الانترنت وثقافة المجتمع
وبذلك، فقد أحدثت ثورة كبرى وطفرة واسعة في أساليب التبادل العلميّ والثقافيّ وعالم الاتّصال، وباتت الدول، وخاصّةً المتقدّمة منها تتسابق، وبشكلٍ كبيرٍ، في ما بينها، من أجل تطوير أساليب استخدامها لشبكة الانترنت وإيجاد وسائل أخرى لزيادة فاعليّة استخدامها والاستفادة القصوى منها، ممّا جعل منها عبارة عن منظومة متكاملة للاتّصال والتّبادل العلميّ والثقافيّ والفكريّ دخلت معظم مرافق المجتمع وعملت على تطويرها والرقيّ بها.
وشبكة الانترنت عبارة عن شبكة ضخمة من أجهزة الحاسوب المرتبطة بين الكثير من دول العالم ممثلة بالمؤسّسات العلميّة والثقافيّة والاقتصاديّة والأفراد، وتمكن هؤلاء المستخدمسن والمرتبطين في شتّى أنحاء العالم من الاتّصال في ما بينهم من خلال إرسال واستلام الرسائل وتبادل المعلومات المختلفة في جميع صنوف العلم والمعرفة والثقافة.
وأصبح عالمنا المعاصر يطلق عليه اسم عالم الانترنت، لأنّ اكتشاف شبكة الانترنت كان أحد المحطّات الرئيسة والثورات الكبرى في الحضارة الإنسانيّة، والتي أوجدت بصماتها الواضحة عليها.
لقد أصبحت شبكة الانترنت عبارة عن قناة معرفيّة هائلة الكمّ من المعلومات والأفكار، ساهمت بشكل كبير في ربط وترابط المجتمعات والأفراد، متجاوزة بذلك الحدود الجغرافيّة والمحدّدات السياسيّة والاجتماعيّة والمذاهب الفكريّة، وساهمت في تقارب الحضارات وتلاقح الأفكار بين الشعوب بمختلف قوميّاتها ولغاتها وأديانها، وهي وسيلة رخيصة الثمن وسهلة وخزّان كبير لحفظ المعلومات والبيانات في شتّى فروع العلم والمعرفة؛ وعليه، أصبحت الانترنت عبارة عن مكتبة رقميّة ضخمة تنقل للمسخدم المعلومات حين نشرها، وتسمح له بالاتّصال مع مختلف الجهات العلميّة والأكاديميّة والبحثيّة والاقتصاديّة والمجتمعيّة. وبذلك، فإنّ شبكة الانترنت قد أدّت إلى ظهور عالم جديد مجازيّ، إنْ صحّ التّعبير، هو العالم الافتراضيّ الذي بإمكان الإنسان فيه أنْ يعبر معظم الحواجز والممنوعات لتزداد معرفته واطّلاعه في شتّى مجالات المعرفة وشؤون الحياة.
لقد أصبحت شبكة الأنترنت منهلاً كبيراً لا ينفد للباحثين والمثقفين في جميع البلدان، ليتبادلوا في ما بينهم المعلومات والأفكار، وليستطيعوا من خلالها نقل ما يرغبون به من معارف وخبرات وثقافات إلى مجتمعاتهم، بدون قيود أو حواجز، وبالتالي العمل على نشرها في تلك المجتمعات، في ضوء رغباتهم وتوجّهاتهم الفكريّة والعقائديّة.
وساهمت شبكة الانترنت بصورة فاعلة في نشر الثقافة بين الشعوب، لأنّها وسيلة رخيصة وسهلة وحرّة غير مقيّدة للنّشر، لاتحتاج إلى تكاليف الطباعة والورق ومشاكل التوزيع، وبإمكان الجميع الوصول إليها، فيما لو توفّرت لديهم خدمات الشّبكة. كما أنّ فيها القابليّة الكبيرة المتاحة للناشرين لتحديث المعلومات بصورة فوريّة وسريعة، استجابةً للمتغيّرات الحاصلة في المعلومات التي نشروها سابقاً، وبدون أيّ تكلفة تُذكر أو قيود لغرض التّحديث.
ونتيجة لكون طبيعة المعلومات المنشورة والمتاحة عبر شبكة الانترنت غير محدّدة وغير مسيطر عليها من قبل جهة معيّنة، وبالإمكان الإضافة إليها في كلّ وقت، ومن أيّ مكان، فإنّ هذا شكّل رصيداً ضخماً للثقافة الإنسانية بكلّ مفاصلها، وأصبح بإمكان الكثير من النّاس الاطّلاع على هذه الثقافات المختلفة بصورة حرّة والاستفادة منها والتفاعل معها والاستفادة منها في تغيير وتطوير أساليب حياته الاجتماعيّة كعضو فاعل في المجتمع؛ ما ينعكس بالتالي بصورة واسعة على الثقافة العامة والخزين الحضاريّ للمجتمع، بما يرتقي به إلى مصاف المجتمعات المتطوّرة، إذا استطاع فعلاً توجيه هذه الثقافات بصورة فاعلة وإيجابيّة لغرض التطوير والبناء وتعزيز العادات والتقاليد الاجتماعية الحميدة والفاضلة.
ولكن هناك نقطة مهمّة وجوهريّة ينبغي الانتباه إليها وعدم إغفالها، وهي أنّ ليس كلّ ما هو منشور في شبكة الانترنت من معلومات وأفكار وآراء هي دقيقة وصالحة وفعليّة، ولا يُمكن الأخذ بها وتصديقها بصورة كاملة، دون فحص وتمحيص وتدقيق، لبيان دقّتها وصحّتها، لأنّ عدم إجراء ذلك سوف يؤدّي إلى انتقال أفكار وآراء ومعلومات وهميّة وغير صحيحة إلى المجتمع وانتشارها فيه، وبذلك تأتي بنتائج عكسيّة، سواء على صعيد البناء والتطوير أم على صعيد الفكر والثقافة والمعلومات المتداولة في المجتمع.
وهناك جانب مهم وأساسيّ ينبغي الالتفات إليه أيضاً والحذر الشديد منه، وهو انتشار المواقع الإباحيّة واللاأخلاقيّة والهدّامة بدرجة كبيرة جدّاً، مع إمكانيّة الوصول إليها بسهولة، بوجود إغراءاتٍ جاذبة تجذب الشباب وضعيفي النّفوس والالتزام الدينيّ والأخلاقيّ وبطرقٍ كثيرةٍ وأساليب متنوّعة، وقد تكون مشوّقة، ولكنّها هدّامة تعمل على هدم البناء والإرث الحضاريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ للمجتمع، من خلال انغماس بعض النّاس فيها وتفاعلهم معها والإدمان عليها؛ وهذا يؤدّي إلى عواقب وخيمة تعود بالضرر الكبير على المجتمع وتعمل على تلهية النّاس في أمور تافهة وسطحيّة وتبعدهم عن دورهم الحقيقيّ في الحياة، الذي يجب أن يقوموا به، من أجل بناء المجتمع وتطويره.
وفي مقابل ذلك توجد في شبكة الانترنت الكثير من المواقع العلمية والثقافية والدينية التي يمكن من خلالها الحصول على معلومات كثيرة ومفيدة في الجوانب المشار إليها، والتي يمكن من خلالها المساهمة في بناء شخصيّة الإنسان المثقّف الواعي الملتزم بتقاليد مجتمعه الفاضلة والصحيحة وتعاليم دينه ومبادئه، والتي يستطيع من خلالها الاطّلاع على آخر المستجدّات العلميّة والثقافيّة والفقهيّة، التي تحدث في العالم لتمحيصها وأخذ ما ينفعه منها لتخلق منه المواطن الصالح، الذي يكون عبارة عن بؤرة إشعاعٍ في محيطه العائليّ والاجتماعيّ، وبذلك تتوفّر له فرصة كبيرة لكي ينهل من منابع العلم والمعرفة في مختلف مجالاتها، وبصورةٍ ميسّرةٍ وسريعةٍ وقليلة الكلفة، وتجعله في تواصل مستمرّ مع ما يحدث حوله من أحداث ومستجدّات من الصّعوبة التعرّف عليها من خلال وسائل الاتّصال الأخرى.
وهناك جانب أساسيّ ومهمّ له علاقة بالجوانب الثقافيّة في المجتمع يمكن الاستفادة فيه من الخدمات التي تقدّمها شبكة الانترنت، وهو جانب التربية والتعليم، حيث قطعت الدول المتقدّمة شوطاً كبيراً في هذا المجال، باستخدام شبكة الانترنت للأغراض التعليميّة لتطوير وتفعيل طرائق التدريس المستخدمة وحصول الطلبة على معلومات تعزيزيّة إضافيّة عن المادّة الدراسيّة، التي يتمّ طرحها من قبل المدرّس في المحاضرات الاعتياديّة وتجعلهم على تواصل مستمرّ ودائم مع أحدث ما يكتب وينشر في مجالات تخصّصهم...
لقد ساهم الانترنت بدرجة كبيرة في تسريع التطور العلميّ والتكنولوجيّ والثقافيّ في العالم، وفي شتّى المجالات، وذلك لسهولة الاتّصال بين الباحثين والمتخصصين وتلاقح الأفكار في ما بينهم، للقيام بمشاريع علمية وبحثية تطويرية مختلفة، والابتعاد عن حالة الانغلاق والانعزال التي كانت سائدة بين العلماء والباحثين لعدم وجود وسائل اتّصال ومتابعة سريعة وفاعلة في ما بينهم. وبذلك أصبحت الاكتشافات والمخترعات الجديدة يمكن الاطّلاع عليها وتطبيقها والاستفادة منها في حينه وتطبيقها في المؤسّسات العلميّة والتعليميّة والإنتاجيّة بصورة سريعة للاستفادة منها لتطوير المجتمع.
إنّ استخدام شبكة الانترنت وانتشارها بهذا الشكل الواسع، وفي مدّة قصيرة، قياساً إلى غيره من الاكتشافات السّابقة واللاحقة والتهافت العالميّ الواسع على استخدامه والاستفادة من تطبيقاته، يُعتبر سلاح ذو حدّين، إذا لم يحسن استخدامه بالشكل الصّحيح، فإنّه قد يؤدّي إلى تحطيم وتدمير البناء الفكريّ والاجتماعيّ والعقائديّ والدينيّ للمجتمعات على المدى البعيد، لأنّه سوف يؤدّي إلى إيجاد أجيال من هذه المجتمعات، قد لا تلتزم بالمعايير والأعراف التي التزمت بها لسنوات طويلة...
إذاً، يتوجّب علينا أن ننظر إلى شبكة الانترنت نظرة فاحصة وموضوعية ودقيقة نستطيع من خلالها تشخيص وتحديد الأمور الإيجابيّة والسلبيّة لهذه الشبكة وإفرازاتها في المجتمع بصورة عامّةٍ وفي تفاصيل الحياة الاجتماعية بكلّ شرائحها ومكوّناتها البشريّة والاجتماعيّة؛ لأنّنا ينبغي أنْ نتعامل بنظرة علميّة ودقيقة وفاحصة لكلّ المكتشفات الحديثة، وعدم استخدامها ونشرها في المجتمع بصورة سريعة، والانسياق وراء الدّعايات والإعلام الكبير الذي يرافقها، لأنّ هذا قد يعود بنتائج سلبيّة على المجتمع.
إذا أردنا أن تكون شبكة الانترنت عاملاً فعّالاً ورئيساً في نشر الثقافة في المجتمع ورفد الحركة الثقافية وإنجازاتها برافد جديد وأساسيّ وكبير وغير محدود وغير خاضع للسيطرة من أيّ جهة كانت وغير مسيّس لصالح جهة معيّنة، على حساب جهة أخرى، فينبغي علينا نشر الثقافة الحاسوبيّة وثقافة الانترنت وبيان أهمّيتهما الكبيرة في تطوير وتعزيز الحياة الثقافية في المجتمع بكلّ مكوّناته وشرائحة، مهما كانت مستوياتها الثقافيّة والتعليميّة...
وعلينا أنْ نواكب التطوّر العالميّ باستخدام وسائل الاتّصال الحديثة، ومن أهمّها شبكة الانترنت بجميع تطبيقاتها للاطّلاع على حضارات الشّعوب وعاداتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وأن نبتعد عن حالة الانغلاق الفكريّ والاجتماعيّ معهم، من خلال فتح آفاق مختلفة، للتعامل مع تلك الثقافات والاستفادة منها في تطوير مجتمعنا وزيادة وعي أبنائه في مختلف جوانب بناء الشخصية الإنسانية وتعديل السلوك الإنساني، بما يضمن خلق مجتمع متطوّر ومثقّف يُسابق الزّمن للّحاق بالمجتمعات المتطوّرة، التي سبقته بأشواط بعيدة، والاطّلاع على حافات العلم والعمل على تجاوزها، لأنّنا بحاجة إلى الكثير...
المصدر: النور.