التاريخ والعوالم الجديدة والإسلام

د. رضوان السيد

يصعُبُ تحديد أهداف البابا بنديكتوس السادس عشر من وراء محاضرته بجامعة بون، تحت عنوان:«العقل والإيمان»:هل أراد عرض صورةٍ جديدةٍ وتأويلٍ جديد لتطوّر«تاريخ»العقيدة المسيحيّة، بطريقةٍ تجعلُ من التقليد الكاثوليكي صديقاً للحداثة العلمانية من خلال ربط «الإيمان»الكاثوليكي بالفلسفة الإغريقية، التي يعتقدُ هو أنّها هي التي أسَّستْ لأوروبا الحديثة؟ إنْ كان هذا مُراده فقد أخطأَ الهدف، لأنّ الإحياء اليونانيّ في عصريّ النّهضة والأنوار كان الهدفُ منه ذا شُعبتين؛ الأُولى إنسانويّة مُعادية للدّين تُريدُ الاستنصار بالوثنيّات الإغريقيّة على التّقليد الكاثوليكيّ بالذات.

والثانية:إعادة تحديد الهويّة الأوروبيّة، باعتبار أنّ الإغريق هم الذين أنشاوا القوميّات الأُولى، والدول الأُولى المتمايزة عن الشّعوب الآريّة والهندو ـ أوروبيّة الأُخرى.والمعروف أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة اختارت منذ مطلع القرن العاشر الميلاديّ «وربّما قبل ذلك كما يقول مؤرِّخو مدرسة الحوليّات الفرنسيّة»الانتماء الرومانيّ، والإمبراطوريّة الرومانيّة المقدَّسة.ولذلك لا يتلاقى البابا إنْ كان هذا هدفه مع ماضي كنيسته نفسه!

فهل أراد البابا إذن أنْ يُحاورَ خصومَهُ من البروتستانت، الذين صارعهم طَوالَ حياته، من طريق القول بأنّ اللاهوت المسيحيَّ واحدٌ منذ صار العهدُ القديم في القرن الثاني الميلاديّ كتاباً يونانيّاً «في الترجمة السبعينيّة بالإسكندرية»، ومنذ وجد العهدُ الجديد صيغةً يونانيةً على يد بولس الرسول كما ذَكَر هو في محاضرته؟ إنْ كان هذا مُراده فقد أخطأَ الهَدَف أيضاً.لأنّ البروتستانت ما لبثوا أنْ سايروا الحداثة والعلمانيّة واليهوديّة في التخلُّص من الطابع اليوناني الخفيف للعهد القديم، والطابع الهيللينيّ «الغنوصيّ»للعهد الجديد.ثمّ إنّ الكنائس البروتستانتيّة الكبرى تكادُ تخلو الآن من المؤمنين والأتْباع الذين جرفتهم الإنجيليّات الجديدة المندفعة وراء ارتعاشات التّجربة المباشرة مع السيّد المسيح نفسه، بدون لاهوتٍ ولا كتابٍ!

وإذا كان البابا لا يُخاطبُ الحداثيين الذين ما عاد للدين مكانٌ في حياتهم، ولا البروتستانت والإنجيليين الجُدُد، الذين لا يأبهونَ كثيراً بالمشيج اليوناني القديم أو المتأخر، فمن يخاطبُ إذن؟.

يتبيَّنُ من الاستعراض التفصيليّ لمحاضرة البابا بنديكتوس السادس عشر وسياقاتها، ليس أنّه لا علاقة لها بالإسلام، كما بدا لي لأوّل وهلةٍ؛ بل أنّها معنيّةٌ باستعادة أوروبا إلى المسيحيّة، واستعادة المسيحيّة إلى أوروبا.وللمشروع نفسِه بغضّ النظر عن صحّته وإمكانه وطرائق الوعي به، علائقُ وثيقةٌ بالإسلام، يبدو لأوّل وهلةٍ أيضاً أنّها –أي تلك العلائق ـ غير مباشرةٍ؛ وليس الأمر كذلك.ولكي لا يبقى ما أقصِدُهُ عن العلاقة الوثيقة بين محاضرة البابا والإسلام عرضةً للتأويلات سأبدأُ بترجمة الفقرة التمهيديّة، التي وردَ فيها ذكر الإسلام في المحاضرة:«كنتُ أَقرأُ نشرة البروفسور تيودور خوري من جامعة "مونستر"لقسمٍ من حوارٍ ربّما جرى عام 1391م، في الثكنات العسكرية الشتويّة على مقربةٍ من أنقرة، بين الإمبراطور البيزنطي العالِم مانويل الثاني باليولوغوس، وعالِم فارسي مسلم في موضوع المسيحيّة والإسلام، والحقيقة المتضمّنة في كلٍّ منهما.وربّما كان الإمبراطور نفسه هو الذي سجَّل ذلك الحوار خلال حصار القسطنطينيّة (من جانب العثمانيين) بين العامين 1394و1402، وهذا ربّما يُعلّل سبب ذكِر حُججه بالتّفصيل، دونما اهتمامٍ لافتٍ بإجابات العالِم الفارسيّ.الحوار المذكور يتوسَّعُ إلى ما وراء حدود البُنى العَقَديّة في الإنجيل والقرآن، ليركّز بخاصّةٍ على صورة الله والإنسان، راجعاً عندما يكونُ ذلك ضروريّاً، إلى العلائق بين «الشّرائع الثلاث»:العهد القديم والعهد الجديد والقرآن.في هذه المُحاضرة أريد أن أُناقش نقطةً واحدةً ـ ربّما كانت هامشيةً في الحوار المذكور هي سياقاتُ علاقة الإيمان والعقل.وقد وجدْتُ أنّه من الممكن أن يكونَ ذاك السياقُ الحواريُّ مفيداً في تأمُّلاتي حول المسألة.
في المحادثة السابعة من الجدال بين الإمبراطور والعالِم الفارسيّ، يُعالج الإمبراطور موضوعَ الجهاد «الحرب المقدَّسة».ومن المؤكَّد أنّه كان يعرف الآية القرآنية «2:256»والتي تُقرّر أنّه «لا إكراه في الدّين».وسورةُ البقرة التي تَرِدُ فيها الآية هي إحدى السُوَر القرآنيّة المبكّرة عندما كان محمدٌ ما يزال بدون قوةٍ ونفاذ أمر، وواقعاً تحت التهديد.
لكنْ من الطبيعي أن يكونَ الإمبراطور عارفاً بالتعاليم الإسلاميّة التي تطوّرتْ في ما بعد وسجَّلها القرآن، بشأن الحرب.ولذلك، وبدون مقدّماتٍ تفصيليّةٍ حول الفروق في التّعامل مع «أهل الكتاب»، والآخرين «المشركين»، يلتفت الإمبراطور إلى محاوره بشكلٍ مُفاجئٍ وقاسٍ، طارحاً السؤال الأساسيَّ في العلاقة بين الدين والعنف بشكلٍ عامٍّ.يقول الإمبراطور:أَرِني ما هو الجديد الذي أتى به محمّد، وسوف تجد أشياءَ كلّها شريرة وغير إنسانيّة، من مِثل أمره بنشرِ الدّين بالسّيف.ثمّ يمضي الإمبراطور شارحاً بالتّفصيل الأسبابَ التي تجعلُ من نشر الإيمان بالعنف تصرّفاً غير عقلانيٍّ.فالعُنف لا يتّفقُ والطبيعةَ الإلهيّة، ولا مع طبيعة الروح:لا يُحبُّ اللهُ سَفْكَ الدم، والتّصرّف غير العقلانيّ مُناقضٌ لطبيعة الله.فالإيمانُ يبزُغُ من الروح وليس من الجسد.بيد أنّ الذين يُريدون نشر الإيمان يحتاجون إلى قدرةٍ على الحديث الجيّد، والتأمُّل بعقلٍ، وبدون عنفٍ وتهديداتٍ..
ومن أجل إقناع روحٍ عاقلةٍ، لا يحتاجُ المرءُ إلى ذراعٍ قويٍّ، ولا إلى سلاحٍ من أيّ نوع، كما لا يحتاج إلى تهديد أيّ إنسانٍ بالموت.إنّ الحجة البارزةَ في هذا الجدال ضدَّ الإكراه على اعتناق دينٍ ما، أنّ الداعية الذي تصرّف بخلاف العقل، إنّما يتصرّف بخلاف طبيعة الله.ويُلاحظ البروفسور خوري معلّقاً:بالنسبة للإمبراطور البيزنطيّ ذي الثقافة الفلسفيّة الإغريقيّة، فإنّ هذا الأمر بديهيّ. أمّا في تعاليم الإسلام فإنّ الله مُتعالٍ علواً مطلقاً، كما أنّ إرادته ليست مقيَّدةً أو متعلقةً بأيّ مبدأ آخر بما في ذلك مقاييس العقل نفسه.وهنا عاد خوري للاقتباس من دارسٍ فرنسيٍّ معروفٍ للإسلاميّات هو "روجيه أرنالديز" ذكر عن "ابن حزم" أنّ الأخير ذهب بعيداً في تنزيه الله إلى حدود القول:إنّ الله ليس مقيّداً حتّى بكلمته «وعده ووعيده؟»، وليس هناك ما يُوجِبُ عليه حتّى إنزال الوحي وإرسال النبيين. وبمقتضى هذا الفهم فقد تكون عبادةُ الأَوثان داخلةً ضمن نطاق مشيئة الله».

أوردتُ هذا الاقتباس بطوله لكي يكونَ واضحاً ما هو السياقُ الذي تعرّضَ فيه البابا للإسلام وللنبيّ.وقد انصرف مباشرةً بعد ذلك لمناقشة مسألة الإيمان والعقل، وكيفيّة إحداث المصالحة في أوروبا بين المسيحيّة والحداثة، كما ذكرتُ في العرض التفصيليّ السابق للمحاضرة.وأرى أنّ هناك أربعة أمورٍ تستحقُّ الاعتبار والنقاش في هذا الصدد، وهي:

ـ السياق والظروف التي جرى فيها الجدالُ المفتَرَض بين الإمبراطور البيزنطيّ والعالِم الفارسيّ.

ـ الموضوعات الواردة في الحوار أو الجدال.

ـ فهم عادل تيودور خوري والبابا لموضوعات الجدال وتداعياتها.

ـ وأخيراً دلالات هذا الاقتباس من جانب البابا في هذه الظروف بالذات.

لجهة السياق والظروف التي جرى فيها الجدالُ أو الحوار بين الإمبراطور والفارسي المسلم، الأَمْرُ واضح.فقد دأَب العثمانيون بعد الاستيلاء على الأناضول في مطلع القرن الرابع عشر، على قضْم ممتلكات الدولة البيزنطية حتى أكملوا الاستيلاء على آسيا الصغرى، والممتلكات الأُخرى بشرق أوروبا والبلقان، وفي الجزر الإيطالية، وما بقي في النّهاية غير القسطنطينية التي حاصروها مراراً دون أن يتمكّنوا من الاستيلاء عليها.وما كان مانويل الثاني باليولوغوس (واللقب معناه العلّامة بالكتب)رجل دولةٍ كبيراً؛ لكنّه كان مثقَّفاً بالثّقافة الإغريقيّة والكَنَسيّة، وعارفاً بالإسلام.وفي الحصار الطويل الثاني للقسطنطينية وأنقرة من جانب السّلطان بايزيد الأوّل (1391ـ1402م)كانت هناك فرصة لدى الإمبراطور لمقابلة الكثير من المسلمين من رُسل السّلطان، ومن الأسرى، ومن الوسطاء؛ ولذلك فقد يكون مُمكناً لقاؤه وجدالُهُ مع عالمٍ مسلمٍ من أصلٍ فارسيٍّ.
بيد أنّ الدّعوى التي أوردَها بشأن نشر الإسلام بالسيف ليست جديدةً على الجدال البيزنطيّ ضدّ الإسلام، والذي بدأ في القرنين الثامن والتاسع للميلاد ويتضمّن أربع دعاوى رئيسيّة:أنّ الإسلام دينٌ يقول بالقوّة في نشر العقيدة، وأنّه مستغرَقٌ في اللذائذ الحسيّة، وأنّه يتضمّنُ نزعةً جبريّةً، وأنّه استلب العقائد المسيحيّة وشوَّهها أو قَلَبها رأساً على عقِب.وقد كان بوسع الإمبراطور لو أراد أن يكونَ أكثر إنصافاً، إذ كان يعرفُ أنّ صراعَهُ مع العثمانيين، وصراع العرب مع البيزنطيين من قبل ما كان على نشر الدين، بل كان صراعاً سياسيّاً وعسكريّاً من أجل السيطرة والفتح، وكان يعرفُ أنّ ذلك ولا شكّ ليس من القرآن؛ بل ومن المُمارسة.
فحتى عصر الحروب الصليبية كانت أكثريّة السكّان ببلاد الشّام ومصر ما تزال مسيحيّة، أرثوذكسيّة أو سريانيّة، رغم خضوعها للسيطرة الإسلاميّة على مدى ستّة قرون.وكذلك الأمر بالنسبة لسكّان آسيا الصغرى في عصر الإمبراطور؛ إذ كانت غالبيتُهُم ما تزال مسيحيّة.لكنّه في الواقع ما كان يستطيع الإقرار بالانفصال بين الفتح العسكريّ ونشر الإسلام، وهو مُحاصَرٌ، ويسمعُ نداءات الجهاد.وقد أقبل على متابعة الصّراع مع المسلمين في جداليّاته بعد أنْ انفكَّ الحصارُ عنه لأنّ تيمورلنك هاجم العثمانيين وقتها آتياً من الشّام، ومن آسيا الوسطى، وانتهى الأَمْرُ بهزيمة السلطان بايزيد وأسْره من جانب تيمورلنك، وإطالة عمر الدولة البيزنطية خمسين عاماً إلى أنْ سقطت القسطنطينية أخيراً بيد العثمانيين عام 1453م.

إنّ الأخطَر في جداليّات مانويل الثاني ضد الإسلام ربْطُهُ بين العنف باسم الدين، وبين «صورة الله»في الإسلام.العنف من وجهة نظره ضدّ العقل، والله عقلٌ أو نوسٌ أو لوغوس، بالمفهوم الأفلاطونيّ أو الأفلوطينيّ، والذي يعتبرُهُ مانويل الثاني (وعادل خوري والبابا)جوهر الدين المسيحي أيضاً.والواقع أنّ في الأمر ثلاث مغالطات أو إسقاطات:فالعنف في نشر الدين ليس غريباً عن الميراث الدينيّ البيزنطي (تجاه البلغار والشّعوب السلافيّة والمتوسطيّة الأُخرى)، ثمّ إنَّ الحرب ليست جزءاً من صورة الله عزّ وجلّ في الإسلام.أمّا الإسقاطُ الثالث فيتعلّقُ بالبابا بنديكتوس؛ إذ عندما توردُ اقتباساً فلأنّك توافق عليه أو تريد الردَّ عليه؛ فهو ما ردَّ عليه؛ لذلك فقد يكون قصده أنّ الخيار الإسلاميَّ خيارٌ عنيفٌ وغير صالحٍ لما هو بصدده من توفيقٍ بين الدّين المسيحيّ والحداثة في أوروبا، ومن صورة الله إلى الجهاد العنيف.

وهكذا، فإنّ الخَطَل في فهم الأمر كلِّه، لا يظهر لدى الإمبراطور المُحاصَر من جيوشٍ إسلاميّةٍ في مطلع القرن الخامس عشر؛ بقدر ما يظهر لدى البروفسور خوري والبابا بنديكتوس في مطالع القرن الواحد والعشرين.هناك موضوعاتٌ ثلاثةٌ تستحقُّ المعالجة في هذا السياق: صورة الله عزّ وجلّ في الإسلام، ومعنى الجهاد قديماً وحاضراً، وصورة الجهاد والإسلام في الظروف العالميّة الراهنة.وفي هذه الأمور الثلاثة أخطأ الرجلان الكبيران.فالذاتُ الإلهيّة المتساميةُ والمتعالية والمنزَّهة في علم الكلام الإسلاميّ تقصدُ إلى الإطلاق، ولا تقصدُ إلى اللامعقوليّة.
وهذا معروفٌ ليس في علم الكلام الإسلاميّ فقط؛ بل وفي اللاهوتين اليهوديّ والمسيحيّ بكافّة تيّاراته.وقد استُخدم الميراثان الأفلاطونيّ والأرسطيّ لدى اللاهوتيين المسيحيين للإمعان في التنزيه؛ لأنّ العهد القديم يعرضُ صورةً حسيّةً عنيفةً لله، ولأنّ الإله تجسَّدَ في المسيحيّة. والبروفسور خوري والبابا عالمان لاهوتيّان كبيران في الدينين المسيحيّ واليهوديّ، والبروفسور خوري يُدرّس الإسلاميات منذ أربعين عاماً، وله عشراتُ الكتب في صورة الإسلام قديماً وحديثاً.ولذلك يُصبحُ عجيباً أن لا يجد غير اقتباسٍ عن ابن حزم «بواسطة أرنالديز»للتدليل على «الإغراب»في تنزيه الله عند المسلمين، كأنّما ذلك غير معروفٍ لدى المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك بالذات!وكيف لا يعرفُ، وهو المفسِّر الكبير للقرآن، العلاقة بين قوله تعالى:«لا يُسألُ عمّا يفعل وهم يُسألون»، وقوله:«كتب على نفسه الرّحمة»؟!
ثمّ كيف يتّصل «الجهاد»العنيف بصورة الله التي تُصبح أفلاطونيّةً خالصةً لدى المعتزلة بالذات «ذات بدون صفات» الذين يُحبُّهُم البروفسور خوري؟!
وما دام الحديث عن القرآن؛ فأين هو الموضعُ في القرآن الذي يُرِدُ فيه ذكْرُ الجهاد أو الحرب مجرَّداً وليس لردّ اعتداء، وأين يَرِدُ ذكْرُ الجهاد على أنّه لنشر الدين الإسلاميّ أو فرض اعتناقه على المغلوبين؟!
ويُعلِّلُ البابا ـ تبعاً لتيودور خوري ـ اتّهام الإمبراطور للمسلمين بنشر الدين بالعنف، رغم مخالفة ذلك للآية القرآنية؛ بأنّ الآية نزلت في ظروف ضعف النبيّ، وأنّ الإسلام شهد تطوراتٍ بعد ذلك سجَّلها القرآن تغيَّر فيها هذا الحكم:(أفلا يعلم البروفيسور خوري وهو المفسّر الكبير للقرآن أنّ آية الإكراه في سورة البقرة، والسّورة المذكورة هي من السّور المتأخّرة وأنزلت عام 625ميلاديّة، أي عندما كان النبيّ في أوج قوّته بالمدينة).فأين هي التدويناتُ القرآنيّةُ المتأخّرة التي تقولُ بنشر الإسلام بالسيف؟ أنا أفهمُ أنَّ مانويل الثاني كان يعتبر جدالياته جزءاً من الدفاع عن نفسه ودولته في مواجهة المسلمين الهاجمين عليه، وإنْ ليس باسم الدين؛ لكنني لا أفهمُ هذه التسْويغات للّاهوتيَّين الكبيرين في القرن الحادي والعشرين!
ولنأْتِ إلى الظروف والدلالات.فمنذ مطالع التسعينات من القرن الماضي تتضخم مصائرُ أطروحة «صراع الحضارات»، ويقول هنتنغتون وآخرون كثيرون إنّ الإسلام يملكُ حدوداً أو تخوماً دمويّةً.وبعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001صار الإسلام مشكلةً عالميّةً باعتباره يملك تيّاراً أصوليّاً قويّاً يقول بالعنف «تحت اسم الجهاد»وعلى مستوى العالَم.وفي الأسابيع الأخيرة استعمل الرئيس جورج بوش مراراً تعبير«الفاشية الإسلاميّة»بدلاً من «الجهادية الإسلاميّة».وقد عمل البروفسور خوري طوالَ العقود الأربعة الماضية على تصحيح النظرة للإسلام في أوروبا والغرب، وفي أوساط الكنيسة الكاثوليكية بالذات.وعُرف عن البابا السابق يوحنا بولس الثاني وعيُهُ الكبير لهذه المسألة؛ ولذلك ففي الوقت الذي كان يُدينُ فيه حروب أميركا بالعراق وفلسطين وأفغانستان؛ كان يُصرُّ على محاورة المسلمين، وعلى اعتبار أنّ طبيعة العلاقات بين المسلمين والمسيحيين هي التي ستُقرّر مصائر العالم.وليس هذا وعيَ البابا الحالي فيما يبدو.
ليس لأنّه مُعادٍ للإسلام؛ بل لأنّه يملك رؤيةً انكماشيّةً هدفُها استعادةُ أوروبا وتحْصينُها بالإيمان المسيحيّ. لقد حَيَّدَ البابا بنديكتوس اليهوديّةَ بضمِّها إلى الميراثين اليونانيّ والمسيحيّ، ثمّ انصرف لكسْب البروتستانت والعلمانيين لرؤيته الانكفائيّة أو الاكتفائيّة.لكنّ المسيحيّة دينٌ عالميٌّ كبيرٌ وشاسعٌ.والمسيحيّون، حتّى الكاثوليك، عددُهم أكبر خارج أوروبا منه في أوروبا كما هو معلوم.ولذلك فإنّ انكماشيته ستزيد من مشكلات المسيحيين الكاثوليك في أوروبا وخارجها.إنّ هذا المشروع المتضائل للفاتيكان يتجلَّى في إقدام البابا على تغيير اسم «لجنة حوار الأديان»إلى«لجنة حوار الثقافات».وهذا تراجعٌ عن نتائج المجمع الفاتيكاني الثاني (1962ـ1965)والتي تضمّنت اعترافاً بالديانات الإبراهيمية وشراكةً معها، وحواراً تعارُفيّاً مع الأديان الأخرى.وكانت المجلة الفاتيكانيّة الشهيرة: «إسلامو ـ كريستيانا» التي يُصدرها الفاتيكان قد توقّفت أيضاً.
 
وكلُّ ذلك لا يَعِدُ بخيرٍ وانفتاحٍ وتواصُلٍ.فالمشكلةُ ليست في رؤية البابا السلبية للإسلام، بل وفي الانكماش والانطوائيّة، والتوجُّس من الآخر، وإدخال هذا الدين العالميّ الكبير في مشروعٍ وهميٍ هو مشروع أوروبا المسيحيّة؛ أمّا الذي كان البابا يوحنا بولس الثاني يُحاولُ القيامَ به فهو:إقامة عالَمٍ جديدٍ تسودُهُ قيم الحريّة والعدالة والسّلام، ومكافحة الفقر والجوع والتفاوت الاجتماعيّ، والتفكُّك الأُسَريّ.

قد يكون تقديمُ البابا لمحاضرته بهذه الطريقة عارضاً فعلاً؛ فهي لا تتّصلُ بالإسلام أو أنّها ليست جدالاً معه أو مُعاداةً له.لكنّ التمهيد للمحاضرة بهذه الطريقة لا يُمكن أن يكونَ مصادفة.ثمّ إنّ المشهد العالميَّ تُجاه العرب والمُسلمين ورؤية الإسلام، مُقبِضٌ ويُثيرُ الرّهبة والهمّ.

العالَم كما سبق القول، يعتبرنا مشكلةً بل مشكلةً كبرى.ولن تنحلَّ المشكلةُ بالشتائم والردود في التلفزيونات، ولا بالمزيد من أعمال العنف والعنف المضادّ.نحن خُمسُ سكّان العالَم، وكما لنا حقوق، علينا مسؤوليّات. ونحن لا نأخذ حقوقنا، لكننا لا نتحمَّل مسؤولياتِنا أيضاً.لا نُريد أن نخافَ من العالم ولا نُريدُ أخافتَه.وكما لا صَبْرَ على الخراب الذي لا يتوقّف بالعراق وفلسطين ولبنان.وأماكن أُخرى كثيرة، لا صبر على هذه العُزلة المتزايدة عن العالَم وسياساته، والعالَم وثقافاته، والعالَم ودياناته. فللّه الأمر من قبلُ ومن بعد.

المصدر:  http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5548

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك