تبصير المفكرين بحوار القرآن مع المشركين حول توحيد رب العالمين
تبصير المفكرين
بحوار القرآن مع المشركين حول توحيد رب العالمين
بحث مقدم إلى
مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي
28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة
إعداد
د⁄إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر
والأستاذ المساعد بكلية التربية للمعلمات
بحوطة بني تميم بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي شرح صدورنا بالإسلام وأنار قلوبنا بالقرآن وشرفنا بالانتماء إلى أمة الإسلام .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنان جعل هذه الأمة خير أمة عرفها الإنسان .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعا إلى الله تعالى بالحجة والبيان
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد ...،،
لما كان الحوار من سمات التخاطب البشري ، وأسلوب يحتاج إليه كل صاحب رسالة وفكر، فإن جذوره تمتد إلى بداية وجود الإنسان بل قبل خلقه ، وقد حكى القرآن الكريم صورا عديدة منها .
واليوم بعد أن قامت حملة شعواء على هذا الدين الحنيف ، كان لزاما علينا – أهل العلم خاصة - أن نرد غيبة هذا الدين الذي نمثله وليس ذلك فحسب بل وجب علينا أن نعيد نحن المسلمون النظر في جواهره وكنوزه لنزداد إيمانا به ومحبة له .
ومن هذا المنطلق وامتداداً لندوات ومؤتمرات فكرية سابقة جاء مؤتمر( الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي ) الذي تنظمه جامعة الشارقة لتؤكد موقع هذه الجامعة وتلك الإمارة ودورها الريادي واهتمامها بمسايرة المستجدات على الساحة العلمية والفكرية فلهم منا خالص الدعاء والشكر والتقدير .
وقد شرح الله تعالى صدري للمشاركة في هذا المؤتمر لأبحث في الحوار مع المشركين في القران الكريم من خلال هذا البحث الذي سميته بـ ( تبصير المفكرين بحوار القران مع المشركين حول توحيد رب العالمين ) وقد رأيت تقسيمه إلى هذه المقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة على النحو التالي :
المبحث الأول : تعريف الحوار وصوره وأطرافه في القران الكريم
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الحوار والعلاقة بينه وبين الجدل والمحاجة والمراء .
المطلب الثاني : صور الحوار في القران الكريم .
المطلب الثالث : أطراف الحوار في القران الكريم .
المبحث الثاني : الحوار مع المشركين
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : أساليب الحوار مع المشركين في القران الكريم .
المطلب الثاني : محل الحوار مع المشركين في القران الكريم .
المبحث الثالث : الحوار مع المشركين في توحيد رب العالمين
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول :المراد بتوحيد رب العالمين .
المطلب الثاني : محاور الحوار مع المشركين في توحيد رب العالمين .
المطلب الثالث : دلالة هذه الحوارات القرآنية .
الخاتمة .. كيفية تفعيل هذه الحوارات في منهج الدعوة في واقعنا المعاصر .
والله تعالى أسأل السداد والتوفيق إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم .
المبحث الأول
تعريف الحوار وصوره وأطرافه في القران الكريم
المطلب الأول
تعريف الحوار وبيان العلاقة بينه وبين الجدل والمحاجة والمراء
لقد بحثت في القران الكريم عن الحوار والألفاظ ذات الصلة به فوقفت منها على ثلاثة وهي :
الجدل والمحاجة والمراء ولذا فسأقتصر – بإذن الله تعالى- على تعريف المصطلحات الأربعة مع بيان العلاقة بينها فيما يلي :
أولا ً_ تعريف الحوار :
الحوار لغة : مصدر حاور يحاور حواراً أي رجع ، يقال حار بعدما كار، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من النقصان بعد الزيادة ، وحاوره محاورة راجعه الكلام , وتحاور القوم تحاورا تجابوا وتراجعوا الكلام ، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة (1)
والتحاور هو مراجعة الكلام قال عنترة في فرسه :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي (2)
والحور التردد إما بالذات وإما بالفكر، ومنه قوله تعالى ﴿ انه ظن أن لن يحور ﴾(3) أي لن يبعث ، وحار الماء في الغدير تردد فيه . (4)
ومما تقدم يمكن تعريف الحوار بأنه : مراجعة الكلام بين طرفين في موضوع محدد لغاية .
ثانيا _ تعرف الجدل :
الجدل لغة : مصدر جدل أي فتل ، والجدل شدة الفتل وجدلت الحبل أجدله جدلا إذا شددت فتله
والجدل اللدد في الخصومة والقدرة عليه (5) ، وتجادل القوم تعادلوا وتخاصموا وتضاغنوا ،
وجادل ناقش بالحجج والأدلة ، والجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة (6) .
والجدل عنف الخصومة في المناقشة ، وأكثر ما يستعمل في صراع الآراء و الأفكار، حيث يحاول كل مجادل أن يفرض رأيه ويناضل عنه في صلابة (7) .
1- يراجع : لسان العرب 4⁄ 217 ،218 ومعجم مقاييس اللغة 2 ⁄117والصحاح 2⁄640،638 والقاموس المحيط 2⁄ 16،15 ومعجم ألفاظ القران ⁄ 306 .
2 – زاد المسير 8 ⁄182 .
3- سورة الانشقاق "14" .
4-مفردات غريب القران ⁄ 134 .
5- يراجع : لسان العرب 11 ⁄105،103 والصحاح4 ⁄ 1653 و القاموس المحيط 3 ⁄357 .
6- يراجع : معجم مقاييس اللغة 1/ 433 ومفردات غريب القران /87 ومعجم ألفاظ القران /184 .
7- يراجع : القران وقضايا الإنسان /116 .
ومما تقدم يمكن تعريف الجدل بأنه : المفاوضة بين طرفين على سبيل المنازعة والمغالبة مع شدة الخصومة .
ثالثا _ تعر ف المحاجة :
المحاجة لغة : مصدر حاج يحاجه حجة وحجاجا نازعه الحجة ، والتحاج التخاصم وحجه يحجه حجا غلبة على حجته في الحديث ( فحج آدم موسى ) (1) أي غلبه بالحجة (2) .
ومما تقدم يمكن تعريف المحاجة بأنها : التخاصم بين طرفين والتنازع بينهما بقصد الغلبة لأحدهما بالحجة .
رابعاً _ المراء :
المراء لغة : مصدر مارى مراءً ومماراة ناظره وجادله ، وماريت الرجل أماريه مراءً إذا جادلته (3) وعلى ذلك يمكن تعريف المراء بأنه : المجادلة بين طرفين لمن جحد أحدهما حق الآخر .
خامساً _ العلاقة بين الحوار والجدل والمحاجة و المراء :
بعد الوقوف على تعريف كل من الحوار والجدل والمحاجة والمراء يتضح لنا ما يلي :
1- أن المصطلحات الأربعة جميعها لابد لها من طرفين يدور بينهما الحوار أو الجدل أو المحاجة أو المراء.
2- أن أربعتها فيها مراجعة بين الطرفين .
3- أن مراجعة الكلام بين الطرفين إن كانت على سبيل المنازعة مع شدة الخصومة كان جدلا،وان كانت بقصد الغلبة لأحدهما بالحجة كان محاجة ، وان كانت يجحد حق مقابله كانت مراءً ، وان كانت خالية مما تقدم كان حوارا ، ومن هنا كان الحوار أعم من الجدل والمحاجة والمراء .
4-أن الحوار إذا خلا من شدة الخصومة وقصد الغلبة وإنما لإظهار الحق كان هادئا الأمر الذي يؤدي إلى تحقيق الغاية المنشودة من وراء الحوار غالبا .
5-أن الجدال إذا خلا من شدة الخصومة وقصد الغلبة كان حوارا وكذلك المراء ، وهذا هو
الجدل بالحسنى الذي هو منهج الرسل عليهم السلام ومن على شاكلتهم من الدعاة وأهل العلم
والمفكرين و المصلحين .
1- جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيما اتفق عليه الشيخان ، يراجع : اللؤلؤ والمرجان 3/211برقم 1700 كتاب القدر باب حجاج ادم وموسى عليهما السلام
2- يراجع : لسان العرب 2/228 والصحاح 1/304 والقاموس المحيط 1/188 ومفردات غريب القران /106 ومعجم ألفاظ القران / 237 .
3- الصحاح 6/2491 ومعجم مقاييس اللغة 5/ 314 والمعجم الوسيط 2/866.
المطلب الثاني
صور الحوار في القران الكريم
إن الحوار مع الآخر في القران الكريم حقيقة ثابتة ومتكررة في ثنايا آيته الكريمة ، ويمكن أن نحصر صوره في صورتين :
الصورة الأولى _ وجود الحوار لفظا أو ما في معناه .
سبق أن قررنا أن هناك جامعا مشتركا بين الحوار والجدل والمحاجة و المراء وهو مراجعة الكلام بين طرفين .
وقد تكررت هذه المصطلحات الأربعة في القران الكريم عدة مرات :
الأول _ الحوار : وردت مادته أربع مرات على النحو التالي :
1- قوله تعالى ﴿ وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾(1)
2- قوله تعالى ﴿ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ﴾ (2)
3- قوله تعالى ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ﴾ (3)
4- قوله تعالى﴿ انه ظن أن لن يحور﴾ (4)(5) أي لن يبعث .
واعتبر الأصفهاني رحمه الله هذا ترددا ( حوارا ) بالفكر (6)
الثاني _ الجدل : وردت مادته في القران الكريم في تسعة وعشرين موضعا(7) ولا يستع المقام لذكرها ، لكن العلماء قسموا الجدل إلى قسمين :
القسم الأول : جدل محمود وهو الجدل في الدين وتقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله
والذب عن دين الله تعالي وهو حرفة الرسل عليهم السلام ومن تبعهم من العلماء العاملين والدعاة المخلصين .
القسم الثاني : جدل مذموم وهو الجدل بغير الحق و تقرير الباطل وطلب المال والجاه وهو حرفة الشياطين وأوليائهم من الإنس (8) .
1- صورة الكهف /34 . 2- صورة الكهف /37 .
3 - صورة المجادلة /1 . 4- صورة الانشقاق /14 .
5- يراجع : المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم /320 6- يراجع : مفردات غريب القران / 134 . 7 - يراجع : المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم /165 8 – يراجع : الجامع لاحكام القران 9/28،27 والتفسيرا لكبير 5/167والحوار /69ومعجم الفاظ القران /184
والقسم الأول هو الجدل بالحسنى ، وحينئذ يكون مرادفا للحوار فيفسر أحدهما بالآخر، ومن ذلك قوله تعالى ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ﴾ اى تحاورك (1). وقوله تعالى ﴿ قال له صاحبه وهو يحاوره ﴾ اى يجادله ويخاصمه (2) .
الثالث _ المحاجة : وردت مادته في القران الكريم في ثلاثة عشر موضعا (3).
وهو قريب من الحوار والجدل وقد فسر بعضهم الجدال بالتحاج كما في قوله تعالى ﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ (4) اى لاتحاجج عن الذين يخونون أنفسهم (5) .
الرابع _ المراء : وردت مادته في القران الكريم في عشرين موضعاً وهي تتردد بين الجحود والشك والجدل المذموم (6) وقد يأتي بمعنى الجدل المحمود كما في قوله تعالى ﴿ فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرا ﴾ (7) أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك ، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى ، وقيل معنى المراء الظاهر: أن تقول ليس كما تقولون ونحو هذا ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك .(8)
الصورة الثانية : وجود الحوار حقيقة .
لقد حوى القران الكريم آيات كثيرة تخاطب العقل البشري وتدعوه إلى التفكر والتدبر ، هذه المخاطبة بعضها ورد بصيغة القول ومادته التي بلغ مجموعها (1732) مرة تقريبا ، كان نصيب (قال ) منها (531) مرة قريباً،ونصيب (قل) منها (333) مرة تقريباً(9)، وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بما بعدها المعاصرين له خاصة المشركين وأهل الكتاب والمنافقين.
وحيث إن الحوار : مراجعة للكلام بين طرفين فقد رأينا تحقق ذلك في كثير مما وردت به مادة (القول ) ولكن هذه المراجعات (المحاورات ) إذا نظرنا إليها باعتبار وقت وقوعها فإنها تأخذ وجوهاً ثلاثة :
الوجه الأول : حوارات وقت قبل الإسلام أوردها القران للعظة والاعتبار منها على سبيل المثال ما ورد في سورة البقرة :
1- حوار الله عز وجل مع الملائكة في استخلاف آدم عليه السلام الآيات (30-33) .
2- حوار موسى مع قومه في ذبح البقرة الآيات (67-74) .
1- يراجع : تفسير النسفي 4/231. 2- يراجع : تفسير القران العظيم 3/89 .
3-يراجع : المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم /194،193 . 4- سورة النساء 107 .
5- يراجع : الجامع لأحكام القران 5/378وفتح القدير 1/511 . 6- يراجع : أدب الحوار والمناظرة /26-28، والمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم /665 .
7- سورة الكهف /22 .
8- يراجع : الجامع لأحكام القران 10/384وجامع البيان 15/220 والتفسير الكبير 21/106 وفتح القدير 3/278 .
9- يراجع : معجم مفهرس لألفاظ القران الكريم /554-578 .
3- حوار الملأ من بني إسرائيل مع نبيهم حول طالوت الآيات (246- 249) .
4- حوار إبراهيم عليه السلام مع النمرود الآية (258) .
5- الحوار مع عذير عليه السلام الآية (259) .
6- حوار إبراهيم عليه السلام مع ربه جل وعلا الآية (260) .
الوجه الثاني : حوارات المعاصرين لنزول القران من المشركين وأهل الكتاب ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة .
ومن ذلك - على سبيل المثال - الحوار مع أهل الكتاب في سورة البقرة الآيات (135-141) ، وسورة آل عمران الآيات (61-71 ، 83 ) .
الوجه الثالث : حوارات ستحدث في المستقبل أخبر الله عز وجل بها للتفكر والاعتبار .
ومن ذلك :
1- حوار أهل الجنة وأهل النار في سورة الأعراف الآيات (44-51) .
2- حوار أهل النار مع بعضهم كما ورد في سورة سبأ الآيات (31-33) ، سورة ص الآيات (59-64)، وسورة غافر الآيات (47،48) .
3- حوار الله عز وجل والملائكة مع أهل النار كما ورد في سورة المؤمنون الآيات (105-115) ، وسورة الزمر الآيات (71،72) ، وسورة غافر الآيات (49،50 ) .
4- حوار المنافقين مع المؤمنين كما ورد في سورة الحديد الآيات (14،13) .
المطلب الثالث
أطراف الحوار في القران الكريم
إن الناظر في حوارات القران الكريم يرى أنها قامت بين أطراف متنوعة ومتعددة فوجدنا فيها حوارات مع الله عز وجل وحوارات من الأنبياء عليهم السلام وحوارات مع الملائكة وحوارات مع الصحابة رضي الله عنهم وحوارات مع أهل الكتاب وحوارات مع المشركين وحوارات مع المنافقين والأعراب وحوار للإنسان مع الإنسان وحوارات للجن مع بعضهم .
وسأعرج على التمثيل بالحوار مع الله تعالى دون غيره لضيق المقام .
الحوار مع الله تعالى : الحوار مع الله تعالى إما أن يبدأه عز وجل مع غيره من خلقه وإما أن يبدأه المخلوق معه جل وعلا فهذا النوع من الحوار له صورتان :
الصورة الأولى : حوار الله تعالى مع غيره من المخلوقين .
مثاله : حواره عز وجل مع إبليس في رفضه للسجود لآدم في قوله تعالى ﴿ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ﴾ (1)
لقد عقب الشهرستاني رحمه الله على هذا الحوار القرآني تعقيباً طيباً في قوله : اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس لعنه الله مصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص ، واختياره الهوى في معرضة الرأي ، واستكباره بالمادة التي خلق منها ، وهي النار على مادة آدم عليه السلام وهي الطين ، وتشعبت من هذه الشبهة سبع شبهات وسارت في الخليقة وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة ا.هـ (2)
الصورة الثانية : الحوار مع الله تعالى .
مثاله : حوار نوح عليه السلام مع ربه جل وعلا في ابنه في قوله تعالى ﴿ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وان وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين قال يا نوح انه ليس من اهلك انه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ﴾ (3).
هذه الآيات يدور محور الحوار فيها حول - كنعان – ابن نوح عليه السلام الذي كفر وهلك غرقا مع الكافرين ولنا أن نستنج منه ما يلي :
1- أن نوح عليه السلام أراد أن يستشفع لولده عنده ربه جل وعلا معتقدا أنه من أهله الذين أعطاه الله تعالى وعدا بنجاتهم ،و ذكر النسفي رحمه الله أن ابن نوح عليه السلام كان على دينه لكنه كان منافقا فسأل نوح عليه السلام ربه على الظاهر الذي عنده .
2- أن الله تعالى صحح لنوح عليه السلام ظنه وفهمه للوعد بان أهله هم لمؤمنون ولذا فابنه ليس منهم لأنه عمل عملا غير صالح وهو الكفر .
3- اعتذر نوح عليه السلام إلى ربه جل وعلا وطلب منه المغفرة والرحمة وإلا كان من
الخاسرين . (4)
المبحث الثاني
الحوار مع المشركين
المطلب الأول
أشكال الحوار مع المشركين في القران الكريم
1- سورة الأعراف /12- 18 . 2- الملل والنحل 1/16 .
3- سورة هود /45-47 . 4- يراجع تفسير النسفي 2/192،191 وقصص القران /21 ، ومع الأنبياء في القران /70 – 72 .
إن حوار القرآن الكريم للمشركين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن على شاكلتهم الى يوم الدين إما أن يكون حوارا معهم أو حوارا لهم ولذا فالحوار مع المشركين باعتبار البادئ به له شكلان :
الشكل الأول : الحوار مع المشركين .
الشكل الثاني : حوار المشركين .
ونفصل القول في كل واحد منهما فيما يلي :
الشكل الأول : الحوار مع المشركين .
لقد حاور القران الكريم المشركين وخاطب عقولهم أن تفكر في هذا الكون وهذه النعم التي تحيط بهم علهم يرجعون إلى رشدهم ويؤمنون بأن الله تعالى واحد لا شريك له وأنه الخالق الرازق المحي المميت الذي لا يستحق العبادة إلا هو .
هذه الحوارات كانت كثيرة ومتكررة لكنها أخذت أشكالاً أو صوراً عدة : فمنها ما كان حواراً مباشرا من رب العزة جل وعلا ، ومنها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأه معهم استفهاماً بعد لفظ (قل) ، ومنها ما كان سؤالا منه صلى الله عليه وسلم للمشركين ، فهذه ثلاث صور للحوار مع المشركين في القران :
الصورة الأولى : حوار الله تعالى مع المشركين .
خاطب الله تعالى المشركين – وغيرهم – في آيات كثيرة على وجه الاستفهام مذّكراً إياهم ببعض آيات قدرته التي يرونها ملموسة في الكون أمام أعينهم ، أو ببعض نعمه عليهم والتي لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر ، أو ببعض دلائل قدرته على البعث والنشور ، ومن ذلك :
قوله تعالى : ﴿ أأنتم اشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم ﴾ (1)
والخطاب في هذه الآيات استفهام توبيخي للمشركين من أهل مكة ومن على شاكلتهم من منكري البعث مفاده : أيهما اشد خلقا في تقديركم أنتم أم السماء ؟ التي رفعها الله سبحانه وتعالى عالية مستوية الأرجاء واظلم ليلها واظهر نورها ، وكذلك الأرض التي بسطها واخرج منها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار ، وكذلك الجبال التي ثبت بها الأرض أن تميد بكم ، كل ذلك متاع لكم ولأنعامكم التي تركبونها وتأكلونها (2) .
1- سورة النازعات /27-33 . 2- يراجع : الجامع لأحكام القران 19/203 - 206 وتفسير البغوي 4/ 445،444 والتفسير الكبير 30 / 43 – 49 وتفسير أبي السعود 5/469-4270 وزاد المسير 9/23،22 .
هذا الاستفهام يعد حواراً مع المشركين بدعوتهم بالتفكر في آيات قدرة الله تعالى وأقربها وأعظمها السماوات والأرض وما فيهما ، ولا شك أن الذي خلقهما قادر على أن يعيد الإنسان للحياة مرة ثانية بعد موته .
الصورة الثانية : حوار النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بصيغة الاستفهام بعد (قل) .
لقد تكرر الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه جل وعلا بمخاطبة المشركين بلفظ (قل) ، وهذه تعد درجة من درجات الحوار مع المشركين يبدأها النبي صلى الله عليه وسلم نقلا عن رب العزة جل وعلا ، ومثال ذلك :
قوله تعالى ﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لاريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من اسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾ (1)
هذه الآيات الكريمات حوت محوراً مع المشركين كلف به النبي صلى الله عليه وسلم من رب العزة جل وعلا من وجوه خمسة :
الوجه الأول : أن يسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم :هذه السماوات والأرض وما فيها من الكائنات والمخلوقات ملك لمن ؟ هل هناك أحد غير الله تعالى يدعي أنها له ؟
الوجه الثاني : أن الله تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بالجواب (قل لله) عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة ، لأن من سأل غيره عن شيء ثم عقبه بالجواب كان ذلك أبلغ تأثيراً فقد بلغ في الظهور بحيث لا يقدر على إنكاره منكر .
الوجه الثالث : استفهام توبيخي موجه إلى المشركين مفاده : أاتخذ معبودا غير الله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض وهو الخالق الرازق .
الوجه الرابع : أن الله تعالى أمرني بالإسلام ونهاني عن الشرك .
الوجه الخامس : أني أخاف عقاب ربي يوم القيامة إن خالفت أمره وعبدت غيره . (2)
الصورة الثالثة :حوار النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بصيغة السؤال .
لقد حاور النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بأمر ربه جل وعلا بصيغة السؤال في آيات كثيرة منها :
1- سورة الأنعام /12- 15 .
2- يراجع تفسير القران للسمعاني 1/91 ، والتفسير الكبير 12/164-170 ، وزاد المسير 3/10 ، وتفسير أبي السعود 2/177-180 .
قوله تعالى ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ (1)
في هذه الآيات الكريمات نرى حواراً مبنياً على استجواب المشركين وسؤالهم عن خالق السماوات والأرض ، وجوابهم مسلم بأنه الله تعالى ، وهذا الجواب والإقرار استتبع تسلسل الحوار معهم لبيان عجز آلهتهم التي يعبدون من دون الله تعالى فإنها لا تستطيع أن تدفع الضر عنهم أو أن تمسك رحمة من الله تعالى نازلةً عليهم .
فلم يجيبوا ، ولذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يكفيني هو ربي جل وعلا الذي يتوكل عليه المتوكلون ، وإني ثابت على ما أمرني به ربي ، وأنتم بإصراركم على الشرك ثابتون عليه ، ويوم القيامة تدركون من يحل عليه عذاب الله ونقمته (2) .
الشكل الثاني : حوار المشركين
إن المشركين أحيانا يبدأون الحوار- بل الجدال – مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون قولا فيه نقص لرب العزة جل وعلا أو للرسول صلى الله عليه وسلم أو للقران الكريم أو تشكيكا في الغيبيات فيأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد قولهم ، وأحيانا يوجهون أسئلة استنكارية أو تعجيزية - في نظرهم - للنبي صلى الله عليه وسلم فيأمره الله عز وجل بالرد عليهم ومن هنا كان حوار المشركين له صورتان :
الصورة الأولى : رد أقوال المشركين .
لقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد على المشركين في أقوالهم التي يجادلونه صلى الله عليه وسلم فيها تمسكا بعقيدتهم الضالة مثال ذلك : قوله تعالى ﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قل هل من عندك من علم فتخرجون لنا إن تتبعون إلا الظن وان انتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فان شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ﴾ (3) .
في هذه الآيات الكريمات - الاخيرات- يخبر الله تعالى بما سوف يقوله المشركون اعتذارا لشركهم وتحريم ما احل الله تعالى من المطاعم ، فقالوا : إن الإشراك منا وتحريم الحلال كان
1- سورة الزمر (38-40) .
2- يراجع الجامع لأحكام القران 15/258-260 ، وفي ظلال القران 24/34 ، والمنتخب من تفسير القران الكريم /689،688 . 3- سورة الأنعام 148-150 .
بمشيئة الله تعالى ولو شاء الله عز وجل ألا نشرك ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ولكنه - جل وعلا - شاء فهذا عذرنا .
فرد الله تعالى زعمهم هذا من أربعة أوجه :
الوجه الأول : أنهم تبعوا في ذلك المكذبين للرسل من قبلهم .
الوجه الثاني : أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم : هل عندكم من مستند صحيح على أن الله تعالى رضي لكم الشرك وتحليل الحرام فتظهروه لنا ؟
الوجه الثالث : أنكم تتبعون الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد .
الوجه الرابع : أن الله تعالى له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من يهدى وإضلال من يضل فكل بقدره ومشيئته .(1)
هذا الحوار بدأه المشركون أو سيبدؤونه دفاعا عن عقيدتهم الباطلة : بأن إشراكهم بالله تعالى مشروع ، لأنه بمشيئته جل وعلا ، فطالبهم عز وجل بإثبات ذلك ، ولم ولن يستطيعوا ؟ فبطلت حجتهم ، وبان فساد اعتقادهم .
الصورة الثانية : الرد على أسئلة المشركين .
لقد جادل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمور ووجهوا إليه صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة في موضوعات مختلفة ومنها :
قوله تعالى ﴿ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ (2)
في هذه الآية الكريمة سأل مشركو مكة عن القتال في الشهر الحرام يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه استحل حرمة الشهر الحرام حينما قتلت سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه عمرو بن الحضرمي في أول ليلة من رجب معتقدين أنهم في جمادى الآخرة .
فأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بأن هذا الذي أنكرتموه على المسلمين وإن كان كبيراً في نظركم ، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله – تعالى – والصد عن سبيله وعن بيته الحرام ، وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه ، والشرك الذي أنتم عليه ، والفتنة التي حلت منكم به أكبر عند الله تعالى من قتالهم في الشهر الحرام .(3)
1- يراجع : تفسير النفسي 2/39 ، وتفسير القران العظيم 2/174،173 ، وتفسير المراغي 8 /63،62 ، والمنتخب من تفسير القران الكريم /199 .
2- سورة البقرة 217 .
4- يراجع : بدائع التفسير 1/393، تفسير البغوي1 / 188 -190 ، وتفسير القرآن العظيم 1/ 221، وزاد المسير 1/ 236 .
المطلب الثاني
محل الحوار مع المشركين في القران الكريم
لقد اختلفت موضوعات ومحاور الحوار مع المشركين في القران الكريم وتنوعت إلى موضوعات عدة كان أكثرها تكراراً هذه الموضوعات الأربعة :
الموضوع الأول : توحيد الله عز وجل .
الموضوع الثاني : البعث والنشور .
الموضوع الثالث : القرآن الكريم .
الموضوع الرابع : التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم واصطفائه بها .
وسنوجز القول في كل احد منها عدا الأول فسنفرد له – بإذن الله تعالى – مبحثا ً مستقلاً .
الموضوع الأول : البعث والنشور .
إن الحياة الآخرة وما فيها من بعث ونشور وحساب وجنة ونار لم يسلّم بها المشركون ولم يعتقدوا بتحققها وعودة الحياة إليهم بعد موتهم ، ولذا حاورهم القران الكريم في هذا المقام ، بل هم الذين بدأوا حوارهم- جدالهم - ببعض الأسئلة التي تؤكد عدم إيمانهم بالبعث والنشور ، ويمكن أن نحصر لهم في ذلك صوراً ثلاثاً :
الصورة الأولى : إنكار عودتهم للحياة بعد الموت .
مثال ذلك ما ورد في قوله تعالى ﴿ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا انتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ﴾ (1)
هذه الآيات الكريمة تضمنت حواراً حول البعث والنشور وإنكاره على لسان أحد المشركين ( العاص بن وائل السهمي وقيل أبي بن خلف الجمحي وقيل عبد الله بن أبي ) حينما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال : يا محمد – صلى الله عليه وسلم – أترى أن الله – تعالى – يحيي هذا بعد ما رم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك النار . (2)
ثم أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب السائل المنكر بثلاثة أدلة - يسلم العقل بها – على قدرة الله جل وعلا على البعث و النشور :
1- سورة يس 73-83 .
2- هذا الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وعبد الرازق وغيرهما , يراجع : الدر المنثور 12/380 ، وجامع البيان 19/486-491 .
الدليل الأول : أن الذي يحيي هذه العظام هو الذي أنشأها أول مرة ففي استطاعة من بدأ أن يعيد.
الدليل الثاني : أن الذي خلق لكم من الشجر الأخضر بعد جفافه ويبسه ناراً ، وقيل إخراج النار المحرقة من العود الندي الرطب ، وقيل المرخ والعفار إذا ضرب احدهما بالآخر انصرمت منها النار وهما أخضران ، من يفعل ذلك لا شك قادر على إحياء الموتى ؟
الدليل الثالث : أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة خلق الإنسان مع صغرهم وضعف شأنهم ، والعقل السليم يسلم أن الذي انشأ صنعةً قادر على صناعتها مرة ثانية ، ويسلم بأن الذي خلق أو انشأ صنعة كبيرة فمن باب أولى قادر على إنشاء الصغيرة . (1)
الصورة الثانية : السؤال عن الساعة تهكما واستبعاداً .
مثال ذلك : قوله تعالى ﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ﴾ (2)
لقد سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة تعنتا وإنكارا ، فأمره الله عزوجل أن يرد عليهم جواباً مطابقاً للسؤال على الإنكار و التعنت : بأنهم مرصدون ليوم يباغتهم فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه . (3)
الصورة الثالثة : نفي تعذيبهم يوم القيامة .
مثال ذلك : قوله تعالى ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون﴾ (4)
حاور القران الكريم المشركين في هذه الآيات ردا على قولهم : إن الله تعالى خولهم المال والولد لكرامتهم عليه وما هم بمعذبين يوم القيامة .
فأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ويصحح اعتقادهم الخاطئ : بأن بسط الرزق وتضييقه لا علاقة له بمحبة الله تعالى ، بل هما ابتلاء وامتحان ، ولو كان البسط دليل الإكرام لاختص به المطيع ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون (5)
الموضوع الثاني : القران الكريم .
لما كان القرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها العرب الذين هم أرباب الفصاحة والبلاغة ولذا فإن المشركين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا في نزوله من السماء كما طالبوا بتعديله أو تبديله ومن هنا يمكن حصر حوارهم في القران في صورتين :
1- يراجع فتح القدير 4/338، وتفسير الجلالين 2/129 ، والمنتخب من تفسير القران الكريم /659 . 2- سورة سبأ 30،29 .
3- يراجع تفسير النفسي 3/ 325 ، وتفسير القران العظيم 3 /502 ، وزاد المسير 6/ 456 ، وتفسير الجلالين 2/ 118 وتفسير المراغي 22/83 .
4- سورة سبأ 35-37 . 5- يراجع تفسير القران العظيم 3/ 504،503 ، وزاد المسير 6/460 ؟، وفتح القدير 4/330 ، وتفسير المراغي 22/89،88 .
الصورة الأولى : أن القران ليس من عند الله تعالى .
مثاله : قوله تعالى ﴿ أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنت صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ (1)
لقد ادعى المشركون أن القرآن ليس من عند الله تعالى وإنما افتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله عز وجل أن يرد عليهم : بأن كان حقا ما تدعون فأتوا بسورة مثله في البلاغة وجودة الصناعة ، فأنتم مثله – صلى الله عليه وسلم – في معرفة لغة العرب و فصاحة اللسان وبلاغة الكلام ، واستعينوا بمن شئتم من أهل الفصاحة إنساً وجناً أو آلهةً مما تعبدون من دون الله ، ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار لعجزهم وضعفهم . (2)
الصورة الثانية : تبديل القرآن وتغييره .
مثاله : قوله تعالى ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا أءت بقرآنٍ غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ (3)
محاورة المشركين - فيما تقدم – مع النبي صلى الله عليه وسلم مبنية على تخييره صلى الله عليه وسلم بين طلبين عليه أن يلبي واحداً منهما حتى يؤمنوا به ويصدقوه :
الطلب الأول : الإتيان بقران غير هذا القران .
الطلب الثاني : تعديل هذا القران بتحويل الوعد وعيدا والوعيد وعدا والحرام حلالا والحلال حراما ، أو طلب إسقاط عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، أو إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور .
فأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم من وجهين :
الوجه الأول : أني غير قادر على تبديل القران دون وحي من ربي الذي أخشى عذابه إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه .
الوجه الثاني : أني ما تلوت هذا القران عليكم إلا بمشيئته جل وعلا ولو شاء ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به فقد لبثت فيكم قبل البعثة أربعين سنة ولو كنت منتحلا ما ليس لي من القول كنت انتحلته أيام شبابي التي عشتها بينكم . (4)
1- سورة يونس 39،38 .
2- يراجع فتح القدير 2/ 446 ، وتفسير للسمعاني 2/384 ، والتفسير الكبير 17 / 97،96 ، وتفسير أبي السعود 2/ 666،665 .
3- سورة يونس5 1،16 .
4- يراجع جامع البيان 12/ 137 ، والتفسير الكبير 17 / 55-58 ، وتفسير القران للعز بن عبد السلام 2/65 .
الموضوع الثالث : التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم واصطفائه لها .
لقد أنكر كثير من مشركي مكة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله تعالى إليهم كما اعترضوا على اختياره – صلى الله عليه وسلم – لهذه الرسالة ، ولذا فقد نقل القران الكريم بعض أقوالهم في ذلك محاورا لهم ومبطلا لها في صورتين :
الصورة الأولى : طلب أدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم .
مثال ذلك : قوله تعالى ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزِّل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ (1)
لقد رفض المشركون التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والتسليم بأنه رسول من عند الله تعالى إليهم ولذا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ببعض الآيات والدلائل أو يلبى لهم طلباتهم ومنها ستة وردت في هذه الآيات الكريمات :
الأول : أن يفجر لهم من أرض مكة عينا لا ينضب ماؤها .
الثاني : أن يكون له - صلى الله عليه وسلم - بستان تستر أشجاره أرضه من نخيل وعنب تجري الأنهار وسطه .
الثالث : أن يسقط السماء عليهم قطعاً قطعاً .
الرابع : أن يأتي بالله تعالى والملائكة معاينة لهم فيحدثونهم بأنه رسول من عند الله .
الخامس : أن يكون له صلى الله عليه وسلم بيت من زخرف ( ذهب ) .
السادس : أن يصعد صلى الله عليه وسلم في السماء ولن يؤمنوا بذلك حتى ينزل عليهم كتابا يقرؤونه جميعا أو كتابا لكل واحد منهم .
فأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم - كما ذكر الشوكانى رحمه الله - أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم والتنزيه للرب سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة : قل سبحان ربى أى تنزيها لله تعالى عن أن يعجز عن شيء هل كنت إلا بشرا رسولا ا.هـ (2) .
الصورة الثانية : الاعتراض على اصطفائه صلى الله عليه وسلم بالرسالة .
مثال ذلك : قوله تعالى ﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ﴾(3)
1- سورة الإسراء 90-93 . 2- فتح القدير 4/258،257 ، ويراجع تفسير أبي السعود 3/482،481 ، والتفسير الواضح 15/41،40 .
3- سورة الزخرف 32،31 .
المشركون سلموا بالقرآن ولكن لم يسلموا بنزوله على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذا قالوا : لولا نزل على رجل من القريتين (مكة والطائف) عظيم ، والرجلان هما (الوليد بن المغيرة المخزومي و أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي ) .
وهنا تولى الله عز وجل الرد عليهم بالاستفهام التعجبي : عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم حتى يختاروا للنبوة من شاءوا ، والنبوة من رحمات الله تعالى لا ينزلها إلا على من اصطفاهم وطهرهم ، ثم بين الله عز وجل لهم أن التفاوت بين خلقه في الدنيا واقع وأنه تعالى فضل بعضهم على بعض في الغنى والفقر والقوة والضعف وغير ذلك ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال فيحتاج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا . (1)
المبحث الثالث
الحوار مع المشركين في توحيد رب العالمين
المطلب الأول
المراد بتوحيد رب العالمين
التوحيد عند العرب : هو الانفراد من وحد يحد حدة أي انفرد بنفسه .(2)
وعند علماء الشرع : هو الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له .
والتوحيد أول دعوة الرسل ، وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى ، وهو الغاية التي أرسل الله تعالى الرسل من أجلها ، قال تعالى ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾. (3)
وهو أشرف الحقوق على العبد نحو ربه جل وعلا وأعظمها و أولاها رعاية وعناية ، قال صلى الله عليه وسلم : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟ وما حق العباد على الله ؟ فقلت الله و رسوله أعلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا ، فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال لا يتكلوا ) (4) . والتوحيد أنواعه ثلاثة :
توحيد الألوهية : وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له .
توحيد الربوبية : وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه .
توحيد الأسماء والصفات : وهو التسليم بما وصف الله عز وجل نفسه من الأسماء الحسنى
والصفات العليا . (5)
1- يراجع : لجامع لأحكام القران 16 /83،82لا، وتفسير القرآن العظيم 4/114،113 ، وتفسير المراغي 5/ 86،85 .
2- يراجع : الصحاح 1/ 544 ، والقاموس المحيط 1 / 356 ، والمعجم الوسيط 2/1016 . 3- سورة الأنبياء /25 .
4- أخرجه الشيخان ، يراجع : اللؤلؤ والمرجان 1/8 برقم 18 كتاب الإيمان باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة .
5- يراجع : شرح الطحاوية /10،9 ، وعقيدة التوحيد في القرآن /110-120 .
والمتتبع لحوارات القرآن الكريم مع المشركين في التوحيد يرى أن محل خلافهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو توحيد الألوهية لأنهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية كما ثبت ذلك في آيات كثيرة نذكر بعضها في المطلب التالي .
ومما يدل على هذه العقيدة عند المشركين ما روي عن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين – رضي الله عنهما - : ( كم إلاهاً تعبد ؟ قال سبعة : ستة في الأرض وواحد في السماء ، قال من لرهبتك ورغبتك ؟ قال الذي في السماء ، قال فاترك الستة واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك دعوتين ، فاسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي ) (1)(2)
وتوحيد الألوهية – كما ذكر ابن أبي العز رحمه الله – متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس ، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً ، والعجز لا يصلح أن يكون إلاهاً قال تعالى : ﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ﴾ (3)(4)
المطلب الثاني
محاور الحوار مع المشركين في توحيد رب العالمين
إذا نظرنا إلى حوارات القرآن الكريم مع المشركين في توحيد رب العالمين فنرى أنها أخذت أشكالا أو محاور متعددة يمكن حصر أكثرها وروداً أو تكرارا في القرآن الكريم فيما يلي :
المحور الأول : إقرارهم بروبيته جل وعلا .
المحور الثاني : عجز آلهتهم التي يعبدون من دون الله عز وجل .
المحور الثالث : نعم الله تعالى عليهم .
المحور الرابع : دلائل قدرة الله تعالى في الكون .
المحور الخامس : استحالة وجود إله غير الله عز وجل .
ونفصل القول في كل محور منها فيما يلي :
المحور الأول : إقرارهم بربوبيته جل وعلا .
لقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاور المشركين – ومن على شاكلتهم إلى يوم الدين – حول رفضهم توحيده و إفراده جل وعلا بالعبادة وإصرارهم على الإشراك به .
هذا الحوار في معظمه إنما كان استفهاما تقريريا لما سلموا به من أن الله تعالى هو الخالق الرازق
1- هذا الحديث أخرجه الترمذي والبيهقي وغيرهما،يراجع:سنن الترمذي 5/520،519 برقم 3483 وقال هذا حديث غريب وكتاب الأسماء والصفات 2/329 رقم 894.
2- يراجع : مناهج الجدال في القرآن الكريم /192 .
3- سورة الأعراف /191 .
4- شرح الطحاوية / 17 .
المدبر لهذا الكون ومثال ذلك :
1- قوله تعالى ﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ﴾ (1)
2- قوله تعالى ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءًً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولون الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ﴾ (2)
3- قوله تعالى ﴿ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ﴾ (3)
الحوار في الآيات الكريمات – الاخيرات – مبني على أسئلة ثلاثة أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوجهها للمشركين الذين أقروا بما فيها :
الأول : هذه الأرض وما فيها لمن ؟ هل ادعى أحد أنها له أو أنه خلقها ؟
الثاني : هذه السماوات السبع والعرش العظيم من ربهما ؟ هل ادعى احد أنها له ؟
الثالث : من الذي بيده ملكوت كل شيء ؟ وهو يغيث غيره إن شاء ويمنعه و لا يمنع أحد أحداً من عذاب الله ولا يقدر على نصرته وإغاثته .
وكانت إجابة المشركين على ثلاثتها بالتسليم والإذعان أنها لله تعالى ، وهذا اعتراف منهم بربوبية الله عز وجل فكان من الأولى أن يوحدوا هذا الرب سبحانه وتعالى ، ولكنهم ينصرفون عن الرشد مع علمهم به إلى الغي والضلال ويجعلون له سبحانه وتعالى شريكا . (4)
المحور الثاني : عجز آلهتهم التي يعبدون من دون الله عز وجل .
لقد واصل القرآن الكريم حواره مع المشركين مناشداً إياهم أن يتفكروا في هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى هل تستطيع أن تدفع عنهم ضرا نزل بهم أو تجلب لهم نفعها أو تحقق لهم طلبا ؟ آيات كثيرة حوت هذا المعنى ومنها :
1- سورة يونس /32،31 .
2- سورة العنكبوت 61-63 . 3- سورة المؤمنون 84-90 .
4- يراجع التفسير الكبير 23/ 116،115 ، وزاد المسير 5/ 487،486 ، وفتح القدير 3/ 497،496 ، وتفسير أبي السعود 4/ 82،81 ،والجامع لأحكام القرآن 12/144 .
1- قوله تعالى ﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ (1)
2- قوله تعالى ﴿ ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ (2)
3- قوله تعالى ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير ﴾ (3)
في هذه الآية الكريمة أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لمشركي مكة – عندما ضربهم بالجوع حتى أكلوا الميتات – ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم هذا الضر .
ثم أجاب سبحانه وتعالى بأن هذه الآلهة لا تملك مثقال ذرة من النفع والضر في السماوات ولا في الأرض وليس لها فيهما مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف ، وليس منهم من يعين رب العزة جل وعلا على شيء من أمر السماوات والأرض ومن فيهما ، فكيف تعبدون من كان عاجزا ولا يملك لكم ضرا ولا نفعا ؟ (4)
المحور الثالث : نعم الله تعالى عليهم .
إن النعمة تستجلب شكر المنعم والاعتراف بفضله ، والفطرة السليمة عند الإنسان تدفعه إلى إسداء الشكر إلى من قدم إليه معروفا ، والجاحد من لم يقر بالنعمة ويشكر منعمها .
إذا تقرر ذلك فإن المنعم الأعلى على الوجود هو رب العزة جل وعلا ، ونعمه على عباده لا تحصى ولا تعد : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) (5) .
والقرآن الكريم كثيرا ما يذكرنا ببعض نعم الله علينا لعل غير المؤمن يتذكر رب النعمة ومسديها ويشكره جل وعلا بالإيمان به وتوحيده ، أما المؤمن فيقر بها ويشكر ربه تعالى عليها ويزداد إيماناً وشكرا لمولاه عز وجل ومن هذه الآيات :
1- قوله تعالى ﴿ أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ﴾ (6)
1- سورة الأعراف /191-194 . 1- سورة يونس 18 .
2- سورة سبأ 22 .
3- يراجع جامع البيان 19 /273،272 ، وتفسير القرآن للسمعاني 4/331،330 ، وتفسير النفسي 3 / 324 ، وفتح القدير 4/ 324 ، والمنتخب في تفسير القرآن الكريم /638 .
4- سورة إبراهيم 34 . 5- سورة العنكبوت 67 .
2- قوله تعالى ﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ﴾ (1)
3- قوله تعالى ﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمة جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾ (2)
في هذه الآيات أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاور المشركين مذِّكراً إياهم ببعض نعم الله تعالى عليهم :
النعمة الأولى : الليل الذي جعله الله تعالى لتسكنوا فيه للراحة ، اخبروني إن جعل الله تعالي
عليكم الليل دائما لا يتبعه نهار هل هناك معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار فتستضيؤن به ؟ أفلا تبصرون قدرة الله تعالى في هذه النعمة .
النعمة الثانية : النهار الذي جعله الله تعالى لمعاشكم وتصلح به ثماركم وتعيش فيه دوابكم ، اخبروني إن جعله الله تعالى دائما بلا ليل تسكنون فيه ، فهل غير الله تعالى يقدر على إتيان هذا الليل ؟ أفلا تسمعون سماع فهم وقبول وتدبر وتفكر يوصلكم إلى عبادة الله وحده لا شريك له؟(3)
المحور الرابع : دلائل قدرة الله تعالى في الكون .
إن الكون الذي نعيش فيه مليء بدلائل قدرة الله تعالى ، فأنَّى التفت الإنسان يمينا أو شمالا أو رفع رأسه إلى السماء أو رد بصره إلى الأرض أو إلى ذاته ونفسه فسيرى آيات لا تحصى تثبت أن هذا الكون وما فيه لا بد له من صانع حكيم قادر عليم لا يستحق العبادة إلا هو جل وعلا .
هذه الآيات الكونية يذكرنا القران الكريم بها بين الحين والحين في ثنايا سوره وآياته وهي في مجموعها موجهة إلى الإنسان بصفة عامة تدعوه إلى الحوار مع نفسه كما في قوله تعالى ﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ (4) ، وقوله تعالى ﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صبا ثم شققا الأرض شقا فانبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا متاعا لكم ولأنعامكم ﴾ (5)
1- سورة يس 33-35 . 2- سورة القصص 71-73 .
2- يراجع التفسير الكبير 25/12،11 ، وتفسير البغوي 4/ 453 ، وتفسير أبي السعود 4/ 318،317، وزاد المسير 6/ 238 ، وفتح القدير 4/ 185 ، وتفسير المراغي 20/ 89،88 .
4- سورة المؤمنون 12-14 . 5- سورة عبس 24 -32 .
ومن هذه الآيات ما كان لفظ الخطاب فيها موجهاً إلى المشركين لكنه يعم البشرية كلها ومن ذلك :
1- قوله تعالى ﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ﴾ (1)
2- قوله تعالى ﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز
العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ﴾ (2)
3- قوله تعالى ﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحتفذكِّر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر﴾ (3)
قال القرطبي رحمه الله في هذه الآيات : لما ذكر الله عز وجل أمر أهل الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوا وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعته وقدرته وأنه قادر علي كل شيء ثم ذكر الإبل أولا لأنها كثيرة في العرب ا.هـ .(4)
فقد ذكَّر الله تعالى المشركين – ومن وراءهم من البشرية إلى قيام الساعة – في هذه الآيات ببعض دلائل قدرته وعظمته جل وعلا وأمرهم بالنظر إليها نظر تأمل وتدبر وهي :
الدليل الأول : الإبل كيف خلقها الله تعالى وسخرها لهم وذللها وجعلها تحمل حملها باركة ثم تنهض وكيف تصبر على الجوع والعطش وكيف تأكل الشوك تمضغه في فكها وكيف تسير على الرمال الحارة بخفها ...... إلى آخر ما فيه من آيات اكتشف بعضها فيما سبق ومازال العلم الحديث يضيف إليها .
الدليل الثاني : السماء التي فوقنا كيف رفعت هكذا وليس لها عمد تستند عليها وما فيها من نجوم وكواكب .
الدليل الثالث : الجبال التي نراها على ظهر الأرض في مناطق مختلفة منها كيف أنها مرسّاة لا تزول كأنها الوتد ، ومن حكمة خلقها أنها تمسك الأرض أن تتحرك كما قال ربنا جل وعلا ﴿ و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾ (5) .
1- سورة يس 37-40
2- سورة الأنعام 95-97 .
3- سورة الغاشية 17-22 .
4- الجامع لأحكام القرآن 20 /43-37 .
5- سورة النحل /15 .
الدليل الرابع : الأرض التي نعيش عليها ونراها مبسوطة ممددة وممهدة لنعمرها بلا مشقة ولا عناء .
ألا تدل هذه الآيات – بل واحدة منها – على أن الله سبحانه وتعالى بهذه القدرة وبهذا الخلق هو الأولى بالعبادة والتوحيد . (1)
كما قال ابن عباس رضي عنهما : هل يقدر أحد على أن يخلق مثل الإبل أو يرفع مثل السماء أو ينصب مثل الجبال أو يسطِّح مثل الأرض غيري ا.هـ (2)
المحور الخامس : استحالة وجود إله غير الله عز وجل .
لقد ناشد القران الكريم المشركين – ومن على شاكلتهم ممن عبدوا غير الله تعالى واتخذوا آلهة من دون الله عز وجل – أن يتفكروا في هذا الكون الذي يعيشون فيه . هل يستقيم أمره إذا تولى تدبيره أكثر من واحد ؟ الوقع العملي يثبت خراب وفساد أي موقع يتولى تدبير شؤونه أكثر من واحد .
حاور القران الكريم المشركين حول هذا المعنى في آيات كثيرة علهم يثوبوا إلى رشدهم ويؤمنوا بأن الله تعالى واحد لا شريك له ، ومثال ذلك :
1- قوله تعالى : ﴿أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ﴾ (3)
2- قوله تعالى ﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ﴾ (4)
3- قوله تعالى ﴿ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آالله خير آما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلا ما تذكرون امن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أءله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ (5)
1- يراجع تفسير البغوي 4 / 480 ،479 ، وزاد المسير 9/ 100،99 .
2- تفسير البغوي 4 / 480 .
3- سورة الأنبياء 22،21 .
4- سورة المؤمنون /91 .
5-سورة النمل /59 -64 .
في هذه الآيات الكريمات أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله تعالى على نعمه وان يسأل المشركين ( آالله خير أم ما يشركون ) هذا استفهام إنكاري في عبادتهم مع الله تعالى آلهة أخرى ، ثم شرع في توجيه بعض الأسئلة التي تؤكد أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره مما يدَّعون من الآلهة .
السؤال الأول : من خلق السماوات والأرض وأنزل المطر فانبت به حدائق ذات مظهر حسن ما تقدرون على إنباتها ؟ هل هناك معبود سوى الله عز وجل يعينه على صنعه ؟ بل ليس معه إله لكن كفار مكة يعدلون عن الحق والإيمان ويميلون إلى الشرك والبطلان .
السؤال الثاني : من جعل الأرض ثابتةً لا تميد بأهلها وجعل وسطها أنهارا والجبال ثوابت ، وجعل بين البحرين العذب والمالح مانعا لئلا يختلط أحدهما بالآخر ؟ إنه الله عز وجل وليس هناك إله غيره ولكن أكثرهم لا يعلمون .
السؤال الثالث : من يجيب المضطر عند كربه إذا دعاه ؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض ؟ هل مع الله تعالى غيره مانح لهذه النعمة ؟ قليلا ما تذكرون ذلك .
السؤال الرابع : من يرشدكم إلى السير في ظلمات البر والبحر ويرسل الرياح قدام المطر ؟ أهناك اله مع الله تعالى يصنع ذلك ؟ تنزه سبحانه أن يكون له شريكا .
السؤال الخامس : من يبدأ الخلق ثم يعيده بعد الموت ؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض ؟ هل هناك إله مع الله تعالى يفعل ذلك ؟ إن كان فهاتوا حجتكم إن كنتم صادقين . (1)
وقد لوحظ تكرار الاستفهام في جميع هذه الآيات زيادة في الإنكار عليهم في عبادتهم مع الله تعالى آلهة أخرى ،ونهايتها تلزمهم الحجة في استحالة وجود إله غير الله عز وجل .
المطلب الثالث
دلالة هذه الحوارات القرآنية
بعد الوقوف على بعض صور الحوارات القرآنية خاصة ماكان مع المشركين يتضح لنا ما يلي:
1- إن حوارات القرآن الكريم كلها دروس وعبر ومنها أنها تناشد المخالفين لبيان سر مخالفتهم حتى نوضح لهم الطريق الذي حادوا عنه علهم يرجعون إليه ، فقد رأينا أول حوار مع إبليس عن سر رفضه الامتثال لأمر ربه جل وعلا للسجود لآدم عليه السلام وفيه دعوة للحوار مع المخالفين حتى وان كانوا غير مسلمين ، وهؤلاء عداوتهم – غالبا- للإسلام ظاهرة وواضحة .
لكن بعض المسلمين أحيانا قد يكونون هم الأدهى والأمر والأخطر ممن حملوا فكر غيرنا وثقافته وأتوا إلينا يحاربون شرع الله ويرفضون بعض أحكامه تحت مسميات معاصره .
1- يراجع المنتخب في تفسير القرآن الكريم / 569-571 ، وجامع البيان 18 / 99-104 ، والتفسير الكبير 24/ 205 -210 ، و تفسير الجلالين 2/ 80،79، وفتح
القدير 2/ 147،147 .
هؤلاء وأمثالهم يجب على الدعاة وأهل العلم والمفكرين دعوتهم للحوار بهدف بيان الحق و الوصول إليه وكذلك كشف صفات هؤلاء وأهدافهم حتى لا يغتر بهم غيرهم من المسلمين ولا يقع في شركهم ويقولوا قولهم .
وهذا ما دعا إليه كثير من المفكرين المسلمين منهم أنور الجندي رحمه الله في قوله : ومن الحق أن يقال انه قد أصبحت هنالك ضرورة ملحة لقيام علم يطلق عليه ( علم المواجهة وكشف الشبهات وتصحيح المفاهيم ) يقوم على أساس تحرير قضايا الفكر ودراسة المصطلحات السارية المتداولة ، وكشف وجهة نظر الإسلام فيها ، وإبراز مفهوم الإسلام للقيم المختلفة ، وهو مفهوم يختلف قطعا عن مفاهيم الفكر الغربي والفكر الشرقي أ.هـ. (1)
2- أن الحوار مع المشركين في القران الكريم نال قسطا كبيرا من آياته خاصة ماكان منها قبل الهجرة ، حتى إننا وجدنا سورة بأكملها يدور معظمها حول محاورة المشركين في عقيدتهم وشركهم ، ألا وهي سورة الأنعام .
وفي ذلك يقول القرطبي رحمه الله في مطلع تفسير هذه السورة : هذه السورة أصل في محاجَّة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة ا.هـ. (2)
3- أن الحوار في القران الكريم لم يكن قاصرا على المشركين فقط وإنما شمل أصنافا أخرى من البشرية خرجت عن منهج السماء وأشركت بالله تعالى كأهل الكتاب ونحوهم .
ولذا كان للقرآن الكريم وقفات مع كل من خالف فطرة الله تعال وانحرف عن عقيدة التوحيد ، وفي ذلك يقول العقاد رحمه الله : أما القرآن فقد كان يخاطب أقواما ينكرون وأقواما يشركون وأقواما يدينون بالتوراة والإنجيل ، ويختلفون في مذاهب الربوبية والعبادة ، وكانت دعوته للناس جميعاً ..... وقامت دعوته كلها على تحكيم العقل في التفرقة بين عبادة وعبادة ، وبين الإله (الأحد) وتلك الآلهة التي كانت تعبد يومئذ بغير برهان ا.هـ. (3)
4- أن الحوار في القرآن الكريم مع المشركين وغيرهم منهج قرآني لم يرم إلى الغلبة وشدة الخصومة كما الجدل المذموم ، وإنما كانت غايته فتح قلوبهم وعقولهم إلى الإيمان بالله تعالى عن طريق التدبر والتفكر في خلق الله تعالى ونعمه وآياته الكونية .
وفي ذلك يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله : إن جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفهام والإلزام ،
بل يتجه في الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين والأخذ بأيديهم إلى الحق وتوجيه النظر
إلى الحقائق وما في الكون من دلائل على القدرة ا.هـ .(4)
1- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي /146 . 2- الجامع لأحكام القرآن 6/383 .
3- الله (عز وجل ) كتاب في نشأة العقيدة الإلهية /234 . 4- المعجزة الكبرى / 345 ، 346 .
وعلى هذا المنهج بنى الفقهاء والعلماء قاعدتهم في الحوار المناظرة ، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : لا يجوز الجدل والمناظرة إلا لإظهار الحق ونصرته ليعرف ويعمل به ، فمن جادل لذلك فقد أطاع وأصاب ، ومن جادل لغير ذلك فقد عصى وخاب ، ولا خير فيمن يتحيل لنصرة مذهبه مع ضعفه وبعد أدلته من الصواب ا.هـ . (1)
الخاتمة
كيفية تفعيل هذه الحوارات في منهج الدعوة في واقعنا المعاصر
1- أن ورود الحوار مع الآخر بهذه الكثرة في القرآن الكريم يؤكد أنه أحد أساليب الدعوة إلى الله تعالى في جوانبها المختلفة ليشمل المشرك وغيره ، وأنه لازم لأصحاب الفكر والدعاة إلى الله تعالى .
وفي ذلك تقول أستاذتنا بنت الشاطئ رحمها الله : وقد يتوهم أناس أو يوهمون غيرهم أن الجدال في هذا المجال الديني لا يكون إلا من الكفار والمشركين ، والحق أن الإسلام أفسح للإنسان ، وكان الإنسان أكثر شيئا جدلا .
وجه العذر حين يكون جداله عن رأي حر وفكر حر ونية خالصة لأن مثل هذا الجدال من لوازم إنسانيته التي حمل أمانتها ، وقد جادل إبراهيم عليه السلام ربه جل وعلا في قوم لوط استرحاما فلم يسخط عليه الله تعالى بل عذره سبحانه في حلمه على القوم الفاسقين ، وأمره أن يعرض عن جدال لا جدوى منه بعد أن سبق أمر الله تعالى فيهم وحق عليهم عذاب غير مردود بجدال أو استرحام . ا.هـ (2)
2- أن على الدعاة والعلماء والمفكرين أن يجعلوا الحوارات القرآنية – كذلك الحوارات النبوية – سراجا ونبراسا يسيرون عليه في دعوتهم إلى الله تعالى مع غير المسلمين الذين لا نغفل محاورتهم ولا نتركها وإنما علينا بدعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى يحدونا في ذلك القواعد الثابتة في الكتاب والسنة ومنها :
أ- قوله تعالى ﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾ (3)
ب- قوله تعالى ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ (4)
جـ - قوله تعالى ﴿ فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى ﴾(5)
د - قوله صلى الله عليه وسلم " لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (6)
3- أن الإسلام اليوم متهم بالعنف والإرهاب والتطرف والرجعية .... إلى آخر مصطلحات النقص
1- القواعد الصغرى / 144 . 2- القرآن وقضايا الإنسان / 118 .
3- سورة العنكبوت /46 . 4- سورة النحل /152 .
5- سورة طه /44 . 6- أخرجه الشيخان ،يراجع: اللؤلؤ والمرجان 3/132برقم 1557كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
والتأخر ، صرح بذلك بعض قادة الغرب ومفكريهم وتبعهم أذنابهم في العالم الإسلامي ينشرون ذلك ويذيعونه في كل موقع ومجال خاصة بعد ظهور التقنيات الحديثة وثورة الاتصالات الهائلة في الكمبيوتر والانترنت وغيرها .
هذه التهم لا تواجه بإلقاء تهم عليهم لأن هذا التراشق والتجادل لا يجعل للخصومة أو الجدال نهاية ، وإنما الحوار والحوار الذي يمثل الإسلام فيه رجال مهرة ومفكرون على دراية بأصول شريعتهم ومحاسنها وعلم بتاريخ الخصم وعقيدته ، ومن ثم أرى تدريب الأئمة والدعاة خاصة على هذا الفن وكذا معرفة دخول هذه المواقع والرد على خصومنا وأعدائنا .
4- أن الحوار بين المسلمين اليوم فيما أرى واجب حتمي لأن هناك من يسعى إلى تفريق الأمة وتمزيق وحدتها حينما فتحوا أبواباً للشقاق والتناحر والتنافر أو زادوا في ذلك ، ومن هذه الأصناف التي تحتاج إلى المحاورة ما يلي :
أ – الشيعة : الذين رأينا بعضهم في هذه الأيام الأخيرة يجهرون بسب الصحابة رضي الله عنهم وهم عدول الأمة وحملة دينها ، إضافة إلى استباحة دماء المسلمين السنة في العراق ، ولذا أرى عقد حوار مع مرجعيات الشيعة وعلماء السنة للاتفاق على أصول الشريعة وحقن دماء المسلمين وعقولهم من إيذاء الصحابة رضي الله عنهم وسبهم .
ب – غلاة المسلمين : الذين هم والخوارج سواء ، فقد كفروا المسلمين وخرجوا على الحكام واستباحوا الأموال والدماء ، وأثمر الحوار مع بعضهم ولله الحمد والمنة فعادوا إلى منهج الوسطية وأهل السنة والجماعة وفي هذا المقام نرى نموذج مشرفاً قامت به وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية عندما تبنت حملة منذ قرابة ثلاثة أعوام لمحاورة التكفيريين وآرائهم المنحرفة لتخصيص مجموعة من الدعاة والمفكرين الذين حاوروا 1566 شخصاً وقد تراجع منهم 690 شخصاً واتضح أن الإنترنت المحرك الأساس لفكرهم ونقص العلم الشرعي أدى بهم إلى العنف ولذا قررت الوزارة تدشين أول موقع لمحاورة التكفيريين قريباً . (1)
جـ - العلمانيون : الذين انتشروا وفرخوا في جميع المؤسسات الفكرية والإعلامية والسياسية في العالم الإسلامي هذا الفكر خرج راجلا تبنوا دعوات تزلزل كيان الأمة الإسلامية وترفض التسليم بشريعتها السماوية ومنها : الدعوة إلى عزل الدين عن الدولة أو السياسة ، و الدعوة إلى إنكار حجية السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ، والدعوة إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل ودعوتها إلى السفور والتبرج ، والدعوة إلى إحياء الحضارات السابقة على الإسلام ، والدعوة إلى العامية والتأليف بها ، ولدعوة إلى القومية العربية والاشتراكية المادية والشيوعية المركسية
أحياناً .(2)
1- صحيفة الجزيرة السعودية العدد 12574في 13-2-1428 ص 8 . 2- الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية /130-131 .
وعجباً لهؤلاء العلمانيين الذين تفقهوا في فكرٍ غربي وثقافته وجهلوا أنوار شرعتهم الغراء وفي هذه الحالة ينطبق عليهم وصف العلامة مسمر في قوله : إن الغربي لا يصير عالماً إلا إذا ترك دينه ، بخلاف المسلم فإنه لا يترك دينه إلا إذا صار جاهلاً ا.هـ. (1)
هؤلاء لابد من محاورتهم بالحجة والدليل حتى يعودوا إلى جادة الصواب وألا فقد بينا وكشفنا زيغ معتقدهم وفكرهم .
د- المخالفون لإجماع الأمة : وهم الذين يخرجون علينا بين الحين والحين بغرائب الفتاوى والأحكام التي تخالف إجماع الأمة ومنها على سبيل المثال : مساواة المرأة للرجل في الأحكام والميراث وإلغاء العدة وحرمان الزوج من حقه في الطلاق وإمامة المرأة للرجال في الصلاة وخطبتها للجمعة ، واستئجار الأرحام ، وانتساب الرجل إلى أمه ، ونحو ذلك كثير .
وعلى أهل العلم أن يحاوروا أصحاب هذه الآراء وتلك الفتاوى حتى يردوهم إلى إجماع الأمة فان عادوا فهو المراد ، وإلا فقد وضحت للأمة صورتهم وبان منحى فكرهم .
5 - إن العقلية الإسلامية حينما تنادي اليوم للحوار مع الأخر فإنما تحاول أن تتواصل مع أصولها وجذورها الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة سلفنا الصالح ، الذين كانوا يناظرون ويحاورون خصومهم من غير المسلمين ومن أتباع الفرق الإسلامية الذين خالفوا منهج الوسطية (أهل السنة والجماعة ) كما كانت تقام المناظرات بين أتباع المذاهب الفقهية وغيرها .
هؤلاء القوم الذين اعتبروا الحوار أحد أساليب الدعوة إلى الله ،وفناً يجب على المشتغلين بالدعوة أن يتقنوه فوضعوا لذلك أصولا وقواعد وآداباً حوتها مصنفات خاصة في آداب البحث والمناظرة،
واليوم ولله الحمد والمنة يواصل خلف هذه الأمة من علماء ومفكرين ودعاة في أداء هذا الواجب والتمسك به والدعوة إليه وفق ما تتطلبه مقتضيات العصر والياته المتطورة وما فيه من وسائل الإعلام والاتصالات من قنوات فضائية وانترنت ونحوها .
فاستخدموها للحوار والدعوة إليه حتى يثبتوا بالحجة والبرهان أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ولكل مكان ، وما هذا المؤتمر إلا تعميقاً لذلك وتأكيداً لأصالة الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي .
والله تعالى نسأل أن يوفقنا جميعاً لما فيه خير الإسلام والمسلمين وأن يعزنا بالإسلام ويعز الإسلام بنا وأن يؤيدنا بالحق ويؤيد الحق بنا ، وأن يجزي الداعين لهذا المؤتمر والمشاركين فيه خير الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي / 30 .
مراجع البحث
- القرآن الكريم .
- الله (عز وجل ) كتاب في نشأة العقيدة الإلهية للعقاد . طـ دار المعارف
- أدب الحوار والمناظرة د.علي جريشة . طـ دار الوفاء_ المنصورة
- بدائع التفسير لابن قيم الجوزية . طـ دار ابن الجوزي _ الدمام
- تفسير أبي السعود . طـ دار الرياض الحديثة
- تفسير البغوي طـ دار المعرفة
- تفسير الجلالين طـ دار الدعوة
- تفسير القرآن لأبي المظفر السمعاني طـ دار الوطن الرياض
- تفسير القرآن للعز بن عبد السلام طـ الإحساء
10- تفسير القرآن العظيم لابن كثير طـ المكتبة العصرية
11- التفسير الكبير للفخر الرازي طـ المكتبة العلمية طهران
12- تفسير المراغي طـ الحلبي
13- تفسير النفسي طـ الحلبي
14- التفسير الواضح د .عوض الله حجازي طـ الاستقلال الكبرى
15- جامع البيان عن تأول آي القرآن للطبري طـ دار هجر
16- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي طـ دار الكتاب العربي مكتب
17- الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة د. زمزمي طـ دار المعالي عمان
18- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي طـ مركز هجر
19 – زاد المسير لابن الجوزي طـ المكتب الإسلامي
20 – سنن الترمذي طـ الحلبي
21- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي لأنور الجندي طـ المكتب الإسلامي
22- شرح الطحاوية في العقيدة السلفية لابن أبي العز طـ دار الفكر
23- الصحاح للجوهري طـ دار الكتاب العربي
24- صحيفة الجزيرة السعودية العدد12574
25- الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرةالغربية في الأقطار الإسلامية للندوي ط دارالندوة
26- عقيدة التوحيد في القرآن الكريم د.محمد ملكاوي طـ دار بن تيمية الرياض
27- فتح القدير للشوكاني طـ دار المعرفة
28- في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب طـ الحلبي
29- القاموس المحيط للفيروز أبادي ط الحلبي
30- القرآن وقضايا الإنسان لبنت الشاطئ طـ دار العلم للملايين
31- القواعد الصغرى للعز بن عبد السلام ط دار الفكر المعاصر دمشق
32- كتاب استخراج الجدال في القرآن لابن نجم الحنبلي طـ مؤسسة الرسالة
33- كتاب الأسماء والصفات للبيهقي طـ مكتبة السواري جدة
34- لسان العرب لابن منظور طـ دار صادر
35- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي طـ الحلبي
36- المعجزة الكبرى للشيخ أبي زهرة طـ دار الفكر
37- معجم ألفاظ القرآن طـ مجمع اللغة العربية
38- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي طـ دار إحياء التراث العربي
39- معجم مقاييس اللغة العربية لابن فارس طـ الحلبي
40- معجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وآخرين طـ دار الدعوة
41- مفردات غريب القرآن للأصفهاني طـ دار الفكر
42- الملل والنحل للشهرستاني طـ الحلبي
43- مناهج الجدل في القرآن الكريم د. الألمعي طـ الفرزدق التجارية
44- المنتخب من تفسير القرآن الكريم طـ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية