ثقافة الحوار... قبل الحوار
ثقافة الحوار... قبل الحوار
م. عماد عبد الحميد الفالوجي
رئيس مركز آدم لحوار الحضارات
المشكلة عند المتحاورين عندنا ليس فى الرغبة والقناعة فى الحوار كونه الأسلوب الأمثل فى إيجاد حلول ومخارج لكافة القضايا الخلافية التى لم ولن تنتهي , لأن الله خلق البشر ومنحهم عقول متفاوتة فى فهم الأشياء والحكم عليها , ومن هنا كان منشأ الخلاف وفى نفس الوقت كان منشأ الاجتهاد , وباستثناء الثوابت العقائدية التى نصت عليها النصوص الثابتة والقاطعة فى القرآن والسنة - وهي بمجملها محدودة – فقد اختلف العلماء والفقهاء والمفسرون فى كل القضايا الاجتهادية , وهذا الخلاف أوجد حالة من الإبداع الحضاري والثقافي والتاريخي للأمة الإسلامية وكان عامل قوة وليس ضعفا , وجعل الأمور أيسر على عامة الناس , وقد تجد فى القضية الواحدة عشرة آراء فى الحكم عليها وكلها صحيحة .
والسبب الحقيقي الذي جعل الخلاف مصدر قوة وإبداع هو وجود وتعزيز وممارسة ثقافة من أهم الثقافات الإنسانية والتى تبنى عليها أسس تطور الفكر والحضارة وهي الوعاء الواسع الذي يتسع لكافة أشكال الخلاف وهي ثقافة الحوار , تلك الأرضية الخصبة الحامية لمصالح المختلفين والسياج القوي لحفظ مسار الفكر من الإنحراف والخروج عن الطريق الصحيح الذي يؤدي بكل تأكيد للوصول الى الحقيقة والمصلحة العامة من عملية الحوار ذاتها .
ولكن عندما تغيب ثقافة الحوار عند المتحاورين أنفسهم لن يصلوا بكل تأكيد الى اتفاق يحقق المصلحة العليا لكلا الطرفين لأن الخطأ القاتل الذي سيقعوا فيه جميعهم هو الاعتقاد أن نجاح الحوار يتحقق بمقدار نجاح كل طرف فى فرض وجهة نظره من القضايا المطروحة , وبالتالي لا يسمع كل طرف سوى نفسه , وتغيب القاعدة الذهبية التى تحكم الحوار المثالي القائلة :" رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطا يحتمل الصواب " , وأن هدف الحوار الحقيقي هو الوصول للحق والحقيقة التى تخدم المصلحة العامة والوصول لتحقيق الأهداف .
ومن الضروري التأكيد على أن الحوار له أشكال وألوان مختلفة منها السلبي والإيجابي , وعلى سبيل المثال هناك الحوار العدمي أو التعجيزي وفيه يحاول أحد الأطراف فرض موقف أو رأي هو يعلم مسبقا استحالة موافقة الطرف الآخر عليه , وهناك الحوار الباطني وفيه يحاول طرف إظهار مواقف معاكسة لحقيقة موقفه لكسب الوقت أو كسب جولة من جولات الحوار وهدفه من ذلك عدم تحمل تبعات فشل الحوار , وهناك الحوار السلطوي وفيه يحاول طرف وضع شروط مسبقة أو يضع نتيجة للحوار قبل أن يبدأ أو يحاول فرض رأي معين على طرفي الحوار , وهناك الحوار الشكلي وفيه يقوم المتحاورون بطرح آراءهم فقط لتثبيت المواقف من القضايا المطروحة وليس الوصول الى الحقيقة أو تحقيق المصلحة العامة , وهناك حوار الطرشان وفيه لا يسمع كل طرف سوى نفسه فقط ولا يكلف نفسه مجرد سماع الرأي الآخر ليحدد موقفه منه , وهكذا فهناك ألوان سلبية كثيرة للحوار يجب معرفتها بدقة حتى لا نقع فيها بعلم أو بدون علم .
ومن الألوان الإيجابية للحوار هو الحوار المتكافئ الذي يعطي لكافة الأطراف فرصة للتعبير والإبداع الحقيقي فى طرح رأيه ويحترم الرأي الآخر ويعترف بحتمية الخلاف فى الرأي بين البشر ومعرفة آداب الخلاف أيضا , وهناك الحوار الواقعي وفيه يعترف كافة الأطراف بحقيقة الواقع المحيط بهم والمتصل بالحياة اليومية المعاشة ليس بهدف الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع بل لتفهمه وإصلاحه , وهناك الحوار المتفائل فى غير مبالغة ساذجة من خلال الصدق العميق والكلمات والمواقف الواضحة والصريحة وقبول نتائج الحوار بالرضا سواء وافقت رأيه أو اختلفت معه .
هذا جزء أساسي من مفهوم ثقافة الحوار التى لابد من دراستها وتعلمها وممارستها ومعايشتها قبل البدء بعملية الحوار , ومن هنا نجد الخلل الكبير الذي وقع فيه الكثيرون من المثقفين والسياسيين لأنهم ذهبوا الى الحوار وتعاملوا معه كأنه عملية ميكانيكية جامدة لا روح فيها , ولم يتسلحوا سلفا بآداب الحوار وشروط الحوار الناجح ومعرفة أنواع الحوار الإيجابي أو السلبي .