ثقافة التسامح والديمقراطية
- د. محمد عبدالعزيز ربيع
-
تعتبر ثقافة التسامح الإطار المجتمعي الذي تتحرك الديمقراطية من خلاله، والمبدأ الأساس الذي يحكم علاقات الناس بعضها ببعض في المجتمع الديمقراطي عامة. ويقوم ذلك الإطار بتوفير الأجواء المناسبة للتفاعل الخلاق بين أفراد الشعب ومؤسساتهم المجتمعية على أساس من الاحترام المتبادل والاعتراف بحقوق متساوية وفرص متكافئة. وهذا يجعل العلاقة بين الديمقراطية وثقافة التسامح علاقة وثيقة للغاية، إذ لا يمكن لثقافة التسامح التواجد في مجتمع ما دون وجود الديمقراطية، كما أنه ليس بالإمكان وجود ديمقراطية دون سيادة ثقافة التسامح بين الناس.
إن سيادة ثقافة التسامح لا تعني التسامح مع الآخرين حين يرتكبون الأخطاء فقط، بل تعني قبول الآخرين كأفراد وجماعات وتجمعات بكل ما يحملونه من أفكار مختلفة وما يؤمنون به من آراء متباينة وما يتبنوه من مواقف أيديولوجية ومعتقدات دينية خاصة. وفي الواقع تعني سيادة ثقافة التسامح في المجتمع تمتع الناس بالحرية، حرية الفكر والرأي والعقيدة، كما يعني غياب التسامح غياب الحريات الشخصية عامة، وانعدام المساواة بين الناس، وسيطرة فكرة إيديولوجية معينة على غيرها من أفكار. وهذا من شأنه تمكين فئة مجمعية أو طبقة اجتماعية معينة باحتكار السلطة في المجتمع وقيامها بحرمان غالبية أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته الأخرى من حقوقهم المشروعة.
إن إدراك أهمية ثقافة التسامح بالنسبة للعملية الديمقراطية من ناحية، وسيادة تلك الثقافة في مجتمعات الغرب الرأسمالية دون غيرها تقريبا من مجتمعات أخرى من ناحية ثانية، دفع العديد من مفكري الغرب إلى القول بأن ثقافة التسامح هي جزء أساسي ومكون رئيسي من ثقافة كل مجتمع. وهذا يعني ـ كما يقولون ـ أن بعض الثقافات تتصف بالتسامح بينما يغيب التسامح عن غالبية الثقافات الأخرى، مما يجعلها غير مؤهلة للتعايش مع الفكرة الديمقراطية، وغير قادرة على إقامة نظم حكم توفر للشعوب فرصا متكافئة وحقوقا متساوية.
مما لا شك فيه أن ثقافة التسامح هي جزء من ثقافة المجتمع، لكنها جزء مكتسب وليست جزءا ولد في رحم الثقافة العامة، وأن من غير الممكن تغييره أو تعديله أو استبداله بشيء آخر. إضافة إلى ذلك، التسامح هو قيمة ثقافية ـ اجتماعية هامة لا تخلو أي ثقافة منها مهما كانت الظروف الاجتماعية والاعتبارات السياسية والمواقف الإيديولوجية. وهذا يعني أن التسامح هو قيمة نسبية، فالثقافات والشعوب عامة لا تتفق على ما يجب أو ما لا يجب التسامح معه من أفعال ومواقف، مما يجعل من الصعب ومن غير المنطقي أيضا الحكم على بعض الثقافات بالتسامح وإدانة ثقافات أخرى بفقدان قيمة التسامح.
وفي الواقع، كان نزوع الإنسان الدائم نحو الحرية والعمل المتواصل من أجل التخلص من أنظمة الكبت والقهر السياسي والثقافي والديني هو الدافع الرئيسي لميلاد ونمو ثقافة التسامح في المجتمعات المختلفة. لقد أدرك الإنسان أنه ليس بإمكانه الحصول على حريته والتمتع بها إذا أنكر على الآخرين حقهم في الحصول على حرياتهم وقام باضطهادهم والتفرقة ضدهم.
ولقد ترتب على ذلك اتجاه الإنسان إلى الاعتراف بحرية الغير من الناس، وإلى إقامة النظم المجتمعية التي تعمل على تحقيق المساواة بين المواطنين وتحثهم على احترام الآخرين والإقرار بأن لكل مواطن كامل الحق في العيش كما يريد واعتناق الدين الذي يريد.
قامت الإيديولوجيات باختلاف أنواعها، الاجتماعية - السياسية منها كالقومية، والاجتماعية ـ الاقتصادية كالماركسية، والدينية عموما بعزل الآخر عن مجريات الأمور في المجتمع وعدم الاعتراف بحقه في التساوي مع أتباعها. وهذا جعل من الصعب على ثقافة التسامح أن تجد البيئة الاجتماعية - الثقافية أو السياسية المناسبة للنمو والازدهار والإسهام الفاعل في نشر الحرية وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في المجتمع. ولذلك ضعفت في ظل سيادة الإيديولوجيات، بغض النظر عن طبيعتها وأهدافها، فرص ظهور تعددية سياسية أو ثقافية أو دينية في المجتمع الواحد، وحصول تلك التعددية على الشرعية الكاملة لممارسة نشاطاتها والتعبير عن آرائها والسعي لتحقيق أهدافها بحرية.
فكل مجتمع وكل ثقافة تتسامح مع أشياء معينة، تقاوم أشياء أخرى، وتتخذ مواقف متباينة تجاه غالبية الأشياء والأمور الحياتية. وكما أشرنا سابقا، التسامح هو قيمة اجتماعية - ثقافية نسبية، مما يجعل بعض المجتمعات تتسامح تجاه أفعال ومعتقدات ومواقف معينة تعتبرها مجتمعات أخرى غير مقبولة، ولا تقبل بالتالي بها ولا تتسامح حيالها.
وعلى سبيل المثال، تميل المجتمعات الغربية عامة إلى التسامح تجاه المعارضة السياسية، وإلى التغاضي عن بعض المسلكيات الاجتماعية غير التقليدية كالشذوذ الجنسي، لكنها لا تبدي نفس الدرجة من التسامح حيال التنوع الثقافي والتباين العرقي، خاصة تجاه السود من المواطنين. وفي المقابل، تبدي المجتمعات العربية والإسلامية عامة درجة عالية من التسامح تجاه السود من المسلمين ولا تقاوم التنوع الثقافي، لكنها تميل إلى عدم التسامح مع المعارضة السياسية والإيديولوجية والمسلكيات الاجتماعية الخارجة عن العادة التقليد.
إلى جانب ذلك، لا تترك الثقافات التقليدية والأنظمة الإيديولوجية مجالا كبيرا ولا حتى كافيا للحوار السياسي مع المعارضة، مما يجعل الاحتكام إلى العنف هو الأداة الرئيسية لحل الخلافات وحسم النزاعات في غالبية الأحيان والحالات والمجتمعات.
قبل وقوع حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السابع عشر لم يكن هناك موقع قدم لثقافة التسامح في المجتمع، بل لم يكن هناك وعي بالحاجة للتسامح بين الناس. إلا أن تفكك الديانة المسيحية إلى مذاهب متباينة أو ديانات متعددة فرض على المجتمع الأوروبي القبول بحق الغير في الاختلاف والتسامح مع أتباع المذاهب الدينية الأخرى، وذلك لأن التسامح مع الآخر كان شرطا لتسامح الناس مع بعضهم البعض وحصول كل شخص وكل مذهب على حقه في حرية الفكر والتعبير والعقيدة.
إن التعرف على أهمية ثقافة التسامح في نشر ودعم العملية الديمقراطية في المجتمع يمكن إدراكه من خلال الاطلاع على تجربة كل من الهند والدول العربية في ممارسة الديمقراطية. ففي الهند استطاعت الديمقراطية أن تغرس جذورها في وعي الناس وفي بنية الثقافة العامة من خلال نشر ثقافة التسامح وتأسيسها في المجتمع، وهي ثقافة بدأت باستخدام المقاومة السلبية واللجوء إلى أساليب سلمية في مقاومة الاستعمار البريطاني والحصول على الاستقلال الوطني. ولقد ساهمت ثقافة التسامح في الهند في بناء تجربة ديمقراطية، وذلك دون وجود تعددية سياسية حقيقية، وفي غياب شبه كامل لطبقة متوسطة قوية وفاعلة، وقبل قيام إعلام حر وحيادي ومستقل.
أما في الدول العربية التي مارست العملية الانتخابية كوسيلة لبناء تجارب ديمقراطية فإن غياب ثقافة التسامح أدى إلى فشل تلك التجارب، وذلك بالرغم من السماح بتأسيس ونشاط الأحزاب السياسية، وظهور براعم واعدة لطبقة متوسطة، وتعدد وسائل الإعلام. وفي ظل التوجه العام والمتزايد نحو التطرف الإيديولوجي، خاصة الديني، يبدو أن فرص نجاح الديمقراطية في الوطن العربي وفي غالبية الدول الإسلامية هي فرص ضعيفة وفي تراجع. وهذا يعني ببساطة أن غرس ثقافة التسامح في المجتمع كقيمة اجتماعية ـ ثقافية هو الشرط الأول والأهم لضمان نجاح التجربة الديمقراطية في كل مجتمع من المجتمعات.
أكاديمي أميركي من أصل عربي
- المصدر: http://www.albayan.ae/opinions/1140326509082-2006-02-24-1.894317