دراسة عن أسلوب الحوار في القرآن الكريم

دراسة عن أسلوب الحوار في القرآن الكريم

 

د. إسحاق رحماني1

 

 

من أبرز الأساليب الحكيمة والبليغة التي استعملها القرآن الكريم، في إقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى، وعلى صدق الرسل الكرام -عليهم السلام- فيما يبلغون عن ربهم عز وجل أسلوب الحوار من أجل الوصول إلى الحق عن اقتناع عقلي، وارتياح نفسي، ويجعل صاحبه يعيش حياته وهو ثابت على ما آمن به ثباتًا لا ينازعه ريب، ولا يخالطه شك. وقد استعمل القرآن الكريم أقوى البراهين في حواره للوصول إلى معرفة الحق. ونحن نسعى في هذه المقالة أن نبيّن هذا أسلوب في القرآن الكريم.

 

 

الكلمات الأصلية: دراسة، أسلوب، الحوار، القرآن الكريم.

 

 

مقدمه:

 

 

إن كثيرا من المشاكل والصدامات الدامية التي تدفع البشرية ثمنها كان ممكنا أن تتجنب أصلاً أو يخفف أثرها أو تقلّ سلبياتها لو لجئ إلى الحوار واستنفذت أغراضه ووسائله. إن الحوار هو لغة الإسلام وقد قضى الله سبحانه أن تكون علاقته جل شأنه بمخلوقاته قائمة على أساس الحوار الإقناعي وليس على أساس القهر والإكراه، وأن القرآن الكريم وهو دستور المسلمين، ومصدر عقيدتهم وشريعتهم قد وجهنا إلى أن الحوار هو الأسلوب الذي يجب على المسلمين إتباعه عند بحث القضايا والمشكلات. ومن مستلزمات الحوار الاعتراف بالآخر وبحقه في الوجود وبحقه في التعبير عن رأيه وبحقه في الاختلاف مع الآخر.

 

 

والحوار يمكن أن يقع بين مختلف مكوّنات المجتمع المدني وتوجهاته الاجتماعية والسياسية، ومنها تنزل إلى مستوى الأسرة، فيُرى أثرها فيما بين الزوج والزوجة وما بين الزوجين والأولاد. فالحوار ممر استراتيجي لحل الأزمات الكبيرة والصغيرة.

 

 

استعمل القرآن الكريم منهج الحوار ليعلمنا استعماله في جميع مجالات حياتنا، من أجل الوصول إلى الحق بقناعة عقلية، وارتياح نفسي، واطمئنان وجداني، لكي يعيش المجتمع الإنساني في إخاء وتواصل، وأمن وأمان، وحب وسلام.

 

 

مفهوم الحوار:

 

 

كلمة الحوار كلمة جميلة رقيقة، تدل على التفاهم والتفاوض والتجانس، وإذا رجعنا إلى كتب اللغة العربية ومعاجمها فإننا نجد فيها مصطلحات تتفق في جانب من مفاهيمها ومعانيها مع مصطلح الحوار، وإذا أردنا أن نقف على مفهوم الحوار فإن ذلك يتطلب الوقوف على مفاهيم تلك المصطلحات التي لها علاقة وثيقة به وهي الجدل، والمناظرة، لأن هناك تداخلاً كبيراً في مستوى الدلالة بين هذه المصطلحات الثلاثة (الجدل - المناظرة - الحوار) وسنحاول هنا الوقوف على مفهوم كل مصطلح على حده لنرى أوجه الاتفاق والاختلاف بينها.

 

 

مفهـوم الجـدل:

 

 

جاء في كتاب مقاييس اللغة لابن فارس: جدَلَ الجيم والدّال واللاّم أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام2 وجدل يَجدِلُ: اشتدّت خصومته.3

 

 

أما في الاصطلاح: فقد عرفه الأصفهاني بقوله: “هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجَدالة وهي الأرض الصلبة.4

 

 

والمناظرة لغة من النظير، أو من النظر بالبصـيرة، فهي من النظر تفيد الانتظار والتفكير في الشيء تقيسه وتقدره، ومن التناظر تفيد التقابل،5 ومن النظير تفيد التماثل.

 

 

أما في الاصطلاح المناظرة بمعناها الاصطلاحي يوجد فيها معنى التناظر الذي هو التقابل، سواء أكان بين الأشخاص في المجلس الواحد، أو بين الأدلة والحجج.6

 

 

المناظرة في الواقع وإن كان أساسها من النظر فإنها تطوّرت لتعني التناظر المشحون بروح التحدي، فكل واحد من الطرفين يعتبر نفسه عند المناظرة نظيراً للآخر أو نداً وقادراً على أن يتحداه.

 

 

الحوار في اللغة:

 

 

اشتقاق لفظ “الحوار” في اللغة من مادة “ح و ر” التي تحمل من الدلالات الكثير، وذكر علماء اللغة أنّ له معاني متعددة تبعاً لتفعيلاتها الصرفية، فقد جاء في صحاح الجوهري، ما يلي: “المحاورة المجاوبة. والتحاور: التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا، ولا حويرة، ولا محورة، ولا حِوارا. (بفتح الحاء وكسرها). أي ما رد جوابا”.7

 

 

وورد في تاج العروس: “الحوير كأمير والحوار بالفتح، ويكسر... كلمته فما رجع إلي حِوارا، وحَوارا، ومحاورة وحويرا، ومحورة. وإنه لضعيف الحوار، أي المحورة.8

 

 

وفي لسان العرب: أن الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، يقال حارَ إِلى الشيء وعنه حَوْراً ومَحاراً ومَحارَةً رجع عنه وإِليه. وكل شيء تغير من حال إِلى حال، فقد حارَ يْحُور حَوْراً، قال لبيد:

 

 

وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يَحُورُ رَماداً بعد إِذْ هو ساطِعُ.9

 

 

وأشار ابن فارس بأنه: “وكلمته فما رجع إلي حَوارا ومحوارة.10

 

 

ويتضح من خلال ما تقدم أن كلمة الحوار تدور حول المعاني الآتية:

 

 

1– الرجوع إلى الشيء وعن الشيء، والمتحاورون قد يرجع أحدهم إلى رأي الآخر أو قولـه أو فكره رغبة في الوصول إلى الصواب والحقيقة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾الانشقاق:14 أي لن يرجع مبعوثاً يوم القيامة.

 

 

2– التحول من حال إلى حال، فالمحاور يتنقل في حواره من حالة إلى أخرى، فمرة يكون مستفسراً، وأخرى يكون مبرهناً، وثالثة يكون مفنداً، وهكذا.

 

 

3– الإجابة والرد، وهو قريب من المعنى الاصطلاحي للحوار؛ لأن كلاً من طرفي التحاور يهتم بالإجابة عن أسئلة صاحبه، ويقدم مجموعة من الردود على أدلته وبراهينه

 

 

4– الاستنطاق ومراجعة الحديث، فكل واحد من المتحاورين يستنطق صاحبه ويراجع الحديث معه لغرض الوصول إلى هدفه وقصده.

 

 

5– النقاء والتخلص من العيوب، والواقع أن طبيعة الحوار والمناقشة تؤدي بالنتيجة إلى التخلص من العيوب الفكرية، من خلال طرح الأفكار المتعددة واختيار الراجح منها.11

 

 

وفي القرآن الكريم لم يرد لفظ الحوار، وإنما ورد الفعل “حاور” والمصدر “التحاور” ثلاث مرات، وذلك في الآيات الكريمات:

 

 

قوله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثمرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾.الكهف:34

 

 

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾.الكهف:36

 

 

قوله تعالى: ﴿قدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.المجادلة:1

 

 

أما كلمة “الحوار” فهي أوسع مدلولاً من كلمة الجدل، باعتبار تضمُّن الجدل معنى الصراع، بينما نجد الحوار يتسع له ولغيره، مما يراد منه إيضاح الفكرة بطريقة السؤال والجواب.12

 

 

الحوار في الاصطلاح:

 

 

وبعد هذا العرض للمدلول اللغوي يمكن أن نحـدد المعنى الاصطلاحي للحوار بأنه: “نوع من الحديث بين شخصين، يتم فيه تداول الكلام بينهما بطريقة ما، فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب.13

 

 

وقيل: هو مناقشة بين شخصين أو مجموعتين -أو أشخاص أو مجموعات- بقصد تصحيح الكلام، وإظهار حجة، وإثبات حق، ودفع شبهة، وردّ الفاسد من القول والرأي.14

 

 

ونرى بأنّ الحوار أسلوب يجري بين جهتين، يسوق كلٌ منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.

 

 

ومما لا شك فيه فإن كل واحد من المتحاورين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعتمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقـنع للآخر، بحيث يظل العقل واعياً طوال فترة المحاورة ليستطيع إصدار الحكم عليها، سلباً أو إيجاباً.

 

 

وبعد هذا العرض الذي قدمناه لمدلولات المصطلحات المتداخلة “الجدل -والمناظرة- والحوار” يتضح لنا أن الحوار وإن كان مناوبة الحديث بين طرفين إلا أنه لا يشتمل على الخصومة والمنازعة والمراء كما هو الجدل، وإنما هو أداة أسلوبية تستخدم لمعالجة موضوع من الموضوعات المتخصصة في حقل من حقول العلم والمعرفة أو جانب من جوانب الفكر والعقيدة، للوصول إلى حقيقة معينة بهذا الشكل من أشكال الأسلوب والمحادثة، وهو عملية تتضمن “عرضاً” من جهة، يتمثله “الآخر” ويجيب عليه فيحدث “تجاوب” يولّد عند كل منهما “مراجعة” لما عرضه “الآخر”، وهذه العملية هي التي يطلق عليها الحوار أو المحاورة.

 

 

أسلوب الحوار في القرآن الكريم:

 

 

أسلوب الحوار والجدال وعرض الآراء والمناقشة في القرآن الكريم يتسم باتساع دائرته وتعدد قضاياه، وشموله لما لا يحصى من الموضوعات. فهناك محاورات بين الخالق عظمت قدرته وبين مخلوقاته من الرسل الكرام ومن الملائكة المقربين، بل ومن الشيطان الرجيم. وهناك حوار بين الرسل وأقوامهم، أو بين المؤمن والكافر، وأشار القرآن الكريم إلى الحوار الذي دار بين الرجلين: رجل مؤمن، ورجل كافر في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً، لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا...﴾الكهف:37 والحوار الدائر في هذا السياق بقصد تصحيح مفهوم وتصورات ومعتقدات خاطئة منشؤها إنكار البعث، والإيمانُ ببقاء القيم المادية وثباتها.

 

 

أو الحوار بين الأخيار فيما بينهم، أو بين الأشرار فيما بينهم. وهناك حوار مع أهل الكتاب، أو مع المنافقين، أو مع المقلدين لسابقيهم في الباطل والضلال، أو مع السائلين للرسول عليه الصلاة والسلام. وقال تعالى: ﴿وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾المجادلة:1 يوم أن تحاور عليه الصلاة والسلام مع المرأة الضعيفة المسكينة التي تشكو من زوجها، فسمع الله هذا الحوار. وهذا الحوار داخل في دائرة الفئة المؤمنة، وموضوع الحوار هنا مرتبط بالتشريعات والأحكام، وهذا يعني أن كل الموضوعات العقدية والتشريعية خاضعة للحوار. ونحن بحاجة إلى الحوار؛ ليفهم بعضنا بعضاً، نحاور بعضنا بعضاً، ونتحاور مع الآخرين، فنتحاور مع أبنائنا: وذكر الله سبحانه وتعالى عن لسان لقمان عليه السلام، ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾لقمان:13 ونتحاور مع أهل الكتاب ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله﴾آل عمران:64 وهناك حوار يدور حول إثبات وجود الله جل شأنه ووحدانيته، وحول الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وهناك حوار حول القرآن الكريم وإعجازه.. الخ ما ورد في القرآن الكريم من حوارات في موضوعات كثيرة.

 

 

ومن أساليب الحوار في القرآن الكريم الأسلوب الوصفي التصويري، يعرض قصصا ومشاهد حوارية واقعية. بقصد تبسيط فكرة وتقريبها للمستمع من خلال الحوار الجاري، وحمله على تبني موقف صحيح. ومثال ذلك حوار موسى عليه السلام مع فرعون: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قــَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.الشعراء:28-23

 

 

ومن أساليب الحوار في القرآن الكريم الأسلوب الحجاجي البرهاني: يعتمد الحجة والبرهان لدحض ادعاءات المنكرين للتوحيد والبعث بأسئلة تتوخى زعزعة تقاليدهم ومعتقداتهم الباطلة. وتهدف إلى توجيههم للنظر والتفكير في آيات الله من أجل بناء قناعات ومواقف صحيحة. ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.الأنبياء:67-66

 

 

محاور الحوار في القرآن الكريم

 

 

بعد إلقاء نظرة حول ما يتعلّق بمناهج حوار القرآن، يحسن الانتقال إلى بيان محاور الحوار في القرآن الكريم، فما هي المحاور التي اشتمل عليها حوار القرآن؟ ولغزارة هذه المادة أكتفي بذكر أهم هذه المحاور وأكثرها ورودًا في القرآن الكريم، ومن أبرز هذه المحاور:

 

 

حوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة:

 

 

إنّ أول من بدأ الحوار في إطار القرآن الكريم هم الملائكة عليهم السلام، وبدأ هذا الحوار في اللحظة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل في الأرض خليفة، فأراد أن يخلق الإنسان لكي تناط به هذه المهمة الصعبة، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.البقرة:30-33

 

 

سؤال الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ هو تعجبهم من أن يكون خليفة الله في أرضه عاص ومفسد ومسفك للدماء، واستبعادهم من أنّ حكمة الله تقتضي ذلك15 ولا تعد همزة الاستفهام للإنكار بل يراد بها استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة.16

 

 

﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ هو جواب لسؤالهم، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد، وأعلم أنّ صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأنّ فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال، وأنّ في ذلك مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب وكان قول الله تعالى هذا إنهاءً للمحاورة وإجمالاً للحجّة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم.

 

 

حوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس:

 

 

ويعتبر هذا النموذج من أخطر النماذج الحوارية في القرآن الكريم، حيث أن هذا النموذج والذي يمثل فيه سبحانه وتعالى الحق المطلق والخير المطلق فيحاور رمز الشر المطلق والباطل المطلق؛ ألا وهو إبليس عليه لعنة الله وكأن الله سبحانه أراد أن يضع لنا فلسفة مهمة، تقضي إلى إمكانية الحوار، ولو كان الحوار مع أشد الأعداء وأفظعهم، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ. قَالَ مَا مَنَعَكَ اَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ اَمَرْتُكَ قَالَ اَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ اَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. قَالَ فَاَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ. قَالَ فَبِمَا اَغْوَيْتَنِي لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ اَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ اَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ اَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ. قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ اَجْمَعِينَ﴾.الأعراف:11-18

 

 

حوار الله مع الدهريين:

 

 

هذا الحوار جرى بين الله سبحانه وتعالى وبين الملاحدة الذين يعتقدون بأن الكون يسير بلا إله، يقول القرآن مظهرًا عقيدة هؤلاء: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.الجاثية:24-٢٥

 

 

استعمل القرآن الكريم في ردّهم حجّة العناية والاختراع، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.البقرة:٢٢-21

 

 

ولقد وجّه الله سبحانه وتعالى أنظارهم إلى أجزاء هذا الكون لكي يفهموا عظمة خالق الكون من خلاله. وأمّا الآيات الدالة على الاختراع والعناية فهي كثيرة. وقوله: ﴿وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.النور:45

 

 

حوار الله سبحانه وتعالى مع الأنبياء

 

 

إن من أبرز محاور الحوار التي تحدّث عنها القرآن الكريم وفصل في ذكرها، إيجازا وإطنابا إجمالا وتفصيلا في العديد من سوره، هو ما وقع بين الأنبياء وأقوامهم من حوار ومناقشات في مواضيع تتعلق بالعقيدة تصحيحا وترسيخا، ونشرا لها بعد ذلك، لأنّه لا يمكن إرجاع الناس إلى جادة الصواب وعبادة الله ونبذ الشرك عنه إلا بالتنبيه والإقناع الذين يقتضيان الحوار.17

 

 

ونقصد هنا، حوار الأنبياء والرسل الذين كان الله يرسلهم لأقوامهم، سواء كان معهم كتاب سماوي، أو بعض الصحف والألواح، وأذكر بهذا الصدد نموذج حوار.

 

 

حوار نوح عليه السلام مع ابنه

 

 

في هذا النموذج سنعرض مرحلتين في الطريقة الحوارية، في المرحلة الأولى (بيّن المرحلة الثانية)، كان الحوار بين نوح عليه السلام مع ابنه، حيث قال الله سبحانه: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾.هود:42-45

 

 

﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.هود:46-47

 

 

الحوار بين نوح عليه السلام وقومه

 

 

أخبرنا اللٰه عز وجل أنه بعث نوحًا رسولا إلى قومه، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.الأعراف:59

 

 

ونرى بأن حواره صيغ بصياغة واضحة بألفاظ دقيقة ومحددة الدلالات، لأن الكلمات الفضفاضة والتعابير المطاطة تلقى بالناس في متاهات لا صلة لها بالواقع.

 

 

فلما دعا سيدنا نوح عليه السلام قومه إلى عبادة الله كان ردّهم ﴿فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾.هود:27

 

 

بعد أن سمعهم سيدنا نوح وتأمل في أدلتهم وما اشتملت عليه من شبهات، رد عليهم بأسلوب رقيق وجذاب بأدلة تُفَنِّد مزاعمهم ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الله وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾.هود:30-28

 

 

نرى بأنّ سيدنا نوح ردّ على كل شبهة على حده، وحاول أن يرجعهم إلى الموضوع الرئيسي وهو عبادة الله.

 

 

حوار سيدنا إبراهيم مع قومه

 

 

أظهر سيدنا إبراهيم عليه السلام أسمى معاني الأدب في حواره مع الآخرين، ويتضح ذلك من خلال ما يأتي:

 

 

أولا: في كلامه الموجّه إلى رب العالمين والذي يظهر في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾الشعراء:80-79 أسند المرض إلى نفسه تأدبا في كلامه الموجّه إلى الله. وأسند الشفاء إلى الله، وإنما المرض والشفاء كلاهما من الله.

 

 

ثانيا: في حواره مع آزر حينما قال له: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾مريم:46 تهديد من الأب بالرجم والهجر الطويل فبم رد خليل الرحمن: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾مريم:47 إنه أدب الحوار، ورد نية الإساءة بالإحسان.

 

 

ثالثا: في حواره مع الملائكة مع جهله بحقيقتهم في بداية الأمر فقد ظنهم ضيوفا وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾هود:69 يبيّن أدب المعاملة وكرم الضيافة حتى مع الغرباء.

 

 

رابعا: في حواره مع أبنائه عندما وصّاهم بالتمسك بالدين في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾البقرة:132 ويظهر ما في لهجته مع أبنائه من تحبب وتقرب يدلان على أدب رفيع في الحوار مع الآخرين.

 

 

خامسا: في حواره مع الكفار والنمرود الذي ادّعى الألوهية وهو واحد منهم؛ ويتضح ذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.البقرة:258

 

 

وبعد فليس غريبا أن يقول الله سبحانه وتعالى في سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.النحل:120

 

 

حوار الله سبحانه وتعالى مع العزيز

 

 

نرى هنا كيفية سؤال هذا النبي عن بعض الأمور التي قد تكون غائبة أو غير حاضرة في تفكيره. سجل القرآن هذا الحوار فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.البقرة:259

 

 

ضوابط الحوار:

 

 

اهتم القرآن الكريم بالحوار اهتماماً كبيراً، وذلك لأن الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها إلى الحوار، أو الجدال كما يطلق عليه القرآن الكريم في وصفه للإنسان: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا﴾.الكهف:54

 

 

ولأجل تحقيق الحوار مقاصده، ومنعا له من أنْ يتحوّل إلى خصومة، نؤكّد على أنّ للحوار أصولا متبعة، وللحديث قواعد ينبغي مراعاتها، وعلى من يريد المشاركة في أي حوار أن يكون على دراية تامّة بأصول الحوار المتبعة، وآدابه، لأنّ الحوار غذاء عقول يقبل الناس عليه إقبالهم على غذاء البطون، لذا يغرم بعض المحاورين بشدّ انتباه من حوله وذلك بإثارة فضولهم، كأن يستهلّ حديثه بقصة غريبة أو مثل قديم، أو سرد مقولة لأحد العظماء، فذلك مما يعجب الناس ويجعلهم ينصتون أكثر، لتوقعهم المزيد عنده. ويحسن بعضهم حينما يبدأ حواره باستفهامات متتالية، يستطيع أن يجعل منها عناصر لحديثه، وطريقة لاستدراج صاحبه للتفكير معه. ولذلك فإن المحاور الذكي هو الذي يختبر اهتمام صاحبه بحديثه قبل التوغل في حوار معه ويحاول استثارة اهتمامه بموضوع الحوار، فإن وجد منه أذنًا صاغية واصل الحوار، وإلا كفّ عنه، إلا أن يكون واجبًا شرعيًا لابد من إبلاغه به. والمحاور البارع هو الذي يجعل كلماته صُوَرًا تتدفق أمام ناظري صاحبه ومن حوله، مبتعدًا عن الرمزية والغموض، باحثًا عن الكلمات والعبارات التي تسمع وترى في آن واحد.18

 

 

والمحاور الناجح هو الذي يمتلك فنيات الحوار ويقصد بفنيات الحوار: مجموعة المهارات المتكاملة التي يتطلبها أداء المحاور للأنشطة التي يتضمنها الحوار بكفاءة، وتنقسم هذه الأنشطة إلى أنشطة في مرحلة الإعداد للحوار وأنشطة في مرحلة تنفيذ الحوار.19

 

 

الخاتمة:

 

 

الحوار ليس مطلوبا لذاته، كما هو الشأن في الخطاب المعاصر، وإنما المراد هو الوصول إلى نقاط ارتكاز مشتركة بين المتحاورين تؤسس لتفاهم أكبر على المستوى الحياتي والنشاط الإنساني، ولكن للأسف، فما يحصل اليوم هو أن الأقوى يفرض الحوار على الأضعف ويقرر النتائج كما يريدها وكما يتصورها وما على الآخر إلا أن يصغي ويبارك وإلا فإنه سيوصم بالتخلف أو الإرهاب أو رفض الآخر!

 

 

اتّخذ القرآن الكريم أسلوبا بعيدا عن التسلط، والعنف، أو التكفير في الحوار. ونحن نحتاج أن نعود إلى القرآن الكريم؛ لنتعلم منه كيف يكون الحوار؛ ولابتعادنا عنه وهجره أصبح كل منا يتهم الآخر ومع كل حوار نقول: إن الاختلاف لا يفسد للود قضية ـ وهو فقط لايفسد قضية الود بل يتعداها أحيانا ليصل إلي التهديد وما بعده.

 

 

والرجوع إلى القرآن الكريم بمعني قراءته والتمعن في آياته. بحيث أنه خير قدوة لنتعلم منها الأدب الرفيع في الحوار. ويخاطب ربّ العزة الإنسان ويحثه علي التأمل واستخدام عقله؛ ليقتنع اقتناعا يقينيا لا محل فيه للظن ويتخلي عن إنكاره للحق، حيث يقول الله تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾الحج:5 وفي الآية جمال في الحوار حينما يخاطب سبحانه وتعالى المنكرين، وهذا مع أنه خالق للكون وما فيه. فما بالك بالإنسان الذي يحاور أخاه الإنسان الند له.

 

 

وبعد فإن الدعوة أو الحوار تكون بالحكمة والموعظة الحسنة بدون اتهامات أو تهديد أو تكفير ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾النحل:125 ثم يكون الاحتكام لله تعالي في النهاية.

 

 

إنّ القرآن يستعرض الرأي الآخر رغم أنه باطل رغم أنه ضلال رغم أنه خطأ، رغم أنه لا يملك أي حظ من الصواب. فتجد في القرآن كلام الملحدين الذين ينكرون وجود الله، قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ﴾،الجاثية:24 وكلام اليهود ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾المائده:64 وكلام النصارى ﴿قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾،المائدة:73 وكلام المنافقين ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.يس:47

 

 

يستحضر القرآن الكريم الرأي المقابل رغم فساده، دون أن يبتر كلامه ويشوهه ويقطعه. فالقرآن الكريم يستحضر الآخر استحضاراً كاملاً يعطيه الفرصة الكاملة لكي يتم جملة مفيدة لكي يتم نصاً كاملاً ليتم فكرةً واضحةً بكل قوتها.

 

 

فعندما نقرأ في القرآن وينتقل الكلام من كلام الله بأسلوبه العالي الرفيع لا يحكي عن الآخر بلغة ركيكة وأداء رديء وبيان ضعيف، بل يجعل أداء الجمال البياني على الجميع فتجد تعبير القرآن الكريم عن الدهريين ويقول: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ﴾.الجاثية:24

 

 

الأمر مسلم به أنّ القوة الذاتية في الحق حيث دار والضعف الذاتي في الباطل حيث صار ولهذا لا خوف من الحوار ولا إظهار كلام الخصم، بل في ذاته أكثر دفعا لإظهار الحق. فالحق قوي بما يأتي به من أدلة وما يعرضه من أفكار وقوي بتهافت الرأي الآخر.

 

 

النتائج:

 

 

بعد الوقوف على بعض صور الحوارات القرآنية يتضح لنا ما يأتي:

 

 

– الحوار القرآني مع أصحاب الملل المختلفة يدفع كل مسلم صادق في إيمانه إلى أن يسلك سبيل القرآن في الدعوة بكل الوسائل الخطابية والجدلية والبرهانية.

 

 

– الإسلام هو دين الحوار ولكنه الحوار المتكافئ القائم على إرادة الفهم، وإرادة العلم، وإرادة التعايش بعيداً عن مختلف الإكراهات السياسية والاجتماعية والنفسية والفكرية.

 

 

– إن حوارات القرآن الكريم كلها دروس وعبر، ومنها مناشدة المخالفين لبيان سر مخالفتهم حتى توضح لهم الطريق الذي حادوا عنه، وأول حواره مع إبليس عن سر رفضه الامتثال لأمر ربه جل وعلا للسجود لآدم عليه السلام وفيه دعوة للحوار مع المخالفين حتى وإن كانوا غير مسلمين.

 

 

* * *

المصادر والمراجع:

– القرآن الكريم.

– ابن حميد، صالح بن عبد الله، معالم في منهج الدعوة، (1999م)، دار الأندلس الخضراء، جدّة.

– ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون (1969م)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر.

– ابن منظور، لسان العرب (1998م)، مؤسسة الرسالة - بيروت.

– الأصفهاني، أبو القاسم الحسن بن محمد، المفردات في غريب القرآن (1997م)، مكتبة نزار مصطفى الباز.

– الألوسي، روح المعاني (1415هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.

– اللبودي، منى إبراهيم، الحوار فنياته واستراتيجياته وأساليب تعلمه (2003م)، مكتبة وهبة، القاهرة.

– الجرجاني، التعريفات (2000م)، دار الكتب العلمية، لبنان.

– الجوهري، الصحاح (1979م)، دار العلم للملايين، بيروت.

– الحبيب، طارق بن علي، كيف تحاور؟ دليل علمي للحوار (2002م)، دار البيت العتيق.

– حسن، عثمان علي، منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد، (1420هـ)، دار إشبيليا، الرياض.

– ديماس، محمد راشد، فنون الحوار والإقناع، (1999م)، دار ابن حزم، الرياض.

– الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، (1982م)، دار الرشيد، بغداد

– الزمخشري، الكشاف، تحقيق: عبد الرزاق المهدي (1417هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

– فضل الله، محمد حسين، الحوار في القرآن: قواعده -أساليبه- معطياته (2001م)، دار الملاك، بيروت.

– الهيتي، عبدالستار ابراهيم (2004م)، كتاب الأمة “الحوار الذات والآخر” دار الكتب القطرية، قطر

– يعقوبي، محمود، المنطق الفطري في القرآن الكريم (2000)، ديوان المطبوعات الجامعية، ‏ الجزائر.

* * *

الهوامش:

1 الدكتور اسحاق رحماني: أستاذ مساعد بجامعة شيراز.

2 ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون (1969م)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر..ص433.

3 ابن منظور، لسان العرب، (1998م)، مؤسسة الرسالة – بيروت، مادة: جدل.

4 الأصفهاني، أبو القاسم الحسن بن محمد، المفردات في غريب القرآن، (1997م)، مكتبة نزار مصطفى الباز. ص117

5 الجرجاني، التعريفات، (2000م)، دار الكتب العلمية، لبنان، ج/1، ص76

6 حسن، عثمان علي،، منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد (1420هـ)، دار إشبيليا، الرياض. ص30

7 الجوهري الصحاح، (1979م)، دار العلم للملايين، بيروت.

8 الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، (1982م)، دار الرشيد، بغداد

9 لسان العرب ابن منظور

10 ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (1969م)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر.

11 الهيتي، عبدالستار ابراهيم (2004م)، كتاب الأمة “الحوار الذات والآخر” دار الكتب القطرية، قطر، ص99.

12 فضل اللّٰه، محمد حسين، الحوار في القرآن: قواعده – أساليبه– معطياته (2001م)، دار الملاك، بيروت.، ص52

13 ديماس، محمد راشد، فنون الحوار والإقناع، (1999م)، دار ابن حزم، الرياض، ص11

14 ابن حميد، صالح بن عبد اللّٰه، معالم في منهج الدعوة، (1999م)، دار الأندلس الخضراء، جدّة، ص212

15 - الزمخشري، الكشاف، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، (1417هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.، ج: 1، ص 129.

16 الألوسي، روح المعاني، (1415هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ج: 1، ص352.

17 يعقوبي، محمود، المنطق الفطري في القرآن الكريم (2000)، ديوان المطبوعات الجامعية، ‏ الجزائر، ص 5

18 الحبيب، طارق بن علي، كيف تحاور؟دليل علمي للحوار، (2002م)، دار البيت العتيق، ص 40

19 اللبودي، منى إبراهيم، الحوار فنياته واستراتيجياته وأساليب تعلمه، (2003م)، مكتبة وهبة، القاهرة.، ص49

 

المصدر: http://www.nurmajalla.com/article.php?cid=1&c=4&id=273

الأكثر مشاركة في الفيس بوك