الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية

 

الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية

 

الباحث : د . أحمد محمد عقلة الزبون

 

جامعة البلقاء التطبيقية / كلية عجلون الجامعية

 

2006 /2007 م

 

مقدمة الدراسة وأهميتها :

 

     قال تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " ( النحل : الآية 125 ) .

 

الحمد لله الذي جعل الحوار منهجاً تربوياً للمدرسة الإسلامية الكبرى ، والصلاة والسلام على مربي البشرية الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي امتثل لأمر ربه ، فحاور أصحابه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادل أهل الشرك بالتي هي أحسن ، فكانت نتيجة هذا الحوار وهذه المجادلة أن دخل الناس في دين الله أفواجا .

 

إن من أبرز المزايا التي اختص بها الحوار التربوي الإسلامي عالمية الحوار المستمدة من عالمية الدين الإسلامي ، أكد هذا رب العزة في محكم تنزيله إذ قال : " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " ( الحجرات : الآية 13 ) أي ليعرف بعضكم بعضاً من خلال التحاور المؤدي إلى التعارف والتحاب بين بني البشر فالحوار بهذا المعنى ظاهرة إنسانية عالمية ، وضرورة حياتية يبررها التفاوت البشري في العقول والأفهام والأمزجة ، فقد قال تعالى مؤكداً هذا التفاوت والاختلاف : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " ( هود : الآية 118 )  .

 

ولما كان الحوار التربوي الإسلامي من أهم وسائل التفاهم بين الناس ، ومن أهم الوسائل الموصلة إلى الحق باعتباره فريضة شرعية وضرورة إنسانية ، فإن ذلك يلزم دعاة هذا الزمان أن يتفننوا في استخدامه بهدف الولوج إلى العقول والقلوب البشرية ، وإزالة أدران الجهل والتخلف منها وغرس محمود الفضائل وكريم الطباع . فيها فمن هنا تنبع أهمية هذه الدراسة في كونها من الدراسات التربوية التي ستحاول الكشف عن سماحة الإسلام وأهله ، الذين ارتضوا بالحوار منهجاً لحياتهم وسبيلاً لدعوتهم الإسلامية ، لا سيما في هذا الزمان الذي تتعالى فيه صيحات الحاقدين على الإسلام وأهله ، موجهة بهتانها وزورها إلى عزة الإسلام وكبريائه ، واصفة إياه بأنه دين العنف والإرهاب . لهذه الأهمية تأتي هذه الدراسة كي تؤكد المعاني الحقة والمبادئ العظيمة التي رسمها نبي الرحمة من خلال الحوار والمجادلة بالتي هي أقوم وأحسن وأهدى .  فمن لدن هذا الواقع المعاصر ، جاءت هذه الدراسة فتناولت موضوعاً مهماً من المواضيع التربوية الإسلامية ، حيث ستعالج موضوع الحوار النبوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية وذلك من خلال عدة محاور أهمها :

أولاً : مفهوم الحوار في اللغة والاصطلاح .

ثانياً : أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية .

ثالثاً : أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية .

رابعاً :المنظومة القيمية للحوار التربوي في السنة النبوية .

خامساً : التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية .

 

مشكلة الدراسة وأسئلتها :

      تتناول الدراسة موضوع الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية ، حيث سيحاول الباحث الكشف عن أهم الدلالات التربوية للحوار النبوي في السنة النبوية وبيان أهم أهداف هذا الحوار التربوي ، والوقوف على القيم الأخلاقية التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية ، ثم ربط هذا الجهد النظري بالواقع والتطبيق التربوي من خلال توضيح بعض التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية . وتحدد مشكلة الدراسة بـ " الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية  " من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية :

  • ما مفهوم الحوار عند أهل اللغة والاصطلاح ؟
  • ما أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
  • ما أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
  • ما أهم القيم التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
-ما أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟

 

 

أهداف الدراسة :

هدفت الدراسة إلى تحقيق المقاصد التالية :

  • استنتاج أهم الدلائل التربوية للحوار في السنة النبوية .
  • بيان أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية .
  • توضيح أهم أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .
  • تتبع أهم القيم التربوية التي استند عليها الحوار النبوي في السنة النبوية .
  • الوقوف على أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .

 

مصطلحات الدراسة :

  • الحوار التربوي : أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر عن طريق السؤال والجواب ، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف ، فيتبادلان النقاش حول أمر معين وقد يصلان إلى نتيجة ، وقد لا يقنع أحدهما الآخر ، ولكن السامع يأخذ العبرة ويكون لنفسه موقفا .

 

  • السنة النبوية : هي كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية .

حدود الدراسة :

        ستقتصر الدراسة على دراسة موضوع الدلائل التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ، وذلك من خلال الحوارات النبوية التي جرت بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه ، وبينه وبين مشركي مكة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى .

 

منهجية الدراسة :

بما أن هذه الدراسة تتناول موضوع الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية ، فإن المنهج الوصفي التحليلي هو المنهج المناسب لهذه الدراسة ، حيث سيقوم الباحث بوصف وتحليل أهم الحوارات التربوية التي دارت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبينه وبين المشركين وأهل الكتاب للتوصل إلى أهم الدلائل التربوية التي تضمنتها تلك الحوارات التربوية .

 

   إجراءات الدراسة :

اتبعت الدراسة عدة إجراءات من أهمها ما يلي :

 - تحديد مصادر الدراسة المتمثلة بالمراجع الأولية والثانوية .

 -  استنباط مفهوم الحوار عند أهل اللغة والاصطلاح .

 -  استخلاص أهم الأهداف التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .

 -   بيان أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .

 -  إبراز أهم القيم التربوية التي استند إليها الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .

  • إيراد بعض التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .

 

 

 

أولاً : مفهوم الحوار :

 

أ – الحوار في اللغة : من حور، الحور : الرجوع عن الشيء وإلى الشيء ، حار إلى الشيء وعنه حوراً ومحاراً ومحارة وحؤوراً : رجع عنه وإليه ؛ وقول العجاج : في بئر لا حور سرى وما شعر أراد : في بئر لا حؤور أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئاً وفي الحديث : من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك حار عليه ؛ أي رجع إليه ما نسب إليه . ( ابن منظور ، 1955 ) .

 

     وجاء في المعجم الوسيط : أن كلمة الحوار في اللغة مشتقة من تحاور وتحاوروا ، أي تراجعوا الكلام بينهم ، والحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر في العمل القصصي ، أو بين ممثلين أو أكثر على المسرح . ( مصطفى ، 1960  )

 

     وذكر الأصفهاني ( د . ت ) بأن المراد بالحوار المرادة في الكلام ، ومنه التحاور قال الله تعالى : ( والله يسمع تحاوركما ) ( المجادلة ، الآية 1 ) .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           

ب – الحوار في الاصطلاح :

أورد العلماء تعريفات كثيرة للحوار من أهمها :

  • عرف الهاشمي (1981 ) الحوار التربوي بقوله : " الحوار وسيلة تستخدم الإقناع الذاتي لتمحيص الأفكار والمعلومات السابقة ، واختبارها بطريق غير مباشر للتأكد من صحتها أو خطئها ؛ لذا فهي لا تعتمد التلقين المجرد القائم على الأمر والنهي أو على مجرد الإلقاء والسماع المطلقين ، فالحوار طريقة تقوم على المناقشة المتبادلة بين طرفين وتتخللها أسئلة وإجاباتها .                  
  • يرى الشيباني (1985 ) بأن الحوار تلك الطريقة التي تقوم على أساس الحوار والنقاش بالأسئلة والأجوبة للوصول إلى حقيقة من الحقائق لا تحتمل الشك ولا النقد ولا الجدل .

 

- وأشار زيادة ( د . ت ) إلى أن الحوار في جملته من الأساليب التي توظف لنقل معلومة لا بطريق الخبر وإنما من خلال السؤال والجواب أو رأيين يلتقيان أو يفترقان من حول الشيء ونقيضه مما يعطي الإطار الذي تنقل به المعلومة حيوية تفضل السرد الذي قد يشعر السأم والملل .

 

نستنتج من خلال ما تقدم من تعريفات بأن الحوار التربوي أسلوب تعليمي ، يستخدم فيه أطراف الحوار الأسئلة وإجاباتها ، بهدف إثارة أذهان المتعلمين ودفعهم إلى تمحيص الأفكار ومحاكمتها عقلياً ، للوصول إلى الحقائق التي لا تقبل الشك أو الجدل .

 

ثانياً : أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية :

استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار والمناقشة في العديد من المواقف التعليمية مع صحابته الكرام رضوان الله عليهم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يختار الأسلوب التربوي الذي يناسب المقام التعليمي ؛  لهذا فقد تنوعت الحوارات النبوية تنوعاً يتلاءم أيضاً مع الهدف المقصود المراد تحقيقه من الحوار ، فمن أهم أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية ما يلي :

 

أ – الأهداف الوجدانية أو العاطفية :

 

من أهم أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة إثارة عواطف المتعلمين وانفعالاتهم الوجدانية ، لما يترتب عليها من آثار تربوية طيبة ، تتمثل في انقياد المتعلم  للسلوك الحسن والعمل الصالح ؛ لهذا فقد دأب الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من المواقف التعليمية على استخدام الحوار بهدف إثارة عواطف المتعلمين وتوجيه انفعالاتهم نحو الصالح من الأعمال . ففي غزوة حنين استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الحوار لإثارة عواطف الأنصار وتوجيهها التوجيه الصحيح ، وذلك عندما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهم بعد غزوة حنين قائلاً : " يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وموجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله  ؛ وعالة فأغناكم الله  ؛ وأعداء فألف بين قلوبكم !  "

قالوا : بلى ، لله ولرسوله المن ، والفضل  .

فقال  : " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ! " قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل !

قال  : " أما والله لو شئتم لقلتم ، فصدقتم ولصدقتم : اتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك . وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم !  أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم !  فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا ( الطبري ، د . ت ) .

 

      إن هذه التربية النبوية العظيمة وهذا الحوار النبوي العاطفي يدلان من الناحية التربوية على أمور عديدة ، من أهمها :

- الاعتماد على العواطف والانفعالات في المواقف الخطيرة يجب أن يسبقه تربية صحيحة وعميقة لهذه العواطف ؛ فقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العواطف في نفوس الأنصار حتى أصبح الله ورسوله أحب إليهم من المال والولد والناس أجمعين ( النحلاوي ، 1979 ) .

 

- مراعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة ، وأرادهم أن يدافعوا عن أنفسهم بشيء من القول ، فلما استحيوا منه دافع عنهم بالنيابة عن أنفسهم لئلا يترك في نفوسهم شيئاً من الوجد فقال : " أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم ولصدقتم : اتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ....... " . وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للمربين : يجب عليكم ألا تصدروا حكماً في المواقف الحرجة قبل أن تسمعوا ممن تتولوا تربيتهم ( النحلاوي ، 1979 ) .

 

ب: الأهداف المعرفية التوضيحية :
 

استخدم الرسول الكريم أسلوب الحوار التربوي لتوضيح الكثير من الأمور التي أشكلت على الصحابة الكرام ، وتعريفهم بالعديد من الحقائق المعرفية التي عجزوا عن فهمها والوقوف على معانيها ، وذلك من خلال التركيز على أسلوب طرح السؤال للكشف عن مدى فهم  المتعلمين  ومعرفتهم ، ثم يتولى بعد ذلك  صلى الله عليه وسلم مهمة الإجابة عن الأمور التي سأل عنها .

 

لقد ظهر هذا الأسلوب التربوي الفريد في عدة أحاديث للرسول الكريم ، لعل من أبرزها الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأل أصحابه قائلا : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال ذكرك أخاك بما يكره . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ( مسلم ، 2000 ) .

ففي هذا الحديث نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ من هذا الأسلوب الحواري طريقة تربوية لتوضيح الفرق بين الغيبة والبهتان ، وهي من الأمور التي لا يستطيع الصحابة فهم معناها وإدراك حقيقتها لولا أن بينها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو من أوتي القرآن ومثله معه فالمتأمل في آي الذكر الحكيم يجد أن الله سبحانه وتعالى استخدم هذا الأسلوب الحواري في تربية المؤمنين وتنقية سرائرهم من الغيبة ، وذلك من خلال قوله تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم   " ( الحجرات : الآية 12 ) .

 

كما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تعريف المؤمنين بأمور دينهم من خلال أسلوب الحوار التربوي ، ذلك الحوار الذي يبدؤه المسلمون بالسؤال بهدف إثارة تفكيرهم وتعويدهم السؤال عن الأمور التي يجهلونها ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بارزاً يوماً للناس ، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " سلوني " فهابوه أن يسألوه ، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : " لا تشرك بالله شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان " . قال : صدقت . ثم سأله عن الإيمان والإحسان وموعد قيام الساعة . قال أبو هريرة : ثم قام الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا " وفي لفظ للبخاري " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم " ( البخاري ، د . ت )

 

نستنتج من هذا الأسلوب الحواري النبوي توجيهاً نبوياً كريماً لمعلمي هذا الزمان ومربيه بضرورة تشجيع المتعلمين في أن يكونوا المبادرين في طرح السؤال ، لما في ذلك من أثر تربوي كبير يتمثل في اختيار المتعلمين الموضوعات التعليمية التي يرغبونها ، الأمر الذي يكون أشد أثراً ووقعاً في نفوسهم .

 
ج  : الأهداف المعرفية العقلية:

 

قال تعالى مخاطباً معلم البشرية الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( النحل : الآية 125 ) فامتثل الرسول الكريم لهذا الأمر الإلهي ، وذلك من خلال محاورة غير المسلمين بالتي هي أحسن بهدف إقناعهم بالإسلام ، وتأليف قلوبهم بنعمة الإيمان . من ذلك مثلا محاورة الرسول صلى الله عليه وسلم للفتى الذي أراد أن يدخل في الإسلام شريطة أن يأذن له بارتكاب فاحشة الزنا ، فحاوره الرسول صلى الله عليه وسلم محاورة قائمة على الرفق والإقناع العقلي ، نتج عنها دخوله في دين الله  بدون إكراه أو إجبار ،  فقد روى أبو أمامة أن فتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أدنه فدنا منه قريباً قال فجلس . قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " . قال : " أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك .  قال : " ولا الناس يحبونه لبناتهم " . قال أفتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فدائك . قال : " ولا الناس يحبونه لأخواتهم " . قال : " افتحبه لعمتك "  قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لعماتهم "  قال :  " أفتحبه لخالتك "  قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لخالاتهم " . قال : فوضع يده عليه وقال : " اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه " .  فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ( ابن حنبل ، د . ت ) .

 

وحاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بهدف إقناعهم بهوان الدنيا وقلة شأنها عند الله يوم القيامة ، وذلك عندما أقسم بأن مكانة الدنيا وقلة شأنها عند الله عز وجل كحال الجدي الميت قليل الشأن عند أهل الدنيا ، فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية ، والناس على كنفتيه ، فمر بجدي أسك ميت فأخذ بأذنه ، ثم قال : " أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ " فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء . وما نصنع به ؟ قال : " أتحبون أنه لكم " قالوا : والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت ؟ فقال : " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم  ( مسلم ، 2000 ) .

 

واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار التربوي القائم على الإقناع وإقامة الحجج والبراهين العقلية مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فقد أورد الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدي إلى المدينة ، وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية " اتخذوا أحبارهم ورهباهم أرباباً من دون الله  " قال ، فقلت : إنهم لم يعبدوهم ،  فقال : " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " . وقال رسول الله صلى عليه وسلم : " يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله ؟ أيضرك أن يقال : لا إله إلى الله ،  فهل تعلم إلهاً غير الله ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيت وجهه مستبشراً ، ثم قال : " إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " ( ابن كثير ، د . ت ) .

 

د: الأهداف النفس حركية ( المهارية )

استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار التربوي بهدف تعليم الصحابة كيفية أداء بعض الأعمال التي تحتاج إلى تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والحج وغيرهما من العبادات الإسلامية ، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحج وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " . ومن الشواهد العملية على هذا النوع من الحوار التربوي ما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الصحابة من حوار بهدف تعليمه مهارة أداء الصلاة الصحيحة ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله دخل المسجد فدخل رجل فصلى ، ثم جاء فسلم على رسول الله ، فرد رسول الله السلام فقال : " ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام  ثم قال : " ارجع فصل فإنك لم تصل " حتى فعل ذلك ثلاث مرات . فقال الرجل : والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا . علمني . قال : " إذا قمت إلى الصلاة فكبر . ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً . ثم افعل ذلك في صلاتك كلها "  ( مسلم ، 2000 ) .

 

       إن في هذا الحديث لفتة تربوية تشير إلى منح المتعلم فرصة استعمال قدراته العقلية وتجربته الشخصية في معرفة الأخطاء التي وقع فيها للقيام بمعالجتها وعدم العودة إليها من خلال تكرار الرسول صلى الله عليه وسلم قوله للصحابي :  " ارجع فصل فإنك لم تصل " ، وفيه إثارة حوافزه لطلب التعليم والتوجيه من المعلم والمربي ، وضرورة نصح المتعلمين وإرشادهم من خلال بيان الأخطاء التي يقعون بها ، وتوجيههم إلى الصواب من تلك الأفعال بالممارسة العملية ( الربابعة ،  1999) .

 

 

 

 

 

 

ثالثا ً : أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية .

تنوعت حوارات الرسول صلى الله عليه وسلم بين تذكير للصحابة الكرام بنعم الله تعالى ، ووصف للعديد من الأمور التي لا يتضح معناها إلا من خلال وصف دقائقها وأسرارها بأسلوب وصفي تارة وقصصي تارة أخرى ، فمن أهم أنواع الحوار التربوي النبوي ما يلي :

 

أ – الحوار الخطابي التذكيري

 

       إن المتتبع لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد عدداً لا حصر له من الحوارات التربوية التي خاطب بها الرسول الكريم صحابته الكرام مذكراً إياهم بعظيم نعم  الله تعالى عليهم ،  كتذكيرهم  بنعمة الإيمان والهداية وغيرهما من النعم التي يوقظ التذكير بها عاطفة العرفان بالجميل والشكر لله تعالى . ونظراً لأهمية هذا الأسلوب الحواري التذكيري فقد أكده رب العزة في محكم التنزيل عندما خاطب الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : " ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ؟ ووجدك عائلاً فأغنى ؟ " فكانت الإجابة  على هذه النعم الربانية متمثلة في قوله تعالى : " فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث " ( الضحى : الآيات 6 - 11 ).

 

         إن من أبرز الشواهد العملية على الحوار الخطابي التذكيري في السنة النبوية الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار بعد غزوة حنين ، عندما ذكرهم بعظيم نعم الله عليهم ، كنعمة الهداية بعد الضلال ، والغنى بعد الفقر ، والتآلف والتحاب بعد العداوة والتباغض . فقد خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وموجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله  ؛ وعالة فأغناكم الله  ؛ وأعداء فألف بين قلوبكم !  "

قالوا : بلى لله ولرسوله المن والفضل  .

فقال  : " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ! " قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل !

قال  : " أما والله لو شئتم لقلتم ، فصدقتم ولصدقتم : آتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك . وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم !  أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم !  فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا ( الطبري ، د . ت ) .

 

       من خلال ما تقدم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتبع مع الأنصار منهجاً تربوياً فريداً ، خاطب فيه عقولهم وعواطفهم فكانت النتيجة أن بكوا حتى أخضلوا لحاهم  وانقادوا طائعين مختارين لقسمة الله تعالى ورسوله .

 

ب – الحوار الوصفي :

 

إن من أبرز أشكال الحوار التربوي في السنة النبوية الحوار الوصفي الذي يقوم على أساس إثبات وصف حي لحالة نفسية أو واقعية لمن يوجه إليهم الحوار بقصد الاقتداء بصالحهم ، والابتعاد عن شريرهم ، والتأثر بهذا الجو تأثراً وجدانياً ينمي العواطف الربانية والسلوك الإنساني التعبدي الفاضل ، والأمثلة على هذا اللون من الحوار وافرة في السنة النبوية نذكر منها الحديث الذي يصف محاججة الجنة والنار من خلال حوار وصفي يكشف النقاب عن نوع الناس الذين يدخلون الجنة والنار ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تحاجت النار والجنة فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . وقالت الجنة : فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم . فقال الله للجنة : أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي . وقال للنار : أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكم ملؤها . فأما النار فلا تمتلئ ، فيضع قدمه عليها . فتقول ، قط قط . فهنالك تمتلئ . ويزوي بعضها إلى بعض ( مسلم ، 2000 ) .

 

إن الحوار الوصفي يعرض صورة حية لأحوال أهل النار وأهل الجنة النفسية ، فهو يستعين بالمخيلة والوصف الدقيق على تربية العواطف الربانية والتأثير في نفس القارئ أو السامع . هذا فضلاً عن الإيحاء الذي يعتمد عليه الحوار النبوي الوصفي كما يبدو ذلك واضحاً في الحوار الذي دار بين الجنة والنار ، وما فيه من تحذير للمتكبرين والمتجبرين من أهل الدنيا دون أن يرد في الحديث ما مفاده " عليكم أن تنتهوا عن التجبر والتكبر لئلا يكون مصيركم النار " ( النحلاوي ، 1979 ) .

 

        وحاور الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام حواراً وصف فيه صفات أهل الجنة وطعامهم ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون " . قالوا فما بال الطعام ؟ قال : " جشاء ورشح كرشح المسك . يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس ( مسلم ، 2000 ) .

 

ج – الحوار القصصي :

 

أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الحوار القصصي في تعامله مع صحابته الكرام ، وهو حوار يأتي على صورة قصة واضحة في تسلسلها القصصي ، تجعل السامع شغوفا لمعرفة الدروس والعبر التي أسفرت عنها تلك القصص ، والأمثلة على هذا الأسلوب الحواري في السنة النبوية كثيرة وواضحة ، نذكر منها تلك الأحاديث التي تتحدث عن قصص الأنبياء والرسل السابقين ، فعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لم يكذب إبراهيم النبي ، عليه السلام ، قط ، إلا ثلاث كذبات . ثنتين في ذات الله . قوله ( إني سقيم )( الصافات : 89 ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) ( الأنبياء : 63 ) وواحدة في شأن سارة . فإنه قدم أرض جبارة ومعه سارة . وكانت أحسن الناس . فقال لها : إن هذا الجبار ، إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي . فإنك أختي في الإسلام . فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك . فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار . أتاه فقال له : لقد قدم أرضك لا ينبغي لها أن تكون إلا لك . فأرسل إليها فأتي بها . فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة . فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة ، فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت ، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين ، فقال : ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ، ففعلت وأطلقت يده ، ودعا الذي جاء بها فقال له : إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر . قال : فأقبلت تمشي ، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها : مهيم ؟ قالت : خيراً كف الله يد الفاجر وأخدم خادما . قال أبو هريرة : فتلك أمكم يابني ماء السماء ( مسلم ، 2000 ) .

 

د – الحوار الجدلي لإثبات الحجة :

 

يعد الحوار الجدلي من أبرز أنواع الحوار النبوي ، وهو حوار قائم على النقاش والجدل الهادف إلى إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، والاعتراف باليوم الآخر وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وببطلان آلهتهم وصدق أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم . ولعل الحوار الجدلي الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعتبة بن ربيعة  من أبرز الأمثلة على جدلية الحوار النبوي الهادفة إلى إثبات الحجة والبرهان على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ، فعن جابر بن عبد الله قال : اجتمعت قريش يوماً فقالوا : انظروا أعلمكم بالشعر والكهانة والسحر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ماذا رده عليه ، فقالوا : ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة ، فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت عليه الصلاة والسلام ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت الرسول ، قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا قط سخلة ( مولوداً ) قط أشأم على قومه منك ، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن بقريش ساحراً ، وأن في قريش كاهناً ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى ، أيها الرجل ، إن كان ما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان الباءه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا . فقال عليه الصلاة والسلام : " فرغت " قال : نعم فقال عليه الصلاة والسلام : ( بسم اله الرحمن الرحيم * حم تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون ) إلى أن بلغ : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه ، ولم يخرج إلى أهله واحتبس منهم ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، وما ذلك إلا من حاجة أصابته ، انطلقوا بنا إليه ، فأتوه فقال أبو جهل : والله ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره ، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب وأقسم بالله ألا يكلم محمداً أبدا وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته ، وقص عليهم القصة ، فأجابني بشيء والله ماهو بسحر ولا بشعر ولا بكهانة ، قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم * حم تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ) إلى أن بلغ : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل عليكم العذاب ( الوقفي ، 1993 ) .

 

          من خلال ما تقدم فإننا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتبع أسلوباً حوارياً جدلياً قوامه الحكمة والموعظة الحسنة ، وعماده احترام الآخر والإستماع لحجته حتى لو كان مشركاً ، تمثل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لعتبه : " فرغت " ، فلم يقاطعه حتى أكمل حجته فرد عليه رداً استطاع من خلاله أن يعجزه ، وهو الفصيح البليغ العالم بلغة العرب وشعرهم ، بل وأكثر من ذلك كان عالماً بشعر الجن والكهانة والسحر ، فما كان من ذلك الشاعر الفصيح البليغ إلا أن توسل إلى سيدنا محمد عليه السلام وناشده أن يتوقف عن تلاوة القرآن ، فكانت نتيجة ذلك الحوار الجدلي أن أقسم ذلك المشرك قائلاً : " والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه يعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته .

 

رابعاً :المنظومة القيمية للحوار التربوي في السنة النبوية .

أ – الرفق :

قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر  " ( آل عمران :الآية 159 ) لهذا فقد امتثل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأمر ربه ، فكان خلقه الرفق والحلم أثناء حواراته المتنوعة والمتعددة ، فاستطاع من خلال هذا الخلق الكريم أن يجذب قلوب المدعوين والمتعلمين من أبناء المسلمين ، وأوصاهم بوجوب اتباع الرفق في حواراتهم مع غيرهم ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً أهمية الرفق واللين : " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ( مسلم ، 2000 ) . وقال صلى الله عليه وسلم في موضع آخر : " من حرم الرفق حرم الخير " ( مسلم ، 2000 ) . 

 

        إن السنة النبوية الشريفة حافلة بالحوارات التربوية التي أظهرت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بمظهر الرحيم والحليم والرفيق ، نذكر منها حواره صلى الله عليه وسلم مع الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي الذي قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ( مسلم ، 2000 ) .

 

إن الرفق الذي نهجه الرسول صلى الله عليه وسلم في حواره السابق هو الذي جعل الصحابي الجليل يقبل على النصيحة إقبال المتعلم الحريص في طلب العلم ، فقد وجد في شخصية الرسول من الرفق ما جعله يفديه بأبيه وأمه ، فهو لم يواجه معلماً أحلم وأرفق منه ، فكان صلى الله عليه وسلم معه بخلاف الصحابة الذين رموه بأبصارهم حتى تمنى أن تثكله أمه ، فما هي إلا لحظات وانقضت الصلاة ، فكان ذلك الصحابي بين يدي معلم رفيق ، لم يشتمه ولم يضربه ، بل علمه برفق أن الصلاة لها من القداسة والتعظيم ما يجعلها منزهة عن كلام الناس ، بل هي للتسبيح والتكبير وقراءة القرآن .

 

وتجلى رفق الرسول صلى الله عليه وسلم في الحوار الذي دار بينه وبين الأعرابي الذي بال في المسجد ، وذلك في الحديث الذي يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك إذ يقول : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزرموه . دعوه " فتركوه حتى بال . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر . إنما هي لذكر الله عز وجل ، والصلاة ، وقراءة القرآن " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء ، فشنه عليه ( مسلم ، 2000 ) .

 

ب – التواضع :

يعد التواضع من أبرز الأخلاق الإسلامية التي ارتكز عليها الحوار النبوي ، فلم يكن فيها ما يدل على ترفع نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليها على الآخرين ، أو ما يشير إلى الاستخفاف بهم ، بل كان صلى الله عليه وسلم المثال الذي يحتذى في احترام شخصية المتعلمين مهما اختلفت درجاتهم وتباينت جنسياتهم ، وذلك امتثالاً للأمر الرباني العظيم ( واخفض جناحك لمن  اتبعك من المؤمنين) ( الشعراء : الآية 215 ) . فقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التطبيق العملي لخلق التواضع ولين الجانب مع غيره من المؤمنين وغير المؤمنين .

 

إن من الشواهد العملية على اتصاف الرسول بهذا الخلق العظيم الحوار الذي دار بينه وبين الصحابي الجليل سواد بن غزية في غزوة بدر ، وذلك في الحديث الذي يرويه حبان بن واسع بن حبان بن واسع عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدَل به القوم ، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح ، وقال : استو يا سواد بن غزية ، قال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق ، فأقدني قال فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ثم قال : استقد قال فاعتنقه وقبل بطنه فقال : " ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال : يا رسول الله حضر ما ترى فلم آمن القتل فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله بخير  وقال له خيراً ( الطبري ، د . ت ) .

 

ج – الصبر :

       اتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بخلق الصبر وكظم الغيظ في حواراته العديدة والمتنوعة ، فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه غضب لنفسه إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله تعالى ، فكان صلى الله عليه وسلم صبوراً حليما حتى مع من أراد أن يؤذيه من أعدائه ، يبدو هذا واضحاً في الحوار الذي دار بينه وبين فضالة بن عمير الملوح الليثي عندما أراد قتله وهو يطوف بالبيت عام الفتح ، فقد أورد ابن كثير أن فضالة بن عمير الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضالة ؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم: " ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال لا شيء ، كنت أذكر الله . قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : " استغفر الله " ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه ، قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت : هلم إلى الحديث ، فقال لا ، وانبعث فضالة يقول :

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا               يأبـى عليـك الله والإسـلام

أو ما رأيـت محمـداً وقتيله              بالفتح يـوم تكسر الأصنــام

لرأيت دين الله أضحـى بيناً              والشرك يغشى وجهه الإظـلام .

          ( ابن كثير ، 1966 ) .

د – حسن الاستماع :

 

إن من ينعم النظر في الحوارات النبوية الكريمة يستنتج أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب أروع الأمثلة في احترام الآخر وتقديره ظهر ذلك جلياً في حسن استماعه صلى الله عليه وسلم لمن يحاوره وعدم مقاطعته فكثيراً ما كان عليه السلام يسأل من يحاوره هل أكملت حديثك أو هل فرغت من الحديث كي يتسنى له محاورته والرد عليه الرد الجميل . والسنة النبوية حافلة بالحوارات التي تكشف لنا عن حسن استماع الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث من يحاوره لعل من أبرزها الحوار الذي أوردناه سابقاً بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعتبه بن ربيعة فبعد أن تكلم عتبة سأله الرسول صلى الله عليه وسلم " فرغت "   فبعد أن تأكد من انتهاء عتبه من الكلام رد عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم رداً جميلاً مقنعاً وهو العالم بلغة العرب وأشعارهم فشهد شهادة للقرآن بأنه فوق لغة العرب وأشعارهم وذلك عندما أقسم عتبة للمشركين قائلاً : والله ماهو بسحر ولا بشعر ولا بكهانة .

 

هـ - التيسير :

إن المتتبع لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد ، بما لا يدع مجالاً للشك ، أنه لم يخير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، حتى في حواره مع صحابته الكرام كان خلقه التيسير ونبذ التعسير ، فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه شق على مؤمن أو عسر على مسلم ، فقد ورد في السنة النبوية الكثير من الحوارات التي تشير إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم منهج التيسير في القول والعمل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : " وما أهلكك ؟ " قال : وقعت على امرأتي في رمضان . قال : " هل تجد ما تعتق رقبة ؟ " قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ " قال : لا . قال : " فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ " قال : لا . قال : ثم جلس . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر . فقال : " تصدق بهذا " قال : أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : " اذهب فأطعمه أهلك " ( مسلم ، 2000 ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خامسا ً : التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية .

أ – الحوار النبوي وتربية الصحابة العسكرية  :

ربى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام تربية عسكرية استخدم فيها أسلوب المحاورة والتشاور بهدف إشراكهم في اتخاذ القرارات الحربية ، وتحمل المسؤلية في العديد من الغزوات والوقائع الحربية التي شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم ، لعل من أبرزها الحوار الذي دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة الكرام في غزوة بدر ، فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم الآتية من الشام بقيادة أبي سفيان ،  فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا براء من زمانك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا ؛ نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن داهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ : والله كأنك تريدنا يا رسول الله قال : " أجل " قال : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك ، فامض يا رسول الله لما أردت ونحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر على بركة الله ، قال : فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ثم قال : " سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله كأني أنظر إلى مصارع القوم " ( الوقفي ، 1993 ) .

 

نستنتج مما سبق من حوار أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز على أهمية استنهاض الهمم والمعنويات ، وبث الروح العسكرية في صفوف الجند بأسلوب تربوي فريد ، فقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يوجه سؤالاً مباشراًً للأنصار حول مشاركتهم في القتال ، وتكون النتيجة موافقتهم على ذلك من غير أن يلجأ إلى هذا الحوار المطول ، لكنه أراد أن يثير دافعيتهم نحو القتال بهمة وعزيمة عالية ، وبعبارة أخرى أراد أن يربيهم تربية عسكرية ويشركهم في تحمل المسؤلية من خلال هذا التشاور وهذه المحاورة .

 

ومن الأمثلة الأخرى على الحوار النبوي الهادف إلى التربية العسكرية ما جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين صحابته الكرام في غزوة أحد ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين علم بجيش مشركي مكة لغزوة أحد :  " امكثوا بالمدينة ، واجعلوا الذراري بالآطام ، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت " فقال الذين لم يشهدوا بدرا : كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله فقد ساقه إلينا وقرب المسير ، وقال رجل من الأنصار : متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه ، ولما صلى عليه الصلاة والسلام الجمعة انصرف من خطبته وصلاته إلى بيته فدعا بلأمته فلبسها ، ثم أذن في الناس بالخروج ،  فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة ، وهو أعلم بالله وما يريد ويأتيه الوحي من السماء  ، فقالوا : يا رسول الله امكث كما أمرتنا ، فقال قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لاقيتم العدو ، وانظروا إلى ما أمركم الله به فافعلوا ( الوقفي ، 1993 ) .

 

ب - الحوار النبوي ومحاججة مشركي مكة :

 

إن من أهم مقاصد الحوار النبوي وغاياته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، والاعتراف باليوم الآخر وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وببطلان آلهتهم وصدق أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم . ولعل الحوار الجدلي الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم والوليد بن المغيرة خير شاهد على ذلك فعن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبو جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ، فقال : لم ؟ قال : ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قيله ، فقال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا . قال : فقل فيه قولا ً يبلغ قومك أنك منكر له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا قصيده مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه يعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : قف عني حتى أفكر فيه ، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت : ( ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا ) ( الوقفي ، 1993 ) .

 

ومن الأمثلة الأخرى لمحاججة الرسول صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة المحاورة التي دارت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعتبة بن ربيعة تلك التي أوردناها سابقاً  فهي محاورة ، تبين اعتراف الكفار ، وبشكل واضح بعظمة القرآن وإعجازه ، وأنه من عند غير محمد صلى الله عليه وسلم ، حاول عتبة أن يبين لرسول الله أنه قادر على أن يرضيه بأي أمر من الأمور التي يرغبها ، كما وحاول أن يتفوق على رسول الله إذ وجه إليه عدداً من الأسئلة فلم يجب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه يعلم تمام العلم ما الذي يريده عتبة ( زيادة ، د . ت ) .

 

حاول عتبة أن ينتصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظناً منه أن أسئلته تلك كفيلة بأن تضيق الخناق حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن رسول الله المؤيد من السماء معه أقوى دليل وأعظم حجة وأبين برهان على صدق دعواه ألا وهو القرآن الكريم فبمجرد أن قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة فصلت على عتبة حتى ذهل عتبة ، وفقد صوابه وقفل راجعاً إلى أهله معلناً بهته وهزيمته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته القوية القرآن الكريم ( زيادة ، د . ت ) .

 

ب – الحوار النبوي ومجادلة أهل الكتاب :

أولاً : مجادلة النصارى :

تشير كتب السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاور نصارى العرب والعجم من خلال الكتب التي أرسلها إلى عدد منهم يدعوهم فيها إلى الإسلام ، فقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك الحبشة ، وإلى هرقل ملك الروم ، وكتب إلى المقوقس ملك الإسكندرية ، وإلى المنذر بن ساوى وغسان ملك الشام ، وهم جميعاً كانوا نصارى على اختلاف مذاهبهم ومللهم ، فقد كانت هذه الكتب بمثابة المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن ، نتج عنها أن وفدت الوفود الكثيرة من النصارى إلى المدينة تجادل الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسلام وفي النصرانية وفي عيسى ابن مريم . مثل وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد جاءوا إلى المدينة المنورة ودخلوا المسجد حين صلى رسول الله العصر ، وعليهم ثياب الحبرات يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ : " ما رأينا وفداً مثلهم " . وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هذا في مسجدك فقال : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق . فلما فرغوا دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إلام تدعو ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث فقالوا : ومن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ما تقولون في آدم أكان عبداً يأكل ويشرب ويحدث ويتزوج ؟ قالوا : نعم .  قال : فمن أبوه ؟ وأنزل الله سبحانه ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين )( آل عمران : الآية 59 ) . ثم سألوه وسألهم وكان ذلك في جو من الحرية والصفاء ثم وصل بهم الحوار إلى أن دعاهم رسول الله إلى المباهلة ؛ وهي دعوة الأبناء والنساء والجميع ، والتوجه إلى الله سبحانه بطلب اللعنة على الكاذبين ، وذلك في قوله تعالى " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " ( آل عمران : الآية 61 ) .

 

قال ابن هشام : فلما أتى رسول الله الخبر من الله عنهم ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك . فقالوا له : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وهو رئيسهم وصاحب رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا |؛ فإنكم عندنا رضاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : ائتوني العشية فأبعث معكم القوي الأمين ، فبعث فيهم أبا عبيدة عامر بن الجراح ( الخياط ، 1995 ) .

 

ثانياً : مجادلة اليهود : 

لم يكن حوار رسول الله مقتصراً على النصارى من أهل الكتاب ، بل تعدى ذلك إلى اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة المنورة ، فقد جادلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتي هي أحسن ، فعلى خداعهم ونقضهم للعهود مع المسلمين وتدبيرهم المكائد للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ، إلا أن الرسول قابل مساوئهم وإيذاءهم بالمحاورة القائمة على اللين والرفق والمنطق العقلي ، ومن الأمثلة على ذلك الجدال والحوار العقلاني مع اليهود ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً . فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال : " هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم . فقال : " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " قال : لا . ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك . نجده الرجم . ولكنه كثر في أشرافنا . فكنا ، إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف ، أقمنا عليه الحد . قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع . فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " فأمر به فرجم .  فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله : " إن أوتيتم هذا فخذوه " ( المائدة : الآية 41 ) يقول ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه . وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا . فأنزل الله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( المائدة : الآية 44 )

               

وعن نافع أن عبد الله بن عمر اخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما . ويطاف بهما . قال : " فأتوا بالتوراة . إن كنتم صادقين " فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم ، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم . وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليرفع يده . فرفعها . فإذا تحتها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ( مسام ، 2000 ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نتائج الدراسة  :

- أظهرت الدراسة عدة نتائج جاءت على النحو الآتي :

أولاً :النتائج المتعلقة بالسؤال الأول: ما المقصود بالحوار التربوي في السنة النبوية   ؟

  • أثبتت الدراسة أن المقصود بالحوار التربوي في السنة النبوية  أسلوب تعليمي استخدم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأسئلة وإجاباتها بهدف إثارة أذهان المتعلمين ودفعهم إلى تمحيص الأفكار ومحاكمتها عقلياً للوصول إلى الحقائق التي لا تقبل الشك أو الجدل .

 

ثانياً : النتائج المتعلقة بالسؤال الثاني : ما أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟

    - أوضحت الدراسة أن من أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية إثارة عواطف المتعلمين وانفعالاتهم الوجدانية ، وتعريف الصحابة بالكثير من الأمور التي أشكلت عليهم  ، وتعليم الصحابة كيفية أداء بعض الأعمال التي تحتاج إلى تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والحج وغيرهما من العبادات الإسلامية .

 

ثالثاً : النتائج المتعلقة بالسؤال الثالث : ما أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟

   - كشفت الدراسة عن أهم أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية ؛ كالحوار الخطابي التذكيري ، والحوار الوصفي ، والحوار القصصي ، والحوار الجدلي لإثبات الحجة على المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى .

رابعاً : النتائج المتعلقة بالسؤال الرابع : ما أهم القيم التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟

  • بينت الدراسة وجود عدد من القيم التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية مثل : الرفق ، والتواضع ، والصبر ، وحسن الاستماع ، والتيسير .

 

خامساً : النتائج المتعلقة بالسؤال الخامس : ما أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟

  • كشفت الدراسة عن أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية ،         كالحوار التربوي مع الصحابة الكرام ، ومحاججة مشركي مكة ، ومجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى .

 

 

قائمة المراجع :

  • الأصفهاني ، الراغب ، ( د. ت ) . معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ( د . ط ) ، بيروت ، دار الفكر .
  • البخاري ، ( د . ت ) ، صحيح البخاري ، ( د . ط ) ، بيروت ، دار الجيل .

 

  • ابن حنبل ، أحمد ، ( د . ت ) ، المسند ، ( د . ط ) ،  دمشق ، دار الفكر .

 

  • الخياط ، عبد العزيز، ( 1995 ) ، أدب الحوار، ( د . ط ) ، عمان ، وزارة الشباب .

 

 

  • الربابعة ، فراس محمد ، ( 1999 ) . الحوار النبوي في العهد المدني ،  رسالة ماجستير غير منشورة ، إربد ، الأردن ، جامعة اليرموك .

 

  • زيادة ، خليل ، ( د . ت ) ، الحوار والمناظرة في القرآن الكريم ، ( د . ط ) ، القاهرة ، دار المنار .

 

  • الشيباني ، عمر التومي ، ( 1985 ) . فلسفة التربية الإسلامية ، ( ط5 ) ، طرابلس ، المنشأة العامة للنشر والتوزيع .

 

  • الطبري ، أبي جعفر محمد بن جرير ، ( د . ت ) . تاريخ الرسل والملوك ، ( د . ط ) ، القاهرة ، دار المعارف .

 

  • ابن كثير ، عماد الدين أبي الفداء ، ( 1966 ) ، البداية والنهاية ، ( ط1 ) ، بيروت ، مكتبة المعارف .

 

  • ابن كثير ، عماد الدين أبي الفداء ، ( د . ت ) . مختصر تفسير ابن كثير ، ( ط3 ) ، بيروت ، دار القرآن الكريم .

 

  • مسلم ، أبي الحسين ، ( 2000 ) ، صحيح مسلم ، ( ط1 ) ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .

 

  • مصطفى ، ايراهيم ، ( 1960 ) ، المعجم الوسيط ، ( د . ط ) ، القاهرة ، مجمع اللغة العربية .
  • ابن مظور ، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم  ( 1955 ) ، لسان العرب ، ( د . ط ) ، بيروت ، دار صادر .

 

  • النحلاوي ، عبد الرحمن ، ( 1979 ) . أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع ، ( ط1 ) ، دمشق ، دار الفكر .

 

  • الهاشمي ، عبد الحميد  ،( 1981 ) . الرسول العربي المربي ، ( ط1 ) ، دمشق ، دار الثقافة للجميع .

 

  • الوقفي ، إبراهيم ، ( 1993 ) ، الحوار لغة القرآن الكريم والسنة النبوية ، ( ط1 ) ، القاهرة ، دار الفكر العربي .

 

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك