لماذا انتصر أصحاب المذهب الكلامي على أصحاب المذهب العقلاني في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة؟
لماذا انتصر أصحاب المذهب الكلامي
على أصحاب المذهب العقلاني في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة؟
بقلم: عزمي عاشور
إنّ الوجود البشري ليس حكرا لأصحاب مذهب دينى على حساب آخر، لكلّ دينه الذي يرى من خلاله الخالق ويعبده… وهذه النسبيّة فيما بين البشر تؤكّدها الحقائق الموجودة في عوالم هذا الكون، بنسبيّة المعرفة، ونسبيّة إدراك الكائن البشري، الذي من خلال متغيّري الزّمان والمكان، يكون محصورا في إدراك هذا الواقع… ومن هنا ليس من المستغرب أن تتعدّد الدّيانات والمنظورات التى تؤكّد من خلال التّفكير الفلسفي أن هناك خالق لهذا الكون…
ومن هنا تعدد الرّموز والعبادات بالنسبة إلى أصحاب الدّيانات غير السّماوية إلا أنّ هذه الرّموز أخذت شكلا أوضح عند أصحاب الدّيانات السّماوية بفضل الرّسل، الذين كانوا همزة الوصل ما بين البشر والخالق… لذلك لا يختلف مجمل مضمون ما جاءت به الأديان السّماويّة مع الأديان الأرضيّة في وجود أرضيّة مشتركة لما فطر الخالق عليه البشر من قواعد الفطرة المرتبطة بتحديد الخير والشر وتحديد ما يصحّ وما لا يصحّ، وما هو ضار وما هو نافع للإنسان… وهذا الاتّفاق في هذه القواعد التى توصّل لها أصحاب الدّيانات الأرضيّة، ومع أصحاب الدّيانات السّماويّة، جاءت بفضل امتلاك العقل، الذي كان يعمله منظّري الأديان الأرضيّة، وتوصّلوا بعد اجتهاد وتفكير إلى هذه الحقيقة التى التقت فيما بعد مع ما جاءت به الأديان السماويّة، مع اختلاف الرّمز الذي يعبدونه…
ومن هنا فانّ الفلسفة وإعمال العقل لم تكن غائبة عند أصحاب هذه الدّيانات الأرضيّة، بل كان لها قدرة كبيرة على التّأثير في الثّقافات التى جاءت بها الدّيانة الإسلاميّة وبالأخصّ في هذه الجزئيّة… فالحضارة العربيّة الإسلاميّة على سبيل المثال، إذا نظرنا إليها بحكم تطوّر تاريخ الفلسفة فيها كما جاء في العمل القيم "تاريخ الفلسفة في الاسلام " للمؤلف ت.ج دي بور الذي ألّفه في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وترجمه الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده في سنة 1938… وأعيد نشره مؤخرا في مشروع القراءة للجميع في مصر، يقدم فيه الكاتب بانوراما تطوّر الفلسفة الإسلاميّة وبالأخصّ في مناطق الازدهار التي لم تكن لتوجد لو لا عملية التّلاقح التي حدثت مع أصحاب الحضارات السّابقة، وبالأخصّ أصحاب الدّيانات الأرضيّة في الهند، وفي بلاد فارس، أو أصحاب الدّيانات السّابقة في بلاد الشّام عند المسيحيين، ومن خلالهم عمليّة الاطلاع على تراث الفلسفة اليونانية…
حيث المناطق المضيئة كانت في هذه الأماكن التى حدث فيها الاحتكاك بين هذه الثقافات… والفضل في ذلك يرجع إلى فتوحات العرب وتحرّكاتهم شمالا تجاه الشام، وشرقا تجاه فارس، فاطلعوا على واقع مغاير تماما لما كانوا عليه في شبه الجزيرة العربيّة، من حيث مظاهر الحياة والرفاهيّة، التى تختلف هنا وتأخذ طابعا متقدّما عمّا هم عليه في البادية… وقد انتبه الولاة والأمراء إلى هذا الأمر وبالأخصّ في عهد الدّولتين الأمويّة والعباسيّة، وبطريق غير مباشر أرادوا الاستمراريّة والاستمتاع بمظاهر الحضارة التى وجدوها في هذه البلاد، فاهتموا بالثقافة والعلم وقرّبوا منهم الفلاسفة، وقاموا بترجمات العلوم اليونانيّة الفارسيّة والهنديّة، والتى أشعلت عقول الفلاسفة العرب، وأخرجت نوابغ كان لهم التّأثير في منهج التفكير العقلي بالأخص في الشرق وبدا الخروج تدرجيا عن مذهب المتكلمين السائد على الثقافة الاسلاميّة في ذلك الوقت إلى المذاهب العقلانيّة نتيجة تأثير ما ترجم من آثار الحضارة اليونانيّة بفلسفتها وغيرها من حضارة الشرق… فظهرت جماعة إخوان الصفا بالبصرة بمذهبهم العقلي الفلسفي، ثم بعد ذلك ظهر أعلام كان تأثيرهم قويّا في ترسيخ هذا المذهب في الحاضرة الاسلامية، في ذلك الوقت مثل الكندى والفارابي وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم…
وعندما انتقل العرب إلى الغرب في شمال افريقيا بفتوحاتهم، ثمّ بعد دخولهم الاندلس، كان لهم هناك أيضا عمليّة احتكاك ثقافي، وإن كانت في البداية من الغرب إلى الشرق، للاستفادة والتعلم من الأعلام الموجودين، بحكم تقدّمهم في الزّمن بالازدهار الفكرى سواء في الدّولة الأمويّة أو العباسيّة، إلا ما يلفت النّظر إلى الفكر العلمي والفلسفي في بلاد الأندلس، هو الذي ضمن الاستمراريّة إلى فترة قريبة من فكر الحضارة العربيّة الإسلاميّة، حتى قبيل انتقاله الى علماء النهضة الحديثة في أوربا على لذلك ظهرت اعلام من امثال ابن خلدون وابن رشد الذين كان لاعمالهم وفكرهم الذي حمل اخر تطورات ما توصل اليه العقل الاسلامي من فلسفة وعلوم لعبه على مدار عقود سابقة، ومنه تم نقلها بعد ذلك الى الثّقافة الأوربيّة التى لعبت نفس الدّور الذي لعبه الأمراء في صدر الدّولتين الـأمويّة والعبّاسية بترجمة كتب هؤلاء الفلاسفة العرب، بالأندلس في ذلك الوقت…
إذا كان أصحاب المذهب العقلاني والفلسفة هي المكان الذي ازدهرت بالاحتكاك بأهل الثقافات الأخرى، وظلّ أصحاب مذهب المتكلمين المسيطر على حقل الثقافة الإسلاميّة بشكله الطاغي… الأمر الذي يفسّر لماذا هذا الطغيان لكل ما له علاقة بثقافة الكلام التى غاب عنها العقل في الخطاب الاسلامي، الذي ما زال يستند إلى تفسيرات علماء الأمّة الأوائل للدّين، وإعادة إنتاجها بنفس الشّكل في سياق سلفي، أو في جماعات دينيّة دون أن يكون هناك تطوّر، ليس فقط في الانتقال للمذهب العقلاني مثلما حدث فى السّابق، وإنّما في هذا المذهب نفسه، الذي لم يوجد من يستطيع أن يأتي بجديد وينتقد أصحاب المذاهب الأربعة مثلا ويخرج لنا بمذهب جديد يتناسب مع ما هو موجود في الواقع…
وسبب ذلك يرجع إلى تغييب الفلسفة والمذهب العقلاني، فهو السبب الأساسي حيث أنّ ثنائيّة التطوّر التي كانت موجودة في الحضارة العربية الإسلامية، ظلت مستمرّة حتّى الآن أو استأنفت بالشكل الذي كانت موجودة فيه ربّما لكان الواقع مختلفا… يبدو أنّ انقطاع العقلانية بمذهبها الفلسفي، قد ترك المجال لأصحاب المذاهب المتكلّمة ليدشنوا الكثير من الثقافة ومن ثم العقلية نفسها التى تحتاج الى وقت وجهد كبير لتغييرها…
ولعل ذلك ما يفسر هذا التنامي الأصولي الاسلامي من جماعات إسلامية سلفيّة تأخذ شكلا راديكاليّا في نظرتها إلى الواقع، بتناقضاته معه، وبكل ما يحمله من نقلة حضاريّة جاءت بفعل استخدام العقل، إلى غياب هذا المتغيّر في عمليّة التّفكير والتّعاطي مع المضمون الدّيني، واستسهال منهج الكلام، فليس بغريب أن تصدع جميع المساجد في توقيت واحد بمضمون واحد متواصل منذ قرون طويلة، وأن يكون الصّوت هو المتحكّم لا العقل… فليس من المستغرب أن يكون ما يميّز الرّئيس المصري الجديد الذي ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين أنّ خطبه الدينيّة أكثر من خطبه السياسيّة.