حسن الحوار وبرامج التوك شو

حسن الحوار وبرامج التوك شو

 

أ.د. عبد الرحمن البر

 

 من الأخلاق التي تؤلِّفُ القلوب، وتشرحُ الصدور، وتربطُ الناس بعضهم ببعض: تقديرُ كل منهم للآخر وإن اختلفت آراؤهم ومناهجهم، ومن أوضح مظاهر ذلك: حُسنُ الاستماع والإنصات لحديث المتحدِّث، وانتقاء العبارات والألفاظ الملائمة في الحوار، فلا شك أن الإصغاءَ إلى المتكلم وحُسْنَ الاستماع لحديثه وحسن مخاطبته بألفاظ مناسبة فيه توقيرٌ له، واحترامٌ لمشاعره، وتطييب لخاطره، وفهم لمقاصده من الكلام، واستيعاب لفكرته التي يعرضها، ولا شك أن ذلك يؤدى إلى ارتياح الجلساء بعضهم إلى بعض، ويشجع الجليس على معاملة جليسه بالمثل حين يتحدث إليه، ومن ثم يكون الحوار مفيدا وتكون نتائجه محققة لمقاصده.

ولذلك فإن مما يؤسف له في البرامج الحوارية المختلفة في كثير من الفضائيات أن ترى المتحاورين لا ينتظر أحدهما الآخر ليشرح فكرته أو يوضح مقاصده، بل يسارع كل منهما بمقاطعة الآخر، ويرفع الصوت لمحاولة إسكات الآخر والتغلب عليه ومنعه من استكمال فكرته، ويسعى للاستئثار بمخاطبة المشاهدين، ولا يدقق في اختيار الألفاظ والعبارات التي يخاطب بها محاوره، وتتحول المناقشة الفكرية إلى مبارزة صوتية يسعى كل طرف فيها لأن يكون أعلى صوتا وإن لم يكن أقوى حجة، بحيث يحس المشاهد أو المستمع أنه يتابع مصارعة لا محاورة، وذلك خلاف التوجيه القرآني الحكيم ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾.

والأغرب أن بعض المتداخلين في الحوار من المشاهدين يسعون لتكرار نفس هذه الممارسة، دون اهتمام بالسعي للحقيقة التي ينتظر عموم المشاهدين أن تتجلى أمامهم بشكل واضح من الحوار المتكافئ، بحيث يتمكنون من بناء فكرة متكاملة عن موضوع الحوار تتيح لهم الحكم الصحيح على الأفكار واتخاذ الموقف المناسب من تأييدها أو رفضها، وأكاد أجزم بأن هذه الطريقة التي صارت مألوفة في معظم البرامج الحوارية تؤثر سلبا لا إيجابا في عملية تنمية الوعي والسلم الاجتماعي، ويرحم الله  الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما الذي قال لابنه: «يا بنيَّ، إذا جالستَ العلماءَ فكنْ على أن تسمع أحرصَ منك على أن تقول، وتعلَّم حسنَ السماع كما تتعلَّمُ حسنَ الصمت، ولا تقطعْ على أحدٍ حديثاً وإن طال حتى يمسك».

وقَالَ حَكِيمٌ لِابْنِهِ: «تَعَلَّمْ حُسْنَ الِاسْتِمَاعِ كَمَا تَعْلَّمُ حُسْنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ حُسْنَ الِاسْتِمَاعَ إمْهَالُكَ لِلْمُتَكَلِّمِ حَتَّى يُفْضِي إلَيْك بِحَدِيثِهِ، وَالْإِقْبَالُ بِالْوَجْهِ وَالنَّظَرُ».

وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ له: «يَا ذَا الأُذُنَيْنِ». وهذا من جملة مداعباته صلى الله عليه وسلم ولطيف أخلاقه، ومعناه الحض والتنبيه على حسن الاستماع لما يقال له؛ لأن السمع بحاسة الأذن، ومن خلق الله له الأذنين وغفل ولم يحسن الوعي لم يعذر.

ومن آداب الحديث المهمة: ألا يتكلم أحدٌ إذا تكلم غيره، بل يسكت حتى يفرغ المتحدث من كلامه، ثم إن شاء فليتكلم، فهكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الذين كانوا لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ, مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ, بل كان ذلك هديه صلى الله عليه وسلم  مع المعارضين له، كما حدث عندما جلس عتبة بن ربيعة وهو مشركٌ يحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سيرة ابن إسحاق أن عتبة قال له: إِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ، فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفّرْت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ». ثم عرض عليه تلك التفاهات من المال والسيادة والملك والعلاج من مس الجن، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا يقاطعه حتى انتهى من عرض ما جاء به، ثم قال: «أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنّي». قَالَ: أَفْعَلُ. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الحق ويقرأ عليه القرآن، ثُمّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ». وهذا من تمام أدبه صلى الله عليه وسلم.

ومهما تكن نتيجة الحوار، فحسن الاستماع أدعى إلى تطييب خاطر المحاور وإمكانية قبوله لما تسفر عنه المناقشة من الحق. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطينا المثل في الإصغاء إلى الكافر ومنحه الفرصة لعرض أفكاره وآرائه، فإن ذلك الحق نفسه لا بد أن يُْطَى للمخالفين ضمن إطار التصور الإسلامي العام، بل الثقافات والمذاهب السياسية والفكرية، بل للمخالفين من أصحاب الحضارات والأديان الأخرى عموما والكتابية على وجه الخصوص، بحيث يكون الحوار مثمرا وكاشفا للزيف والصواب.

فأما عدم الاستماع للمتحدث فمن سوء الأدب، ومن أسباب الشحناء وفساد الأخوة والمودة، وقد قَالَت الْحُكَمَاءُ: «مِنْ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: مُغَالَبَةُ الرَّجُلِ عَلَى كَلَامِهِ، وَالِاعْتِرَاضُ فِيهِ لِقَطْعِ حَدِيثِهِ». وقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: «إيَّاكَ إذَا سُئِلَ غَيْرُك أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُجِيبُ كَأَنَّك أَصَبْت غَنِيمَةً أَوْ ظَفِرْت بِعَطِيَّةٍ، فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ أَزْرَيْت بِالْمَسْئُولِ، وَعَنَّفْت السَّائِلَ، وَدَلَلْت السُّفَهَاءَ عَلَى سَفَاهَةِ حِلْمِك وَسُوءِ أَدَبِك».

ويلحق بمقاطعة المتحدث، بل أشد منها: التشاغلُ عن المتحدث، والاستخفافُ بحديثه، والاستهزاء بما يعرضه من أفكار، والتقاط كلمة -ربما تكون غير مقصودة- لإظهار الخلل في كلام المحاور، فذلك من الكبر وسوء الأدب، وقلة الاحترام لمشاعر الآخرين، ومن أمثال العرب: «مَنْ لاحاك فقد عاداك»، ولم يكن السلف يتناظرون على ذلك، بل لقصد تحقيق الحق لوجه الله تعالى. قال الشافعي: «ما ناظرتُ أحداً وأحببتُ أن يخطئ، بل أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه من الله رعاية وحفظ، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يظهر الحق على لساني أو لسانه».

إن الحوار الجاد حين يتحول إلى جدال ومراء لا يبتغي أطرافه وجه الحق يجر الأمة إلى الضلالة بعد الهدى، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه الترمذي: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ: )مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(.

وأسوأ من كل ما سبق: أن يتحول الحوار والنقاش الفكري إلى خصومة تستحل فيها المحرمات من الأعراض ويستعمل فيها الافتراء والكذب، وتنتقل من ساحات الفكر والرأي إلى ساحات الحكم والقضاء، وفي الحديث المتفق عليه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ»، وهو شديد الخصومة، الذي كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، رافضاً التسْليم للحق بعد ظهوره.

ومما أوصى به ابن عباس  رضي الله عنهما: «لا تمارِ حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يَقْلِيك (أي يبغضك)، وإن السفيه يؤذيك».

فهل نطمع في أن يمتعنا السادة المتحاورون في شأن الأمة وفي قضايا الفكر عبر برامج الحوار الفضائية بحوارات راقية منتجة نافعة محققة لمصلحة الأمة!.

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=4913&lasttype=1

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك