كتاب القرآن وعالمه للمستشرق الروسي يفيم ريزفان ومزاعمه حول كتاب الله

كتاب القرآن وعالمه للمستشرق الروسي يفيم ريزفان ومزاعمه حول كتاب الله

للدكتور إلمير رفائيل كولييف
التمهيد

الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وصلّى الله على من أُرسل داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد فإن أعداء الإسلام ما فتئوا يحاربون الله، ويكفُرون بما أنزل في كتابه، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وهذا من مقتضى حكمة الله في ابتلاء الناس بعضهم ببعض؛ ومقاصد أعداء الله ووسائلهم في الطعن في الإسلام متنوعة وكثيرة، ويوحدها هدف واحد وهو تفتيت وحدة المسلمين، والنيل من عزهم ومجدهم وشرفهم، الذي نالوه بفضل تمسكهم بالإسلام وكتابه الكريم. ولما ضعف المسلمون؛ اجتمع أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين لاستدراج المؤمنين عن صراط الله المستقيم، وغوايتهم ليتبعوا أهواءهم، وكان بعضهم لبعض ظهيراً؛ كما قال الله تعالى: ﮋ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮊ [البقرة: ٢١٧]. ولكن الله تعالى متمُّ نوره ولو كره الكافرون.
ومنذ عصور أوروبا الوسطى أخذ بعض علمائهم يهاجم الإسلام؛ باعتراضات باطلة، وافتراضات كاذبة حول القرآن والسنة والسيرة النبوية، وعلى هذه الشبه والأباطيل والإفتراءات تأسست مدرسة الاستشراق التي كان من أهم أهدافها الدعم النظري والفكري لكسب عقول المسلمين ومن ثم بلادهم.
إنه لمن الصعب تحديد بداية للاستشراق، إذ إن بعض المؤرخين يعودون به إلى أيام الدولة الإسلامية في الأندلس، في حين يعود به آخرون إلى أيام الحروب الصليبية، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري، وأنه نشط في الشام على أيدي الراهب يوحنا الدمشقي
John of Damascus في كتابين له الأول: »حياة محمد«، والثاني: »حوار بين مسيحي ومسلم«. وكان هدفه إرشاد النصارى إلى جدال المسلمين. وأيًّا كان الأمر فإن حركة الاستشراق قد انطلقت بباعث ديني يهدف إلى خدمة الاستعمار، وتسهيل عمله، ونشر المسيحية.
وقد بدأ الاستشراق اللاهوتي على نحو رسمي حين صدور قرار مجمع فيينا الكنسي عام 1312م، وذلك بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية؛ فلم يظهر مفهوم الاستشراق Orientalism في أوروبا إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، فقد ظهر أولاً في إنجلترا عام 1779م، ثم في فرنسا عام 1799م كما أدرج في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م( ).
ويطلق مفهوم الاستشراق في اللغة الروسية على كل ما يُبحث في أمور البلاد الشرقية وثقافتها وتاريخها، ومنه ما يختص بالإسلام والعالم الإسلامي. ونقصد به في هذا البحث التيار الفكري الذي يتمثل في الدراسات المتنوعة عن العالم الإسلامي بما يشمل حضارته وديانته ومذاهبه وآدابه ولغاته وثقافته.
ولتحقيق مطلوبهم يقوم المستشرقون بإثارة شبهات متنوعة منها: الطعن في القرآن وأنه من وضع البشر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل متعلِّم، درس على أيدي اليهود والنصارى، وأتباع الأديان من الصابئين وغيرهم، ومنها: تشكيك الناس في صحة مصادر الإسلام – كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم– وتاريخ المسلمين المحفوظ في كتبهم، ومنها السخرية من بعض الأحكام الدينية، كدعوى عدم مناسبتها لوقتنا الحاضر، وغير ذلك من مزاعم ذات أبعاد خطيرة.
وفي هذا البحث سأحاول أن ألقي بعض الضوء على الأساليب والمناهج التي استخدمها المستشرق الروسي المشهور ((يفيم ريزفان)) Efim Rezvan للنيل من القرآن الكريم، فقد رتبت البحث على تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة وقائمة للمراجع.
أما الفصل الأول: فقد بينت فيه مكانة الكتاب المذكور في الاستشراق الروسي المعاصر وأضفت إليه نبذة عن مؤلفه.
أما الفصل الثاني: فقد تعرضت فيه لأهم المناهج التي سار عليها المستشرق الروسي لتشويه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتحريف معاني القرآن الكريم، وتاريخ جمعه وكتابته.
أما الفصل الثالث: فقد تعرضت فيه لموقف ((يفيم ريزفان)) من كتاب الله، وبيَّنت بطلان بعض ادعاءاته، ولم أتمكن من استقصاء جميع أقواله في حدود بحث واحد، ولكني أشرت إلى أهم ما يحتاج إليه طالب العلم الراغب في التعرف على كتابه ((القرآن وعالمه)).
أما الخاتمة فقد أوجزت فيها أهم ما انتهيت إليه خلال دراستي لبعض تصنيفات ((يفيم ريزفان)) وذلك بصورة إجمالية، كما قمت فيها بتقويم حالة مدرسة الاستشراق الروسي ومهماتها في عصرنا هذا، وبيان بعض التدابير التي لا غنى عنها في مقاومة الدعوة الاستشراقية بين الشعوب الناطقة باللغة الروسية.

الفصل الأول
حول كتاب القرآن وعالمه ومكانته في الاستشراق الروسي

في عام 2000م نشر مركز الاستشراق بمدينة سانت بطرسبورغ كتاب «القرآن وعالمه» لصاحبه يفيم ريزفان، والذي يعد كتاباً شاملاً للدراسات القرآنية في روسيا. ومن المعلوم أن موقف الحكومة السوفياتية من الدين لم يمهد سبيلاً للدراسات الإسلامية، ولعل معهد الاستشراق بمدينة بطرسبورغ (لينينغراد سابقا) كان المعهد الوحيد الذي اعتمدت فيه خطة شاملة لدراسة الاسلام ديناً وثقافةً. وقد حافظ أساتذة هذا المعهد على التقاليد التى شكلها الجيل السابق من المستشرقين، وكان من الطبيعي أن يكون كتاب «القرآن وعالمه» وفق تلك التقاليد.
وكان الكتاب المذكور نتاج جهود خمسة عشر عاماً من دراسة يفيم ريزفان لنصوص القرآن والمصادر الإسلامية والاستشراقية، وسبق ظهوره العديد من مقالاته التي تختص بالعلوم القرآنية المختلفة. ويحتوي هذا الكتاب المطبوع _ الذي يقع في أكثر من 600 صفحة _ على أكثر من مائة صورة بعضها ملونة وبعضها غير ملونة، وملحقاً فيه فهرس لموضوعات القرآن أعده توفيق إبراهيم ويفريموفا. وبعض نسخ هذا الكتاب أضيفت إليها أسطوانة ليزر بسورة الفاتحة المرتلة بقراءات مختلفة.
وقد رتب المؤلف كتابه على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وملحقات.
أما الفصل الأول فهو تحت اسم ((جزيرة العرب، والقرآن، ومحمد)) فقد استعرض فيه المؤلف نظرته حول المجتمع العربي، والأحداث السياسية والاجتماعية التى جرت فى القرن السابع الميلادي فى جزيرة العرب؛ حيث عاش النبى صلى الله عليه وسلم ونزل عليه القرآن الكريم، كما يبين فيه موقفه من كتاب الله ومن الوحي والنبوة.
أما الباب الأول من الفصل الأول فقد قام فيه ريزفان بتحليل المفردات اللغوية، والقواعد النحوية في القرآن، واستعراض تاريخي لتصورات المستشرقين الأوروبيين حول هذه المسألة. ويدعي الكاتب أن القرآن هو تأليف غير واعٍ لمحمد عليه الصلاة والسلام، ويلفت الانتباه إلى الكلمات الدخيلة في القرآن، وتطور معاني بعض المفردات حسب ظهور الآيات الجديدة. وفي الختام يلاحظ المؤلف أن اللغة العربية تأثَّرت بتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وخرجت خارج حدود الجزيرة العربية، وكوَّنت نظاماً جديداً للكتابة على مساحات واسعة، وأن القرآن الكريم لا يزال يؤثر في مختلف جوانب الحياة، من التقاليد إلى الثقافة، سواء داخل المجتمع الاسلامى أم خارجه.
أما الباب الثاني فقد حاول فيه ريزفان إظهار أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نشأت عن التصورات الوثنية، وكانت مشروطة بضرورة توحيد القبائل العربية وتكوين الدولة، والانتقال من النظام القبلي إلى النظام الإقليمي، ومن عبادة الأصنام الى توحيد الباري.
أما الباب الثالث فقد درس فيه ريزفان القرآن على أنه أثر أدبي ظهر على أسس شعر العرب وتقاليدهم. ويظهر تحيز المؤلف برفضه السنة والسيرة النبوية واعتماده على كل أثر قديم من الأشعار العربية والكتابات وأيام العرب. ويقارن المؤلف القرآن الكريم بكتب اليهود والنصارى، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار نصوص التوراة والأناجيل، فعدَّلها. مما جعل القرآن مرحلة جديدة في التقاليد الثقافية العربية.
أما الباب الرابع فقد تعرض فيه ريزفان لسلوك النبي صلى الله عليه وسلم، واجتهد في إيجاد أوجه التشابه بين حالته وحالة الشعراء والسحرة والكهان والخطباء. واستناداً إلى أبحاث علماء النفس الغربيين حاول المؤلف أن يرفض رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فاصطلح لحالته بحالة نفسية مختلة. ولتسهيل مهمته صار يدرس شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بمعزل عن تعاليمه الدينية وأخلاقه الكريمة وقراراته الحكيمة الصائبة، ولو أنصف وذكر بعضاً منها لانهارت كل افتراءاته، ولكنه أهمل جميع الروايات التي لا تخدم مقاصده، واعتنى بسلوكه صلى الله عليه وسلم أثناء تلقيه الوحي. وإثباتاً لمزاعمه يقول المؤلف: إن تصورات العرب حول الوحي الإلهي تحولت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اعتقادات بكرامات الأولياء وولاية أئمة الشيعة، وإلهام شيوخ الصوفية، كما يوحّد تطور هذه التصورات في سلك واحد مقللا بذلك من أهمية الوحي النبوي.
أما الباب الخامس فقد تعرض فيه المؤلف للتقسيم الاجتماعي في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وعادات العرب في الجاهلية، وقارنها بالتقسيم داخل المجتمع الإسلامي الناشئ. ويعرّف ريزفان مفاهيم الحلف والجوار والطاعة والولاء، ليدرك طريقة استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لعادات العرب بغرض قطع أنظمة العلاقات التقليدية ووضع نظام الأمن الجديد.
أما الفصل الثاني من الكتاب المذكور الذي سماه ((بعد النبي)) فقد خصصه المؤلف لبيان مكانة القرآن في حياة المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وتاريخ تطور الدراسات القرآنية في العالم الإسلامي وخارجه.
أما الباب الأول من الفصل الثاني فقد أوجز فيه المستشرق الروسي النظرة الإسلامية لتاريخ جمع القرآن فوضع صحته موضع شك. وكثيراً ما يرجع ريزفان إلى كتب المستشرقين الأوربيين وخصوصاً إلى بحوث جيرد بوين وغراف فون بوتمر، وهما مستشرقان ألمانيان قاما بترميم القصاصات التي عُثر عليها بالجامع الكبير بصنعاء. ثم يقوم المؤلف بوصف مفصل للمخطوطة
E-20 المحفوظة في معهد الاستشراق بفرع أكاديمية العلوم الروسية في سانت بطرسبورغ، و التي تتكون من (81) صفحة، كما يعطي استعراضا موجزا لتاريخ نسخ القرآن المحفوظة على أراضي الاتحاد السوفياتي سابقا.
أما الباب الثاني فقد تعرض فيه المؤلف لتاريخ تفسير القرآن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، وانتهى إلى تفاسير: سيد قطب والمودودي والخميني وأبي الكلام آزاد، وكامل حسين، مجتنبا كتب الأئمة المعاصرين من أهل السنة والجماعة مثل العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهما. وقد أثنى المستشرق الروسي على التفسير الكبير لغلام أحمد القادياني (1839-1908م) فسماه ((موسوعة القرآن))( ).
أما الباب الثالث فقد بين فيه ريزفان تأثير القرآن في حياة المجتمع الاسلامي في الفترة من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر الميلادي. ويعير المؤلف اهتماما خاصا باستخدام الآيات القرآنية في زخرفة المساجد، وتزيين السيوف، والخُوَذ، وفي كتابة التمائم، وأثناء القيام بأعمال الشعوذة.
أما الفصل الثالث الذي يسمى ((دفتر ملاحظات الإنسانية)) فقد رتبه المستشرق على بابين. فأما الباب الأول فقد تعرض فيه للتاريخ المفصل لتغلغل المعلومات حول القرآن الكريم في أوروبا الغربية. وأما الباب الثاني تحت عنوان ((القرآن في روسيا)) فقد خصصه لبيان تاريخ دراسة القرآن وعلومه في روسيا.
أما صاحب الكتاب المذكور يفيم ريزفان المولود عام 1957م فهو رئيس تحرير المجلة العلمية الدولية Manuscripta Orientalia ونائب مدير متحف الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية في سانت بطرسبورغ. وهو يحمل شهادة الدكتوراه دكتور في علوم التاريخ، ومؤلف لعشرات الأبحاث العلمية المطبوعة باللغات الروسية والإنجليزية والعربية والفرنسية والألمانية واليابانية والإيطالية والأزبكية والفنلندية والفارسية.
أما المجال الرئيس لاهتماماته العلمية فهو الدراسات القرآنية، وإلى جانب مقالاته الموسوعية ومقالاته في المجلات والابحاث المشتركة فقد أعد ريزفان للطباعة - بالاشتراك مع فيراوخ - ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الروسية، والتي قام بها الجنرال بوغوسلافسكي (سانت بطرسبورغ، 1995م). وله كتاب ((القرآن وتفسيره)) (سانت بطرسبورغ، 2000م) وكتاب ((القرآن وعالمه)) (سانت بطرسبورغ، 2000م)، وكتاب ((المصحف العثماني (كاتالانغار وسانت بطرسبورغ وبخارى وطشقند)) (سانت بطرسبورغ، 2004م). وقد نشر كتابه الأخير باللغتين الروسية والإنجليزية ويخطّط المؤلف لإصداره باللغتين الفرنسية والعربية. وله مصنف آخر باللغة العربية وهو ((القرآن في روسيا)) (دبي، 2000م). وإلى جانب هذا يشارك ريزفان في المشروع العلمي الدولي ((موسوعة القرآن)).
فأما المجال الثاني لاهتماماته فهو تاريخ العلاقات الروسية العربية وقد قام المستشرق بنشر سلسلة من البحوث تحت عنوان ((سفن روسية في الخليج العربي في الفترة من عام 1899 إلى عام 1903م. مواد من أرشيف الدولة المركزي للأسطول العسكري البحري)). وقد نشر هذا الكتاب باللغة العربية بموسكو عام 1990م وباللغة الإنجليزية بلندن عام 1994م. وله من البحوث العلمية كتاب ((الحج قبل مئة سنة. الرحلة السرية للضابط الروسي عبد العزيز دولتشين إلى مكة عام 1898م. رواية وصفية بديعة للتاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع والإدارة)) (بيروت، 1994م) وكتاب ((الخيول العربية في روسيا)) (دبي، 2000م)
وقد شارك ريزفان في تنظيم المعرض ((من بغداد إلى اصفهان. نماذج الرسم المصغر وعلم الخط من مجموعة معهد الاستشراق لفرع أكاديمية العلوم الروسية بسانت بطرسبورغ)) في باريس ونيويورك ولوجانو وزالتسبورغ. وهو أحد مؤلفي الفهرس الرئيس لهذا المعرض، والذي نشر بمدينة ميلانو عام 1995م باللغات الفرنسية والانجليزية والألمانية والإيطالية.
والمؤلف صاحب سلسلة الكتب والأشرطة المرئية تحت عنوان ((اثنتا عشرة مخطوطة من المتحف الآسيوي))، والتي بدأ إصدارها عام 2004م، والمحرر الرئيسي لسلسلة ((الثقافة والعقائد في الشرق المسلم))، وعضو هيئة التحرير لعدد من السلسلات العلمية والمجلات العلمية المحلية والدولية، ومنظم لعدد من المؤتمرات العلمية الدولية والتي أقيمت في سانت بطرسبورغ.
وهو عضو اللجنة الدولية الاستشارية والبرامجية لإدارة الندوة العالمية لبحوث الشرق الأوسط World Congress for Middle Eastern Studies، ومندوب روسيا في الجمعية الأوروبية للقائمين بالدراسات الاستعرابية والإسلامية Union Europénne des Arabisants et Islamisants. وحصل ريزفان على الجائزة الفخرية لجامعة سوكو (طوكيو، 1998م)، وعلى الوسام الذهبي بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس المملكة العربية السعودية (الرياض، 1999م)، وجائزة لجنة مسلمي آسيا (طشقند، 1998م) لمشاركته في تصنيف الموسوعة ((الإسلام في أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة)).
وبقرار من إدارة جمعية الناشرين ((حول نتائج مسابقة أحسن كتاب لسنة 2001م)) حصل كتابه ((القرآن وعالمه)) على دبلوم تلك المسابقة، كما حصل على جائزة المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) لأحسن إصدار يحمل مساهمة كبرى في حفظ الثقافة العالمية ونبذ العنف والحوار بين الحضارات. وفي عام2002م نال هذا الكتاب جائزة كتاب العام الوطنية لجمهورية إيران الإسلامية.

الفصل الثاني
بعض المناهج البحثية ليفيم ريزفان
في دراسة القرآن الكريم

قد علمنا مما سبق أن كتاب ((القرآن وعالمه)) للمستعرب الشهير يفيم ريزفان له منْزلة كبيرة بين الدراسات القرآنية في روسيا. وإلى جانب الأساتذة بيوتروفسكي وبروزوروف وأكيموشكين وخسماتولين وخالدوف يُعَدُّ ريزفان من أكبر المستشرقين الروس. وقد أثنى على كتابه عدد من المستشرقين الغربيين، منهم أندرو ريبين من كندا، ومايكـل كارتير من النرويج، وسيرجيو نويا نوسيدو من إيطاليا وغيرهم. وسنبين الموقف الإسلامي من الأفكار الخطيرة لهذا المستشرق في الصفحات التالية إن شاء الله، وقبل ذلك نلقي الضوء على بعض المناهج التي استعملها ريزفان لإثبات فرضياته ونظرياته.
ويتضح للباحث المنصف أن آراء المستشرق الروسي في أكثر الأحيان تختلف عن معتقدات المسلمين مما جعل هدفه الأساس التشكيك في كتب العلماء المسلمين تحت مزاعم البرهنة العلمية. ولأجل الوصول لهذا الهدف قام ريزفان بحل عدد من المسائل، منها: إنشاء منهج علمي ليضع المصادر الإسلامية التاريخية والشرعية موضع الشك.
ومنها: ترتيب سور القرآن على أساس الدراسات الاستشراقية وبناء على التحليل السياقي Contextual analysis لمفردات القرآن، لا على أساس الروايات الواردة في كتب الحديث.
ومنها: استحضار العالم الواقعي للمجتمع الإسلامي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والتعمق في عالم اعتقادات العرب كعقائد الحنفاء وغيرهم، عن طريق دراسة خصائص لغة القرآن الكريم.
ومنها: تحديد أهمية الجوانب المختلفة لحياة المجتمع العربي في القرن السابع الميلادي عن طريق مقارنة استخدام المصطلحات اللغوية في القرآن الكريم وشعر الجاهلية.
ومنها: دراسة الاتصالات الثقافية لأهل مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتحديد طرق دخول الأفكار والمفاهيم إلى مجتمعهم ليفرق بين الصفات التي كانت مكتسباً روحياً لمحمد صلى الله عليه وسلم والصفات المقتبسة من الحضارات الأخرى؛
ومنها: تحديد طرق تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في قومه، واستكشاف آلات التأثير في نصوص القرآن الكريم، والتي أضافت لدعوته معاني من خارج نص القرآن.
ومما يتبين لنا من هذه المسائل أن تحليل النصوص القرآنية على أنها أثر أدبي أراد من خلاله هذا المستشرق الضال الوصول إلى أن القرآن الكريم من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم، وبوضع كتاب الله عز وجل في صف واحد مع الآثار الأدبية الأخرى، فهو يريد التسوية بين كلام الخالق والمخلوق. ومع ذلك يعترف ريزفان بأن القرآن لا يشبه أثار الأدب العربي، فيقول: ((وفقا لوجهة النظر التقليدية يقف القرآن كأثر أدبي في جانب عن الاتجهات الرئيسية للأدب العربي، وهو لا يرتبط به إلا باستخدامه للسجع واللغة المفهومة للجميع))( ).
ويزعم المؤلف أن المستشرقين لم يقوموا بالمحاولة الجدية للبحث عن الربط بين القرآن والتقليد الأدبي المتقدم والمعاصر له، ويرى أن تلك البحوث توضح مصادر لغة القرآن ومضمونه. والحقيقة أن المستشرقين في مشارق الأرض ومغاربها قد بذلوا جهوداً لإثبات افتراءاتهم حول القرآن الكريم وقولهم بأن له جذوراً في الأدب العربي، ولكن الله تعالى أبطل مساعيهم وتركهم في طغيانهم يعمهون.
وأراد المستشرق أن يضع القرآن الكريم في درجة أقل صحة من درجة كتب التاريخ، فمن هذا القبيل ادعى أن لقمان الحكيم شخصية أسطورية، في الوقت الذي يعد أكثم بن صيفي من بني تميم شخصية تاريخية، مع أنه لم يُذكر في القرآن خلافاً للقمان عليه السلام( ).
ويرى أن لغة القرآن نشأت وسط ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة، ويريد المؤلف بذلك أن أحكام القرآن لا تطابق إلا واقع المجتمع العربي أيام النبي عليه الصلاة والسلام. وحسب رأي ريزفان فإن القرآن هو نتيجة التطور الاجتماعي والديني للمجتمع العربي، وأنه يعكس العلاقات العميقة بين الحضارة العربية وتصورات العرب الدينية والاجتماعية وبين التجربة الدينية والتاريخية لشعوب الشرق الأدنى( ).
أما الأساليب التي يستعملها ريزفان في دراسة القرآن الكريم فهي كثيرة ومتنوعة، ومن أهمها: التشكيك والافتراض والادعاءات الباطلة والتأويل والاعتماد على الأثر الضعيف والتحليل السياقي.
أسلوب التشكيك:
يستعمل ريزفان الكلمات ((كأن)) و((كما)) وما يشابهها عند الاستشهاد بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء المسلمين، مما يدل على عدم اعتماده على كتب السنة والتاريخ الإسلامي. ويزعم هذا المستشرق الروسي بلا دليل ولا برهان أن تاريخ جمع القرآن المحفوظ في الأحاديث والآثار لا يتوافق مع ما يستنتج من دراسة المخطوطات القرآنية القديمة، فيقول: ((ومن الواضح اليوم أن التاريخ الأصلي - يعني لجمع القرآن وترتيبه - الذي تحفظه المخطوطات الأولى يتميز عما ورد في كتب المسلمين))( ).
وفي الوقت نفسه يرجع المؤلف إلى الأساطير والخرافات القديمة وما كتب على الحجارة والقبور والجدران فهي عنده مصادر تاريخية معتمدة، ويحاول أن يقرب المعلومات المكتشفة منها إلى افتراضاته حول كتاب الله. ولكن تبقى معضلاته غير محلولة مما يجعله يعتذر بقلة المعلومات الواقعية، وتحريف الآثار التاريخية، وانعكاسها في ضوء التقليد الأدبي الإسلامي.
كما يستند هذا المستشرق إلى فرضيات أسلافه من المستشرقين، والتي منشؤها الظن والاحتمال في أكثر الأحيان. وعند استشهاده بأقوال الباحثين الغربيين يتخذها عمدة فيرجحها على القواعد العلمية فلا يذكر حججهم، وكأنه يشير بذلك إلى صحة أقوالهم. ويعد هذا المنهج عند المستشرقين منهجاً علمياً مع أنه فى غاية البعد عن العلم. وقد بنى المستشرقون استنتاجاتهم الواهمة على أخطاء الباحثين السابقين، وابتعدوا عن الصواب.
أسلوب الافتراض:
إن مزاعم هذا المستشرق الروسي حول القرآن العظيم كثيراً ما تستند إلى فرضياته الخاصة، فلا يكلف نفسه سَوْقَ الأدلة الواضحة. فمثلاً: يقول عند زعمه بأن النصوص القرآنية مقتبسة من كتب اليهود والنصارى: ((ربما كانت الكتب الدينية باللغة العربية مكتوبة بالحروف العبرانية أو اليونانية في الحيرة أو نجران أو يثرب أو مكان آخر))( ). ولا يهتم ريزفان بإقامة الحجج والأدلة على هذا الافتراض الخيالي الواهم.
ويرجم بالغيب في موضع آخر، حين يفترض أن الكتابة العربية وُضعت من طرف المنصرين، فيقول: ((إن الطابع النصراني لأقدم الكتابات العربية المؤرخة يمكّن من الافتراض بأن نظام الكتابة المعروفة بالكتابة العربية كانت موضوعة من قبل المنصرين، وظهرت في منطقة الحيرة أو الأنبار، وكذلك كثير من أنظمة الكتابة في الشرق))( ).
كما يتبع ظنه عند تقويمه لسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد بنى الحارث بن كعب. ففي القصة التي رواها ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا؟ فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم( ).
ويقول ريزفان: ((ولعل النبي لم يعجبه أنهم لم يعاملوه باحترام عظيم، فأراد أن يجبر يزيد بن عبد المدان على التسليم بوصف أصحابه وصفاً فيه إهانة وإذلال))( ). ولم يذكر المؤلف السبب الذي قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فأعطى فكرة خاطئة عن أخلاقه وسلوكه مع أصحابه. وقد عصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن تقوّل الأعداء فقال:
ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮊ [القلم: ٤ ]؛ وقال تعالى: ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﮊ [آل عمران: ١٥٩].
وقد عجز ريزفان عن سوق أي أدلة نقلية أو عقلية إن وجدت على فرضياته الكاذبة، وكذلك أصحابه المستشرقون الذين حدسوا وخمّنوا ثم فكروا وقدروا، فما استطاعوا النيل من كتاب الله، كما قال تعالى: ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮊ [يونس: ٣٦].
أسلوب الادعاءات الباطلة:
وإلى جانب الفرضيات التي لا يدَّعي ريزفان صحتها يقيناً، يجد الباحث المنصف في كتابه ((القرآن وعالمه)) المزاعم حول كتاب الله وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي، التي تخالف القرآن والسنة وروايات المؤرخين.
فيزعم المستشرق أن العرب في الجاهلية لم يؤمنوا بأن الله خالق كل شيء وأن آدم عليه السلام أبو البشر، ومما يدل على ذلك - حسب قوله - تعدد الآلهة والنظام القبلي. وبهذا الصدد يشير إلى أن كل عشيرة وقبيلة كانت ترجع إلى جدها الأقدم، والذي كان يُعبد في كثير من الأحيان( ).
وفى موضع آخر يقول: ((إن محمداً جعل آدم أبا البشر هو الجد الأقدم. وذكره - يعني محمد صلى الله عليه وسلم – إياه يدل على أن معظم أهل مكة لم يكن لديهم أدنى تصور عن الجد الأقدم العام لجميع الناس والمفهوم الاجتماعي للبشرية))( ). ومن العجب أن المؤلف يستدل على قوله هذا بآيات القرآن التي فيها الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كقوله تعالى:
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ [الحج: ٧٣].
وحسب قول ريزفان فإن الاعتقاد بأن آدم عليه السلام كان أبا البشر وأن الله خلق جميع الناس من نفس واحدة وأنه سبحانه فاطر السموات والأرض لم تكن معروفة في جزيرة العرب إلا لدى اليهود والنصارى( ). فيرى ريزفان أن تلك الأفكار دخلت الجزيرة عن طريق أهل الكتاب، وهي التي قوضت قواعد المجتمع الوثني وأفقدته الثقة بالأصنام.
ومن المعلوم أن مشركي العرب كانوا يُقرون ويشهدون بأن الله هو الخالق الباري وحده لا شريك له، وأن له ما في السموات السبع وما في الأرض، ولكنهم كانوا يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، كما قال تعالى: ﮋ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ  ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ  ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ  ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ  ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ  ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﮊ [المؤمنون: ٨٤ - ٨٩ ]؛ وقال تعالى:
ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ [الزمر: ٣]، والآيات في ذلك كثيرة.
وكما هو معلوم فإن اليهود والنصارى لم ينشروا التوحيد في جزيرة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، فكانت القبائل العربية تعبد الأصنام والأوثان تريد منهم التقرب إلى الله وتريد شفاعتهم عنده. وكادت الأصنام أن تكون في كل قبيلة وحتى في كل بيت.
وقد مُلئ المسجد الحرام بالأصنام، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعنها حتى تساقطت، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت( ). وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها ومنها اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره( ).
ولكن ريزفان جهل هذه الحقائق المعلومة لكل من اطلع على المراجع الإسلامية، والأحرى أنه تجاهلها، ولا يبقى لنا إلا أن نتعجب من هذا الباحث المدعي أن أقواله مبنية على الآيات القرآنية المحكمة.
ومن مزاعمه أن القرآن يعكس تطور تصورات العرب حول خلق الإنسان من تراب. ويشير ريزفان إلى الأساطير القديمة عن خلق الإنسان من عرق الثرى، فيقارن بينها وبين قوله تعالى: ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ إلى قوله: ﮋ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﮊ [الحج: ٥ ]. ويدَّعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم طور هذه الأفكار، فإن خلق الإنسان من الطين (الأنعام، 2) ومن صلصال من حمإ مسنون (الحجر، 26) لم يذكر في الشعر الجاهلي.
ويعير ريزفان اهتماماً خاصاً بفكرة تجسيد النفس في الحجر، فيقول: إن كلمة النفس قد استعملها أهل اليمن والأنباط بمعنى ((حجر القبر))، وذلك لأن القبور تذكر الأموات أي نفوسهم( ). وحسب قوله فإن العرب كانوا يعتقدون أن الإنسان قد يتحول إلى حجر بارتكاب الجرائم، وأن العرب اتخذت بعض الأحجار آلهة بهذا السبب. ثم يزعم أن تلك التصورات كانت تؤثر في النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء تعظيمه للحجر الأسود واعتقاده أن الناس والحجارة وقود للنار. وفي هذا الصدد يشير ريزفان إلى قوله تعالى: ﮋ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﮊ [البقرة: ٢٤ ]؛ وقوله: ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮊ [البقرة: ٧٤ ]؛ وقوله ﮋ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﮊ [الإسراء: ٥٠].
أما أدلته من الروايات، فمنها قصة إساف ونائلة، التي رواها ابن هشام: قال ابن إسحاق: ((اتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما وكان إساف ونائلة رجلا وامرأة من جرهم - هو إساف بن بغي ونائلة بنت ديك - فوقع إساف على نائلة في الكعبة، فمسخهما الله حجرين)).
ومنها قصة أجأ وسلمى، وقد ذكر العلماء بأخبار العرب أن أجأ بن عبد الحي كان رجلا من العماليق عشق امرأة من قومه يقال لها سلمى، وكانت لهما حاضنة يقال لها العوجاء، وكانا يجتمعان في منزلها حتي وجدهما زوجها وإخوتها، فهربت سلمى هي وأجأ والعوجاء، وتبعهم زوجها وإخوتها فلحقوا بسلمى على جبل فقتلوها فسمي الجبل باسمها سلمى فيما بعد، ولحقوا بأجا بالجبل الآخر القريب منه فقتلوه وسموا الجبل باسمه أجا، وأما العوجاء فلحقوا بها على هضبة بين الجبلين فقتلوها فسمي مكان الهضبة باسمها.
ومنها قصة النسوة وهي حجارة كانت في الطريق من مكة إلى عرفات. وتحكي القصة أن إحدى النساء خانت زوجها فحملت وتحجرت عند الولادة، هي وصاحبتاها في الطريق( ).
يصرح ريزفان مستدلاً بهذه الروايات بأن بعض العقائد الإسلامية نشأت عن تصورات مشركي العرب وتقاليدهم. ولا مستند للمستشرق إلا ادعاءاته المزعومة مما يبين موقفه تجاه مبادئ الدين الإسلامي. أما رجوعه إلى الروايات المذكورة، وتركه معظم الأحاديث والآثار وتشكيكه فيها، فلا يدل إلا على مكره ورغبته في النيل من الإسلام.
ومن مزاعمه مبالغته في دور التصوف في تاريخ القرآن، فمن الجدير ذكره أن مدرسة الاستشراق الروسي تولي اهتماما كبيرا بدراسة التصوف وانتشار العقائد الصوفية بين مسلمي روسيا. فيشير ريزفان إلى أن الصوفية لهم دور استثنائي في تطور علم القراءات ووضع مجموعة العلامات التي تستخدم في المصاحف( ).
ويقول في موضع آخر: ((وما نزال نكتب عن دور التعاليم الصوفية وتوابعها في تطور، وتؤلف تلك الظاهرة الفريدة في تاريخ الحضارة البشرية، والتي تسمى بالقرآن، ويدخل في ذلك تطوير علم القراءات، ووضع مجموعة العلامات، الذي استكمل العملية الطويلة لتثبيت النص الرسمي، ووضع قواعد تأويل القرآن، التي وضعت في أساس المئات من المؤلفات المكونة للعنصر الهام للثقافة الدينية الإسلامية))( ).
أسلوب تأويل الآيات:
ومن ادعاءات ريزفان الباطلة تأويله بعض الآيات القرآنية وتحريفه معانيها. ولا يستشهد هذا المستشرق بالآيات إلا قليلا، وإن فعل فإنما يرتد عليها بتأويل معاني كلام الله، مستندا إلى التحليل اللغوي والنحوي، ولا يرجع إلى كتب التفسير. ولا يعطى أهمية لمعرفة أسباب النزول وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الأئمة الفحول، والعلوم المختلفة التي لا بد منها للفهم الصحيح للقرآن. وأمثلة ذلك في كتاب ((القرآن وعالمه)) كثيرة، ونكتفي بذكر بعضها.
أولاً: يقول ريزفان في معنى قوله تعالى ﮋ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﮊ [المجادلة: ١١ ] أن المسلمين أمروا بالقيام عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجالسهم( ).
ويخالف هذا القول الخاطئ المعنى الصحيح لهذه الآية الكريمة، ويبطله سبب نزولها والسنة الصحيحة. قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الاَية يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام لما لم يفسح لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: ((قم يا فلان وأنت يا فلان)). فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء. إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله رجلاً يفسح لأخيه)). فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الاَية يوم الجمعة. رواه ابن أبي حاتم( ).
وقال الحافظ ابن كثير: ((وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك محتجاً بحديث( ) ((قوموا إلى سيدكم)) ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث ( ) ((من أحب أن يمثل له عباد الله قياماً فليتبوأ مقعده من النار)) ومنهم من فصّل فقال يجوز عند القدوم من سفر وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين ((قوموا إلى سيدكم)) وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم. فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك))( ).
ثانياً: يزعم ريزفان أن الصحابة أمروا بالتصدق على النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي مناجاته بقوله تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﮊ [المجادلة: ١٢ ]( ).
وهذا تأويل باطل فإن المسلمين لم يؤمروا بالتصدق على النبي صلى الله عليه وسلم، بل حرَّم الله تعالى الصدقة عليه وعلى آله. فعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كخ كخ ارم بها أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة( ).
وعن بَهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كل سائمة إبل: في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا بها فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء( ).
ثالثاً: يدعي ريزفان أن إسراء محمد صلى الله عليه وسلم المذكور في قوله تعالى ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﮊ [الإسراء: ١ ] هو إسراء في المنام( ).
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم وجسده، يقظة لا مناماً. وقال القاضي عياض: ((وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهو قول ابن عباس وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبي هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبي حَبَّة الأنصاري البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإيراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج، وهو دليل قول عائشة، وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين، وقول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين))( ).
رابعا: يقول ريزفان في معنى قوله تعالى ﮋ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ [النحل: ٧٤ ] إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدَّعي أن ضرب الأمثال في الكلام حق خاص به من دون الناس، وذلك لأن الأمثال تزيد الكلام مجازاً وحدَّة( ). وهذا قول خاطئ فإن المعنى الصحيح للآية ما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه: ﮋ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﮊ يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري. ذكره الإمام الشوكاني في تفسيره( ).
ويتبين لنا أن المستعرب الروسي ريزفان يُؤوِّل معاني الآيات القرآنية حسب رغبته وخلافاً لمعاني الكلمات اللغوية والقواعد النحوية في بعض الأحيان. وصدق فيه قول الله تعالى: ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﮊ [آل عمران: ٧].
أسلوب الاعتماد على الأثر الضعيف:
قد ذكرنا أن ريزفان لم يستشهد بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نادراً، وما ذلك إلا بسبب عدم اعتماده على المصادر الإسلامية من كتب الحديث والسيرة. ومع ذلك لم يلبث المستشرق أن يدعّم بعض افتراءاته حول كتاب الله بالآثار الضعيفة والموضوعة كقصة الغرانيق المشهورة التي أنكرها غير واحد من المحدثين والمفسرين مشيراً إلى أن الآلهة الإناث كانت تعبد في جميع نواحي الجزيرة العربية وكانت لها منْزلة عالية حتى ((كاد محمد يرتد عن دينه لأجلها عندما اعترف بتلك الآلهة بوسوسة الشيطان))( ).
وذكر المؤلف هذه القصة في أكثر من موضع من كتابه ولم يأت بنص كامل لإحدى رواياتها. ومن المعلوم أن قصة الغرانيق قد ذكرها المفسرون عند قوله تعالى: ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ  ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ  ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊ [الحج: ٥٢ – ٥٤].
وعن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية: ﮋ ﮭ ﮮ ﮯ ﮊ [النجم: ١٩]، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى))، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله: ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮊ [الحج: ٥٢ ] إلى قوله: ﮋ ﯼ ﯽ ﯾ ﮊ [الحج: ٥٥ ] ( ).
وقال الشيخ الألباني في كتابه ((نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق)): إن روايات القصة كلها مُعَلَّة بالإرسال والضّعف والجَهالة، فليس فيها ما يصلُح للاحتجاج به، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير. ثم قال: إن مما يؤكد ضَعفها بل بطلانها، ما فيها من الاختلاف والنَّكارة مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وإليك البيان:
أولاً: في الروايات كلها، أو جُلها، أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى.
ثانياً: وفي بعضها: والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ أو وهم. ففي هذا أن المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، ولم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان، بل اعتقدوا أنه من وحي الرحمن!! بينما تقول رواية أخرى: ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان. فهذه خلاف تلك.
ثالثاً: وفي بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان، حتى قال له جبريل: معاذ الله! لم آتك بهذا، هذا من الشيطان!!
رابعاً: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم سها حتى قال ذلك! فلو كان كذلك، أفلا ينتبه من سهوه؟!
خامساً: في رواية: أن ذلك ألقيَ عليه وهو يصلي!!
سادساً: وفي رواية أنه صلى الله عليه و سلم تمنّّى أن لا ينْزل عليه شيء من الوحي يَعيبُ آلهة المشركين، لئلا ينفروا عنه!!
سابعاً: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال عندما أنكر جبريل ذلك عليه: افتريتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يَقلْ، وشركني الشيطان في أمر الله!!
فهذه طامّات يجب تنْزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عنها ولا سيّما هذا الأخير منها- وحاشاه - قوله تعالى: ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ  ﮌ ﮍ ﮎ  ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮊ [الحاقة: ٤٤ – ٤٦]. فثبت مما تقدم بطلان هذه القصة سنداً ومتناً. اﻫ مختصراً
أسلوب التحليل السياقي:
ولعل الأسلوب الأساس الذي يعتمد عليه ريزفان في الدراسات القرآنية هو أسلوب التحليل السياقي Contextual analysis، والذي وضعه كل من المستشرقة السوفيتية كسينيا كاشتالوفا والباحث البولوني كونستلينجر. وفي أساس هذا الأسلوب أن كل مصطلح جديد في القرآن له تاريخ وهو يعكس مرحلة من مراحل تطور ظاهرة معينة. وحسب قول كاشتالوفا فإن لغة القرآن هي مصدر من المصادر التاريخية، ولا بد من دراستها بصورة مستقلة. ويرى ريزفان أن هذا الأسلوب يمكّن من تحديد الصلة بين تطور معاني المصطلحات القرآنية وتغير منْزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في المجتمع( ).
ويستند أسلوب التحليل السياقي إلى دراسات المستشرقين التي تختص بلغة القرآن، ولذلك استعرض ريزفان تاريخ تطور آراء المستشرقين حول هذه المسألة، فذكر أنه لفت نظر العلماء الغربيين في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي حين نشر كتاب Lexicon linguae arabicae in Coranum لصاحبه ويلميت، وذلك في هولندا عام 1784م.
وكان المستشرقون يحسبون أن لغة القرآن هي لغة قريش حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ثم اختلفوا في هذه المسألة فظهرت النظريات المتنوعة والمتناقضة لكارل فوليرس وتيودور نولدكة وريجيس بلاشير وغيرهم.
أما فوليرس فزعم في كتابهVolkssprache und Schriftsprache im alten Arabien (شتراسبورغ، 1906م) أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بالقرآن باللغة الدارجة بدون إعراب الكلمات، ولكن فرضيته لم تجد قبولاً عند المستشرقين حتى دافع عنها المستشرق المجري بول كاليه في مقالته The Qur’an and the Arabiyya عام 1948م.
أما نولدكه فادَّعى في كتابهNeue Beiträge zur semitischen Sprachwissenschaft أن لغة القرآن لغة مصطنعة مفهومة في جميع مناطق الحجاز. وطور المستشرق الألماني شفالي هذه النظرية فحرر كتاب أستاذه نولدكه Geschichte des Qorans، فنشرت الطبعة الثانية لهذا الكتاب في ليبزيغ عام 1860م.
أما رابين في كتابه Ancient West-Arabian (لندن، 1951م)، وبلاشير في كتابه Introduction au Coran (باريس، 1948م)، وفلايش في كتابه Introduction à l’étude des langues sémitiques (باريس، 1948م) فاصطلحوا للغة القرآن باللغة الشعرية فوق اللهجة المتأثرة بلغة قريش الدارجة. وهذا قول معظم المستشرقين اليوم، في الوقت الذي يرى بعضهم أن كل الفرضيات حول لغة القرآن ليس لها برهان؛ لأن نص القرآن لم يضبط إلا في القرن التاسع، هكذا قال المستشرق الإنجليزي وونسبرو في كتابه Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation (أوكسفورد، 1977م).
وفي أوائل القرن العشرين ظهرت فرضيات تقول: إن معتقدات النبي صلى الله عليه وسلم كانت نتيجة لعلاقاته الخارجية. ونشر تلك الأفكار الفاسدة باوتس في كتابه Muhammeds Lehre von der Offenbarung (ليبزيغ، 1898م)، وهيرشفيلد في كتابه New Researches into the Composition and Exegesis of the Qoran (لندن، 1902م)، ولامينس في كتابه Les sanctuaires préislamites dans l’Arabie occidentale المطبوع عام 1926م وغيرهم.
وحاول لامينس أن يفسر معاني الكلمات بقرائن الكلام بدون الرجوع إلى كتب التفسير، وكان مبدأ انطلاقه ادعاء أن اللغة القرآنية هي لغة مقتبسة. ومن العجب أنه لم يستدل على قوله هذا بنصوص المصادر غير العربية ولكن قام بدراسة الشعر الجاهلي.
وذكر ريزفان أن منهج لامينس استعمله المستشرق الألماني باريت في كتابه Der Koran: Kommentar und Konkordanz المطبوع عام 1971م، وطوّره برافمان في كتابه The Spiritual Background of Early Islam (ليدين، 1971م) و إيزوتسو في كتابه God and Man in the Koran (طوكيو، 1964) فأما برافمان فقد قام بوصف حياة العرب الاجتماعية والثقافية مستندا إلى تحليل معاني المفردات؛ وأما إيزوتسو فقام بتحليل المجموعات الموضوعية في القرآن.
وقد بنى أسلوب التحليل السياقي على تلك الفرضيات التي وضعها لامينس وأتباعه. وبيَّن ريزفان ماهية هذا الأسلوب في مقالته ((القرآن وثقافة الجاهلية. قضية المنهج البحثي)) فقال: ((إن هذا الأسلوب يبدأ بتعيين المجموعة الموضوعية للمصطلحات التي يسمى بها الأفراد والجماعات. وحداثة هذا المنهج أنه لا ينتهي إلى تحليل المصطلحات منفردةً؛ بل يشمل مجموعات المفردات ودلالات الكلمات اللفظية. ثم تحليل المفردات القرآنية في سياق الكتاب بكامله لأن محمداً - أثناء تأليفه للقرآن - وضع مصطلحات جديدة لا يمكن فهم معانيها خارج هذا الكتاب. ثم تدرس مجموعة المصطلحات المعينة على أساس الآثار الأدبية لذلك العهد، ويجري التحليل القياسي الموضوعي للمجموعات اللغوية في الأشعار والقرآن))( ).
فكثير من استنتاجات المستشرق الروسي مبنية على التحليل السياقي وسنفصل بعض آرائه حول كتاب الله في الفصل الثالث من هذا البحث إن شاء الله.

الفصل الثالث
النظرة الإسلامية لبعض آراء ريزفان الباطلة

بعد النظر في الأساليب الأساسية التي استعملها يفيم ريزفان ليبرهن على ادعاءاته التي تخالف العقائد الإسلامية، سندرس أهم آراء المستشرق حول كتاب الله، والتي بنى عليها كتابه ((القرآن وعالمه)). وقد بينَّا أن ريزفان قام بتحليل المعلومات العلمية الكثيرة التي جمعها المستشرقون من أوروبا وروسيا في هذا المجال. وكثيراً ما يدَّعي المؤلف احترامه للإسلام ويبين دوره العظيم في تكوين الحضارة الروسية ويظهر عدم تحيزه في دراسة القرآن الكريم حتى يوهم القارئ أنه من الباحثين المنصفين. والحقيقة أنه يثير الشبه حول الكتاب والسنة وينتقد المناهج العلمية التي سار عليها علماء الإسلام. أما دراساته القرآنية فقصده فيها - حسب قوله - دراسة مجموعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية وغيرها التي صار القرآن بينها ظاهرة فريدة للحضارة العالمية( ). معناه أن المؤلف يريد أن يستكشف أسباب نصر الدين الإسلامي وطبيعة تأثير القرآن في حياة المجتمع الإسلامي على مدى أربعة عشر قرنا. ومما أبعده عن بلوغ هذا المقصد أنه درس القرآن على ضوء الثقافة الغربية.
ويشير ريزفان إلى الخلاف الواقع بين الفلاسفة في إمكان معرفة ثقافة ما على ضوء ثقافة أخرى. وقد حسب أسوالد شبنجلر أن المؤرخ لا يقدر على إدراك الثقافات الأخرى غير ثقافته. ورغم ذلك يزعم ريزفان أن منهجه البحثي يمكنه من استعادة المحيط الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا الصدد يذكر المؤلف قول الباحث الروسي باختين: ((إنا نطرح على الحضارة الغريبة أسئلة جديدة لم تطرحها على نفسها ونفتش فيها عن أجوبة لها، وتجيبنا الحضارة الغريبة بفتح جهاتها الجديدة وإظهار معانيها الطريفة. ولا يمكن استيعاب الشيء الآخر الغريب إلا عن طريق طرح أسئلتك الجدية والمستقيمة. وحينئذ يمكن الحوار بين حضارتين متمايزتين؛ بل تحفظ كل منهما وحدتها وتزداد غنىً))( ).
ومن الطبيعي أن الحضارات غير الإسلامية تطرح أسئلتها لفهم مبادئ الدين الإسلامي وتقارن بين ثقافتها والثقافة الإسلامية. ولكن الباحث المنصف ينبغي ألا يتأثر بالآراء الاجتماعية والثقافية والتي هي منتشرة في المجتمع الذي يعيش فيه. كما يجب أن تكون دراساته خالية من التحيز الفكري ومبنية على المناهج العلمية السليمة. وللأسف لا يمكن القول بهذا عن معظم كتابات المستشرقين السوفيتيين والروس. بل ليس بينهم من أنصف في موقفه من القرآن الكريم أو الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. وقد أعجب بعضهم بمواهب النبي صلى الله عليه وسلم ونتائج دعوته المباركة. وبعضهم أثنوا على أسلوب القرآن وقدَّر لغته تقديرا عاليا. ومع ذلك وقف هؤلاء المستشرقون موقفا انتقاديا فيما يختص بالإسلام وعلومه.
ومن الملاحظ أن ريزفان يعترف بأن الدراسات القرآنية تأثرت بمواجهة العالم النصراني مع العالم الإسلامي على مدى القرون المتعددة وأنها تحمل الصبغة الدينية والفكرية السياسية( ). ومع ذلك فإن كتاب ((القرآن وعالمه)) غير خال من هذه الصبغة أيضا.
ويقول عبد الله محمد الأمين النعيم: ((إن فهم الإسلام حسب ما قدمته الدراسات الاستشراقية يدخل في علاقة مع تجارب الاستشراق الخاصة، بحيث لا يمكن فصل طرحهم بمعزل عن واقعهم الاجتماعي الذي أثّر فيهم. كما أن الاستشراق بتبعيته للمؤثرات الخارجية يفقد الصفة العلمية التي يدعيها، ويجعل منه مجرد أداة في أيدي الدول الغربية، إذ إنه يكشف - حينها - عن عقلية الغرب أكثر مما يكشف عن الموضوع المدروس))( ).
إن هذا القول يصح في حق المستشرق الروسي، للتأكد من ذلك نكتفي بتقويم نظرته للإسلام والقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق الاستقراء والمقارنة بين أقوال المستشرق والعقيدة الإسلامية الصحيحة التي تعتمد على الكتاب والسنة والفهم السليم للسلف الصالح.
موقف ريزفان من القرآن الكريم:
يحسب ريزفان تبعاً لعدد من المستشرقين الروس _ ومن ضمنهم الأكاديمي بيوتروفسكي _ أن القرآن هو ((تأليف محمد غير الواعي المتجرد عن مؤلفه))( )، كما يصف القرآن بأنه ((جمع من المتون التي لفظ بها محمد في الفترة من عام 610 إلى عام 632م بمكة والمدينة على الغالب))، وأنه ((أقدم وأصح الآثار النثرية للعهد الانتقالي في تاريخ الجزيرة العربية))( ).
واستنادا إلى الباحث الألماني شباير يقول ريزفان: إن البحوث المتعددة أثبتت أنه لا يمكن استكشاف موارد قصص القرآن وأمثاله. ومع ذلك فإنه يعد القصص القرآنية صدىً لأسفار اليهود والنصارى المعتمدة والمكذوبة( ). ويضع كتاب الله في صف واحد مع الآثار الأدبية الأخرى ويسمي محمدا صلى الله عليه وسلم مؤلفاً للقرآن. وفي كثير من المواضع يقول إن القرآن وارث بعض ميزات الأساطير العربية وأشعار الجاهلية، وإنه نشأ وسط التقليد العربي الثقافي والأدبي، وغير ذلك مما هو كفر بكتاب الله.
ويسعى ريزفان في إثبات قوله بأن بعض نصوص القرآن مقتبسة من كتب اليهود والنصارى. ولا يعدّ عدم وجود ترجمة كتبهم إلى اللغة العربية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حجة على فرضيته، فيعتمد على شهادة الآثاريين بأنه وُجدت بدمشق أربعة رقوق فيها ترجمة المزمور السابع والسبعين إلى اللغة العربية المكتوبة بالحروف اليونانية. ومما يجدر بنا ذكره أن هذه الرقوق مؤرخة في القرن التاسع الميلادي، مما لا يوافق فرضية ريزفان. ولذلك يميل المستشرق الروسي إلى احتمال بيرنار ليفين ونائب أبّوت أنه قد يُنسب إلى القرن السادس الميلادي. ثم يذكر ريزفان أن الدلائل غير المباشرة تدل على أن الطقوس التي احتوت على بعض نصوص الكتاب المقدس مورست باللغة العربية حتى في القرن الرابع، وذلك بالعراق والشام( ).
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن المشركين كانوا يقولون إن محمداً إنما يعلمه بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم. وذكر ابن كثير في تفسيره أنه كان غلاما لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء( ). فأنزل الله تعالى راداً على المشركين في افترائهم: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ [النحل: ١٠٣ ]؛ وقال تعالى: ﮋ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ  ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮊ [الفرقان: ٤ – ٥].
ولكن المستشرق الروسي لا يرضى بهذه الأدلة فيزعم أن ((مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم تطورت أثناء مناظراته مع اليهود والنصارى وتشبعت بأفكاره الدينية والفلسفية وبعض التصورات التي تعود إلى المجوسية وتعاليم ماني. وبسبب ذلك كانت العقائد القرآنية تتطور على مدى سِني الدعوة المحمدية، وتغيرت تصوراته، وبخاصة عن طبيعة رسالته والوحي الذي نزل إليه. وكانت النظرة القرآنية لعالَم الغيب تتشكل بصورة تدريجية أيضا))( ).
ولا يذكر ريزفان الأدلة على صحة فرضيته؛ بل يعترف بأنه لا يمكن استكشاف موارد القرآن الدينية. ومع ذلك فإنه يعرض عن النصوص الدالة على أن القرآن هو كتاب الله مصدق لما بين يديه، وأنه يشتمل على بعض معاني الكتب السابقة.
وعن واثلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت مكان التوراة السبع الطوال وأعطيت مكان الزبور المئين، و أعطيت مكان الإنجيل المثاني و فضلت بالمفصل))( ).
وقال عبد الله محمد الأمين النعيم: ((إن خطأ المستشرقين الأساسي يتمثل في نظرتهم القاصرة المحدودة في دراسة الأديان، فهم يدرسونها كديانات منفصل بعضها عن بعض لا يربط بينها رابط. وهذا في حد ذاته من الأخطاء المنهجية، ذلك لأن جميع الأديان السماوية تتلاقى في الكثير من تعاليمها، لا سيما في قضية التوحيد. فتاريخ الإيمان تاريخ واحد))( ).
فالمزاعم حول اقتباس بعض النصوص القرآنية من كتب اليهود والنصارى باطلة، لا دليل عليها بوجه من الوجوه. ومما يلاحظ هنا أن المستشرقين لا يجيبون عن تلك المزاعم التي يستفهمون عنها: من علّم محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يظهر نفسه حتى بعدما أصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً؟ لماذا سكت أهل الكتاب عن الكتب التي درس منها محمد صلى الله عليه وسلم عندما بدأ يعارضهم ويجابههم؟ وما الذي جعل بعض علمائهم يعتنقون الإسلام بعدما علموا بكذبه وافترائه على الله؟ فالأسئلة كثيرة، ولكن المستشرقين عجزوا عن الجواب عنها. وهيهات أن يكون لهم جواب، إلا الكذب والافتراء، وأول كذبهم يرتد عليهم وعلى أقوامهم! وذلك من أوضح الأدلة على بطلان هذه المزاعم.
وإلى جانب هذا فإن ريزفان يدعي أن بعض الآيات مقتبسة من أيام العرب وأساطير الأولين، وفي هذا الصدد يشير إلى مجلة لقمان( )، وإلى بعض أشعار عدي بن زيد( ). كما يقول إن قصص آدم ونوح وموسى وعيسى وسليمان عليهم السلام ذكرت في أشعار الجاهلية المتعددة( ).
وذكرهم في القرآن لا يدل على أنه مقتبس من أساطير الأولين، أو أنه من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن القرآن الكريم فيه قصص الأنبياء والرسل مع أقوامهم ولا سيما من كان مشهوراً عند العرب العرباء، كما قال تعالى: ﮋ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ [الأنعام: ٦ ]؛ وقال: ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮊ [إبراهيم: ٤٥ ]؛ و قال: ﮋ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮊ [يوسف: ١٠٩].
ويتبين من هذه الآيات أن المشركين سمعوا أخبار بعض الأمم الهالكة، وفي ذِكْرها في الكتاب عبرة لأولي الألباب؛ يحصل لهم بها من العلم بأهل الخير وفلاحهم، وأهل الشر وهلاكهم. أمَّا قول ريزفان بأنَّ ذِكْرَ قصصهم يدل على أن القرآن مِنْ وَضْع محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بَاطل لا برهان له، وهذا بَيِّن لكل منصفٍ نظر في كتاب الله وما استدل به المستشرق الروسي.
ثم إن ريزفان يعير اهتماما باكتشاف وجوه الترابط بين القرآن الكريم وكلام من كان له منْزلة في المجتمع العربي من السادة والحكام والقادة والشعراء والخطباء والكهان. ويرى المؤلف أن محمدا عليه الصلاة والسلام امتاز عليهم بأنه جمع بين وظائفهم الاجتماعية. وحسب قوله فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمثل دور كل أحدٍ منهم بمقتضى الحاجة والعادة لفهم تقاليد الجاهلية( ).
ويفتري ريزفان على النبي عليه الصلاة والسلام بأنه وجه ممائل للكهان بقوله تعالى: ﮋ ﭜ  ﭞ ﭟ  ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ  ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪﭬﭭ ﭮ ﭯ ﮊ إلى آخر سورة القارعة؛ وقوله: ﮋ ﮫ  ﮭ ﮮ  ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ  ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ  ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﮊ [الروم: ١ - ٥ ]؛
وللحكام بقوله تعالى: ﮋ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﮊ إلى قوله
ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮊ [النساء: 8- ١٧ ].
وللقادة بقوله تعالى: ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﮊ [الأنفال: ١٥ - ١٦ ].
وللسادة بقوله تعالى: ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ [الأعراف: ٥٩ ]؛ وقوله: ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮊ [النساء: ٣ ]؛ وللخطباء بأوائل سورة براءة.
ولكن هذه المقارنة لا تغني المستشرق عن إقامة الأدلة القاطعة - وأنى له هذا - على أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف القرآن وزعم أنه من عند الله تبارك وتعالى. وقد عصمه الله تعالى من تلك الافتراءات حيث قال:
ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ  ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ [الحاقة: ٤١ - ٤٢]؛ وقال: ﮋ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮊ [الطور: ٢٩ ]؛ وقال: ﮋ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﮊ
[ﭬ : ٦٩].
ودلت الأحاديث على أن المشركين الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم كانوا على يقين أنه ليس شاعرا ولا كاهنا ولا مجنونا. قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني أكثرهم مالاً، قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى، وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال: إنْ هذا إلا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت: ﮋ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﮊ [المدثر: ١١ ] حتى بلغ ﮋ ﮇ ﮈ ﮊ وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحواً من هذا( ).
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سنيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا: نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا: فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا: فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا: فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السُّحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة - قال ابن هشام: ويقال لغدق- وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك من قوله
ﮋ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ  ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ  ﯼ ﯽ  ﯿ ﰀ ﰁ  ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ  ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﮊ. ذكره ابن هشام في السيرة.
أما ريزفان فهو يقارن الآيات الكريمة بالأشعار والأمثال وأيام العرب ويرضى بكشف بعض الميزات المتشابهة. ومن الغريب أنه في مثل هذا المقام الخطير اكتفى بالرجوع إلى كتب المستشرقين باللغات الأوروبية ولم يكلف نفسه الرجوع إلى النصوص الأصلية العربية، وذلك عند بحثه في الشبه بين السور التي تستفتح بكلمة ((إذا)) وبين حلف عبد المطلب وبني عمرو من خزاعة. فيستشهد ريزفان بترجمة نص الحلف المذكور إلى اللغة الإنجليزية من كتاب Pacts and treaties in pre-Islamic Arabia. Cambridge History of Arabic Literature للمستشرق سرجانت( ).
ولو رجع إلى النص العربي لوجد أن ذاك الكتاب لم يستفتح بكلمة ((إذا)). وقد ذكر العلامة الأخباري أبو محمد بن حبيب الهاشمي في فصل حلف عدي وبني سهم من كتابه ((المنمق في أخبار قريش)) أن أبا قيس بن عبد مناف بن زهرة كتب كتابا لعبد المطلب وكان ذلك الكتاب: ((هذا ما تحالف عليه عبد المطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك تحالفوا على التناصر والمؤاساة حلفا جامعا غير مفرق الأشياخ على الأشياخ والأصاغر على الأكابر والشاهد على الغائب تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير وما حن بفلاة بعير وما قام الأخشبان وما عمر بمكة إنسان حلف أبد لأطول أمد يزيده طلوع الشمس شدا وظلم الليل مدا)).
وتنتهي دراسة الأدلة الواهية للمستشرق الروسي بتأكيد الحقيقة التي لا يزيغ عنها إلا هالك وهي أن القرآن كلام الله عز وجل، وله خصائص ميزته عن كلام البشر. فألفاظه بلغت الذروة في الفصاحة، وبلاغته السامية في الألفاظ والمعاني والبيان والروابط وهي الحروف، وله سلطان على نفوس البشر، وهو كلام معجز بما جاء فيه من الآيات والبراهين، كما قال تعالى:
ﮋ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ  ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ [هود: ١٣ – ١٤].

قوله بأن نص القرآن المتفق عليه لم يظهر إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
وإلى جانب القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ألف القرآن مستعملا كتب أهل الكتاب وشعر الجاهلية، فإن ريزفان يدَّعي في أكثر من موضع أن النص الرسمي للقرآن الكريم استقر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الصراع بين الآراء المختلفة( ).
فيصرح المستشرق ريزفان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي قبل أن يجمع المصحف الرسمي وأن في القرآن إشارات إلى أنه صلى الله عليه وسلم أراد ذلك. فيستدل على استنتاجه بالآية التي ليس لها أي علاقة بهذه المسألة، وهي قوله تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﮊ [طه: ١١٤].
وقال ابن كثير: ((وقوله: ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﮊ كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ  ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ  ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ  ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﮊ [القيامة: ١٦ - ١٩ ] وثبت في الصحيح ( ) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه، فقال: ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ  ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﮊ أي أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً ﮋ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ  ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﮊ وقال في هذه الاَية ﮋ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﮊ أي بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده))( ).
ويزعم ريزفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في آخر عمره بترتيب المصحف الرسمي قاصدا بذلك تأليف الكتاب مضاهاة لكتب اليهود والنصارى المقدسة. وقد توفي صلى الله عليه وسلم قبل إتمام هذه المهمة ولكن تم حفظ الوحي في كتابات كتّابه وأتباعه. ويؤيد ريزفان هذا الرأي بالحديث بأن جبريل عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه مرتين( ).
وقد ظهرت - حسب رأي المؤلف - في مدة عشرين عاما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خمسة مصاحف مختلفة على الأقل. ويشير إلى أن أهل حمص ودمشق اتبعوا رواية معاذ بن جبل، واتبع أهل الكوفة رواية ابن مسعود، وأهل البصرة رواية أبي موسى الأشعري، وأهل الشام رواية أبي بن كعب. ثم قال إن روايات القرآن جمعت في المدينة على الوجه الأكمل( ).
ثم يشير ريزفان إلى أن روايات الصحابة كانت تختلف بعدد الآيات وترتيب السور، وزيادة الكلمات ونقصانها، والميزات الإملائية، مما يوهم القارئ بوجود عدد من المصاحف في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
ثم يدعي المؤلف أن كثيرا من الصحابة كانوا يحفظون نصوص القرآن التي كانت تختلف عن الرسم العثماني، فيشير إلى أن الخلاف بين القراء ما زال موجودا حتى أفرد الإمام ابن مجاهد المتوفى عام 324ﻫ القراءات السبع المعروفة، فدونها في كتابه ((السبعة)). ويؤكد المستشرق أن الحكام نهوا المسلمين عن تلاوة القرآن بالقراءات الأخرى فيستند إلى قصة ابن شنبوذ التي رواها ابن كثير في حوادث سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة فقال: ((فيها أحضر ابن شنبوذ المقرئ، فأنكر جماعة من الفقهاء والقراء عليه حروفا انفرد بها، فاعترف ببعضها، وأنكر بعضها فاستتيب من ذلك، واستكتب بخطه بالرجوع عما نقم عليه، وضرب سبع درر بإشارة الوزير أبي علي بن مقلة، ونفي إلى البصرة أو غيرها، فدعا على الوزير أن تقطع يده ويشتت شمله، فكان ذلك عما قريب))( ).
وحسب رأي الكاتب فإن تشكيل كلمات القرآن أي كتابة النص المتفق عليه بمعناه التام مرتبط بالمناقشات العقدية الحادة الواقعة في المجتمع الإسلامي منذ القرن الثامن إلى القرن العاشر الميلادي( ). ويُفسّر إصرار الحكام على مكافحة القراءات الشاذة بأن استعمال الأشكال المختلفة للنص القرآني وضبط هجائه كان يرتبط ارتباطا قويا بتطور علم التفسير وبالتالي بالصراع العقدي في المجتمع العربي الإسلامي( ).
ويستنتج من أقوال ريزفان أن ضبط النص القرآني كان يجري خلال عدة قرون مع الصراع السياسي العقدي الحاد. وقد صرح بهذا المستشرق فقال: ((إن إحداث الكتاب – أي الكتاب المقدس للمسلمين - القابل للتنافس كان مرتبطا مباشرة ببناء الأمة العربية في حد ذاتها. ويستغرق تاريخ النص القرآني عدة عصور، وهو مرتبط بالأحداث المهمة في تاريخ الإسلام))( ).
ولعل المؤلف تأثر بقصة تدوين كتب اليهود والنصارى التي تشكلت في خلال عدة مجامع عالمية، وتجاهل أن عملية إصدار الكتاب المقدس الذي يدعيه تتم بواسطة مؤتمر ذي أهمية كبرى والذي لا يغيب عن الناس ولا سيما عن الأعداء. فلو قام نفر من العلماء والحكام بتحريف نصوص القرآن عن طريق تشكيل الكلمات وتنقيط الحروف لسجله المؤرخون من المسلمين وغيرهم. ولكن ريزفان لا يستطيع - ولن يستطيع - الإشارة إلى حادثٍ مثل هذا، لا من مصادر إسلامية ولا من مصادر يونانية أو فارسية أو هندية، فقوله باطل عقلا ونقلا.
كما يخطئ المستشرق الروسي في قوله: إن المسلمين أبوا ضبط نصوص القرآن، فمن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجمع الآيات في كتاب واحد. قال الحافظ في الفتح: ((وقال الخطابي وغيره يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا، فكان ابتداء ذلك على يد الصدِّيق رضي الله عنه بمشورة عمر ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال سمعت عليا يقول أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول مَنْ جمع كتاب الله))( ).
ولما انتشرت في الأمصار مصاحف مكتوبة على قراءات الصحابة الذين أخذوا عنهم القرآن اختلف الناس في القراءة، وبلغ هذا الخبر الخليفة، وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه. فأراد أن يجمع الأمة على مصحف واحد، فاستشار مَنْ معه من الصحابة حول ذلك الأمر وانتدب له أربعة من ذوي الحفظ والمعرفة بالكتابة، وهم زيد بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام( ).
وذكر ابن حجر أن نسخ المصاحف العثمانية قام بها اثنا عشر رجلا منهم هؤلاء الأربعة، وأبي بن كعب، ومالك بن أبي عامر، وكثير بن أفلح، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وسكت الحافظ عن بقية الثلاثة( ).
وحدَّد الخليفة لهم الأساس اللغوي الذي يستندون إليه في تثبيت نص القرآن، والقراءة التي يرسمون نطقها في المصاحف، فجاء في تلك الرواية: وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل القرآن بلسانهم. وطال بحث العلماء في مسألة نزول القرآن بلغة قريش بما يغني عن إعادة الكلام عليها هنا.
فكان القرآن متداولا على نحو كتاب كامل منذ خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا نعلم أن أحدا من الصحابة أنكر عليه جمع الناس على مصحف واحد. أما عبد الله بن مسعود فإنه لم يخالف أمر الخليفة بجمع المسلمين على مصحف واحد ولم يَخَفْ من تحريف القرآن، ولكنه شق عليه صرفه عن كتابة المصحف.
وخلاصة القول أن المسلمين لم ينكر منهم أحد قرار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما لم يكن بينهم خلاف في جمع صحائف أبي بكر من قبل. أما كون المصحف غير موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكرنا بعضا من أسباب ذلك، ولا يدل ذلك ألبتة على تعدد نصوص القرآن في عصر الصحابة. ودلت الأحاديث الصحيحة على أن جماعة منهم حفظوا القرآن وجمعوه قبل موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن مسروق قال: ذكر عبد الله عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه، بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود - فبدأ به - وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. قال: لا أدري بدأ بأُبي أو بمعاذ( ).
والأربعة المذكورون اثنان منهم من المهاجرين وهما المبدوء بهما واثنان من الأنصار وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ هو ابن جبل. وقال الحافظ في الفتح: ((وقد قتل سالم مولى أبي حذيفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة اليمامة، ومات معاذ في خلافة عمر، ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان، وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت إليه الرياسة في القراءة، وعاش بعدهم زمانا طويلا، فالظاهر أنه أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه ذلك القول، ولا يلزم من ذلك ألا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن؛ بل كان الذين يحفظون مثل الذين حفظوه وأزيد، منهم جماعة من الصحابة، وقد تقدم في غزوة بئر معونة أن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء وكانوا سبعين رجلا))( ).
ثم قال: ((وقد ذكر أبو عبيد القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعدّ من المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدا وابن مسعود وحذيفة وسالما وأبا هريرة وعبد الله بن السائب والعبادلة، ومن النساء عائشة وحفصة وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، وعدَّ ابن أبي داود في ((كتاب الشريعة)) من المهاجرين أيضا تميم بن أوس الداري وعقبة بن عامر، ومن الأنصار عبادة بن الصامت ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة ومُجمِّع بن جارية وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وغيرهم، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وممن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري ذكره أبو عمرو الداني، وعد بعض المتأخرين من القراء عمرو بن العاص وسعد بن عُبادة وأم ورقة))( ).
هذا، وعدد الصحابة الذين حفظوا كتاب الله وجمعوه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تحديده، ولا شك أنه يقدر بمئات. والله أعلم.
قوله بأن أقدم مخطوطات القرآن تختلف عن نص القرآن المتفق عليه:
يعتني ريزفان عناية خاصة بمخطوطات القرآن وذلك لبيان موقفه من القرآن على أنه أثر أدبي وثقافي. ويعتني المستشرق الروسي بتطور الخطوط العربية، ووصف أدوات الكتابة، وطرق تصنيع الأوراق وإعدادها.
ويرى أن أكبر مشكلة في تحليل المخطوطات الموجودة هي عدم إمكان ضبط تاريخها، وتحديد مكان كتابتها؛ لأن أصحابها كانوا يقطعون مسافات بعيدة، كما أن أماكن العثور عليها تختلف عن أماكن كتابتها في كثير من الأحيان. ويزعم المستشرق أن أقدم مخطوطات القرآن هي الصحف المؤرخة في القرن الأول الهجري (عام 712 أو713م) والنسختان المؤرختان في القرن الثاني الهجري (عامي 720 و725م). ويقول: وقد استُعملت إلى وقتنا الحاضر عدة طرق لضبط تاريخ أقدم المصاحف. ولكن كلها – مع الأسف – كانت غير كافية للإجابة عن السؤال الأساس وهو: هل كان النص القرآني التام موجوداً في القرن الأول الهجري؟ والطرق الحديثة تعطينا إمكان ضبط تاريخ أي من المخطوطات مع إمكان الخطأ في حوالي 100-200 عام. وهذا لا يكفي لأداء المهمة المنصوبة كما لا يخفى.( )
ويشك ريزفان في صحة التاريخ المعتمد على تحليل الخطوط والزخارف؛ لأن نسّاخ المصاحف كانوا محافظين على مماثلة خطوط سلفهم، وإن كانت قد خرجت عن الاستعمال.( ) ويشير إلى أن النسّاخ ربما كانوا يزخرفون المخطوطات المتأخرة بالطريقة التي كانت تُستعمل في وقت متقدم. ومن جهة أخرى فإن بعض النساخ كانوا يتركون أماكن فارغة بين السور ما أمكن الناس من إملائها في الزمن المتأخر.
ويزعم ريزفان أن أقدم المصاحف لم تحرق في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع. وبهذا يفسر المستشرق الروسي كون كثير من تلك النسخ يعود إلى هذه الفترة.( ) كما يزعم أن الأحداث السياسية في منتصف القرن الثامن الميلادي من استيلاء العباسيين على الحكم في الخلافة والضرورات الدينية والاجتماعية المتعلقة بتمييز الأمة نفسها أدت إلى إزاحة طريقة نسخ المصاحف الشامية؛ فإن الشاميين كانوا يكتبون القرآن على الأوراق الشاقولية بالخط الحجازي، والكوفيون كتبوه على الأوراق الأفقية بالخط الكوفي.( ) ويعلق المستشرق هذه الحادثة بكون كتب النصارى مكتوبة على الصحف الشاقولية، وكون كتب اليهود لفائف. وكانت المصاحف المكتوبة بالطريقة الكوفية تؤكد تمييز القرآن عن كتب اليهود والنصارى في عهد الفتوحات وتكوين الفقه الإسلامي.( )
ومن المخطوطات القديمة التي يشير إليها ريزفان قصاصات من المخازن في صنعاء والقاهرة ودمشق ومشهد والقيروان. وقد ركز المستشرق الروسي انتباهه على المخطوطات القرآنية التي عثر عليها بالجامع الكبير بصنعاء سنة 1965م وسنة 1972م. ومن المعلوم أن حكومة اليمن طلبت من مثيلتها الألمانية المساعدة في ترميم القصاصات وصيانتها، ووافقت ألمانيا عام 1979م على تنفيذ مشروع مشترك لترميم وتوثيق هذه المخطوطات. وفي بداية الثمانينات دعا مدير إدارة الآثار في اليمن، القاضي إسماعيل الأكوع خبيرين ألمانيين هما الدكتور جيرد بوين وغراف فون بوتمر لترميم المخطوطات القرآنية، وامتد تنفيذ هذا المشروع من عام 1983م إلى عام 1996م.
ويقول ريزفان: إن العُشر من تسعمائة مصحف التي جمعت من تلك القصاصات المكتشفة يرجع إلى مصاحف قديمة مكتوبة بالخط الحجازي النادر في القرنين السابع والثامن الميلادي. ويعتني المستشرق بوصف خصائص تلك المخطوطات التي عثر عليها من طريقة كتابة الحروف، وأعداد السطور في الصفحة الواحدة، وأنواع تنقيط الأحرف، وطريقة تشكيل الكلمات، وأنواع الزخارف المستعملة. ويشير إلى أن زخرفة المصاحف القديمة تشبه زخرفة الكتب اليونانية والرومانية القديمة، فيصرح - مستدلاً ببحوث غرومان - بأن التراكيب المركبة من الخطوط الملتفّة والمتعارضة ترتقي إلى المخطوطات اليونانية والسريانية، وأن الزخارف التي تستغرق نصف الصفحة أو أكثر هي محاكاة طريقة Clavi ( ) المستعملة في الأقمشة الرومانية المتأخرة( ).
ويعتني ريزفان عناية بالغة بالفروق بين النسخ المكتوبة بالخطين الحجازي والكوفي المتقدم وبين نسخ القرآن المتأخرة، ويؤكد أن الألف فيها تكتب منفصلة عن الحروف الأخرى إذا كانت في وسط الكلمة، كما يشير إلى ترك كتابة الألف في كثير من المخطوطات القديمة وإبدال الهمزة بالألف فيها. ويؤكد ريزفان – تبعا لبوين – بأن تقسيم الآيات في كثير من مخطوطات صنعاء لا يطابق جميع التقسيمات المعروفة. ويصرح المستشرق – دون ذكر أدلة – بأنه قد اكتُشِف في تلك المخطوطات عدد من القراءات الشاذة، كما يشير إلى إعادة كتابة بعض الكلمات فيها. ويزعم أن تلك الفروق بين المخطوطات القرآنية ووجود تلك التصويبات فيها تدل على أن للقرآن تاريخاً مثل تاريخ كتب اليهود والنصارى.
وقال الأستاذ الدكتور محمد مهر علي: ((إن إعادة كتابة لفظ أو عبارة في مكان ما لا تدل إلا على أن الكاتب كان قد أخطأ في كتابة اللفظ أو الحروف في أول الأمر فصححها بعد طمس الكلمة، أو أن الكلمة كانت قد طمست لسبب ما فكان من الضروري إعادة كتابتها. على أية حال، فإنها لا تدل على تطوير أو تعديل النص إلا في حالة وجود نسخة أخرى توجد فيها في الموضع نفسه عبارة أو كلمة أخرى، وهذا لم يثبت من المخطوطات الصنعانية أو من مخطوطات أخرى))( ). وفي ذلك جواب كاف عن هذه الشبهة الواهية التي يثيرها المستشرقون.
ويشير ريزفان إلى أن ترتيب السور في بعض المخطوطات بصنعاء يخالف ترتيب السور في مصاحف كل من زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم. وحسب قول المستشرق فإن سورة الحج في بعض النسخ المكتشفة تتبع سورةَ مريم، وكذلك سورةُ ص تتبع سورةَ يس، وسورةُ نوح سورةَ الملك، وسورةُ الذاريات سورةَ الجن، وسورةُ المطففين سورةَ الملك.
وقال الأستاذ الدكتور محمد مهر علي: ((إن وجود سورة أو جزء منها وسورة أخرى أو جزء منها بترتيب مخالف للترتيب القرآني على ورقة واحدة لا يدل على وجود نسخة للقرآن بترتيب مختلف، لأنه كان من عادة المسلمين من البداية - ولا يزال - جمع سور مختارة في مؤلف صغير، وذلك للتحفيظ أو الدراسة أو التدريس في مختلف المراحل التعليمية، ومن الطبيعي أنه قبل ظهور فن الطباعة كان هذا النوع من المجموعات يعد عن طريق النسخ. فليس غريباً أن توجد مخطوطات فيها سور باختلاف الترتيب القرآني، خصوصاً تلك التي توجد في المساجد التي كانت بلا استثناء مدارس للتعليم. وحتى وجود نسخة كاملة للقرآن بترتيب مختلف للسور لا يدل البتة على أن قرآناً مختلفاً كان بأيدي المسلمين في وقت ما، إلا إذا ثبت أن ذلك كان مقبولاً ومعمولا بها لديهم، وذلك نظرا لما يقوم به بعض الناس من حين إلى آخر لنشر القرآن بترتيب السور حسب أوقات أو ترتيب نزولها))( ).
وزعم ريزفان أن التاريخ الحقيقي لضبط القرآن المبني على دراسة المخطوطات القديمة يختلف عن التاريخ المحفوظ بشكل واضح، ولا يمكن تصويب تاريخ ضبط النص الرسمي للقرآن إلا عن طريق دراسة المخطوطات( ).
ويدل كلام المستعرب الروسي على أن هناك اختلافات بين بعض مخطوطات صنعاء والمصاحف التي بين أيدينا، والتي لا تتعدى أنواع الخطوط وتنقيط الأحرف، وطريقة تشكيل الكلمات. وليس هناك دليل على أن أياً من المخطوطات التي عُثر عليها بالجامع الكبير بصنعاء، يرجع إلى مرحلة تسبق مصحف عثمان أو تحتوي على الأحرف التي أمر بتركها. ويرجح أن وصول النماذج القديمة من الرقوق القرآنية إلى صنعاء كان من مكة أو المدينة، ولعل بعضها وصل إلى اليمن في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك قبل نهاية القرن الأول للهجرة، وهو الذي أمر بتوسعة هذا المسجد.
وقد اتفق المسلمون على أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وهذا من أسباب – بل هو سبب رئيسي للخلاف الذي وقع بين مصاحف الصحابة وقراءات القراء. ولكن ريزفان لم يعر هذه المسألة أدنى اهتمام وذلك من أفحش أخطائه. وإذا تحدث المستعرب عن الروايات يبدو أنه لا يفرق بينها وبين الأحرف السبعة.
أما الأحاديث الواردة في نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف فهي كثيرة، ونكتفي بذكر بعضها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف( ).
وعن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن عبدٍ القارى أخبراه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة، فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله، قلت كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله أرسله اقرأ ياهشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله:كذلك أنزلت، ثم قال اقرأ ياعمر فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: كذلك أنزلت إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه( ).
وعن أبيّ بن كعب أن النبي كان عند أضاة بني غفار قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته؛ وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته؛ وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته؛ وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيُّما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا( ).
وعن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله فقرآ فحسَّن النبي شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذْ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله ما قد غشيني ضرب في صدري؛ ففضْت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فقال لي: ياأبيّ أُرسِل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه، أن هون على أمتي، فرد إلى الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددْتُكَها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم( ).
وعن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أن رجلاً قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنبي فقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم فقد أصبتم ولا تماروا فيه( ).
وقد ذكر السيوطي في الإتقان( ) أن حديث: ((نزل القرآن على سبعة أحرف)) جاء عن واحد وعشرين من الصحابة منهم أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صُرَد، وابن عباس وابن مسعود وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وغير هؤلاء. وأخرج الحافظ أبو يعلى في مسنده( ) أن عثمان قال على المنبر: أُذكِّر الله رجلاً سمع النبي قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف لما قام فقاموا حتى لم يُحْصَوا فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معهم.
واختلف العلماء في معنى هذه الأحرف وذكر ابن حبان خمسة وثلاثين قولا في هذه المسألة. ومن يرد التفصيل فليرجع إلى كتب المفسرين والشراح.
بعض أقوال ريزفان في خصائص القرآن الكريم:
أولاً: يشير المستشرق إلى صعوبة فهم القرآن بدون تفاسير، ويذكر أن أَرِيخ أَوِيرْبَاخ العائش في القرن الماضي أشار إلى أن "الحاجة إلى تفاسير" تعتبر من خصائص المتون العتيقة( ). وقد حاول ونسبرو أن يطبق هذه النظرية على النص القرآني.
ثانياً: يؤكد ريزفان وجود أخطاء لغوية ونحوية في القرآن، فيقول: ((ولعل إيقاع وتركيب كثير من الوحي، وظهور الخلل والأخطاء اللغوية والنحوية في تنسيق الكلام، وظهورَ علامات عدم استقرار عملية الاتصال النطقي، كلها تتعلق بتوتر أعصاب النبي وانفعالاته حال قبول الوحي وإلقاء المواعظ. وفيما بعد أنتجت هذه الخصاص النحوية للقرآن تفاسيرَ معقدةً للغاية من قبل العلماء العرب والمسلمين في القرون الوسطى، كما أنتجت مجموعةً من النظريات المتعلقة بلغة القرآن)). وتجدر الإشارة بأن هذا التصريح من المؤلف يناقض بيانه في شأن تعرض القرآن للتحرير( ). فلو كان الأمر كما ذكر المؤلف فما الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم – حاشاه الله - أن يصحح خطأ نحويا فيما بعد!
ثالثاً: يصرح بأن القرآن إنما هو تعبير عن انفعالات محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: ((إن أصالة لغته، وعدم تجانس صيغه وأسلوبه، جاءت نتيجة طول مدة تأليف القرآن، كذلك تنوع مضمونه، إنما نتيجة بحث محمد عن وسائل دقيقة للتعبير عن الأفكار والحقائق الاجتماعية التي اكتسبت معانيها خلال نشاطه النبوي))( ).
رابعاً: يذكر أن القرآن يتميز بأسلوب فكري خاص في حين كان المثال البياني والمقارنة حجةً بدل التسلسل المنطقي. ويشهد لذلك – حسب رأي ريزفان – أن دعوة محمد كلها زاخرة بضرب الأمثال كما هي زاخرة بالدعوة إلى المقارنة والتشبيه( ).
خامساً: يقول ريزفان إن القرآن يعج بالكلمات المستوردة ويؤكد رأي المستشرق هِرْشْفِلْد أن عجز محمد صلى الله عليه وسلم عن التعبير الكافي عن أفكاره وأمثاله الناشئة باللغة العربية اضطره إلى إيراد كلمات من لغات أخرى( ). وتجدر الإشارة إلى أن المستشرقين الأروبيين كانوا يرجعون في كثير من الأحيان إلى مؤلفات علماء الإسلام المتعلقة بالجدال في موضوع خلق أو عدم خلق القرآن، مستعملين المؤلفات التي تحتج لخلق القرآن بوجود الكلمات الأجنبية الكثيرة فيه.
ولكن وجود الكلمات المستوردة في القرآن لا يُعد نقيصة في حقه، وكان علماء الإسلام يلاحظون أن وجود اللهجات العربية المختلفة في القرآن يدل على أنه منزل من عند الله، لأنه لا يستطيع أحد أن يستوعب جميع لهجات العرب بشكل تام. فهل يستطيع أحد من العرب أن يحيط بلغة العرب جميعا؟ ولهذا نجد الكلمة في القرآن بلغات مختلفة، ونجد فيه التركيب النحوي بلغة من لغات حمير وسدوس وهذيل وغيرهم.
سادساً: يشير المستعرب الروسي إلى افتقار التسلسل المنطقي بين الآيات في معظم السور، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالآيات في أوقات مختلفة ولأسباب متنوعة( ). وتجدر الإشارة أن هذا الرأي مما لم يُجمع عليه المستشرقون الروس. فمثلاً، تشير شيدفار إلى أن كثيرا من السور تمثل تركيبا تاماً. ولكنها مع ذلك تدعي أنه كان من الممكن فيما بعد إدراج آية أو آيات في السور( ).
وتوضح شيدفار عدم الترابط بين بعض الآيات بكون مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم تنعكس فيها الآراء الجمالية المعهودة للعربي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، مرهف الإحساس شديد التفاعل مع فنون الكلام. ولا تُدرك هذه الانفعالية بالعلاقة المنطقية الدقيقة المستنتجة من الأفكار والخطط والأمثلة بعضها من بعض، بل تُدرك بمعارضة بعضها بعضاً بصورة بينة( ).
وذكر ابن العربي المالكي أنه كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور وعرضه على الناس في زمانه، قال: رأيت الناس بَطَلَة لم يقبلوا عليه، ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه، قال: فلما رأيت ذلك الإعراض منهم أحرقته وجعلته بيني وبين الله جل وعلا. وكتب أيضا الرازي في تفسيره بعض المناسبات. وإلى أنْ وصل الأمر إلى الزركشي، فعرض في كتاب ((البرهان))، أبواباً جيدة بالمناسبات والمقاصد. ومن الكتب في علم مقاصد السور كتاب ((البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن)) لأبي جعفر بن الزبير الغرناطي، وكتابي ((تناسق الدّرر في تناسب السور)) و((أسرار التنزيل)) للسيوطي، وكتاب ((نظم الدرر في تناسب الآي والسور)) لبرهان الدين البقاعي.( )
وقال عمر لطفي العالم: ((إن السورة القرآنية مترابطة المعاني في الآيات والجمل حول موضوع كليّ واحد. ووحدة موضوع النص الرفيع لا تعني حصر الكلام في جزئية فكرية, ومتابعة البحث في هذه الجزئية من كل الجوانب المتعلقة بها، فهذه ليست من وظائف النصوص الرفيعة، وإنما هي من وظائف فصول العلوم الاختصاصية التي قلما ترافقها بلاغة عالية وتوجيه تربوي وأمر ونهي، وترغيب وترهيب، وموعظة وتذكير. بل ويكفي في وحدة الموضوع للنص التربوي البليغ أن يهدف إلى كلية من الكليات الفكرية الكبرى، وأن تكون فقراته وأفكاره العامة بهذه الكلية، مشتقة منها، أو موصولة بها بوجه من الوجوه، والغرض التعليمي أو التربوي أو البياني البليغ هو الذي استدعى إيراد الفكرة ضمن الموضوع الكلي الذي يدور حول النص، وإن النصوص القرآنية متكاملة في الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن، وكل نص من النصوص الواردة حول موضوع واحد، يشتمل على ما يملأ فراغ حبة في عقد الموضوع، ويمتاز ببيان فكرة إذا انضمت إلى سائر الأفكار التي أبانتها سائر النصوص، تكامل بيان الموضوع بكل عناصره ومن كل جوانبه))( ).
وذكر المفسرون أن سورة الإخلاص نزلت في توحيد الأسماء والصفات أو في التوحيد العلمي الخبري، وسورة الفاتحة في بيان محامد الرب جل وعلا، وسورة النحل في النِّعم، وسورة الكهف في الابتلاء، وسورة العنكبوت في الفتن.

الخاتمة

قد علمنا مما تقدم أن كتاب ((القرآن وعالمه)) يعد أتم مؤلف في الدراسات القرآنية في روسيا. فإنه ليس يُبحث فيه عن إنجازات ومناهج العلماء السوفيت والروس الباحثين عن الإسلام فحسب، بل ويبحث فيه عن النواحي الأساسية للاستشراق الغربي. وإن كان ريزفان يسمي نفسه باحثا منصفاً، فإن كثيراً من استنباطاته بعيدة كل البعد عن الإنصاف والعلمية مما هو خاص بالاستشراق الروسي على نحو عام. وتحدثت عن الطرق المستعملة من قبل المستشرق في استنباطاته وموقفه الخاطئ من الإسلام والقرآن. وإن موقفه من نشأة الإسلام ومحاولاته الكشف عن مقدماته الاجتماعية والتأريخية قد أدت إلى كون بعض وسائل ريزفان محاربةً للإسلام.
وفي الوقت نفسه لا يُظهر المؤلف كراهيته للإسلام علانيةً، ولكنه ينقد المعتقدات الإسلامية خفية، مظهرا استنتاجاته بالصيغة العلمية. ويمكن تفسير ذلك بموقف ريزفان نفسه من الموضوع من جهة، ومن جهة أخرى فإن إظهار الاحترام للشعوب الإسلامية وتاريخها وحضارتها يعد ميزة خاصة للعلماء الروس الباحثين عن الإسلام في الفترة المتأخرة، لكون الإسلام جزءاً لا انفصال له عن تاريخ روسيا وحضارتها. وليس الإسلام في الوقت الحاضر موضوعا للعلم الأكاديمي فحسب، بل هو عامل مهم في الحياة الاجتماعية السياسية، ولهذا يضطر المستشرقون لأخذ ذلك بعين الاعتبار.
ولا يعطي كتاب ريزفان تصورا كاملا عن الإسلام والقرآن، لأن بحوثه إنما تتعلق فقط ببعض النواحي اللغوية والتاريخية للقرآن. ولا يكاد يذكر في الكتاب أسماء المفسرين الأفذاذ، ولا يذكر فيها الأحاديث الصحيحة إلا نادراً ومع ذلك يشكك المؤلف في صحتها. ويتعلق هذا بدرجة كبيرة بعدم إرادة المؤلف الاعتماد على آراء علماء الإسلام، وبالأهداف التي سعى من ورائها عند كتابة مؤلَّفه. ولعل الفقرة الوحيدة التي تحتوي على معلومات مناسبة هي الفقرة الخاصة بتاريخ جمع القرآن. وسبب ذلك أن المستشرق يقدّم تاريخ تطور كتابة نص القرآن كتاريخ تطور نص القرآن نفسه، مشيراً إلى الخلاف الموجود بين القراء.
ثم إن كتاب ((القرآن وعالمه)) موجَّه إلى الدائرة المحدودة من الاختصاصيين المشتغلين بالبحوث الإسلامية. ولا يستطيع هذا الكتاب سدَّ حاجة جماهير القراء الروس والتأثير في وعيهم الاجتماعي. ومن الواضح أن المؤلف والناشرين قد أدركوا ذلك مما أدى إلى طباعة عدد محدود من نسخ الكتاب المذكور.
ومع ذلك يملأ كتاب ريزفان الفراغ في المعلومات عن علوم القرآن باللغة الروسية. وقد صُنّفت إلى الآن تصانيف قليلة في هذا الموضوع. وقد أشرنا من قبل أنه يمكن اعتبار كتاب ((الطريق إلى القرآن)) وترجمة كتاب «الإتقان في علوم القرآن» من أنفع المؤلفات في دراسة القرآن الكريم في روسيا. وتشتمل باقي المؤلفات على خصائص استعراضية وتحتوي على معلومات سطحية عن القرآن وعلومه.
وفي الوقت الحاضر تعيش الدراسات الإسلامية في روسيا مرحلة تطور نشيطة. ولا يفسر ذلك بسبب وجود حوالي 20 مليون مسلم في روسيا فحسب، بل بسبب ازدياد تأثير العامل الإسلامي في السياسة العالمية. وبخصوص ذلك فقد استُجلبت مراكز روسيا الاستشرقية لترتيب الموسوعات الإسلامية وترجمة كتب علماء الإسلام إلى اللغة الروسية ووضع البرامج المنهجية في تاريخ الشعوب الإسلامية وحضارتها، إلخ.
ومن الواضح أن كتابا مثل ((القرآن وعالمه)) لن يكون له صدى يذكر بل وربما لن يكتب له أن يرى النور لو وجد الباحثون المسلمون طريقا إلى أذهان الشعب الروسي، أو حظي المجتمع الروسي بمعرفة كافية عن الدين الإسلامي وأصوله ومبادئه وتاريخه.
وتتلخص صعوبة الوضع الحالي بكون معظم الأدب الإسلامي باللغة الروسية يتميز بالأسلوب العربي، ويُكتب متأثراً بأعمال المؤلفين العرب. ومثل هذا الأدب يناسب المسلمين الذين آمنوا بأن القرآن وحي من عند الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
وفي الوقت نفسه فإن المسلمين الروس لا يحسنون مبادئ إنشاء المؤلفات التي تناسب أعداداً كبيرة من القراء. كما أن تعليم تلك المبادئ – إذا كانت غير مستمدة من الدين الإسلامي – فيها خطر الوقوع تحت تأثير المدارس العقدية الغربية؛ مما يؤلف خطرا كبيرا على الأمة الإسلامية الروسية. ولا بد لحل مثل تلك المشاكل من إنشاء الروابط الوثيقة بين الباحثين المسلمين في البلاد الإسلامية وأوروبا وروسيا مما يساعد على إغناء الأدب الإسلامي والعلوم القرآنية باللغات الأخرى وعلى نشر نور الله.
وأرجو أن يكون هذا البحث من الرسائل العلمية التي تقرب المسلمين من هذا الغرض السامي. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فهرس أهم المراجع

1. القرآن الكريم.
2. الألباني محمد ناصر الدين، صحيح الجامع الصغير وزيادته، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1408ﻫ.
3. الألباني محمد ناصر الدين، نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق.
4. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، الرياض، دار السلام، 1421ﻫ.
5. ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1416ﻫ.
6. ابن كثير، البداية والنهاية في 14 مجلدا، دار أبي حيان، 1416ﻫ.
7. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، الكويت، دار العرفان، 1416ﻫ.
8. ابن هشام، السيرة النبوية، من الموقع .http://www.sirah.al-islam.com
9. ريزفان، القرآن وتفسيره، بطرسبورغ، 2000م.
10. ريزفان، القرآن وثقافة الجاهلية. قضية المنهج البحثي. في كتاب الإسلام: دين ومجتمع ودولة، موسكو، 1984م.
11. ريزفان، القرآن وعالمه، بطرسبورغ، 2001م.
12. الشوكاني محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، بيروت، دار ابن حزم، 1421ﻫ.
13. شيدفار، النظام الاستعاري في الأدب العربي الكلاسيكي في فترة من القرن السادس إلى القرن الثاني عشر الميلادي، موسكو، 1974م.
14. عبد الله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. دراسة تاريخية لآراء وات وبروكلمان وفلهاوزن مقارنة بالرؤية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، 1417ﻫ.
15. عمر لطفي العالم، المستشرقون والقرآن. دراسة نقدية لمناهج المستشرقين، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطة، 1991م.
16. المباركفوري صفي الرحمن، الرحيق المختوم، جمعية إحياء التراث الإسلامي، 1416ﻫ.
17. محمد مهر علي، مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم، من الموقع http://www.tafsir.org/books/.
18. الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، من الموقع http://saaid.net/feraq/mthahb/.
19. النووي يحيي بن شرف، صحيح مسلم بشرح النووي في 9 مجلدات، دار ابي حبان، 1415ﻫ.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك