نظرية إقبال في الفن

منذ ان اخذ الانسان يفكر بالفن نشأت أكثر  من نظرية واحدة بصدد المهمة التي خلق من أجلها. وكان هناك أولئك الذين يقولون يجب أن يترك الفن ومصيره (أي الفن للفن) بحيث لا يكون له ثمة هدف معين سوى اثارة اعجاب غريزة الانسان. ومن ناحية اخرى كان هناك الذين يخالفون هذه النظرية ويعتبرون  ان الفن ليس هدفا بحد ذاته، فيحكمون على الفن اعتمادا على ماله من مستوى مستقل من القيمة.
ثم ان الفن في رأي هؤلاء هو جيد أو رديء حسبما اذا كان فنا أم لا.  بينما هو في رأي اولئك يعتبر جيدا أو رديئا، حسبما يفعل أو يخفق فيما يفعل. ويعتمد القائلون بنظرية الفن للفن في حجتهم على أن عمل الفن هو في النجاح  الذي تستخدم فيه واسطة التعبير في معالجة الموضوع بحيث تتوقف على طبيعة الموضوع نفسه أو التأثر الذي يمكن أن ينتجه العمل الفني كمجموع في الميدان الاجتماعي والأخلاقي، وان الفن في نظر ممثلي هذه المدرسة هو كما قال اوسكار وايلد ليس اخلاقيا أو غير اخلاقي بل نابع من الغريزة. اما أولئك الذين لا ينتمون الى مدرسة الفن للفن فإنهم لا ينكرون، وهم في الحقيقة لا يستطيعون انكار الطريقة التي يستخدم بواسطتها التعبير في انتاج العمل الفني، بل ان الفن ينبغي أن يكون فنا جيدا قبل أن يستطيع ان يأمل في احداث أي تأثير جيدا كان أم رديئا. ولكن القضية لا تقف عند حد أن يكون الفن جيدا  وحسب  وانما هناك قضية الهدف الذي يرمي اليه الفن، والفكرة التي يدعو اليها والقيم الاخلاقية التي ينشرها ويبشر بها، وهي قضية هامة جدا. فلقد حقق فن الرسم الزيتي الفرنسي في القرن الثامن عشر مستوى رفيعا من الابداع الفني. كما أن مدرسة "الكوميدي ريستوريشن" في انكلترا كانت بعيدة النظر مفعمة بالنباهة. ولكن كلاهما عكسا وشجعا انفلات عصرهما، ويجب أن يحكم عليهما وفق الأسس الأخلاقية. إذ أن من المستحيل أن يترك الفن ومصيره. وهو لا يستطيع كتعبير عن العبقرية الانسانية أن ينفصل عن السلوك الانساني، ولا يستطيع من ثم أن يكون عاجزا عن أن يكون له مغزى اخلاقي. وفي الحقيقة أن فضل الفن هو رغبته الزائدة في سبك الاقناع وتوجيه المواهب الانسانية.
ولا يمكن أن تكون ثمة صعوبة في معرفة اين يقف الفيلسوف الباكستاني الدكتور محمد اقبال من هذه القضية. ذلك انه صاحب نظرية معروفة فيما يتعلق بطبيعة ومهمة الفن، كما انه صاحب نظريات محددة فيما يتعلق بالأخلاق والدين والمصير النهائي للجنس البشري. والفن في رأيه بالدرجة الأولى ليس ظاهرة تلقائية لغزيرة اللعب. بل هو نشاط خلاق من أرفع طبقة يتوقف على موهبة الفنان بكاملها في مهمته. وان الفنان يجب ان يمنح عمله دم حياته. وقد قال في ذلك: "ان كل سطر اكتبه هو قطرة من دمي".
أما طريقة الخلق والابداع فهي مع ذلك طريقة سهلة كما قال: "مئات الليالي المضطربة، ومئات الاصباح العاصفة، ومئات التنهدات والحسرات، لابد منها لخلق بيت واحد من الشعر الممتاز".
ان طريقة الخلق الفني ليست حدثا انسانيا افراديا بل هي جزء من مجموع النظام العالمي، ويقول في ذلك اقبال "ان الاتحاد ليس عملا تاما، بل ما زال في طور التشكيل". وان طريقة الخلق ما زالت سائرة، وان الإنسان ينال نصيبه منها أيضا بقدر ما يساعد على وضع النظام في جزء  من مادة الكون قبل تكوينه. ثم يمضي اقبال في الإشارة الى القرآن الذي يبرهن على امكان وجود خلاق آخرين غير الله الذي هو بدون شك أفضلهم وأعظمهم جميعا. وبطريق المصادفة وردت هذه الكلمات التي استشهدت بها في شرح الأساس الفلسفي لكتاب "أسرار النفس" الذي وضعه اقبال وترجمه الى الانكليزية البروفسور الراحل نيكلسون الأستاذ بجامعة كمبردج، وفي هذا الكتاب  يقوم جوهر فلسفة اقبال على الشخصية. ولاشخصية أو الذاتية هي بالنسبة لاقبال حالة من التوثر. وان الشخصية تستطيع الاستمرار في العيش اذا حوفظ فقط على هذه الحالة. وفي ذلك يقول: "ان ما يفضي الى المحافظة على التوتر يؤدي الى جعلنا خالدين".
ثم ان فكرة الشخصية تعطينا مستوى من القيمة تحل قضية الخير والشر، وهو يقول: ان ما يقوي الشخصية هو خير وان ما يضعفها هو شر.
وفي رأي اقبال، وما زلت أستشهد من ذلك البيان أن الفن والدين وعلم الاخلاق كما كتب الى البروفسور نيكلسون، يجب ان يكون الحكم عليها صادرا من نقطة الشخصية. وان موقف اقبال من هذا الموضوع منبثق من وجهة النظر التي عبر عنها نبي الاسلام باستنكاره شعر امرئ القيس رغم جودة شعره من ناحية وتقديره الحار لشعر عنترة من ناحية اخرى. وهو قائم على أساس الاعتراف بالعلاقة التي توجد ين لافن وتأثيره على الشخصية الانسانية.
وقد قدم اقبال عرضا سهبا لنظريته عن الفن في مقدمة كتابه "شوغتاي" في الطبعة المصورة من منشورات غالب، وكررها في عدد من القصائد، ومع ذلك ينبغي علينا للحصول على تصريح موجز عن فكرته أن نرجع الى مقال كان قد كتبه في مجلة "العصر الجديد" عام 1916. وقد جاء فيه حسب ما قاله اقبال بنفسه: "ان الهدف النهائي لجميع أوجه النشاط الانساني هي الحياة المجيدة والاخصاب" وان جميع الفنون الانسانية يجب أن تكون أقل أهمية من هذا الهدف النهائي، وان قيمة كل شيء يجب ان تحدد اعتمادا على أهلية مرونته الحياتية. وان الفن الاسمى هو الذي يوقظ رغبتنا وقوانا النائمة ويشد اعصابنا لمواجهة تجارب الحياة ببسالة. وان جميع الأشياء التي تؤدي اى الكسل والغفلة، وتجعلنا نغمض أعيننا عن حقيقة التفوق أو النبوغ الذي تتوقف عليه وحدة الحياة هي رسالة انحطاط وموت. ولذا يجب الا يكون هناك طعم افيون في الفن، وان نظرية الفن للفن هي اختراع ذكي من اختراعات الانحطاط والتدهور لكي يبعدنا عن الحياة والقوة".
ونحن في الحقيقة مسرورون لأن نحصل على مثل هذا التصريح بقلم اقبال نفسه، ونظريته هنا هي واضحة جدا بحيث لا يمكن ان يساء فهمها، وقد عبر عنها بقوة بحيث لا تدع مجالا للشك، ولذلك فليس للمرء الا أن يقبلها أو يرفضها.
وهكذا نجد أن جميع آثار اقبال هي جزء من نظريته التي أعلن عنها في الفن، ونحن إذا استعرضنا في الواقع شعره نجد أنه غالبا ما يمضي بعيدا الى أقصى حد من اتجاهه، ويطلب الينا الا نعتبره شاعرا البته. وهو يعلمنا أنه رجل لديه ما يقوله لنا وأن شعره ليس إلا طريقته في قول ما يريد، وشعره لا يخرج عن كونه حلة خارجية ترتديها أفكاره نفسها. وهذا تصريح منصف يعبر عن فن اقبال العظيم. ولا يمكن أن يكون ثمة شك في ان اقبال قد اعتبر اثاره الفنية بأنها مسألة ذات أهمية ثانوية. فقد كان مهتما بالدرجة الأولى بالأفكار التي عبر عنها وبالرسالة التي كان يدعو أنصاره إليها. وبهذا المعنى دعاه بركاردشو بالفنان الفيلسوف. وقد لخص اقبال ما اعتبره رسالته في هذا البيت الشهير من الشعر:
"لقد كان مبشرا بالربيع وطائرا مفردا يمنح رسالته القلبية الى العالم من عزلة قفصه".
هكذا كانت رسالة اقبال مفعمة بالحنين الدائم والأماني اللانهائية:
ولكن يجب الا ننسى ان الفن قد جاء اقبال بصورة طبيعية، وقد تناوله انى كان في كفاحه الجبار، وليس ثمة في اثاره فن مراقب، بل انه لمن المستحيل ان نتخيل فنانا عظيما ينتج فنا دون قصد أو دون غرض معين، فالفن وهدفه ينبغي الا ينفصلا الواحد عن الآخر، وهما في كل جزء من أجزاء معنى  للكلمة وان الجمال والحقيقة هما شيء واحد لا يتجزءا.
وهكذا فإن فن إقبال قائم على الجمال والخير والحق، وهو مفتاح فلسفة اقبال ونظريته في الفن التي تجلت في معظم آثاره المجيدة.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/693

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك