، مع أرجحية لآربري في حرصه على ذلك. والأمثلة عديدة بعدد حالات التكرار في الأصل تقريباً.
2- أسلوب جملة (إنّ): كان آربري أكثر متابعة لتوكيد (إنّ) بترجمتها إلى:verily-surely-truly من سيل الذي يترجمها أحياناً ويغفلها أحياناً أخرى. على أية حال، فاتت آربري بعض الأمثلة، منها إغفاله ترجمة (إنَّ) في قوله تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﮊ [البقرة: ٦]
3- أسلوب التوكيد بالمفعول المطلق: أخذ المترجمان بعض حالات التوكيد بالمفعول المطلق بعين الاعتبار، بينما غفلا عن حالات أخرى. فعلى سبيل المثال في سورة مريم (عداً) في قول تعالى: ﮋ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﮊ [مريم: ٩٤] بـ: a determined number of days of respite، بينما فاتته ترجمة (نداء) في قوله تعالى: ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﮊ [مريم: ٣] لكنه ترجم (مداً) في قوله تعالى: ﮋ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﮊ [مريم: ٧٥] ترجمة طويلة شملت معناها التوكيدي، حيث قال: …the Merciful will grant him a long and prosperous life، كما أخذ بعين الاعتبار (مداً) في قوله تعالى: ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﮊ [مريم: ٧٩]: …and ncreasing we will increase his punishment، أيضاً ضمَّن شيئاً في ترجمته عن المفعول المطلق (أزاً) في قوله تعالى: ﮋﮋ ﮌ ﮊ [مريم: ٨٣] فترجمها إلى: …to incite them to sin by their instigations.
أما آربري، فمثله مثل سيل لم يترجم (نداء)؛ إذ أورد أيضاً ترجمة طويلة بعض الشيء لـ: (مداً) في قوله تعالى: ﮋ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﮊ [مريم: ٧٥]: Merciful prolong his term for him Let the All-. أما (مداً) في قوله تعالى: ﮋ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ [مريم: ٧٩] فترجمها آربري ترجمة عامة بقوله: and we shall prolong for him the chastisement. أما (أزاً) ففاتته في الترجمة؛ إذ لم يترجم سوى )تؤزهم(:prick then . لكن ترجم )نعدهم عداً( بـ: We are only numbering for them a number، كما ترجم )عداً( في قوله تعالى: ﮋ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﮊ [مريم: ٩٤] بـ: exactly، من باب التوكيد: and He has numbered them exactly. مثال آخر من سورة النازعات: لم يوفق سيل في إبراز التوكيد في المفاعيل المطلقة التي وردت في مطلع السورة (نشطاً، وسبحاً، وسبقاً)، إنما اكتفى بالشرح المطول من دون توكيد، كما فعل سيل أيضاً. لكن آربري كان أوضح في التوكيد باستخدامه صيغة الظرف، فترجم الكلمات الثلاث كما يلي: violently, serenely, suddenly، (علماً أن هناك انعدام دقة في ترجمة الثانية والثالثة. أما الأولى فخاطئة؛ لأن عكسها هو الصحيح - gently أي برفق. أضف إلى ذلك غموض معاني الآيات التي استخدم فيها المترجم اسم الإشارة: those، ولم يورد المشار إليه (الملائكة) إطلاقاً. وقد مر بنا مناقشة (الفرج اللفظية).
أما في مطلع سورة "المرسلات" فقد فعل سيل في ترجمته للمفاعيل المطلقة الثلاثة (عصفاً، ونشراً، وفرقاً) ما فعله في سورة النازعات، أي شرح الآيات شرحاً مطولاً دون أداة توكيد واضحة تشير إلى هذه المفاعيل. الأهم من ذلك أنه ارتكب خطأ في ترجمة المراد بـ: ﮋ ﮑ ﮒ * ﮔ ﮕ ﮊ [المرسلات: ١ ، ٢] بـ: (الملائكة)، بل المراد بها الرياح. أما في الآيتين التاليتين لهما فأريد بهما الملائكة. إذاً حصل خلط والتباس عند سيل حينما ظن أن المراد في الآيات الأربع هو الملائكة( ).
أما آربري فلجأ إلى الأسلوب نفسه في ترجمته للمفاعيل الثلاثة المذكورة إلى ظرف واسمي فاعل: tempestuously, scattering, severing، بغية إضفاء شيء من التوكيد عليها، علماً أنها لا تفي بالغرض تماماً، لكنها حل ما يثبت استشعار المترجم للتوكيد هنا وسعيه لعكسه في الإنجليزية بطريقة ما. بقيت الإشارة إلى أن ترك آربري بيان المراد في هذه الآيات يُصَعِّب من الفهم ويزيد الإبهام عند القارئ الإنجليزي، ولاسيما غير المسلم.
4- أسلوب التوكيد بلام الابتدائية ونون التوكيد: تنبه المترجمان للتوكيد بإحدى نوني التوكيد الثقيلة أو الخفيفة، وهو من أساليب التوكيد المعروفة. أما التوكيد بلام تلقِّي القسم، والذي ورد في أمثلة عدة في القرآن الكريم رفقة نون التوكيد في الفعل المضارع نفسه، فلم يتنبها له. ففي كلمات مثل: (لَتُبلَوُنَّ، لتسمعن، ولنبلونكم، ليقولن، لأملأن) يوجد توكيد مضاعف: توكيد بلام الابتداء/الجواب، وتوكيد بنون التوكيد الثقيلة. أدغم المترجمان التوكيد بتوكيد واحد من خلال استخدام إما surely أو verily. تنبها أحياناً أيضاً للام الموطئة للقسم الداخلة على المبتدأ وعلى (إن) في عدة آيات من القرآن الكريم، منها هاتان الآيتان حيث وردت خمس مرات: ﮋﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ * ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮊ [الحشر: ١٢ ، ١٣] تنبه آربري لواحدة فقط (وهي: لَيولُّنّ الأدبار): they will surely turn their backs وترجمها بـ: surely، وعوَّض اللام الأخيرة الداخلة على المبتدأ أنتم (لأنتم) بتحويلها دونما ضرورة إلى أداة استفهام: (why) أي لماذا. أما سيل فكان أوفر حظاً وأكثر حضوراً فترجم ثلاثاً منها، اثنتان بـ: verily (الأولى والخامسة) وواحدة إلى surely (الرابعة).
يتضح من هذه العشوائية في ترجمة اللام الموطئة للقسم أن المترجمين غير مدركين تماماً لوظيفتها التوكيدية دائماً.
أيضاً فات المترجمين أسلوب التوكيد بلام (لقد) قبل الفعل الماضي، فإذا دخلت عليها اللام أصبحت أشد توكيداً. مثال ذلك قوله تعالى: ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﮊ [الأحزاب: ٢١]. كلا المترجَمين لم يستخدم كلمة توكيدية تدل على أسلوب التوكيد في (لقد). حتى (قد) قبل الفعل الماضي توكيدية أيضاً، لذا أخذها المترجمان أحياناً بعين الاعتباركما فعل آربري في ترجمته لها في قوله تعالى: ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ [الأنعام: ٣١] فترجمها بـ: indeed، لكنه لم يترجمها في قوله تعالى: ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [الأنعام: ٥٦]، ولا في قوله تعالى ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﮊ [المجادلة: ١]. أما سيل فأظهر توكيد (قد) في الآية الأولى من خلال أسلوب التقديم والتأخير في العبارات الفعلية للجملة بطريقة تلفت الانتباه لمضمون التوكيد. فقال: They are lost who reject the meeting of God، فقدم العبارة الموسومة بخط بدلاً عن النسق الطبيعي للعبارة، وهو: Those who reject the meeting of God are lost، كما حاول إبراز التوكيد بطريقة مشابهة في ترجمته للآية الثانية باستخدامه أسلوب القلب المتمثل بتبديل موقعي الفاعل والفعل في الجملة/العبارة الفعلية الإنجليزية على النحو التالي: for then should I err، بدلاً عن: I should، أيضاً استطاع أن يعبر عن التوكيد في ترجمته للآية التالية من خلال الأسلوب نفسه وإضافة الظرف الدال على زمن حدوث الفعل: now أي الآن: Now hath God heard the speech of her husband، لكنه ارتكب خطأ فادحاً في إسقاطه لـ (التي تجادلك) من ترجمته ربما لسوء فهمه لها. والصحيح أن يقول:
Now hath God heard the speech of the woman who disputes with you about her husband.
نستنتج مما سبق أن أسلوب التوكيد حاضر دائماً في لغة القرآن الكريم بأوجه وأشكال وأدوات مختلفة، علم بعضها المترجمان فترجماها، وجهلا بعضها الآخر فلم يترجماها، فحصل قصور في المعنى والبلاغة في نص الترجمة الإنجليزية.
14- أسلوب الدقة والترجمة الحرفية:
يقصد بالدقة في الترجمة الوفاء بالنص الأصل وفاء تاماً وعدم الخروج عنه أو عليه لأي سبب كان. والمقصود بالدقة هنا، كما يقول مايكل دوران (Durand) (1993م) وغيره كثير من منظري الترجمة وعلمائها، ليست إشارة إلى الكلمات فحسب بل إلى الأسلوب والقواعد أيضاً (أي الجمل والعبارات الفعلية والعبارات الاسمية والزمن، والتقديم والتأخير، والتوكيد، والمبني للمجهول والمبني للمعلوم، والتكرار، والإطناب ، والترادف والتنويع اللفظيين، ودرجة الفصاحة، والمحسنات البديعية والإيقاعات الصوتية، وما إلى ذلك). عادة أمام المترجم بشكل عام خياران عند ترجمته أي نص: (1) إما أنه لا يلتزم بالنص الأصل فيخرج عنه، أو يزيد عليه وينقص منه، أو يخرج عليه، وبذلك تنتفي الدقة والأمانة من ترجمته، (2) أو يلتزم بالنص الأصل بحذافيره بحسب ما تسمح به معايير اللغة المترجم إليها وقواعدها ومفرداتها وأسلوبها، وبذلك تتحقق الدقة والأمانة. بعبارة أخرى، تعني الدقة احترام النص الأصل والتقيد به والوفاء له، مما يقتضي بالضرورة احتراماً ووفاء لمؤلفه.
القاعدة العامة في الترجمة هي الدقة في نقل المعنى ما استطاع المترجم إلى ذلك سبيلاً. لكن تتفاوت درجة الدقة بتفاوت أنماط النصوص في المقام الأول. وتعد النصوص الدينية أدق النصوص في الترجمة نظراً لحساسيتها وخصوصيتها ومكانتها بين الناس. وتختلف النصوص الدينية بدورها في درجة دقتها القصوى. ويعد القرآن الكريم الكتاب المقدس الوحيد الذي يستدعي الدرجة القصوى من الدقة في نقله إلى اللغات الأخرى؛ لسبب فريد يميزه عن أي كتاب مقدس آخر، ألا وهو أنه كلام الله. فإذا كنا مطالبين بالدقة في ترجمة كتب دينية حررها البشر، فالأولى بنا أن نطالب بالدقة المتناهية عند ترجمة القرآن العظيم، ولكن كيف تتحقق الدقة المتناهية؟
تتحقق الدقة المتناهية بتتبع النص الأصل بكل دقائقه معنى وأسلوباً ونحواً وأصواتاً، من دون إسقاط شيء أو تغيير أو تبديل أو تحوير أو زيادة أو نقصان بقدر ما تسمح به اللغة الهدف المنقول إليها. وما كان متعذراً نقله فينسخه المترجم نسخاً لفظياً مرافقاً بالشرح، أو يشرحه شرحاً مقتضباً بين قوسين وفي متن نص الترجمة، أو في حاشية إذا كان منفصلاً: وينبغي مراعاة القواعد العامة المتبعة في اللغة الهدف لأنماط الجمل والعبارات الفعلية وغيرها من البنى القواعدية. مثال ذلك غياب الجملة الاسمية في الإنجليزية (بمعنى أنه لا يوجد جملة قواعدية صحيحة بالإنجليزية من دون فعل رئيس فيها)، فكل الجمل فعلية فيها، تبدأ بالفاعل ثم الفعل. إذاً من غير الوارد بدء الجمل الإنجليزية بالفعل، أو حذف الفعل منها لتصبح اسمية بما يتوافق وقواعد اللغة العربية الأصل، لغة القرآن الكريم. وكذلك الشأن بالنسبة للسمات الصوتية والعروضية حيث يراعى فيها معايير اللغة المترجم إليها.
أما الأسلوب فهو مرآة أسلوب الأصل دونما تغيير ولا تبديل ولا تقديم ولا تأخير ولا حذف ولا مفاضلة ولا قلب الفصحى إلى عامية ولا رطانة ولا لغة قديمة أو مبهمة أو غير مفهومة، ولا تغيير في بلاغة اللغة واصطلاحها ووقعها وثقافتها ونوعها وأساليبها. لا يجوز التصرف بأي من هذه الأمور إلا في حالات الضرورة القصوى، حينما لا تسمح معايير اللغة الهدف بذلك، كترجمة ﮋﭧ ﭨ ﭩ ﮊ [الزمر: ٤٢]. يوجد هنا في أسلوب الأصل تقديم لفظ الجلالة الفاعل على الفعل ليصبح مبتدأ نظراً لأهميته وتوكيده وضرورة البدء به قبل كل شيء آخر في هذا السياق لأنه بيده وحده سبحانه أن يتوفى الأنفس. حين نقلها إلى الإنجليزية، لا يوجد في الترجمة تقديم وتأخير؛ لأن قواعد الإنجليزية وأسلوبها الطبيعي أن تبدأ بالفاعل ثم الفعل، فلا يظهر عندها التوكيد الحاصل في الأصل، وبالتالي يترتب على المترجم إضافة كلمـة أو عبارة توكيدية، كأن يقول: He is God who takes the souls،
أو: God only takes the souls أو: Verily God takes the souls.
إذاً لا مجال للتضحية بشيء في النص القرآني في الترجمة، ولا حتى بالحرف (كما ذكرنا في الفقرة السابقة)، فهو ذو معنى. فمن اضطر في حال اختلاف قواعد اللغة الهدف ومعاييرها عن اللغة العربية الأصل، فلا حرج. فالأولوية دائماً للنص القرآني، ونص الترجمة وأسلوبه وثقافته ومضمونه ومعناه ومبناه تطوَّع له بحيث تؤدي معناه المطلوب دونما خلل في ذلك، ومن خلال لغة وأسلوب وقواعد صحيحة وغير ركيكة. وبذلك تتحقق الدقة في أقصى درجاتها. ويجب ألا يجد المترجم في سعيه لتطويع نفسه وترجمته للنص القرآني الأصل تقييداً له أو إملاء عليه أو تقليلاً من شأنه، بل هو شرف له يستحق الثناء عليه؛ لأنه خير طريق وأقرب وسيلة لبلوغ أقصى درجة ممكنة من الدقة في ترجمة معاني القرآن الكريم.
أما عن أفضل طريقة ترجمة تمكن المترجم من بلوغ ترجمة غاية في الدقة فهي الترجمة الحرفية لمعنى الكلمات في سياقها، بقواعد اللغة الهدف، لا الترجمة كلمة بكلمة من دون مراعاة المعنى السياقي لها. لا شك أن الترجمة الحرفية تتضمن مما تتضمن متابعة دقيقة للكلمات ومعانيها في سياقها على أن تصاغ بقواعد صحيحة وفقاً لمعايير اللغة المترجم إليها. وحينما تكون قواعد اللغتين ومعاييرهما متطابقة، فلا داعي للتغيير. أما إذا حصل اختلاف في ذلك فترجح كفة اللغة الهدف حفاظاً على سلامة اللغة وقواعدها وتجنباً للركاكة. ينبغي التنويه هنا بأن تساوي عدد الكلمات في اللغتين غير وارد وغير مطروح أصلاً. بل قد ينقص العدد في اللغة الهدف عن الأصل أو يزيد. ليس هذا مهماً، بل المهم التعبير عن المعنى بالدقة المطلوبة، مثال ذلك ترجمة سيل للآية الكريمة ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮊ [مريم: ٨٣]
Dost thou not see that we send the devils against the infidel, to incite them to call down destruction upon them.
نستطيع أن نرى بسهولة الفرق الكبير في عدد الكلمات بين الأصل والترجمة.
أحياناً قد لا يوجد في اللغة الهدف كلمة واحدة كمرادف للكلمة الأصل، كما ورد معنا في أمثلة سابقة مثل: (هيت لك - همت به- هم بها-والنازعات-والناشطات- والسابحات- والمرسلات- والسابقات، وغيرها). يضاف إليها آلاف الكلمات في القرآن الكريم التي لا يوجد لها مرداف كلمة-بكلمة في الإنجليزية، وعلى رأسها المصطلحات الإسلامية الأساسية كالصلاة والزكاة والصوم والجهاد والركعات وغيرها( ). فليس لبلاغته نظير كما هو معلوم. إذاً المقصود بالترادف ليس ترادف الكلمات بعددها، بل ترادف الكلمات بمعانيها، أي إن الترادف ترادف المعنى لا الكلمات.
هناك نقطتان ينبغي إثارتهما هنا والتفريق بينهما. الأولى: يضيف المترجم أحياناً كلمة أو كلمات شارحة تستدعي الدقة إضافتها، كإضافة (الريح) عند ترجمة (والمرسلات) وإضافة (الملائكة) عند نقل (والنازعات) (راجع المناقشة السابقة). وهذه إضافة ضرورية على المترجم التنبه لها. فغيابها -كما في ترجمة آربري- يؤول إلى غموض، وفي الوقت نفسه، الخطأ فيها -كما في ترجمة سيل-انحراف عن المعنى المقصود.
النقطة الثانية: الإغراق في الشرح والتفصيل داخل نص الترجمة حشو وربما خروج عن النص الأصل يُلحق الضرر بالدقة، ويضر بالترجمة. مثال ذلك ما فعل سيل مرات ومرات بهدف الإيضاح فأفرط. يقول في ترجمته لمعاني قوله تعالى في سورة مريم (وضع خط تحت الزيادات)
1- ﮋ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ [مريم: ٨٤]
Wherefore be not in haste to call down destruction upon them.
2- ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮊ [مريم: ٨٥]
On a certain day we will assemble the pious before the merciful in an honourable manner as ambassadors come into the presence of a prince.
3- ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮊ [مريم: ٨٦]
…but we will drive the wicked into hell, as cattle are driven to water.
خرجت هذه الشروحات والزيادات في متن النص عن المألوف وتعدت حدود الدقة المعهودة؛ لتصبح تفسيراً شخصياً من المترجم لهاتين الصورتين المغايرتين لإدخال المتقين الجنة وإدخال المجرمين النار. وهذا غير مقبول. أما لو كانت هذه الشروحات في حاشية فالأمر مختلف، وتصبح آنئذ مقبولة ومسوَّغة.
تبقى الترجمة ترجمة ولا داعي للشروحات والتأويلات الشخصية الطويلة. أما الترجمات الطويلة لمعاني بعض الكلمات من دون ضرورة فأمر آخر يضعف الترجمة ولكن لا يلغيها ولا يلغي التزامها بالدقة. نضيف هنا مثالاً آخر يضاف إلى الأمثلة السابقة التي وردت في البحث، ألا وهو ترجمة لفظة (تكاد) في سورة مريم عند سيل، إذ يقول: It wanteth little but that on occasion thereof، بينما اكتفى آربري بالمرادف الدقيق المباشر. Well-nigh، فأحسن الاختيار.
هناك حالات من الدقة على صعيد اختيار الكلمة الدقيقة المناسبة من حيث وقعها وقوتها في التعبير عن الكلمة الأصل. من الأمثلة على ذلك في الترجمتين اللتين نتناولهما بالدراسة ترجمة سيل للفظة "فرياً" في سورة مريم بـ: strange أي غريب وهي أخف وقعاً وقوة في المعنى، لذلك انتفت عنها صفة الدقة. أما آربري فكان أدق في ترجمته، فقال: monstrous أي رهيب/ شديد البشاعة، التي عكست مضمون الأصل في قوة التعبير عن بشاعة الأمر المذكور.
أيضاً ترجم سيل لفظة (إدّاً) في قوله تعالى ﮋ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﮊ [مريم: ٨٩] ترجمة ضعيفة غير دقيقة بـ: impious أي غير تقي. أما آربري فوفق في ترجمتها بـ: hideous أي فظيع/شنيع. كذلك الشأن بالنسبة لكلمة )يهدي-هدى( فقد كان آربري أكثر دقة بترجمتها إلى: guide-guidance، من سيل الذي ترجمها بـ: direct-direction، ذات المعنى العام التي توحي بالاتجاه والتوجه أكثر من الهداية والهدى. أما اختيار آربري فيتضمن معنى الهداية والإرشاد، وهو الأدق في سياق ترجمة لغة القرآن الكريم. من أمثلة عدم الدقة عند سيل أيضاً ترجمته )سجداً( في قوله تعالى: ﮋ ﮡ ﮢ ﮣﮊ [مريم: ٥8] بـ: fell down worshipping، بينما ترجمها آربري بشكل أدق إلى مرادفها المباشر: fell down prostrate.
كان آربري على نحو عام أدق من سيل في هذا الصدد، لكن ليس دائماً. يقودنا المثال الأخير إلى الدقة في القواعد. فتارة تميل الكفة إلى آربري، كما في ترجمته للفظة (بكياً) إلى صيغة اسم الفاعل: weeping، التي هي في نفس الوقت صيغة استمرار الفعل متزامناً مع الفعل الذي قبله أو الذي يليه مباشرة متصلاً به. وهذا هو المعنى المقصود في النص القرآني، أي (خروا سجداً ويبكون وهم ساجدون). أما سيل فترجمها إلى فعل ماض مسبوق بحرف العطف: and wept، والذي يتضمن معنى انفصاله عن الفعل الذي سبقه (أي السجود)، ولا يتضمن الاتصال به أو التزامن معه، بمعنى: )سجدوا ثم بكوا(. وليس هذا المراد من الآية بدقة. لكن سيل في مثال آخر كان أدق لفظاً وقواعداً حينما ترجم )أضاعوا( في قوله تعالى ﮋ ﮫ ﮬ ﮊ [مريم: ٥٩] بـ: wasted، في الزمن الماضي كما هي إشارة القرآن الدقيقة. أيضاً هي المرادف الدقيق للأصل العربي، وليست: neglect أي يتجاهل، التي استخدمها آربري، وفي الزمن المضارع الذي يخالف الماضي في الأصل.
من جهة أخرى، أقحم آربري صيغة السؤال من غير ما ضرورة في عدة أماكن من ترجمته، ولاسيما أداة الاستفهام: what أي ماذا. فابتدأ بها في الآية الكريمة: ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮊ [مريم: ٤٦] فقال: What? Art thou shrinking from my gods, Abraham?، (أضاف أداة الاستفهام في آيات أخرى في السورة نفسها، ومن قبل في سورة البقرة وغيرها دونما ضرورة)، لكنه أصاب باستخدام زمن المضارع المستمر في الإنجليزية فكان دقيقاً هنا. أما سيل فتجنب مثل هذه الإضافات، فترجم الآية نفسها إلى: Dost thou reject my gods, O Abraham?، لكنه جانب الصواب بترجمته الفعل إلى الزمن المضارع البسيط في الإنجليزية، وهذا غير دقيق.
من ناحية أخرى، اختلف المترجمان في زمن الفعل في ترجمة العبارات التالية:
سيل:
(أفرأيت): Hast thou seen him
(ألم تر): Dost thou not see
(أرأيت): What thinkest thou?
آربري:
(أفرأيت): Hast thou seen him
(ألم تر): Hast thou seen him
(أرأيت الذي يكذب بالدين): Hast thou not seen / What thinkest thou
على أية حال، كلتا الصيغتين (المضارع التام والمضارع البسيط) مقبولة في الإنجليزية في هذه الأمثلة.
أما صيغة القسم (لا أقسم) فقد اختلف المترجمان في ترجمتها تماماً. فبينما أصاب سيل بترجمتها بـ إحدى الروايتين التاليتين: verily I swear/ I swear، لكن آربري جانب الدقة بترجمتها بـ صيغة غريبة تغير المعنى وهي: (No! I swear) ( ).
وهكذا يتضح من المناقشة السابقة مفهوم الدقة وضرورتها وكيفية تحقيقها بطريقة الترجمة الحرفية للكلمات ومعانيها في السياق دون زيادة ولا نقصان عند ترجمة النص القرآني إلى الإنجليزية بشكل خاص، وإلى اللغات الأخرى بشكل عام. ووضحت الأمثلة جوانب عدة عن كيفية تطبيقها عملياً. بقيت نقطة عن أهمية السمات الصوتية والمحسنات البديعية في ترجمة القرآن الكريم عند آربري وسيل، ومدى دقتها في إعارتها الاهتمام الكافي.

أسلوب السمات الصوتية والفواصل المتناسبة
إن لغة القرآن الكريم غنية بالسمات الصوتية والفواصل المتناسبة والمحسنات البديعية المختلفة؛ مما أثرى الأسلوب القرآني وميزه عما سواه من الكتب. فما هو بشعر ولا بنثر،كما يقول آربري، وهذا صحيح. إنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد. لكنه ليس سنفونية كما وصفه بكثول وردد ذلك آربري الذي وصفه بدوره بالترنيمة الرابسودية وما إلى ذلك. إنه كلام الله وحسب، ولا يجوز تشبيهه بالموسيقى وما شاكلها من العبارات والمصطلحات.
لذا يؤخذ على آربري أنه شغل نفسه كثيراً كما قال في مقدمة ترجمته باستنباط أنماط إيقاعية ومجموعات نسقية أشبه ما تكون بالفقرات بحيث تشكل وحدات أصلية من التنْزيل. أيا ما كان يعني بهذا، فقد جانب آربري الصواب فيه وفي جعل شكل نص الترجمة يبدو كالشعر في الإنجليزية (راجع أيضاً عبد المحسن(2002). وقد سبق الحديث عن هذه النقطة في فقرة أسلوب الشكل العام في بداية البحث. بقيت الإشارة هنا إلى أن آربري سعى جاهداً أن يُظهر شيئاً من الإيقاع في ترجمته والقافية في نهاية الأسطر التي نضدها بطريقة تظهر رغبته في ذلك، ولكن دون طائل. إذ لم ينجح في ذلك تماماً، وليس هناك ما يسوغ هذا التنضيد الذي يعبر عن وجهة نظر شخصية خاصة به. والأهم من هذا وذاك أن الأصل ليس كذلك، ولا يتطلب من المترجم ذلك، بل على العكس أعطى هذا الشكل المفتعل انطباعاً مغايراً لما أراد المترجم له أن يعطي. ولو أن آربري اهتم بترقيم الآيات ومقابلتها على الصفحة الواحدة بالأصل العربي لكان خيراً له وأشد تثبيتاً.
من جهته، لم يسع سيل إلى أي نوع من التناسق والتناغم والإيقاع والترنيم بين الأصوات في ترجمته. وقد فعل خيراً إذ لم يشغل باله بالسمات الصوتية والمحسنات البديعية، فهي ببساطة غير قابلة للترجمة لا إلى الإنجليزية ولا إلى أي لغة أخرى. السبب ببساطة تضارب الدقة التي أكدنا على أولويتها في ترجمة النص القرآني، مع نقل السمات والمؤثرات الصوتية والمحسنات البديعية؛ لأن المترجم سيضحي بقسط من المعنى لإنتاجها في اللغة العرف. وهذه حال ترجمة الشعر الذي تتبوأ به الأصوات والعروض مكانة خاصة، لكن يتم إنتاجها في اللغة المترجم إليها على حساب خسارة جزء من المعنى. فمن أجل القافية مثلاً يحصل تقديم وتأخير للكلمات والعبارات والجمل. ولكي يتم ضبط الوزن والتفعيلة والقافية والجناس والسجع وما إلى ذلك من السمات العروضية والمحسنات البديعية، يُقلب المترجم كفيه وهو يقلب صفحات قاموسه الفكري الشخصي وقواميسه المرجعية التي في حوزته لكي يصل إلى مرادفه المطلوب، بالقافية المطلوبة والتفعيلة المطلوبة والإيقاع المطلوب، لكن ربما ليس بالمعنى الدقيق الأنسب لنقل معنى الأصل. فمثلاً لو كانت القافية تنتهي بالعين المكسورة وكان المطلوب التعبير عن معنى الخوف، قد يجد المترجم (الفزع، والهلع) الأنسب حتى وإن كان الخوف عادياً وليس شديداً كما تعبر عنه هاتان الكلمتان.
لذا وبما أن نقل الأصوات وإيقاعاتها في النص القرآني مناقض للدقة أولاً وغير ممكن في أغلب الأحيان ثانياً، وربما إعجازي، فأول ما يضحي به مترجم النص القرآني السمات الصوتية والفواصل المتناسبة في اللغة الهدف. يعني هذا بالضرورة خسارة مؤثراتها ومضامينها وانعكاساتها على المعنى، لكن التضحية بها أخف ضرراً بكثير من التضحية بدقة المعنى والأسلوب معجمياً وقواعدياً. ولا لوم على المترجم إن فعل ذلك، بل يثنى عليه؛ لأنه آثر الدقة على الأصوات والإيقاعات في سياق ترجمة النص القرآني حصراً، ولو كان نصاً آخر لطالبناه بتحقيق نوع من التوازن بين عناصر النص كله علماً أن بعضها سيكون على حساب بعضها الآخر أحياناً، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك (كما في ترجمة الشعر بشكل خاص، واللغة الأدبية بشكل عام مثلاً).

خاتمة
من خلال هذه الدراسة الأسلوبية المقتضبة لترجمتي المستشرقَين الإنجليزيَين: جورج سيل, وآرثر آربري لمعاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، نخلص إلى إيجابيات وسلبيات في ترجمتيهما، نجملها فيما يلي في شكل مقارنة:
1- أخفق المترجمان في أسلوب تصميم الشكل العام للنص، فسِيلْ استرسل في نصه دونما أي نوع من الفصل أو التقسيم أو التقاط النفس. وهذا غير موجود في أي نمط من أنماط أشكال النصوص وتصميماتها، بل التقسيم الوحيد الذي اعتمده سيل هو الفصل بين السور. أما السورة نفسها ففقرة واحدة من أولها حتى أخرها مهما طالت أو قصرت، كما أنه لا يوجد أرقام للآيات، بل لم يتقيد أحياناً بالآيات في استخدامه للنقطة كعلامة في نهاية الآية، فقد قسم بعض الآيات إلى أكثر من آية أو جملة من خلال استخدامه للنقطة، مما يعطي انطباعاً أن الآية المذكورة آيتان.
أما آربري فاختار صيغة النظم الشعري لتصميم الشكل العام لنص ترجمته، واختار تقسيم الآيات في مجموعات وأنماط نسقية لا تعتمد رقم الآية. وكلا الأمرين غير مقبول كما أشرنا من قبل. لذلك تحتاج كلتا الترجمتين إلى تعديل في الشكل العام؛ ليكون شكلاً عادياً يعتمد رقم الآية والفصل بين الآية والأخرى بطريقة ما، مع مقابلة كل آية أو إتباعها أو سبْقها بالآية القرآنية باللغة العربية الأصل، كما اقترح ساب(2002م) وغيره بشأن نص ترجمة آربري.

2- ترجمة سيل مفصلة وموضحة داخل متن النص ومن خلال التعليق والحواشي؛ مما أثرى الترجمة ووضح كثيراً من الغموض الذي وقع فيه نص آربري الذي اعتمد الاقتضاب واستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات. الاقتضاب أسلوب ضعيف في ترجمة القرآن الكريم؛ لأن الحاجة ماسة أحياناً لتوضيح المقصود من الضمير أو الإشارة الواردة، منها على سبيل المثال اسم الإشارة: Those، الذي استخدمه آربري في مطلع سورتي المرسلات والذاريات ترجمة للصفات دون ذكر موصوفاتها. فلن يعرف القارئ الإنجليزي ما المقصود بها. ولا بد من توضيحها في حالات كهذه. لكن آربري حاول أن ينفذ بجلده بهذه الترجمة المقتضبة فلم يفلح لأنها غامضة ولن يتسنى لقارئه معرفة الإشارة إلى الملائكة أحياناً وإلى الرياح أحياناً أخرى. كان سيل أفضل في هذا الجانب فوضح وشرح وعلق، وإن أخطأ أحياناً. لكن مبدأه في ترجمته صحيح. فالقرآن مليء بالإشارات والضمائر والفرج اللفظية التي تحتاج إلى شرح وتفسير وتوضيح بطريقة ما يختارها المترجم، وإلا ما فهم قارئ الترجمة المقصود.
3- تبنى آربري أسلوب الترجمة الحرفية، أي المتابعة الحرفية للكلمات والعبارات والجمل والعبارات الفعلية والصور البلاغية بقدر ما يستطيع، بعبارة أخرى التزم بالنص الأصل وحاول أن يخرج بترجمة متميزة، ولكنه أقر في آخر سطرين من تقديمه لترجمته أنها)صدى باهت للأصل العظيم ليس إلا) ( (poor echo though it is of the glorious original. وهذا اعتراف يجب أن نسجله لآربري بحروف ناصعة.
أما سيل فتبنى أسلوب الترجمة الحرفية مع الشرح والتوضيح، فأجاد الاختيار، وكاد أن يتفوق على غيره من المترجمين المستشرقين لولا أنه أطال أحياناً، وخرج عن النص أحياناً، وتدخَّل في الشرح دونما ضرورة أحياناً أخرى، وعلق تعليقات فيها ما فيها من المغالطات، علماً أنه والمقدم لترجمته السير دينيسون روس كانا في النهاية جازمَين أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا وحياً من الله تعالى عز وجل(راجع فقرة المغالطات).
4- ارتكب آربري أخطاء في الترجمة كما ارتكب سيل، لكن مغالطات سيل كانت أكثر، بل إن ترجمة آربري تكاد تخلو من مغالطات كبيرة مقصودة.
5- توخى المترجمان الدقة، كل بطريقته؛ إذ كان آربري حريصاً على ألا تفلت منه كلمة في الأصل، وألا يزيد أو ينقص شيئاً. أما سيل فكان حريصاً على ألا يترك كلمة غامضة، فشرح وفسر وفصّل. لكنه كما ذكرنا من قبل يعاب عليه الإطالة والحشو والخروج على النص والتعليقات الشخصية غير الضرورية. أما من حيث الدقة في اختيار اللفظة المرادفة المناسبة للأصل، فكان آربري أمهر من سيل في هذا. أما سيل فكان أمهر من آربري في التبسيط والتبيين لدقائق المعنى وإيصاله بوضوح وسهولة إلى القارئ الإنجليزي.
6- كلا المترجمين مُقِلّ في استخدام المراجع؛ إذ لم يذكر آربري مرجعاً بعينه عاد إليه في ترجمته، أو جهة إسلامية معينة أطلعها على ترجمته قبل نشرها، كما فعل المترجمون المسلمون من أمثال بكثول ويوسف علي، والهلالي وخان، وغيرهم. أما سيل فذكر ثلاثة مراجع إسلامية غير مشهورة وردت في حواشيه، وتعليقاته، وهي لكل من البيضاوي والزمخشري وجلال الدين(أو ربما صاحب الجلالين). لكن دينيسون روس في تقديمه لترجمة سيل يعتقد أن سيل لم يستخدم سوى تفسير البيضاوي (الذي ذكره بكثول في قائمة مراجعه، كما ذكر الزمخشري أيضاً)، بل أورد شواهد ومقارنات من الإنجيل والنصرانية والتوراة والإسرائيليات في محاولة منه ربما للتوفيق أحياناً، أو لإظهار الفرق أحياناً أخرى، أو لنفي أمر مرة أو تأكيده مرة أخرى، أو لمقارنة روايتين عن حادثة واحدة والخروج برأي شخصي وصل إليه فسجله في ختام التعليق. والنية لا يعلم بها إلا الله سبحانه. لكن أكثر تعليقاته وحواشيه، وللإنصاف، وردت في كتب السنة الصحيحة، رواها من دون زيادة ولا نقصان بتفاصيلها الأساسية، يستثنى منها طبعاً المغالطات التي أشير إليها من قبل.
7- كان سيل محقاً في عدم سعيه إلى إنتاج أي من السمات الصوتية والفواصل المتناسبة والمحسنات البديعة في ترجمته؛ لاستحالتها أولاً، ولتطلبها التضحية بالدقة في المعنى ثانياً، وهذا غير مقبول. أما آربري فلم يكن مصيباً في محاولته تقليد الأصل العربي في بعض أصواته وفواصله وبديعه، لا في شكل النص وتنضيده ولا في متنه ونهايات سطوره؛ فقد أضاع جهوده دون طائل؛ لأن الأمر غير وارد من أساسه.

المراجع العربية
1- الإبداع والإتباع في ترجمات القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية, عمر شيخ الشباب، ندوة تعميم التعريب وتطوير الترجمة: جامعة الملك سعود-الرياض(1419)
2- بعض المحاذير اللغوية الواجب مراعاتها عند ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية عبد الله بن حمد الحميدان و عبد الجواد بن توفيق محمود، ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م).
3- تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها, محمد بن حمادي الفقير التمسماني، ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م).
4- تجربتي مع تقويم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية, عادل بن محمد عطا الياس, ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م.
5- ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية ومراعاة خروج الكلام عن مقتضى الظّاهر أحمد بن عبد الله البنيان، (ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م).
6- ترجمة المصطلحات الإسلامية، حسن سعيد غزالة، ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م).
7- ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية, محمّد مهر عليّ، ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م.
8- تفسير الطبري تحقيق د.عبد الله التركي، دار هجر 1422هـ.
9- التفسير الميسر, نخبة من العلماء، ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة(1419هـ/1998م).
10- الجامع في الترجمة، ترجمة A Textbook of Translation (1988)، حسن سعيد غزالة؛ بيتر نيومارك (مالطا، فاليتا: إيلجا)، 2004م، ط2.
11- دراسة لترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية القرآن مترجماً للمستشرق الإنجليزي آرثر ج. آربري, هيثم عبد العزيز ساب، (ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م).
12- القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة الإنجليزية تقي الدين الهلالي ومحسن خان، (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية)، 1417 م.
13- مقالات في الترجمة والأسلوبية حسن سعيد غزالة، دار العلم للملايين: بيروت.
14- مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم دراسة تاريخية نقدية، عبد الرّاضي بن محمد عبد المحسن، ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة المنورة-1423هـ/2002م.

المراجع الأجنبية

1- Ali, A.Y.(1975), The Meanings of the Glorious Qur'an: Text and Translation (London: Nadim&Co.).
2- Arberry, A. J. (1964), The Quran Interpreted, (London: Oxford University Press).
3- Collins English Dictionary, (2002), Millennium Edn. (Librairie du Liban Publishers, Beirut).
4- Duff, A. (1981), The Third Language (Pergamon: Oxford).
5- Durand, M. (1993), "On Retranslating John Henry Newman's Callista" (in Jasper, D.(ed.)(1993), Translating Religious Texts, Translation, Transgression and Interpretation (St. Martin's Press:USA), pp.60-75.
6- Ghazala, H. (2004), Essays in Translation and Stylistics(Dar El-Ilm Lil-Malayin: Beirut, Lebanon)
7- Ghazala, H. (2003), Translation as Problems and Solutions: A Coursebook for University Students and Trainee Translators, (Dar Wa-Maktabat Al-Hilal: Beirut).
8- Ghazala, H. (1999),Varieties of English Simplified: A Textbook for Advanced University Students (Elga: Malta, Valetta)(2nd edn).
9- Ghazala, H. (1996), A Dictionary of Stylistics and Rhetoric: English-Arabic-English (Elga: Malta, Valetta)(2nd edn 2000).
10- Jasper, D. (ed.) (1993), Translating Religious Texts, Translation, Transgression and Interpretation (St. Martin's Press: USA)
11- Newmark, P. (1988), A Textbook of Translation (Prentice Hall: London).
12- Nida, E.A. and Taber, C.R.(1969), The Theory and Practice of Translation (United Bible Society).
13- Pickthall, M.,M.(1976), The Glorious Quran: With English Translation, Introduction and Notes, (London: George Allen and Boston&Sydney).
14- Schulte, R. and Biguenet, J.(1992), Theories of Translation: An Anthology of Essays from Dryden to Derrida (Chicago and London: The University of Chicago Press).
15- Sale, G. (1734/1877), The Quran: Translated into English from the Original Arabic, (London: Frederick Warne and Co.Ltd., and New York).
16- Stamps, D.(1993), ))Interpreting the Language of St Paul)) ,in Jasper, D./(ed.)/(1993), Translating Religious Texts, Translation, Transgression and Interpretation (St. Martin's Press: USA), pp.21-43.
17- Webster's Encyclopedic Unabridged Dictionary of the English Language (1989), (Gramercy Books: New York).
18- Zidan,A. and Zidan, D.(1417H/1996), The Glorious Qur'an: Text and Translation (Islamic House: Cairo, Egypt).
19-Al-Shabab, O.A. (1421H./2001), ))The Place of Marracci's Latin Translation of the Holy Quran: A Linguistic Investigation)(, King Saud University., Vornal of Language and Translation. Vol. 13, pp. 57-74.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك