تأملات في التقريب بين المذاهب الإسلامية

تأملات في التقريب بين المذاهب الإسلامية

محمد حسين فضل الله

 

بدأت حركة التقريب في مصر كمحاولة ثقافية لتقديم التنوعات الفكرية الكلامية والتاريخية والفقهية مما يقدمه علماء المذاهب الإسلامية المتنوعة من أجل إيجاد قاعدة علمية للفهم المشترك الذي يرتكز على أساس الوضوح في وجهات النظر المختلفة وتأكيد المواقع المتفق عليها من حيث المبدأ. .. وتحريك الذهنية الإسلامية العلمية لاثارة علامات الاستفهام بشأن هذه المسألة الكلامية أو الفقهية أو التاريخية للارتفاع بالخلافات الإسلامية إلى مستوى العلم والموضوعية بدلا من العصبية والانفعالية.

 

وربما كان لهذه الحركة التقريبية دور كبير في توضيح وجهات النظر وتقريب عناصرها الفكرية ما أبعد التصورات التكفيرية عن دائرة المواقع الإسلامية المتقدمة، ولكن الظروف الطارئة ولاسيما السياسية، وحركة التخلف، منعت هذا الامتداد في العالم الإسلامي الذي واجه الهجمة الاستكبارية المتحالفة مع القوى الكافرة التي مازالت تكيد للإسلام والمسلمين.

 

وبدأت الخطة المرسومة لايجاد حال من الاهتزاز السياسي والأمني من خلال إثارة مواقع الخلاف وإبعاد مواقع اللقاء عن الذهنية العامة للمسلمين، لأن ذلك هو الذي يصنع أكثر من مناخ ثقافي لاستثارة الأحقاد التاريخية بحيث يستغرق المسلمون في معارك التاريخ وخلافاته بدلا من الانفتاح على المشاكل الخطيرة التي تتحدى الواقع الإسلامي على غير صعيد، ودخلت الأوضاع في تطوير مفاهيم الكفر لتشمل الخلاف في الفروع من خلال الايحاء بارتباطها بالأصول... وبدأت فتاوى التضليل والتكفير في تنوعات المذهب أو في المذهب الواحد سواء في اجتهاداته أم في تصوراته المختلفة وأصبح البعض من هؤلاء، وأولئك يعتبرون غير المسلمين من المشركين أفضل من المسلمين أنفسهم، تمثلا بما كان يقول اليهود، وفقا لما جاء في قوله تعالى: "هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا"، وتحولت المذاهب والاجتهادات إلى أديان متعددة في تأكيد الفواصل في ما بينها... وما زال التحالف بين القوى الاستكبارية يتحرك بكل وسائله الثقافية والسياسية والأمنية لتوسيع الهوة بين المسلمين ومنعهم من التوحد حتى في داخل المذهب الواحد.

 

الضعف والاستضعاف باتا من المفردات والمفاهيم التي تلبست بهما الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها مرورا بوسطها.

 

ولعله يقارب المنطق القول إن هناك علاقة جدلية لا تنفك بين هذين المفهومين اللذين لم تعرف الأمة في تاريخها المجيد تمثلات لها بالمستوى الذي يقدمه لنا الواقع الراهن نفسه بوصفه مصداقا على هاتين المقولتين.

 

وهذا بالطبع يضعنا أمام حقيقة صاعقة، وهي أن خير أمة أخرجت للناس تتصف اليوم بما لا يليق بها بين الأمم...

 

لماذا استفحل الضعف فينا حتى تحولنا إلى امة مستضعفة تتداعى علينا الأمم كما تتداعى الاكلة إلى قصعتها ولسنا في قله؟

 

لماذا لا نرى الحال الذي نحن عليه من تفتت وتشرذم وضياع؟

 

والأهم لماذا لا نبحث عن أسباب ضعفنا واستضعافنا، لنحدد بالدقة من المسئول عن ضعفنا بعد أن تعرفنا إلى المسئول عن استضعافنا؟

 

ويبقى... هل لنا الجرأة في أن نسمي الأشياء باسمائها وبشفافية حتى نكون فعلا جادين في العمل علي الخروج من حال التشتت والضعف الذي نعانيه؟

 

وما هي الخطوات والبرامج التي لابد منها لولوج هذه المهمة الواجبة والصعبة في آن؟

 

أيضا كيف السبيل إلى متابعة برنامج عمل التقريب بين المذاهب كي نتابع المسائل المتفق عليها ولا تذهب أدراج الرياح بعد انحلال عقد الاجتماع؟

 

ولنكن واضحين: إننا ومن البداية نحتاج إلى إعادة بناء جسور الثقة في ما بيننا، هذه الجسور التي جرى تقطيعها عبر التاريخ لأسباب سياسية في معظمها، فالحكام الذين لم يكونوا يريدون مذهبا عير مذهبهم للدولة كانوا يكفرون المذاهب الأخرى بدل أن يتركوها في دائرة التنوع العقيدي ويلاحقون أصحابها بتهمة الكفر والزندقة، وما إلى هنالك من أوصاف... وإزاء ذلك دخل منطق التكفير في قناعات ووجدان اوساط واسعة من الأمة من دون أن نلحظ أسبابه. وفي المقابل، نأى أصحاب المذاهب الأخرى بمذاهبهم جانبا خوفا من طغيان مذاهب السلطات، وأخذوا يمارسون التقية وانغلقوا أحيانا كثيرة وتجمدوا عن التواصل مع المحيط الاجتماعي العام... وغالبا ما تولد هذه الحال بين أبناء المجتمع الواحد منطقا تكفيريا الغائيا ينمو ويتزايد من دون أن يلتفت أحد إلى أسبابه الحقيقية...

 

ولعل دخول الاستعمار مع مطلع القرن الفائت إلى بلادنا ودولنا قبل أن تجري مراجعة موضوعية لعلاقة المسلمين في ما بينهم بهدف تحقيق التقارب المنشود أبقى دعوات المصلحين من علماء الدين ورجاله صوتا في واد، فيما أخذ المستعمر يمعن في تكريس انقسامنا حتى لا تقوم للمسلمين قائمة بوحدتهم بعد ذلك...

 

بحسب هذا الاستعراض السريع، نجد أنفسنا أمام نوعين من المشاكل والأخطار التي تهدد التقريب بين المذاهب:

 

النوع الأول: هو الذي نعانيه داخل مجتمعنا الإسلامي من الغرفة التي تأسست في أغلب عناصرها على قاعدة سياسية وتكرست بفعل التخلف وجرى التنظير لها عقائديا ومذهبيا حتى تعمقت في وجدان المسلمين.

 

والنوع الثاني: هو ما يفرضه علينا الاستعمار والاستكبار من واقع حال مزر لن نفلح في ردعه إلا إذا حققنا التقارب المنشود بين مذاهبنا المختلفة وصولا إلى وحدة ما تشكل صمام أمان داخلي للمسلمين في ما بينهم وأمام الخارج المستكبر...

 

اننا لمواجهة كل هذا الواقع لابد من تحديد جملة أولويات يتصل بعضها بعقائد المسلمين وفكرهم وتربيتهم والآخر بأوضاعهم السياسية.

 

فعلى المستوى الفكري والعقائدي والتربوي لابد من أمور: أولا: التأكيد على الحوار العقلاني الهادئ، بانتهاج الأسلوب القرآني في الحوار الذي يؤكد على تعزيز نقاط اللقاء وتثبيتها والتأكيد عليها بمختلف الوسائل، والتحاور على أساس الأحسن في مواقع الاختلاف مما يخرج الحوار من دائرة تؤثر الذات إلى عقلانية الفكر وهدوئه، وهذا المنح هو الذي يمثل القمة في الموضوعية العقلانية التي يحترم فيها المحاور المحاور الآخر.

 

ثانيا: لابد من اعتبار الإسلام كفكر وكيان هو أولوية الأولويات في وجدان المسلمين، والابتعاد عن لغة احتكار الانتماء إلى الإسلام وتمثيله الحصري، ويترتب على ذلك الغاء مفردة التكفير من قاموس المسلمين في علاقاتهم فيما بينهم كمذاهب وفرق... على أن يتم تأسيس ذلك على وقاعد فقهية تخرج الأمر عن كونه مرتبطا بظروف طارئة، أو مصالح آنية، أو عواطف انفعالية. ولذلك ندعو هذا المؤتمر وكل المؤتمرات المماثلة ومجامع التقريب إلى دراسة دقيقة لبعض المفردات التي ان لم تدرس بشكل جدي فانها قد تسهم في إيجاد مناخ توتر دائم بين المسلمين وهي مفردات الإسلام، الإيمان، الكفر، الصحابة، الغلو، غير ذلك. هذه المفردات التي قد يعتبرها البعض واضحة وجلية ولكنها غالبا ما تبدو إن أردنا أن نطرحها في حدودها وتطبيقاتها غامضة.

 

ثالثا: التأكيد في البناء التربوي الإسلامي على التألف والمحبة والتراحم ونبذ العصبية، وحسن الظن والحمل على الأحسن وغيرها في العناوين التربوية والأخلاقية التي نؤكد على بثها بين علماء المسلمين قبل أن ندعو إليها أو أن نربي على هديها اتباع المذاهب المختلفة لأننا قد نجد أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا التقريب في كثير من البلدان واقعا وجدوه عملا ومارسوه في مواقع التحدي فيما لانزال كعلماء نختلف بشأن ضرورة التقريب وعدمه، وهل نسعى إلى التقريب في الدائرة الفكرية أم في الدائرة السياسية أم في كلتيهما!؟

 

رابعا: العمل على استحضار النماذج الوحدوية في تاريخنا الإسلامي وتجنب الحديث عن الوقائع التاريخية التي ساهمت في تمزيق الأمة على قاعدة "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون...".

 

خامسا: لابد من الوقوف بحزم بوجه دعاة التكفير وعزلهم عن مواقع التأثير في داخل المجتمع، حتى لا يسيئوا إلى سلامة المجتمع وقوته. انطلاقا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... ومن قوله سبحانه: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء".

 

سادسا: العمل على ألا تبقى قضية الوحدة الإسلامية في دائرة النخبة أو في المؤتمرات والمواقع الثقافية، بل لابد من أن نجعلها تدخل في الواقع الشعبي وفي كل مفاصل المجتمع ومجالات التأثير فيه حتى لا تكون الوحدة عنوانا لا يملك عناصر الحركة في الواقع العام الذي يحتاج إليه.

 

أما على المستوى السياسي فلابد من التأكيد على عدة أمور:

 

أولا: العمل الجاد على توعية الأمة على الخطر المحدق بها من الاستكبار العالمي الذي يعمل على تعزيز وجوده من خلال قاعدة "فرق تسد" والسعي إلى الفاتها إلى الوقائع التي يصنعها الاستكبار لتأكيد وجوده الاستكباري وسيطرته على الأمة.

 

ثانيا: إن على المسلمين أن يتدارسوا أمورهم بأنفسهم ويخططوا لواقعهم مراعين سلم الأولويات في ذلك قبل أن يأتي الآخرون الذين لا يريدون خيرا لها ليفرضوا عليهم مناهجهم وأساليبهم وخططهم، مستفيدين من بعض نقاط الضعف المستشرية فيهم.

 

ثالثا: إن علينا ألا نقع في أسر المصطلحات التي يجري تداولها في أجهزة الإعلام العالمي، والتي تريد النيل من المسلمين وحركات التحرر مثل مصطلحات الارهاب والعنف والشر وغير ذلك، كي لا نقع في شركها، ما قد يؤدي إلى توتر داخل الواقع الإسلامي بسببها.

 

رابعا: العمل على تأصيل الخطاب وتركيزه ليكون من جهة خطابا منطلقا من الجذور الإسلامية ومن جهة أخرى عقلانيا موضوعيا وبعيدا عن دائرة الانفعال والارتجال...

 

خامسا: العمل على التوافق على سلم الأولويات في مواجهة التحديات حتى لا نستغرق في الجزئيات أو التفاصيل التي يسعى المستكبرون لاشغلالنا بها ونبتعد بذلك عن القضايا الاساسية.

 

اننا ندعو من خلال كل ذلك إلى ضرورة تعزيز مناخ التقريب والتأكيد عليه ودعم كل الخطوات التقريبية ومنها هذه الخطوات المباركة التي نشكر القائمين عليها وينبغي ألا تتحول هذه المؤتمرات أو اللقاءات إلى مؤتمرات ولقاءات ننفعل خلالها ثم يرجع كل إلى موقعه الخاص...

 

اننا ندعو إلى إيجاد مؤسسات تعنى بالحوار الإسلامي الإسلامي والتقريب بين مذاهبه بحيث تعد الخطط وتلاحق المفردات التفصيلية وتنسق فيما بينها حتى تبقى الأمة قوية متماسكة متحدة تبني مواقعها على شعار الإمام علي "ع" الذي قال: "لأس لمن ما سلمت أمور المسلمين". ولم يكن بها جور إلا علي خاصة، وتستطيع أن تواجه التحديات الكبيرة الماثلة أمامها في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان وسورية والسعودية وغيرها.

 

لم تعد الوحدة الإسلامية لافتة نتحرك بها في أجواء المجاملات... بل أصبحت قضية الوجود الإسلامي في هذا العالم الذي تتحرك فيه العواصف الهائجة في أكثر من أفق... وأخيرا إذا لم نستطع أن نتوحد فعلينا أن نعرف كيف ندير خلافاتنا وكيف نلتقي على الخط القرآني الأصيل، "وإن هذه أمتكم أمة واحدة". إن التحدي كبير كبير والمرحلة من أكثر المراحل خطورة على مستوى كل تاريخنا الإسلامي... حذار وحذار أن نبقى في هذه الدوامة الخلافية، فقد يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

 

* كلمة ألقاها السيد علي فضل الله نيابة عن والده السيد محمد حسين فضل الله في "مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية" الذي عقد في البحرين.

المصدر: الوسط البحرانية 26-09-2003

الأكثر مشاركة في الفيس بوك