نقض دعوى المستشرقين بتحريف القرآن الكريم من خلال المقارنة مع كتب أهل الكتاب

نقض
دعوى المستشرقين بتحريف
القرآن الكريم
من خلال المقارنة مع كتب
أهل الكتاب

إعداد
الدكتور/ أحمد معاذ علوان حقي

مقـــدمــة
الحمد لله الذي منَّ على هذه الأمة بحفظ كتابها ـ وهذا من أجلِّ النعم ـ، فقال: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [الحجر: ٩]، والصلاة والسلام على الذي تركَنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.... أما بعد:
فمِن خدع الآمال أن ننتظر ((من أحد المستشرقين بحثاً مبرأ عن العيوب، فذلك شيء يتنافى مع وظيفة الاستشراق الذي يمهد الطريق أمام الاستعمار الغربي، والشرقي))( ). يقول محمد أسد: ((وإذا نظرنا إلى المستشرقين الأوربيين أثناء دراستهم للأديان والحضارات الأخرى ـ غير الإسلامية ـ نرى أن دراساتهم تتصف بالرصانة والاتزان، وفي بعض الأحيان بالتقدير والإجلال، بينما نرى الموازين تنقلب عند دراستهم للإسلام، فهم يتنكرون عند بحثهم لهذا المنهج فتسيطر عليهم المحاباة العاطفية، فتضطرب وتختل موازينهم، وتجانب الحق، وتبعد عن الصواب))( ).
ومن المعروف أن أعداء الإسلام سلكوا منهج الطعن في القرآن الكريم لأنهم يعلمون أنه أصل الدين، فالتشكيك فيه إضعاف للدين، وصَرْف للمسلمين عن الطريق الذي لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً.
ومعظم هذه المطاعن مبنية على الظن السيئ، والاعتماد على ما لا يصح من الأخبار الواهية، والمختلقة المكذوبة، وبعضها مبنية على روايات صحيحة، ولكن لها محامل صحيحة، ومخارج مقبولة، وصرفوها إلى المحامل التي ترضي أحقادهم، وأضاف المستشرقون إليها ما شاءت لهم نفوسهم الحاقدة على الإسلام أن يضيفوه مما هو من بنات أخيلتهم وأوهامهم، ولا غرو فهؤلاء المستشرقون نزعهم عرق واحد، وجمعتهم راية واحدة، فليس بغريب أن تكثر الموافقات في أحكامهم، وإن تفاوتت طرق الفكر ووجهات النظر، وربما وُجد في المستشرقين مَنْ بهره جلال الحق، فنسي وظيفته الأولى، واعترف بالفضل لذويه، اعترافاً كاملاً، أو محدوداً، ولكن تظل هذه الفئة بينهم قلة.
ومن المحزن حقاً أن أفكار هؤلاء المستشرقين تبناها ناس من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، ويظهرون على أنهم على ديننا، ويروجون هذه الأفكار، وكأنها نتاج عقولهم، وثمرات تفكيرهم.
إن مبعث الطعن في الكتاب العزيز الحسد، والحسود لا يمكن إرضاؤه؛ لأن إرضاءه لا يتم إلا بسلب النعمة ممن يُحْسَد، ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ [البقرة: ٨٩]، ومن كان على هذه الشاكلة فإقناعه بالعدول عن ضلاله صعب، لأنه يعرف الحق، وهو يكثر من إيراد الشبه دون أن يكون لها حظ من الصحة، وهذا ديدن المستشرقين، ولبيان الخلل في مناهجهم أحببت أن أنقض دعواهم من خلال المقارنة بين كتبهم وكتاب الله، وسيستبين لكل ذي بصيرة من طلاب الحق أن القرآن الكريم نُقِلَ إلينا نقلاً متواتراً، وسيدرك بجلاء النعمة التي أنعم الله بها على هذه الأمة بحفظ كتابها حين يتعرف على تاريخ كتب أهل الكتاب، وسيظهر لنا بجلاء أن بقاء القرآن الكريم دون تحريف ولا تبديل على مرِّ القرون هو معجزة من معجزات القرآن الخالد الذي لا ينتهي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد.
وفي مجال الرد عليهم سنركز على بيان منهجهم في الطعن في صحة نقل القرآن الكريم، ومن خلاله نبين تهافت شبهاتهم حتى يستبين لكل ذي بصيرة أنهم لا ينطلقون من منطلقات علمية، وإنما يندفعون بدوافع الحقد والحسد، ويصدق فيهم قول الشاعر:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

تمهيد:
حين يتكلم المستشرقون عن (تاريخ القرآن الكريم) يقصدون بذلك إظهار أن القرآن مثل كتب أهل الكتاب له تاريخ من التغيير والتبديل، وأن يد التحريف والتبديل دخلت إليه، حتى إن هناك بوناً بين ما ينسب إلى الكتاب وما بين أيدينا من نسخته، فقد وضع المستشرق الألماني نولدكه في كتابه (تاريخ القرآن) فصلاً بعنوان: الوحي الذي أنزل على محمد ولم يحفظ في القرآن( ).
وقد ذكر الأستاذ محمد حسين هيكل في كتابه ((حياة محمد)) عنواناً (المستشرقون والمقررات الدينية) ذكر فيه أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أن القرآن ليس وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، وأنه حُرف بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صدر الإسلام، وأضيفت إليه أثناء ذلك آيات لأغراض دينية، أو سياسية( ).
ويصدق في المستشرقين المثل القائل: رمتني بدائها وانسلت، فقد وقعوا في أخطاء نتيجة لمنهجهم في دراسة القرآن الكريم، فهم عندما يتناولونه فإنهم يُرجعونه إلى نتاج بشري وليس عقيدة جديدة، أنزله الله، ووفق هذه الرؤى ينطلقون في أبحاثهم، وهناك أسباب أخرى تؤدي بهم إلى نتائج علمية غير دقيقة، منها أثر البيئة الأوروبية التي تربى فيها المستشرقون وأخذوا منها مناهجهم، وطرق معالجتها للحضارات والأفكار الإنسانية وجنوحها إلى رفض كل ما هو قديم، وعدم التعويل عليه بعدما عانت منه الأمرَّين من الناحية الدينية، والفكرية، والثقافية، والعقلية، والإنسانية، واستبدلوا بذلك الإيمان المطلق بالعقل وقدرته للوصول إلى الحقيقة بنفسه دون الاعتماد على أي مصدر سابق، وطبقوا ذلك على الدراسات الإسلامية، وكانت النتائج خاطئة لاختلاف البيئتين، و قد استخدم الغربيون المنهج التاريخي لدراسة المسيحية لأنها نشأت في بيئة وثنية، ودخلت المؤثرات الخارجية كالبابلية، والآشورية، والغنوصية على نصها الديني، وهذا المنهج كشف العناصر الرئيسة في تكوين المسيحية الأولى، وعند تطبيق ذلك قسرًا على الإسلام مع اختلاف الدينين وقعوا في أخطاء كبيرة، وهذا المنهج الإسقاطي طبقه المستشرقون لأنهم ما استطاعوا أن يتخلصوا من بيئتهم الثقافية، والأحكام المسبقة، وانطباعاتهم التي تركتها لديهم بيئتهم الثقافية، وعدم التحرر من الأحكام السابقة، وحاولوا جاهدين إخضاع جميع الصور الأخرى إلى ما ارتضوه لأنفسهم حتى وإن جانبت الموضوعية العلمية، وبما أن هذا المنهج يخضع لهوى الباحث وأحكامه المسبقة فقد أفضى بهم هذا المنهج في الدراسات الإسلامية إلى أحكام تعسفية لا صلة لها بالتحليل العلمي السليم( ).
ويمكننا أن نلخص طريقتهم في الهجوم على كتاب الله تعالى في محاور:
1ـ المساواة بين القرآن الكريم وكتب أهل الكتاب في الظروف التي أحاطت بالكتب السابقة، وأدت إلى تحريفها، والظروف التي هيأها الله سبحانه وتعالى لحفظ كتابه( ).
2ـ إهمال حفظ القرآن في الصدور حين الحديث عن حفظ القرآن.
3ـ يرى المستشرقون أن كتابة القرآن ـ وخاصة في زمن عثمان رضي الله عنه ـ كانت مرحلةُ جمع القرآن في مصحف من أخطر المراحل التي تعرَّض لها النصّ القرآني، وقد جعلوا هذه المرحلة ـ جمع القرآن ـ نقطة تحّول في نزاهة النص القرآني.
4ـ وضع المستشرقون نصب أعينهم تحريف القرآن، ثم بحثوا عن أدلة لدعم مزاعمهم، ففي هذه الحالة لا يبحثون عن صحة الدليل بقدر ما يبحثون عَمَّا يؤكد هذه المزاعم، وأحيانا يتعمدون إساءة فهم النص ليوافق هواهم.
5ـ تطبيق منهج الأثر والتأثير، استخدمه المستشرقون بطريقة مبتسرة بحيث فسروا القرآن بأنه مستمد من عوامل خارجية تسلطت عليها قواعد الأثر والتأثير، نافية علاقة هذا القرآن بالله سبحانه وتعالى.
ولتبديد شبهاتهم سنقوم بعملية مقارنة بين كتب أهل الكتاب، والظروف التي أحاطت بها حتى تسببت في ضياعها، والظروف التي هيأها الله لحفظ كتابه، وبذلك تظهر شبهاتهم داحضة، حتى قبل أن نقوم بتفنيدها.

الفصل الأول
لم يُقَيِّض الله عز وجل عوامل لحفظ كتب أهل الكتاب

من مناهج المستشرقين في دراستهم للقرآن تطبيق المنهج الإسقاطي كما مرّ بنا، فيرون أن الأسباب والظروف التي أدت إلى تحريف الكتب السابقة هي نفسها التي أدت ـ بزعمهم ـ إلى تحريف القرآن. يقول نولدكه حين قارن ما في القرآن مع ما في العهد القديم: ((ومن المعروف أن كثيرًا من الغرائب الموجودة في نص العهد القديم إنما يعود إلى ظروف مماثلة))( )، أي إلى ظروف مماثلة لما في القرآن.
وقد أورد صاحب ((حاضر العالم الإسلامي)) رأي المستشرق الفرنسي درمنغهم، فقال: ((إلا أن درمنغهم يعتقد ما يعتقده غيره من الأوربيين من أن القرآن كسائر الكتب المنـزلة لم يحرَّر إلا بعد نزوله بكثير، وأنهم حملوا الناس على نسخة واحدة من المصحف، وأحرقوا ما عداها، وأن كثيراً من الآيات لم يقع فيها الترتيب اللازم، وأنه لا يعلم بالتمام هل أدخل في القرآن شيء من الحديث النبوي الذي قاله الرسول من نفسه لا على أنه وحي؟))( ).
إن المتتبع لتاريخ القرآن يدرك بجلاء أن الله قد هيأ لكتابه كل أسباب الحفظ، ولبيان ذلك لا بدّ من دراسة مقارنة مع كتب أهل الكتاب، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء.
حينما نتخذ كتاباً مصدرًا رئيسًا للمعرفة لا بد له من شروط، لا بد أن يسند إلى مصدر صحيح للمعرفة، ولا بد أن يصل إلينا هذا الكتاب عن طريق السند المتصل بلا تغيير ولا تبديل، ولا يكفي أن يسند إلى شخص ذي إلهام بمجرد الظن والوهم، بدليل أن هناك كتباً في العهد القديم منسوبة إلى موسى عليه السلام، وغيره من الأنبياء، والنصارى يعترفون بأن هذه الكتب منتحلة( ).
إن القارئ لتاريخ التوراة والأناجيل يجد عجباً، فالغرب لم يعرف منهاجاً نقدياً للتأكد من صحة كتبهم المقدسة، بل أخذوها على علاتها مع ما فيها من تحريف، مع كونها مخالفة لأبسط القواعد العلمية، والعقلية، ولم يفطنوا إلى ذلك إلا في العصور المتأخرة. يقول موريس بوكاي: ((إن الدراسة النقدية للنصوص المقدسة في الغرب إنما هي دراسة جديدة كل الجدة، ومستحدثة منذ سنوات قليلة، لقد كان الناس في الغرب على مدار مئات السنين يتقبلون نصوص الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد بحالتها كما هي دون شك، أو فحص، أو تمحيص))( )، واعترف المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان سنة (1962ـ1965م) بوجود أخطاء في بعض نصوص أسفار العهد القديم، وجاء في الوثيقة المسكونية الرابعة: ((بالنظر إلى الوضع الإنساني السابق على الخلاص الذي وضعه المسيح تسمح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة من هو الله؟ ومن هو الإنسان؟ بما لا يَقِلّ عن معرفة الطريقة التي يتصرف بها الله في عدله، ورحمته مع الإنسان، غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب، وشيء من البطلان، ومع ذلك ففيها شهادة عن تعليم إلهي))( )، ولم يعرف الغرب النقد إلا من خلال الاحتكاك بالمسلمين.
المبحث الأول ـ تاريخ التوراة:
لم يكن حفظ التوراة فرضاً ولا سنة، وأمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يحفظوا نصف سورة يقال لها (هاأنزينو)، هذه السورة مشتملة على ذم طباعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويشتتون في البلاد...، فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم، كالشاهد عليهم، الموافق لهم على صحة ما قيل لهم، والنسخة المكتوبة من التوراة كتبت على عشرة ألواح في المذبح ـ وهذا يعني أنها لم تكن بهذا الحجم ـ، وسلمها موسى عليه السلام إلى عشيرته من أولاد لاوي، وكانت عند الأحبار من ذرية هارون عليه السلام، وكان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلاً من التوراة، ولم يوجد من يحفظها من الكهنة، بل كانوا يتقاسمون أجزاء منها لحفظها، وكانت تخرج في السنة ثلاث مرات، وبأمر من التوراة كان يقرأ عليهم الكاهن الأكبر الهاروني عند اجتماعهم فقط( )، وظلت التوراة في الهيكل عند الهاروني الكاهن الأكبر فقط، وهكذا نجد أن مقومات حفظ التوراة لم تكن قوية، وجاء في التوراة: ((ومن بعد أن كتب موسى هذه العهود في مصحف، واستوعبها، أمر بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب، وقال لهم: خذوا هذا المصحف واجعلوه في المذبح، واجعلوا عليه تابوت عهد الرب إلهكم ليكون عليكم شاهداً))، يقول ابن حزم: ((بنص التوراة كانوا لا يلزمون على المجيء إلى بيت المقدس إلا ثلاث مرات، وإنما أمر الكاهن الأكبر الهاروني أن يقرأ عليهم عند اجتماعهم فقط، فثبت أنها لم تكن إلا في الهيكل فقط))( ).
والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل كان جميع الكهان أمناء على التوراة؟
وقد تولَّى من اتهم بالفسق، وعبادة الأوثان ( )، كالذي يذكرون عن ابني الكوهن عالي الهاروني، وغيرهما، والنتيجة المنطقية أن لا يؤمن على التوراة من التحريف إذا كان من ائتمن على حِفْظ التوراة منحرفاً فاسقاً عابداً للأوثان.
والانحراف لم يكن يقتصر بالطبع على الكهان، بل إن كثيراً من ملوكهم كانوا وثنيين فحظروا تناول التوراة، ووصل الأمر ببعض الملوك فأمر بحرقها، وقد أهملت التوراة في فترات الردة، فقد جاء في (سفر الملوك الثاني) أن الملك (يوشيا) في السنة الثامنة عشرة من ملكه أراد أن يرمم بيت الرب، ويحصي ممتلكاتهم، وأرسل بذلك إلى حلقيا الكاهن العظيم، فوجدوا في البيت سفر الشريعة فأرسله إلى الملك، وبعد أن قرأ (يوشيا) السفر قام بحركة تصحيحية( )، وبعد أن تتبع ابن حزم تاريخ بني إسرائيل وجد أن تنقلهم بين الكفر والإيمان سبع ردات، فتأملوا أي كتاب يبقى مع تمادي الكفر، ورفض الإيمان؟!
ولما التحق سليمان عليه السلام بالرفيق الأعلى سنة 930ق.م، انقسمت مملكته إلى مملكتين، أعلن ولده رَحَبْعَام نفسه ملكاً على دولة يهوذا، وبايعه سبطا يهوذا، وبنيامين في أورشليم، وبايع الأسباط العشرة الباقية يَربعام، وهكذا انقسمت المملكة إلى مملكتين: جنوبية واسمها يهوذا ـ نظراً لأن الأغلبية من أولاد يهوذا ـ، وعاصمتها أورشليم، وشمالية اسمها إسرائيل، وعاصمتها شكيم، وهي نابلس الحالية، ودخلت الوثنية إلى دولة إسرائيل مبكراً على يد يربعام أول ملوك إسرائيل، وقد تولى سدة الملك ملوك من أسر متعددة، وسقطت في أيدي الآشوريين في عهد الملك سرجون الثاني ملك آشور، سنة 721ق.م، وساقوا أهلها أسرى إلى بلادهم، ثم اختفوا عن مسرح التاريخ، وذابوا في الشعوب الأخرى، وتعلل أسفارهم محو مملكة إسرائيل( ) من الوجود بأنهم ((عملوا أموراً قبيحة لإغاظة الرب، وعبدوا الأصنام التي قال الرب لهم لا تعملوا هذا الأمر... فلم يسمعوا بل صلبوا أقفيتهم كأقفية آبائهم.. وتركوا جميع وصايا الرب إلههم، وعملوا لأنفسهم مسكوبات عجلين... فغضب الرب جداً على إسرائيل ونحاهم من أمامه، ولم يبق إلا سبط يهوذا وحده))( ).
يقول ابن حزم: ((فقد صح يقيناً أن جميع أسباط بني إسرائيل ـ حاشا سبط يهوذا، وبنيامين، ومن كان بينهم من بني هارون ـ بعد سليمان عليه السلام ـ مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاماً لم يظهر فيهم قط إيمان، ولا يوماً واحداً فما فوقه، وإنما كانوا عباد أوثان، ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف، ولا كان للتوراة عندهم ذكر، ولا رسم، ولا أثر، ولا كان عندهم شيء من شرائعها أصلاً، مضى على ذلك جميع عامتهم، وجميع ملوكهم، وهم عشرون ملكاً، قد سميناهم إلى أن أجلوا، ودخلوا في الأمم، وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين، وانقطع رسم رميمهم إلى الأبد، فلا يعرف منهم عين أحد))( ).
أما مملكة يهوذا في الجنوب فكانت أكثر استقراراً، و توالى عليها ملوك من أولاد سليمان عليه السلام، وكانت أحسن استعداداً للقتال، وظلت تقاوم الأعداء، واستمرت بعد سقوط الأولى ردحاً من الزمن، وأصابها الداء الذي أصاب أختها دولة إسرائيل، فانتشرت الوثنية، فكان عقاب الله لها بالمرصاد فاحتلها ملك بابل بنوخذنصر سنة 586ق.م، ودمر الهيكل، ونهب أورشليم، وسبى أكثر أهلها، وفرَّ بعضهم إلى مصر، ولم يبق في أرض يهوذا إلا الكرامين والفلاحين، ويعرف هذا بالأسر البابلي( )، وكان هذا عقاباً من الله تعالى لهم بسبب كفرهم، جاء في سفر الملوك: ((فغضب الرب جداً على إسرائيل ونحاهم من أمامه، ولم يبق إلا سبط يهوذا وحده، ويهوذا أيضاً لم يحفظوا وصايا الرب إلههم، بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها، فرَذَلَ الرب كل نسل إسرائيل وأذلهم، ودفعهم ليد ناهبين حتى طرحهم من أمامه))( )، يقول ابن حزم عن ملوك هذه الدولة: ((ملك هذين السبطين في هذه المدة من بني سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ، تسعة عشر رجلاً، ومن غيرهم امرأة تموا بها عشرين ملكاً، قد سميناهم كلهم... كانوا كفاراً معلنين عبادةَ الأوثان حاشا خمسة منهم فقط كانوا مؤمنين، ولا مزيد...فعمهم الكفر وعبادة الأوثان: في أولهم وآخرهم، فأي كتاب، أو أي دين يبقى مع هذا؟!))( ).
ويجمع المحققون من علماء المسلمين، والباحثون الغربيون، أن توراة موسى قد ضاعت، وأن سبي بابل قضى على ما بقي منها( )، لأن عوامل الحفظ لم تتوافر للتوراة، وفي سبيل المحافظة على المجتمع اليهودي كان لا بد من إيجاد كتاب، ومستند مقدس يدعو إلى هذه العنصرية للمحافظة على الجنس، فكانت التوراة التي كتبها لهم عزرا من حفظه بعد السبي بسبعين سنة، ولكن هل هذه التوراة بطبعتها الجديدة كانت لها علاقة بتوراة موسى؟!.
لمعرفة ذلك لا بُدَّ من معرفة طبيعة تفكير القوم، والظروف التي مرُّوا بها، فهم قوم ماديون يميلون إلى عبادة الأوثان، بدليل أنهم حين نجاهم الله
من فـرعـون طالـبـوا مـوسى عليـه السلام بأن يصنـع لهـم إلهاً، ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮊ [الأعراف: ١٣٨]، وتاريخهم شاهد على مدى ارتدادهم عن الدين الحق، وميلهم إلى عبادة الأوثان، وقصة السامري، وإغواء بني إسرائيل شاهد على هذه الطبيعة، يذكر قاموس الكتاب المقدس: ((أن تاريخ اليهود حافل بتأثرهم بمختلف المعتقدات الوثنية... ولما هاجروا إلى مصر.. ولما خرجوا منها عائدين إلى فلسطين، تسربت معهم تلك المؤثرات الوثنية.. واستمر العبرانيون في الخلط بين التوحيد و الوثنية في التوبة إلى الله الواحد، ثم النكوث بالعهد، والعودة إلى الأصنام المتحجرة))( ).
و الذي يهمنا في هذا البحث الإشارة إلى فترة سبي بابل، أقول: أضف إلى هذه الطبيعة التي تميل إلى الوثنية، كان أكثر ملوك هذه الدولة ـ دولة يهوذا ـ يعلنون الكفر والوثنية، وهم قوم انهزموا أمام وثنية آشور وبابل، والمنهزم في الغالب يقلد المنتصر حتى في ديانته، والغالب أن يفرض المنتصر ثقافته ودينه على الطرف المهزوم( )، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يعيشون في وسط شعب وثني، كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى اقتباس اليهود كثيراً من معتقدات الوثنيين، وأدخلوها في ديانتهم، فعند كتابة التوراة لا شك أن الأحبار كان قد بقي لديهم بعض من بقايا حفظهم للتوراة، والإنسان وليد بيئته فأدخل الأحبار فيها كثيراً من عقائد الوثنيين وقصصهم، ولا يسع المقام لسردها، فهو مبحث طويل ألف فيه أسفار قيمة، ((وكون الديانة اليهودية ثبتت بشكلها النهائي في بابل، جعل من البدهي أن تتأثر بالديانات والمعتقدات التي كانت مسيطرة هناك في ذلك الزمن، يقول أحد المراجع اليهودية الصميمة في هذا الموضوع: إن تفهم الديانة العبرية مستحيل ما لم تؤخذ بعين الاعتبار، وبشكل مستمر، الديانات، والثقافات الأخرى التي نمت وترعرعت في وادي الفرات))( )، وصدق ابن حزم حين قال: ((فأي كتاب، أو أي دين يبقى مع هذا))( )، وقد بين الحق عز وجل أنهم اقتبسوا من الكفار الذين سبقوهم بعض معتقداتهم، قال عز وجل: ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖﮊ [التوبة: ٣٠]، صبغ عزرا ما كان يحفظه من التوراة بمعتقدات وثنية، وضمنها قصصاً وثنية خرافية، قدمها على أنها الكتاب المنـزل، وأن هذا هو دين موسى عليه السلام، يقول الإمام المهتدي السموءل بن يحيى المغربي (570ﻫ): ((إن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم، وأحبارهم أنها المنـزلة على موسى البتة، لأن موسى صان التوراة عن بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم، وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد ليوي...ولم يبذل موسى من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة يقال لها (هاأنزينو)... هذه السورة مشتملة على ذم طباعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويشتتون في البلاد...، فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم، كالشاهد عليهم، الموافق لهم على صحة ما قيل لهم...وهؤلاء الأئمة الهارونيون، الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها، قتلهم (بخت نصر) على دم واحد يوم فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظ التوراة فرضاً ولا سنة، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلاً من التوراة، فلما رأى عزرا أن القوم أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم، جمع من محفوظاته، ومن الفصول التي يحفظها الكهنة، ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم الآن، ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة...فهذه التوراة التي بأيديهم ـ على الحقيقة ـ (كتاب عزرا) وليس كتاب الله!!))( )، وجاء في تفسير قوله تعالى ﮋﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮊ [البقرة: ٧٩]، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الويل جبل في النار، وهو الذي أنزل في اليهود، لأنهم حَرَّفوا التوراة، زادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلّم من التوراة فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال تعالى: ﮋ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ [البقرة: ٧٩]( )، وعن أبي موسى رضي الله عنه: ((أن بني إسرائيل كتبوا كتباً فتبعوها وتركوا التوراة))( )، وحدد ابن حزم الفترة التي ضاعت فيها التوراة فقال: ((وإنما دخلت الداخلة في التوراة بعد سليمان عليه السلام إذ ظهر فيهم الكفر وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء وحرق التوراة، ونهب البيت مرة بعد مرة، فاتصل كفر جميعهم إلى أن تلفت دولتهم على ذلك))( )، وتوصل ابن حزم بعد دراسة التوراة دراسة متأنية إلى أنها من صنع عزرا( )، وتوصل إلى هذه النتيجة الفيلسوف اليهودي سبينوزا وبيَّن أن كاتب هذه الأسفار واحد لطريقة سرده للأحداث، وأن المؤرخ كان جالساً على مائدة الملك، ويصل إلى أن عزرا هو كاتب هذه الأسفار، وأنه بدأ في كتابة تاريخ الأمة العبرية بعد كتابة الشرائع( ).
وكان لا بد من عرض الدين الجديد على من بقي من مملكة يهوذا في فلسطين، وكانت هذه الفئة لم تتهود بعد من عهد الملك قورش حتى مضى سبع سنين من عهد الملك أرتحشتا، والدليل على ذلك أن عزرا عاد في عهد أرتحشتا ملك الفرس في السنة السابعة من ملكه، وبصحبته الكاتب إلى أورشليم، رجع مؤيداً من الملك بخطاب رسمي، جاء في الخطاب: ((هذه صورة كتاب الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشتا لعزرا الكاهن.. من أجل أنك مرسل من قبل الملك ومشيريه السبعة، لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة إلهك التي بيدك.. ومني أنا أرتحشتا الملك صدر أمر إلى كل الخزنة الذين في عبر النهر أن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء فليعمل بسرعة... وكل من لا يعمل شريعة إلهك، وشريعة الملك فليقض عليه عاجلاً إما بالموت، أو بالنفي، أو بغرامة المال، أو بالحبس))( )، ودعا اليهود إلى اجتماع خطير، وشرع يقرأ عليهم من مطلع النهار إلى منتصفه سفر شريعة موسى، وظل هو وزملاؤه اللاويون سبعة أيام كاملة يقرؤون عليهم ما يحتويه ملفات هذا السفر، ولما فرغ من قراءتها أقسم الكهنة، والزعماء، والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع، ويتخذوها دستوراً لهم يتبعونه، ومبادئ خلقية يسيرون على هديها، ويطيعونها إلى أبد الآبدين( ).
من خلال هذا النص يظهر أن بني إسرائيل الذين كانوا في فلسطين لم يتهودوا حين قدم اليهود من سبي بابل، مما اضطر عزرا أن يقوم بفرض الديانة الجديدة بسلطان القوة، وجبروت الترويع، والتاريخ يعيد نفسه فكما فرضت النصرانية البولسية بقوة سلطان قسطنطين وجبروت الترويع في مجمع نيقية 325م، فرضت اليهودية بسلطان ملك الفرس أرتحشتا.
يقول ول ديورانت: ((وظلت هذه الشرائع منذ تلك الأيام النكدة إلى يومنا هذا المحور الذي تدور عليه حياة اليهود، ولا يزال تقيدهم بها طوال تجوالهم ومحنهم من أهم الظواهر في تاريخ العالم، ترى ماذا كان كتاب شريعة موسى هذا؟ لم يكن هذا الكتاب هو بعينه، كتاب العهد الذي قرأه يوشيا من قبل، لأن هذا العهد قد جاء فيه بصريح العبارة أنه قرئ على اليهود مرتين كاملتين في يوم واحد، على حين أن قراءة الكتاب الآخر قد احتاجت إلى أسبوع كامل))( ).
واستمر بعد ذلك أحبار اليهود في صياغة الفكر اليهودي بإضافة أسفار جديدة إلى التوراة، يقول حسن ظاظا: ((إن الفكر الديني اليهودي يتسم بظاهرة وهي بقاء بابه مفتوحاً على مصراعيه لكل ألوان التطور، بحيث أصبح اليهودي اليوم لا يشبه ما كان عليه اليهود على أيام داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ))( ).
نستنتج مما سبق أن بني إسرائيل لم يحفظوا كتابهم بل اكتفوا بكتابته، وكان في الهيكل لا يقرأ على الملأ إلا ثلاث مرات في السنة، ودمر الهيكل ومعه التوراة، وبعد سبعين سنة يخرج توراة جديدة في المشرق على يد عزرا الكاهن.
من أجل ذلك أصبح التوثق من نص التوراة والبحث عن نسخ قديمة للمقارنة ضرورةً، وجميع ((نسخ العهد القديم التي هي موجودة كتبت ما بين ألف و ألف وأربعمائة ميلادية، واستدل على... أن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة أو الثامنة، قد أعدمت بأمر من محفل الشورى لليهود، لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة النسخ التي كانت معتمدة عندهم، ونظراً لذلك قال والتن: إن النسخ التي مضى عليها ستمائة سنة قلما توجد، والتي مضى على كتابتها سبعمائة سنة، أو ثمانمائة سنة ففي غاية الندرة))( )، وأقدم نسخة للعهد القديم وصلت كاملة كتبت في نهاية القرن الرابع الميلادي، أي بعد نزول التوراة بألفي سنة، وإذا علمنا أن اليهود والنصارى لا يحفظون كتبهم المقدسة مثل المسلمين، أضف إلى ما تعرضت لها الديانتان من اضطهاد اضطروا معها إلى إخفاء كتبهم ومعتقداتهم، كل هذه الأسباب وغيرها حمل الباحثين الغربيين على القول بتحرف العهد القديم.
كيف تَقَبَّل بنو إسرائيل التحريفات؟
والسؤال المتبادر إلى الذهن كيف أقرت التحريفات؟ ألم يكن فيهم رجلٌ رشيد؟! لو رجعنا إلى الفترة التي حرفت فيها التوراة لوجدنا أن بني إسرائيل مع أنهم ما كانوا يحفظون كتابهم إلا أن التحريفات لم تمر بسلام، فعزرا عندما أراد أن يعرض التوراة المحرفة على من بقي من بني إسرائيل في فلسطين اضطر أن يأتي مدعوما من ملك الفرس أرتحشتا وبصحبته الكاتب إلى أورشليم، رجع مؤيداً من الملك، وبخطاب رسمي، فأخذ بقوة السلطان وجبروت الترويع يلزم بني إسرائيل أن يأخذوا بالتوراة المحرفة، مع أن الفترة التي سبقت ذهاب عزرا إلى القدس كان هناك اتصال بين بني إسرائيل الذين في فلسطين و الذين في السبي، لكنهم لم يتقبلوا التحريفات حتى جاءهم عزرا بسلطان التخويف، ودعا اليهود إلى اجتماع خطير، وشرع يقرأ عليهم من مطلع النهار إلى منتصفه سفر شريعة موسى، وظل هو وزملاؤه اللاويون سبعة أيام كاملة يقرؤون عليهم ما يحتويه ملفات هذا السفر، ولما فرغ من قراءتها أقسم الكهنة، والزعماء، والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع، ويتخذوها دستوراً لهم يتبعونه، ومبادئ خلقية يسيرون على هديها، ويطيعونها إلى أبد الآبدين( ).
ولا نسلم لليهود أن تحريفات عزرا، وصياغته الجديدة للدين الجديد مرَّت هكذا بسلام دون معارضة، فلاشك أن فئة قاومت الباطل حتى وإن كانت قوتها ضعفت مع الزمن؛ لأن عودة عزرا إلى أورشليم بعد موت قورش، وتولي الملك أرتحشتا، مؤيداً بصك تهديدي يدل على ذلك، وإلا لما كان بحاجة إلى قوة السلطان لفرض الدين الجديد.
ويشير فريد الخوري إلى وجود تقسيمات في مجتمع بني إسرائيل في فلسطين بعد ذلك، فيرى أن الكتابات الإنجيلية تدل على أن سكان فلسطين من اليهود أيام المسيح انقسموا إلى ثلاث فئات:
1ـ يهود أورشليم، والمنطقة الجنوبية من فلسطين.
2ـ السامريون سكان المنطقة الجنوبية من الوسطى، أتى بهم ملوك آشور بعد السبي.
3ـ الجليليون سكان الأقاليم الشمالية من فلسطين، وهؤلاء كانوا متأثرين بالأمم المجاورة.
وكانت العداوة بين هذه الفئات شديدة،( ) والسامريون نظروا إلى عيسى عليه السلام على أنه أحد اليهود، بينما اليهود كانوا يتبرؤون منه، ويزعمون أنه سامريٌّ به مَسٌّ من الشيطان( ).
أقول: إذا كان هناك انقسام في المجتمع اليهودي بعد ذلك فهذا يعني أن الانقسام كان أشد ما يكون عليه عند عرض عزرا للدين الجديد، ونستطيع أن نلمح في ذلك المجتمع ثلاث فئات:
1ـ فئة يهودية قدمت من سبي بابل بمعتقدات جديدة، ودين جديد، يسمى ((اليهودية)).
2ـ فئة أخرى تبنت الديانة الجديدة وتهودت.
3ـ فئة ظلت تقاوم ذلك، ولكنها بمرور الزمن ضعفت.
وهكذا تم فرض التحريفات الجديدة بسلطان الملك وجبروت الترويع على بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون فلسطين، أما الذين كانوا في بابل فقد تأثروا بالوثنيين مبكراً، وأخذوا منهم كثيرا من معتقداتهم.
نتيجة تحريف التوراة:
كانت ثمرة هذه التحريفات أن نسخ التوراة الحالية ثلاث نسخ يختلف بعضها عن بعض، وهي:
1ـ النسخة التي بين أيدي اليهود: وهي التي بأيدي سائر اليهود، و أغلب فرق النصارى.
2 ـ نسخة (الترجمة السبعينية): وهي نسخة من العهد القديم ترجمت إلى اليونانية على يد اثنين وسبعين من أحبار مصر في سنة 282و 283ق.م. لأن اليهود الذين كانوا يسكنون مصر في تلك الفترة كانوا يتكلمون باللاتينية، وتشتمل على أربعة عشر سفراً لا توجد في الأصل العبري الذي وصل إليناوقد أقرت الكنيسة الكاثولوكية جميع هذه الأٍسفار.
3 ـ النسخة السامرية: وهي التي بأيدي السامرية، وهم يرون أن نابلس هي بيت المقدس.
وهذه النسخ تختلف عن بعضها البعض
المبحث الثاني ـ تاريخ الإنجيل:
لما لم يتكفل الله عز وجل بحفظ التوراة، فلم يُقيض لها عوامل الحفظ، فكذلك لم يتكفل بحفظ الإنجيل، فلم يُقيض له عوامل الحفظ.
والإنجيل كتاب الله الذي أنزله على عيسى عليه السلام، وقد كان كتاب هداية، قال تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﮊ [المائدة: ٤٦]، وكان هذا الإنجيل عند حواريي عيسى عليه السلام، وأما هذه الأناجيل الموجودة فلم يملها عيسى عليه السلام، ولا تنسب إليه، بل تنسب إلى أشخاص آخرين، وقد تعرضت النصرانية منذ بداية عهد مبكر للاضطهاد، فقد لقي عيسى عليه السلام وأصحابه الاضطهاد، وكان اليهود مصدر هذا الاضطهاد، وجاء دور الرومان ليَصُبُّوا عليهم ألوان العذاب، وأبشع حركات الاضطهاد التي عاناها النصارى في القرن الأول تلك التي أنزلها بهم سيزون الطاغية (68م)، فقد ألقى بعضهم للوحوش الضارية لتنهش أجسامهم، وطليت أجسام بعضهم بالقار، وأشعلت فيها النيران، لتكون مصابيح تضيء الاحتفالات التي كان يقيمها في حدائق قصره، وفي القرن الثالث سجل صوراً أخرى من أبشع ألوان التعذيب والاضطهاد للمسيحيين، وذلك في عهد الإمبراطور (دقلد يانوس)، فأمر بهدم كنائسهم، وإعدام كتبهم المقدسة، وقرر اعتبار النصارى مدنسين سقطت حقوقهم المدنية، وامتلأت السجون بالنصارى، ومزقت أجسادهم بالسياط، والمخالب الحديدية، أو قطعت إرباً، أو خرجت للوحوش، وقد سمي هذا العصر (284 ـ 305م) عصر الشهداء، وفي القرن الرابع تغيرت الأحوال، فأعلن قسطنطين، مراسيم التسامح الديني 311م إلى 313م، ثم دخل المسيحية بعد ذلك بعشر سنوات، فقويت المسيحية، ورجحت كفتها، ويؤكد ابن حزم تحريف الأناجيل، وأنه لم يؤمن بالمسيح في حياته إلا مائة وعشرون رجلاً، وأن كل من آمن به فإنهم كانوا مستترين مخافين في حياته، وبعده يدعون إلى دينه سرًا، ولا يظهر أحد منهم دينه، وكل من ظفر به منهم قتل إما بالحجارة، وإما صلب، أو قتل بالسيف، أو بالسم، فبقوا على هذه الحالة لا يظهرون دينهم البتة، و لا لهم مكان يأمنون فيه مدة ثلاثمائة سنة بعد رفع المسيح عليه السلام، وفي خلال ذلك ذهب الإنجيل المنـزل من عند الله عز وجل إلا فصولاً يسيرة أبقاها الله تعالى حجة عليهم وخزياً لهم( ).
وتم اختيار أربعة أناجيل من بين أكثر من سبعين إنجيلاً في القرن الرابع بعد الميلاد، ليوافق هوى قسطنطين وهي: إنجيل متى، و إنجيل مرقس، و إنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، وهذه الأناجيل تسرد حياة عيسى عليه السلام من رؤية المؤلف، وهذه الأناجيل لم يكتب لها مقومات البقاء دون تحريف، ومن ذلك ما ذكره كولمان في كتابه (العهد الجديد) أن الأناجيل ظلت تتناقل شفوياً خلال ثلاثين أو أربعين سنة، وكانت الصياغة الشفوية بتأثير وعظ تلاميذ المسيح عليه السلام ووعاظ آخرين، ثم جمعت هذه الروايات الشفوية وكتبت، وهذا ما حدا بالأب كنغسر إلى القول: لا ينبغي الأخذ حرفياً بالأناجيل، فهي مكتوبة بالمناسبة أو للنضال، أوردها الكتاب خطياً روايات جماعاتهم عن المسيح( )، وهذا ما أكده لوقا في إنجيله من أن كتبة الإنجيل كتبوا وفق رؤاهم، فقال في مقدمة إنجيله شارحاً الأسباب و الدواعي التي حملته على كتابة إنجيله: ((إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفليس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به))( )، ويرى القس إبراهيم سعيد: أن إنجيل لوقا ((كتب لليونان، وإنجيل متى كتب لليهود، وإنجيل مرقص كتب للرومان، وإنجيل يوحنا كتب للكنيسة العامة))( )، وما أنصف الحقيقة في هذه المسألة مثل موريس بوكاي حين قال: ((وهذا مثل رهيب من كثير يوضح لنا أن الإنجيليين كانوا يُقِّلون المسيح ما يناسب رؤاهم الشخصية فيقدمون لنا بحسن نية أكيدة، وبقناعة شخصية ومن كلامات المسيح، النص الذي يتفق مع وجهة نظر الطائفة التي ينتمون إليها))( ).
ومن جهة أخرى هناك شك كبير في نسبة هذه الأناجيل الأربعة إلى أصحابها، فنسبة إنجيل متى إلى متى يقوم على التخمين، وقد كتب باللغة العبرية، ولم يعثر عليه، وإنما عثر على ترجمته باللغة اليونانية، وموضع الخلاف في تاريخ تدوينه، ومن قام بترجمته، وهل كان أميناً في الترجمة ودقيقاً؟ وهل هو ترجمة لهذا الإنجيل أم لإنجيل آخر لرجل اسمه متى؟! ويختلف مع الأناجيل الأخرى في بعض الأحداث.
أما إنجيل مرقس فقد اختلف في كاتبه، ومن هو مرقس؟ وفي أي سنة كتب؟ كما يختلف مع الأناجيل الأخرى في بعض الأحداث.
إنجيل لوقا اختلف في سنة كتابته، و يختلف مع الأناجيل الأخرى في بعض الأحداث.
إنجيل يوحنا تبين أخيراً أن كاتب هذا الإنجيل ليس هو يوحنا تلميذ المسيح، وإنما هو تلميذ من مدرسة الإسكندرية، وقد كتب هذا الإنجيل متأخراً، وكان الغاية منه إثبات ألوهية المسيح، بعد أن ظلت النصرانية المحرفة تعتقد إلهيته لفترة من الزمن دون أي مستند حتى كتب هذا الإنجيل.
كيف أقرَّ النصارى تحريف الإنجيل؟
أما كيف أقرت التحريفات في النصرانية، فلها قصة أخرى:
فقد كانت الغلبة للقائلين بنبوة المسيح عليه السلام حتى القرن الرابع الميلادي مع أنهم كانوا يخفون معتقداتهم بدليل أن قسطنطين الذي تنصر دعا البطارقة والأساقفة إلى مجمع نيقية سنة 325م، ليضع حداً لهذه الاختلافات، وليقرر حقيقة المسيح، وكان عدد المجتمعين 2048، وفي هذا الاجتماع صاح أريوس (336م) صيحته التي كان يرددها دائماً: إن الأب وحده الله، والابن مخلوق، وتدخل قسطنطين لينهي هذا الخلاف لصالح القائلين بالتثليث، فأمر بإخراج الرؤساء الموحدين، ونفى الكثير منهم، وأجمعت الثلة الباقية من الأعضاء بألوهية المسيح، وعددهم (318)، وأدان مجمع نيقية أريوس وأمر بقتله مع بعض من أيدوا رأيه، وأحرقت كتبه، وخلعت أنصاره من وظائفهم، وحكمت بالإعدام على كل من أخفى شيئاً من كتبه، مع كتابة نص قرار ألوهية المسيح اعترض أكثرهم على المساواة بين الآب والابن، ولكنهم خافوا أن ينـزل بهم العقاب مثل ما نزل بمعارضي التثليث، فوضعوا إمضاءاتهم على هذه الوثيقة( )، ثم بعد ذلك اختارت النصرانية أربعة أناجيل من بين أكثر من سبعين إنجيلاً؛ لأنها ترضي غرور قسطنطين، وتوافق هواه.

نتيجة تحريف الإنجيل:
وكانت نتيجة إخفاء النصارى معتقداتهم، وعدم وجود دولة تحميهم، ضياع الإنجيل الذي أنزل على المسيح، كل ذلك أدَّى إلى كثرة الأناجيل المحرفة، وجاء قسطنطين ليفرض الانحرافات بجبروت الترويع و التخويف و القتل، فالنتيجة ضياع الإنجيل، والأناجيل الحالية تنسب إلى أشخاص كتبوا عن سيرة المسيح حسب رؤاهم، وبذلك وجدنا أناجيل تختلف في سرد وقائع كان حرياً بها أن تتفق، وضاع إنجيل المسيح والأناجيل هي: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا.
نستخلص من هذا الفصل: أن كتب أهل الكتاب تعرضت للتغيير والتبديل نتيجة ظروف، منها:
أولاً: عدم وجود دولة تحافظ على الكتاب، فاليهود فقدوا دولتهم، وتعرضوا للقتل والسبي، والتشريد في الآفاق، كما أن النصارى لم يكن لهم دولة إلا بعد القرن الرابع الميلادي، بعد أن ضاع الإنجيل.
ثانياً: عدم حفظهم لكتبهم، وهذا هو المعروف عن أهل الكتاب، حتى قال سعيد بن جبير: ((ليس من كتب الله كتاباً يقرأ كله ظهراً إلا القرآن))( ).
ثالثاً: ضاعت الكتب فاضطر بعضهم إلى كتابة الكتاب من جديد ليحافظوا على شعبهم، وفي سبيل ذلك ادعى القدسية في هذا العنصر كما فعل عزرا، أما النصارى فنتيجة الاضطهاد وإخفاء المعتقد والكتاب أدى إلى ضياع أجزاء من الإنجيل، ثم قام رجال النصارى بكتابة أناجيل من وجهة نظرهم فتباينت الأناجيل.
رابعاً: أن التحريف حصل في الكتب السابقة بعد أنبيائهم بزمن ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮊ [البينة: ٤].
خامساً: أن الكتاب لم يكن مشاعاً للجميع فكان في فئة، أو عند فرد أو أفراد.
كل هذه الأسباب أدت إلى دخول التحريف في كتب أهل الكتاب.

الفصل الثاني
إن الله عز وجل قد تكفل بحفظ القرآن
إن المستشرقين عندما درسوا القرآن العظيم اتبعوا المنهج الإسقاطي كما مرَّ بنا، ونسوا أن من أعظم نعم الله على هذه الأمة أن حفظ كتابها، قال تعالى: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [الحجر: ٩]، وأن الله سبحانه وتعالى بمنِّه وكرمه قد هيأ لهذا الكتاب مقومات البقاء والحفظ دون تحريف، فقد سجل لنا التاريخ من مظاهر حفظ كتاب الله على مستوى الدولة الإسلامية، والأفراد ـ على يد الصحابة و السلف الصالح رضي الله عنهم ـ ما لا يدع مجالا للشك في أن هذا هو الكتاب الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقصان، فقد جمع القرآن الكريم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جمع في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ويطلق جمع القرآن تارة على حفظه وتقييده في الصدور، وتارة أخرى يطلق ويراد به كتابته في الصحف.
المبحث الأول ـ جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور:
لا تجد المستشرقين يركزون على هذا الجانب عند الحديث عن تاريخ القرآن، وهم يغفلون هذا الجانب عن عمد؛ لأنهم إذا أوردوا ذلك تهافتت شبهاتهم كما تتهافت الفراش على النار، وإليك الظروف التي أحيطت بالقرآن من هذا الجانب حتى حفظه المسلمون:
1ـ من أعظم المنن الربانية أن أنزل القرآن على أمة أمية كانت دواوينها صدور رجالها، وقد عرف العرب بحدة الذكاء، وسرعة الحفظ، وكان جلُّ اعتمادهم في الحفظ على التلقي و السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يعتمدون في حفظه على النقل من الصحف، والسطور، قال تعالى: ﮋ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﮊ [القيامة: ١٧]، ومن فوائد هذا الحفظ، أن فيه أماناً من التحريف، وإذا اعتمد على ما في الصحف فقط فسيضيع بضياع الصحف، وقد يُخطأ في النقل فيستمر الخطأ كما هو حاصل في كتب أهل الكتاب، ومن جهة ثانية فإن الاعتماد على الصحف يفوت على القارئ ركناً مهماً من أركان أداء القرآن الكريم على وجهه الصحيح، وهو علم التجويد.
2ـ يسَّر الله عز وجل كتابه للحفظ، قال تعالى: ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮊ [القمر: ١٧]، ((أي سهلناه للحفظ، وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟))( )، والواقع يشهد لذلك من كثرة الحفاظ حتى في البلاد غير العربية والإسلامية، وما يسر الله من جمعيات ومدارس تقوم برعاية الحفظة، وما يوزع من جوائز.
3ـ إذا كانت كتب أهل الكتاب لم يحفظها أهلها لأن حفظها لم يكن فرضاً ولا سنة، فإن الأدلة التي رغبت في حفظ القرآن الكريم كثيرة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا القرآن مأدبة الله عز وجل فأقبلوا من مأدبته ما استطعتم)( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)( )، وقال أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس)، قالوا: يا رسول الله! من هم؟، قال: (هم أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته)( )، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل حثَّ الصحابة على تعليمه وطلب مرضاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه)( )، وبالغ صلى الله عليه وسلم في النهي عن نسيانه، فقال: (عُرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعُرضت عليَّ ذنوبهم فلم أرَ ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)( )، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهذه الأحاديث وغيرها دفعت الصحابة رضي الله عنهم ليتنافسوا في حفظه ويتسابقوا في فهمه، وكان الحفاظ منهم يتبوءون مكانة عالية في المجتمع الإسلامي، وبلغ اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ كتاب الله حتى أصبح صداق المرأة لمن لم يجد مالاً، وكان سلواهم وعبادتهم لربهم في ليلهم، إذ هو خطاب الله لهم، حتى كان يسمع لهم بقراءته دويًا كدوي النحل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن، حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم، بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)( )، وحسبي أن أشير هنا إلى أن الذين استشهدوا في معركة اليمامة سبعين من القراء، للدلالة على كثرة الحفاظ فيهم رضي الله عنهم، فعن أنس رضي الله عنه، أنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم القراء، فَعَرَضَ لهم حيان من بني سُليم رِعْلٌ وذَكوان عند بئر يقال له ((بئر مَعُونَة)) فقال القوم: و الله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهراً في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت وكنا نقنت)( ).
4ـ كان حفظ القرآن مشاعاً للجميع، ولم يقتصر على فئة دون أخرى، كما هي الحال عند بني إسرائيل، والزرادشتية، وكان ذلك علانية دون خفاء كما هي في النصرانية، روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجدُ حتى ما يجد أحدُنا موضع جبهته))( )، وروي عنه أيضاً أنه قال: (كنا نقرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السجدة فنسجد حتى يزاحم بعضنا بعضاً)، وهذا من الأدلة الواضحة البينة على أن القرآن كان يلقى على الملأ شائعاً ذائعاً، ومن ثم كان الحفظة في ذلك العصر خلقاً كثيراً، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: ((تعلمت مِن في رسول الله سبعين سورة، وإن لزيد بن ثابت ذؤابتين يلعب مع الصبيان))( )، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على أُبَيٍّ وهو أعلم بالقرآن منه، وأحفظ، ليأخذ أُبَيٌّ نمط قراءته، وسنته، ويحتذي حذوه، وكان يطلب من ابن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه القرآن، ويستمع إلى قراءتهم، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يفوت على أحد منهم فضل حفظ القرآن الكريم، فالرجال الذين كانوا يدخلون في الإسلام حديثاً كان يكلف أحداً من الصحابة السابقين بتعليمهم القرآن الكريم، قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قَدِمَ الرجل مهاجراً دفعه إلى رجل منَّا يُعلِّمه القرآن، فدفع إليَّ رجلاً وكنت أقرأته القرآن، فانصرفت يوماً إلى أهلي، فرأى أن عليه حقا فأهدى إليَّ قوساً ما رأيت أجمل منها عوداً ولا أحسن منها عطافًا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستفتيته، فقال: جمرة بين كتفيك تقلدتها))( )، وروي عنه أيضاً ((علَّمت رجلاً من أهل الصفة القرآن والكتابة))، وكان من مهام الصحابة تعليم الناس القرآن الكريم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة ليقرئهم القرآن إلى أن انتشر الإسلام بالمدينة المنورة واستعلى، ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خلَّف بها معاذ بن جبل يُعلِّم الناس القرآن، ويفقههم في الدين.
5ـ كان القرآن الكريم أحب إليهم من كل شيء، فهو كتاب ربهم، وأُسُّ شريعتهم، وينبوع علومهم، ومصدر فضائلهم، والمحتوي على أحكامهم، وتفصيل دينهم، وهو مفزعهم ومعقلهم، والقاضي عليهم، والفاصل بينهم، ومدار أمرهم، وقطب دينهم، الذي لا شيء عندهم أعظمُ منه شأناً، ولا أحق بالحياطة، والحفظ، والتحصين من كل سبب يوهنه، وكيف لا يكون ذلك كذلك عندهم وقد سمعوا الله جل ثناؤه يقول: ﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﮊ [الشورى: ١٠]، وكان حرص الرعيل الأول عليه أشد من حرصهم على أنفسهم وأموالهم، وبذلوا مهجهم في نشر دين الله، وفارقوا الأوطان لنصرة رسوله( )، مع ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيم لشأنه، كل ذلك حملهم على حفظه، والضبط في نقله، ومن الشواهد على حرصهم على الضبط في نقلهم رضي الله عنهم لكتاب ربهم: حادثة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه مع هشام بن حكيم وهي مشهورة عندما سمعه يقرأ سورة على غير الوجه الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بتلابيبه وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ) فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت)، ثم قال لي: (اقرأ) فقرأت، فقال: (هكذا أنزلت)، ثم قال: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه)( )، والتاريخ يشهد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجهرون بالحق، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فنجد امرأة تعترض على اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة في تحديد المهر، ويختبر رعيته فيقول لهم: لو رأيتم فيَّ اعوجاجاً ماذا أنتم فاعلون، فقام إليه أحد الصحابة فقال له: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بحد سيوفنا، فيسره ذلك، فإذا كانوا لا يرضون بتصرف لا مستند له من كتاب الله أيعقل بعد ذلك أن يقوم إنسان بزيادة شيء منه، أو إدخال شيء فيه، فو الله لو حصل شيء من هذا لما رضيه أصغر الصحابة، فما بالكم بجمهورهم؟
6ـ الطريقة التي تم بها حفظ القرآن مكنتهم من الحفظ ورسخته عندهم، فقد عايشوا نزوله نيفاً وعشرين سنة يتنـزل فيهم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمعون منه ويتلقون عنه، ويعملون بمحكمه، ويسألون عن متشابهه، وغامضه، ويتعظون بمواعظه، ويعرفون أسباب نزوله والأحوال التي نزل عليها، وكان منهجهم في الحفظ أن يتحول ما حفظوه إلى عمل، وفي الأثر، (كنا نحفظ عشر آيات فلا نجاوزها حتى نحفظها ونعمل ما بها)( )، و كل ذلك ركز الحفظ لدى الصحابة رضي الله عنهم.
7ـ كان المسلمون يقرؤون القرآن في صلواتهم، وقيامهم بالليل، وعندما انتشر الإسلام كان من مهامِّ الصحابة رضي الله عنهم تعليم القرآن في الأصقاع التي ينتشرون فيها، بل كان واجباً عليهم تعليم الناس، ولذلك كثر حفظة القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8ـ وجدت دولة الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمرت هذه الدولة دون انقطاع، وكان دستورها القرآن، بعكس كتب أهل الكتاب فقد زالت دولة بني إسرائيل وفقدوا كتابهم، بينما النصارى عاشوا تحت وطأة القهر والخوف مما تسبب في ضياع أجزاء منه، وتعددت الأناجيل.
واستمرت هذه الأمة في حِفْظ كتاب ربها، فكانت من خصائص هذه الأمة حفظها لكتاب ربها، وهو القرآن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتُك لأبتَلِيَك وأبْتَليَ بك، وأنْزَلتُ عليك كتاباً لا يغسلُهُ الماء، تقرؤهُ نائماً ويقظانَ)( )، قال النووي: ((وأما قوله تعالى: لا يغسله الماء، فمعناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مرِّ الأزمان، أما قوله تعالى: تقرؤه نائماً ويقظان، فقال العلماء: يكون محفوظاً في حالة النوم و اليقظة، وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة))( )، فقد أخبرنا الحق عز وجل أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، أو تبدَّل، أو تتغير، وإنما محله القلوب، ولذلك لا تأثير لضياع الصحف عليه، كما جاء في وصف هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظون كتبهم إلا في الكتاب، ولا يقرؤونه كله إلا نظراً لا عن ظهر قلب، فلا عجب والحال كما سمعت أن حفظ القرآن جم غفير من الصحابة.
وهكذا تبين لنا أن جمع القرآن إنما تم بحفظه في الصدور، وكان اعتماد أغلب الصحابة و الرعيل الأول عليه في صدر الإسلام، قال شيخ القراء ابن الجزري: ((إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف و الكتب، أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة))( ).
المبحث الثاني ـ جمع القرآن بمعنى كتابته:
جاءت كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في التوثيق، وإلا فجلُّ الصحابة ما اعتمدوا عليها في الحفظ.
الجمع الأول ـ جمع القرآن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نزل القرآن الكريم مفرقاً منجماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على عدم تفلُّت شيء منه، فكان يردد ما يلقيه عليه جبريل عليه السلام قبل أن ينتهي من تلقينه، حتى نزل قوله تعالى: ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ * ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ * ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ * ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﮊ [القيامة: ١٦ - ١٩]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يبقى صامتاً مطرقاً حتى ينتهي الوحي، ثم يدعو بعض كتبة الوحي ليكتبوا ما نزل من القرآن على ما تيسر من: الرقاع وهي من الجلد، واللخاف ـ وهي صفائح الحجارة ـ والعسب ـ جريد النخل ـ والكرانيف ـ أصول السعف الغليظ ـ، والأقتاب ـ الخشب يوضع على ظهر البعير، والأكتاف ـ العظم للبعير أو الشاة، ولقد بلغ الذين كانوا يكتبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ونيفاً من الكتاب( )، وكان من حرصه على كتابة القرآن وخشية اختلاطه بالسنة أنه منع أولاً من كتابة غير القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه)( )، وبلغ من شدة حرصه صلى الله عليه وسلم في كتابة القرآن أنه كان يراجع ما يكتبه كاتب الوحي بعد أن يُملي عليه، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشتد نفسه، ويعرق عرقاً شديدًا مثل الجمان، ثم يسري فأكتب وهو يملي عليَّ فما أفرغ حتى يثقل فإذا فرغت قال: (اقرأه فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس)( ).
وكان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على حفظ ما نزل أولاً بأول، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن مجموع في الصدور، ومكتوب في السطور وكان جبريل عليه السلام يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان، وعارضه في السنة التي توفي فيها مرتين، وكان القرآن مكتوباً كله عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يكن مجموعاً في مكان واحد، ولم يكتب على قطع متناسقة، فكل سورة أو مجموعة سور قصار كان يكتب في أحجام متناسقة ويربط عليها الخيط ويوضع في بيوت أمهات المؤمنين، أو في بيوت بعض كتاب الوحي، وكثير من الصحابة كان يكتب لنفسه مصحفاً خاصاً به بما تيسر له من القراطيس وأدوات الكتابة المتاحة، هذا اللون من الجمع الأول تم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعدم جمعه في مكان واحد مكتوباً على قطع متناسقة يعود لسببين: الأول: ترقبهم نزول الوحي في كل لحظة … والثاني: ندرة وسائل الكتابة( ).
وكان التدوين في هذه الفترة المبكرة في حياة الدولة على نوعين:
1ـ التدوين الرسمي للقرآن، وهو الذي كان بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي.
2ـ الكتابة الفردية، وهي كتابة بعض الصحابة رضي الله عنهم لصحف خاصة بهم.
فمن خصائص الجمع في هذه الفترة: أن القرآن كان محفوظاً في الصدور وكان عليه أكثر الاعتماد، ومع ذلك كان هناك نسخة مكتوبة في بيت النبوة، وهنالك نسخ أخرى كتبها بعض الصحابة رضي الله عنهم، ونستنتج أن كل عوامل الحفظ و البقاء قد توفرت للقرآن الكريم.

الجمع الثاني ـ جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه:
بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ارتدت كثير من قبائل العرب، فكانت حروب الردة وكان وقود هذه المعارك كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلماء ـ القراء ـ وكان قد استشهد في حياة رسول الله في بئر معونة سبعون من القراء، فهال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما فجع به المسلمون من ذهاب القراء يوم اليمامة، فدخل على أبي بكر رضي الله عنه وطلب منه أن يأمر بجمع القرآن، وقال: إن القتل استحر ـ اشتد ـ بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في سائر المواطن فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعوه، نفر أبو بكر من اقتراح عمر في البداية، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر بأبي بكر يبين له أهمية الأمر ووجه المصلحة فيه، حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك، فقال لعمر: قُمْ وادعُ زيد بن ثابت، فأشار عليه بالقيام بهذه المهمة، وقال: إنك شاب، عاقل، لا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقم فاجمع القرآن، ما كان زيد أقل حرجاً من أبي بكر، فما زال أبو بكر وعمر به حتى شرح الله صدره للمهمة، يقول زيد: والله لو كلَّفوني نقل جبل من مكانه ما كان أشق علي مما أمروني به من جمع القرآن( )، فقام زيد بن ثابت وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ووضعا خطة لجمع القرآن كالتالي:
أعلنا للصحابة أن من كان عنده شيء من القرآن مكتوباً فليأت به، وعينوا بعض الصحابة للاستقبال والمقارنة وللنسخ والكتابة، فكانت مصادر التوثيق كما يلي:
1ـ حفظ اللجنة المكلفة بالجمع وعلى رأسها زيد بن ثابت وعمر بن الخطاب.
2ـ ما كتبه كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان موزعاً في بيوت أمهات المؤمنين وبعض كتاب الوحي فجمع عند اللجنة.
3ـ حفظ الصحابي الذي يأتي بما معه من القرآن.
4ـ المكتوب الذي كتبه الصحابي لنفسه.
5ـ شاهدان يشهدان أن هذا المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم( )، وما هذا الشرط إلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتثبت في كتابة القرآن كما مرَّ بنا فيأمر الكاتب أن يقرأ عليه ما أملاه عليه، قال أبو شامة: ((وكان غرضُهم ألا يكتب إلا من عين ما كُتِب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ))( ).
قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((فتتبَّعْتُ القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره))، وهذا لا يعني أن آخرها لم ينقل نقلاً متواتراً، بل المقصود أنه لم يوجد مكتوباً بين يدي رسول الله سوى عنده، وإلا فالقوم كانوا يحفظون آخرها، وكان من شرطهما في الكتابة أن تتضافر الكتابة والحفظ، ومن هنا يرتفع الإشكال في كون القرآن الكريم نقل كله بالتواتر.
ويمتاز هذا الجمع بأنه مكتوب كله، ومرتب، ومقتصر فيه على ما لم تنسخ تلاوته، كما جمع على أدق وجوه البحث، والتحري العلمي، وأنه قد تواتر هذا الجمع، وأجمعت عليه الأمة، فزيد رضي الله عنه اعتمد في الكتابة على حفظ الصحابة رضي الله عنهم، يقول رضي الله عنه: ((فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال، ومن العسب، ومن الرقاع، ومن الأضلاع))( ).
وهكذا جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ـ الجمع الثاني ـ على قطع متناسقة متساوية في الحجوم، مرتب الآيات والسور، بطريقة توثيقية لم يعرف التاريخ البشري لها مثيلاً حتى تلك الفترة من حيث الضبط والإتقان، ووضع المصحف في بيت أبي بكر رضي الله عنه، فلما توفي في السنة الثالثة عشرة للهجرة، نقل إلى بيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما مات صار إلى بيت حفصة أم المؤمنين، فلما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه طلب المصحف ليستنسخ منه.
ونستخلص مما سبق:
1ـ اقتصر في هذا الجمع على ما لم تُنسخ تلاوته، وجرده من كل ما ليس بقرآن.
2ـ لم ينسخ في المصحف إلا ما أجمع على أنه قرآن، وتواترت روايته.
3ـ كان مرتب الآيات و السور على الوضع الذي نقرؤه اليوم.
4ـ الاعتماد في حفظ القرآن في هذه الفترة منصب على حفظ الصحابة رضي الله عنهم ـ وهم الذين تلقوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من اعتمادهم على الكتابة.
5ـ الداعي لكتابة القرآن الكريم خشية أن يُقتل الصحابة رضي الله عنهم في معارك مختلفة فيخشى في هذه الحالة ضياع القرآن، وإلا فالقرآن محفوظ عندهم في صدورهم، فلا يخشى عليه من إدخال شيء فيه أو نقصان شيء منه، كما قال عمر رضي الله عنه: ((وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في سائر المواطن فيذهب القرآن))( )، ويورد السيوطي تساؤلاً فيقول: ((فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرِّقاع، وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يُبدون عن تأليف معجزٍ، ونظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأموناً، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه))( )، إذاً السبب الذي حملهم على كتابته الخشية من ضياعه في المستقبل، فليكتبوا القرآن الكريم ما دام الحفظة مازالوا أحياء، فحينئذ رأى عمر، ومن ثم أبو بكر ، وزيد رضي الله عنهم جميعاً أن يحتفظ بنسخة مكتوبة مرتبة بين دفتي مصحف تكون كوثيقة يرجع إليها في المُلمَّات( )، والحمد لله فلقد كثر الحفاظ في أرجاء الدولة الإسلامية، ولم يحتاجوا إلى الرجوع إليها، ومن جهة أخرى نجد أن هذا العمل لقى الاستحسان من الصحابة رضي الله عنهم، ولم نجد اعتراضاً على ذلك، بل يعد ذلك مفخرة من مفاخر عهده رضي الله عنه، قال علي رضي الله عنه: ((أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر؛ فإنه أول من جمع بين اللوحين))( )، وقد تمت الكتابة برضا الجميع ولم يعترض عليها أحد، ولم يعترض الحفاظ على ما كتب.
وقد وصف الحارث المحاسبي الجمع الذي حصل في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع، والأكتاف، والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً، وكان ذلك بمنـزلة أوراق وُجِدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشراً، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء))( ).
ولم يكن لمصاحف بعض الصحابة أن تحظى بما حظي به مصحف أبي بكر رضي الله عنه من الدقة الفائقة، والتثبت البالغ، والاشتمال على هذه الميزات.
الجمع الثالث ـ جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه:
اتسعت رقعة الدولة الإسلامية إلى بلاد الهند شرقاً وإلى أرمينية وأذربيجان شمالاً وإلى مصر وأفريقيا غرباً، وضمت جزيرة العرب كلها، ودخل في الإسلام أمم وشعوب احتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فرحل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأقطار ومعهم كبار التابعين لتعليم القرآن ونشره، وكان القرآن قد نزل على سبعة أحرف تيسيراً على الأمة فإذا قرأ المسلم بأي حرف منها أجزأه، وكانت هنالك بعض الفروق في الأحرف، وتلقى أهل الأقطار هذه القراءات من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير منهم لا يعلمون نزول القرآن على سبعة أحرف كلها كافية شافية، فتمسكوا بالوجه الذي تلقوه من الصحابي المعلم، فلما اجتمع الناس في بعض المغازي وسمع بعضهم من بعض ما يحفظونه من القرآن، ووقفوا على أوجه الخلاف في القراءات أنكر بعضهم على بعض، وكل يقول قراءته هي الصحيحة، سمع حذيفة بن اليمان طرفاً من الاختلاف بين أهل الشام ـ الذين كانوا تلقوا القراءة من أُبَيِّ بن كعب ـ وبين أهل العراق ـ الذين كانوا يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود ـ وكانوا قد اجتمعوا في غزو أرمينية وأذربيجان، ففزع حذيفة مما سمع وقدم على عثمان ابن عفان أمير المؤمنين ـ وهو في المدينة ـ وقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في كتاب ربهم اختلاف اليهود والنصارى، ويبدو أن هذا الأمر استشرى في المدينة، ولمس ذلك عثمان رضي الله عنه، فكان الغلمان يقرؤون بقراءة من يعلمهم فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بعضاً، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه، فقال: ((أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافاً))، وقد تحقق ظنه عندما جاءه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فاستشار عثمان بن عفان رضي الله عنه كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأجمعوا على أن يكتب القرآن على حرف واحد، وتنسخ منه نسخ ترسل إلى الأقطار، ومع كل نسخة قارئ يعلم الناس القرآن على الحرف الذي جمعوا القرآن عليه، بعد الإجماع على هذا الرأي طلب عثمان بن عفان رضي الله عنه المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر ـ وكان عند حفصة ـ ليكون أساساً في جمع القرآن جمعاً يقلل من الاختلاف والتنازع، وعهد إلى زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوا المصحف، وقال للرهط القرشيين: ((إذا اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم))، فقاموا بمهمتهم خير قيام، ونسخوا منه سبع نسخ أرسلها إلى حواضر المسلمين: مكة المكرمة، والشام، والبصرة، والكوفة، واليمن، والبحرين، وأبقى عنده نسخة في المدينة المنورة( )، وأمر بإحراق ما سواها، كان هذا الجمع والإرسال عام خمسة وعشرين للهجرة ويسمَّى المصحف الذي جمعه عثمان المصحف الإمام؛ لأن الناس رجعوا إليه وأخذوا بما فيه عند الاختلاف في وجوه القراءات، ويسمَّى الخط الذي كتب به ذلك المصحف الرسم العثماني نسبة إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال زيد ابن ثابت رضي الله عنه: ((فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﮊ [الأحزاب: ٢٣]، فألحقناها بسورتها في المصحف))، وراجع زيد بن ثابت رضي الله عنه ما كتب ثلاث مرات، وراجع عثمان رضي الله عنه مرة رابعة، فلما اطمأنوا لذلك نشروا ما كتبوه.
ولما كان المعول عليه في تلقي القرآن الكريم هو الأخذ بالرواية والمشافهة لا على المكتوب في المصاحف، أرسل عثمان رضي الله عنه مع هذه المصاحف من يقرئ المسلمين بما فيها، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، و المغيرة بن شهاب المخزومي مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري، وهكذا، وقد أجمع أهل كل مصر على ما في مصحفهم وترك ما عداه.
وبلغ من إعجاب علي رضي الله عنه بما قام به عثمان رضي الله عنه أن قال: ((رحم الله عثمان لو وليته لفعلت ما فعل في المصاحف))( )، وحين حرق المصاحف قال علي رضي الله عنه: ((لو لم يصنعه هو لصنعته))( )، وما قام به عثمان رضي الله عنه لقي الاستحسان من الصحابة رضي الله عنهم، قال مصعب بن سعد: ((أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك منهم أحد))( ).
فالصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يحفظون كتاب الله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه مازالوا أحياء، ولم نجد معارضة حقيقة لأحدهم لما أقدم عليه عثمان رضي الله عنه، بل أجمعوا عليه، وأثنوا عليه؛ لأنه بذلك قطع دابر الفتنة والخلاف في القرآن الكريم، وقد امتاز هذا الجمع باقتصاره على ما ثبت بالتواتر أنه قرآن، وكتب بطريقة تجمع بين وجوه القراءات المختلفة و الأحرف التي نزل عليها القرآن، وجرد ما كان ليس قرآناً، كالذي كان يكتبه الصحابة رضي الله عنهم في مصاحفهم الخاصة شرحاً لمعنى أو بيان لناسخ، أو منسوخ، أو نحو ذلك.
ومن جهة أخرى نجد أن الذي رأس اللجنة التي كتبت القرآن في زمن عثمان رضي الله عنه هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، الذي كتب القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي تولى كتابتها في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وكانت مواهبه وعلمه، ودينه، وأمانته، وجَلَدُه، وكونه شاباً وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك رشحه لهذا الدور، وقد قام بهذه المهمة على خير وجه، وأشار أبو بكر رضي الله عنه إلى الميزات و المواهب التي يتمتع بها زيد بن ثابت حين اختير لهذه المهمة الصعبة، فقال: ((إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن واجمعه))( )، فوصفه بأربع صفات لا بد منها لمن يقوم بهذا العمل، وهي: الشباب المقتضي للقوة، والصبر، والجلد، و العقل، وهو جماع الفضائل، والأمانة وعدم التهمة، وهي الصفة التي لا بدّ منها لمن يقوم بهذا العمل، وكتابة الوحي.
قال ابن التين وغيره: ((الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان: أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سُوره على ما وقَّفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لمَّا كثر الاختلاف في وجوه القرآن، حين قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدَّى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشيَ من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسُوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وُسّع في قراءته بلغة غيرهم، رفعاً للحرج و المشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة))( ).
نستخلص مما سبق:
1ـ أن هذه المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى تلكم الحواضر لينبه المسلمين لئلا يختلفوا بسبب القراءات، فكل قراءة تلقوها من الصحابة رضي الله عنهم توافق هذا الرسم فهو من القرآن.
2ـ الاقتصار على ما ثبت بالتواتر، وما استقر عليه في العرض الأخير.
3ـ ترتيب آياته وسوره على الوجه المعروف اليوم.
4ـ أن عثمان رضي الله عنه نسخ من نسخة أبي بكر رضي الله عنه.

نتيجة جمع القرآن الكريم:
وكانت نتيجة هذه الجهود المباركة، من التوثيق والحفظ، أن الله عز وجل سلَّم القرآن الكريم من التحريف، وهذه الأمة هي الوحيدة التي احتفظت بكتاب ربها سليماً من التحريف والتبديل، والنقص، وهو كتاب واحد، ولا يوجد مسلم يؤمن بالله و اليوم الآخر يقول بخلاف ذلك، واتفاق جميع نسخ القرآن الخطية على مرِّ العصور يدل على أن كتاب المسلمين كتاب واحد، قال موريس بوكاي: ((يقول الأستاذ حميد الله: توجد اليوم بطشقند وإستانبول نسخ تنسب إلى عثمان، وإذا نحينا جانباً ما قد يكون من أخطاء النسخ، فإن أقدم الوثائق المعروفة في أيامنا و التي وجدت في كل العالم الإسلامي تطابق كل منها الأخرى تماماً، كذلك الأمر أيضًا بالنسبة للمخطوطات التي في حوزتنا في أوربا، [توجد في حوزتنا بالمكتبة الوطنية بباريس قطع يرجع تاريخها حسب تقدير الخبراء إلى القرن الثامن و التاسع الميلاديين، أي إلى القرنين الثاني و الثالث الهجريين]، إن هذا الحشد من النصوص القديمة المعروفة متطابقة كلها فيما عدا بعض النقاط الطفيفة جدا التي لا تغير شيئاً من المعنى العام للنص برغم أن السياق قد يقبل أحياناً أكثر من إمكانية للقراءة، وذلك يرجع إلى أن الكتابة القديمة أبسط من الكتابة الحالية))( ).
فالتاريخ يقدِّم لنا شهادة صادقة على عدم تحريف القرآن الكريم، فقد وثق ابتداءً في العهد النبوي حفظاً في الصدور، وكتابة في الصحف، وامتازت الكتابة بالتوثيق والدقة والضبط، وفي العهد الراشدي وباتفاق الصحابة رضي الله عنهم قاموا بنسخ المصحف، وفق ضوابط صارمة، ثم في الجمع الثالث تم نَسْخُ نُسَخٍ متعددةٍ وإرسالها إلى العالم الإسلامي، مع أن حفظة كتاب الله كانوا ما زالوا على قيد الحياة، ثم ازداد عدد الحفظة، ولقد بهر جلال الحق بعض المستشرقين فاعترف بالفضل لذويه، يقول المستشرق (وليم موير): ((إن المصحف الذي جمعه عثمان، قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه تغيير على الإطلاق، في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المنـزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى الخليفة المنكوب عثمان الذي مات مقتولاً))، وتقول المستشرقة الإيطالية (لورافيشيا فاغليري)...: ((فإلى الكتاب العزيز الذي لم يحرفه قط لا أصدقاؤه، ولا أعداؤه، لا المثقفون، ولا الأميون، ذلك الكتاب الذي لا يبليه الزمان، والذي لا يزال إلى اليوم كعهده يوم أوحى الله به إلى الرسول الأمي البسيط آخر الأنبياء حملة الشرائع، إلى هذا المصدر الصافي دون غيره سوف يرجع المسلمون حتى إذا نهلوا مباشرة من معين هذا الكتاب المقدس فعندئذٍ يستعيدون قوتهم السابقة من غير ريب))( ).

وفي ختام هذا المبحث رأينا أن الله قد قيض لكتابه كل عوامل الحفظ، وهي:
1ـ أن يسَّر الله حفظ القرآن، فحفظه جم غفير من الصحابة رضي الله عنهم، ومازال الحفاظ في ازدياد من ذلك العصر إلى وقتنا.
2ـ تم جمع القرآن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في زمن أبي بكر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ، من طريقين في المقام الأول: الحفظ، و في المرتبة الثانية: الكتابة.
3ـ لما رضي الصحابة رضي الله عنهم جميعاً بما قام به أبو بكر وعثمان رضي الله عنهما نسب بعض العلماء الجمع الثاني والثالث إلى الصحابة جميعاً لكونهم رضوا بذلك، قال الإمام البغوي: ((فيه البيان الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن زادوا فيه، أو نقصوا منه شيئاً، والذي حملهم على جمعه ما جاء بيانه في الحديث، وهو أنه كان مفرقاً في العسب، واللِّخاف، وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقِّن أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل ـ صلوات الله عليه ـ إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يُذكر فيها كذا))( )، ولما نقل هذا الجمع القرآن الكريم جمعاً عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وبذلك تثبت الحجة، وينقطع العذر، ويتبين أن هذا القرآن الذي بأيدينا هو جميع كتاب الله الذي أنزله، وأمر بحفظه، وإثباته و الرجوع إليه، لأنه قد علم أن الكذب متعذرٌ ممتنع على مثلهم، فوجب العلم بصحة ما نقلوه، وسقوط كل رواية جاءت ضعيفة، أو من جهة الآحاد بخلاف ذلك.
4ـ من الذين كتبوا القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقام بكتابته مرة أخرى في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وتولى رئاسة اللجنة التي كتبت القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، وهذا مما يؤكد حفظ القرآن الكريم.
5ـ تم كتابة القرآن وفق ضوابط علمية صارمة، ووصوله إلينا كان عن طريق التواتر.
6ـ استمرت دولة الإسلام، ولم يفقد القرآن كما فقدت الكتب الأخرى، ولم يضطر المسلمون إلى إخفاء كتابهم كما أخفى غيرهم كتابهم.
7ـ اتفاق جميع نسخ القرآن الخطية على أن كتاب المسلمين كتاب واحد.
لما علمنا بالتواتر ما هيأ الله لكتابه من عوامل الحفظ، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم الذين عايشوا الوحي ونزوله على ذلك وهم الأمناء الصادقون الحريصون عليه، جعلنا نجزم باستحالة الزيادة فيه، أو النقصان منه.

الفصل الثالث
تَفْنِيد شُبهات المستشرقين
كل منصف لو نظر بعين الإنصاف و الحياد العلمي وتجرد من الهوى والعصبية لحكم دون تردد أن ما في المصحف هو الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره، فالأسباب قد تهيأت لحفظ هذا الكتاب من النقص و الزيادة كما مرَّ بنا، ولا يترك الشيء الظاهر المعلوم إلى ما ليس ثابتاً، وما لا سبيل إلى العلم بثبوته، ولكن العصبية والحقد وخلل المنهج جعلت المستشرقين لا يقرون بهذه الحقيقة، وكما ذكرنا فيما سبق فإن المستشرقين نظروا إلى القرآن من منظور كتبهم، فكتبهم دخل فيها التحريف والتبديل نتيجة ظروف متعددة، وما تعرضت له الكتب من إحراق وإتلاف مع عدم حفظهم لها، ومن جهة أخرى تجاهلوا الحقائق التاريخية الناطقة بسلامة هذا الكتاب من التحريف كما مرَّ بنا، ولما وضع المستشرقون نصب أعينهم أن القرآن حُرِّف حتى قبل أن يجدوا أية شبهة، راحوا يبحثون عن شبه ليدعموا افتراءاتهم تارة، وتارة أخرى بتعمد فهم النصوص فهما خاطئاً لتوافق هواهم، ومن جهة ثالثة جهلهم بشروط قبول الخبر أوقعهم في أخطاء فاضحة، ولذلك نجدهم يقعون في أخطاء متعددة، لأنهم يعتمدون على مناهج في غاية الغرابة، وبعيدة كل البعد عن الحيادية والمنهج العلمي السليم، كما قال محمد أسد( )، وسنركز في الرد على افتراءاتهم على أهم السمات البارزة لمنهجهم في الطعن في صحة نقل القرآن، وسنورد على ذلك أمثلة من افتراءاتهم حتى يستبين الأمر لكل ذي بصيرة، وهي:
أولاً ـ إغفالهم جانب الحفظ:
من الملاحظ أن المستشرقين حين يدرسون تاريخ القرآن يتعمدون إغفال جانب الحفظ لدى الصحابة، بل قد يزعم البعض أن سبب التحريف كتابة القرآن الكريم.
المثال الأول: يقول كازانوفا (Casanova. p): ((إني أؤكد أن مذهب محمد الحقيقي إن لم يكن قد زيف فهو على الأقل ستر بأكبر العنايات، وأن الأسباب البسيطة سأشرحها فيما بعد هي التي دفعت أبا بكر أولاً، ثم عثمان من بعده على أن يمدا أيديهما على النص المقدس، وهذا التغير قد حدث بمهارة بلغت حداً جعل الحصول على القرآن الأصلي يشبه أن يكون مستحيلاً))( ).
((وذكر كاتب مادة قرآن في (دائرة المعارف الإسلامية) أنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت، وفي دائرة المعارف البريطانية في مادة (قرآن) يذكر أن القرآن غير كامل الأجزاء))( ).
جاء في تقرير مؤسسة (راند) لعام 203/ 2005م ص/ 43: ((القرآن لم يسجل حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جمع القرآن بعد وفاته، وذلك عن طريق تجمع قصاصات مختلفة من قطع الجلد المدبوغ والعظام التي كانت يكتب عليها الوحي، وعن طريق إحضار بعض الذين حفظوا بعض السور، وطلب منهم إملاء بعض النصوص على قدر ما يتذكرون، وقد أدى هذا العمل إلى ظهور العديد من الروايات، فقد تم إلغاء كل الروايات ما عدا واحدة، ومن المعروف على نطاق واسع بأن هناك سورتين على الأقل فقدتا في عملية الجمع، تلك التي يشير الحداثيون إلى أنه ربما تم تزوير بعض الآيات أو كتابتها بشكل غير صحيح، أما بالنسبة للتقليديين الذين يبجلون كل حرف من القرآن ويعتبرونه معصوماً حتى الورق الذي كتب عليه يرون أن فكرة التحريف هذه فكرة ملعونة)).
الجواب: يقول شكيب أرسلان في معرض رده على فرية المستشرقين بتحريف القرآن: ((وهم مطلقون العنان لخيالاتهم في هذا الموضوع بحسب عاداتهم، ويخبطون خبطاً كثيرًا كما هو دأبهم إذا تكلموا عن الشرق والإسلام، وليس بشيء مما يظنونه بصحيح، وكل هذا إما جهل بتاريخ القرآن، وإما تجاهل مقصود منهم، فالقرآن كان محفوظاً في صدور ألوف من الرجال، وفي صدور عدد كبير جداً من الصحابة ممن يستحيل تواطؤهم على الكذب))( ).
ويمكننا تفنيد هذا الزعم من وجهين:
أولاً: هذه فرية فاضحة بعيدة كل البعد عن الحقائق التاريخية، من ذلك:
1ـ من الحقائق الثابتة أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظون كتاب الله كما مرّ بنا حفظاً دقيقًا، وهذا هو المعروف عن العرب، وما زال المسلمون يحفظون كتابهم بعكس الملل الأخرى، فكان من خصائص هذه الأمة حفظها كتاب ربها في صدورها، بعكس الأمم الأخرى فلم تحفظ كتبها.
2ـ كان الصحابة في روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقيدون بألفاظه خشية أن يزيدوا أو ينقصوا من الحديث، ولا يعقل بعد ذلك أن يقروا بتحريف القرآن كما يزعم المستشرقون بهذه السهولة.
3ـ كان الصحابة رضي الله عنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهم الذين قالوا لعمر رضي الله عنه وهو خليفة: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بحد السيف، لا يعقل عقلاً أن يقوم أحد من الخلفاء بحذف شيء من كتاب الله أو يزيد فيه ويسكت الصحابة على ذلك، والقرآن أحب إليهم من أموالهم وأنفسهم وأولادهم و الناس أجمعين، وما سكوتهم على ذلك إلا دليل على رضاهم، وأن ما قام به الخليفتان المهديان قد أصاب كبد الحقيقة، بجمعهما للقرآن، وأنهما ما زادا فيه شيئاً، ولا نقصا منه، قال علي رضي الله عنه فيما قام به عثمان رضي الله عنه: ((أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً، أو قولوا له خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً))( ).
4ـ لم يعتمد في جمع القرآن ـ كما مرَّ بنا ـ على الحفظ فقط بل كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتبه أبو بكر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ وفق ضوابط صارمة، كما كتبه الصحابة رضي الله عنهم في زمن رسول الله، فكان للصحابة مصاحف خاصة بهم، فمصحف أبي بكر رضي الله عنه منسوخ من الصحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حفظ الصحابة رضي الله عنهم، ومصاحف عثمان رضي الله عنه نسخت من مصحف أبي بكر رضي الله عنه.
ثانياً: من المعروف أن المسلمين قد نقلوا القرآن نقلاً متواتراً، ينقله جيل بعد جيل يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكان هذا التواتر عن طريق الحفظ، وكانت الكتابة دعماً للحفظ، وعلى هذا كل رواية لا ترقى إلى هذه الدرجة لا تعد قرآناً، ولذلك نجد أن المستشرقين حين يجدون أية رواية وإن كانت ضعيفة، أو كانت عند المخالفين يأخذونها حجة على تحريف القرآن، فليس عندهم ضوابط لقبول الخبر؟
والدليل على ذلك أن جميع المستشرقين الذين قالوا بتحريف القرآن لم يذكروا هذا الحفظ، وهذا الجمع لتفنيد الأخبار الواهية، ولنسق على ذلك مثالاً: عندما قام نولدكه في كتابه ((تاريخ القرآن)) في مبحث (الاتهامات التي وجهتها الفرق لاسيما الشيعة ضد عثمان) أورد شبهة القوم في أن عثمان رضي الله عنه أسقط بعض سور من القرآن، ومنها سورة النورين، ركز جُلَّ اهتمامه على دراسة السورة من حيث الكلمات و المضمون، فأخذ يورد الكلمات التي وردت في هذه السورة المفتراة ولم ترد هذه الكلمات في كتاب الله تعالى، ثم ركز بعد ذلك على مضمونها في الخلط بين الجمل القصار والطوال، والخلط بين المنادى يا أيها الذين آمنوا و يا أيها الرسول، والمساواة بين الكفار ـ الذين سيحولون إلى قردة وخنازير ـ وأعداء موسى وهارون، واستدل بما فيها من مناقب لعلي رضي الله عنه على أنها مفتراة من صنع بعض الشيعة، ثم توصل إلى أن هذه السورة المفتراة ليست من القرآن في شيء، وأيد كلامه بأن مفسري الشيعة لم يعرفوا هذه السورة بدليل أن علي القمي (القرن الرابع) و محمد بن مرتضى (ت 911ﻫ)لم يذكرانها في تفسيريهما( ).
قلت: من الملاحظ أن تفنيد نولدكه لهذه السورة المفتراة من حيث المضمون صحيح، لكن هذا لا يكفي، وكان حرياً به أولاً أن يبين أن هذه السورة المفتراة ليس لها سند، ولم تكن لها وجود في عصر الصحابة بدليل أن أحدًا من الصحابة لم يذكر ذلك، وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يقل لأحد أن هناك سورة من القرآن اسمها ((سورة النورين)) وتتحدث عن مناقبنا، ولكن الحق أنهم لا يعرفون هذا النوع من العلم نظراً لعدم وجوده لديهم، وعندما يدرسون كتبهم يدرسونها دراسة المضمون فقط ليضعوا أيديهم على مواضع التحريف، وبهذا المنطق قاسوا القرآن الكريم.
المثال الثاني: أثار المستشرقون شكوكاً حول عدد الحفظة ليصلوا بذلك إلى أن رواية القرآن الكريم لم تكن بالتواتر،وزعم (بلاشير) أن الذين حفظوا القرآن الكريم هم تسعة أشخاص، أما (شيفالي) فذكر أنهم اثنان فقط، مستنداً في ذلك إلى الروايات التي وردت في طبقات ابن سعد( ).
الجواب: هذا إنكار لأمر قد تواترت فيه الروايات كما مرّ بنا، وعوامل عدة جعلت حفظ الصحابة متمكناً، كما أن الترغيب في حفظ القرآن جعل عدد الذين يحفظون كتاب الله من الصحابة رضي الله عنهم جمًا غفيراً، وما زال في ازدياد، و الروايات الصحيحة تؤكد هذه الحقيقة الناصعة، فعمر رضي الله عنه يقول: كنا نحفظ العشر لا نتجاوزها حتى نحفظها ونعمل بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أماكن الأشعريين بالليل لكثرة تلاوتهم للقرآن، واستشهد سبعون من القراَّء في معركة واحدة، والواقع المشاهد في عصرنا يكذب هذه الشبهة، إذ حفظة كتاب الله يعدون بمئات الألوف، والروايات التي استشهد بها (بلاشير) لم يقصد منها الحصر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد ـ فبدأ به ـ ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة)( )، أما ما كان ألفاظها الحصر فللعلماء فيها تأويلات منها:
1ـ قيل إنه لم يأخذ مِنْ فِيه تلقياً كاملاً غير تلك الجماعة، فإن أكثرهم أخذوا من بعضهم البعض.
2ـ وقيل إنه لم يجمعه لنفسه مكتوباً غير هؤلاء.
3ـ وذكر العلماء أن الروايتين فيهما اضطراب، فروي عن أنس رضي الله عنه: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد: قال: ونحن ورثناه) و الرواية الثانية: سئل عَمَّن جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أربعة كلهم من الأنصار: أُبَيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد ابن ثابت، وأبو زيد)، وذكر أبا الدرداء بدلاً من أبي بن كعب، ولذلك لا يعتد بهذه الروايات حين تخالف روايات الثقات.
المثال الثالث: طعن المستشرقون في تواتر القرآن الكريم، لذكر أبي خزيمة لآيتي سورة التوبة( ).
الجواب:
الآيتان هما آخر ما جاء في سورة التوبة: ﮋﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﮊ [التوبة: ١٢٨]، جاء في صحيح البخاري: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ [التوبة: ١٢٨] حتى خاتمة براءة)( )، وفي رواية: (ففقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجدها عند أحد، فوجدتها عند رجل من الأنصار)( )، قال ابن حجر: قوله (لم أجدها مع أحد غيره) أي مكتوباً، بدليل أن زيداً كان يحفظها كما جاء في الرواية السابقة، و في رواية: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أكد أنه سمعها من رسول الله حين جاء بها أبو خزيمة، وهناك دلائل تبين أن غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظونها( ).
واعلم أن ذلك لا ينافي تواتر القرآن، فقد بينا فيما سبق أن جمع القرآن كان بالحفظ أولاً، ثم جاءت الكتابة من باب الزيادة في التوثيق، للتأكيد بأن هذا الرسم كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بُدَّ أن يتضافر الحفظ و الكتابة، ولا يكتفى بأحدهما دون الآخر.
ثانياً ـ إلقاء التهم جزافاً بغير دليل:
لعلنا نشير في عجالة إلى بعض هذه الافتراءات وهي:
المثال الأول: يرى (بلاشير) أن بدء كتابة القرآن قد أصبحت ضرورة بعد هجرة الرسول إلى المدينة فدون على العُسُب، و اللخاف، و الرقاع، وعظام الأكتاف، والأضلاع، وقد وافق الرسول على هذه الخطوة، دون أن يفرضها على المسلمين، ويرى أن جمع القرآن وتدوينه بهذه الطريقة قد أوجد العديد من المشاكل؛ لأن التدوين لم يكن صحيحاً تماماً فسقطت آيات كثيرة منه، ويضاف إلى ذلك أن أدوات الكتابة وما كان مكتوباً عليها قد تم بدون ضبط، أو نظام وقد ضاع بعض منها( ).
هذه الادعاءات بدون دليل، فقد كتب الوحي منذ الفترة المكية، فقد تواترت الأخبار أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كتب للرسول وهو في مكة( )، وكتب الصحابة القرآن الكريم، وقصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصحيفة أخته أكبر دليل على ذلك( )، وفي المرحلة المكية كان هناك نوعان من الكتابة: الكتابة الرسمية، والكتابة الفردية، واستمرت الكتابة في المدينة المنورة وفق ضوابط، ورتب القرآن الكريم وفق توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كان يحفظه الصحابة أضف إلى ذلك مصاحف الصحابة رضي الله عنهم، وهذا كله محل فخر واعتزاز؛ لأن هذا الجمع كان هو الأساس لحفظ القرآن الكريم من الضياع، ومن الغريب أن هذا المستشرق يحاول بغير دليل أن يجعل ذلك من أسباب ضياعه، مع العلم أنه من أقوى الأسباب على بقائه، وعهدنا بالمستشرقين أن يقلبوا مفاخر الإسلام إلى مثالب، ولكن هيهات، فأنَّى لهم أن يحجبوا الشمس بالمنخال.
المثال الثاني: من ذلك اتهام المستشرق (فايل) أبا بكر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ بأنهما حذفا كل المواضع التي سبق لمحمد صلى الله عليه وسلم أن ناهض فيها بني أمية.
الجواب: رد على هذه الفرية (نولدكه) فقال: ((لم يقدم ـ (فايل) ـ أي دليل على صحة هذا الزعم، أو ما يفسره،... وتشير التفاسير إلى أن بعض المواضع في النص الحالي( ) تتناول بعض أفراد بني أمية، ولم يكن بنو أمية على الأقل في تلك الفترة أكثر عداء لمحمد من أُسَرٍ وجيهة أخرى، ومن جهة أخرى كان هناك أعداء كثيرون للدعوة، فكان على هذا أن تكون أسماؤهم موجودة في القرآن وحذفت كاليهود مثلاً، ولم يذكر القرآن غير اسم محمد، وزيد، وأبي لهب))( ).
قلت: لو كان هناك حذف من كتاب الله تعالى لكان حذف سورة المسد أولى؛ إذ فيها تعريض بأبي لهب الذي هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، أو الآيات التي تعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض اجتهاداته، ثم كيف لرجل أن يحذف شيئاً من القرآن الكريم والصحابة رضي الله عنهم يحفظونه عن ظهر قلب؟ وهذا مناقض لما تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على كتاب الله وحفظه من الضياع و العبث والزيادة و النقصان.
المثال الثالث: ومن هذا القبيل مزاعم بروكلمان في التشكيك في أسباب كتابة القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((ومما يحتمل كثيراً من الشك ما ذكرته الرواية من أن معركة اليمامة الحاسمة مع مسيلمة سنة 12ﻫ/663م التي قتل فيها عدد كبير من قراء الصحابة، هي التي قدمت الداعي إلى جمع القرآن... على أن الخليفة عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت ـ وكان شاباً مدنياً كتب كثيراً للنبي صلى الله عليه وسلم ـ أن يقوم بجمع القرآن، وكتابات الوحي، وبقي هذا المجموع في حوزة عمر، ثم وَرَّثه حفصة، ولعل هذا المجموع الأول كان صحفاً متناثرة))( ).
الجواب: ما هذه الفرية إلا ليقنع بني جلدته أن القرآن لم يكتب إلا في عصور متأخرة مثله مثل كتب أهل الكتاب من غير دليل، بل الثابت المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بكتابته، ثم كتب في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
المثال الرابع: يقول (كازانوفا): ((إن القرآن قد أدخلت عليه بعد وفاة النبي تغييرات قام بها خلفاؤه ليفصلوا... بين بعثة الرسول وقيام الساعة اللتين يرى ارتباطهما مباشراً، والدليل على ذلك ما ورد في الآية: ﮋ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﮊ [الرعد: ٤٠] فزعم كازانوفا أن أصحاب النبي حين رأوا أن الساعة لم تقم وضعوا في صيغة التعبير صورة الشك موضع اليقين, ولا يستبعد أن الآية قبل التبديل هي كالآتي: ((وسنريك بعض الذين نعدهم)) ويتساءل كازانوفا، هل يعقل أن الإله ـ وهو سيد الأقدار ـ لم يستطع أن يحدد مسألة بسيطة، وأنه يجهل هل سيموت، أو يعيش إلى نهاية العالم في حين أنه علم بالساعة علم اليقين, ولكنه لم يشأ أن ينبئ بهذا العلم؟))( ).
الجواب: هذه الشبهة مع عدم وجود دليل على مزاعمه، فهي مبنية على عدم معرفته باللغة، ويمكن تفنيد هذه المزاعم من وجوه:
1ـ ليس لديه دليل، أو شبه دليل على مزاعمه، وافتراءاته، بل هي نتاج بنات أفكاره.
2 ـ وقوله هذا يناقض ما عرف عن الصحابة رضي الله عنهم بالأمانة و الصدق، و الحرص على كتاب الله وحفظه من الضياع و العبث و الزيادة و النقصان، كل ذلك مما تواتر عنهم رضي الله عنهم.
3 ـ نظرًا لعدم فهمه بأساليب اللغة العربية ظن أن معنى الآية شك الله سبحانه وتعالى في موعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى ليس كذلك، إذ ((الآية عطف على جملة ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝﮊ [الرعد: ٣٩]، باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات، فبينت هذه الجملة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس مأموراً بالاشتغال بذلك ولا بترقبه، وإنما هو مبلغ عن الله لعباده، والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أم لم يشهد))( )، قال الفخر الرازي: ((والمعنى: سواء أريناك ذلك، أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى، وأداء أمانته، ورسالته، وعلينا الحساب))( ).
المثال الخامس: من مناهج المستشرقين منهج الأثر والتأثير، وقد استخدموه بطريقة مبتسرة بحيث فسروا القرآن الكريم على أنه مستمد من عوامل خارجية سلطت عليها قواعدُ الأثر و التأثير فعلَها، انطلاقا بما حصل في كتبهم، فقد دخلت المؤثرات الخارجية كالبابلية والآشورية، والغنوصية، والهندوسية، والبوذية على نصها الديني، فمن هنا ظن أن القرآن أدخل فيه ما ليس منه، مثال ذلك: ما زعمه نولدكه الألماني أن تكون فواتح السور من القرآن رموزاً لمجموعات الصحف التي كانت عند المسلمين الأولين، قبل أن يوجد المصحف العثماني، فمثلاً حرف الميم كان رمزاً لصحف المغيرة، والهاء لصحف أبي هريرة، وص لصحف سعد بن أبي وقاص، والنون لصحف عثمان، فهي عنده إشارات لملكية الصحف، وقد تركت في مواضعها سهواً ثم ألحقها طول الزمن بالقرآن، فصارت قرآناً))( ).
الجواب: هذا الاتهام بغير دليل فيه نظر، فكيف للعرب الذين لم يعرفوا في هذه الفترة التنقيط والتشكيل كيف بهم أن يعرفوا مختصرات الكلمات؟! ومن المعروف أن العرب لم يستخدموا هذه الرموز للإشارة إلى الكلمات إلا في العصور المتأخرة، مع ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على بقاء القرآن الكريم مصوناً من التحريف والتبديل كما مرَّ بنا.
ومن جهة أخرى نجد أن أبا هريرة ما كان يكتب الحديث وكان يكتفي بحفظه، ولم يكن صاحب كتاب، فقد جاء عنه أنه قال: ((ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب))( ).
ثالثاً ـ إساءة فهم النص عمداً:
يعتمد جمهور المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الإسلام على ميزان غريب في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث فيه، ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها، فما أدت إليه بعد المقارنة و التمحيص كان هو النتيجة التي ينبغي له اعتمادها والأخذ بها، إلا أن غالب هؤلاء المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية. ويفسرون النصوص، والحوادث، والوقائع، والنيات، والغايات تفسيرات لا تتفق مع دلالاتها، وأماراتها الحقيقية، ولا مع النتائج التي أثبتها تاريخ الأمة الإسلامية، ولعلنا نسوق بعض الأمثلة التي تَـنُمُّ عن حقدٍ دفين لهذا الكتاب:
المثال الأول: يقول نولدكه: عبر بعض العلماء المسيحيين الغربيين عن شكهم بأن بعض التحريفات أُدخلت عمداً إلى نص القرآن في نسخة عثمان، والنسخة التي اعتمد عليها، أول من عبر عن هذا الشك كان المستشرق الفرنسي (سيلفستر دي ساسي) وذلك بالنسبة لسورة آل عمران [144ـ148] من آل عمران: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ... ﰁ ﰂ ﰃ ﮊ ، بعدها اتخذ فايل هذا الرأي ووسعه ليشمل آيات أخر، ناسباً ذنب القيام بهذه الإضافات إلى الخليفة أبي بكر نفسه، ودليله على ذلك كون عمر لم يشأ أن يصدق بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عن ذلك باندفاع شديد أمام المسلمين جميعاً، ولم يعدل عن رأيه إلا بعد تدخل أبي بكر الصديق الذي تلا السورة وقد بدا لعمر ـ أو كما تقول روايات أخرى لسائر المسلمين ـ وكأنهم لم يسمعوا هذه الآيات من قبل( ).
الجواب: من الملاحظ أن التجني على النص واضح، وفهم النص فهما خاطئاً واضح جلي:
أولاً: فجع الصحابة رضي الله عنهم بوفاته صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، وأموالهم، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ((فاقتحم الناس، حتى ارتفعت الرنة، وسجَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة، وقعد الرجال، فكانوا كأقوام ليس فيهم الأرواح، وحق لهم في أطوار من البلاء قسمت بينهم، وكذَّب بعضهم بموته، وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بَعد البُعد، وخلط آخرون، وبقي آخرون ومعهم عقولهم، وأقعد آخرون، فكان عمر ممن كذب بموته، وعلي فيمن أقعد، وعثمان فيمن أخرس))( )، فأُناس هذا حالهم في فاجعة ألمت بهم فأنستهم المصيبة الآية، فهل هذا مدعاة للقول بأن أبا بكر رضي الله عنه زاد في القرآن الكريم ما ليس منه؟!
و قول عمر رضي الله عنه: (فلكأني لم أقرأها إلا يومئذٍ)( ) يدل على أن الفاجعة أنستهم الآية، ويؤكد ذلك ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (ولكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها)( ).
ثانياً: إن أبابكر في تلك الفترة لم يُنصب خليفة على المسلمين فكيف يجرؤ على إدخال الزيادة في كتاب الله!؟ وحادثة إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هشام بن حكيم دليل على تهافت هذه الفرية.
ثالثاً: هنالك آيات كثيرة كانت تشير إلى بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسل من قبله، ﮋﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮊ [يوسف: ١٠٩]، في ثلاث آيات، وغيرها من الآيات التي تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يجري عليه ما يجري على البشر من السنن الكونية.
المثال الثاني: من ذلك أيضاً زعمهم أن كتابة المصحف لم يكن بإجماع من الصحابة، بدليل ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه اعترض على تولي زيد وإبعاده عن هذا العمل فقال: ((يا معشر المسلمين كيف أُعْزَل عن نسخ كتاب المصاحف ويولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه كافر))( )، وقال أيضاً: ((لقد قرأت من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ذو ذؤابتين يلعب مع الصبيان))( ).
الجواب: ويمكن تفنيد هذه الشبهة من وجوه:
أولاً: من الملاحظ أن ابن مسعود رضي الله عنه هو الوحيد من الصحابة رضي الله عنهم الذي نقل عنه اعتراضه على تولية زيد رضي الله عنه، ولم يكن اعتراضه على جمع القرآن الكريم، وإنما كان يرى أنه أحق منه بهذه المهمة لكونه من السابقين في الإسلام، وأنه أخذ سبعين سورة مشافهة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قال ذلك إلا في ساعة غضب، بدليل أنه بعد أن هدأ وذهبت عنه ثورة الغضب، جاءه فلفلة الجعفي قال: فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه فقال رجل من القوم: إنا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: ((إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف، أو حروف، وإن الكتاب قبلكم كان ينـزل، أو نزل من باب واحد على حرف واحد معناهما واحد))( )، ويروى أنه ((ندم على ما قال واستحيا منه، فقد روى أبو وائل هذه القصة ثم قال عقبها: إن عبد الله استحيا مما قال فقال: ما أنا بخيرهم، ثم نزل عن المنبر))( ).
ثانياً: إن هذه المهمة ـ وهي كتابة القرآن ـ كان يتطلب العلم، والقوة، والجلد، والأمانة، وأن يكون من كتاب الوحي، وممن جمع المصحف، وهذه الشروط توافرت في زيد رضي الله عنه، ولم تكن متوافرة في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ لكونه كان في تلك الفترة في سن الكهولة، و نسخ المصحف يحتاج إلى شباب.
ثالثاً: إن زيداً رضي الله عنه كان في المدينة المنورة مع عثمان رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان في البصرة، وكان الأمر يتطلب البَتَّ فيه بسرعة حتى لا يستشري الخلاف بين المسلمين، ولا يستغل أعداء هذه الأمة هذا الوضع.
رابعاً ـ جهلهم بقواعد قبول الخبر:
من منهج المستشرقين البعد عن النـزاهة حين يتصل الأمر بالإسلام، فهمهم هو إيجاد دليل يؤيد مزاعمهم، سواء أكان هذا الدليل صحيحاً أو ضعيفاً، أو يعارض الحقائق والوقائع التاريخية، فهذا كله أمر لا يهم بقدر ما يخدم فكرتهم المسبقة عن الإسلام، ولنسق على هذا النوع أمثلة:
المثال الأول: زعم المستشرقون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجمع القرآن بنفسه، ولم يأمر أحداً بجمعه، وإنما كان ذلك بجهد شخصي من بعض الصحابة، وفي بعض المناسبات، وأن الجمع الفعلي كان في المدينة المنورة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم تأثراً باليهود، واستدلوا لذلك بأدلة منها:
1ـ رواية عبد الله بن عمر أنه قال: ((لا تجعلوا أحدكم يقول: لقد حصلت على مجمل القرآن، فكيف يتسنى له أن يعرف ماذا كان ذلك المجمل؟ إن كثيراً من القرآن قد ذهب، فليقل بدلاً من ذلك: لقد حصلت على ما ظل موجوداً))( ).
2ـ رواية منسوبة لزيد بن ثابت حيث قال فيها، (لقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن قد تم جمع القرآن في أي مكان)( ).
3ـ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((إن القرآن لم يجمعه أحد على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم))( ).
الجواب: يمكن تفنيد هذه الشبهة من وجوه:
أولاً: هذه الشبهة باطلة بأدلة متواترة كما مرّ بنا: فإذا أريد بالجمع حفظه في الصدور فقد حفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، بدليل قوله تعالى ﮋ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﮊ [القيامة: ١٧]، وحفظه الصحابة، وكان بمجرد نزول أية منه يأمر كتبة الوحي بأن يكتبوها ويضعوها في موضعها من السورة، عن عثمان رضي الله عنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، وهو تنـزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء منه دعا بعض من كان يكتب فيقول: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا(، وإذا نزلت عليه الآية يقول: (ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)( )، ثم إن الجمع بدأ بمكة المكرمة في العهد المكي، وكان عبد الله بن أبي السرح يكتب القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وكُتب القرآن الكريم في المدينة كما مرَّ بنا، وبلغ عدد كتبة الوحي والمراسلات والخطابات الأربعين ونيفاً، وعلى هذا لم تكن كتابة القرآن بتأثير من اليهود.
ثانياً: أما الرواية الأولى ـ على فرض صحتها ـ فيمكن حملها على أن المراد بها النهي عن حفظ كل ما نزل من القرآن ناسخه ومنسوخه، لأن من القرآن ما نسخت تلاوته بعد نزوله، فالواجب أن يقول: حفظت من القرآن غير المنسوخ التلاوة.
أما الرواية الثانية والثالثة: فيمكن حملهما ـ على فرض صحتهما ـ كما قال الخطابي: ((إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه، أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر))( ).
ثالثاً: وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يناقض هذه الرواية المروية عنه، حيث قال: ((جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، وعدَّ معاذ بن جبل، وأبياً، وعبد الله، وزيد بن ثابت))( ).
رابعاً: ويحتمل أيضاً أن يكون معنى ذلك أن أحداً لم يحفظ جميع حروف القرآن السبعة التي أنزل عليها، ولا أحاط بها في حياته صلى الله عليه وسلم غيره، ثم جمع ذلك منهم من يعمل بحفظها وأخذ نفسه بها كأُبيٍّ وغيره من المبرزين في حفظ القرآن على جميع وجوهه، وأحرفه( ).
المثال الثاني: زعم بلاشير( ) أن أول من جمع القرآن الكريم علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستند في ذلك إلى الرواية التي رواها ابن أبي داود في كتاب المصاحف بسنده لمحمد بن سيرين قال: ((لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل، فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا، والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة، فبايعه ثم رجع))( ).
الجواب: يمكن تفنيد هذه الشبهة من وجوه:
1ـ من الملاحظ أن بلاشير ترك الروايات الصحيحة بل المتواترة في كتابة المصحف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع القرآن في زمن أبي بكر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ، وتمسك برواية ضعيفة كما أشار إلى ذلك مؤلف الكتاب نفسه، حيث قال: ((لم يذكر المصحف أحد إلا أشعث، وهو لين الحديث))( )، وذهب إلى الحكم بضعف هذا الأثر ابن حجر حيث قال: ((هذا الأثر ضعيف لانقطاعه))( ).
2ـ هذه الرواية تناقض ما صح عن علي رضي الله عنه من وجوه أنه قال: ((رحم الله أبا بكر، هو أول من جمع القرآن بين لوحين))( ).
3ـ حمل ابن حجر معنى الأثر ـ بتقدير صحته ـ على أن ((مراده بجمعه في صدره)) ( ).
4ـ قال أبو شهبة: ((وعلى فرض صحة ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه، وأن المراد بالجمع: الكتابة لا يعارض الثابت المشهور من أن أبا بكر هو أول من جمع القرآن، إذ ليس في رواية ابن سيرين التصريح بالأولية، بل الذي صَحَّ عن علي خلافها، وغاية ما تدل عليه أنه سارع إلى كتابة القرآن، فهو كغيره من الصحابة الذين عُنوا بكتابة مصاحف لأنفسهم خاصة، ولم تكن لهذه المصاحف من الثقة بها والإجماع عليها، والقبول لها ما لمصحف أبي بكر رضي الله عنه، فَجَمْعُ الصديق أبي بكر بهذه الاعتبارات يعد بحق أول من جمع))( ).
المثال الثالث: زعم المستشرقون أن ابن مسعود رضي الله عنه ـ وكان أعلم الناس بالقرآن ـ لم يكن يعد نسخة عثمان صحيحة، وأنه حذف السورة الأولى (الفاتحة) والسورتين الأخيرتين من نسخته بحجة أن تلك السور ليست من كتاب الله.
الجواب: يمكن تفنيد هذه الشبهة من وجوه:
أولاً: شكك بعض العلماء في صحة نسبة هذه الرواية إلى ابن مسعود رضي الله عنه فممن أنكر ثبوتها الإمام الباقلاني في كتابه ((الانتصار للقرآن))، والإمام النووي أثناء شرحه لصحيح مسلم، وابن حزم في أوائل ((المحلى))، والفخر الرازي في أوائل تفسيره، لكن ابن حجر أكد صحة المروي عنه رضي الله عنه في إنكار المعوذتين، وقال: ((قول من قال إنه كذب عليه مردود، والطعن في الروايات الصحيحة بغير سند لا يقبل، بل الروايات صحيحة و التأويل محتمل))( ).
ثانياً: الثابت كون المعوذتين قرآناً لتواتر وصول القرآن الكريم إلينا، روى البخاري بسنده إلى زر بن حبيش قال: ((سألت أُبَيَّ بن كعب قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أُبَيٌّ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: قيل لي، فقلت: قال:فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم))( ).
ونص رواية الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى زر بن حبيش، قال: ((قلت لأبي بن كعب:إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: قل أعوذ برب الفلق))( ).
وعنه في رواية عبد الرحمن بن يزيد قال: ((كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله تبارك و تعالى)).
ثالثاً: هذه الروايات خبر آحاد، وهي لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، قال الخطيب البغدادي: ((ولا يقبل خبر الواحد في منافاة.. حكم القرآن الثابت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل مقطوع به))( )، ويقول القاضي أبو بكر الباقلاني: ((ومما يدل أيضاً على أن القرآن المرسومَ في مصاحفنا هو جميعُ كتاب الله الذي أنزله على رسوله، وفوَّض حفظه وإثباته و الرجوع إليه، نقلُ جميع السلف و الخلف الكثير من بعدهم الذين ببعضهم تثبت الحجة، وينقطع العذرُ أن هذا القرآن الذي في أيدينا هو جميع كتاب الله الذي أنزله، وأمر بحفظه، وإثباته، والرجوع إليه، وقد عُلم أن التشاجر، والتراسل، واتفاق الكذب متعذرٌ ممتنعٌ على مثلهم، فوجب لذلك العلم بصحة ما نقلوه، وسقوطُ كل رواية جاءت من جهة الآحاد بخلاف ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وما يجوز أن يُروى من ذلك، ويُفتعل، ويُتكذَّب في المستقبل؛ لأن نقل ما ذكرناه، أوجب لنا علم الضرورة بصحة ما نقلوه، وانتفاءَ السهو، والإغفال، والكذب، والافتعال عنهم لما هم عليه من كثرة العدد، واختلاف الطبائع، والأسباب و الهِمَم))( )، والعبرة بالتواتر أن يُروى عن جمع يحيل تواطؤهم على الكذب، لا أن لا يخالف فيه مخالف، فظن ابن مسعود رضي الله عنه أنهما ليستا من القرآن لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن و الحسين، فابن مسعود رضي الله عنه يقر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتعوذ بهما، لكنه أنكر أن يكونا من القرآن.
رابعاً: يمكن حمل هذه الرواية كما تأول الباقلاني: أن ابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما قرآنا، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف،إما لظنه أنه منسوخ، أو لغير ذلك من العلل( ).
خامساً: ـ وهو ما رجَّحه ابن حجر ـ أنه لم يثبت عند ابن مسعود القطع بتواتر السورتين، ولما بلغه التواتر في ذلك رجع، وقد روى الطبراني في الأوسط أنه لما بلغه حديث أُبَيّ بن كعب السابق، قال ابن مسعود: ((نحن نقول مثل ما قال رسول الله))، إذاً لما تأكدت قرآنيتهما عنده رجع عن قوله، وقال بقول الجماعة وأقرأها لتلاميذه وهذا ما أرجحه، وتطمئن إليه النفس، وقد بلغنا من أسانيد القراء الصحيحة والمتواترة عن ابن مسعود أن هذه السور الثلاث من القرآن: الفاتحة والمعوذتين.
وقد يتبادر إلى الذهن أن ابن مسعود رضي الله عنه وهو من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، وهو الذي أخذ سبعين سورة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يجهل المعوذتين، نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ضمن العصمة من الخطأ للأمة ولم يجعل ذلك لفرد من الأمة مهما علت درجته، والأمة قد أجمعت أن هذا هو القرآن الذي أنزل على رسول الله وأُقِرَّ في العرض الأخير، قال الإمام النووي: ((أجمع المسلمون على أن المعوذتين كلام الله عز وجل ووحيه، أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من كفر بحرف منه فهو كافر))( )، وينتفي أن تجتمع الأمة على ضلال، ومن جهة أخرى فإن ابن مسعود رضي الله عنه مع جلالة قدره لم يقل إنه أخذ القرآن كله من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: سبعين سورة، مع العلم أن عدد سور القرآن الكريم مائة وأربع عشرة سورة، فتكون السورتان من السور التي لم يأخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهو لم ينكرهما، وإنما ظن باجتهاد منه أنهما يُتَعَوَّذ بهما، لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ، فلما بلغه النقل الثابت في ذلك تراجع.
هكذا نرى أن الراجح إثبات ابن مسعود للمعوذتين ورجوعه، والقول بقرآنيتهما بعد أن كان لا يثبتهما في مصحفه، مما يرد ما نسب إليه من هذا الأمر، ولكن يبقى في النفس شيء من هذه الروايات، لأن مصاحف عثمان رضي الله عنه منقولة من مصحف أبي بكر، ولم نسمع أي اعتراض من ابن مسعود رضي الله عنه على مصحفه، ربما قيل إن مصحف أبي بكر لم يلق الانتشار، وهذا وارد، وربما اعتراض ابن مسعود أول الأمر كان بسبب أن عثمان رضي الله عنه أمر بإحراق المصاحف فحزَّ ذلك في نفسه أن يحرق مصحفه، فقال ما قال في حالة الغضب، ولما ذهب عنه تراجع، ولكن يبقى سورة الفاتحة, موضع إشكال، وأرى الرواية التي تذهب إلى أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يراها أنها ليست من القرآن غير صحيحة، وأشك أنها مروية عنه، لأن هذه السورة أمرنا أن نقرأها في كل صلاة، ومثله رضي الله عنه لا يجهل هذه الحقيقة التي كان يعايشها في كل يوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أظن مثله يرى أنها ليست من القرآن، والله أعلم.
سادساً: ويشهد لصحة ما قلناه أن تأليف السور الثلاث من نفس تأليف القرآن العظيم ومن نفس نظمه البديع الذي أعجز البلغاء ودان له الفصحاء واعترف له بالعظمة والجلال الإنس والجان، كما قد أُثبتت قرآنيتهن برسم الإمام عثمان وانعقاد الإجماع على ذلك فتم بذلك العلم اليقين ولا يضرنا قول من قال من هؤلاء المنكرين الملحدين( ).
ويجب أن لا ننسى أن الصحابة رضي الله عنهم أحبوا القرآن الكريم أكثر من أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وحرصوا على حفظه أكثر من حرصنا عليه، فلا يعقل بعد ذلك أن يخفوا منه شيئاً وهم يعلمون أنه كلام الله الذي فيه سعادة الدنيا، وفلاح الآخرة.
المثال الرابع: زعم المستشرقون أن سوراً بكاملها ناقصة من القرآن الكريم، أو بعض الآيات القرآنية، مستدلين على ذلك بما عند الشيعة من روايات ساقطة، وحجج واهية، زاعمين أن الدافع من وراء ذلك حذف ما يتعلق بفضائل آل البيت، وولايتهم من القرآن، كحذف سورة الولاية التي زعموا أنها كانت (7) آيات، وكما فعل بسورة الأحزاب التي كانت لا تقل طولاً عن سورة البقرة (286آية) والحذف من سورة النور التي كانت أكثر من مائة آية، وسورة الحجر التي كانت تحتوي على (190آية)، وحذف سورة النورين التي كانت (41آية)، وقد نقل هذا الأمر جولدتسيهير في كتابه مذاهب التفسير الإسلامي، وجارسان دي تاسي( ).
الجواب: ويمكن تفنيد هذه الفرية من وجوه:
أولاً: هذه الترهات والأقاويل تلقفها المستشرقون والمنصِّرون من بعض غلاة الشيعة، أمثال النوري ميرزا حسين الطبرسي صاحب كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) المطبوع في إيران سنة 1289ﻫ، ولم يقم على هذه الدعاوي شبه دليل، وإنما بناها على صرح من الافتراءات، ولو تقبل الدعوى من غير دليل لادعى أناس دماء قوم وأموالهم، ولهذا نجد العقلاء منهم يتبرؤون من مثل هذه الخرافات، مثل الطبرسي صاحب كتاب (مجمع البيان لعلوم القرآن) والشريف المرتضى. قال الطبرسي: ((أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فهو أشد استحالة))، ثم قال: ((إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء في الوجود؛ لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حمايته الغاية القصوى حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من تفسيره وأحكامه، وإعرابه وقراءاته، ورسمه وضبطه، وعدد آياته، وعدد نقطه وحركاته، فكيف يتخيل عاقل بعد تلك العناية الفائقة بالقرآن الكريم، أن يحصل فيه نقص أو زيادة مع هذا الضبط الشديد))( ).
ثانياً: لو كان كتاب الله الذي عند علي رضي الله عنه غير الذي جمعه عثمان رضي الله عنه لوجب عليه أن يظهره، وكان رضي الله عنه يلقن أولاده وأصحابه القرآن الكريم، فما رُوي عنه أنه أقرأ أحداً منهم شيئاً يخالف مصحف الجماعة، وكان عبد الرحمن يقرئُ الناس في مسجد الكوفة أربعين سنة بحرف الجماعة، ويقول: أقرأني بذلك عليٌّ، وعثمان، وزيد بن ثابت، فلم يعترض عليه أحدٌ في هذه الدعوى ولا ردها، كل هذا يدل على كذب من ادعى على عليٍّ رضي الله عنه مخالفة الجماعة( )، والمروي عنه رضي الله عنه خلاف ذلك، فعن أبي جحيفة قال: ((قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتابُ الله، أو فهمٌ أُعْطِيَهُ رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر))( ).
ثالثاً: من زعم أن في القرآن زيادة أو نقصاناً يكفر، لأنه يخالف نص القرآن، قال تعالى: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [الحجر: ٩]، فليس لأحد سلطان على كتاب الله فهو محفوظ بحفظه، بل إن هذا الكتاب هو الذي يحفظ الأمة، وهو الذي أوجد الأمة بنـزوله، وقد قيض الله لهذا الكتاب من ينفي عنه زيغ المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيف المنحرفين، وأهواء الضالين، قال صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))( ).
والذين ينسبون هذا الفعل للصحابة لا يعرفون مقدار حب الصحابة لهذا الكتاب العظيم الذي فاق حبه عندهم النفس، والأهل، والولد.
لذا لا يعقل أن تتفق هذه الأمة ـ التي أحبَّت هذا الكتاب وقدَّسته ـ على مثل هذا العمل المفترى دون أن يقوم من ينكر ذلك، مع أن الصدق والأمانة في الأداء والدقة في النقل كانت السمة البارزة لهم، حتى إنهم اشترطوا لجمعه موافقة المحفوظ في الصدور لما هو مكتوب عندهم في السطور، بل إن زيداً عندما فرغ منه راجعه ثلاث مرات، ثم راجعه أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه مرة رابعة فلما اطمأن قلبهما له حمل الناس عليه، لذا فقد نال هذا الكتاب من العناية والضبط ما لم ينله كتاب آخر، وأي مصلحة في إسقاط شيء من كلام الحكيم الخبير الذي لم يجعل الله لهم عليه سلطاناً فأرجع حفظه له وحده وتكفل بذلك هو نفسُه، قال تعالى: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [الحجر: ٩].
وإذا كان شعر النابغة أو شعر زهير بن أبي سلمى لا يستطيع أحد أن يزيد فيه شيئاً، أو ينقص منه شيئاً لأن أمره سيفتضح، فمن باب أولى هذا القرآن العظيم كلام رب العالمين، فالدفاع عنه والمحافظة عليه مقدم على مثل هذه الأشعار، كما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحتاطون لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يسمحون بالزيادة فيها، أو الإنقاص منها، و القرآن الكريم أولى منها بلا شك.
روى أبو سعيد الخدري قال: ((كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك، قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)، فقال: و الله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبيُّ بن كعب: و الله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك))( )، وفي رواية: أن عمر قال لأبي موسى: ((أما إني لا أتهمك، ولكني أحببت أن أتثبت)).
فإذا كان هذا حال الصحابة مع الحديث النبوي الشريف من التحقق و التثبت مع أنهم كلهم عدول أمناء أوفياء لا يجرؤون أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بزيادة ولا بنقصان، لا لمصلحة خاصة لأحدهم ولا عامة كما تزعم الرافضة، فكيف إذن لا يكونون أشد تحقيقاً وتثبتاً في كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه( ).
قال الدكتور محمد توفيق بك صدقي: ((ومن عَلِم طباع العرب... وشدة تمسكها بدينها وقوة إيمانها، وعرف ما كان عليه الخلفاء الراشدون من الأخلاق والدين، وأنهم ما كانوا ليستبدوا بالأمر في شيء ـ حتى لو أرادوه لما قدروا عليه ـ وعرف حال عثمان رضي الله عنه، وسبب قتله، عرف ذلك كله وأيقن أنهم لو وجدوا في مصاحف عثمان رضي الله عنه عيباً واحداً لرفضوها، ولأثيرت حروب، وأُريقت دماء، وكان دم عثمان في أولها، ولارتد كثير من العرب عن الإسلام لهذا السبب، ولعاب المسلمين بتحريف القرآن من خالطهم، أو دخل فيهم من أهل الكتاب وغيرهم، ولما اتفقوا جميعاً على قبول هذه المصاحف، ولو وجدت بينهم مصاحف مختلفة إلى اليوم، فعدم حصول شيء من ذلك، يدل على أن هذه المصاحف هي عين ما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً لأن الذين تلقوها بالقبول ما كانوا جاهلين حرفاً واحداً من القرآن، بل كانوا حافظين له حفظاً جيداً في الصدور من قبل وجود هذه المصاحف، وكثير منهم ممن تلقوه كله، أو بعضه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم( ).
قال المستشرق الأمريكي (ر. ف. بودلي) في كتابه (الرسول حياة محمد) عن القرآن الكريم: ((فبين أيدينا كتاب معاصر فريد في أصالته وفي سلامته لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدي، وهذا الكتاب هو القرآن، وهو اليوم كما كان يوم كتب لأول مرة تحت إشراف محمد، وعلى الرغم من أن الأفكار قد دونت في الرقاع، وسعف النخل، والعظام في لحظات غريبة، فالسور و الآيات قد حفظت))، ثم يقول: ((وإن كتابة زيد كانت أمينة فوق الشبهات فلم يفعل شيئاً ليضيف فقرات، أو يضع جمل ربط، أو يحذف، أو ينسخ تفاصيل تشين الإسلام، لقد عمل بإخلاص تصور حتى إنه لما انتهى من نشر القرآن كان الكتاب من عمل مؤلفه خالصاً، ومؤلفه فقط أي الله سبحانه وتعالى))، ثم يقول: ((والمهم أن القرآن هو العمل الوحيد الذي عاش أكثر من اثني عشر قرناً دون أن يبدل فيه، و لايوجد شيء يمكن أن يقارن بهذا أدنى مقارنة لا في الديانة اليهودية ولا في الديانة المسيحية))( ).
خامساً ـ تحريف النصوص والكذب حتى توافق هواهم:
لما كان لدى المستشرقين رغبة جامحة للتدليل على تحريف القرآن، فلا مانع من التحريف في الكلام حتى يوافق هواهم، و لا أدل على ذلك مما فعله المستشرق الإنجليزي (آرثر جفري) فقد عمل على نشر كتاب المصاحف لابن أبي داود، ولم ينشره كما وجده، بل تصرف فيه تصرفاً معيباً يتنافى مع أمانة البحث العلمي النـزيه، فعمد إلى بعض الروايات الظاهر ضعفها وترجم لها (بباب كذا) مثل (باب ما غَيَّر الحجاج في مصحف سيدنا عثمان) ولم توجد هذه التراجم في النسخة المخطوطة.
ولم يقف عند هذا الحد بل وضع مقدمة مملوءة بالغمز والطعن على القرآن، وركز هذا المستشرق على حث المسلمين على أن يبحثوا عن تطورات قرآنهم، وتطورات قراءاته من أجل أن يعلموا أن القرآن الذي يقرؤونه الآن مغاير لما كان يقرؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد المستشرق جفري في ملحقه الإنجليزي آيات وسوراً مخالفة للقرآن الكريم ادعى أنه نقلها من كتب التفسير والقراءات دون أن يبين لنا كتاباً معيناً حتى يمكن الرجوع إليه، ومن النماذج التي كتبها زوراً وكذباً ما أضافه من كلام إلى سورة البينة (رسول الله إليهم يتلو صحفاً مطهرة، وفيها كتب قيمة، ورأيت اليهودية و النصرانية إن أقوم الدين الحنيفية مسلمة غير مشركة، ومن يعمل صالحاً فلن يكفروه)( ).
ولو قرأ هذا المستشرق هذا الكتاب قراءة متأنية متبصرة، لأدرك خطأ النتائج التي تفتقت عنها قريحته، فالكاتب نفسه عبد الله بن أبي داود يقول: ((لا نرى أن نقرأ إلا لمصحف عثمان الذي اجتمع عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قرأ إنسان بخلافه في الصلاة أمرته بالإعادة))( ).

نتائج البحث
وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على تاريخ كتب أهل الكتاب، وتاريخ القرآن الكريم يمكننا أن نخلص إلى النتائج التالية:
أولاً ـ إن الله عز وجل لم يتكفل بحفظ الكتب السابقة ولذلك لم يُقَيّض لها عوامل البقاء وذلك للأمور التالية:
1ـ لم يحفظ أهل الكتاب كتبهم، ولم يكن حفظ الكتاب عندهم عن ظهر قلبٍ سنة ولا فرضاً.
2ـ بقاء الكتب عند فئة معينة ولم يلق الانتشار.
3ـ عدم وجود دولة تحافظ على الكتب.
4ـ ضياع الكتب.
5ـ ظهور نسخ بعد ذلك متعددة ومختلفة، يزعم أصحابها أنها صحيحة دون مستند حقيقي.
ثانياً ـ تكفل الله بحفظ القرآن الكريم، وقيض له جميع عوامل الحفظ، وهي:
1ـ سهل الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن ويسره، فحفظه من الصحابة رضي الله عنهم جَمٌّ غفير وتناقله جيلٌ عن جيل يستحيل تواطؤهم على الكذب.
2ـ حث النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن الكريم، وكان يلقى على الناس، والذي يدخل الإسلام كان يكلف أحد من الصحابة لتعليمه ما فاته.
3ـ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن بين يديه، واحتفظ بنسخة منه.
4ـ كان الصحابة رضي الله عنهم يكتبون القرآن الكريم ويحتفظون بنسخ خاصة بهم.
5ـ الطريقة التي تم بها حفظ القرآن الكريم مكنتهم من حفظه، وهم أمة تعتمد على الحفظ أكثر من الكتابة.
6ـ بعد التحاق الرسول بالرفيق الأعلى قام أبو بكر رضي الله عنه بكتابة المصحف بين دفتي كتاب، و وفق شروط دقيقة، تم نسخه من المصحف الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان يحفظه الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا يحتفظون به من نسخ خاصة بهم كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، و كان الدافع وراء ذلك خشية ضياع القرآن الكريم خشية أن يستشهد الصحابة رضي الله عنهم في معارك وغزوات مستقبلية.
وقد قام عثمان رضي الله عنه بنسخ نسخ متعددة استنسخها من مصحف أبي بكر رضي الله عنه على رسم واحد، وأمر بحرق خلاف هذه المصاحف، وأرسلها إلى الأمصار ومع كل نسخة قارئ يعلمهم القرآن الكريم.
7 ـ استمرت دولة الإسلام دون انقطاع، وكان دستورها القرآن الكريم.
ثالثاً ـ شبهات المستشرقين متهافتة؛ لأنهم انطلقوا من منطلقات البُعد عن الحياد العلمي النـزيه، فكانت شبهاتهم إما أنها تقوم على إغفال جانب الحفظ، أوإلقاء التُّهم جزافاً بغير دليل، أو إساءة فهم النص عمداً، أو جهلهم بقواعد قبول الخبر، أو تحريف النصوص و الكذب حتى توافق هواهم.

فهرس المراجع
ـ آراء المستشرقين حول القرآن الكريم / عمر بن إبراهيم رضوان، الرياض: دار طيبة للنشر و التوزيع، ط 1، 1413ﻫ / 1992م.
ـ الإتقان في علوم القرآن /جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمود أحمد القيسية، ومحمد أشرف سيد سليمان الأتاسي، أبو ظبي: مؤسسة النداء، ط 1، 1424ﻫ / 2003م.
ـ الإسلام والأديان دراسة مقارنة / مصطفى حلمي، ط1.ـ الإسكندرية: دار الدعوة، 1411ﻫ / 1990م.
ـ إظهار الحق / رحمة الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي، دراسة وتحقيق الدكتور محمد أحمد محمد عبد القادر ملكاوي. ـ الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1410ﻫ/ 1989م.
ـ إفحام اليهود وقصة إسلام السموءل ورؤياه النبي صلى الله عليه وسلم / السموأل بن يحيى المغربي، تحقيق محمد عبد الله الشرقاوي، الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية و الافتاء و الدعوة والإرشاد، ط2، 1407ﻫ.
ـ الانتصار للقرآن / أبو بكر بن الطيب الباقلاني، تحقيق محمد عصام القضاة، عمان: دار الفتح للنشر والتوزيع، وبيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر و التوزيع، ط 1، 1422ﻫ/ 2001م.
ـ بحوث في مقارنة الأديان/ محمد عبد الله الشرقاوي القاهرة:
دار الفكر العربي،1420ﻫ /2000م.
ـ تأثر اليهودية بالأديان الوثنية/ فتحي محمد الزغبي، طنطا: دار البشير للثقافة و العلوم الإسلامية، ط1،1414ﻫ / 1994م.
ـ تاريخ الأدب العربي / بروكلمان، ترجمة عبد الحليم النجار، ط4، القاهرة: دار المعارف.
ـ تاريخ القرآن / تيودور نولدكه، تعديل فريدريش شفالي، نقله إلى العربية جورج، بالتعاون مع عبلة معلوف تامر، خير الدين عبد الهادي، نيقولا أبو مراد، ط1، بيروت: مؤسسة كونراد، 2004م.
ـ تفسير التحرير و التنوير / محمد بن الطاهر بن عاشور، تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع.
ـ تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل آي القرآن / محمد ابن جرير الطبري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1412ﻫ / 1992م.
ـ التفسير الكبير / فخر الدين الرازي، ط3. ـ بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1420ﻫ / 1999م.
ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد/ يوسف بن عمر بن عبد البر، حققه مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، المملكة المغربية: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 2، 1402ﻫ / 1982م.
ـ التوراة و الأناجيل و القرآن الكريم بمقياس العلم الحديث / موريس بوكاي، ترجمة علي الجوهري، القاهرة: مكتبة القرآن.
ـ الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي / محمد بن سورة الترمذي، تحقيق أحمد شاكر وغيره، ط2، القاهرة: شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1395ﻫ / 1975م.
ـ الجامع لأحكام القرآن / محمد الأنصاري القرطبي، حققه أحمد عبد العليم البردوني.
ـ حاضر العالم الإسلامي / لوثروب ستوارد الأمريكي، ترجمة عجاج نويهض، وفيه فصول وتعليقات بقلم شكيب أرسلان، دار الفكر للطباعة والنشر.
ـ دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين / محمد الغزالي، القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع، ط2، 1997م.
ـ الرقة والبكاء / عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي بن قدامة، تحقيق محمد خير يوسف.
ـ سنن ابن ماجه / محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث.
ـ سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق كمال يوسف الحوت، ط1، بيروت: دار الجنان، ومؤسسة الكتب الثقافية،1409ﻫ / 1988م.
ـ سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي / اعتنى به ورقمه وصنع فهارسه عبد الفتاح أبو غدة،ط3، بيروت: دار البشائر الإسلامية،1409ﻫ /1988م.
ـ شبهات مزعومة حول القرآن الكريم وردها / محمد صادق القمحاوي، 1389ﻫ / 1978م.
ـ شرح السنة /محمد بن الحسين بن مسعود الفراء البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط و محمد زهير الشاويش، ط/1، بيروت: المكتب الإسلامي، 1400ﻫ/ 1980م.
ـ صحيح البخاري / محمد بن إسماعيل البخاري، استانبول: المكتب الإسلامي.
ـ صحيح سنن ابن ماجه/ محمد ناصر الدين الألباني، ط1، الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، 1417ﻫ.
ـ صحيح مسلم / مسلم بن حجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الرياض: دار الإفتاء، 1400ﻫ.
ـ صحيح مسلم بشرح النووي/ الرياض: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء و الدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
ـ الطبقات الكبرى / محمد بن سعد الزهري، بيروت: دار إحياء التراث الإسلامي.
ـ الطريق إلى مكة / محمد أسد، ترجمة عفيف البعلبكي، بيروت، ط1، 1956م.
ـ فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن المسمى بـ المسند الجامع/ عبدالله بن عبد الرحمن الدارمي، بيروت: دار البشائر، ومكة: المكتبة المكية، 1419ﻫ / 1999م.
ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل / علي بن أحمد بن حزم الظاهري، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، ط/ 2، أعيد طبعه بالأوفست، 1395ﻫ / 1975م.
ـ قاموس الكتاب المقدس / بطرس عبد الملك، وجون ألكسندرطمسن، و إبراهيم مطر، بيروت: مكتبة المشعل، ط6، 1981م.
ـ قصة الديانات/ سليمان مظهر، القاهرة: مكتبة المدبولي، 2002م.
ـ قصة الحضارة / ول وايريل ديورانت، تقديم محيي الدين جابر، ترجمة زكي نجيب محمود، بيروت: دار الجيل، 1408ﻫ / 1988م.
ـ القواعد والإشارات في أصول القراءات / أحمد بن عمر الحموي، طبعة دار القلم، دمشق،
ـ كتاب المصاحف /عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405ﻫ/ 1985م.
ـ الكتاب المقدس ـ العهد القديم ـ/ دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، بدون تاريخ.
ـ الكفاية في علم الرواية /الخطيب البغدادي، تقديم محمد الحافظ التيجاني، ط1، القاهرة: مطبعة السعادة.
ـ ما جاء عن ابن مسعود في المعوذتين نموذجا ـ عرض ومناقشة وترجيح ـ/ عيادة الكبيسي، ضمن كتاب مؤتمر (القرآن الكريم و الجهود المبذولة في خدمته من بداية القرن الرابع عشر الهجري إلى اليوم)، الشارقة: جامعة الشارقة، 2004م.
ـ مباحث في علوم القرآن / مناع القطان، الرياض: مكتبة المعارف للنشر و التوزيع، ط1، 1413ﻫ / 1992م.
ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين الهيثمي،
دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط/ الثالثة، عام 1402ﻫ، 1982م.
ـ محاضرات في النصرانية / محمد أبو زهرة، ط4. ـ الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية و الإفتاء والدعوة والإرشاد، 1404ﻫ.
ـ المدخل لدراسة القرآن الكريم / محمد بن محمد أبو شهبة، بيروت: دار الجيل، 1412ﻫ / 1992م.
ـ مذاهب التفسير الإسلامي / جولدتسهير، دار اقرأ بيروت، ط2، 1402ﻫ / 1983م.
ـ المستدرك على الصحيحين / محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري، بيروت: دار الكتب العلمية.
ـ المستشرقون و القرآن الكريم/ محمد أمين حسن محمد بني عامر، الأردن، إربد: دار الأمل للنشر و التوزيع، ط 1،2004م.
ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل / بيروت: دار صادر، (د.ت).
ـ المصنف / عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط2، 1403ﻫ / 1983م.
ـ المعجم الكبير / الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، بغداد: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
ـ مقارنة الأديان/ أحمد شلبي، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ط12، 1997م.
ـ موسوعة المستشرقين /عبد الرحمن البدوي، بيروت: دار العلم للملايين، 1993م.
ـ نقد الخطاب الاستشراقي / ساسي سالم الحاج، دار المدار الإسلامي، 2002م.
ـ نصب الراية لأحاديث الهداية / عبد الله بن يوسف الزيلعي، القاهرة: دار المأمون، ط1، 1357ﻫ.
ـ اليهود بين القرآن والتوراة ومعطيات التاريخ القديم / عبد الرحمن غنيم، دمشق: دار الجليل، ط1، 2000م.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك