الحوار والنضال والهدي القرآنيّ

طارق قبلان/إعلامي لبناني

 

 

 

يُشكّل الحوار أحد المكوّنات الفطريّة للنّفس الإنسانيّة، وإنْ أخْفَتها العوامل المختلفة وكتمت تعبيراتها، أوأجهضت تجلّياتها في العلاقات الإنسانيّة اليوميّة؛ فالحوار على الدوام حاضرٌ ليُجدّد الحياة الاجتماعيّة، وليطوّر النّظرة البشريّة للكون.
 

 

وممّا يقضي على الحوار في الحياة الإنسانيّة النّضال الدائب، والأطُرُ الضيّقة التي تخنق التعبيرات الفرديّة أو تلك الخاصّة بالجماعات الصغيرة، غير المهيمنة. إنّ الحوار يذوي في خضمّ الأعمال النّضاليّة، التي تعيش حالة إشباعٍ إيديولوجيٍّ، نتيجة الحرص على تأطير الطاقات البشريّة خلف أهدافٍ، يعتقد أربابها أنّها غاية الفكر والقصد النضاليّ، فيما يرون الحوار إضعافاً للعزيمة، وتوهيناً لها. أمّا السّلم فلا يكون بالمقابل ضامناً للحياة الحواريّة، إذا سادته ثقافة النّضال الإيديولوجيّ، وحافظت على استمراريّتها ومبرّراتها خلاله، ولم تسمح للفكر بالانفتاح على تيّارات الفكر المختلفة، وعلى الأذواق المختلفة، وعلى الرؤى المختلفة...

وإذا استهدينا كتاب الله الكريم، وجدنا أنّه يُبيّن لنا ذلك في آياته وصِيَغه اللغويّة، متّجهاً بنا إلى الله العليّ القدير، صاحب الأخلاق الكاملة والمثال، وعلى النّاس التخلّق بأخلاقه سبحانه؛ ويُقرّر أنّ الإنسان بتكوينه وحقيقته "عجولاً" و"أكثر شيءٍ جدلاً"، لا بل النّاس بأكثريّتهم "لا يؤمنون" و"لا يشكرون" و"لا يعقلون"...وفوق ذلك "أكثرهم مشركين" و"للحقّ كارهين"...فكيف إذا ازدحمت أفكار النّاس، واحتشد جَمعُهم وملَأُهُم، وناوؤا بعضهم البعض؟!.

يلجأ الكتاب الكريم إلى تأكيد الحال الإنسانيّة التي تضيق بالحوار، من خلال بيان حصول هذا الأمر في الماضي المتحقّق، لا الذي هو في طور التحقّق، كما يلجأ إلى نفي الصّفات الإيجابيّة عن كثيرٍ من النّاس، من خلال نفي حملهم للقِيَم الحقّة، كالشّكر، والصّبر، والعقل، والإيمان...ثمّ يذهب باتّجاه إسناد الكفر والجحود والفسق...إلى النّاس، فلا يجعل الخصال المحمودة، والقيم العظيمة إلّا في القليل ممّن هم حملةَ يقينٍ وإخلاصٍ...

بالمقابل، يجعل الكتاب الكريم الغايةَ في الخُلق الكريم اللهَ تعالى سبحانه، حيث هو الرّحمن الرّحيم، صاحب الأسماء الحُسنى؛ والنّاس على ما هم عليه من عجزٍ وفقرٍ وانحرافٍ عن الجادّة الوسطى مأمورون بالاتّجاه تلقاءه، حيث يتكاملون بفيضه، من جلالٍ وجمالٍ.

هل فطن أبناء الرّسالة الإسلاميّة إلى هذه النّفحة الإلهيّة التي بثّها الوحي الربّانيّ في الكتاب المنزل على النبيّ الكريم؟ لا شكّ أنّ قليلاً منهم قد فطن؛ وليس أدلّ على ذلك من التراث الكبير المدموغ بالصبغات النّضاليّة، من مذهبيّةٍ أو سواها؛ سواء أكان ذلك التراث فقهيّاً، أم عقيديّاً، أم تاريخيّاً، أم....حتّى أخذ النّاس على "ابن عربي" قوله:

قد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي إنْ لم يكن ديني إلى دينه داني

فأصبح قلبي قابلاً كلّ صورةٍ فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان

وبيتٌ لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف وقرآن

أدين بدين الحبّ أنّا توجّهت ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني

إذاً، لم يُشكّل تيّار الانفتاح في حضارة الوحي شيئاً عظيماً، على الرّغم من الكلام الإيديولوجيّ. فقد كان حملة الكتاب داعين ومتواطئين مع السّلطان في كبت المعارف والقيم، وما كان "ابن عربي" ونظراؤه سوى سنا برقٍ في سماء تلك الحضارة الممتدّة.

فهل انتهى عصر القمع والانغلاق، وبدأ عصر الحوار والانفتاح؟

ليس الأمر على تلك الصورة، ولا شيء من ذلك تبدّل، حيث فقه الدّين والحياة على ما هو عليه من سيادة الرأي الواحد، والمنهج الواحد، والحقيقة الواحدة، وإنْ تكن تلك الحقيقة صنيعة البشر لا ربّ البشر. وممّا زاد الطّين بلّةً أنّ حركات الإسلام السياسيّ، التي رفعت شعار الدّين، وخصّت نفسها بالتّفسير والحُكم، سعت إلى أدلجة الدّين، لا إلى زيادة المعرفة به، فشجّعت الانقسام الاجتماعيّ والتباين، بدل الانفتاح والتّحاور؛ وشجّعت الإعلام على حساب التعليم، والتجويد على حساب التفسير، والوعظ والتعبئة بدل المدارسة والمذاكرة، والاستهلاك بدل الانتاج، والتجارة بدل الصناعة....فأين يكون المفرّ؟!.

http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5746

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك