الإصلاح والمصالحة: سؤال النّهوض وسؤال الأولويّات
د. رضوان السيّد
يواجهُ المسلمون على مشارف القرن الحادي والعشرين تحدّياتٍ مختلفة ناجمة عن التحوّلات الكبرى، التي تُحيط بهم، وتعملُ في مجتمعاتهم وأفكارهم ومصالحهم وعلاقاتهم بالعالم. وما عاد مُمكناً القول بأنّ تلك التّحدّيات خارجيّةٌ ومفروضةٌ، إذ إنّ التّغيير اليومَ جزءٌ من عمليّة البقاء، وضرورةٌ من أجل بلوغ الأهداف المنشودة في الجدّيّة والتقدّم والمشاركة في رَفاه البشريّة وأَمْنِها ومستقبلها. وبذلك تُصبحُ القضايا والمشكلات عوائق تَحُولُ دون انطلاقةٍ نهضويةٍ نحن في أشدّ الحاجة إليها. إنّ المطلوبَ اليومَ اجتراح نهوضٍ كبيرٍ يُخرجنا مرّةً واحدةً من أهوال المرحلة الماضية وآثارها الباقية. وذلك لجهة الوقائع والأحداث والمآسي الموروثة من القرن العشرين المنقضي، ولجهة السَير في الآليّات والأولويّات التي تُعيدُنا إلى التّاريخ والحاضر، كما أخرجتْنا العقودُ الماضيةُ منهما فليس من الأحاجي القول: إنّ المشـكلات والتحدّيات تُواجِه عمليّات النّهوض وتُعيقُها؛ إذ إنّها إمّا جمودٌ على القديم والقائم والمستمر، وإمّا توهُّمُ قطع أو حَرْق المراحل من طريق الأيديولوجيات الراديكالية اليمينية أو اليسارية أو الإسلامية. وليست تلك الإشكاليات أحاجي أو فرضيات؛ بل هي إدراكاتٌ مستقرّةٌ في الوعي وفي تفسير الواقع والرضا عليه أو إرادة تغييره. وهناك وعيٌ غلاّبٌ لدينا بضرورة التّغيير وضرورة النّهوض. وأرى أنّ هناك خمسَ قضايا يتنازعُها أو يتنازعُ فيها الوعي والواقع، ولا يُمكن تصوّر المستقبل الناهض دونما تأسيسٍ عليها؛ وهي:
أولاً: قضيّة الوحدة
يقول الله - سبحانه وتعالى-: ﴿إنّ هذه أمتكم أُمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون﴾ والوَحْدةُ المعنيّةُ وَحدةُ الفكر والاعتقاد، ووحدةُ التوجُّه، ووحدةُ المصير. فليس بين المسلمين اختلافاتٌ في الأصول الاعتقاديّة، ولا في الشّعور بالذات أو الثقافة أو الانتماء. ومع ذلك فهم يُعانون من التّفرقة الطائفيّة والإثنيّة، ويكاد يستنزفون قُواهُم الأساسية في شكوكٍ ونزاعاتٍ واتّهاماتٍ وأعمالٍ متنافرة، تَسُدُّ عليهم آفاقَ التفكير المشترك، والتوجّه المشترك، والتّعاون من أجل البقاء. وقد قال - صلوات الله وسلامُهُ عليه-: «كلّ المسلمِ على المسلم حرام، دمُهُ ومالُهُ وعِرضُه»...
ثمّ إنّ كفَّ اليد واللّسان ليس كافيًا لتحقيق الوحدة التي فرضها الله ورسوله. فالرّسول -صلوات الله وسلامُهُ عليه- يقول "مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحُمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائر الجسد بالحُمى والسهر". فقضايا المسلمين ومشكلاتهم تقتضي توحُّدًا من حولها، وسعيًا حثيثًا للتصدي لها، وتضامنًا يعين على تحقيقها، فكما أنَّ الانقسامَ غيرُ جائزٍ؛ فغير الجائر أيضًا الإعراضُ عن العناية بقضايا المسلمين والتضامُن من أجل تحقيقها. ولا يحسبنَّ أحدٌ منّا أنّ دينه يَسْلَم، أو أنَّ مصلحته تتحقّق، في مواجهة إخوانه، أو بتجاهُل النوازل الواقعة بهم. وقد مَثَّلَ لنا رسولُ الله -صلّى الله عليه و سلم- لهذه الجهة بمَثل السفينة ذات الطبقتين التي يؤدِّي الخَرقُ فيها هلاك سائرَ المسافرين على ظهرها، إيذانًا بالمسؤوليّة المشتركة تُجاه ما يحدُثُ بالأمّة وعليها من شرورٍ. وهكذا فالوحدة مطلبٌ قرآنيٌّ، ونبويٌّ، وعمادُها أمران: الوعيُ والعمل. الوعي بمقتضيات الدّين ومصالح الأمّة، والعمل من أجل التّضامن في السّرّاء والضّرّاء. وقد انعقدت مؤتمراتٌ كثيرةٌ طوالَ القرن العشرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية. وإذا كان المُرادُ بالمذاهب المدارس الفقهيّة المعروفة؛ فالذي أراهُ أنّه لا حاجة للتقريب أو التوفيق بينها فهي اختلافاتٌ في الاجتهادات والعادات والأعراف ومناهج الفهم والإدراك والاستنباط. وقد كفت منذ زمنٍ طويلٍ عن أن تكونَ داعية فُرقة. وقد رأيتُ أساتذةً كباراً يستخدمون مناهج الفقه المقارن للإفادة من سائر المذاهب. وفي المجمع الفقهي عملٌ كثيرٌ وكبيرٌ على المدارس دونما تفرقةٍ أو تمييزٍ.
أمّا إذا كان المقصودُ بالمذاهب المسائل العقديّة، أي الاختلاف السنّيّ/الشّيعيّ؛ فإنّه لم يَعُدْ حاضراً بقوّةٍ، وإنّما يحضُرُ كواجهةٍ عندما يختلف المسلمون على أمورٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واستراتيجيّةٍ وقوميّةٍ...
وفي العالم دعواتٌ قويّةٌ اليوم لتحكيم صندوق الاقتراع والانتخابات، وما عاد ممكناً بلوغ أيّ أمرٍ بالقوة حتّى في حالة الغَلَبة؛ لأنّ الاستقرار لن يتحقّق للغالب بالقوّة إلّا لأمدٍ محدودٍ وبخسائر وأعباءٍ كبرى. وما دامت المسائل مسائل صراعٍ على السّلطة والنّفوذ؛ فإنَّ الأُمم الكبرى أَوجدت آليّاتٍ لمعالجة قضايا الصّراع هذه في المؤسّسات الإقليميّة والدوليّة. ولدى العرب والمسلمين مؤسّساتهم الخاصّة لذلك، كما أنّهم مشاركون في المؤسّسات الأُخرى الأوسع. وقد رأينا انتكاساً خطِراً في الاتّحاد الأوروبيّ الذي كان مضربَ المَثل في التقدّم التدريجيّ باتّجاه الوحدة الكاملة. لكن ينبغي ألّا يجعلَنا ذلك نعتقد أنّ التوحّد متعذّرٌ، لأنّ الاتّحاد الأوروبيّ يُمكن أن يتمهَّل لكنّه لن يتفكّك. لذلك يُمكن العمل على تقوية مؤسّسات التّقارب العربيّ والإسلاميّ لتخفيف عمليّات التنافُس والصّراع. ولستُ هنا في معرض دراسة وسائل التوحّد السياسيّ والاقتصاديّ؛ بل أنا بصدد بيان أنّ التفرقة ليست ذات أساسٍ دينيٍّ. وبذلك لا تبقى غير منازع السّلفيين المتشدّدين في التكفير والتجريم والتجريح. وهذه فضلاً عن ضآلة حجم المشاركين فيها، لا خروجَ من أذاها إلاّ بالكفّ عن لحس المبرد من طريق وعي المسلمين بأنّ الإسلام لا تستطيع امتلاكه أيّة فئةٍ من فئاته.
ثانيًا: قضية التغيير والتجديد والإصلاح
والواقع، والحقُّ يُقال، أنّ المسلمين عملوا من أجل التغيير والاجتهاد في الدّين والدّنيا، أكثر ممّا عملوا من أجل التوحّد والتّضامُن في هذا العصر. ومع ذلك فقد اتّخذ التّغيير مساربَ ما خدمتْ الأهداف المنشودة أحيانًا، كما أنَّ التجديد ظلَّ قاصرًا في أحيانٍ أُخرى. وقد أَدَّى الخَطلُ والقصور معًا إلى ارتباكاتٍ كثيرةٍ باتّجاه الغُلُوّ في المحافظة والجمود على القديم، أو التّطرّف الذي يهجُر القديم، والمُتعارف عليه بين المسلمين وبين النّاس بتاتًا، أو المراوحة بين هذا وذاك دونما منهجٍ يستند إلى وعيٍ بالوسطيّة والإسلاميّة الحافظة للدّين، والمطوِّرة للمصالح على أساس التضامُن والتجدّد. وهكذا فهناك ضرورة للتغيير باتّجاه الإصلاح، وقد لخَّص الله - سبحانه وتعالى- دعوة النبيين على لسان أحدهم بالقول: ﴿إنْ أُريدُ إلاّ الإصلاح ما استطعتْ﴾. وهذا التّجديد المقصود لا يكون إلّا ذاتيًّا: ﴿إنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم﴾. فالتحرّك باتّجاه الإصلاح والصّلاح ينطلق من الداخل، ويلتزم التوسُّط في الفكر والقول والعمل لكي يجتمع الناس من حوله، ذلك أنَّ "المنبتَّ – كما قال صلوات الله وسلامه عليه- لا أرضًا قَطَع ولا ظهرًا أبقى". والتحرك الإصلاحيُّ أخيرًا يلتزم في الوسيلة والهدف إخراجَ الأمة من الضعف إلى القوة، وتدبير الشّأن العامّ والخاصّ بما يُصْلحُهُ، أي ما يُلائِمُ أوضاع المسلمين، وأوضاع العالَم الذي يعيشون فيه.
وكما يكونُ الإصلاحُ خروجًا من الجمود ومن التطرف؛ فإنه وبمنهجيته الوسطية يغيّرُ الوعيَ من طريق تغيير الواقع. وهذا معنى قوله –تعالى-: إنه سبحانه لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم. ولذلك يكون التجديدُ الدينيّ والثقافيّ مُجْدياً بقدر ما يكونُ شاملاً، مستندًا لإرادة ٍ جماعية. وعندما يكون شاملاً تكونُ له علاقةٌ قويةٌ بإعادة بناء الوحدة والتضامن. فالوسائل التقليدية في حفظ الوحدة ما عادت قادرةً على مواجهة المشكلات، والاتجاه للتشدُّد والتطرف بحجة تطهير الانتماء الإسلامي غُلُوٌّ وليس التغيير الذي حثَّ الله –سبحانه- المسلمين على اتخاذه نهجًا من أجل الإصلاح، والبناء المستمرّ والمتجدد للتضامُن غايات ووسائل.
وربْطُ التغيير بالإصلاح ليس ربطاً ذهنياًّ أو نظرياًّ. فهناك التغيير الثوريُّ والمدمِّر، وهناك التغيير الهادئ والمعمِّر. والذي جرى عندنا في العقود الستة الأخيرة محاولاتٌ للتغيير الراديكاليّ، زادت من القطائع سواءٌ من جهة الحاكمين أو من جهة الإسلاميين واليساريين. وقد كابرنا عندما طالبنا بالإصلاح الدينيّ بعد الحادي عشر من أيلول؛ بحجة أنّ المراد بنا أن نغيّر ديننا، أو لأنَّ التغيير لا يكونُ من الخارج. وأنا على يقينٍ أنّ الأزمة الراهنة ليست ناجمةً عن الراديكاليّة الدينيّة، بل إنّ تلك الراديكاليّة إحدى نتائجها. فللأزمة الراهنة سببان: استخدام الإحيائيّة الإسلاميّة في العقود الماضية من جانب أطراف الحرب العالميّة الثانية. والسبب الثاني وجوه القصور والفشل في التّجربة السياسيّة العربيّة ممّا أدّى إلى تضييق المجال السياسي وخروج ذوي الحساسيّة الدينيّة من الشباب إلى الهوامش. ولذا، فإنَّ العلاجَ للثوران الدينيّ يكونُ بالإصلاح في إدارة الشّأن العامّ، وتجديد الاعتبار للمؤسّسة الدينيّة من طريق الاستقلال والتجديد والتحوّل إلى قوّةٍ من قوى المجتمع المدنيّ لا تتبعُ الدولة استتباعاً، ولا تخرجُ عليها استبدالاً لنفسها بها. فالتغيير الدينيُّ والسياسي ضروريّان، لكي يتكاتفا وينسجما، وليس من أجل استقواء أحدهما على الآخَر أو إلغاء أحدهما لصالح الآخَر. فالتغيّر بالإصلاح، والإصلاحُ بالتغيير وفي الوعي قبل الواقع.
ثالثًا: قضية المشاركة والإسهام في حاضر العالم ومستقبله
إنّنا نعني بالمشاركة الإقبال على الإسهام الإيجابيّ للوصول إلى شراكةٍ مؤثّرةٍ تُخْرج المسلمين من الاستضعاف وضآلة الفعاليّة في عالم الأفكار، كما في عالم السياسات. وتُخرجُهُم من جهةٍ أخُرى من توجّهات الانعزال واستقطاب المؤامرة والولاء والبراءة، فالواقع أنّه لا علّة لانجراحات الوعي هذه غير الاستضعاف والإحساس بالحصار. يُحدّد القرآنُ الكريم مهمّةَ المؤمنين تُجاه أنفسِهم وتُجاه العالم بأنّها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأساسُها الإيمانُ بالله: ﴿تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾. والمعروفُ أخلاقٌ وممارساتٌ، وكذلك المنكر المنهيُّ عنه أخلاقياًّ وأعمالاً، تخرجُ على دواعي ودوافع المألوف والمحمود من الله والناس. وهذا معنى الفكرة الكبرى التي تحملُها الأُمَمُ في المراحل الحاسمة من التاريخ، فتتحدد من خلالها مواقعُها الحاضرةُ والمستقبلية. والواقعُ أنّ الغيابَ عن المشاركة في تحديد المعروف في عالم الأفكار والسياسات، يؤدّي إلى الانقماع في شِبَاكِ المنكَر دينيّاً وبشَريّاً. كما يؤدّي إلى غلبة تكتيكات الدّفاع عن الذات والهويّة.
والإسلام يُشرِّع وسائل للدفاع ومكافحة الحصار. لكنّه يؤسّس لمشروعٍ عالميٍّ أعاد بناء الإنسان، والتركيبة الاجتماعيّة/ الثقافيّة للقرون المتوسطة، وظلّ يُطوّرُ من ذاك المشروع وأدواته حتى مشارف القرن التاسع عشر الميلاديّ. ومنذ ذلك الحين تراوحت أفكارُ المسلمين وأساليبهم للتعامل مع متغيّرات العالم بين الاقتباس والتناقض، أو المجابهة والتقاطع، أو اليأس والانعكاف على الذات. وكان ذلك كلُّه تعبيرًا عن ردود أفعالٍ قاصرةٍ من جهةٍ، ومعطِّلة للمشروع الإسلاميّ العالميّ من جهةٍ ثانيةٍ.
إنّ المطلوب والمرغوبَ اليومَ، والذي يُخرجُ من الضعف والاستضعاف هو حَمْل الرسالة الإسلامية العالمية من جديد، وتقديم الفكرة الكبرى من جديد، والعمل الجادّ من أجل الشراكة التي تضعُ شأننا العامّ والكبير في أيدينا، وتُخرجُ العالَم من الخوف منا، كما تُخرجُنا من خوف العالَم واستهدافه. فالتجديد الثقافي والفكري الإسلامي، والتكتل العربي والإسلامي، والسّوق العربية والإسلامية؛ كلُّ تلك وسائل ناجعةٌ لبلوغ أُفُق المشاركة، كما فعلت الأُمم والشعوب الكبرى وتفعل. وهذا الهجوم الإنسانيُّ والإنتاجيُّ والثقافيُّ هو خيرُ وسائل الدفاع، وهو الذي يجّدد الهوية والانتماء، ويقوّي الوحدة والتضامن. فالهوية المزدهرةُ هي التي تحيى وتَقْوى بالعمل في العالَم ومعه وليس في مواجهته. وقد جَرَّبْنا ممارسات التبعية والاستتباع فكانت مأساوية، وجربنا ممارسات المواجهة والتطرف فكانت مأساوية أيضًا.
لقد خاضت عدةُ دولٍ عربيةٍ و إسلاميةٍ تجربة تعريب مناهج التعليم، أو كتابتها وتعليمها بلغاتها الوطنية. وبعد عدة عقودٍ جرى الإعلانُ بوسائلَ مختلفةٍ عن فشل هذه التّجربة، وعن العودة للّغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة في الحقول العلميّة البحتة والتبطيقيّة. وما كان ذلك إلّا لأنّ العربَ والمسلمين، ما شاركوا في القرنين الأخيرين في صناعة المعرفة والمعروف في العالم، ولذلك ما كان من حقّهم أو ما كان بُوسعِهِمْ البلوغُ بلغتهم الوطنية درجة النديّة لغياب المشاركة الفاعلة والبنّاءة. ونعرفُ من تجربة النهوض في القرن التاسع عشر أنّه جرى التركيز على تقوية الجيش، وقد كان ذلك مفيداً للحفاظ على الاستقلال والسيادة. لكنّه لم يكن كافياً، بدليل أنّ بلداننا جميعاً تقريباً جرى غزوُها واحتلالُها. وقد استنتج الإسلاميون من ذلك أنّ التغريب شرٌّ كلُّه. وما كان ذلك فهم اليابانيين والصينيين والهنود الآن. فقد انهزموا في ساحات الوغى، لكنّهم طوَّروا بقوّة الدولة إمكانيّاتهم العلميّة والمدنيّة. وأكبر فخارٍ للصين اليوم أنّ نسبة النموّ الاقتصادي فيها تتراوح بين 10و12 بالمائة، وأنّها استطاعت خلال خمسة عشر عاماً من الاندفاع النهضويّ، إخراجَ 300 مليون من مواطنيها من تحت خطّ الفقر والعَوَز.
لقد بتنا نعرفُ اليومَ أنّ الضعفاء لا حسابَ لهم؛ بيد أنّ القوة التي لها حسابٌ في عالم اليوم هي قوةُ العمل والعطاء وخدمة النّاس، والعمل على تحسين شروط حياتهم وتأهيلهم وتمكينهم من المشاركة في صنع المستقبل الآخر مع العالَم وليس في مواجهته.
رابعًا: الإصلاحُ والمصالحة بين المرجعيّات وبيئات اتخاذ القرار
لقد انهمكت طلائع من شبابنا في العقود الأربعة الماضية في صراعٍ مع الأنظمة السياسية السائدة. وضاعت في جولات الكرّ والفرّ حياة وحريّات ومواهبُ مئات الألوف من سائر الفئات في مجتمعاتنا ودُوَلِنا. وقد نبعت إرادة المواجهة وممارساتها في الأصل من الوعي القائل بوجود خطرٍ ماحقٍ على الإسلام آتٍ من جهة الغرب والمتغربين. وكان المُرادُ صَونَ الهويّة من هذا المرض المستشري، من طريق التربية والتحصين والاعتصام بالأصول الأولى. ثمّ تطوّر الأمر إلى رؤيةٍ تقول: إنّ الإسلام أُخرج من الدولة، وهو يوشك أن يُخرجَ من المجتمع إن لم يتمَّ الاستيلاء على الأمر السياسي لإعادة فرض الشّريعة، وإقامة الدولة الإسلاميّة. وبذلك صار الصّدامُ بين الجماعات الإسلاميّة والدول القائمة لا مَفرَّ منه. وقد استنزف ذلك الصّراعُ الطويل الأمد، خلال الحرب الباردة وبعدها، طاقاتٍ كبرى من طاقات الأمّة، كما سبق القول، وتسَبَّب في تناقُضاتٍ ومشاعر منقسمة في دواخل الأفراد، وبينهم وبين الدول والكيانات. والحقيقة أنّ دُوَّلَنا وأنظمتنا تحتاج إلى الإصلاح والتطوير باتّجاه صون المصالح الوطنية والقومية، وتحسين شروط حياة الناس. ولا شكّ أنّ هذا هو ما ينبغي التركيزُ عليه، وليس الذّعر بأنّ الإسلام مُهدَّدٌ، وأنّه لا بد من إسقاط المؤامرة عليه وعلينا بالاتّجاه لِمُصادمة العالم، ومصادمة الأنظمة. ولذلك لا داعيَ للاصطدام بالدولة، وإضعاف فكرتها، واستنزاف طاقاتها، بحجة تنكُّرها للإسلام، وضرورة فرضه عليها. فمشكلاتنا بالداخل ومع الخارج مشكلاتٌ اقتصاديةٌ وسياسيّة واستراتيجيّة، وليست مشكلاتٍ دينيّة. ولذا لا بدّ من إنهاء النزاع بين الدّين والدولة، وهو النزاع الذي أحدثه ذاك الوعي المغلوط، وتلك الممارسات العشوائيّة. فلا مصلحة لأحدٍ منّا بإضعاف فكرة الدولة في أوساطنا، ولا بزعم إخراج الإسلام من مجتمعاتنا ودُوَلنا، وضرورة عودته أو إعادته بالقوة أو بالحُسنى. فالإسلام في حالة نهوض، ونحن نبلُغُ خُمس سكّان العالم اليوم، والآخر إلى زيادة. والمطلوب تصحيحُ تجربتنا السياسية، وتقوية الدولة وفكرتها للتمكّن من صَون المصالح، وليس العكس. وها هي ذي الأُمَمُ العزيزةُ والقويةُ اليومَ تعتمدُ على النُّظُم القوية، والتي تتجمع في تكتلاتٍ إقليميةٍ لتشاركَ في العالم بقوة؛ فتحمي بذلك مصالح مجتمعاتها، وتطوّرها نحو الاتجاه الأفضل.
إنّنا نطمحُ لعلاقةٍ وثيقةٍ وفُضْلى بين مؤسساتنا الدينية، والحركات الإسلامية المعتدلة من جهة، والأنظمة والكيانات والدول من جهة ثانية. ولا عُذْر لأي طرفٍ في استدامة الصراع إمّا بوهم الدفاع عن الإسلام، أو بوعي الحفاظ على السلطة وتأبيدها. وهناك مسؤولياتٌ كبرى تقع على عواتقنا جميعًا إذا استمرت علائق الشك والتشكيك والملاحقة والتحريض والتعريض بين مَنْ يعتبرون أنفسهم ممثلين للإسلام، والآخرين الذين يعتبرون أنّ سلطتهم مهدَّدة بسبب هجمات أولئك الكلامية أو الانتحارية.
لدينا تجربةٌ وسيطةٌ في الانسجام بين الدّين والدولة، أو بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية. وهي تجربةٌ قائمةٌ على تقسيم العمل، وليس على الفصل بين الدين والدولة. وحتى مقولة ابن خلدون: إنّ الدولةَ عندنا أساسُها العصبيةُ المستندةُ إلى دعوةٍ دينية، هي مقولةٌ خبيءٌ، كما يقول أبو العلاء. ففي العصبيات الدوليّة المغربيّة، ما تولّى الفقيهُ القائمُ بالدّعوة بالشأن السياسيّ. ولذلك فإنّ فكرة الحاكمية عند الأصوليين السنيين، وفكرة ولاية الفقيه عند الأصوليين الشيعة، مقولتان دمجتا، تظلمان الدولة والدّين، والدولة أكثر من الدّين. فالإسلام والحمدُ لله في ازدهارٍ وانتشار، ولا خوفَ عليه ولا على زوالِه أو ضَعفه. أما الضّعيفُ فهو فكرةُ الدولة التي ما تفتأ تتقاتلُ مع الإحيائية الإسلامية بعد أن ضعُفت المؤسسةُ الدينية حتى كادت تزول في بعض الدول والبلدان. وليس من الحقّ في شيءٍ ضرب الدولة أو إزاحتها لصالح الإسلاميين أو دُعاة المجتمع المدني بحجة فشلها وإعاقتها للتطور والتطوير. ففي سائر أنحاء العالم قادت الدولةُ وتقودُ النهوضَ الاقتصاديَّ والسياسي، ولا بد أن تكونَ لها الوظائفُ نفسُها في مجالنا. فلتستعدْ فكرةُ الدولة احترامها وازدهارها بصيرورتها دولة الناس، وأنا واثقٌ أنه لا خوفَ منها على الإسلام.
خامسًا وأخيرًا: قضيّة المرجعيّة الدينيّة والإسلاميّة
فقد شاع في الأوساط العامّة منذ أكثر من قرنٍ أنّه لا مرجعيّة دينيّة في الإسلام تُشبه الهرميّة الكاثوليكيّة أو اليهوديّة أو الديانات الأخرى غير التوحيديّة.
بيد أنّ الحَقَّ وجودُ المؤسسة الدينية منذ عصورٍ متطاولة، وهي تُمارسُ مهامَّ أداء الشّعائر والتّعليم والفتوى ورعاية الأوقاف. وإنّما الفرقُ بينها وبين المؤسسات في الأديان الأُخرى أنّها متعدّدة ومفتوحة، ولا تُمارسُ مركزيةً معصومةً أو شبه معصومة. لكنّها ضعُفت بسبب استتباع الدول لها، وخروج الحركات الإسلامية الإحيائية عليها، وعجزها عن مواجهة التّحدّيات الداخليّة والخارجيّة. وقد تعدّدت محاولات واجتهاداتُ الإصلاح من مثل إنشاء وزارات الأوقاف، والمجامع الفقهية، وهيئات وجمعيات الدعوة والإرشاد. بيد أنّ ذلك لم يكن كافيًا؛ وبخاصةٍ بعد بروز الحاجة لمواجهة المشكلات على المستوى العالمي. فالذي نشكو منه اليوم، ليس ضعف الإسلام أو المؤامرة عليه؛ بل عجز المؤسسات التقليدية والجديدة عن استيعاب ظواهر اليقظة الإسلامية، وعجزها عن القيام بالمهامّ الضرورية على المستوى العالمي؛ سواءٌ لجهة الحوار مع الأديان والثقافات الأُخرى، أو لجهة تقديم المبادرات والاجتهادات المتعلقة بحياة المسلمين في عصر التحولات الكبرى: مَنْ يملك سلطة الفتوى اليوم؟ وكيف نواجهُ التطرف والتشدد باسم الإسلام؟ وماذا نفعل من أجل إعادة تكوين المرجعية أو المرجعيات في عمليات الصراع الدائر على الإسلام؟ في ظروف الازدهار والتفتُّح تكونُ التعددية المرجعية ميزةً وتقدمًا. وهذا التعدد هو الذي حال دون الانقسام قرونًا طويلة. بيد أننا نمرُّ في أزمةٍ كبرى ناجمة عن ضغوط الحداثة، وتحول الإسلام الصَحَوي إلى مشكلةٍ عالمية. فلا بدَّ من تفكير جديدٍٍ ومُبْدعٍ في قضايا المرجعية، وفي علاقة المرجعيات الدينية الوطنية بالمحلّي والعالمي.
تواجه المؤسسةُ الدينيةُ إذن مشكلاتٍ متعددة تتمثل في العجز من جهة، وفي العلاقة المشْكلة بالدولة من جهةٍ ثانية. والأمر يتطلب مصالحةً مع العصر، ومصالحةً أُخرى مع الدولة. المصالحةُ مع العصر تقتضي إكمالَ عمليات "تجديد التقليد" أي الإصلاح والتغيير لكي تتمكن من القيام بالمهامّ التقليدية والمستجدة أو المتجددة. لا بد أن يستولي الإصلاحيين بالكفاءة والاستنارة والاستقلالية على إدارة الشأن الديني، فيتحركوا بوصفهم قوةً كبرى ومؤثرة، وسلطة أخلاقية من سلطات المجتمع المدني. بيد أنّ ذلك رهنٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بانتظام العلاقة مع الدولة. وقد سادت أنماطٌ للعلاقة ما كانت في أكثر الأحيان ناجحةً أو مساعدةً للطرفين: الاستتباع أو الإلغاء أوالدمج. وقد أسهم التحدي الأصولي في إضعاف مرجعية المؤسسات الدينية وانتهاك سمعتها أيضا، لكن في كلّ الحالات حدث ثَوَرانٌ أصولي وحدثت اضطراباتٌ دينية. وقد أدّى ذلك إلى انشغال المؤسسة بنفسها، والتهائها عن تجديد بِناها، وممارسة مهامّها الرمزية والوظيفية، وتحديها من جانب الأصوليين. فلا بد من إصلاح، ولا بد من مصالحةٍ وانسجام؛ أو تظلّ الأصوليات طليقة السراح باسم الانتقام للدين.
إنّنا نواجهُ دفعةً واحدةً قضايا وجودية كبرى، تتعلق برؤية الذات والدور والعالم. والتلاقي والتشاور والمصارحة؛ كلُّ ذلك ضروريٌّ للتفكير في المشكلات، وضروريٌّ للتشخيص الصحيح، وضروريٌّ أخيرًا للتصدي الناجح لقضايا الحاضر والمستقبل.
المصدر: