استشراق «الغساسنة» مجدّداً: إشكال المصادر

حمّود حمّود
 
ربما كان من المستغرب جدّاً ألا نجد في عالم الدراسات الاستشراقيّة، على طول تاريخها، دراسات معتبرة عن الغساسنة (الجفنيين) وخصومهم التاريخيين المناذرة (النصريين)، سوى عناوين قليلة، تكاد لا تذكر، وذلك مقارنة بالكمّ الثقيل والهائل من العناوين التي تتناول قضايا أخرى في العالم العربي والإسلاميّ. لدينا عنوان قديم لشيخ المستشرقين ثيودور نولدكه أواخر القرن التاسع عشر «DieGhassnischen Fürsten aus dem Hause Gafnas» Berlin, 1887 الذي ترجمه قسطنطين زريق وبندلي جوزي تحت عنوان «أمراء غسان» (بيروت 1933)؛ ليُعاد صوغ عمل نولدكه، على يد الأستاذ الكبير عرفان شهيد (فلسطينيّ، ناصريّ المولد 1926) وذلك من خلال مشروعه الضخم: «Byzantium and the Arabs in the Sixth Century, Volume 1, 1995» (والمجلد الآخر الذي قُسّم بدوره إلى جزأين: الأوّل سنة 2002، والثاني 2010)، إضافة إلى أعماله الكثيرة الأخرى بالمناخ التاريخيّ والنقديّ نفسه. لكنْ للأسف، أعمال عرفان شهيد، لم يُنقل منها إلى العربية، على ما أعلم، إلا كتابه Rome and the Arabs: A Prolegomenon to the Study of Byzantium and the Arabs, 1984 تحت عنوان «روما والعرب» (ترجمة قاسم محمد سويدان ـــــ كيوان ــــــ دمشق 2008).

طبعاً، إنّ عرفان شهيد، على رغم احتلاله مساحة واسعة في العالم التاريخيّ الغربيّ، يتلقى نقداً بين الحين والآخر من بعض الاتجاهات (مدارس؟) التي تحمل نَفَساً أنغلوساكسونيّاً، والمولعة بالتشكيك بمصادر التاريخ العربيّ والإسلاميّ. وكان آخرها كتاب أصدرته أخيراً أكسفورد ليدٍ تتمرّس «حديثاً» في التاريخ الشرقيّ، ج. فيشر Fisher الذي عنون كتابه بـ «Between Empires, Arabs, Romans, and Sasanians In Late Antiquity, Oxford, 2011».

وعلى رغم أنّ الكتاب يعلن منذ بدايته أنّه سيتعرض لقضايا الغساسنة والمناذرة ومدى اشتباكهم بالإمبراطوريتين، البيزنطية والفارسيّة، لكنّه لا يولي، المناذرةَ ـــــ الفرس الأهميّة التي يوليها للغساسنة ـــــ البيزنطيين، وكأنّ الكتاب خُصّص للحديث عن الغساسنة فقط. وهذا يعود بجزء كبير منه (وهو ما يشتكي منه معظم المؤرّخين) لقلّة المصادر التي تركها الفرس وراءهم. وليس سبب هذا أنّ الفتوحات الإسلامية اللاحقة في العراق وفارس، ألغت التراث الثقافيّ للفرس، بل لأنّهم هم أنفسهم، كان ماضيهم الثقافيّ فقيراً مقارنة بما خلفه الرومان (البيزنطييون لاحقاً منذ 330 م)، والأثر الكبير الذي تركوه في بلاد العرب. إنّنا نستطيع أنثروبولوجياً ــــــ وحتّى إركيولوجيّاً ـــــــ تتبّع ذلك في شمال وغرب جزيرة العرب حتّى أراضي الجولان السوريّ (عاصمة الغساسنة)، وليس انتهاءً بدمشق والرقّة ــــــ الرّصافة (إحدى المحطّات المهمّة للغساسنة التي تركوا فيها آثاراً مهمّة)... وشمال حلب. من هذه النقطة، كان عرفان شهيد حذقاً في ملاحظة هذا، فدرس مدى الترابط الثقافيّ، في كثير من أوجهه، بين الغساسنة والأمويين (وبخاصّة في سورية وفلسطين)؛ الأمر الذي انتقده به كاتبنا فيشر.

لا شكّ، لم يكن المقصد من الكتاب الردّ على شهيد، بل تأسيس «لوحة»، يقول صاحبها إنّها «تاريخيّة» لصعود الإسلام؛ لا كتلك اللوحة التي حاول شهيد الكشف عنها من خلال جهد نقديّ عظيم في الاعتماد على المصادر غير الإسلاميّة من بيزنطيّة وسريانيّة وما خلّفته النقوش والكتابات الأركيولوجيّة... إلخ، وذلك يداً بيد بالاعتماد أيضاً على المصادر الإسلاميّة. إنّ لوحة فيشر تستثني في شكل متعمّد، وشبه كليّ المصادر الإسلاميّة، مكتفية بـ «المصادر غير الإسلاميّة» فقط؛ أي أنّنا سنقرأ عن الغساسنة لا من أحفاد الغساسنة والمؤرّخين العرب والمسلمين الذين أتوا بعد، بل من أفواه، «يجب» أن تكون غير عربيّة ومسلمة، لكي تستقيم لوحة فيشر التاريخيّة! لكن ما السبب الرئيس في «شطب» المؤلفات الإسلاميّة؟ الحجّة الأنغلوساكسونية المكرورة نفسها: لقد كُتبت هذه المصادر بعد عشرات السنين من لحظة صعود الإسلام! ومن هذا المنطلق ينتقد فيشر عرفان شهيد، ويتّهمه بأخذ موقف إيديولوجيّ من قضيّة مسيحيّة الغساسنة وولائهم للبيزنطيين.

إنّ فيشر إذ يعدنا منذ البداية لإعادة رسم هوية الغساسنة أو الجفنيين (كما يفضّل هو استخدام هذه التسمية، معارضاً الأولى) بنحو تاريخيّ، إلا أنّه يمكن تلمس إشكالين رئيسيين:

فمن جهة، لا ينظر إلى «الهوية الغسّانية»، الدينيّة بخاصّة، إلا وفق تصوّره هو عن مسيحيي بيزنطة. وأخيراً بدأت تصدر في الغرب دراسات مهمّة لإعادة درس مسيحيّة العصور القديمة المتأخّرة (Late Antiquity) والتداخل الشديد بينها وبين الوثنيّة الهلنستيّة. ربّما كان على فيشر أن يأخذ في الاعتبار تلك الدراسات قبل أن يعنون فصلاً كاملاً بـAspects of Arab Christianisation in Late Antiquity. يبدو أنّ الكاتب يهمل تلك الدراسات المهمّة، مقتصراً فقط على بعض التصوّرات الموروثة حول مسيحيّة بيزنطة في القرنين الخامس والسادس؛ ذلك أنّه لا يمكننا قراءة مسيحيّة الغساسنة في معزل عن مناخ الشرق الأدنى والمتوسطيّ العام. ما افتقر إليه الكاتب هو دراسة هذا المناخ الدينيّ ـــــ الثقافيّ المتوسطيّ، قبل دراسة مسيحيّة الغساسنة.

من جهة أخرى، ولأنّه لا يمكننا قراءة «الهويّة الغسانيّة»، ودائماً وفق نص فيشر، إلا ضمن ما تقدّمه المادة «غير العربيّة والإسلاميّة»، فإنّنا سنكون أمام صناعتين لهويّة الغساسنة:

ــــــ الأولى، أمام تصوّرات أنثروبيولوجيّة «صناعيّة» تطرحها المصادر «غير الإسلاميّة» نفسها عن العرب، سواء منهم حلفاء بيزنطة، أم لا. وهذه بحاجة الى إعادة قراءة، وفق آليّات النقد التاريخيّ، آخذين في الاعتبار المقارنة مع المادة العربيّة الإسلاميّة. نقول هذا الكلام ونحن نعي، أنّ كثيراً من تلك المصادر «غير الإسلاميّة» هي «معاصرة» للحدث العربيّ أو الغسّانيّ، لكن هذا لا يمنحها «العصمة» في كلّ ما تقوله. فكتّابها لهم أهواء وإيديولوجيّات وانحيازات؛ وبخاصّة (وهذه ملاحظة مهمّة) أنّ العصور القديمة المتأخرة كانت حافلة بالجدالات وصناعة الهرطقات، واتهام الملل الأخرى بها... إلخ. أي أنّنا أمام لوحة من التراث الأرثوذوكسيّ المسيحيّ، لا بد من وضعها على محكّ النقد التاريخيّ، كما هو الشأن في المصادر الإسلاميّة اللاحقة.

لهذا، كان من الممكن لفيشر، أن يكون أكثر «موضوعيّة»، لو أنه لم ينطلق من الموقف المسبق، برمي المصادر العربية والإسلاميّة والاستغناء عنها. كان من الممكن أن يتّخذ من موضوعه نفسه مناسبةً لدرس المصادر الإسلاميّة، في ضوء النقد التاريخيّ، بحيث تجرى عمليّة أشبه بالتعديل التاريخيّ للداتا التي تقدّمها وفقاً للسياق التاريخيّ والمصادر الأخرى. أمّا أنْ يرمي بها في البحر منذ البداية، فهذا هو اللانقد واللاتاريخ بعينه. ولا أخفي، أنّه أثناء قراءتي للكتاب، تتبعتُ معظم الأحداث الرئيسيّة التي يرويها فيشر، والبحث عنها في المصادر الإسلاميّة، فوجدتُ أن المسلمين أتوا عليها، وإنْ بأساليب، وربّما أهداف مختلفة... إلخ. ما يهمّ هو أنّ ثيمة الأحداث التي يستقيها فيشر من مصادر غير إسلاميّة يُمكن أن نقرأ عنها من مصادر إسلامية؛ لكنّ فيشر لا يبدو أنه كلف نفسه، وهو المؤرخ (؟)، ليفتح كتب تاريخ المسلمين لكي يؤرخ عنهم، إلا بنحو عرضيّ جداً، حينما يقع في مطب فراغيّ عن أمر ما، فيستعين بالطبري (في المواقف الحرجة)؛ إلا أنّه وعلى رغم ذلك يستخدم جملة: ولا نستطيع التأكّد من ذلك!

ــــ الصناعة الثانية، أنّنا أمام استشراق أنثروبولوجيّ لفيشر نفسه، في قراءته للمصادر غير الإسلاميّة. وهو اسشتراق بدا في كثير من مناحي الكتاب، يرسم في ذهنه مسبقاً بعض التصوّرات الثقافيّة التي أراد وفقها بناء هويّة للغساسنة، وللعرب عموماً. فلا يمكننا توقع أنّ للعرب القدماء هويّة متجانسة؟ لماذا؟ لأنّهم كانوا عبارة عن قبائل متفرّقة، بدويّة وشبه بدويّة Semi-Nomadic. العرب، في نص فيشر، لن يستطيعوا «إدراك» ذاتهم كذات إلا حينما يحتكّون ويتّصلون بالبيزنطيين. لنكن دقيقين أكثر، وفق فيشر، إلا حينما يتحضّرون بيزنطيّاً، أي مسيحيّاً. يأتي هذا الكلام على رغم أنّه يعتبر المسيحيّة أشبه بـ «أداة» سواء بالنسبة إلى الغساسنة، من أجل الاتصال وكسب قدم لهم عند البيزنطيين، أم بالنسبة إلى البيزنطيين أنفسهم من أجل مآرب سياسيّة في بلاد وقبائل العرب. ما يهمّ، أن هوية العرب، لم تبدأ معالمها إلا في أحضان ما فرضته بيزنطة! لهذا، يستنتج في نهاية الكتاب أنّ علاقة العرب ببيزنطة هي علاقة ما بين بين، أو في الوسط: «In-Between» (التّعبير له) وليست علاقة محوريّة.

بكلّ اختصار، المؤلف لا يُريد إعطاء العرب أهميّة إثنية قبل القرن الخامس، والسّادس الذي هو عصر جستنيان. إنّه يُشكّك حتى بالمعنى الوارد في نقش نمارة (جنوب شرقيّ دمشق) لامرئ القيس حينما يقول: «ملك كلّ العرب» (انظر النقش كاملاً: Fisher, P. 77.)، إنّه يشكّك في معنى أنّ العرب كانوا يشكّلون وحدة إثنيّة واعين لإثنيتهم؛ فأعطى كلمة «كلّ» الواردة في النقش بكونها لا تدلّ على العرب كلّهم، بل على أهل منطقته. هذا غلو استشراقيّ آخر واضح من الكاتب.

إنّ هذا الكلام، لا لكي يُحبط من عمل فيشر؛ فالرجل، بدا في الكتاب متمتّعاً بذهن حادّ بشأن التسليم بكثير من الروايات، حتّى ممّن ينقل عنهم من الكتاب السّريان (جون إيفسوس مثلاً)، إلا أنّ إشكال المصادر، وهو إشكال ميثودولوجيّ، هو ما كان يجب التعاطي معه، أولاً وقبل كلّ شيء، بنقد «موضوعيّ»، على الأقلّ لكي نستطيع «الاقتراب» (لا المطابقة) من الصورة التاريخيّة للغساسنة.

المصدر: الحياة.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك