التسامح بين الفضيلة والواجب

التسامح بين الفضيلة والواجب

 

يوسف أبا الخيل

 

التسامح مع الآخرين يعني من ضمن ما يعنيه قبول آرائهم كما هي لا لأجل تمثلها واعتناقها بقدر ما هو افساح المجال لها لتعبر عن نفسها باستخدام آليات التعبير المتاحة في المجتمع على قدم المساواة مع الآراء الاخرى، يدخل في ذلك بالطبع الآراء الشخصية والمعتقدات الجمعية والممارسات الشعائرية للديانات المختلفة بضابطين أساسين هما: نبذ العنف عند استخدام أي من آليات التعبير المختلفة والحفاظ على الوحدة الوطنية كغاية نهائية تتوقف أمامها أية ممارسات معاكسة. هذا التسامح بطبيعته سيكون ثقيلاً على الفرد والمجتمع باعتبار أن الظلم والاستئثار طبع أصيل في النفس البشرية {كلا إن الانسان ليطغى، أن رآه استغنى}، ومن ثم فلا يمكن أن نتوقع أن الفرد او المجتمع سيتفضل على غيره، بفضيلة التسامح بهذا الشكل من تلقاء النفس وفق اريحية ايثارية ما عدا ما يمكن أن يتفضل به بعض النادرين في المجتمعات البشرية وهذه الندرة لا يمكن أن تشد بنياناً او تؤسس حضارة ومن ثم فكان لابد والحالة هذه من أن يتفتق الذهن عن آلية يتم بواسطتها فرض هذا النمط من السلوك بطريقة تلقائية تجعل من حصول الآخر على حقه في تمثل وابداء رأيه المخالف شرطاً أساسياً لحصول الآخرين على ذات الحقوق وهذا ما تفتقت عنه ذهنية الفكر الفلسفي الغربي الذي أسس آلية ناجحة نقلت التسامح من سلم الأخلاق الى سلم الواجبات بالاعتماد على فلسفة مؤداها أن حقي في ابداء رأيي وتمثله ينظر اليه باعتباره واجباً على الآخرين.

بداية كان مفهوم التسامح وفق المصدر اللاتيني (toleration) يعني انه مفردة يتفضل بها ذاك الشهم الكريم على من يشاء لنيل تبجيل الناس وثنائهم على كرم أخلاقه ونبل أحاسيسه ولكنه يستطيع أن لا يتسامح اذا أراد ومن ثم فلا قوة ملزمة له في هذا الاتجاه، وهذا فقد احتاج الأمر الى استحداث معنى جديداً للمصدر اللاتيني ينقل التسامح من سلم الأخلاق الى سلم الواجبات وهذا ما فعله (تي اس اليوت) كما يشير سمير الخليل في كتابه (التسامح بين شرق وغرب) إذ يشير الى انه نقله لكي يصبح ضمن فلسفة مؤداها انه لكي يتمكن الفرد من معايشة آرائه ومعتقداته بحرية كاملة فإن عليه أن يعطي ذات المفهوم الحرية للاخرين للتعايش مع افكارهم ومعتقداتهم.

ساعد على فرض هذا الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي يشير الى أن الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الاخاء، هذا الاعلان جعل أحد كبار منظري التزاوج الأمريكي الأوروبي في مجال الحقوق الانسانية هو الانجليزي (توماس بين) ينظر اليه باعتباره آلية تلقائية لفرض التسامح في المجتمع متكئاً على الفلسفة الجديدة للمفهوم الجديد للتسامح اذ يقول في كتابه (حقوق الانسان) الذي صدر في عام 1791- 1792م (إن اعلان الحقوق هو من حيث المبادلة أيضاً اعلان للواجبات، ان كل ما حق لي باعتباري انسان هو أيضاً حق لانسان آخر ولهذا يصبح من واجبي أن أضمنه وأن أمتلكه في نفس الوقت).

إذاً فقد اقتضى الأمر لتنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض وسط تدشين مبدأ سيادة حرية التعبير دخولهم في تسوية ستكون بالطبع ثقيلة على النفس البشرية ولكنها ستتيح وضعاً وسطاً بين ما يبديه ويعتنقه الفرد برضا وحماس مما يخص ذاته وبين الآخر المختلف معه الذي سيجد نفسه مجبراً على القبول به من أجل اتمام الدخول في هذه التسوية فكان التسامح هو الآلية الوحيدة الناجعة لضمان تنفيذ واستمرار هذه التسوية بين افراد المجتمع.

هكذا اذن استطاع اليوت ومعه فلاسفة عصر التنوير الاوروبي من أمثال توماس بين قلب مفهوم التسامح إذ نقله من كونه قيمة مثالية اختيارية الى كون جزءاً لا يتجزأ من الحرية الفردية بل والضامن لممارستها سوسيولوجيا بلا مشاكل وبلا انتظار ممل لبعث أناس مثاليين يتكرمون بخلعها على من يريدون وربما يمنعونها عمن لا يريدون.

على الجانب الآخر فإن كلمة (تسامح) باللغة العربية تأتي كمصدر للفعل (سمح) الذي يعني في الفضاء اللغوي العربي قيام الفرد بالتنازل عن مفردة ما تجاه الآخر عن طيب خاطر منه دون أن تكون مفروضة عليه بمعنى لا تشكل احد طرفي تسوية ثنائية قبل بها ويؤديها بشكل تلقائي كأحد بنود اتفاقية ملزمة له ليس له الخيار في أدائها من عدمه كما هو الحال في المفهوم الغربي الحالي أي أن المفهوم العربي يماثل المفهوم اللاتيني القديم القائم على ابتغاء ثناء الناس وتعاطفهم مع المتسامح ولكنه (أعني المفهوم) لا يزال بغير قوة عرفية ملزمة به؟

تباين التأصيل الفلسفي لمفهوم التسامح بين الثقافتين الغربية والعربية كان له أثره الكبير على الواقع السوسيولوجي والابستومولوجي ومن ثم امتد اثره الى جميع مناحي الحياة الاخرى لكل جانب.

فبفضله استطاعت اوروبا ان تخرج من أحاديثها المظلمة وما ترتب عليها من اوضاع خاصة تلك الحروب الدينية المرعبة في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تسببت فيها الأورثوذكسية الكاثوليكية التي قامت على تسنين عقيدة واحدة لا يسمح لأحد كائناً من كان بالاتصال بالله تعالى خارج تعاليم أساقفتها الى فضاء فلسفة عصر التنوير التي دشنت تأصيل مبدأ نسبية الحقيقة التي يقر فيها الفرد انه لا يملك (إن ملك) إلا جزءاً بسيطاً من الحقيقة يماثل ربما ما يملكه الفرد الآخر ومن ثم فقبول هذا الآخر لم يعد مجرد زخرف من القول او مجرد مفردة كرم يتفضل بها فرد على آخر.

أما وفق المفهوم العربي للتسامح فإنه يمكن القول بأن الثقافة العربية لم تعرف بعد هذا المصطلح كقيمة مركزية ضمن سلم الواجبات وكان لذلك اثره الكبير في بروز واستمرار الاورثوذكسية العربية (إن جاز التعبير) القائمة على النظرة الأحادية التي تنسف من يعتمر خارج عباءتها وأسست بلاشك لهذه النظرة المغالية المؤسسة للتطرف والفكر المتشدد الذي يستمد زاده من نظرة مقننة تظن أنها تمسك بالحقيقة مطلقاً وبالتالي فكل فكر مخالف لتلك النظرة القويمة ينظر اليه باعتباره شاذاً او محرماً مع المحاولة ما أمكن لزندقته ورميه بكل نقيصة و(تشريع) وأده وأصحابه في المرحلة الاخيرة من سلسلة العنف.

لذا فإن داء التعصب والانغلاق الذي نعاني منه اليوم يكمن في الانقلاب على الطبيعة البشرية وتسنين رأي واحد ونفي الآراء الاخرى وخاصة من تستنير بنور العقل والنظر الفلسفي والحل يكمن فقط بالعودة الى تلك الطبيعة البشرية المركبة على الاختلاف والتعدد. وقد اشار القرآن الكريم صراحة الى تلك الطبيعة البشرية بالآية رقم 118من سورة هود {ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين} والاشارة القرآنية غاية في الدلالة فلقد عبر عن هذا الاختلاف بالفعل المضارع (لا يزالون) وهذا القرآن خاتم الكتب المنزلة وبالتالي فلا يزال الناس مختلفين الى يوم القيامة.

كما يكمن الحل ايضاً بالايمان بأن جوهر الدين هو الحرية ولا يمكن أن يؤمن الانسان برأي او فكرة او دين ويتشربها عقله وهو مكره عليها ولقد أشار القرآن الى هذه النقطة بقوله تعالى في (الآية رقم 99من سورة يونس) {ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} وحرية العقيدة مضمونة بنص القرآن {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ولا يمكن للانسان أن يكون حر العقيدة إلا في ظل تعددية معترف بها. فهل يعي أولئك الذين يريدون اجبار الناس بالارهاب والجبر على اعتقاد ما يؤمنون به وما يرونه أنهم يسيرون عكس مقتضى حكمة الله من خلقه حين خلقهم مختلفين وهو ما تشير اليه الآية رقم 119من سورة هود وهي قوله تعالى بعد أن ذكر ان الناس لا يزالون مختلفين في الآية التي قبلها {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} والضمير في كلمة (لذلك) يشير للاختلاف وأنهم بذلك ينكرون أهم معالم الاسلام الخالدة وهو حرية المعتقد المرتكز أساساً على التعددية.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2004/06/17/article14833.html

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك