حوار الحضارات والديمقراطية في العلاقات الدولية

وليد محمود عبد الناصر
 
الواقع أن أهمية حوار الحضارات والثقافات والأديان وارتباطها بواقع العلاقات الدولية ليست مرتبطة بوقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. فالحديث عن ذلك الحوار بدأ مع نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، والتي شهدت من جهة بداية الحديث عن انتهاء الصراع بين الأيديولوجيات وبداية الصراع أو الصدام بين الحضارات، ومن جهة أخري الحديث عن نهاية التاريخ وانتصار النموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي وسيادته علي الصعيد العالمي.

وقد جاء تجسيد الاهتمام بقضية العلاقة بين الحضارات وتداعياتها علي العلاقات الدولية مع المقال الشهير للبروفيسير الأمريكي "صموئيل هنتنجتون" أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، والذي أعقبه نشر ردود علي المقال، ثمّ تعقيبات من الكاتب، ثم تجميع كلّ ذلك في كتاب بعنوان "صدام الحضارات" عام 1996. وقد تضمنت ردود الفعل علي الكتاب علي كثرتها من اتفق مع مقولة هنتجتون - سواء كلياً أو جزئياً - ومن اختلف معها أو عارضها. ثمّ تواري الجدل الدائر حول هذه الأطروحة لفترة وجيزة ليعود بقوة إلى الواجهة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة واتهام عرب مسلمين بالمسؤولية عنها.

إلا أنّ الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية (اليونسكو/ منظمة المؤتمر الإسلامي...إلخ) تلقفت موضوع حوار الحضارات وارتباطه بواقع ومستقبل العلاقات الدولية في السنوات الفاصلة بين عام 1996 وعام 2001، فقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد جولات من المشاورات الرسمية وغير الرسمية - اقتراحاً إيرانياً عام 1998 بإعلان عام 2001 عاماً للحوار بين الحضارات، فإذا بهذا العام يتحوّل مع أحداث سبتمبر 2001 إلى عام تعرّض فيه هذا الحوار المتمدن بين الحضارات إلي كثير من الخسائر وعانى خلاله العديد من التراجعات...

ونعود إلي هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وتأثيرها علي طرح حوار الحضارات، فنقول إنه نتيجة معاناة دعوة حوار الحضارات علي الصعيد العالمي من انتكاسة مؤقتة عقب هذه الهجمات سواء علي مستوي الحكومات أو حتي علي مستوي المنظمات غير الحكومية، فقد نشأت الحاجة إلي استراتيجية جديدة للتعامل مع قضية العلاقة بين الحضارات وارتباطها بأنساق العلاقات الدولية وطرحت العشرات من المبادرات بعضها من منظمات دولية والبعض الآخر من بعض الحكومات والبعض الثالث من منظمات غير حكومية والبعض الرابع والأخير من شخصيات دولية تحظي باحترام علي المستوي العالمي.

ويمكن تلخيص أهمّ تلك المبادرات في أربع مبادرات هي: 1- مشروع حوار حضارات العالم القديم، وقد بدأ بين أربع دول هي مصر (الحضارة الفرعونية) وإيران (الحضارة الفارسيّة) وإيطاليا (الحضارة الرومانية) واليونان (الحضارة الإغريقية)، وحاول المشروع البحث عما هو مشترك بين حضارات العالم القديم، وبالتالي السعي إلي صياغة مجموعة مشتركة من الخطوط الإرشادية التي يمكن استنتاجها من هذه الحضارة القديمة، ويمكن الاستعانة بها في التأثير الإيجابي علي العلاقات الدولية الراهنة والمستقبلية فيما هو أبعد من تقسيمها الدول مهد هذه الحضارات بين دول مسيحية وأخري إسلامية.

وتوسع المشروع من المستوي الحكومي إلي المستوي البرلماني (وهو ما مثل ربطاً للمبادرة بنواب الشعوب وممثليهم لتأكيد البعد الديمقراطي للمبادرة) ومستوي الأكاديميين والباحثين ممّا أضفي علي المشروع زخماً شعبياً علي الصعيد غير الحكومي. كما جرت محاولات لتوسيع عضوية هذا المشروع لجعله أكثر تمثيلاً لدول وحضارات العالم بضمّ دول مثل الصين، اليابان، الهند، بل وطرح البعض اقتراح ضمّ إسرائيل، إلا أن هذه المحاولات لم تلق قبولاً للخلاف حول وضع معايير موحدة لقبول انضمام دول تضم جغرافيا حضارات من العالم القديم.

2- المبادرة الألمانية التي أطلقها الرئيس الألماني الأسبق هيرتزوغ وتبناها الرؤساء الذين جاعوا بعده، وقد اقتصرت علي الحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية الأوروبية، ولكنها كانت أوسع تمثيلاً من المبادرة المشار إليها في الفقرة السابقة، كما أدمج فيها بالإضافة إلي المسؤولين الرسميين شخصيّات أكاديميّة وفكريّة غير حكوميّة. وضمّ الحوار في بدايته ثماني دول، أربع منها إسلامية أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي منها مصر وإيران وإندونيسيا، وأربع منها أوروبية غربية بقيادة ألمانيا. وقد شهدت هذه المبادرة توسعاً عقب الاجتماع الذي عقدته علي مستوي رؤساء الدول والحكومات وكبار المفكّرين علي هامش اجتماعات المنتدي الاقتصادي العالمي في دافوس، في يناير 2000 حيث شارك في الاجتماع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافيل، وشارك فيه المفكر المصري الدكتور أحمد كمال أبوالمجد. وأدت هذه المشاركة الواسعة إلي توسيع عضوية المبادرة إلي اثنتي عشرة دولة منها دولتان إسلاميتان ودولتان من أوروبا الشرقية، كما توسّعت المبادرة من حيث طبيعة المشاركة لتنتقل من المستوي الحكومي فقط إلي مستوي الانتليجنتسيا. واللافت للنظر في هذه المبادرة أنها تتم بين طرف (الدول الغربية) تقوم نظمها السياسية علي الديمقراطية الليبرالية وتتهم الطرف الآخر (الدول الإسلامية) في أغلبه إما بتعارض موروثه الثقافي والحضاري مع الديمقراطية أو بتعمد تبني حكومات هذه الدول لنماذج حكم غير ديمقراطية علي النسق الغربي، ولا تتسق مع مسلمات النموذج الليبرالي الغربي. ومن جانب أخر، فإن الدول الإسلامية في معظمها تتهم الحكومات الغربية - بدرجات متفاوتة فيما بينها بالمسؤولية عن غياب الديمقراطية عن العلاقات الدولية، وهو مطلب تبنته دول العالم الثالث بأكملها ومن ضمنها الدول الإسلامية منذ استقلالها، بل وربّما من قبل ذلك وتحديداً منذ نشأة الأمم المتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولقد تعزّز هذا المطلب بطبيعة الحال بعد انتهاء الحرب الباردة وبزوغ شمس النظام الأحادي القطبية.

3- المبادرة اليابانية للحوار بين الحضارتين الإسلامية واليابانية، وهي مبادرة أطلقها وزير الخارجية الأسبق يوهاي كونو في يناير 2000 علي هامش جولة له في منطقة الخليج، وتحديداً خلال محاضرة له في العاصمة القطرية الدوحة. وبالرغم من أن هذه المبادرة تميّزت عن بقيّة المبادرات المطروحة بأنّها بدأت بجناحين أحدهما يتحدّث عن مفاهيم فكريّة وأنشطة ثقافية والآخر يتناول مشروعات تقنية محددة مثل التعاون بين اليابان والدول الإسلامية في منطقة الخليج بشكل متعدد الأطراف في مجال تحلية مياه الخليج علي نطاق واسع. وجاءت الخطوة الملموسة الأولي في سياق الحوار حول ترجمة المبادرة إلي مشروعات محددة متمثلة في مؤتمر استضافته الخارجيّة البحرينية ومركز البحرين للدراسات في المنامة في ربيع 2002 حول حوار الحضارات الياباني/ الإسلامي، والذي حضره مسؤولون ومفكرون وأكاديميون وشخصيات من المجتمع المدني من عدد من الدول الإسلامية واليابان، من بينهم كاتب هذه السطور. وتتصل خصوصية هذه المبادرة بأنّها تتم بين دولة تمثل حضارة واحدة قديمة تأثرت بشكل كبير بالحضارة الغربية الحديثة، خاصة في مكوّنها السياسي الممثل في النظام الديمقراطي الليبرالي، في الزمن المعاصر وهي اليابان، وبين دول كثيرة بينها تباينات في السياق التاريخي والحديث، ولكنها تمثل الحضارة الإسلامية في مجراها العام، وتتعرض هذه الدول بدورها منذ سنوات للاتهام في معظمها بعدم اتّباع النهج الديمقراطي في نظمها السياسية الداخلية. كما تناولت هذه المبادرة أوجه التشابه والاختلاف بين الحضارتين اليابانية والإسلامية وسبل التعاون فيما بينهما فوق أرضية مشتركة علي الصعيدين الثنائي والدولي للتأثير في العلاقات الدولية وكيفية تفاعل كلّ منهما مع الحضارة الغربية الحديثة خاصة المسألة الديمقراطية والنظام الرأسمالي. وتمثل حالة حوار الحضارات الياباني/ الإسلامي حالة فريدة من جهة أخري، فهي نموذج لحالة حوار متعدد الأطراف بين الحضارات. فالجانب الياباني أطلق المبادرة من منطلق إدراكهم أنهم دائماً ما ينظرون إلي العالم الإسلامي من خلال عيون ومنظار دول الغرب الليبرالي الديمقراطي الحديث والمعاصر حيث اعتمدوا في دراسة العالم الإسلامي علي المستشرقين الغربيين أو علي دراسات أجراها العرب. واعتبر اليابانيون أنه حان الوقت ليقوموا بأنفسهم بدراسة العالم الإسلامي بشكل مباشر والتحاور معه بدون وسيط إعطاء العالم الإسلامي فكرة واضحة عن كون اليابانيين يستمدون قيمهم من جذور الحضارة الشرقية القديمة وعدم تعارض ذلك مع القيم الديمقراطية الغربية الحديثة. وفي ذلك الحوار تتضح معالم تعدد الأطراف ففي جانب توجد الحضارة اليابانية ممثلة في دولة واحدة وعلي الجانب الآخر توجد عدة دول إسلامية، عربية وغير عربية، تمثل الحضارة الإسلامية.

وفي أولي جلسات الحوار بالمنامة في ربيع 2002 تعددت الأطراف المتحاورة من الجانبين فلم تقتصر علي أساتذة الجامعات وعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد والمثقفين والإعلاميين، وإنما شارك فيها أيضا أطباء ومهندسون ورجال أعمال مما أضفي طابعا تعدديا وديمقراطيا وغير حكومي قوي علي الحوار. واستند ذلك التنوع في التمثيل إلي فكرة أنه لإعطاء الحوار الياباني/ الإسلامي معني فيجب أن يغطي كافة جوانب العلاقة بين الحضارتين. وبالمقابل، افتقد هذا الحوار إلي التكافؤ فبينما كان في جانبه الياباني مؤلفا من دولة عملاقة اقتصاديا وديمقراطية ليبرالية سياسيا ومتجانسة الثقافة والحضارة، كان الطرف الإسلامي بداخله تباينات واختلافات علي مستوي الفكر والعقيدة أو علي مستوي الممارسة والتجارب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

4- المبادرة التركية وهي ذات طابع مؤسسي بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، واستضافت اسطنبول منتدي وزاريا حول هذا الموضوع أيضا في ربيع 2002. وبالرغم من تسمية هذا المحفل التي توحي بطابعه الرسمي البحت فإنه تميز بعدة خصائص: الأولي أن معظم الجلسات التي تمت في إطاره كانت مفتوحة لحضور واسع، والثانية أن المتحدثين في هذه الجلسات لم يقتصروا علي الوزراء بل ضموا أكاديميين وخبراء وشخصيات من المجتمعات المدنية للدول المشاركة. فعلي السبيل المثال ضمت إحدي الجلسات وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر السيد ووزير الخارجية الإيراني كمال خرازي والبروفيسير الأمريكي برنارد لوشي والمفكر المصري الدكتور حسن حنفي. أما الخاصية الثالثة المميزة لمنتدي اسطنبول فكانت الصراحة في تناول القضايا التي تمثل مصادر الشكوك المتبادلة بين الطرفين مثل قضايا المرأة والأقليات والتطرف الديني وغياب الحريات المدنية والسياسية والديمقراطية في العالم الإسلامي من جانب الغرب، وقضايا النهب الاقتصادي والاستعلاء الحضاري والسعي لفرض النموذج الغربي واحتكار القرار الدولي السياسي والاقتصادي كاتهامات موجهة للغرب من جانب العالم الإسلامي.

وفي ضوء هذه المعطيات المتراكمة لدعوة حوار الحضارات خلال السنوات القليلة الماضية، يمكن القول بأن تحدي نجاح دعوة حوار الحضارات مرهون بحسم العديد من الإشكاليات ذات الطابع الجدلي في تركيبها.

فهناك أولا الحاجة للوصول إلي حالة توازن بين الحوار القائم علي أسس الديمقراطية الحقيقية من مساواة وتكافؤ واحترام متبادل فيما بين حضارات مختلفة، وبين الحوار داخل الحضارة الواحدة علي نفس الأسس بين أنساق فرعية حضارية وثقافية. فبينما كثر الحديث عن ضرورة إجراء حوار بين الحضارات المختلفة مثل الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية والحضارة الهندية والحضارة الصينية والحضارة اليابانية، لم تظهر سوي نداءات محدودة العدد والتأثير لإجراء حوارات داخل كل حضارة من منطلق الوعي بوجود خلافات وتباينات واختلافات داخل كل حضارة بسبب تعدد النماذج المطروحة للأخذ بها داخل كل حضارة والاختلاف بين أركان كل حضارة وكيفية تطبيق كل منها والحاجة لتفاعل ديمقراطي فيما بين هذه الأنساق الفرعية. فعلي سبيل المثال، ففي داخل الحضارة الإسلامية ما زال الجدل متواصلا داخل العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر الميلادي - أحيانا عبر التحاور بالحجج وأحيانا أخري بالعنف - حول ما إذا كان الإسلام الحضاري يوفر نظرية ونظاما مفصلا للحياة صالحا لكل زمان ومكان ويغطي كافة مناحي نشاط المجتمع أم أنه يوفر إطارا شاملا من القيم والمبادئ العامة والتقليل من الأحكام المحددة بما يجعله صالحا لكل زمان ومكان. وزادت حدة الخلاف بمرور الوقت في وجهات النظر حول أي النموذجين أصلح في عالم اليوم ومن منهما يملك النموذج الصالح لكل زمان ومكان، وذلك بين من يقول بنسبية الحقيقة وجزئيتها أم من يقول بإطلاقها واحتكارها. وفيما يخص الحضارة الإسلامية أيضا، فإذا نظرنا إلي الحضارة الإسلامية في مصر فلا يمكن إنكار أن لمصر أبعاد تعددية حضارية أخري بخلاف الحضارة الإسلامية مثل التراث الفرعوني والقبطي والروماني وإثراء تلك الأبعاد لتعامل مصر مع معطيات الفقه الإسلامي. فعلي سبيل المثال عدل الإمام الشافعي من العديد من أحكام مذهبه بعد انتقاله لمصر بإضفاء الاعتدال والمرونة عليه. كما أن هذا التعدد الحضاري في شخصية مصر أثر إيجابا علي تعاطي مصر مع حوار الحضارات حاليا وعلاقته بالعلاقات الدولية بأسلوب متميز يثري هذا الحوار. كما أن شعب مصر بتعدديته الحضارية تلك اتسم دائما بالتسامح والاعتدال في مجمله وباستثناء فترات محدودة للغاية في تاريخه وأعداد محدودة للغاية من أبنائه. كذلك فإن أي دارس أو مراقب للحضارة الغربية يدرك أن مظاهر تلك الحضارة وأنماط تطورها في أوروبا تختلف عن نظيراتها في أمريكا الشمالية نظرا لاختلاف الظروف الاجتماعية وتباين النظم القيمية وسياق التطور التاريخي واختلاف التجارب في كل حالة عن الأخري. وكذلك الحال في سياق الحضارة الهندية والحالة اليهودية الإسرائيلية حيث يتسم التنوع في كل منهما بالصراع بين المتدينين والعلمانيين نتيجة تشابك تعريف الديانة مع تعريف الحضارة وهو صراع شهدته أوروبا منذ قرون ويري البعض أنه لم يحسم بعد بشكل نهائي وأنه مستمر حتي يومنا هذا، بل أنه انبعث بقوة في السنوات الأخيرة سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة في ضوء تزايد أعداد غير المسيحيين البروتستانت والكاثوليك، بمن في ذلك المسلمون بهذه الدول، كما أنه داخل كل حضارة هناك إسهامات لأشخاص لا ينتمون إلي النسق الديني والمذهبي السائد في هذه الحضارة. فعلي سبيل المثال، ساهم مسيحيون ويهود - خاصة من الأندلس - في ازدهار الحضارة الإسلامية في الكثير من جوانبها. كما أن العديد من المسلمين ساهموا في إثراء الحضارة الغربية الحديثة، ولا يقصد هنا إسهامات الحضارة الإسلامية التي نقلها الغرب في نهضته الحضارية الحديثة، بل نقصد إسهامات مسلمين معاصرين عاشوا في الغرب وساهموا في مسيرة تقدمه الحضاري.

وثانيا، توجد حاجة لتحقيق صيغة ما تضمن التوازن بين الطابع المقيد في المشاركة في بعض مبادرات حوار الحضارات وبين الحاجة لمظلة عالمية للحوار بما يضمن الشفافية والطابع الكوني وعدم صعود تحالفات فيما بين بعض الحضارات ضد حضارات أخري بما ينفي الصفة الديمقراطية عن حوار الحضارات وبالتالي انتفاء تصور أي تأثير إيجابي لحوار الحضارات علي عملية دمقرطة العلاقات الدولية، حيث نلحظ علي سبيل المثال غياب الولايات المتحدة الأمريكية وهي القوة العظمي الوحيدة في عالم اليوم عن كافة المبادرات ذات العضوية المحدودة بينما تشارك في تبني المبادرات التي تتم في إطار الأمم المتحدة.

وثالثا، يتأكد بمرور الوقت وفي ضوء التطورات الدولية الراهنة الحاجة لضمان مشاركة فعالة وذات طبيعة مترابطة في مبادرات حوار الحضارات لكافة الأطراف المعنية من حكومات ومنظمات دولية ومنظمات مجتمع مدني وقطاعات الأعمال ومراكز الأبحاث والجامعات ووسائل الإعلام وذلك لضمان الطابع التمثيلي الديمقراطي لهذه المبادرات. فالتطورات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة سواء من خلال الحرب في أفغانستان تحت شعار الحرب ضد الإرهاب حول العالم أو شن الحرب علي العراق بعد ذلك أدت إلي التأثير سلبا علي التصور المتبادل للعلاقة بين الإسلام والغرب وانعكاس ذلك علي العلاقات الدولية بشكل عام من حيث تغليب وتصعيد روح المواجهة علي حساب روح الحوار والسعي لدمقرطة العلاقات الدولية، إلا أن هذه التطورات أدت أيضا الي زيادة الدور المطلوب من المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في الغرب وفني العالم الإسلامي علي وجه الخصوص للدخول في حوار غير رسمي وقائم علي أسس ديمقراطية حقيقية موازي وداعم لحوار الحكومات بما يعزز الأخير ويكسبه المصداقية وبما يحافظ علي قوة الدفع باتجاه دعوة الحوار.

ورابعا، أثبتت الأحداث منذ 11 سبتمبر 2001 وتداعياته أن مسألة حوار الحضارات ليست ترفا ثقافيا ولا هي سفسطة فكرية منقطعة الصلة بأرض الواقع، بل علي العكس يجب ترجمة حوار الحضارات وارتباطه بمشروعات ملموسة وأنشطة تشعر بها وتمارسها وتستفيد منها الشعوب ومبادئ وممارسات في العلاقات الدولية تؤكد حجية مبادئ المساواة في السيادة والاعتماد المتبادل مع احترام خصوصية الآخر وعدم التدخل في شئونه الداخلية والسعي لإرساء أسس لبناء نظام دولي يتصف بالديمقراطية سواء في أنماط علاقاته أو في منظومته المؤسسية. كما أنه علي الجميع إدراك أنه لا توجد حضارة بعينها، وأيا كانت درجة تفوقها، قادرة بمفردها علي مواجهة وتقديم الحلول للمشكلات والتحديات التي تعاني منها الإنسانية اليوم بل هناك حاجة لتعاون فيما بين الشعوب والدول التي تنتمي لحضارات مختلفة مع ضمان نصيب كل منها في سلطة اتخاذ القرارات التي تتصل بهذه المشكلات والتحديات علي أساس ديمقراطي سواء في المنظمات والمحافل الدولية القائمة أو في أي إطار متعدد أطراف قد ينشأ لمواجهة تحد بذاته. وهنا تتأكد الحاجة لأن تكون هذه الأطر متعددة الأطراف من مؤتمرات وغيرها تحت مظلة الأمم المتحدة وبمرجعية القانون الدولي والشرعية الدولية بما يحمي حقوق ومصالح الدول الصغيرة والمتوسطة في العالم التي قد يمثل بعضها مدارس عريقة وإرثا حضاريا في الفكر الإنساني بمختلف تفريعاته يفيد مجمل المسعي البشري في مسعاه لمواجهة هذه التحديات الكونية والتغلب عليها أو التعامل معها إيجابا. ويجب الأخذ في الاعتبار أن كلا من دعاة صراع الحضارات ودعاة حوار الحضارات يعتمد في دعوته علي منهج إنتقائي في قراءة التاريخ ينتزع الوقائع التاريخية والموضوعية التي تدعم موقفه وتعزز من وجهة نظره ودمجها في سياق يتماشي مع انحيازا ته الأيديولوجية.

وخامسا، فالحضارة الواحدة قد تضم أكثر من قبيلة أو مدينة أو أمة أو عرق أو دين أو قومية أو مجموعة أعم. وفي كل الأحوال فالمحصلة النهائية هي وحدة الجنس البشري والإنسانية في مجموعها. والواقع أن هذا يوجد التداخل الملفت بين الحضارة والدين والعرق والقومية واللغة بشكل خاص وصعوبة التفرقة في التعريف فيما بينهم، أو اعتبار الحضارة ظاهرة متعددة الأبعاد دينيا ولغويا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وربما أيضا اقتصاديا واستراتيجيا. إلا أن الواقع الراهن، بل وفي العقود الأربعة الأخيرة بوجه عام، شهد تصاعدا ملحوظا في أهمية عنصر الدين عند تصنيف الحضارات والثقافات أو إبراز العنصر الغالب أو المؤثر فيها، وهو أمر طبيعي في ضوء الصحوات التي شهدتها معظم الأديان السماوية وغير السماوية وتعزز دورها في السياسات الداخلية والإقليمية والدولية، خاصة الحرب في أفغانستان ضد السوفيت وما تلاها ثم أحداث يوغوسلافيا السابقة، وهو أمر أضفي تعقيدات جديدة علي إشكاليات دور وتفاعل الأديان علي الصعيد العالمي وتشابكه وتداخله مع دور الثقافات والحضارات مما حجم من القليل الذي كان متاحا أصلا من هامش تحرك ديمقراطي علي صعيد اتخاذ القرارات الدولية ذات الصلة بالمسائل التي تهم الإنسانية.

وسادسا، أنه في إطار كل حضارة يوجد تنافس بين الإطلاق والنسبية وبين تفسيرات متباينة ومتعددة بين من هو غير متسامح ويزعم أن لديه الإجابات النهائية والصحيحة علي كافة الأسئلة المطروحة وبين من هو منفتح علي الآخر يقبل بها مرن في حدوده ومتسامح إزاء من يختلف معهم. وفي السياق نفسه، فإن هناك تنافسا بين الدينيين والعلمانيين وما بينهما من تيارات داخل كل حضارة تعتمد علي الدين كمكون أساسي لها.

وسابعا، أن العلاقة بين الحضارتين الإسلامية والغربية ليست بالتأكيد في أفضل أحوالها اليوم وتبتعد عن الحميمية، بل يصفها البعض بالابتعاد عن الود أصلا، كذلك تتداخل فيها المفاهيم الحضارية مع العقائد الدينية البحتة ذات الطابع المقدس، كذلك فالبعض يصف الحضارة الغربية بالمسيحية بينما ينفي عنها البعض الآخر أي صبغة دينية ولكن الإجماع هو أنها الحضارة المنتصرة والسائدة علي الصعيد العالمي حاليا دون أن يعني ذلك اختفاء أو هزيمة بقية حضارات العالم الأخري بالضرورة، إلا أن هذا الانتصار والشعور والزهو به ينعكس سلبا علي أي جهد لإنجاز مهام دمقرطة العلاقات الدولية بل ينقص مما هو موجود من معالم قليلة ومتفرقة لهذه الديمقراطية للعلاقات الدولية هنا وهناك.

وثامنا، أنه علي الصعيد العملي، فإن هناك دورا منوطا بالمسلمين والعرب في بقية أنحاء العالم، خاصة المقيمين منهم في الغرب، للتحرك بهدف تجاوز تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001 وما خلفته من خطاب سياسي واجتماعي وتعديلات قانونية وممارسات يومية وسياسات إعلامية وأكاديمية تناقض جوهر الدعوة الديمقراطية وقيم الحرية والليبرالية أيا كانت زاوية الرؤية لها ومعايير تعريفها وأطرها المرجعية.

وبناء علي ما تقدم، فإن دعوة حوار الحضارات لا يجب النظر إليها كإجراء دفاعي أو وقائي شهره البعض - خاصة في العالم الإسلامي - في مواجهة دعوات صدام الحضارات والتحريض في الغرب خاصة علي حضارات أخري في مقدمتها الحضارة الإسلامية، وبالتالي الدفاع عن قيمة الديمقراطية في العلاقات الدولية علي المستويين الفكري والمؤسسي. بل يجب النظر إلي هذه الدعوة علي اعتبار أنها نقطة تعبئة وانطلاق لحشد كافة الطاقات الإنسانية للاتفاق علي حد أدني مشترك علي أسس التفاهم والاحترام المتبادل بما يمهد لإيجاد حلول علي أساس ديمقراطي دولي لما تواجهه البشرية من تحديات في وقتنا الراهن تهدد بقاءها واستمرارها، والأهم من ذلك أنها تهدد إنسانيتها وعالميتها.

المصدر: الأهرام الرقمي

الأكثر مشاركة في الفيس بوك