النفوس العظيمة وحدها تعرف كيف تسامح
- لبنى الخميس
العفو والصفح عمل تفرح له السماء قبل الأرض، والتسامح والغفران قيم سامية وراقية حثت عليها جميع الأديان والحضارات، وقد حثنا الإسلام بشكل خاص على التسامح بكافة أشكاله، والعفو بجميع صوره. على تلك القيم تربينا.. وهذا ما لقنونا إياه في المدرسة وفي الحياة حين كنا صغارا، فعلمونا أن نسامح المخطئ ونتجاوز عنه، وأن الله يرحم ويغفر، فلماذا يتكبر البشر؟
مرت الأيام والسنوات وكبرنا وزادت تجاربنا وتوسعت مداركنا وآفاقنا، وأصبحت نظرتنا أشمل وذات طابع يحمل الشك وافتراض الخطأ، بدل الصواب في الآخرين. كبرنا واصطدمنا بالواقع، وأدركنا أن ما نشأنا وترعرعنا عليه من قيم جميلة وحميدة، لم يعد صالحاً للزمن الذي نعيش فيه، ومن أجمل وأعمق بل وأهم ما فقدناه من قيم رغماً عنا، قيمة التسامح وثقافة التجاوز والعفو، ففي كل يوم تزيد القضايا والمشاكل في البيوت وبين العائلات والناس، وقد تصل في أحيان كثيرة إلى أروقة المحاكم، لتزيد من تفشي مرض الحقد والضغينة في النفوس.
فهذه العائلة تحتضر أواصر الروابط بينها بسبب ميراث، وهذا يضرب صديقه ويدخله المستشفى ويخاصمه إلى الأبد، بسبب كلمة رماها في لحظة غضب، والزوج يطلق زوجته ويهدم بيته، لأنها لم تطع له أمراً! وقائمة القضايا والحكايات تطول.. تعددت الأسباب والفكر واحد، حتى إن التسامح الفكري لم يعد موجودا.. ومبدأ «إن لم تكن معي فأنت ضدي» أصبح رائجا، الفكر الإقصائي أصبح منتشرا، فالبعض يؤمن بأن من يخالفه في قناعاته وأفكاره وآرائه، هو عدو لدود له تجب مقاطعته.
للأسف أن الكثيرين يعتقدون اعتقادا جازما بأن الشخص الذي يسامح ويتجاوز، هو شخص ضعيف لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولذلك نجد أننا نمثل على أنفسنا وعلى الناس أننا لا نقبل الخطأ ولا نسامح أبدا، لنوهم أنفسنا أننا أقوياء ولنا هيبة لا تتزعزع إطلاقا، حتى إن البعض يعلن بفخر واعتزاز أنه لا يسامح المخطئ مهما كان حجم خطئه، ويفضل أن يعاقب ويكره ويحقد على أن يغفر ويصفح! الكره والحقد أثقل مما نعتقد، ولهما تبعات مدمرة على الأمد القريب والبعيد، فهناك أمراض كثيرة تصيب الحاقد جراء حقده والمبغض بسبب بغضه.
ماذا حدث اليوم حتى قست قلوبنا ونزعت منها الرحمة؟ وما الذي يملأ نفوسنا بالحقد والقسوة يوما بعد يوم؟ ولماذا نرفض أن نسامح ونغفر، فنغرق في المشاكل ويفارقنا النوم وتباغتنا الأمراض التي تدمرنا؟
كم عائلة يجب أن تدمر.. وكم طفلاً يجب أن يشرد.. وكم عاماً مؤلماً آخر يجب أن يمر حتى نتنازل ونعفو ونعترف بأخطائنا إن كنا مخطئين.. ونسامح إن أخطأ أحد علينا؟!
لماذا انعدمت ثقافة التسامح والتصالح بيننا؟ ولماذا لا نغفر ما دمنا نحب؟ وإذا قابلنا الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟
أعتقد أنه حان الوقت كي ندرك أن الكره والحقد والرغبة في الانتقام أثقل مما نعتقد، وأكثر تدميرا مما نظن. كما أننا جميعا معرضون للخطأ، ولا أحد معصوم من الزلل، ونحن لا نعادي الأشخاص بل أخطاءهم. حان الوقت ليبدأ كل بنفسه.. وأن يسامح من أساء له أو اختلف معه. عليه أن يدرك أنه قد آن الأوان لنعيش بهدوء وراحة وطمأنينة، في زمن كثرت فيه الهموم والأوجاع، وأن نتوقف عن حصد المزيد من الخسارات النفسية والصحية والوقتية.
ختاماً أقول.. إن في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم علاجا ومنهاجا سليما، يكفل لنا العيش المريح والكريم في الدنيا والآخرة.. ففي قصصه مع من أساء إليه وعفا عنه خير أسوة، فقد عاداه وحاربه صناديد قريش، ومن كان يضمر له العداء والبغضاء والحقد الدفين، ولما نصره الله عليهم ومكنه جاؤوه خاضعين متذللين يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تظنون أني فاعل بكم؟}، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال صلى الله عليه وسلم: {اذهبوا فأنتم الطلقاء}!
هذا الموقف يمثل قمة التسامح والعفو عند المقدرة، ويثبت أن النفوس الكبيرة والعظيمة وحدها تعرف كيف تسامح، وتعرف ما هي الراحة والعظمة التي تتبع السماح، ومن صفات المؤمنين الصالحين التي وصفهم الله تعالى بها ؟والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس؟، فأين نحن من هذا التوجيه الإلهي العظيم؟
نبض الضمير: «الشجرة لا تحجب ظلها حتى عن الحطاب».
المصدر: http://www.albayan.ae/opinions/1265977236758-2010-05-20-1.246566