نبي الرحمة الرسالة والإنسان

نبـي الـرحمة
الرسـالة والإنسـان

تأليف
محمد مسعد ياقوت

تقديم فضيلة الدكتور
فريد عبد الخالق

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم بقلم فضيلة الدكتور فريد عبد الخالق

أشهد أن لديَ قناعة قد توفرت لهذا المؤَلَف القيِّم بعد الاطلاع على محتوياته؛ كافة المقومات الأساسية التي تسلكه في مجاله كدراسة علمية يعتد بها في موضوعها ومرجعيتها، متمثلة فيما يلي :
أولاً – ما يتعلق بالسبب الذي قام من أجله الكاتب بإعداد هذا الموضوع، ذلك الباحث المدقق الملمّ بجوانب الموضوع ومجالاته الأستاذ محمد مسعد ياقوت ، وأي داعية الكتابة في هذا الموضوع – على الصعيدين الداخلي والخارجي – حيث يشغل التيار الإسلامي السياسي في هذه الحقبة حيّزًا كبيرًا ومتناميًا على المسرح السياسي في دول عربية وإسلامية كثيرة – يثير لدى خصومه من غلاة العلمانية واللبرالية مجموعة تساؤلات وهواجس عن علاقة هذا التيار بالديمقراطية والحريات والتعددية السياسية والمجتمعية – المطروحة حاليًا – وفيها قضية وضع غير المسلمين في الدول الإسلامية، وقضية المرأة وحقوقها المدنية، والحداثة ، وعلاقة الدين بالسياسة، والدولة الدينية وحوار الأديان والحضارات، وهو ما يشغل حيزًا كبيرًا، وحدة أوفر عند الغرب؛ عبروا عنه " بالاسلاموفوبيا"، ومحاربة الإرهاب والتطرف، وربطوا بين ذلك وبين العولمة الاستعمارية الجديدة ، التي تتبعها الإدارة الأمريكية التي ترمي إلى تفكيك عرى الأمة العربية والإسلامية واختراق وحدتها وأمنها ومقوماتها كما حدث في غزو أفغانستان والعراق، وما يحدث من الكيان الصهيوني في المنطقة، في توافق في الاستراتيجية الاستعمارية ، واستخدام القوة في المنطقة لتحقيق أهدافهما وعلى رأسها الاستيلاء على النفط، والإبقاء على الشرق الأوسط دولاً مفككة وسوقًا استهلاكيًا لمنتجاتهم، وإعاقة وحدتها، وتنميتها، بكل الطرق .. وتحت أسماء ودعاوى مختلفة باطلة، ومنها دعوى الحرب الصليبية التي أعلنها بوش في أول كلمة له بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وإعلان مشروعه الإمبراطوري الاستعماري المعروف باسم الشرق الأوسط الجديد، الذي أفشلته المقاومة في جنوب لبنان وفي العراق، وفي بؤر المقاومة الشعبية الساخنة في دول المنطقة، وتأبي شعوب العالم العربي والإسلامي على العولمة والعلمنة التي تستهدف سلخه عن دينه وهويته الحضارية وانقياده لأعدائه ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا في محاولات مخططة، ومنها اختراق أنظمته الحاكمة، والتجويع، والمعونات المشروطة، وتهديد الأمن الغذائي، وإقامة القواعد العسكرية في أرض العرب والمسلمين، وتفجير النعرات المذهبية والخلافات العرقية والمشاحنات الأيدلوجية .

ثانيًا : أما العنصر الثاني من بين هذه المقومات الأساسية لبحث الأستاذ ياقوت، فيتمثل في مكانة الموضوع وتداعياته لدى شعوب عالمنا العربي والإسلامي، عقيدة وسياسة وإعلامًا ، وتقدمه في سلم الأولويات التي تشغل اهتمامات عالمنا العربي والإسلامي، والطموحات التي يتطلع إليها لبناء وحدتها وحراسة أمنها القومي وإحياء ثقافتها، وحضارتها ، وتجديد فكرها، وحشد طاقاتها من أجل بلوغ ما الحد الأوفى في الكرامة وتأمين حقوق المواطن وحرياته ، وإتاحة الفرصة للشعوب العربية والإسلامية ممارسة حقوقها الدستورية والسياسية وحقها في اختيار حكامها، وممثليها من البرلمانيين، وحقها في مساءلة الحاكم وتغييره عند المقتضى سلميًا.

إن صفة " الرحمة " موضوع الدراسة التي بين أيدينا، تشكل عنصرًا جوهريًا في هذه الدراسة، الذي اختار المؤلف " نبي الرحمة" عنونًا لها . وهي الرحمة النبوية للبشر التي نجح المؤلف في عرضها بمفوهمها الواسع، دون تكلف خلال فصول دراسته ونصوصها، من تناول جامع في وجازة غير مخلة لسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة وبعدها، وفي مكة قبل الهجرة، وفي المدينة بعدها، حيث أقام الرسول – صلى الله عليه وسلم - مجتمعًا مدنيًا، ودولة مدنية على أساس مبدأ المواطنة ومساواة كافة مواطني الدولة في الحقوق والواجبات ...
وقد تناول الكتاب هذه العناصر في مباحث متعددة، في هيكلية تتسم بالموضوعية، وتكامل في التناول، مع الوفاء بجوانب الدراسة، والاعتماد على المصادر الأصلية الموثوقة، ومن ثم يجد القارىء في ذلك تحقيقًا لدعاية القراءة .

وثمت عنصر آخر لابد منه في ذلك ؛ وهو ما أوتي الباحث من توفيق و إخلاص لوجه الله وتحري الصدق والحق دون هوى صارف أو تعصب زميم، أو جهل مقعد، في كل ما قال..
أحيه !
أحييه كذلك ولا أزكي على الله أحدًا ، ولكن من باب معرفة الفضل لأهله. وهذا العنصر لا بديل عنه لكل باحث مصلح، وهو توفيق الله له فيما ابتغاه من إصلاح وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ماستطاع لا يألو فيه جهدًا، يتوثق بالله في إمضاء الأمر على سنته ويطلب منه المعونة والتأييد من الله، كما في قوله تعالى :
" إن إريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" [ هود : 88].

هذا، وأريد أن أقف على مادة هذا المؤَلَف الموسوعية الواضحة الدلالة ، الأمينة الوصف، في لمحات محدودة فيما يلي :
أولاً – التأكيد على أن " الرحمة " خصيصة سائدة في شرع الإسلام كله ، كتابًا وسنة، ونظامًا وحياة، وتعاملاً مع الآخر ، في كل حال من سلم أو حرب، ومن تمكين أو ضعف، كما في قوله تعالى :
" هذا بصائر للناس، وهدى ورحمة لقوم يوقنون " .
فالقرآن كله بمنزلة بصائر للقلوب، لأقوم حياة للناس كافة، وهداية للناس من الضلال، ورحمة للمهتدين به كما هو رحمة للمارقين من حيث تأخير عقوبتهم في الدنيا، لعلهم يهتدون .. فشريعة الإسلام رحمة كلها ..

ثانيًا – إن رحمة الله بمخلوقاته هي الصفة العظمى التي اختارها الله سبحانه لوصف نفسه بها ، دون غيرها من الصفات، وهي كلها عظيمة وشريفة ..
فذكرها سبحانه في سورة الفاتحة التي لا صلاة لمن لا يقرأ بها – كما في صحيح الحديث – والتي سميت أم الكتاب، لاشتمالها على كليات العقيدة الإسلامية، فاختارها لتتوكد قيمة الرحمة- في كل صلاة- في وجدان المسلم .. بما في ذلك كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها ..

ثالثًا - إن الرحمة كانت خصلة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم تفارقه قط في كل سيرته، وفي كل مراحل حياته وأحواله، فكان – صلى الله عليه وسلم – كما قالت عائشة : " خلقه القرآن " الذي هو رحمة !
وقد قال له ربه – يحثه على نهج الرحمة - : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" .. أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس، وأخلاقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا .. كقوله – صلى الله عليه وسلم - : " يسروا ولا تعسروا " ..
وقد أمره الله بالمعرف، أي الجميل من الأفعال والأقوال .. ونهاه عن مكافئة السفهاء بسفههم، أو مماراتهم، وأمره بالحلم عنهم، والإعراض عن إساءتهم .
لقد أمره الله أن يصل من قطعه ، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه .. وأرسله ليتمم مكارم الأخلاق، وبشيرًا ونذيرًا ومربيًا ومرشدًا للعالمين .. وحجابًا للعالمين من عذاب الاستئصال والانتقام العام في الدنيا، لقوله تعالى :
" وما كان الله معذبهم وأنت فيهم " .
ومن رحمته – صلى الله عليه وسلم – أن كان على أعلى درجة في الحرص على الناس والخوف الشديد عليهم من الهلاك والضلال، ورغبته الشديدة في رفع العنت عنهم ، قال تعالى :
" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم " .

رابعًا – لقد رفع الله ذكر نبيه في محكم التنزيل، ومن رفع الله ذكره لا يحط في الناس، وإن اجتمعوا له، وإنما يحطون من أنفسهم. فما صدر من ذلك من قبل الرسوم الكاركاتورية التي تسيء له ولدينه، من رجل دين مسيحي متعصب، أو إعلام غربي مصهين، بدعوى حرية التعبير، إنما هي إساءة لكل البشرية .
وبالمثل تلك الإساءات الأخرى كتصريحات بابا الفاتيكان المسيئة للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أو صدور كتاب " نبي الخراب " على أوسع نطاق لمؤلف يتهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقطع الطريق والشذوذ الجنسي .. كلها تسيء – في حقيقة الأمر - إلى تاريخ الإنسانية في حق الأنبياء والشرائع السماوية . إنها ردة حضارية ! ونزعة إلحادية ! ونكسة آدمية ! تجاهلت حتى آراء المنصفين من علماء الغرب أنفسهم، ممن قالوا كلمة الحق وشهادة الصدق في النبي – صلى الله عليه وسلم – وعرفت له مكانته .

خامسًا - لقد جعل الله تعالى من محمد – صلى الله عليه وسلم – " أسوة حسنة" وقدوة عظمى للمؤمنين، يقتدي به كل إنسان يريد أن يؤدي رسالة حضارية على كوكب الأرض . قال تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر " .. وهي شهادة من الله تعالى " لكريم خصاله – صلى الله عليه وسلم - .
لقد أوجب الله التأسي به – صلى الله عليه وسلم – في كل أمور الدين ومهام الإصلاح . وهو مع ذلك ليس بدعًا من الرسل، بل كان بشرًا مثلهم ، كما في قوله تعالى : " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولاً " .. أي رسولاً كسائر الرسول، بشرًا كسائر البشر، فالاقتداء به داخل في حدود البشرية، وهو المؤمنون مؤمورن بشرع الله كما في قوله تعالى : " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير" [ هود: 112]، إنها الاستقامة التي صار عليها الرسول، على جادة الحق، غير عادل عنها، ولا خارج عن حدود الله، وكان المَعلم الأول والمرشد الأكبر في إزالة الطغيان وردع الظالمين وحكام الجور، وهو مع ذلك رحمة للحكام والمحكومين، ورحمة بالأمة جمعاء .

سادسًا- رحمات النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع، وفي خطبته التاريخية فيها- في السنة العاشرة – حيث حج – صلى الله عليه وسلم – بالناس حجة، ودع فيها المسلمين ولم يحج بعدها ..
كانت سلسلة من الرحمات تلك الوصايا الجليلة التي اشتملت عليه خطبته :
رحمته – صلى الله عليه وسلم - بالناس في تحريم الدماء والأموال، رحمته بالناس في معاملاتهم بتحريم الربا.
رحمته بالناس بأن وضع عنهم دماء الجاهلية، ومآثر الجاهلية ..
رحمته بالنساء إذا قال : "أيها الناس! فإن لكم على نسائكم حقًا ، ولهن عليكم حقًا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت " .
ورحمته بالمؤمنين، ألا يضرب بعضهم بعضًا .. فقال- في خطابه الخالد - " ألا ! لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض؛ ألا هل بلَّغت .. اللهم أشهد"
" قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله "..
ورحمته بالناس في ألا يتفاضلوا إلا بالتقوى .. " كلكم لآدم وآدم من تراب"،" لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " ..
ورحمته بالناس بإرساء قيم العدالة، لاسيما بين الأبناء والعدل في الإرث، فلا تجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ..
ورحمته بالأبناء في حفظ النسب،في قوله : " الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ومن ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل من صرف ولا عدل" ..
وقد ختم – صلى الله عليه وسلم – خطبته بقوله : " والسلام عليكم ورحمة الله " . فختم كلمة الوداع ووصاياه بالسلام والرحمة !

وأخيرًا يطيب لي أن أختم مقدمتي هذه بالإعراب عن تقديري وشكري لمؤسسة الزهراء للإعلام العربي التي أصدرت هذا الكتاب الموسوعي القيم من كل الوجوه، وبالدعاء إلى الله لصاحبها الأستاذ الفاضل والإعلامي النابه والكاتب الحاذق " أحمد رائف " بدوام التوفيق في أداء رسالته الدعوية والوطنية، وبحسن الجزاء عما قدم من عطاء لأمته، وبعافية الدين والبدن وبالحفظ من كل سوء ..

كما أدعو الله تعالى أن يرزق مؤلف هذا الكتاب الفذ في موضوعه وفي منهج البحث الذي اتبعه في دراسته، أحسن الجزاء عما تجشم من جهد علمي في إعداد مادته، والوفاء بجوانب الموضوع التي غطّت حاجة ملحة لدى الأمة في التعريف بالإسلام ، وخصائصه الحضارية، ومميزاته التنويرية، وشمائل نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – والتي أهمها الرحمة التي تجلت في كل سيرته، قبل البعثة وبعدها، وفي الحرب والسلم، وفي تعامله مع الصديق والعدو، وإيثار الرفق والتيسير، على العنف والتعسير، والحوار على الصدام والبطش ، والتعاون بين الناس على اختلاف الملل والتوجهات في كل ما تصلح به الحياة، ويوفر الأمن لكل المواطنين، ويحقق للبشرية التنمية والسلام..
أكثر الله من أمثال باحثنا الكريم الأستاذ محمد مسعد ياقوت، وأمده بعونه، وحفظه، وزاده إيمانًا مع إيمان، وعلمًا فوق علم، ونفع به الملة والأمة وهدى به البشر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وكان حق علينا نصر المؤمنين..
فريد عبد الخالق

تأملات في الرسالة والرسول
بقلم فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد إدريس الطعان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ *  آمين .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الصادق الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :يشعر الكاتب بالضآلة حين ينوي الكتابة عن سيد البشر محمد رسول الله  ، لأنه لا يجد في قاموسه العبارات التي تترجم الشعور بأمانة للقارئ ، يكفيه أن ربّه عز وجل وصفه بقوله :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ سورة القلم آية : 4].
إن هذه الجملة تتعاقب فيها كما هو واضح - لمن يتذوق لغة العرب - عناصر المدح والثناء بإلحاح شديد .
كما يقف الكاتب حائراً وهو يتأمل في قوله عز وجل:
 وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  [ سورة الأنبياء آية 107 ]
فهو عز وجل يحصر رسالة المصطفى  في الرحمة العالمية ، الرحمة الشاملة ، فهل تبقى أية قيمة لحديث البشر بعد هذا الثناء الرباني والتوجيه الرحماني ؟!
لقد كان قلبه يفيض بالرحمة مذ كان طفلاً كيف لا وقد غسلته الملائكة الكرام بها - أي بالرحمة - يوم كان يرعى الأغنام مع أبناء حليمة ! . ولقد رقق اليتم قلبه إذ وُلد يتيم الأب فلم يحظ بحنان الأبوة ، وحين ذهب ذات يوم مع أمه لزيارة قبر أبيه ماتت أمه في الطريق فغسلت دموع أجفانه صفحات قلبه .
وهذبه الفقر حين عاش مُعدماً يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، فعاش حياة الفقراء واليتامى، يشعر بمشاعرهم ويتألم بآلامهم ، فأكسبه ذلك حساً مرهفاً وشعوراً نبيلاً دفعه لمباشرة العمل بالتجارة، حتى لا يكون عبئاً ثقيلاً على عمه أبي طالب ، فخالط الناس وعاشر أصنافهم ، وخبر أخلاقهم ، وأخذ وأعطى بيعاً وشراء ليعيش الواقع كما هو بحلوه ومره، برخائه وشدته .
ولكي لا ينجرف في تيار الواقع حَبّب الله جل وعلا إليه الخلاء ليعتزل الناس ، ويخلو بنفسه يراجعها يحاسبها ، ويعتني بقلبه تزكية وتطهيراً ، ويتجه إلى ربه عز وجل تعبداً وتلقياً وتفكيراً .
ولم يكن ذلك صدفة بل كان تقديراً إلهياً، وتدبيراً ربانياً لرجل اختاره الباري جل شانه لأعظم مهمة على مر الدهور، مهمة الرسالة الخاتمة ، والرحمة الشاملة .
إنها مهمة ذات وجهين :
الأول : الصلة مع الله عز وجل ، والانخراط في عالم الملكوت، والانسلاخ من عالم الملك والشهادة، والتلقي عن الله تبارك وتعالى .
الثاني : التواصل مع الناس على سبيل البلاغ والبيان والهداية .
إنها مهمة عظيمة وخطيرة، إنها مفترق الطرق بين عالم الشهادة وعالم الغيب ، عالم الدنيا وعالم الآخرة ، إنها صلة الوصل بين عالمين .
ولذلك هيأه الله عز وجل ورباه لتحمل هذه المهمة، فاتصل بالناس، وعرك الحياة بمرها ومرارها ، وخلا بربه عز وجل ليصفو قلبه من أدران الكون، فيتهيأ عقله وتستعد روحه للتلقي عن المكوّن عز وجل .
إن أصعب مهمة يعاني منها الدعاة اليوم هي الانسلاخ من واقعهم العاجي والانخراط في الواقع العادي للناس . يعيش الداعية معاني الإيمان والهداية والتقوى فتصفو روحه وتميل إلى الاكتفاء بربها عز وجل خلوة وعبادة وتبتلاً ، فإذا ما شعر بالمسؤولية تجاه الناس تبرمت روحه وضاقت، لأنه يريد العودة بها من جديد إلى عالم الأذى والهوى.
هذا على مستوى الدعاة المخلصين من آحاد الأمة فكيف بالمصطفى  ؟! إن حالته من أشق الحالات ، لأنها تتضمن الانسلاخ من البشرية إلى الملائكية لتلقي الوحي، ثم الأوب من جديد إلى عالم البشر ، لتحمل مسؤولية كبرى ! ، وهل يرضى الإنسان الذي يدخل الجنة ويعيش نعيمها وسعادتها أن يعود إلى دنيا الهموم والأحزان ؟!
إن أمر الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب أو من عالم الملكوت إلى عالم الملك أشق – فيما أحسب - مما نتصور إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية الأسباب فقط.
ومن هنا كانت رسالة المصطفى  هدفها المحوري هو الارتقاء بالبشرية، والصعود بالإنسانية من المستوى البهيمي أولاً إلى المستوى الإنساني ، ثم من أدنى درجة في الإنسانية إلى أعلى درجة فيها حيث تبدأ الرتبة الملائكية .
إذن فالإنسانية التائهة والبشرية الضائعة وجدت ضالتها في بعثة النبي  من حيث السمو والرفعة والأمان، لأن الهدف هو الإنسان والغاية هي سعادته ونجاته.
وإذا ما نظرنا في جوانب هذه البعثة السمحاء سنجد ذلك متجلياً في مختلف الأوامر والنواهي ،سواء القضايا العقدية أو الوصايا الأخلاقية أو المسـائل التشريعية .
فللإنسان تساؤلاته الكبرى منذ أن ولد على ظهر هذه الأرض : من أنا ؟ ومن أين أتيت ؟ وكيف أتيت ؟ ولماذا أتيت ؟ وإلى أين المصير ؟ وما الغاية ؟ ولقد تتابع الوحي الإلهي تترا كما قال عز وجل: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ  [سورة المؤمنون آية 44 ] .
لكي يطمئن الإنسان ويريحه، ويحل له ألغاز الوجود، وينقذه من عذاب التساؤلات، وظلام الحيرة ، وقلق الشك، وكلما ابتعد الإنسان عن منارة الوحي هاجمته شكوكه، وأقبلت عليه وساوسه، واستبد به شياطين الإنس والجن، وأحدق به أنصار الشر والفساد . فأراد الله عز وجل لهذه البشرية الهائمة رسالة خالدة، تحمل أجوبة خالدة، تظل ماثلة أمام العقول، وملامسة شغاف القلوب، فكانت بعثة المصطفى  ومعجزته الخالدة المشرقة في القرآن الكريم .
ومن نعم الله عز وجل ورحمته بهذه الأمة أنه تفضل عليها بالقرآن ومثله معه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه  ( ) ليكون بياناً ساطعاً، ونوراً مشرقاً، يسد الباب أمام عشاق الأوهام، وخفافيش الظلام، الذين ينشطون لأشكلة الواضحات وتعويص الهينات . فجاءت بحمد الله عز وجل :
- رسالة كاملة شاملة  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا  [ سورة المائدة آية 3 ] .
غطت كل جوانب الحياة العقدية والتشريعية والأخلاقية، وقام جهابذة العلم فيها بما يشبه المعجزة في التعليم والبيان ، والتأليف والإبداع في الأصول والفقه والحديث والتفسير والكلام ، وكل ذلك ظل دائماً مشدوداً إلى الأصلين العظيمين الكتاب والسنة.
- هادية منيرة مصحّحة مسدّدة  يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا  [ سورة النساء آية 174 ] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة المائدة آية 15 – 16 ] تخرج الناس من الظلمات إلى النور : من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، ومن ظلمة الشك إلى نور اليقين، ومن ظلمة الخوف إلى نور الرجاء والأمان، ومن ظلمة الجور إلى نور العدل والقسط ، ومن ظلمة العصبية والجاهلية إلى نور الأخوة الإنسانية .
- واضحة بينة: " بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " ( ) لا لبس فيها ولا غموض، ولا رموز ولا كتمان ، إنها أجلى من الشمس في رابعة النهار غير أن الأعشى لا يراها والأعمى لا يستفيد من نورها .
- ليس فيها حرج : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  [ سورة الحج آية 78 ]
- سهلة يسيرة : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا [ سورة البقرة آية 286 ] "" إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .. " ( ) . "" يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا "" ( ) .
- فيها تنوع وثراء في تشريعاتها وتوجيهاتها، تمد الوجود الواقعي والحياتي دائماً بمعطياتها ونصائحها دون عسف أو غمط للواقع، ودون إهمال أو تفريط به .
- وفيها تنوع في خطابها بحسب أصناف الناس وقدراتهم وطاقاتهم من تقاعس أو نشاط، وقوة أو ضعف ، فتشجع القوي والنشيط وتحثه على المزيد "" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"" ( ) ولكنها لا تقنط الضعيف والفقير "" ففي كل خير "" - وتراعي حال المريض والمحرج والمضطر لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [سورة التوبة آية : 91 ]لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ[ سورة النور آية : 61 ]  فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ سورة البقرة آية 173 ]
- ولا تؤيس العاصي والمخطئ بل تدعوه إلى التوبة وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  [سورة النور آية 31 ]  إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  [ سورة البقرة آية : 160].
"" التائب من الذنب كمن .."" ( ) .
- ولا تقطع أمل المنحرف والمسرف على نفسه بل تفتح له نافذة من الرجاء والأمل  قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  [ سورة الزمر آية 53 ] لاحظ كيف يصف المسرفين بأنهم عباده ويضيفهم إلى نفسه سبحانه وتعالى ، ثم ينهاهم عن القنوط واليأس من رحمة الله ، ثم يعدهم بمغفرة الذنوب جميعاً دون استثناء ، ثم يعقب ذلك بوصف نفسه جل وعلا بالمغفرة والرحمة . ثم تأمل في هذه الآية كم فيها من معاني الرجاء للعصاة والمذنبين  وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ  [ سورة آل عمران آية 135 ]
- كما أنها بعدلها وإنصافها لا تسوّي بين الكسول المتقاعس والنشيط الجاد، ولا بين المهمل المقصر وصاحب الهمة والعزيمة ، بل تفتح الباب لكل واحد منهما للرقي والسمو ، وذلك عبر المراتب الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان .
فمن أراد أن يرقى فدونه الجبل لا أحد يمنعه، ودونه القمة فليتسلق إليها لا أحد يدفعه . وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [ سورة الإسراء آية 19 ] فمن يعمل ويسعى ويجاهد ليس كمن ينام ويتقاعس  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ  [سورة العنكبوت آية 6 وليس الناس على درجة واحدة من الهمة والعزيمة والقصد  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ  [ سورة فاطر آية 32 ]
- والإسلام طَموح ويعلم أبناءه الطموح والهمة العالية "" يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ..." ( ) ويربط الرقيّ بالعمل ،بل وبإتقان العمل أيضاً، ويدعو أبناءه إلى طلب القمة والسعي إليها "" إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى "" ( )
هذه رسالة محمد  ، رسالة الإنسان ، رسالة السعادة ، رسالة الحضارة رسالة العدالة ، رسالة الرحمة . لا تنظر إليها من زاوية من الزوايا إلا وتجد فيها التشوّف إلى سعادة الإنسان وراحته ، ومنفعته وقد يدرك الإنسان أبعاد هذه المنفعة والسعادة وقد تخفى عنه فلا يلاحظها إلا بعد حين .
إنها رسالة تراعي سر الخلق في كيان الإنسان، لأنها تنزيل من العليم الخبير  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ سورة الملك آية 14 ] فالإنسان مكوّن من جسد ونفسٍ وعقل وقلب وروح ، هذه هي كينونة الإنسان، وكل جزءٍ من هذه الكينونة له متطلباته وحاجاته، له غذاؤه الذي يليق به ، فجاءت رسالة الإسلام خاتمة الرسائل متوائمة مع متطلبات هذه الكينونة، تقيم التوازن في تلبية حاجاتها، وإن أي خلل في تلبية أجزاء هذه الكينونة يؤدي إلى شقاء الإنسان، فللروح غذاء العبادة والتبتل، وللجسد غذاء الطعام والشراب،وللنفس الطيبات من الرزق، وللعقل العلم والمعرفة ، وللقلب التفكر والتدبر ، وإذا ما طغى جانب من هذه الجوانب على غيره فإنه يؤدي إلى اختلال في توازن الإنسان ، وانفراط في نظامه فيشقى الإنسان  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [ سورة طه آية 124 ] .
فجاءت رسالة محمد  رسالة الرحمة لتحفظ نظام الكيان الإنساني من الانفراط، وعقد الكينونة من الاختلال، فأعطت كل ذي حق حقه "" فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا..."" ( ) ورفضت نظام الترهبن والانسحاب من الحياة "" أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وإني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "" ( ) .
فكانت تشريعاً معجزاً بديعاً، تستطيع أن تقول وأنت واثق من نفسك : إن نظام الرسالة المحمدية الكوني ينسجم تماماً مع الكون، وتتطابق بشكلٍ رائع آيات القرآن مع آيات الكون، كذلك إن نظام الرسالة التشريعي يتطابق بشكلٍ عجيب مع نظام الكينونة الإنسانية فرداً ومجتمعاً  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ سورة الملك آية 14 ] .
هذه رسالة الإسلام ، رسالة الإنسان ، رسالة الرحمة الإلهية ، وفي كثير من الأحيان يجهل الإنسان بدوافع من رغباته وأهوائه كم هو محظوظ، لأنه يتقلب في ربيع النعمة الإلهية ، والبركة المحمدية فيعرض الإنسان فرداً أو جماعة عن الاحتماء بمظلة الإسلام ، ويهيم ملاحقاً شهواته في فيافي الأوهام، ومفاوز الآثام ولا يكتشف ضلاله وضياعه إلا بعد فوات الأوان ، وكان يكفي الإنسان لكي يقي نفسه هذا الضلال والتيه أن يثق بربه عز وجل، ويقبل رسالته الهادية، ويقبل رسوله المبلّغ المبشّر، ويعتصم بحبله المتين ،ونوره المبين، فيوفر على نفسه ألواناً من الضنك وأشكالاً من الخيبة في مسيرة الحياة .
وهذا ما عمل وجاهد من أجله الأنبياء جميعاً عبر الأحقاب الزمنية المتوالية، ثم جاء خاتمهم المصطفى  ليكمل البناء وينير الطريق وينشر العدل ويتمم الهداية .
فكان  المثل الأعلى للبشرية في الأخلاق والأعمال، وكان الأسوة الحسنة لمن أراد أن يرقى في مدارج الكمال، وكان النموذج المتألق في التأنق والتحضر والجمال، وكان العلم الباسق في الرزانة والرصانة والثقة والاتزان والاعتدال .
ولم يكن منفصلاً عن الناس يعيش في برجه العاجي، بل كان يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون وينام كما ينامون .
"" ينام على الحصير فيؤثر في جنبه حتى يبكي سيدنا عمر تأثراً على حال رسول الله صلى الله عليه وسلم "" ( )
"" وتمر الليالي والشهور ولا يوقد في بيته نار "" ( ) أي لا يوجد ما يطبخونه.
"" ويشد الحجر على بطنه من الجوع "" ( )
"" ويمر على نسائه فلا يجد طعاماً فيقول إني صائم "" ( ) .
"" ويطوي الأيام ثم إذا وجد الخل أكل منه فحمد الله ثم قال نعم الإدام الخل "" . ( )
َقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ... [ سورة التوبة آية 128 ] . أجل إنه  من أنفُسنا ومن أنفَسنا، حريص علينا ،شفوق بنا ،يحزنه عصياننا وانحرافنا، رؤوف رحيم بنا ، يقف على الصراط ويقول :
" رب سلم رب سلم "" ( ) ويطيل السجود والدعاء والتبتل يدعو لأمته بالنجاة والسعادة والهداية .ويوم القيامة يسجد تحت العرش فلا يرفع رأسه حتى يقال له : إرفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ! فيقول : يارب أمتي . ( ) لقد جعل همه هماً واحداً هو رضوان الله جل شأنه ، وتفرع عن هذا الهم حرصه الشديد على أمته رحمة ورأفة ورجاءً وهذا ما يعبر عنه هذا الحديث الشريف "" حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا ، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ، وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا "" . ( ) إن غايته الكبرى هي نجاة أمته، نجاتها في الدنيا من دار الغرور ، وفي الآخرة من العذاب الحرور ، فهو لم يكن يخشى علينا الفقر، بل كان خوفه علينا من الدنيا وانبساطها وإغرائها أشد كما قال للأنصار ذات يوم : « فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ » . ( )
وقال لسيدنا علي يوم خيبر : "" فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ » ( ) لأنه سيكون سبباً في إنقاذ رجل - بل ربما أسرة ممتدة إلى يوم القيامة - من الشقاء الأبدي والجحيم السرمدي .
لقد كانت رسالته  أشبه بالمظلة الباردة في اليوم القائظ ، وأشبه بالركن الدافئ في البرد القارس ، وأشبه بالغيث الصيّب في في السنة الجائحة القاحلة، وهكذا شبه رسول الله  بعثته المباركة فقال : « إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ ». ( ) أجل إنه  كالغيث الهامع لهذه البشرية الشاخصة إلى السماء ، أحيا الله به قلوباً غلفاً ، وأعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، بل أحيا به الباري عز وجل أمة كانت في مجاهيل النسيان ، وبراثن الجهل، ومخالب الشتات والفرقة، فجعل منها أمة محورية بين الأمم ، وحضارة مركزية بين الحضارات، أقامت راية السماحة والمحبة ، ونصبت ميزان العدل والمساوة ، وأنارت دروب العلم والمعرفة فكانت مثالاً يُحتذى ونبراساً يقتدى .
هذه رسالة محمد  ذلكم الطفل اليتيم الذي نشأ وترعرع في ربوع مكة يرعى أغنامها ، ويراقب أحلامها ، ويعايش شبابها، ويرافق تجارها، ويخالط زعماءها، ويحضر مجالسها وأحلافها – حلف الفضول – ويشارك في حروبها – حرب الفجار – فكان مثالاً للرجولة ، وعنواناً للأخلاق، ونبراساً للصدق والأمانة، فاستحق بجدارة لقب الصادق الأمين من أعدائه وخصومه قبل أقربائه وأصدقائه . فتهيأ لتحمل المسؤولية العظمى بأن يكون رسولاً للناس أجمعين، ورحمة مهداة للعالمين، ومبلغاً لآيات الوحي المبين .
فكان بإزاء هذه النعمة الكبرى عليه ، وهذا الفضل الرباني العظيم  وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [ سورة النساء آية 113 ] لا يرى نفسه إلا عبداً لله عز وجل "" يجوع يوماً فيصبر ويدعو ويتضرع إلى ربه عز وجل ، ويشبع يوماً فيشكر ربه ويحمده " ( ) يرجو رحمة الله ويخاف عقابه سبحانه وتعالى أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم : « لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ » . قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ » ( ) .
وبرغم ما أكرمه الله عز وجل به من النصر العزيز، والفتح المبين لم يشمخ بأنفه إلى السحاب كما يفعل القادة عادة ، ولم يصدع رؤوس الناس بعظمته وانتصاراته كما يفعلون عادة، ولم يُنكّل بأعدائه وخصومه الذين آذوه وطردوه وقتلوا أصحابه وأحبابه، بل قال كلمته المشهورة التي ينبغي أن تُكتب برؤوس الأبر على آماق البصر، وبماء الذهب على شغاف القلب، قال  "" اذهبوا فأنتم الطلقاء ""( ) لمن ؟!
لمن طردوه وآذوه أشد الأذى، وقاتلوه أشد القتال، وتكالبوا عليه، وألّبوا عليه العرب، وقتلوا أعز الناس على قلبه ! قال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء ! .
يدخل الفاتحون المنتصرون عادة إلى البلدان المهزومة بالزغاريد والشموخ والأبهة والعظمة ، فكيف دخل المصطفى  مكة المكرمة ؟
دخل وهو يركب فرسه متواضعاً متخشعاً لله عز وجل، يترنم بسورة الفتح ويتطلع إلى السماء شاكراً لربه عز وجل، ومستمطراً رحمته وكرمه .
إن حالة دخوله  إلى مكة فاتحاً منتصراً وحوله كتيبته الخضراء ، هذه الحالة من التواضع والتذلل في مثل هذا الموطن الذي يدعو إلى الزهو والتعاظم، لهي رسالة إلى كل عقل حر ، وقلب حي ، وإنسان صادق في بحثه عن الحقيقة تخبره عن حقيقة هذا الرجل من هو ؟! أهو طالب ملك ؟ ها هو الملك بين يديه فلماذا لا يتعاظم به؟ أهو رائد دنيا وعظمة ؟ ها هي الدنيا والعظمة تتضاءل بين يديه فلماذا لا يمتلكها ؟ أم هو نبي مرسل يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه ويبتغي رضوانه ؟
أجل لقد اقترب منه رجل أعرابي فرأى حوله جنده وجيشه غاطسون في الحديد، فأخذته رعدة من الخوف فهدأ النبي  من روعه وقال له : ياأخا العرب إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ( ) !
أجل إنه  في هذه اللحظة الحاسمة بعد عشر سنوات من الجهاد والحروب ها هي مكة بين يديه ، وأهلها طوع أمره، وعتاتها وطغاتها في قبضته، إنها صورة رائعة تدعو إلى التطاول والكبرياء، وتغري بالانتقام، ولكنه وقد أدّبه ربه عز وجل فأحسن تأديبه، تذكّر أن هذا فضل من الله عز وجل، وكرم وتوفيق ونصر منه سبحانه وتعالى، ثم عاد مباشرة بذاكرته إلى الأيام الخوالي، يوم كان طفلاً يتيماً فقيراً مُعدما،ً يوم كانوا يرشون التراب في وجهه، يوم كان يرعى الأغنام، يوم الطائف، يوم الجزور، يوم الحصار والجوع، ثم توقف عند صورة مؤثرة هي: يوم كان يأكل القديد مع أمه بمكة !! أجل ياأخا العرب فأنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ! .
في وسط البهجة والانتصار، وفي وسط المجد والفخار، وفي وسط العزة والاقتدار، يتذكر ويُذكّر النبي بحالة ضعفه وفقره لينفعل مع جيشه وجنده والناس جميعاً بالشكر لله عز جل ، فكل ما هو فيه الآن هو محض فضل وإنعام من الله جل وعلا.
ولم يستطع بعض أصحابه أن يئد حالة الزهو والفخر في كيانه، فقال وهو يمر على بعض سادة قريش الواجمين المنكسرين : اليوم يوم الملحمة، ونُقل ذلك له  فقال : بل اليوم يوم المرحمة ( ) ، ونزع اللواء من صاحبه وأعطاه لابنه – لابن صاحب اللواء - وهنا تتجلى رحمة النبي  وسياسته في إصلاح الأخطاء، وتأليف القلوب ، وتضميد الجراح ، وتنظيف الصدور ، وتطييب الخواطر .
إنه  قد كف نفسه عن شهوة السلطان والملك، وغرور القوة والتمكين، ورغبة التشفي والانتقام، وأراد للناس جميعاً أن يتعايشوا متحابين متكافلين تحت مظلة التوحيد والعدل .
جاءه عثمان بن طلحة بمفاتيح الكعبة، فتناولها منه النبي  ففتح الكعبة المشرفة وصلّى فيها ثم أعادها إليه وقال له : خذوها لا ينزعها منكم إلا ظالم . ولا شك أن عثمان خجل من نفسه، وتمنى لو تبتلعه الأرض حين فاجأه النبي بهذا الكلام، ذلك لأنه يذكر يوماً آخر في مكة قبل هذا اليوم ، حين كان النبي فقيراً وحيداً مُكذَّباً طريداً، فقد طلب منه النبي  المفاتيح، فأبى عثمان، فقال له النبي : كيف بك ياعثمان ذات يوم والمفاتيح بيدي أضعها حيث أشاء؟ فقال له عثمان : لقد ذلّت قريش يومئذ وهانت ، فقال المصطفى  : بل عَمَرت وعزت ( ) .
وقد ذكّره النبي  بذلك فقال له : ألم يكن الذي قلت لك ؟ ولكن لا ليجرح خاطره، وإنما ليزيده إيماناً بنبوته ، وقد فهم عثمان الرسالة فقال : بلى أشهد أنك رسول الله . وبدلاً من التفكير بالانتقام أكرمه النبي  غاية الإكرام . أجل إنه يتمثّل قول الله عز وجل : فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ  [ الحجر آية 85 ] وقول سبحانه وتعالى فيه :  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ  [ سورة آل عمران آية 159 ]
هكذا كانت رسالته ، وهكذا كانت دعوته : المحبة التسامح، والعفو والرحمة، والتواضع لله جل شأنه . تأمل في قوله  : "" عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ » . "" ( ) كم يحمل هذا الحديث من دلالات معبرة ، ومعاني مؤثرة، فهو  يرى أن الدين بناء شكل الأنبياء جميعاً فيه لبنات متماسكة، ولم يبق من هذا البناء إلا مقدار لبنة ، وكان البناء جميلاً وبديعاً تعجب منه الناس، وتمنوا لو وضعت تلك اللبنة، فكانت بعثته هي لبنة الكمال، ولكنه  لم يجعل من نفسه ركيزة البناء، أو أحد جدرانه، وإنما جعل من نفسه لبنة في بناء النبوة، يتراصّ مع إخوانه من الأنبياء السابقين ليتكوّن للبشر بناء يحقق لهم المأوى والمثوى والسعادة في الدنيا والآخرة، فلم يبخس النبيُّ إخوانَه من الأنبياء - عليهم السلام جميعاً - حقهم، ولم ينكر فضلهم وجهادهم .
إنه  يعلمنا كيف نتكامل "" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "" ( ) ويعلمنا كيف نتواضع فيقول : "" « وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ». "" ( ) ويعلمنا كيف نتعاون ونتراصّ ، لكي نكون أقوى في مسيرة الحياة، وأقدر على الإعمار، وأصبر على الشدائد .
أما هو  فقد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمّة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وخُيِّر فاختار الرفيق الأعلى .
ولقد قصّرت الأمة في الوفاء بحقه  في هذا العصر، فلم تحسن عرْض سيرته على الناس، فتعرّض له الناس ، وأساؤوا لأعظم إنسان عاش على ظهر هذه الأرض ، وجاهد لتطهيرها من الفساد والظلم والخداع والكذب والاستبداد .
ومن واجب الأمة الآن أن تخاطب الأمم بلغاتها، ومن خلال ثقافاتها وحضاراتها ، وأن تراعي تغيرات الأفهام، وتبدلات الأعصار، واختلاف الوسائل، والتباس المسائل ، فتكشف الغيوم الداكنة بشمس الحقائق الساطعة ، وتكنس الأوهام المتراكمة، بالحجج النيرة والبراهين الميسَّرة عن سيرة وشخصية وحياة سيدنا رسول الله  ، وأن تخاطب بذلك الناس جميعاً، بمختلف بلدانهم وعقولهم ولغاتهم، وأن تحشد لذلك كل الإمكانات العقلية والفكرية والسياسية والإعلامية والمادية .
وفي هذا الإطار يأتي كتاب الأخ الفاضل، والصديق المكرّم محمد مسعد ياقوت، وهو باحث نشط ، بدايته مشرقة، وأرجو من الله عز وجل أن تكون كذلك نهايته بعد عمر طويل، عامر بالعطاء والثراء، ليقف على ثغر من ثغور الإسلام، يصد عنه المتكالبين بالحجة والبرهان، ويدعو إليه التائهين بالكلمة والحكمة والبيان .
أسأل الله عز وجل له ولي دوام التوفيق والسعادة ، وحسن القصد والريادة، والإخلاص والسداد في القول والعمل إنه سميع قريب مجيب .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين .

أحمد إدريس الطعان
عفا الله عنه
داريا 8 / 9 / 2007 م منتصف ليلة الأربعاء .

الحاقدون وصور من الإساءات

صدور كتاب "نبي الخراب":
صدور كتاب باسم "نبي الخراب" Prophet Of Doom – بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 - للمؤلف كريك ونن Craig Winn الذي وصف النبي – صلى الله عليه وسلم - بقاطع طريق استعمل - حسب زعمه – العنف والغدر للوصول إلى الحكم والسلطة، وكان أيضا حسب زعم المؤلف شاذًا جنسًيا ! والكتاب حقق مبيعات خيالية!!

رسوم كاريكاتيرية :
أعلنت صحيفة (يولاندس بوستن) ، في سبتمبر 2005عن مسابقة في الكاريكاتير، وتم اختيار اثنى عشر كاريكاتيراً كلها تسيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وتصدر احداها رسماً مزعوماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يضع على رأسه عمامة على شكل قنبلة شديدة الانفجار. والجريدة أصرت على النشر، ورفضت الاعتذار.
ثم أعادت نشر هذه الرسوم عدة صحف أوروبية بدعوى التضامن مع الصحيفة الدنماركية، ورفضت جميع هذه الصحف الاعتذار عن تلك الرسوم المسيئة، تحت زعم حرية التعبير، كما رفضت الحكومة الدنماركية الاعتذار أيضًا .
هذا، وقد نشرت صحيفة "نيريكيس أليهاندا" -وهي صحيفة سويدية محلية تصدر في أوريبرو- رسومات مسيئة تصور الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم -في أشكال مهينة بعددها الصادر الأحد 26 أغسطس 2007؛ ما أثار موجة احتجاجات محلية من جانب الأقلية الإسلامية في السويد.

كتيبات مسيئة:
قامت شركة دار نشر القمر CRESCENT MOON PUBLISHING، الأمريكية، بنشر كتيب كاريكاتيري، سافل، أسمه : "محمد صدق و إلا" ، لحساب رسام إستعمل اسم مستعار و هو "عبدالله عزيز" ، والكتيب عبارة عن 26 صفحة، يتناول السنة النبوية بشكل مهين جدًا، بهدف إقناع السود الأمريكين بعدم التحول إلى الإسلام.

تصريحات همجية :
أدلى مارتين هنريكسن النائب عن حزب الشعب الدانمركي، بتصريح نشرته صحيفة (بيرلنسكة يتذته) وبثه هنريكسن على موقعه الإلكتروني ، والذي قال فيه (إن الإسلام منذ بداياته كان عبارة عن شبكة إرهابية) ووصف المسلمين المنحدرين من جذور دانمركية بأنهم أناس (ساقطون أخلاقياً، إلى مستوى يصعب وصفه، وانهم يخونون جذورهم وإرثهم الحضاري باعتناقهم الإسلام) وأكد هنيكسن أنه لن يتراجع عن هذه التصريحات، .ولم يكن هنريكسن الوحيد الذي وصف المسلمين بهذه الأصواف البذيئة بل سبقه بها نائبة من نفس الحزب تدعى (لويسة فيفرش) التي وصفت المسلمين بأنهم" غدة سرطانية" .

إساءة بابا الفاتيكان لنبي الرحمة :
تطرق البابا بنديكتوس السادس عشر خلال محاضرة شهيرة مثيرة للجدل في جامعة ريغينسبورغ جنوب المانيا – في سبتمبر 2006 - عن العلاقة بين العقل والعنف في الإسلام، وستشهد بهذه المناسبة بكتاب للامبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350-1425)م، ونقل منه عبارة تقول :" أرني شيئا جديدًا أتى به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف" .. !!
وقال البابا – في نفس المحاضرة - إنّ العقيدة المسيحية تقوم على المنطق لكن العقيدة في الإسلام تقوم على أساس أن إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل أو المنطق. كما انتقد فريضة الجهاد في الإسلام بلغة مبطنة.

دعوات بنسف مكة والمدينة ومصادرة المصاحف :
تصريحات صليبية أطلقها نائبا الكونجرس الأمريكي والبرلمان الهولندي حول الإسلام (في أغسطس 2007)؛ حيث طالب "توم تانكريدو " - النائب الجمهوري بالكونجرس - بنسف مدينتَي مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ باعتبارهما مَعقِلَي الإرهاب على حدِّ وقاحته، أما عضو البرلمان الهولندي" غيرت فيلدرز " فقد دعا إلى منع المصحف الشريف وقراءة القرآن حتي في منازل المسلمين، واصفًا القرآن الكريم بالكتاب اللعين. ودعا فيلدرز إلي منع إدخال القرآن إلي المساجد في هولندا ولمنع بيعه في مكتبات هولندا.

مذيع كبير يسب الأمة الإسلامية :
فقد شبّه مذيع أمريكي بارز المسلمين بال "الصراصير" ، لأنهم يصومون في نهار رمضان، ويأكلون في الليل. ففي برنامجه الإذاعي الذي يُبثّ في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، انتقد "نيل بورتز" طلب عدد من المستشفيات الحكومية في اسكتلندا العاملين بها بتناول الطعام بعيداً عن المكاتب خلال شهر رمضان، حفاظاً علي مشاعر زملائهم المسلمين الصائمين، معتبراً أن هذا دليل علي ما أسماه أسلمة غرب أوروبا .
تقول جريدة الراية القطرية (في عدد 17/8/2007) : وليست هذه المرة الأولي التي يهاجم فيها "بورتز " المسلمين، حتي صار معروفاً بتصريحاته المعادية لهم. ففي اكتوبر 2006وصف الإسلام أنه فيروس مميت، ينتشر في جميع أنحاء أوروبا والعالم الغربي . مضيفاً: سوف ننتظر طويلاً جداّ حتي نطوّر لقاحاً لنكافحه به . وبحسب نص التصريحات قال بورتز أعتقد أن المسلمين لا يأكلون أثناء النهار في رمضان. إنهم يصومون خلال النهار ويأكلون بالليل. (إنهم) نوع من الصراصير .

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
ما أكثر الحروب الإعلامية التي تشن لتشويه صور العظماء ! وما أقبحها حينما تجعل من الفساق فضلاء، ومن الأخيار أشرارًا، حينها نرى وسائل الإعلام المغرضة أبواقًا تنفث سمها يمنة ويسرة، لتتخلى عن رسالتها الإنسانية وترتدي عباءة الذل والعار..
لقد أساءت إلينا جميعًا، وأساءت لكل إنسان، تلك الإساءات المتكررة لجناب نبي الإنسانية وسيد ولد آدم .. رسوم كاريكاتيرية .. كتب .. صحف .. برامج تلفزيونية ..تصريحات من أعلى القيادات السياسية والدينية .. أصبح شغلها الشاغل تشويه صورة " محمد بن عبد الله " ومحاولة النيل من دينه وشرفه وأخلاقه..
إنها محاولات حمقاء، تحاول أن تطعن في أقوى سلاح يمتلكه نبي الإسلام، إنه سلاح "الرحمة ".. إنهم يتهمون نبي الإسلام  في أخص خصائصه على الإطلاق، ألا وهي خصيصة " الرحمة"، التي ساد وقاد بها العالم .
وكون هذه الإساءات لا تضير نبي الرحمة- فلا يضر السحاب نبح الكلاب- لا يعفي المسلمين المعاصرين من المسئولية أمام الله تعالى، فضلاً عن المسئولية أمام التاريخ الإنساني والإسلامي ..
نعم، نحن مسؤلون أمام الله يوم القيامة عن سكوتنا عن هذا المنكر الفظيع، وسلبيتنا أمام هذا الظلم المريع . ومسؤلون أيضًا أمام التاريخ، وعرضة أكيدة للسب واللعن من أحفادتنا حينما توارينا الأيام والسنون تحت أطباق التراب .. عندها نموت وقد لحق بنا العار؛ أن سُب رسولنا الأعظم– صلى الله عليه وسلم – ونحن في خرص ونيام وسلبية !
سييقول أحفادنا -وهم يلعنوننا – لقد سُب رسول الله في عصركم ولم تفعلوا ما يبيض الوجه ويزيل حمرة الخجل !
آن لنا أن يبرىء كل منا ذمته، على النحو الذي يتفق وقدراته .. فكل مسلم الآن " واجب عليه أن يعرف الناس برسول الله وينصره قدر استطاعته " ..
فالمعلم والمدرس والأستاذ يغرس في نفوس تلاميذه وطلابه قيم حب النبي – صلى الله عليه وسلم - وتوقيره والاقتداء به .
ورب الأسرة يربي الأولاد على منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – يحفظهم الغزوة كما يحفظهم السورة من القرآن.
والموظف في مكتبه، يعلي من قيمة حب النبي – صلى الله عله وسلم – بين زملائه وأمام المواطنين .
والمدير في شركته أو مصنعه، يجعل من نصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعميق حبه في نفوس العاملين هدفًا ساميًا من أهداف مؤسسة العمل .
والإعلامي والصحفي يرصد كل إساءة لديننا ونبينا، فيفندها، ويناقشها، ويتثير همم الجماهير في الزود عن حياض الدين، واتباع منهج الحبيب – صلى الله عليه وسلم -
والتاجر والصانع يقاطع منتجات الأعداء ومنتجات كل دولة أو حكومة أساءت لنبينا – صلى الله عليه وسلم - .
إن رجال الأعمال والأغنياء عليهم دور كبير، وواجب أكيد في التعريف بنبي الرحمة ونصرته بأموالهم، عليهم أن يدعموا الكتب والإصدارات والفعاليات التي من شئنها التعريف بنبي الرحمة ونصرته .
أحرى برجال الأعمال المسلمين أن ينفقوا – ولو من ذكاة أموالهم – في تأسيس مثل هذه المشاريع الخيرية التي من شأنها نصرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وليتهم ينفقون معشار ما ينفقه الغرب على الحرب على الإسلام ونبي الإسلام !
ولذلك رأيت أن أقوم – بدوري - وإلقاء الضوء على صفات النبي  الدالة على رحمتة بالبشرية وأخلاقه وشمائله وخصائصه، وتعامله مع المسلمين وغيرهم، وذلك بإسلوب سهل ويسير..وقد جعلت البحث يتحدث بلسان حال علماء الغرب الذين أنصفوا رسول الإسلام  في كتاباتهم ودراساتهم.
ولقد تبين لي من خلال هذا البحث أن الكثير من علماء الغرب قد كشفوا عن الكثير والكثير من الجواهر والدرر في حياة محمد ، فبينوا الكثير من مظاهر الرحمة والدروس والعبر في سيرة ومسيرة النبي محمد  ..

وتنبع أهمية هذا البحث ؛ من كونه رسالة تعريف مبسطة لنبي الإسلام في وقت تكالبت فيه الأقلام المسمومة والألسنة الحاقدة للنيل من مكانته  ..
والدراسة إذ تُّسْهم بمحاولة توضيح صورة نبي الإسلام للعالم، تنطلق من الإيمان بأهمية شهادات العلماء الغربيين المنصفين لنبي الإسلام.
فرب شهادة باحث غربي أوقع في قلوب الغربيين من نصوص إسلامية كثيرة !

ولقد جعل البحث من أدبيات علماء الغرب وحديثهم عن فضائل النبي ، مصدراً رئيسياً للبحث، ولم يستخدم البحث الأسلوب المعتاد أو التقليدي في الحديث عن شمائل النبي ، بل استخدم أدبيات الغرب أنفسهم في الحديث عن أخلاقيات وشمائل النبي . هذا، و ركز البحث على تناول مظاهر الرحمة في شخصية محمد ، بلغة سهلة، غير إنها تخاطب العقل، وتحرك الوجدان، واعتمدتُ على الدراسات الإستشراقية المنصفة بالأساس.. إضافة إلى كتب السيرة والشمائل والحديث النبوي والدراسات العربية المعاصرة.
مخطط البحث :
المقدمة :
الفصل الأول: من هو محمد  ؟ ، وفيه :
المبحث الأول: تعريفٌ عامٌ بنبي الرَحْمَة 
المطلب الأول : الميلاد والنشأة
المطلب الثاني : أخلاق وصفات محمد
المطلب الثالث : حال العالم عشية البعثة
المطلب الرابع :النبوة والوحي :
المطلب الخامس : لمحة مختصرة عن سيرة النبي :
المبحث الثاني: محمد  رحمة للعالمين في أدبيات الغرب
المطلب الأول:شهادة إنجيل برنابا
المطلب الثاني: شهادة الراهب النصراني بحيرا
المطلب الثالث: شهادة العلامة توماس كارلايل
المطلب الرابع : شهادة المفكر البريطاني لين بول
المطلب الخامس : شهادة السير وليم موير
المطلب السادس: شهادة القسيس السابق دُرّاني
المطلب السابع : شهادة الكاتب الإسباني "جان ليك"
المطلب الثامن : شهادة العلامة واشنجتون ايرفنج
المطلب التاسع : شهادة الباحث الفرنسي جوستاف لوبون
المطلب العاشر: شهادة المؤرخ الشهير جيمس متشنر
المبحث الثالث: خصائص رحمته 
المطلب الأول: ربانية الرحمة
المطلب الثاني : دعوية الرحمة
المطلب الثالث : عالمية الرحمة
المطلب الرابع : عبقرية الرحمة
المطلب الخامس : وسطية الرحمة
المطلب السادس : عملية الرحمة
الفصل الثاني : رحمته للعالمين في مجال التنوير والحضارة، وفيه :
المبحث الأول: التنوير والتوحيد:
المطلب الأول : محمد  تنويرياً عملاقًا:
المطلب الثاني : نضاله في إخراج الناس من الظلمات إلى النور
المطلب الثالث : نجاح حركة التنوير
المبحث الثاني: التحضر والرقي
المطلب الأول : العرب من القبيلة إلى الدولة والأمة:
المطلب الثاني : إشادة العلماء الغربيين بجهود النبي 
المطلب الثالث: فضل النبي في تحضر العالم
المبحث الثالث: التسامح الديني
المطلب الأول : محمد[]الحاكم المتسامح الحكيم المشرع
المطلب الثالث: استقبال الوفود النصرانية
المطلب الرابع : الحرية في الاعتقاد وممارسة الشعائر
المبحث الرابع: رعاية العلم والمعرفة
المطلب الأول : بداية عصر العلم والمعرفة:
المطلب الثاني : القراءة أولي تعاليم النبيr :
المطلب الثالث : احترام العقل
المطلب الرابع : حثه على طلب العلم
المطلب الخامس: العلم من وظائف رسالته
المطلب السادس : من توجيهات النبيr
المبحث الخامس: الخطاب التربوي
المطلب الأول : المعلم الرحيم
المطلب الثاني: نماذج رحمته للمتعلمين
المطلب الثالث : أساليبه في الخطاب التربوي:
المبحث السادس: خدمة الإنسانية
المطلب الأول : النبي خادم الإنسانية
المطلب الثاني: خطبة الوداع : الميثاق الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان
المطلب الثالث: توجيهات إنسانية
الفصل الثالث: رحمته للعالمين في مجال الأخلاق ، وفيه :
المبحث الأول: الرفق واللين
المطلب الأول: طريق محمد .. طريق الرفق
المطلب الثاني : حثه على الرفق
المطلب الثالث: نماذج رفقه
المبحث الثاني: العفو
المطلب الأول : محمد العفو .
المطلب الثاني : نماذج عفوه 
المبحث الثالث: العدالة والمساواة
المطلب الأول : محمد  حاكمًا عادلاً
المطلب الثاني : العدالة ومساواة في معاملاته اليومية
المطلب الثالث: نماذج عدله في سنته وسيرته  :
المبحث الرابع: الحب والإخاء
المطلب الأول : الأُخوة مكان العصبية
المطلب الثاني : لماذا نجح النبي  في تحقيق الحب والإخاء ؟
المطلب الثالث : نماذج تعاليمه  :
المبحث الخامس: سماحته في المعاملات المالية
المطلب الأول : حثه على السماحة في المعاملات المالية :
المطلب الثاني : نماذج سماحته في المعاملات المالية
الفصل الرابع: رحمته للعالمين في مجال التشريع ، وفيه:
المبحث الأول: المرونة والتجديد:
المطلب الأول – شهادة علماء الغرب
المطلب الثاني: الشريعة الإسلامية : ثوابت و متغيرات
المطلب الثالث : في مجال الثابت و مجال المتغير
المطلب الرابع : منطقة الفراغ التشريعي والنصوص المحتملة:
المطلب الخامس : صيانة الثابت و تجديد المرن
المبحث الثاني: الوسطية والاعتدال:
المطلب الأول: شهادة علماء الغرب
المطلب الثاني : حثه على الوسطية وتحذيره من التشدد
المطلب الثالث : وسطية الإسلام في الأحكام
المبحث الثالث: التيسير:
المطلب الأول – شهادة علماء الغرب
المطلب الثاني : نماذج التيسير
المطلب الثالث : حثه على التيسير
المبحث الرابع: الرخص الشرعية:
المطلب الأول : الرخص الشرعية : ماهيتها وشرعيتها
المطلب الثاني : نماذج الرخص الشرعية
المبحث الخامس: التدرج في التشريع:
المطلب الأول : التدرج في التشريع: مفهومه والحكمة منه :
المطلب الثاني : نماذج للتدرج في التشريع :
الفصل الخامس : رحمته للعالمين في ميدان الصراعات السياسية والعسكرية ، وفيه:
المبحث الأول: الحوار لا الصدام
المطلب الأول : الحوار مظهر من مظاهر الرحمة
المطلب الثاني : الإسلام يرفض المركزية الحضارية
المطلب الثالث : نماذج عملية من سيرة النبي
المبحث الثاني: حرصه  على نشر السلام
المطلب الأول : محمد رجل السلام
المطلب الثاني : نموذج في حادث بناء الكعبة
المطلب الثالث : نماذج المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة :
المطلب الرابع: نموذج في معركة الأحزاب
المطلب الخامس : نموذج معاهدة الحديبية
المطلب السادس: نموذج الصلح مع أهل خيبر
المبحث الثالث: رحمته للخصوم والأعداء
المطلب الأول : لماذا القتال ؟
المطلب الثاني : محمد  القائد الرحيم
المطلب الثالث : هدي محمد في المعارك :
المطلب الرابع: فرية العنف ونشر الإسلام بالسيف :
المطلب الخامس : فرية : القتل الجماعي ليهود بني قريظة
المبحث الرابع: رحمته للأسرى
المطلب الأول : نماذج في معركة بدر
المطلب الثاني : نموذج معركة بني المصطلق
المطلب الثالث : نموذج معركة حنين
المطلب الرابع : نماذج أخرى.
المبحث الخامس : رحمته لقتلى العدو
المطلب الأول : مواراة جيف قتلى العدو في بدر:
المطلب الثاني : جثة نوفل بن عبد الله
المطلب الثالث : جثة عمرو بن ود
المبحث السادس :رحمته لأهل الذمة
المطلب الأول : من هم أهل الذمة وما موقف نبي الإسلام منهم ؟
المطلب الثاني : شهادات علماء الغرب :
المطلب الثالث : وصايا النبي  بأهل الذمة والتحذير من إيذائهم:
المبحث السابع: قيم حضارية في غزوة بدر الكبرى[ نموذجًا]
المطلب الأول : لا نستعين بمشرك على مشرك :
المطلب الثاني : مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
المطلب الثالث الشورى :
المطلب الرابع : النهي عن استجلاب المعلومات بالعنف :
المطلب الخامس : احترام آراء الجنود:
المطلب السادس : العدل بين القائد والجندي :
المطلب السابع : الحوار قبل الصدام :
المطلب الثامن : الوفاء مع المشركين :
المطلب التاسع : حفظ العهود :
المطلب العاشر : النهي عن المثلة بالأسير :
الفصل السادس: رحمته للعالمين في مجال المرأة والطفل، وفيه:
المبحث الأول – تحرير المرأة من الجاهلية:
المطلب الأول : محمد  منقذ المرأة
المطلب الثاني : افتراءات وردود
المبحث الثاني : مميزات المرأة في الإسلام
المطلب الأول: الاستقلال الفكري للمرأة
المطلب الثاني: حقوق المرأة في أمور الزواج
المطلب الثالث: حقوق المرأة في الميراث والتملك
المطلب الرابع: حق المرأة في العمل
المطلب الخامس: تقدير الدور السياسي للمرأة
المطلب السادس: إحترام جوار المرأة
المطلب السابع : تأملات في هذه المميزات
المبحث الثاني: رحمته للبنات
المطلب الأول : فضل النبي  على البنات
المطلب الثاني : نماذج رحمته للبنات:
المبحث الثالث: رحمته للأطفال
المطلب الأول : شهادة علماء الغرب
المطلب الثاني : نماذج رحمته للأطفال :
المبحث الرابع: رحمته للأيتام
المطلب الأول : النبي  اليتيم :
المطلب الثاني : نماذج في رحمته لليتيم:
المبحث الخامس: رحمته للأرامل
المطلب الأول: حثه على السعي على الأرامل:
المطلب الثاني : سعيه على الأرامل
الفصل السابع: رحمتهr للضعفاء وفيه:
المبحث الأول: رحمته للفقراء
المطلب الأول : فضل النبي  على الفقراء
المطلب الثاني : نظام الزكاة – نموذجًا
المطلب الثالث: دوره  في مكافحة البطالة :
المبحث الثاني: رحمته للعبيد والخدم
المطلب الأول : تحرير العبيد
المطلب الثاني : فرية سن الإسترقاق:
المطلب الثالث : نماذج رحمته للعبيد :
المطلب الرابع: تحريم الاتجار بالبشر
المطلب الخامس – رفقه وعطفه على الخدم
المبحث الثالث: رحمته بذوي الاحتياجات الخاصة
المطلب الأول : الفئات الخاصة في المجتمعات الجاهلية:
المطلب الثاني : رعاية النبي  لذوي الاحتياجات الخاصة:
المطلب الثالث: الأولوية لهم في الرعاية وقضاء احتياجاتهم:
المطلب الرابع: عفوه عن سفهائهم وجهلائهم :
المطلب الخامس : تكريمه وموساته  لهم :
المطلب السادس : زيارته لهم
المطلب السابع: الدعاء لهم
المطلب الثامن : تحريم السخرية منهم
المطلب التاسع : رفع العزلة والمقاطعة عنهم
المطلب العاشر: التيسير على ذوي الاحتياجات الخاصة
المبحث الرابع : رحمته للمسنين
المطلب الأول : حثه على إكرام المسنين والرفق بهم:
المطلب الثاني : نماذج رحمته  للمسنين :
المبحث الخامس: رحمته بالأموات
المطلب الأول : زيارته لقبور الأموات
المطلب الثاني : مشاركته في دفن الأموات بنفسه :
المطلب الثالث : حزنه  إذا فاتته جنازة وصلاته عليها
المطلب الرابع :توقيره للجنائز والقبور ولو كانت لغير المسلمين :
المطلب الخامس: دعاؤه  للأموات
المطلب السادس : بكاؤه  على الأموات وعند القبور:
الخاتمة : وفيها ملخص البحث ونتائج البحث والتوصيات
المصادر والمراجع
فهذا هو جهدنا المتواضع ..
وأسال الله أن يتقبله، وأن يهدي وينفع به،..وأن يجعله في ميزان حسنات كل من ساهم في نشره .
محمد مسعد ياقوت، مصر
جوال: 0020104420539
yakoote@gmail.com
www.nabialrahma.com

الفصل الأول
من هو محمد  ؟

المبحث الأول : تعريفٌ عامٌ بنبي الرحمة 
المبحث الثاني : محمد  رحمة للعالمين في أدبيات الغرب
المبحث الثالث : خصائص رحمته 

المبحث الأول
تعريفٌ عامٌ بنبي الرَحْمَة 

المطلب الأول : الميلاد والنشأة :
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، القرشي والذي يمتد نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ .
وللنبي عدة أسماء، أشار إلى بعضها في أحد الأحاديث، فقال " لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي (أي يُحشر الناس إثر بعثه)، وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبي.
يقول المؤرخ الأمريكي رالف لنتون : "ولد محمد‏[‏‏]‏ في مكة [20 أبريل 571م] من عائلة ذات مركز حسن، ولكنَّ أباه مات قبل ولادته، كما ماتت أمه عندما كان في السادسة من عمره.. وفي السنوات الأولى من سن المراهقة كان يعمل راعياً.. وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره ذهب إلى سوريا مع عمٍّ له - بقصد التجارة –، وعندما أصبح في الرابعة والعشرين كان ينوب عن أرملة غنية – هي السيدة خديجة – في السفر بقافلتها التجارية، وبعد عام آخر- أي في عام 595م - تزوج تلك الأرملة التي كانت في الأربعين من عمرها، وكانت قد تزوجت قبل ذلك مرتين، ولها من زوجيها السابقين ولدان وبنت. وولدت له هذه الأرملة ولدين ماتا عندما كانا طفلين ، وأربع بنات. وفي السنوات الواقعة بين عامي 595-610 م كان محمد تاجراً محترماً في مكة، وكان يلقب بالأمين نظراً لما اتصف به من صدق وحكمة في أحكامه" .
المطلب الثاني : أخلاق وصفات محمد :
أولاً : أخلاقه :
عاش النبي بعد وفاة عمه أبي طالب - في بيت جده عبد المطلب زعيم مكة، ومن ثم نال حظاً وافراً من الفطنة والفكر السديد، ومعايشة قضايا العالم ومشكلاته ونزاعاته .. فطالع النبي محمد  صحائف البشرية وأحوال القبائل والجماعات والأحلاف، وقد كان النبي  في ذروة الإيجابية مع قضايا أمته ، فهو عضو في " حلف الفضول " للدفاع عن المظلومين، ورفض كل صور الظلم، وأكل الحقوق بالباطل .. كما إنه حكم عدل في فض النزاعات والمشكلات التي تحدث بين القبائل والعائلات .. كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا، وأوفاهم عهدًا.. إنه ـ ببساطة شديدة ـ كما وصفته زوجته خديجة ـ رضي الله عنها ـ ، يصل الرحم، ويحمل الكل، ويُكسب المعدوم، ويُقري الضيف، ويُعين على نوائب الدهر .
1- الامتياز في الأخلاق :
يقول المستشرق آرثر جيلمان : "لقد اتفق المؤرخون على أن محمداً ‏[‏]كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة؛ من صدق الحديث، والأمانة، والكرم، وحسن الشمائل، والتواضع.. وكان لا يشرب الأشربة المسكرة، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً" .
2- لم تشبه شائبة :
و يقول كارل بروكلمان:
"لم تشبْ محمداً [‏]شائبة من قريب أو بعيد؛ فعندما كان صبياً وشاباً عاش فوق مستوى الشبهات التي كان يعيشها أقرانه من بني جنسه وقومه"
3- المفكر الخلوق :
ويتحدث توماس كارلايل عن نبينا محمد  قائلاً:
"لوحظ على محمد []منذ [صباه] أنه كان شابًا مفكرًا وقد سمّاه رفقاؤه الأمين – رجل الصدق والوفاء – الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة . . وإني لأعرف عنه[] أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لبّ ! وقد رأيناه[] طول حياته رجلاً راسخ المبدأ، صارم العزم، بعيد الهم، كريمًا برًّا رؤوفًا تقيًا فاضلاً حرًا، رجلاً شديد الجدّ مخلصًا، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جمّ الِبشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق.. وكان ذكي اللب، شهم الفؤاد.. عظيمًا بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك.. فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء" .
4- أعظم الناس مروءة
ويتحدث الباحث البلجيكي ألفرد الفانز: عن أخلاق محمد  فيقول:
"شب محمد [] حتى بلغ ، فكان أعظم الناس مروءة وحلماً وأمانة ، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً ، وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالأمين ، وبلغت أمانته وأخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية ، وكانت ذات مال ، فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة ، فخرج وربح كثيراً ، وعاد إلى مكة وأخبرها ميسرة بكراماته ، فعرضت نفسها عليه وهي أيم ، ولها أربعون سنة ، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة، ثم بقيت معه حتى ماتت. " .
5- احترام الناس له :
ويتحدث الباحث الروسي آرلونوف، عن نبي الرحمة، ويقول :
"اشتهر [] بدماثة الأخلاق، ولين العريكة، والتواضع وحسن المعاملة مع الناس، قضى محمد [] أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة، وكان جميع أقاربه يحبونه حباً جماً، وأهل مدينته يحترمونه احتراماً عظيماً، لما عليه من المبادئ القويمة، والأخلاق الكريمة، وشرف النفس، والنزاهة ." .
6- أقوال من عاصروه :
هذه بعض أقوال علماء الغرب المنصفين في حديثهم عن أخلاق محمد ..
فماذا كانت أقوال من عاصروا النبي وكانوا معه كظله ؟ :
يقول علي بن أبي طالب:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ، ولا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس عنهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويصوبه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ، أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ، ولا يجاوزه إلى غيره ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة وأعظمهم عنده منزلة : أحسنهم مواساة ومؤازرة ." .
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر ، سهل الخلق، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا فاحش ولا عياب ، ولا مداح يتغافل عما لا يشتهي ، ويؤيس منه ، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، ومالا يعنيه وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ، ولا يعيره ، ولا يطلب عوراته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث من تكلم أنصتوا له ، حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون ، ويتعجب مما يتعجبون ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه" .
"كان سكوت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أربع : على الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكير ، فأما تقديره ففي تسوية النظر ، والاستماع من الناس ، وأما تفكيره ففيما يبقى ، ولا يفنى وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ، ولا يستفزه وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته ، والقيام فيما هو خير لهم ، جمع لهم خير الدنيا والآخرة" .
كان " دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مشاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه راجيه ولا يخيب فيه" ..
ثانيًا : صفاته :
1- كلام أنس في وصف النبي 
قال أنس بن مالك – خادم النبي - :
"كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليس بالطويل الْبَائِنِ وَلا بِالْقَصِير، ِوَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلَيْسَ بِالْآدَمِ، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ ، وَلَا بِالسَّبْطِ ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ"
" كان النبي – صلى الله عليه وسلم – ضَخْمَ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ"
"كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُ النبي – صلى الله عليه وسلم – مَنْكِبَيْهِ" .

2- كلام ابن عباس في وصف النبي 
" كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النبي – صلى الله عليه وسلم – نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ" .
3- كلام البراء في وصف النبي 
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً مربوعًا ، بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ، ما رأيت شيئا قط أحسن منه" .
4- كلام جابر بن سمرة في وصف النبي 
" رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في ليلة إضحيان [ أي مضيئة مقمرة ] وعليه حلة حمراء فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو عندي أحسن من القمر " .
" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم أشكل العين منهوس العقب " . قال شعبة : قلت لسماك : ما ( ضليع الفم ) ؟ قال : عظيم الفم . قلت : ما ( أشكل العين ) ؟ قال : طويل شق العين . قلت : ما ( منهوس العقب ) ؟ قال : قليل لحم العقب .
5- كلام علي بن أبي طالب في وصف النبي 
" لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم -بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين والقدمين، ضخم الرأس، ضخم الكراديس ، طويل المسربة ، إذا مشى تكفأ تكفؤًا كأنما ينحط من صبب ، لم أر قبله ولا بعده مثله - صلى الله عليه وسلم – " .
6- كلام أبي الطفيل في وصف النبي 
"رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري "
قيل له : صفه لي . قال : " كان أبيض مليحًا مقصدًا " .

7- كلام أبي هريرة في وصف النبي 
"كان أحسن الناس ( صفة و أجملها كان ) ربعة إلى الطول ما هو، بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس له أخمص إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة ( و إذا ضحك يتلألأ) .
8- كلام أُمّ مَعْبَدٍ في وصف النبي 
وهو أدق وصف – وصفه بشر في النبي- على الإطلاق .. !
قالت أُمَّ مَعْبَدٍ تصف رسول الله لزوجها، لما مر بها في رحلة الهجرة :
"رَأَيْتُ رَجُلا ظَاهَرَ الْوَضَاءَةِ .. أَبْلَجَ الْوَجْهِ .. حَسَنَ الْخَلْقِ ..لَمْ تَعِبْهُ ثُحْلَةٌ..وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ ، وَسِيمٌ ، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ ، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ ،وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ ، أَزَجُّ أَقْرَنُ ..
إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلاهُ الْبَهَاءُ ..
أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبَهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ ،وأَحْلاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ ..
حُلْوُ الْمِنْطَقِ ، فَصْلٌ لا هَذِرٌ وَلا تَزِرٌ ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتٌ نَظْمٌ يَتَحَدَّرْنَ ..
رَبْعٌ لا يَأْسَ مِنْ طُولٍ ، وَلا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ..
غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلاثَةِ مَنْظَرًا ، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا ، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ ،
إِنْ قَالَ أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ ..
مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ لا عَابِسٌ وَلا مُفَنَّدٌ " .
المطلب الثالث : حال العالم عشية البعثة :
"بينما كان العالم الشرقي والعالم الغربي بفلسفاتهما العقيمة يعيش في دياجير ظلام الفكر وفساد العبادة، بزغ من مكة المكرمة في شخص محمد رسول الله [] نور وضاء؛ أضاء على العالم فهداه إلى الإسلام" .

فقد وُلد النبي [] والبشرية تُعاني صنوف الجهل والتخلف والانحطاط الخلقي والحضاري.. العرب في الجزيرة العربية كانوا يعبدون الأصنام ويقتلون البنات ويتكسبون من وراء الزنى والدعارة .. أما الشعب الفارسي فقد أدمن عبادة النار كما أدمن عبادة الطاغية كسرى، الذي كرث الطبقية والكراهية بين صفوف الشعب الفارسي .. وهذا هرقل أجج الخلاف الطائفي بين الرومان فأخذ يذّبح من يخالفه في المذهب، فضلاً عن فساد السلطة الرومانية الحاكمة مالياً وإدارياً وسياسياً .. حتى وصل بهم الحد أن فرضوا ضريبة على الشعوب تسمى " ضريبة الرأس" .. وهي ضريبة يدفعها المواطن نظير ترك رأسه دون ذبح !
ومن ثم " فإننا نجد استعدادات عامة للانتحار الاجتماعي العام . لم يكن النوع البشري في ذلك الزمان راضيًا بالانتحار فحسب، بل كان يتساقط عليه، ويتهالك فيه !! "
وهكذا كان العالم يموج بالظلم والتخلف .. إلى أن أرسل الله ـ تبارك ـ هذا الصادق الأمين .
ويبين هنري ماسيه :
أن "بفضل إصلاحات محمد [] الدينية والسياسية، وهي إصلاحات موحدة بشكل أساسي، فإن العرب وعوا أنفسهم وخرجوا من ظلمات الجهل والفوضى، ليعدّوا دخلوهم النهائي إلى تاريخ المدنية" ..

المطلب الرابع :النبوة والوحي :
أولاً : شهادة الكتب السماوية السابقة
لقد أخبرت التوراة والإنجيل عن بعثة محمد  بشكل صريح تارة وبشكل فيه تلميح تارة أخرى :
ففي بشارة سفر العدد: ورد في قصة بلعام بن باعوراء أنه قال: "انظروا كوكباً قد ظهر من آل إسماعيل، وعضده سبط من العرب، ولظهوره تزلزلت الأرض ومن عليها". . قال المهتدي الإسكندراني معلقاً: "ولم يظهر من نسل إسماعيل إلا محمد ، وما تزلزلت الأرض إلا لظهوره . حقًا إنه كوكب آل إسماعيل، وهو الذي تغير الكون لمبعثه ؛فقد حرست السماء من استراق السمع، وانطفأت نيران فارس، وسقطت أصنام بابل، ودكت عروش الظلم على أيدي أتباعه." .
وقد حُرف هذا النص في الطبعات المحدثة إلى: "يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم موآب، ويهلك من الوغى" .

وفي سفر التثنية لما هُزمت جيوش بني إسرائيل أمام العمالقة، توسل موسى إلى الله سبحانه وتعالى مستشفعاً بمحمد قائلاً: "اذكر عهد إبراهيم الذي وعدته به من نسل إسماعيل أن تنصر جيوش المؤمنين، فأجاب الله دعاءه ونصر بني إسرائيل على العمالقة ببركات محمد " وقد استبدل هذا النص بالعبارات التالية: "اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيئته" ولا يمكن أن يكون هذا الدعاء – الذي في النص الأول – قد صدر من موسى عليه السلام، لأنه ينافي كمال التوحيد .
وقال يوحنا في الفصل الخامس عشر من إنجيله : إن المسيح ـ عليه السلام ـ قال: "إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يعلمكم كل شيء" وقال – أيضا – في الفصل السادس عشر: "إن الفارقليط لن يجيئكم مالم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب"
ويقول عيسى ـ عليه السلام ـ في إنجيل برنابا : "لأن الله سيصعِّدني من الأرض وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إيّاي. ومع ذلك فإنه حين يموت شر ميتة أمكث أنا في ذلك العار زمنًا طويلاً في العالم ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة" .
هذا، وقد شهد بنبوة محمد  رجالات اليهودية، كأمثال الحبر عبد الله بن سلام، ورجلات النصرانية كورقة بن نوفل ..
ليكونا حجة على كل يهودي أو نصراني إلى قيام الساعة !

ثانيًا: شهادات علماء الغرب:
كما شهد بنبوة محمد كبار المفكرين والباحثين الغربيين في العصر الحديث ، ونذكر من هذه الشهادات :
1- شهادة واشنجتون إيرفنج
يقول الكاتب الأمريكي واشنجتون إيرفنج ( 1783-1859 م):
"كان محمد [] خاتم النبيين وأعظم الرسل الذين بعثهم الله ؛ ليدعوا الناس إلى عبادة الله" ..
2- شهادة مارسيل بوازار
ويثبت "مارسيل بوازار" نبوة محمد  بإسلوب عقلاني وعلمي بكلمات بليغة فيقول :
"منذ استقر النبي محمد [] في المدينة، غدت حياته جزءًا لا ينفصل من التاريخ الإسلامي. فقد نُقلت إلينا أفعاله وتصرفاته في أدق تفاصيلها.. ولما كان مُنظمًا شديد الحيوية، فقد أثبت نضالية في الدفاع عن المجتمع الإسلامي الجنيني، وفي بث الدعوة.. وبالرغم من قتاليته ومنافحته، فقد كان يعفو عند المقدرة، لكنه لم يكن يلين أو يتسامح مع أعداء الدين. ويبدو أن مزايا النبي الثلاث، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمع الإسلامي في إبان قيامه وجسّدت المناخ الروحي للإسلام.." .
ويضيف قائلاً :
" وكما يظهر التاريخ محمدًا [] قائدًا عظيمًا ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحًا قوي الشكيمة له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة وتعطي كل صاحب حق حقه. ولقد استطاع بدبلوماسيته ونزاهته أن ينتزع الاعتراف بالجماعة الإسلامية عن طريق المعاهدات في الوقت الذي كان النصر العسكري قد بدأ يحالفه. وإذا تذكرنا أخيرًا على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يتمتع به زعيم من زعماء العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها، استطعنا أن نستخلص أنه لابدّ أن يكون محمد [] الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير به إنسانًا فوق مستوى البشر حقًا، وأنه لابد أن يكون نبيًا حقيقيًا من أنبياء الله ! ! " .
3-شهادة إميل درمنغم:
أما إميل درمنغم فيدلل على نبوة محمد ، من خلال حادث وفاة ابراهيم ابن رسول الله، فيقول :
".. ولد لمحمد []،[من مارية القبطية] ابنه إبراهيم فمات طفلاً، فحزن عليه []كثيرًا ولحّده بيده وبكاه، ووافق موته كسوف الشمس، فقال المسلمون: إنها انكسفت لموته، ولكن محمدًا []كان من سموّ النفس ما رأى به ردّ ذلك فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد..". فقول مثل هذا مما لا يصدر عن كاذب دجال.." .
4- شهادة لايتنر :
يقول لايتنر :
" بقدر ما أعرف من دينيْ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد[]ليس اقتباسًا بل قد أوحي إليه به ولا ريب بذلك طالما نؤمن بأنه قد جاءنا وحي من لدن عزيز عليم. وإني بكل احترام وخشوع أقول: إذا كان تضحية الصالح الذاتي، وأمانة المقصد، وإيمان القلب الثابت، والنظر الصادق الثاقب بدقائق وخفايا الخطيئة والضلال، واستعمال أحسن الوسائط لإزالتها، فذلك من العلامات الظاهرة الدالة على نبوة محمد [] وأنه قد أوحي إليه" .
5- شهادة لورافيشيا فاغليري :
أما الكاتبة الإيطالية لورافيشيا فاغليري فتقول :
"حاول أقوى أعداء الإسلام، وقد أعماهم الحقد، أن يرموا نبي الله [] ببعض التهم المفتراة. لقد نسوا أن محمدًا [] كان قبل أن يستهل رسالته، موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته. ومن العجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل؛ كيف جاز أن يقوى محمد [] على تهديد الكاذبين والمرائين، في بعض آيات القرآن اللاسعة بنار الجحيم الأبدية، لو كان هو قبل ذلك رجلاً كاذبًا ؟ كيف جرؤ على التبشير، على الرغم من إهانات مواطنيه، إذا لم يكن ثمة قوى داخلية تحثه- وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة -حثًا موصولاً ؟ كيف استطاع أن يستهل صراعًا كان يبدو يائسًا ؟ كيف وفق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات، في مكة، في نجاح قليل جدًا ، وفي أحزان لا تحصى، إذا لم يكن مؤمنًا إيمانًا عميقًا بصدق رسالته ؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء، وأن يؤازروه، ويدخلوا في الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلى مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء، والعتقاء، والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق ؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد[]كان عميقًا وأكيدًا" ..
6- شهادة روم لاندو :
ويكشف المفكر البريطاني روم لاندو زيف المكذبين لنبوة محمد  بقوله :
"كانت مهمة محمد [] هائلة ! كانت مهمة ليس في ميسور دجال تحدوه دوافع أنانية، وهو الوصف الذي رمى به بعض الكتاب الغربيين المبكرين محمد العربي[] ... إن الإخلاص الذي تكَّشف عنه محمد[]في أداء رسالته، وما كان لأتباعه من إيمان كامل في ما أُنزل عليه من وحي، واختبار الأجيال والقرون، كل أولئك يجعل من غير المعقول اتهام محمد [] بأيّ ضرب من الخداع المتعمد. ولم يعرف التاريخ قط أي تلفيق (ديني) متعمد استطاع أن يعمر طويلاً. والإسلام لم يعمر حتى الآن ما ينوف على ألف وثلاثمائة سنة وحسب، بل إنه لا يزال يكتسب، في كل عام أتباعًا جددًا. وصفحات التاريخ لا تقدم إلينا مثلاً واحدًا على محتال كان لرسالته الفضل في خلق إمبراطورية من إمبراطوريات العالم وحضارة من أكثر الحضارات نبلاً !" .
المطلب الخامس : لمحة مختصرة عن سيرة محمد :
أولاً : أول ما نزل عليه :
كان أول ما بُدئ به رسول الله  من أمر النبوة الرؤيا الصادقة واستمر ذلك ستة أشهر، ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه الملك جبريل – عله السلام - وهو في خلوته بغار حراء، وقرأ عليه النصف الأول من سور العلق :  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) .
يقول المفكر البلجيكي جورج سارتون: و" صدع محمد [] بالدعوة نحو عام 610م وعمره يوم ذاك أربعون سنة... مثل إخوانه الأنبياء السابقين [عليهم السلام].." .
ثانيًا: إسلام العالم والكاتب النصراني ورقة بن نوفل :
فبعدما استمع للنصف الأول من سورة اقرأ من فم رسول الله  :
قال ورقة فوراً : "هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك" ، فقال النبي : "أومخرجي هم؟". قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ، وأسلم ورقة، ليسجِّل التاريخ أن أول رجل يصدِّقُ محمداً ويعتنق دينه هو عالمٌ نصراني.

ثالًثا:أول من أسلم :
أمر الله رسوله  بتبليغ الدعوة سراً لمدة ثلاث سنين، فدعا قومه إلى الإسلام، فحاز قصب السبق صديقه ووزيره أبو بكر، وزوجته خديجة، وابن عمه علي بن أبي طالب، وخادمه زيد من حارثه.
وهؤلاء نواة الإسلام، ومنهم انبثق الدين الإسلامي، وانتشر في الناس، وعم نوره في البقاع.
يقول رالف لنتون : و" اجتذب الوحي الذي نزل على محمد [] عدداً من الأتباع، وبدأ ينتشر بين الناس.." .
رابعًا: إيذاء المسلمين :
لما دخل الناّسُ في دين الله واحداً بعد واحدٍ، وكثر أتباع محمد  فحينئذ ناصبه الوثنيون العداوة، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفًا معظماً في قومه.. وأما أصحابه فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم صَبَّ عليهم المشركون العذاب صبَّاً، وفتنوهم عن دينهم فتوناً، منهم بلال بن رباح العبد الأثيوبي وعمار بن ياسر، وأمه سمية وأهل بيته الذين عُذِّبوا في الله عذاباً شديداً، حتى قضى ياسر نحبه، ومرَّ أبو جهل بسمية - أم عمار - وهي تُعذب، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها.
كما قام صناديد قريش بتعذيب العديد من النساء اللائي أسلمن ، وضربن أروع الأمثلة في الثبات والصبر والاعتزاز بدعوة الإسلام، وكانت من بينهن زِنِّيرَةُ – أمَة رومية قد أسلمت فعُذبت في الله ، وأُصيبت في بصرها حتى عميت- ، وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر ، وممـن أسلمـن وعُـذبن أيضاً : أم عُبَيْس والنهدية وابنتها .
خامسًا: الهجرة إلى الحبشة وإسلام ملك نصارى الحبشة:
ويتحدث العلامة آتيين دينيه ، عن مأساة المسلمين في هذه الفترة، قائلاً:
" وامتلأت نفس محمد [] حزناً ، أمام هذه المآسي التي كان يتحملها ضعاف المسلمين الذين لا يجدون من يحميهم . حقاً إن شجاعة المعذبين والشهداء في سبيل الله برهنت على إسلامهم العميق ، ولكنه رأى أن من الخير ألا يستمر هذا البلاء ، فنصح الضعفاء ومن لم تدعهم الضرورة إلى البقاء في مكة بالهجرة إلى الحبشة حيث المسيحيون ، وحيث التسامح والعدل اللذان اشتهر بهما ملكها النجاشي" .
وهو ملك نصراني صالح، لا يُظلم عنده أحد. فأقام المهاجرون عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشاً فأرسلوا وفداً، ليكيدوهم عند النجاشي،وليخرجهم النجاشي خارج أرضه إلى المشركين فرجعوا خائبين. وأسلم النجاشي على يد رئيس الوفد الإسلامي الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، بعدما قرأ على النجاشي آيات بينات من سورة مريم. وظلَّ المهاجرون عند النجاشي ينشر عليهم ظله وحمايته حتى رجعوا إلى المدينة المنورة سنة سبع للهجرة.
سادسًا: الحصار وعام الحزن:
اشتد أذى المشركين لرسول الله ، فحصروه وأهل بيته في شِعب (وهو مكان بين جبلين في مكة يشبه السجن المفتوح ) عُرف بشعب أبي طالب، وسُجن النبي  مدة ثلاث سنين، حتى بلغهم الجوع و الجهد وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشِعب، و بدأ حبس محمد  وأصحابه في هلال المحرم سنة سبع من البعثة وخرج من الحصار وله تسع وأربعون سنة، وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب، ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير، فاشتد أذى الكفار له، وتطاولوا عليه.

وفي شوال سنة عشر من النبوة ( في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م) خرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى وأقام به أياماً، فلم يجيبوه وآذوه وأخرجوه ورجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه، وكان أشد يوم في حياته ..
وفي ذي القعدة سنة عشر من النبوة ( في آواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619م ) عاد رسول الله ليستأنف الدعوة الإسلامية مرة أخرى في مكة .
سابعًا: دعوة القبائل ولقاء الأنصار:
أقام النبي  بمكة يدعو القبائل إلى الله تعالى، ويعرض نفسه عليهم في مواسم الحج، وأن يؤووه حتى يبّلغ رسالة ربه ولهم الجنة ليس غير، فلم تستجب له قبيلة واحدة، فلما رأى الأنصار رسول الله  ، وتأملوا أحواله، وقد سمعوا عنه من أهل الكتاب، قال بعضهم لبعض: "يا قوم ! تعلمون والله ! إنه للنبى الذى توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه ! " . وكان اليهود ينتظرون مبعثه ، ويحذرون قبائل يثرب من اقتراب موعد نبي ..
ثامنًا: الهجرة إلى المدينة المنورة :
وبايع رسول الله  وفد الأنصار، ووعدوه أن ينصروه ويمنعوه – في المدينة المنورة - حتى يبّلغ رسالة الإسلام، ومن ثم أمر رسول الله  أصحابه بالهجرة ..
يقول الباحث الإنكليزي جان باغوت غلوب :
"ولم تنقض سبعة أسابيع أو ثمانية حتى كان جميع المسلمين قد هاجروا من مكة باستثناء النبي[]نفسه وابن عمه علي بن أبى طالب وولده بالتبني زيد بن حارثة ورفيقه الأمين أبو بكر الصديق ... وجدير بنا أن نعترف هنا بأن محمداً [] أبدى جرأة منقطعة النظير ببقائه في مكة حيث لم يعد يحظى بحماية عمه أبو طالب كبير بني هاشم .وأدركت قريش خطورة ما وقع من تطور وهالهم أن المسلمين أخذوا يقيمون الآن في يثرب مجتمعاً متلاحم الوشائج خارجاً على نفوذهم وبعيداً عن متناول أيديهم، وأنهم شرعوا يكسبون أنصاراً إلى جانبهم من أبناء القبائل الأخرى الذين قد يتحولون إلى معاداة قريش . واجتمع كبار القوم في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد[]ورأى بعضهم أن محمداً []هو سبب كل ما يواجهونه من متاعب، وأن من الخير لهم لو تخلصوا منه في أسرع وقت ممكن قبل أن يتمكن من اللحاق بأصحابه في يثرب[المدينة المنورة] " .

وبالفعل حاول صناديد قريش – كما يقول رالف لنتون " ممن كانوا يكرهون عائلة محمد[]، ورأوا في تعاليمه ما يهدد مصالحهم، حاولت أن تغتاله؛ ولكنها لم تنجح في محاولتها. وهاجر محمد []والجماعة المخلصة القليلة من أتباعه إلى المدينة يوم 16 يوليه 622م وهو تاريخ هام يجب أن لا ننساه لأنه عام الهجرة الذي يؤرخ به جميع المسلمين حتى الآن" ..
وهناك في المدينة المنورة جمع الله علي محمد أهل يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج أخوةً متحابين بعد قتال مرير وعداوة وقعت بينهم بسبب قتيل، فلبثت بينهم الحروب والصراعات مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأها الله بمحمد ، وألف بينهم؛ حتى صاروا أمة واحدة، ودولة واحدة، ولكن المشركين ازداد حنقهم على الإسلام وأهله، لاسيما بعد هذا التقدم الهائل لدعوة الإسلام، وقيام دولة للمسلمين، فشن المشركون المكيون على رسول الله  سلسلة من الحروب المتتابعة، ومن ثم أذن الله للمسلمين بالقتال للدفاع عن دينهم وأنفسهم ودولتهم الناشئة.. التي يحاول الوثنيون القضاء عليها في مهدها. فشنوا على المسلمين حروباً، كمعركة بدر (17 رمضان 2هـ/13مارس624م)، ومعركة أُحد ( شوال 3هـ/إبريل624 م)، ومعركة الأحزاب ( شوال 5 هـ\ مارس627م) ..
ولقد بلغ عدد الغزوات التي قادها النبي  28 غزوة، منها 9 غزوات دار فيها القتال بين الطرفين، والباقي لم يحدث فيها قتال، واستمرت هذه الغزوات من العام الثاني للهجرة حيث غزوة ودَّان ( الأبواء ) ( صفر 2هـ - أغسطس 623 م).وحتى العام التاسع حيث غزوة تبوك (رجب 9 هـ / أكتوبر630م) .
يقول المؤرخ لويس سيديو - معلقًا على هذه المعارك - :
" فدفع الله شرهم ، وهو أولى أن يحفظ نبيه []القائم بالدعوة له ، وأحق أن يجعل كيدهم في نحورهم وما زال آخذاً بيمينه، حتى غنى له الزمن ، وصفق له الدهر" .
وعقب هجرة النبي  أسلم عدد من خيار علماء اليهود في المدينة، صدَّقوا بمحمدٍ  واتبعوه بعد أن عرفوه بنعته الوارد في كتبهم، منهم الحبر اليهودي العلامة: عبد الله بن سلام – رضوان الله تعالى عليه - .
تاسعًا: الفتح وانتشار الدعوة:
واستطاع النبي  بعد حوالي 19 سنة – كلها معاناة وإيذاء من المشركين - أن ينتزع من قريش صلحاً سمِّي صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة (في مارس628 م) ، ليتفرغ للدعوة ونشر الرسالة، فبعث رسلاً سفراء من أصحابه، وكتب معهم كتباً إلى الزعماء والملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام، في رسائل وخطابات رفيعة المستوى، سامقة الذوق ..
ونجح النبي  في دعوته على نطاق واسع ، وانتشر الإسلام في الجزيرة العربية كالنار في الهشيم، وزالت الجاهلية بتقاليدها المتخلفة، وعقائدها الفاسدة ..
وفتح رسول الله خيبر معقل الدس والمؤمرات في المحرم سنة 7 هـ ( مايو 628).
ثم فتح مكة في رمضان 8هـ( يناير 630 م) اثر نقض قريش للعهد، وأصدر عفواً عاماً عنهم .. وأعلن الرسول  الأمان العام لكل الناس، فلا طوارىء ولا تعسف ، فقال  : "من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ! ومن أغلق بابه عليه فهو آمن! ومن دخل المسجد فهو آمن !" . وعهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ..
" فما إن أُقر السلام؛ حتى انتشر الإسلام في كل ناحية، بخطى واسعة، لا..! لقد بدا وكأن قوة غير منظورة كانت تعمل على إدخال الناس في دين الله أفواجاً بعد أفواج " ..
وحُطمت الأصنام، وسقطت رموز الوثنية، وتوحدت الشعوب والقبائل المتناحرة، وخرج العربي من عبادة العباد إلى عبادة الخالق رب العباد، وألغيت الطبقيات والعصبيات والنعرات الجاهلية ، وانتشر العدل والسلم والأمن ...‏
وأصبحت دولة الإسلام مهيبة قوية أمام قوى الفرس والرومان ..
ولما اعتدى عامل الرومان شرحبيل بن عمرو الغساني وقَتل سفير النبي  الصحابي السفير/ الحارث بن عمير الأزدي، عندما أرسله النبي برسالة دعوية إلى عظيم بصرى في الشام، إذا بالنبي يعلن التعبئة العامة، ويغزو حدود الرومان الجنوبية، في سرية مؤتة( جمادى الأولى 8هـ/ سبتمبر 629 م )، وغزوة تبوك (رجب 9 هـ / أكتوبر630) التي ملئت قلب النظام الروماني بالفزع والهلع، من هذا القطب الدولي الثالث الناشىء المتمثل في دولة الإسلام..
عاشرًا: حجة الوداع، ووفاة النبي
بعد أن نجح النبي  في دعوته، وقويت دولة الإسلام، واستتب الأمن في الجزيرة العربية، ودخل الناس في الإسلام أفواجاً، وشاء اللّه أن يري رسوله  ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ثلاثة وعشرين عاماً، حافلة بالجهد والعمل والبلاء ، وأحس رسول الله  بدنو أجله، ولذلك قصد نبي الله  الحج، ليجتمع بالأمة ، فيأخذوا منه أصول الإسلام وكلياته، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة .
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة (يوم عرفة ) في العام العاشر من الهجرة (6مارس632 م) وقد اجتمع حوله مئة ألف وأربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى خطبة بلغية جامعة ‏ تضمنت أول إعلانٍ عامٍ لحقوق الإنسان عرفته البشرية، أعلن فيها الإخاء والمساواة والعدالة وحرمة الدماء والأموال وحقوق المرأة، ووضع تقاليد الجاهلية الفاسدة، فألغى دماء الجاهلية، والمعاملات الربوية والنعرات الجاهلية.
وأهدى للبشرية أعظم وأحكم وأجمل شريعة في التاريخ، تلك الشريعة التي تحدث عنها العلامة"شبرل" - مبديًا فخره واعتزازه بالنبي محمد - قائلاً:
" إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد[]إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً؛ أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون ؛ لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة " .
وعاد رسول الله  إلى المدينة، وسرعان ما أحس بالمرض ودنو الأجل.
وتُوفي رسول الله  يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام 11هـ(6يونيو632)وخلفه في حكم الدولة وزيره وصديقه الجليل أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب – رضي الله عنهم جميعاً –.
هذه لمحة سريعة جداً من سيرة صاحب المعالي محمد ، وهي غيض من فيض، كان لا بدَّ منها بين يدي الدراسة، ولتكون تميهداً للحديث عن صفات النبي وشمائله وأخلاقه وخصائصه الدالة على الرحمة.
المبحث الثاني
محمد  رَحْمَة للعالمين في أدبيات الغرب
المطلب الأول:شهادة إنجيل برنابا:
شهدت أدبيات الغرب وأشادت برحمة محمد  للبشر، ويأتي على رأس هذه الأدبيات إنجيل برنابا الذي بشر برحمة محمد  التي ينالها العالم عند قدومه من أرض الجنوب ( الحجاز ).
فيقول إنجيل برنابا : "سيأتي مسيا [أي محمد ] المرسل من الله لكل العالم،.. وحينئذ يسجد لله في كل العالم، وتنال الرحمة.." .
يقول القـس إبراهيم فيلـوبـوس :
" كلمة إنجيل كلمة يونانية تعني بشارة أو بشرى، ولعل هذا هو الذي نستفيده من سيرة سيدنا عيسى عليه السلام، أنه كان بشرى من الله للرحمة، وبشرى بتبشيره عن المسيا الذي سيأتي للعالمين هدى ورحمة، ألا وهو محمد " .
وجاء في الفصل السادس والتسعين – في إنجيل برنابا - من محاورة بين المسيح ورئيس كهنة اليهود، أن الكاهن سأله عن نفسه فأجاب بذكر اسمه واسم أمه، وبأنه بشر ميت ثم قال الإنجيل ما نصه:
" أجاب الكاهن : إنه مكتوب في كتاب موسى أن إلهنا َسيرسل لنا مسيّا الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله ، وسيأتي للعالم برحمة الله. لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق هل أنت مسيا الله الذي ننتظره؟ . وأجاب يسوع: حقاً أن الله وعد هكذا ولكني لست هو، لأنه خلق قبلي وسيأتي بعدي. أجاب الكاهن : إننا نعتقد من كلامك وآياتك على كل حال أنك نبي وقدوس الله . لذلك أرجوك باسم اليهودية كلها وإسرائيل كلها أن تفيدنا حباً في الله بأية كيفية سيأتي مسيا؟ فأجاب يسوع : لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي. أني لست مسيا الذي تنتظره كل قبائل الأرض كما وعد الله أبانا إبراهيم . قائلاً : بنسلك أبارك كل قبائل الأرض . ولكن عندما يأخذني الله من العالم سيثير الشيطان مرة أخرى لهذه الفتنة المعونة بأن يحمل عادم التقوى على الاعتقاد بأني الله وابن الله . فيتنجس بسبب هذا كلامي وتعليمي حتى لا يكاد يبقى ثلاثون مؤمناً . حينئذٍ يرحم الله العالم ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله . الذي سيأتي من الجنوب بقوة وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام . وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به . وسيكون من يؤمن بكلامه مباركاً ." .

هكذا يتحدث إنجيل برنابا عن محمد  وأنه "سيأتي للعالم برحمة الله"، بل لن يأتي محمد – حسب إنجيل برنابا – إلا حين " يرحم الله العالم"، فيبعثه الله من الجنوب حيث أرض الحجاز ويهدم الأصنام في فتح مكة في العام الثامن الهجري، وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به، فيمكنَّ لهم الله في الأرض، ويستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم .
المطلب الثاني: شهادة الراهب النصراني بحيرا :
إن أول جملة قالها الراهب النصراني الشهير "بحيرا "حين رأى محمداً  في رحلته الأولى إلى الشام مع أبي طالب - :
" هذا سيد العالمين ! هذا رسول رب العالمين ! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين !" .
وإن في ذلك لدلالة بينة على ما كان يتدارسه الرهبان والقساوسة في الأناجيل، حيث صفة الرحمة التي سجلتها الكتب السماوية السابقة في محمد.
المطلب الثالث: شهادة العلامة توماس كارلايل
في كلمات تنم عن عميق الحب وعلو التقدير، يتحدث توماس كارلايل ( 1795 – 1881م ) الكاتب الإنجليزي المعروف، في إعجاب بصفات الرحمة في شخصية محمد  فيقول:
".. لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير [] ... العظيم النفس، المملوء رحمة، وخيرًا، وحنانًا، وبرًا، وحكمة، وحجى، ونهى.. أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. وكيف وتلك نفس صامتة كبيرة ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين ؟ فبينما نرى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة ويسيرون طبق اعتبارات باطلة. إذ ترى محمدًا [] لم يرض أن يلتفع بالأكاذيب والأباطيل. لقد كان منفردًا بنفسه العظيمة .." .
المطلب الرابع : شهادة المفكر البريطاني لين بول:
لا يُخفي "لين بول" ( 1652 _17 19 ) تأثره بمحمد، فيتحدث في مؤلفه : "رسالة في تاريخ العرب " عن سجايا خلق الرحمة في شخصية محمد في إعجاب جم قائلاً :
"إن محمداً [] كان يتصف بكثير من الصفات كاللطف والشجاعة ، وكرم الأخلاق ، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات في نفسه ، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميل أو هوى، كيف لا، وقد احتمل محمد [] عداء أهله وعشرته سنوات بصبر وجلد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد مصافحه حتى لو كان يصافح طفلاً ! وأنه لم يمر بجماعة يوماً من الأيام رجالاً كانوا أم أطفالاً دون أن يسلم عليهم ، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ، وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعيها ، و تجذب القلوب إلى صاحبها جذباً !!" .
المطلب الخامس : شهادة السير وليم موير:
وأما الباحث وليم موير فيتحدث في مؤلفه : " حياه محمد " عن أخلاقيات النبي  في تقدير بالغ لرقة النبي  ورفقه ورأفته،ولين عريكته ، فيقول :
"ومن صفات محمد[] الجليلة الجديرة بالذكر ، والحَرية بالتنويه : الرقة و الاحترام ، اللذان كان يعامل بهما أصحابه ، حتى أقلهم شأناً ، فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت في نفسه ، ورسخت محبته عند كل من حوله ، وكان يكره أن يقول لا ، فإن لم يمكنه أن يجيب الطالب على سؤاله ، فضل السكوت على الجواب ، ولقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها ، وقالت عائشة[رض الله عنها]، :وكان إذا ساءه شيء تبينا ذلك في أسارير وجهه ، ولم يمس أحداً بسوء الا في سبيل الله ، ويُؤثر عنه أنه كان لا يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيراً ، ولا يرفض هدية مهداة إليه مهما كانت صغيره، وإذا جلس مع أحد أياً كان لم يرفع نحوه ركبته تشامخاً وكبراً" .
المطلب السادس: شهادة القس السابق دُرّاني
يقول العلامة الإنجليزي دُرّاني ، مشيراً إلى خلق الرحمة في النبي  :
"أستطيع أن أقول بكل قوة أنه لا يوجد مسلم جديد واحد لا يحمل في نفسه العرفان بالجميل لسيدنا محمد [] لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام.. فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا حتى نقتفي أثره[]!" ..
المطلب السابع : شهادة الكاتب الإسباني "جان ليك":
يقول الدكتور جان ليك في كتابه ( العرب) :
"وحياة محمد[] التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله .. بألفاظ قليلة ، بين بها سبب بعث النبي محمد[]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ، ولكل محتاج إلى المساعدة ، كان محمد[]رحمة حقيقة لليتامى، والفقراء، وابن السبيل، والمنكوبين، والضعفاء، والعمال، وأصحاب الكد والعناء ، وإني بلهفة وشوق.. أصلى عليه وعلى أتباعه ! " .
المطلب الثامن : شهادة العلامة واشنجتون ايرفنج.
يقول واشنجتون ايرفنج، في كتابه (حياة محمد)، مدللاً على خلق الرحمة في شخصية النبي  بموقفه في فتح مكة وهو القائد المنتصر :
"كانت تصرفات الرسول [] في [أعقاب فتح] مكة[رمضان 8هـ/ يناير 630 م] تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" .
المطلب التاسع : شهادة الباحث الفرنسي جوستاف لوبون :
يتحدث جوستاف لوبون في كتابه (الدين والحياة)، عن علو أخلاق النبي محمد  لاسيما رحمته ورقة قلبه، فيقول :
"لقد كان محمد []ذا أخلاق عالية، وحكمة، ورقة قلب، ورأفة، ورحمة، وصدق وأمانة" .
وهذه الأخلاق هي التي جذبت آراء المنصفين لنبي الإسلام ، وعدَّتُه من أعاظم رجالات التاريخ ..
فيقول جوستاف لوبون في موضع آخر :
"إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم؛ كان محمد [] من أعظم من عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب ينصفون محمدًا [] ، مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله !" .
المطلب العاشر: شهادة المؤرخ الشهير جيمس متشنر :
ويتحدث جيمس متشنر عن بعض صور الرحمة في شخص النبي ، مشيراً إلى بساطة النبي  ، وإنسانيته، ونبله، وحزمه، فيقول متشنر :
"إن محمداً [] هذا الرجل الملهم ،
الذي أقام الإسلام ،
ولد في قبيلة عربية تعبد الأصنام،
ولد يتيماً محباً للفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى والأرقاء والمستضعفين.
وقد أحدث محمد[] بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفى الشرق كله .
فقد حطم الأصنام بيديه ،
وأقام ديناً يدعو إلى الله وحده ،
ورفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء ،
و نادى بالعدالة الاجتماعية وقد عرض عليه في آخر أيامه أن يكون حاكماً بأمره ، أو قديساً ،
ولكنه أصر على أنه ليس إلا عبداً من عباد الله أرسله إلى العالم منذراً وبشيراً" !

المبحث الثالث
خصائص رحمته 
المطلب الأول: ربانية الرحمة:
فمن أسماء الله تبارك وتعالى الرحمن والرحيم ..
وقد افتتح سور القرآن، ببسم الله الرحمن الرحيم ..
وقال الله تعالى  نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ[ الحجر: الآيتان 49 ، 50]
وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً ! فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ،وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ" .
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  َ يقُولُ :" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ؛ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي،غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" .
وقد ضرب النبي  مثالاً على رحمة الله للعبد :
فقد رأى امرأة متلهفة على ولدها، تبحث عنه، فلما رأته، تلقفته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي  لأصحابه : "أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟". قالوا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها !"
وقد اتصف وتخلَّق محمدٌ بخلق ربه – سبحانه وتعالى – من أخلاق الرحمة والعفو ، حتى زكاه ربه بها وأثنى عليه فقال:  قَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:الآية 128]

المطلب الثاني : دعوية الرحمة :
قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ  [الأنبياء :الآية 107 ] .
هكذا قالها الله بإسلوب القصر ، يعني النفي ثم الاستثناء، أي أنت لست إلا رحمة لست شيئا آخر غير الرحمة.. كما يقول النبي  "أيها الناس .. إنما أنا رحمة مهداه" .
فكما أن دعوة محمد  للعالمين؛ فهذه الرسالة رحمة للعالمين جميعاً .. وهذا القرآن – الذي جاء فيه لفظ رحم ومشتقاته ثلاثمائة مرة - رحمة للعالمين جميعاً .. رحمة في ذاته، ورحمة في تعاليمه، ورحمة في أحكامه ..
وفي ذلك يقول واشنجتون ايرفنج : "يدعو القرآن إلى الرحمة والصفاء وإلى مذاهب أخلاقية سامية" .. كما أن القرآن - في رأي جاك ريسلر - " يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط ما بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام، والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات. إنه يسعى على الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة" .
وأوامره كما تقول "إلس ليختنستادتر" "هي أوامر العدل للجميع، والرحمة بالضعيف والرفق والإحسان. وتلك هي الوسائل التي يضعها الله في يد الإنسان لتحقيق نجاته، فهو ثم مسؤول عن أعماله ومسؤول كذلك عن مصيره." .
وهو كتاب هداية عظيم للبشرية، وهو أبلغ منهج للهداية ..
يقول نصري سلهب :
".. إن محمدًا [r] كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. فإذا بهذا الأمي يهدي إلى الإنسانية أبلغ أثر مكتوب حلمت به الإنسانية منذ كانت الإنسانية- ذاك كان القرآن الكريم، الكتاب الذي أنزله الله على رسوله هدى للمتقين ." .
ولا شك أن أخلاق الرحمة هي عامل الجذب الإساس لدخول الناس في الإسلام، أو كما يقول يول : " الإحسان والرحمة والنزعة الإنسانية الخيرة العريقة – هذه وغيرها من العوامل كانت بالنسبة لي أعظم دليل على صدق هذا الدين" .. الأمر الذي يعبر عنه "بشير تشاد بقوله" : " إن الإسلام هو دين الرحمة والحب والتعاطف الإنساني" .

المطلب الثالث : عالمية الرحمة :
كذلك نستفيد من قول الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107 ] ، أن رحمة النبي رحمة شاملة وعامة وعالمية، وليست عنصرية تقوم على الأعراق أو الألوان أو المذاهب .. بل رحمة لكل البشر، رحمة عامة ومجردة للعالمين جميعاً، ليست رحمة للعرب دون العجم أو للمسلمين دون غيرهم، أو للشرق دون الغرب .. بل هي رحمة للعالمين..
وفي ذلك تقول لورافيشيا فاغليري :"إن الآية القرآنية التي تشير إلى عالمية الإسلام بوصفه الدين الذي أنزله الله على نبيه [] (رحمة للعالمين)، هي نداء مباشر للعالم كله. وهذا دليل ساطع على أن محمدًا [] شعر في يقين كلّي أن رسالته مقدر لها أن تعدو حدود الأمة العربية وأن عليه أن يبلغ (الكلمة) الجديدة إلى شعوب تنتسب إلى أجناس مختلفة، وتتكلم لغات مختلفة" .
وعن أبي موسى : أنه سمع النبي  يقول: "لن تؤمنوا حتى تراحموا !".
قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة..رحمة العامة!" ..
فهي الرحمة بالعامة، أي بعامة البشر، ويجعل النبي  ذلك من شروط الإيمان، فلا يعد الرجل مؤمنًا حتى يرحم الناس بصفة عامة .
كما في حديث أنس بن مالك ، أن رسول الله  قال: "والذي نفسي بيده ، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم" ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا يرحم ، قال :" ليس برحمة أحدكم صاحبه .. يرحم الناس كافة " .
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قال :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :" الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ " ..

فالرحمة بأهل الأرض تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فالمؤمن يرحمه ويتقى الله فيه، ويعلم أنه مسؤول أمام الله عن هذه العجماوات .
كما أن الرحمة بالخلق وأهل الأرض شرطٌ لنيل رحمة الخالق، بحسب عبارة الحديث: " ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ".
ومن ثم كانت رحمته إنسانية عامة، شملت المسلم وغير المسلم، والمؤمن والمنافق، والعربي وغير العربي، والشرقي وغير الشرقي ، والأفريقي والأوربي، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والإنسان وغير الإنسان، والحيوان والطير والجماد. فهو يعتبر البشرية جميعها أسرة واحدة، تنتمي إلى رب واحد وإلى أب واحد وإلى أرض واحدة ..كما قال النبي  :
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى" .
ومن ثم كان رسول الله  رحمة لكل الأمم ، ولأمته خاصة، مهتمًا بأمرها، يخشى عليها من عذاب الله يوم القيامة، وقد كانت مشاعره جياشة في هذه المسألة، فذات مرة قرأ قول الله تعالى في القرآن على لسان عيسى : ‏ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة: 118]، ففاض ينبوع الرحمة، واهتز قلب النبي  يناجي ربه في خشوع : " اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى..!!".. وسرعان ما نزل الأمين جبريل مهدئًا من فزع محمد  على أمته، ومبلغًا قائًلا: إن الله يقول لك : " إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ" .
وكان رحمة كذلك لغير المسلمين، بل وأشر الخلق ، فكان رَسُولُ اللَّهِ  يمارس هذه الرحمة مع شرار الناس، حتى يظن الفاجر أنه بخير!
وتأمل قول عمرو بن العاص- رضي الله عنه- :
"كان رسول الله  يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك ، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليَّ حتى ظننت أني خير " .
واستفاد غير المسلمين من رحمة النبي ؛ ولأن الله تعالى كان يهلك من قبل الأمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها للأنبياء هلاكاً جماعياًّ، بينما رفع الله تعالى بعد بعثة محمد هذا الهلاك الجماعي، فاستفاد الناس من خلاصهم من مثل هذا العذاب، فكان ذلك نعمة دنيوية بالنسبة للكفار. يخاطب الله تعالى نبيه في هذا الخصوص فيقول:  وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ  [الأنفال: 33 ]
وتأمل قدر النبي  ومنزلته عند الله: أي طالما أنت تعيش بينهم فلن يعذبهم الله. طالما أن ذكرك موجود، وتلهج به الألسنة، وطالما أن الناس يتبعون طريقك فلن يعذبهم الله ولن يهلكهم .
وكان رحمة للمنافقين أيضًا. فبسبب هذه الرحمة الواسعة لم يرَ المنافقون العذاب في الحياة الدنيا. فقد حضروا إلى المسجد واختلطوا بالمسلمين واستفادوا من كل الحقوق التي تمتع بها المسلمون. ولم يقم رسول الله  بفضحهم وإفشاء أسرار نفاقهم أبداً مع أنه كان يعرف دخائل نفوسهم ونفاقهم، حتى إنه أخبر حُذيفة رضي الله عنه بذلك لذا، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراقب حُذيفة، فإن رآه لا يصلي على جنازة لم يصلها هو كذلك ، دون إحداث ضجة أو تشهير بالمنافق الميت .
ومع ذلك فلم يهتك الإسلام سرهم، فبقوا بين المؤمنين، وانقلب كفرهم المطلق إلى ريبة وشك على الأقل، فلم يحرموا من لذائذ الدنيا؛ لأن الإنسان الذي يعتقد أنه سيفنى ويذهب إلى العدم لا يمكن أن يهنأ في عيشه، ولكن إن انقلب كفره إلى شك وشبهة فإنه يقول في نفسه: "ربما توجد هناك حياة أخروية"، عندئذ لن تكفهر حياته تمام الاكفهرار. ومن هذا المنطلق كان رسول الله  رحمة لهم بهذا المعنى .
المطلب الرابع : عبقرية الرحمة :
لقد كانت رحمة النبي  من عوامل نجاحه التي استعملها واستفاد منها في دعوته، قال الله تعالى :
 فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك [آل عمران159:]
يعني : لولا رحمتك يامحمد لانفضوا من حولك رافضين دعوتك ..
كما إن رحمته من دلائل عبقريته وفطنته، بمعنى آخر كانت رحمته تشكل بُعدًا آخر من أبعاد عبقريته وفطنته، وكانت هذه الرحمة من عوامل نجاحه التي استعملها واستغلها، وجعل منها شِبَاك رحمة لصيد القلوب ، واتخذ رحمته وسيلة لفتح القلوب السوداء، وتحريك المشاعر الصماء، ولا يعني هذا أنه كان يتصنع الرحمة، ويتخذها ذريعة للوصول إلى مآرب غير شرعية، بل كانت سمته الطبيعي وفطرته التي جبله الله عليها .
وشتان ما بين رحمة خالصة لوجه الله، ورحمة خالصة من أجل منفعة شخصية وضيعة، وشتان بين رحمة من أجل رسالة سامية، ورحمة من أجل زعامة فانية .
"هكذا كانت "الرحمة" في يد رسول الله  مفتاحًا سحريًّا. وبهذا المفتاح فتح مغاليق أقفال صدئة لم يكن أحد يتوقع فتحها بأي مفتاح، وأشعل شعلة الإيمان في القلوب.. أجل، لقد سلّم هذا المفتاح الذهبي إلى محمد المصطفى  ؛ لأنه كان أليق الناس به، والله تعالى دائمًا يسلم الأمانة لمن هو أهل لها." .
المطلب الخامس : وسطية الرحمة:
ومن خصائص رحمة النبي  أيضاً أنها رحمة متزنة وعادلة، فهو رحيم دون ضعف، متواضع بغير ذلة، محاربٌ لا يغدر، سياسيٌّ لا يكذب، يستخدم الحيلة في الحرب ولكن لا ينقض العهود والمواثيق، آمن خصومه بصدقه وأمانته، يجمع بين التوكل والتدبير، وبين العبادة والعمل، وبين الرحمة والحرب ..
وهذا وهو الحال في أخلاق محمد  جميعها، فهي تعمل ضمن منظومة متناسقة متناغمة، تتشابك جميعها لتأدية أغراضها، فلا تتوسع صفة أو تقوى على حساب أخرى، ولا تعمل إحداها ضد الصفة التي تقابلها. كالقرآن والسيف في دعوة النبي ، فالقرآن – في يدي النبي- كتاب هداية لمن أراد الهدى، والسيف معه  وسيلة لردع من يعتدي عليه.
ويشير "جورج حنا" إلى هذا التوازن في شخصية النبي ، فيقول:
" إنه []لم يرض بأن يحوّل خدّه الأيسر لمن يضربه على خدّه الأيمن.. بل مشى في طريقه غير هيّاب، في يده الواحدة رسالة هداية، يهدي بها من سالموه، وفي يده الثانية سيف يحارب به من يحاربوه. لقد آمن به نفر قليل في بداية الدعوة، وكان نصيب هذا النفر مثل نصيبه من الاضطهاد والتكفير.. كان هؤلاء باكورة الديانة الإسلامية، والشعلة التي انطلقت منها رسالة محمد[] "
ومظهرٌ آخر للتوازن، هو ثبات صفة الرحمة فيه ، فهر رحيم في كل أحواله وأطواره ومواقفه، فالنبي  رحيم قبل البعثة وبعد البعثة، قبل الفتح وبعد الفتح، رحيم في النصر والهزيمة، رحيم في عسره ويسره، رحيم في سفره وحضره ... الخ

المطلب السادس : عملية الرحمة:
ومن خصائص رحمة النبي  أيضاً أنها ليست مجرد تعاليم نظرية، أو تطلعات فلسفية،أو كما يقال حبراً على ورق، بل شأنها كشأن سائر خصاله وأخلاقه التي ترجمها إلى منهج حياة عملية، وواقع حي عاشه المسلمون في العهود الإسلامية العريقة ..
فرحمة النبي محمد  رحمة تطبيقية يمارسها في حياته اليومية، كما تقول عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلقه، فقالت" كان خلقه القرآن " ، فقد خرج من تعاليم القرآن المكتوبة إلى واقع الحياة بتطبيق هذه التعاليم وممارستها سلوكاً عمليًا .

الفصل الثاني
رحمته للعالمين في مجال التنوير والحضارة

المبحث الأول : التنوير والتوحيد
المبحث الثاني : التحضر والرقي
المبحث الثالث : التسامح الديني
المبحث الرابع : رعاية العلم والمعرفة
المبحث الخامس: الخطاب التربوي
المبحث السادس : خدمة الإنسانية

المبحث الأول
التوحيد والتوير

المطلب الأول : محمد  تنويرياً عملاقًا:
يقول رودي بارت: "كان من بين ممثلي حركة التنوير من رأوا في النبي العربي [] أدلة الله، ومشرعًا حكيمًا، ورسولاً للفضيلة، وناطقًا بكلمة الدين الطبيعي الفطري، مبشرًا به"
لقد كان النبي  في رأي علماء الغرب - الذين درسوا سيرته - تنويرياً عملاقاً، وتوحيديًا كبيرًا، فهم يرون أن محمداً  يحمل كتاباً نورانياً لم يعرف التاريخ كتاباً مثله في الإحكام وروعة البيان ومعالجته لمشكلات الإنسانية..
وإذا كان علماء الغرب قد أطلقوا صفة التنوير على النبي  ، فالحق أن القرآن الكريم سبقهم وأطلقها عليه ، وهذه الصفة في القرآن تعبر في الغالب عن التوحيد، إضافة إلى العلم والحضارة والمدنية :
قال الله تعالى في ذلك :  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً  [الأحزاب:45، 46] .
وقال :  يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) [المائدة: 15]
"يجلو الظلمات ، ويكشف الشبهات ، وينير الطريق ، نوراً هادئاً هادياً كالسراج المنير في الظلمات.وهكذا كان رسول الله  وما جاء به من النور. جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود ، ولعلاقة الوجود بالخالق ، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه ، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله ، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه؛ وللمنشأ والمصير ، والهدف والغاية ، والطريق والوسيلة" . .
و"أي الناس أولى بنفي الكيد عن سيرته من أبي القاسم [] ؛ الذي حول الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان، ولم يفد من جهاده لشخصه أو آله شيئًا مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام" .
يقول المستشرق الأيرلندي المستر هربرت وايل " :
"بعد ستمائة سنة من ظهور المسيح ظهر محمد [] فأزال كل الأوهام ، وحرم عبادة الأوهام ، وكان يلقبه الناس بالأمين ، لما كان عليه من الصدق والأمانة وهو الذي أرشد أهل الضلال إلى الصراط المستقيم " .
فبعدما كانت عبادة الحجارة والأشخاص والنار والبهائم هي العبادة السائدة المسيطرة على الشعوب، أصبحت عبادة الله ـ تبارك وتعالى ـ هي العبادة السائدة وأكثر انتشاراً، وبذلك يكون النبي  قد أعاد دين إبراهيم وموسى وعيسى ـ ابن مريم ـ عليهم السلام-، إلى الحياة مرة أخرى، بعدما حُرف الدين الحق (دين الأنبياء) من قبل الأنظمة الغابرة المستبدة، التي استعبدت الشعوب،وأغرقته في الظلام والجهل..
إن عظمة النبي  البارزة لكل متبصر ، تكمن في أنه كان حامل رسالة سماوية تنويرية، عنوانها لا إله إلا الله ، تهدف أساساً إلى إصلاح حياة البشرية عامة، تحريرها من عبادة الأوثان والشيطان .. ومن ثم نقلها من البربرية والوثنية إلى الحضارة المستنيرة..
جاء النبي  بشريعة خلقت جيلاً فريداً ضرب المثل الأعلى في النبوغ العقدي والفكري..
الأمر الذي دفع علماء الغرب إلى النظر للإسلام على أنه دين تنويري، أو بعبارة الدكتور مكسيم رودنس "دين عقلاني بعيد كل البعد عن العقائد المسيحية المخالفة للعقل.. ثم إنه وفّق بين الدعوة إلى حياة أخلاقية وبين حاجات الجسد والحواس والحياة في المجتمع. وخلاصة القول فهو كدين كان قريبًا جدًا من الدين الطبيعي الذي كان يعتقد به معظم رجال عصر التنوير.." ..
ومن ثم يقول "ناجيمو راموني" :"إن الإسلام هو أعظم الأديان ملاءمة لجيلنا المتحضر ولكل جيل. فالإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا بحيث تتحول الحياة إلى طريقين مختلفين تمامًا، وهذا يشكل خلاصة الأزمة المعاصرة للإنسان. لقد اعتنقت الإسلام لأنه دين طبقات الناس جميعًا، كبيرها وصغيرها، غنيها وفقيرها، دين الأحرار والعبيد، والسادة والمسودين" .
ولذلك يقول الأستاذ القانوني الإنكليزي المستر ولز : " كل شريعة لا تسير مع المدنية في طور من أطوارها فاضرب بها عرض الحائط ولا تبال بها ! لأن الشريعة التي لا تسير مع المدنية جنبًا إلى جنب هي شر مستطير على أصحابها، تجرهم إلى الهلاك، وإن الشريعة التي وجدتُها تسير مع المدنية، أنى سارت هي الشريعة الإسلامية" ..
ويدلل على ذلك قائلاً: " وإذا أراد إنسان أن يعرف شيئًا من هذا؛ فليقرأ القرآن وما به من نظريات علمية وقوانين وأنظمة لربط المجتمع، فهو كتاب ديني، علمي، اجتماعي، تهذيبي، خُلقي، تاريخي، وكثير من أنظمته وقوانينيه تستعمل حتى في وقتنا الحالي، وستبقى مستعمله حتى قيام الساعة، وهل في استطاعة إنسان أن يأتي بدور من الأدوار كانت فيه الشريعة الإسلامية مغايرة للمدنية والتقدم ؟ ! " .
إن الشريعة الإسلامية كانت خير هدية من الله للعالم المتحضر، على حد قول جوزيف شاخت فهي" تختلف اختلافًا واضحًا عن جميع أشكال القانون، إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديرًا كافيًا.. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."
ويبين "ديبورا بوتر" أن الإسلام جاء بعصر التنوير الحقيقي في المجالات الحياتية المختلفة، فيقول:
"لقد جاء الإسلام بعصر التنوير الحقيقي في المجالات العلمية والثقافية والفنية بصورة لم يسبق لها مثيل في عظمتها إلى يوم الناس هذا.. فبين عام 700 و1400 بعد الميلاد، وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في سبات عميق في عصور الظلام المسماة بالعصور الوسطى، كان العلماء المسلمون قد توصلوا إلى المنهج التجريبي في البحث الذي حلّ محل المنهج المنطقي العقيم الذي كان سائدًا عند الإغريق قبل ذلك.. لقد أنتجت هذه الحقبة من الزمان للدنيا رجالاً عظماء.. ساهموا مساهمة عظيمة في تشييد صرح الحضارة الإنسانية وكانوا يستلهمون هديهم من القرآن الكريم في جميع نشاطاتهم" .
المطلب الثاني : نضاله في إخراج الناس من الظلمات إلى النور:
دخل الرسول  في صراع ونضال ضد أصحاب عصر الظلام، والنزعات الرجعية، والموروثات المتخلفة التي عفى عليها الزمن، كما تبين لورافيشيا فاغليري بقولها : "دعا الرسول العربي [] بصوت ملهم باتصال عميق بربه.. دعا عبدة الأوثان وأتباع نصرانية ويهودية محرّفتين على أصفى عقيدة توحيدية. وارتضى أن يخوض صراعًا مكشوفًا مع بعض نزعات البشر الرجعية التي تقود المرء إلى أن يشرك بالخالق آلهة أخرى.." .

ولقد بذل النبي  مجهوداً ضخماً في سبيل تنوير العرب ودحر الوثنية.. يبّين ذلك المؤرخ الأمريكي واشنجتون إيرفنج بقوله :
"لقي الرسول [] ... كثيرًا من العناء، وبذل عدة تضحيات. فقد شك الكثير في صدق دعوته، وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحًا كبيرًا، وتعرض خلال إبلاغ الوحي إلى الإهانات والاعتداءات والاضطهادات، بل اضطر إلى أن يترك وطنه ويبحث عن مكان يهاجر إليه هنا وهناك، وتخلى عن كل متع الحياة وعن السعي وراء الثراء من أجل نشر العقيدة. " .
ويؤكد ذلك هنري دي كاستري (1927-1850) بقوله : ".. ولقد نعلم أن محمدًا []مرّ بمتاعب كثيرة وقاسى آلامًا نفسية كبرى قبل أن يخبر برسالته، فقد خلقه الله ذا نفس تمحّضت للدين، ومن أجل ذلك احتاج إلى العزلة عن الناس لكي يهرب من عبادة الأوثان، ومذهب تعدد الآلهة الذي ابتدعه المسيحيون، وكان بغضهما متمكنًا من قلبه، وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة في جسمه [] ، ولعمري ! فيم كان يفكر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحدة التخيّل وقوة الإدراك.. إلا أن يقول مرارًا ويعيد تكرارًا هذه الكلمات "الله أحد الله أحد". كلمات رددها المسلمون أجمعون من بعده وغاب عنا معشر المسيحيين مغزاها لبعدنا عن فكرة التوحيد.." .
وتقول الكاتبة الإنكليزية اللادي ايفلين كوبولد :
"كان العرب قبل محمد [] أمة لا شأن لها ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلما جاء محمد [] بعث هذه الأمة بعثًا جديدًا يصح أن يكون أقرب إلى المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً... لقد استطاع النبي [] القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام وقبول الوحدانية الإلهية.. لقد وفّق إلى خلق العرب خلقًا جديدًا ونقلهم من الظلمات إلى النور" .

المطلب الثالث : نجاح حركة التنوير :
وإن المبهر في سيرة النبي  أنه هدّم الأصنام بأيد من صنعوها وعبدوها .. وهذا لاشك من دلائل نجاح حركة التنوير التي قادها النبي 
فهدمها سدنتها أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص و سعد بن زيد بن الأشهلي..
وما أروعهم !
بعدما قاتلوا في سبيل هذه الأوثان والحجارة ..
هُم هُم الذين يهدمونها بأيديهم، ويحطمونها بسواعدهم .. !!
ولا شك أن هذا أوقع في قلوب الناس، لجذبهم إلى طريق التوحيد..
فلما دخل النبي  مكة (في رمضان 8هـ/يناير 630 م) في يوم فتحها، متجهاً إلى البيت، وحوله ثلاثمائة وستون صنماً ، جعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده ، وهو يقول:
" جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد" .
وكان في جوف الكعبة أيضا أصناماً فأبى أن يدخل وفيها هذه الأوثان ، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام ، فقال النبي 
" قاتلهم الله ! لقد علموا ما استقسما بها قط ".. ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت .
أما عن الأصنام والأوثان المنتشرة في الجزيرة العربية، فقد أرسل إليها رجاله، ليهدموها واحداً تلو الآخر، ليسدل الستار بذلك على عصر الظلام..
فإليك هذه المشاهد :
1ـ لما اطمأن رسول الله  بعد الفتح؛ بعث خالد بن الوليد إلى صنم العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة 8 هـ(يناير 630 م ) ليهدمها وكانت بنخلة – بين مكة والطائف -، وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم‏.‏ وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها‏ .‏
2ـ وبعث النبي  عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى الصنم سواع ليهدمه وهو صنم لهذيل برهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن‏:‏ ما تريد‏؟‏ قال‏:‏ أمرني رسول الله أن أهدمه قال‏:‏ لا تقدر على ذلك قال‏:‏ لم ‏؟‏ قال تُمنع قال‏:‏ حتى الآن أنت على الباطل‏؟‏ ويحك فهل يسمع أو يبصر‏؟‏ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئًا، ثم قال للسادن‏:‏ كيف رأيت‏؟‏ قال‏:‏ أسلمت لله‏.‏!! .
3ـ وفي الشهر نفسه بعث  القائد سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى الصنم مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها‏:‏ ما تريد‏؟‏ قال‏:‏ هدم مناة، قال‏:‏ أنت وذاك‏
أرأيت كيف تحول حال هؤلاء الصحابة من أناس يقدسون الأصنام والأوثان إلى رجال موحدين، وقادة فاتحين، وعلماء ومفكرين .. ؟ !
وهكذا كان النبي كما وصفه جورج حنا بإنه " كان ثائرًا، عندما أبى أن يماشي أهل الصحراء في عبادة الأصنام وفي عاداتهم الهمجية وفي مجتمعهم البربري. فأضرمها حربًا لا هوادة فيها على جاهلية المشركين وأسيادهم وآلهتهم. فكفره قومه واضطهدوه وأضمروا له الموت. فهاجر تحت جنح الليل مع نفر من أتباعه، وما تخلى عن النضال في نشر دعوته، وما أحجم عن تجريد السيف من أجلها. فأخرج من جاهلية الصحراء عقيدة دينية واجتماعية تجمع بين مئات الملايين من البشر في أقطار المعمورة"
وهكذا تتجلى أهم مظاهر رحمة النبي محمد  للعالمين..
والتي تتمثل في كونه  المحرر الأعظم للبشر في إخراجهم من دركات عبادة الحجارة إلى مستوى عبادة الخالق سبحانه وتعالى .. وكون الإنسان لا يعبد مخلوقا؛ً دلالة على حريته وكرامته . أما عابد النار، وعابد الحجارة، وعابد البقرة، فلا شك أنه لا يهنىء بحياة إنسانية كريمة، قد قيدتهها الموروثات العقدية الواهية . فكون النبي محمد  يجعل من جوهر رسالته أن يخرج هؤلاء البشر من هذا الحضيض إلى الحياة الإسلامية الشريفة؛ فذلك مظهر من مظاهر رحمته ، وكان هذا هو ديدنه حتى كان له الفضل الأكبر في تحويل سدنة الأوثان إلى علماء، ودعاة حضارة وتنوير !
المبحث الثاني
التحضر والرقي
من مظاهر رحمته  أنه ارتقى بالعرب إلى مستوى التحضر فوحد صفهم وأقام لهم دولة و جعل منهم أمة، وصفها القرآن بإنها خير أمة أخرجت للناس.. إن في ذلك لرحمة ! رحمة أن يعيش العربي في ظلال دولة مدنية، وأمة متحضرة، وفي سبيل فكرة مستنيرة .. لا أن يعيش في صراعات قبلية، واقتتال على الناقة والعنزة، في سبيل أفكار رجعية أو عصبية منتنة، كما كان يسميها النبي : " دعوها فإنها منتنة" .
هذا ولم يقتصر فضل النبي  على تحضر العرب وحدهم .. بل يمتد خيره ونوره إلى الشعوب والأمم الأخرى، خصوصاً أوربا..
المطلب الأول : العرب من القبيلة إلى الدولة والأمة
أولاً: العرب لم يعرفوا الوحدة الحضارية قبل النبي 
يقول المفكر الألماني رودي بارت :
"كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فسادًا. حتى أتى محمد [] ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس" .
ويقول رودي بارت ، في موضع آخر، مفصلاً:
"جاء محمد بن عبد الله []، النبي العربي وخاتمة النبيين، يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة [في دعوته] لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضًا الأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين.. ونشر الدين الحنيف.. وعندما قبُض النبي العربي []، عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرًا فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل.." .
ثانيًا: جهود مضنية من النبي :
ولقد كانت الحياة العربية قبل الإسلام تقوم أساساً على نمطية خاصة، فالقبيلة هي التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يضمم حياة الفرد في القبيلة ، فكان انتماء العربي الجاهلي انتماء قبلياً ، وليس هناك أية رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها ، بل على العكس كانت القبائل متناحرة متحاربة ، وإذا ما قامت أحلاف قبلية ، فلمناصرة قبيلة على أخرى ، وبالتحديد كانت القبيلة العربية تشكل وحدة سياسية مستقلة . .
ومن هنا كان الانقلاب الذي أحدثه الرسول عميقاً في حياة الجزيرة العربية إذ استطاع بسياسته الكفاحية التي تمليها روح الإسلام أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقى بها لتظهر في إطار الأمة الإسلامية .
فيبين "فيليب حتي" هذا الانقلاب الذي أحدثه الرسول  فيقول :" إذا نحن نظرنا إلى محمد [] من خلال الأعمال التي حققها، فإن محمدًا الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد؛ يبدو لنا بكل وضوح واحدًا من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ. لقد نشر دينًا هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية. وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر" ..
وعن ضخامة هذا الجهد العظيم الذي بذله النبي لإحداث هذا التحول في المجتمع العربي الجاهلي ، يقول إميل درمنغم : "إن النبي [] لم يعرف الراحة ولا السكون بعد أن أوحي إليه في غار حراء، فقضى حياة يعجب الإنسان بها، والحق أن عشرين سنة كفت لإعداد ما يقلب الدنيا، فقد نبتت في رمال الحجاز الجديبة حبة سوف تجدد، عما قليل، بلاد العرب وتمتد أغصانها إلى بلاد الهند والمحيط الأطلنطي. وليس لدينا ما نعرف به أن محمدًا [] أبصر، حين أفاض من جبل عرفات ، مستقبل أمته وانتشار دينه، وأنه أحس ببصيرته أن العرب الذين ألّف بينهم سيخرجون من جزيرتهم لفتح بلاد فارس والشام وأفريقية وإسبانية" .
ويبين آرنولد توينبي أن النبي قد كرّس حياته لتحقيق رسالته في كفالة مظهرين أساسيين في البيئة الاجتماعية العربية؛ هما الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم. "وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معًا.. فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة.. بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطالسي إلى شواطئ السهب الأوراسي " .
ثالثًا: تميز فكرة الأمة الإسلامية
ويناقش المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار فكرة " الأمة الإسلامية " ومغايرتها المفهوم الغربي، فيقول:
"ليس لفكرة الأمة الإسلامية مقابل في فكر الغرب ولا في تجربته التاريخية. فالجماعة الإسلامية، وهى تجّمع من المؤمنين يؤلف بينهم رباط سياسي وديني في آن واحد، ويتمحورون حول كلام الله القدسي... و الفرد يندمج في الإسلام بالجماعة المؤمنة بالتساوي عن طريق شهادته، الفردية واستبطان إرادته وصفاته الخاصة كمؤمن، فالنية المعلنة والجهر بالكلام شرطان من شروط الانتماء إلى المجتمع . وبصورة تلازمية يحدد الامتثال لمشيئة الله البنية الاجتماعية . وهكذا تكون النظم التأسيسية للجماعة مشروطة بالعبادة الواجبة عليها نحو الله " .
إذًا ليس لفكرة الأمة الإسلامية ما ينافسها في تجارب الغرب على مدار تارخيه..
فتاريخ الغرب عبارة عن مجموعة إمبراطوريات متتابعة قائمة على الطبقية والعرق واللون..
ولم تقم لهم حضارة في تاريخهم تقوم على أساس الرباط الإيماني، اللهم إلا حضارة الإسلام! .
ولم يحدث أن دولة من دول الغرب في عصور الظلام، أن سوت بين أفراد الشعب في المعاملة وتوزيع الثروة والسلطة، اللهم إلا دولة الإسلام !

المطلب الثاني : إشادة العلماء الغربيين بجهود النبي 
هذا، ولقد أثار موضوع فضل الرسول محمد على تحضر العرب، اهتمام علماء الغرب وغيرهم، فهو الذي وحد الجزيرة العربية أول مرة في التاريخ في ظل حكم إسلامي ، متنور نقل العرب من الجاهلية إلى الحضارة والمدنية.. يقول الباحث الروسي آرلونوف:
"في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسطين ظهرت ديانة أساسها الاعتراف بوحدانية الله ، وهذه الديانة تعرف بالمحمدية أو كما يسميها أتباعها الإسلام، وقد انتشرت هذه الديانة انتشاراً سريعاً، و مؤسس هذه الديانة هو العربي محمد []، وقد قضى على عادات قومه الوثنية، ووحد قبائل العرب، وأثار أفكارهم وأبصارهم بمعرفة الإله الواحد، وهذب أخلاقهم ولين طباعهم وقلوبهم وجعلها مستعدة، للرقي والتقدم، ومنعهم من سفك الدماء ووأد البنات، وهذه الأعمال العظيمة التي قام بها محمد[] تدل على أنه من المصلحين العظام، وعلى أن في نفسه قوة فوق قوة البشر، فكان ذا فكر نير ، وبصيرة وقيادة " .
وهكذا فإن فضل الرسول  على العرب لا حد له، إذ أخرجهم من الجاهلية إلى نور الإسلام.
ويضيف "هنري سيرويا" أن "محمداً [] لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط، بل غرس فيها أيضًا المدنية والأدب" .
ويتحدث الباحث الأمريكي "جورج دي تولدز"( 1815-1897) ، عن فضل الرسول على العرب حين نقلهم من الهمجية إلى المدنية، وعن دور الرسالة في تبديل أخلاق عرب الجاهلية ، حين عمر ضياء الحق والإيمان قلوبهم ، فيقول :
" إن من الظلم الفادح أن نغمط حق محمد []، و العرب على ما علمناهم من التوحش قبل بعثته، ثم كيف تبدلت الحالة بعد إعلان نبوته ، وما أورته الديانة الإسلامية من النور في قلوب الملايين من الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل ، لذا فإن الشك في بعثة محمد[]إنما هو شك في القدرة الإلهية التي تشمل الكائنات جمعاء" .
ويؤكد ذلك القس السابق دُرّاني بقوله:
".. وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد [] فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغير طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة، التي لم تنجب رجلاً عظيمًا واحدًا يستحق الذكر منذ عدة قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفًا من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية وتعلم الناس أمور الدين الجديد" .

كان فضل النبي  في تحضر العرب من العمق وبُعد الأثر لا يحصره زمان أو يحده مكان، يقول الباحث قسطاكي حمصي (1858-1941) :
"إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم، فهو أيضا نبي العرب ومؤسس جامعتهم القومية، وكما أنه من الحمق والمكابرة أن ننكر أن ما لسيد قريش من بعيد الأثر في توحيد اللهجات العربية ، وقتل العصبيات الفرعية في نفوس القبائل، بعد أن أنهكها القتال في الصحراء ، و تناحر ملوكها في الشام والعراق تناحراً أطال أمد الحماية الرومانية والفارسية في البلدين الشقيقين حتى الفتح الإسلامي. فمن الخطأ أن ننكر ما للرسول العربي الكريم [] وخلفائه من يد على الشرق ! ... والمنافحة لتحرير الشرق من رق الرومان وأسر الفرس .إن سيد قريش هو المنقذ الأكبر للعرب من فوضى الجاهلية، وواضع حجر الزاوية في صرح نهضتهم الجبارة المتأصلة في تربة الخلود !! " .
المطلب الثالث: فضل النبي في تحضر العالم
ويبين المستر سنكس أن لمحمد الفضل الأكبر ليس فقط في رقي العرب بل في رقي العالم كله حتى اليوم ، فيقول سنكس :
" ظهر محمد []بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة .... " إلى أن قال:
إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقياً كبيراً جداً في العالم، وخلّصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان. ولقد توصل محمد [] بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق ، إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة" . .

أما المفكر " برتلي سانت هيلر " فيبين أن فضل النبي محمد  ، يمتد إلى كل شعوب العالم، بقوله :
"وقد كان دينه [] الذي دعا الناس إلى اعتقاده، جزيل النعم على جميع الشعوب التي اعتنقته" .
أما الكاتب الفرنسي موريس بوكاي فيخص أوربا والغرب ، على أساس أن الشعوب الغربية هم أكثر الشعوب إستفادة من حضارة الإسلام، فيقول بوكاي: "إن الإسلام ينظر إلى العلم والدين كتوءمين، وأن تهذيب العلم كان جزءاً من التوجيهات الدينية منذ البداية، وأن تطبيق هذه القاعدة أدى إلى التقدم العلمي العجيب في عصر الحضارة الإسلامية العظمى، التي استفاد منها الغرب قبل نهضته" .
ويؤيده العلامة " سان سيمون " في كتابه " علم الإنسان " بقوله:
" إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة ، لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوربا الحديثة " .
ويقارن "كويليام " حال العالم بعد عهد محمد r وبين عصر الجاهلية فيقول : "لما شرف محمد r ساحة عالم الشهود بوجوده الذي هو الواسطة العظمى والوسيلة الكبرى إلى اعتلاء النوع الإنساني وترقيّه في درجات المدنية، أكمل ما يحتاجه البشر من اللوازم الضرورية على نهج مشروع وأوصل الخلق إلى أقصى مراتب السعادة بسرعة خارقة. ومن نظر بعين البصيرة في حال الأنام قبله r وما كانوا عليه من الضلالة.. ونظر في حالهم بعد ذلك وما حصل لهم في عصره من الترقّي العظيم رأى بين الحالين فرقًا عظيمًا كما بين الثريا والثرى" .
و".. امتدت أنوار المدنية بعد محمد [r] في قليل من الزمان ساطعة في أقطار الأرض من المشرق إلى المغرب حتى إن وصول أتباعه في ذلك الزمن اليسير إلى تلك المرتبة العلية من المدنية قد حيّر عقول أولي الألباب. وما السبب في ذلك إلا كون أوامره ونواهيه موافقة لموجب العقل ومطابقة لمقتضى الحكمة" .
ويبين المستشرق الأمريكي "إدوارد رمسي" أن الإسلام منح" المدنية والحضارة قوة جديدة وشجع العالم على درس العلوم باتساعٍ متناهٍ، وهكذا خرج إلى الدنيا فلاسفة وخطباء وأطباء ومؤرخون يفخر بهم الإسلام أمثال: أبي عثمان – الجاحظ – والبيروني والطبري وابن سينا وابن رشد والفارابي وابن باجه والغزالي وغيرهم.. والمسلمون بلا نزاع هم مخترعو علم الكيمياء ومؤسسوه، أما علم الطب والصيدلة فقد حسنوهما تحسيناً عظيماً، وبواسطة المسلمين تقدم علم الفلك سريعاً حتى الطيران، وهم مخترعو علم الجبر ومكتشفو علم الطيران" ..
و" قليلون من هم على علم بما أسهم به العالم الإسلامي من جهود متميزة في تقدم الإنسانية " .
كل هذا وغيره دفع المفكر الفرنسي - أحد عمالقة فلاسفة الاجتماع- جوستاف لوبون (1841-1931) إلى أن يدعو أبناء عصره إلى الإقتداء بمحمد ، واعتناق دعوته لأن فيها صلاح المجتمعات الإنسانية ، فيقول في كتابه "الحضارة الإسلامية" :

"أنني لا أدعو إلى بدعة محدثة ، ولا إلى ضلالة مستهجنة ، بل إلى دين عربي قد أوحاه الله إلى نبيه محمد، فكان أميناً على بث دعوته بين قبائل تلهت بعبادة الأحجار والأصنام ، وتلذذت بترهات الجاهلية ، فجمع صفوفهم بعد أن كانت مبعثرة ، ووحد كلمتم بعد أن كانت متفرقة ، ووجه أنظارهم لعبادة الخالق ، فكان خير البرية على الإطلاق حباً ونسباً وزعامة ونبوة ، هذا هو محمد الذي اعتنق شريعته أربعمئة مليون مسلم ، منتشرين في أنحاء المعمورة ، يرتلون قرآناً عربياً مبيناً ".
"فرسول كهذا جدير باتباع رسالته ، والمبادرة إلى اعتناق دعوته ، إذ أنها دعوة شريفة ، قوامها معرفة الخالق ، والحض على الخير والردع عن المنكر ، بل كل ما جاء فيها ما يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه جميع النصارى"

المبحث الثالث
التسامح الديني
إن التسامح الديني- بين الطوائف والجماعات والدول - الذي تبناه النبي r يعد من أهم مظاهر رحمته r.. وقد كان r نموذجًا فذا في التسامح الديني . فالنبي rلم يُكره اليهود و لا النصارى على قبول دينه، لأنهم أهل الكتاب. بل أمر النبي r بإكرام علماء أهل الكتاب كالبطاركة والرهبان وخدمهم وحرم r قتل الرهبان - على الخصوص - حتى في حال الحرب.
المطلب الأول : "محمد[]الحاكم المتسامح الحكيم المشرع" :
التسامح عند سيدنا محمد  كما يقول الباحث الفرنسي مارسيل بوازار "هو واجب ديني وأمر شرعي" .
ويقول الفيلسوف الألماني الشهير "غوته" في كتابه (أخلاق المسلمين وعاداتهم): "ولا شك أن التسامح الأكبر أمام اعتداء أصحاب الديانات الأخرى، وأمام إرهاصات وتخريفات اللادينيين، التسامح بمعناه الإلهي، غرسه رسول الإسلام[] في نفوس المسلمين، فقد كان محمد [] المتسامح الأكبر، ولم يتخذ رسول الإسلام[] موقفاً صعباً ضد كل الذين كانوا يعتدون عليه بالسب أو بمد الأيدي أو بعرقلة الطريق وما شابه ذلك، فقد كان متسامحاً؛ فتبعه أصحابه وتبعه المسلمون، وكانت وما زالت صفة التسامح هي إحدى المميزات والسمات الراقية للدين الإسلامي، وللحق أقول: إن تسامح المسلم ليس من ضعف؛ ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه، وتمسكه بعقيدته" ..
وتتحدث لورافيشيا فاغليري عن مظهر التسامح الديني عند النبي r، فتقول:
"كان محمد [r] المتمسك دائمًا بالمبادئ الإلهية شديد التسامح، وبخاصة نحو أتباع الأديان الموحدة. لقد عرف كيف يتذرع بالصبر مع الوثنيين، مصطنعًا الأناة دائمًا اعتقادًا منه بأن الزمن سوف يتم عمله الهادف إلى هدايتهم وإخراجهم من الظلام إلى النور.. لقد عرف جيدًا أن الله لابد أن يدخل آخر الأمر إلى القلب البشري"
إن سياسة التسامح الديني التي انتهجها محمد r تجاه أصحاب الديانات الأخرى حظيت باحترام وتقدير المفكرين الغرب فعقدوا المقارنة بين تسامح الإسلام وتعصب الصليبيين.. يقول القس الألماني ميشون :
"إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى ، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان -على الخصوص - لعكوفهم على العبادات ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس ..وقد ذبح الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوها " .
ويضيف الكاتب نفسه في موضع آخر ، متحدثاً عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية ، وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثير من المسلمين في التسامح وحسن المعاملة ، يقول :
"وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة ، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد[r]" .
المطلب الثاني: دستور المدينة نموذجًا:
لقد كان التعايش بين مختلف الطوائف والفصائل في الدولة الإسلامية الأولى هو أحد أهداف الدستور الإسلامي الذي وضعه النبي  عقب هجرته إلى المدينة ، والذي ضمن تنظيم العلاقات ما بين المسلمين من جهة ، وأصحاب الديانات الأخرى من جهة أخرى ، في إطار من التسامح الديني والحرية الدينية في ممارسة الشعائر، ويقول في ذلك "كونستانس جيورجيو" :
"وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً ، كلها من رأي رسول الله[r] . خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان . وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية ، ولهم أن يقيموا شعاثرهم حسب رغبتهم ، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء . وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م . ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده " .

وقد نص دستور المدينة على حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر فجاء فيه :
وجاء في هذا الأصل:
"وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ[ أي يُهلك] إلا نفسه وأهل بيته" .
ونص على الاستقلال المالي لكل طائفة، فكان من ضمن مواد دستور المدينة:
"وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"
فمع وجوب التعاون المالي بين جميع طوائف الدولة لرد أي عدوان خارجي، فإن لكل طائفة استقلالها المالي عن غيرها من الطوائف.
كما نص الدستور على النصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب:
فيقول الدستور :
"وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم"
فالأصل في العلاقة بين جميع طوائف الدولة –مهما اختلفت معتقداتهم– هو النصح المتبادل، والنصيحة التي تنفع البلاد والعباد، والبر والخير والصلة بين هذه الطوائف.
المطلب الثالث: استقبال الوفود النصرانية :
وتجلت مظاهر التسامح الديني في عهد النبي r عام الوفود حين استقبل وفوداً نصرانية وبعث برسالة إلى أسقف نجران . .
ومن ثم يتحدث "كونستانس جيورجيو" عن أوضاع أصحاب الديانات السماوية في ظل الحكم الإسلامي فيقول :
" مع أن الإسلام عم الجزيرة كلها في السنة التاسعة فإن محمداً [] لم يُكره اليهود و لا النصارى على قبول دينه، لأنهم أهل الكتاب . و قد جاء في رسالة محمد [] إلى أبي الحارث أسقف نجران أن وضع المسيحيين في الجزيرة بعد الإسلام تحسن كثيراً، يقول في الرسالة :
"بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد النبي، إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم : إن لهم ما تحت أيديهم، من قليل أو كثير من بيَعهم وصلواتهم، ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يُغيّر أُسقف من أُسقفيتّه، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. ولا يُغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه . [على ذلك جوار الله ورسوله أبدًا ]، ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم، غير مثقَلين بظلم ولا ظالمين" ...
يقول جيورجيو معلقًا :
"تشير هذه الرسالة إلى أن المسيحيين ( وكذلك اليهود ) في الجزيرة أحرار في أداء شعائرهم، ولن يزاحمهم من المسلمين مزاحم . وقد قدْم في السنة التاسعة وفد من مسيحي نجران يرأسهم أبو الحارث الأسقف الأكبر، وعبد المسيح الأسقف ، والأيهم رئيس القافلة ، وحين أرادوا الدخول على النبي [r] ارتادوا ألبستهم الدينية الرسمية الكاملة... وبعد أن زاروا النبي [r]سألوه أن يسمح لهم بأداء شعائرهم فطلب منهم أن يؤدوا صلواتهم في مسجد المدينة، فدخلوا واتجهوا نحو بيت المقدس، و تعبدوا هناك . . ولا شك أن النبي [r] كان يحترم النصارى احتراماً خاصاً ، لأن القرآن ذكرهم وأكرمهم . وقد أشار الله تعالى إلى هذه النقطة في محكم كتابه في سورة المائدة (الخامسة) في الآية ( 82 ) : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ، ويقول في الآية التي بعدها : وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة :83] .."
ويعلق آتيين دينيه على ما فعله النبي  مع وفد نجران النصراني قائلاً :
".. من الحقائق التاريخية أن النبي [] أعطى أهل (نجران) المسيحيين نصف مسجده ليقيموا فيه شعائرهم الدينية. وها نحن أولاً نرى المسلمين إذا بشروا بدينهم فإنهم لا يفعلون مثل ما يفعل المسيحيين في الدعوى إلى دينهم، ولا يتبعون تلك الطرق المستغربة التي لا تتحملها النفس والتي لايحبها الذوق السليم. وقد أنصف القس ميثون الحقيقة في كتابه (سياحة دينية في الشرق) حيث يقول: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم" .
المطلب الرابع : الحرية في الاعتقاد وممارسة الشعائر :
يقول جيمس متشنر :
" القرآن صريح في تأييده لحرية العقيدة ، والدليل قوي على أن الإسلام رحب بشعوب مختلفة الأديان ، ما دام أهلها يحسنون المعاملة ، وقد حرص محمد []على تلقين المسلمين التعاون مع أهل الكتاب، أي اليهود والنصارى ، ولاشك أن حروباً نشبت بين المسلمين وغيرهم في بعض الأحيان ، وكان سبب ذلك أن أهل هذه الديانات الأخرى أصروا على القتال، وقد قطع الرهبان بأن أهل الكتاب كانوا يُعاملون معاملة طيبة وكانوا أحراراً في عبادتهم ، ولعل مما يقطع بصحة ذلك ، الكتاب الذي أرسله البطريرك النسطوري إيشوياب الثالث إلى البطريرك سمعان ، زميله في المجمع ، بعد الفتح الإسلامي وجاء فيه: ( ها ! إن العرب الذين منحهم الرب سلطة العالم وقيادة الأرض أصبحوا عندنا ، ومع ذلك نراهم لا يعرضون للنصرانية بسوء ، فهم يساعدوننا ، ويشجعوننا على الاحتفاظ بمعتقداتنا ، وإنهم ليجلون الرهبان والقديسين !).. " .
وفي ذلك يقول روبرتسون : " إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الجهاد والتسامح نحو اتباع الاديان الاخرى الذين غلبوهم وتركوهم احراراً في اقامة شعائرهم الدينية " .
وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين الإسلامي ديناً عالمياً ، بدءاً من مراحله الأولى أيام الرسول في جزيرة العرب إلى أن عم أماكن شاسعة، يقول العلامة جولد تسهير :
"سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة ، ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتوماً فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا [ الإشتراك السنوي للدولة - الجزية ] أن يتمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية ، ولم يكن واجب الإسلام أن ينفذ إلى أعماق أرواحهم إنما كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية . بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة ، ففي الهند مثلاً كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل و المعابد في ظل الحكم الإسلامي ! " .
لقد أثارت مبادئ التسامح الديني وحرية الاعتقاد في الإسلام فيما أثارته احترام المفكرين والعلماء والمستشرقين المنصفين من الغرب وكذلك الكتاب والباحثين العرب النصارى، فقد تطرق "يوسف نعيم عرافة" في خطبة له في مناسبة المولد النبوي عام 1346هـ 1927م ، إلى معاهدة الرسول مع أصحاب الديانات الأخرى ، لاسيما المسيحيين منهم، فيقول:
" إن محمدا ً [r]هو باني أساس المحبة والإخاء بيننا ، فقد كان يحب المسيحيين ويحميهم، من ذلك: ما قام به في السنة السادسة بعد الهجرة ، حيث عاهد الرهبان خاصة والمسيحيين عامة ، على أن يدفع عنهم الأذى ، ويحمي كنائسهم وعلى أن لا يتعدى على أحد من أساقفتهم ولا يجبر أحداً على ترك دينه ، وأن يُمدوا بالمساعدة لإصلاح دينهم وأديرتهم ، كما أن القرآن نطق بمحبة المسيحيين للمسلمين وبمودتهم لهم ، وإن الآية الشريفة : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ‏‏، لتبعث على شد أواصر الصداقة بين الطرفين ، بل حتى مع الشعب الإسرائيلي في أكثر الأوقات ، إننا لنعلم أن ما أتى به الرسل موسى وعيسى ومحمد[عليهم والصلاة والسلام]ما هو إلا لإصلاح العالم لا لإفساده وخرابه ، وما الكتب الثلاثة المنزلة إلا نور صادر من بؤرة واحدة ينعكس نورها في ثلاثة أشعة، كل منها للبشر"
هذا ، ومن أهم النصوص الإسلامية في التسامح الديني وحرية الاعتقاد ..
قول الحق تبارك وتعالى: ‏لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏‏ [البقرة: 256] .
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله - في ظلال هذه الآية : " إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك؛ وليست قضية إكراه وغصب وإجبار . ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته . يخاطب العقل المفكر ، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنة . يخاطب الكيان البشري كله ، والإدراك البشري بكل جوانبه؛ في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجىء مشاهدها الجاء إلى الإذعان ، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك ... فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة؛ ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟!" .

المبحث الرابع
رعاية العلم والمعرفة

المطلب الأول : بداية عصر العلم والمعرفة:
إن الحركة العلمية والثقافية التي قام بها محمد r متعددة الجوانب، اجتماعياً وسياسياً ودينياً وثقافياً . لقد كان العهد الإسلامي الذي بدأ مع إقامة أول دولة إسلامية بقيادته r في المدينة المنورة ، فاتحة عهد جديد وخير للبشرية جمعاء : عهد علم وثقافة ومعرفة.
فلقد افتتح النبي محمد r حسب رأي العديد من علماء الشرق والغرب عهداً جديداً،وعصراً للنور والعلم والمعرفة ، فكان كفاحه حين صدع بالدعوة الإسلامية ، لنشر رسالة الله ، لإزالة ما تراكم في ذلك المجتمع الجاهلي الوثني من معتقدات خرقاء ، وأنماط اجتماعية سوداء . . وهذا ما دفع الدكتور ماركس إلى إعلان قولته الشهيرة التي نصها:
" هذا النبي [r] الذي افتتح برسالته عصر العلم والنور والمعرفة لا بد أن تدون أقواله وأفعاله على طريقة علمية خاصة ، وبما أن هذه التعاليم التي قال بها[يعنى النبي محمد r]، هي وحي الله المنزل ورسالته ، فقد كان عليه[r] أن يمحو ما تراكم على الرسالات السابقة من التبديل والتحوير ، وما أدخله عليها الجهل من سخافات لا يعول عليها عاقل " . وهذا ما فعله النبي r !
"ومنذ عام 700م بدأت إشراقة الحضارة العربية الإسلامية تمتد من شرقي المتوسط إلى بلاد فارس شرقاً وإسبانيا غرباً، فأعيد اكتشاف قسم كبير من العلم القديم، وسجلت اكتشافات جديدة في الرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم.. وفي هذا المجال كما في غيره؛ كان العرب معلمين لأوربة، فساهموا في نهضة العلوم على هذه القارة" .
المطلب الثاني : القرأة أولي تعاليم النبيr :
يقول نصري سلهب: "أولى الآيات البيّنات.. كانت تلك الدعوة الرائعة إلى المعرفة، إلى العلم عبر القراءة.. اقْرَأْ  .. وقول الله هذا لم يكن لمحمد [r] فحسب، بل لجميع الناس، ليوضح لهم، منذ الخطوة الأولى، بل منذ الكلمة الأولى أن الإسلام جاء يمحو الجهل وينشر العلم والمعرفة" .
وهذا ما يشيد به أيضاً "واجنر"، حيث يقول : ".. الإسلام دين العلم، ويكفي أن أول آية في القرآن أنزلت على محمد [r]هي قوله تعالى: اقْرَأْ ، وهذا اتجاه فريد يصعب وجوده في تاريخ الكنائس والأديان الأخرى. ولهذا تجدني وصلت من خلال الدراسات الإسلامية وما قرأته في كتاب الله تعالى الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصلت إلى ما أبغيه لنفسي من الاستقرار والأمان..!!" ..
المطلب الثالث : احترام العقل:
يبين "ليون" أن من روائع دعوة محمدr أنها تحترم العقل، وأن الإسلام " لا يطالب أتباعه أبدًا بإلغاء هذه الملكة الربانية الحيوية. فهو على النقيض من الأديان الأخرى التي تصرّ على أتباعها أن يتقبلوا مبادئ معينة دون تفكير ولا تساؤل حرّ، وإنما تفرض هذه المبادئ فرضًا بسلطان الكنيسة. أما الإسلام فإنه يعشق البحث والاستفسار ويدعو أتباعه إلى الدراسة والتنقيب والنظر قبل الإيمان... إن الإسلام يؤيد الحكمة القائلة: برهن على صحة كل شيء ثم تمسّك بالخير. وليس هذا غريبًا، إذ أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. فالإسلام دين العقل والمنطق... فالإسلام هو الحق ! وسلاحه العلم! وعدوه اللدود هو الجهل! " .
ويتحدث المفكر الشهير " أوجست كونت" عن هذه النقطة، وعن قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية .. فعبّر عن ذلك بقوله :
" إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل كما هو الحال في الأديان الأخرى ؛ بل ولا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها ؛ لأن الإسلام يتمشى أساساً مع واقع الإنسان، كل إنسان، بما له من عقيدة مبسطة ، ومن شعائر عملية مفيدة ! " ..
ويقول المؤرخ العلامة سيديو – في مقارنة رائعة - : "لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوربة من تحجر العقل وشل التفكير، وجدب الروح، ومحاربة العلم والعلماء حيث يذكر التاريخ أن اثنين وثلاثين ألف عالم قد أحرقوا أحياء! ولا جدال في أن تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر، بل كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك العصور المظلمة، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ومنح مخالفيه في العقيدة كل أسباب الحرية كما فعل الإسلام" ..
ومنذ حوالي ألف عام، عندما كان العلماء في أوربة يُحرقون أحياء كما قال سيديو؛ كان العالم الأندلسي المسلم (ابن حزم) يعلن في كتابه (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل) عن كروية الأرض منطلقاً من القرآن الكريم ومن التنظيم المطرد لمواقيت الصلاة في محيط الأرض .
رغم أن أوربا في عهد الكنيسة وفي ذلك الوقت، اعتبرت" أن من الكفر والضلال القول بأن الأرض كروية؛ فمعلم الكنيسة لاكتانتيوس يتساءل مستنكراً: أيعقل أن يُجنَّ الناس إلى هذا الحد فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخر من الأرض، وأن أقدام الناس تعلو رؤوسهم ؟ !" .
المطلب الرابع : حثه على طلب العلم :
يقول ول ديورانت : "تدل الأحاديث النبوية على أن النبي [r] كان يحث على طلب العلم ويعجب به، فهو من هذه الناحية يختلف عن معظم المصلحين الدينيين" .. وتقول هونكه :" لقد أوصى محمد [r] كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبًا دينيًا. وكان يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة للتعرف على قدرة الخالق. وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإيمان.. ويلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيًا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر. وعلى النقيض تمامًا يتساءل بولس الرسول Paulus مقرًا: (ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة)؟ ..."
وهي لفتة ذكية من هونكه في الفرق بين وجوب طلب العلم في تعاليم محمدr، وتحريم المعرفة في تعاليم بولس ومِن خلفه الكنائس النصرانية في عصور الظلام !
تماماً كما قارنت الدكتورة هونكة في موضع آخر ، حيث قالت : "نادى النبي بالطموح إلى المعرفة والسعي إلى العثور عليها، وقد أدى ذلك إلى اندفاع العرب بأسرهم إلى المدارس يعلِّمون ويتعلمون، بينما كان الغربيون يتباهون بجهلهم للقراءة والكتابة !" .
ومن ثم تقول تزفسكن :
" لم يتبيّن لي الفرق الشاسع بين تعاليم الإسلام وبين كثير من العادات الشرقية إلا عندما دخلت عالم الإسلام الروحي عن طريق القرآن والكتابات الإسلامية.. فشعرت ببطء كيف يجذبني الإسلام. وكانت تعاليمه تخاطب عقلي وفطرتي. وكان من أهم ما شدّني ...الاجتهاد في طلب العلم الذي يُعتبر فريضة على كل مسلم ومسلمة.. " .
وهوالأمر الذي نال إعجاب وتقدير لامير التي تقول: "في الوقت الذي تهاوت فيه تعاليم الأديان الأخرى ومبادئها أمام جبروت العلم؛ أخذ علماء الدنيا في الوقت الحاضر يتطلعون إلى الإسلام طالبين السلوى، لأن تعاليمه أقرب إلى العلم من أي دين آخر. بل إن الإسلام يحض على العلم. وهو دين تقدمي يناسب كافة المناخات والبلاد، كما يصلح لجميع العصور" .
المطلب الخامس: العلم من وظائف رسالته:
يقول آتيين دينيه:
".. إن الإسلام منذ البداية في أيامه الأولى قد أخذ في محاربة الخرافات والبدع، وهو نفس العمل الذي يقوم به العلم إلى يومنا هذا" ..
وبالتالي فإن "المنجزات العلمية تتفق تمامًا مع مبادئ الإسلام، لأن الإسلام هو دين العلم" ، على حد قول فيلويز .
ومن هنا يذكر جوستاف لوبون أن:"الإسلام من أكثر الأديان ملاءمة لاكتشافات العلم" .
وعلى هذا الأساس يعرّف "جارودي " الإسلامَ، فيقول :"إنما الإسلام هو تلك الرؤية لله .. وللعالم وللإنسان، التي تنيط بالعلوم وبالفنون وبكل إنسان وبكل مجتمع مشروع بناء عالم إلهي وإنساني لا انفصام فيه باقتضاء البعدين الأعظمين، المفارقة والجماعة، التسامي والأمة" ..
ويبين روم لاندو العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام، فيقول :
".. في الإسلام لم يول كل من الدين والعلم ظهره للآخر ويتخذ طريقًا معاكسة لا، والواقع أن الأول كان باعثًا من البواعث الرئيسية للثاني" .
ويُفصِّل روم لاندو القول في هذه العلاقة، قائلاً : "العلم الإسلامي لم ينفصل عن الدين قط ! والواقع أن الدين كان هو ملهمه وقوته الدافعة الرئيسية. ففي الإسلام ظهرت الفلسفة والعلم معًا إلى الوجود لا ليحلا محل ألوهية الدين (البدائية) ولكن لتفسيرها عقليًا، لإقامة الدليل عليها وتمجيدها.. إن المسلمين وفّقوا، طوال خمسة قرون كاملة، إلى القيام بخطوات حاسمة في مختلف العلوم من غير أن يديروا ظهورهم للدين ...وأنهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسريع وإنجاح لا عامل تعويق وإحباط" ..
ومن ثم بلغوا مبلغاً عظيماً في ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية، وظهر منهم مسلمو إسبانيا " الذين أهدوا إلى الغرب اللاتيني هباتهم النفيسة في ميادين العلم والفلسفة.. وكان الطب كالرياضيات من مفاخر العلوم العربية وأركانها الوطيدة" على حد قول سرارنست باركر (1874-1960).
وكانت هذه العلوم التي نبغ فيها المسلمون في عصورهم الذهبية – كما يقول الدومييلي – هي "حلقة الاتصال والاستمرار بين الحضارة القديمة وبين العالم الجديد" .
وهنا يحذر "الدومييلي" من شبهة، فيقول: "ينبغي ألا نظن أن العرب لم يضيفوا شيئًا جديدًا إلى العلم الذي كانوا أوصياء عليه ! بل على النقيض من ذلك ."
وعن رسالة المسلمين في هذه العلوم يقول "أرنست بانرث" : إنهم – أي المسلمين - " لم يخربوا ما وجدوه من عناصر ثقافية، بل اهتموا بها وبذلوا جهدهم لهضمها ومن ثم تطويرها. ونرى هنا أن العرب فتحوا باب التعرف على الحضارة اليونانية ... بواسطة المترجمين، وعلى هذه الطريقة تطورت الثقافة تحت حماية الإسلام بالعربية التي هي واسطة ممتازة للتعبير عن الأفكار العليا والتي لا تفوقها في هذا لغة من لغات الدنيا. ولا أراني بحاجة إلى ذكر أسماء الفلاسفة[ المسلمين ] الذين فتحوا آفاقًا جديدة لفهم أسرار الطبيعة والوجود، ...ولا شك أن الحضارة الإسلامية ارتفعت في القرون الوسطى إلى علوّ لم ينتبه إليه قوم آخرون. ولا يخفى أن هذا الاعتلاء كان ثمرة الاجتهاد في كل نواحي الثقافة وتطبيق الطرق العلمية. أما الغرب الأوروبي فلم يستطع حينئذ فهم الثقافة وتطويرها. وكذلك دولة بيزنطية فقد تجمدت، والآن نرى كيف تعجبت الأقوام الأوروبية من جمال الثقافة العربية التي امتدت من حدود الصين والهند إلى جبال البرانس" .
المطلب السادس : من توجيهات النبي r:
وهذه باقة من توجيهات نبينا العظيمr، وحثه على طلب العلم، ونشر المعارف والثقافات، وأمره بمحو الأمية والخرافات:
فيقول – صلوات ربي وسلامه عليه - :
"طلب العلم فريضة على كل مسلم" ..
" .. و إن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر"
"إن الله أوحى إلي : أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، و من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة، و فضل في علم خير من فضل في عبادة، و ملاك الدين الورع" .
"ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع حتى يرجع" .
"من علم علماً، فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء" ..
"إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه..."
وعن صفوان بن عسال المرادي  قال:
أتيت النبي r وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر فقلت له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم .
فقال: " مرحبًا بطالب العلم .. إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب" .
وعن أبي أمامة قال: ذُكر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلان : أحدهما عابد والآخر عالم.. فقال - عليه أفضل الصلاة والسلام - : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ".. ثم قال - رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير"
قال ابن عباس:
كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول- الله صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه. وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية ..
هذه كانت توجيهات محمد في العلم والمعرفة ...
صور رائعة وتعاليم رفيعة، يقف أمامها العاقل المتبصر وقفة خشوع وإجلال، لاسيما لهذا المظهر العظيم من مظاهر الرحمة من النبيr، ألا وهو رعاية العلم والمعرفة.. وفي ذلك رحمة للبشر من زعيم كبير ونبي جليل ..
مما دفع "لبيب رياشي" أن يرفع قبعته تقديراً لهذه التعاليم قائلاً : "حقاً يا محمد ... إنك (السوبرمان) الأول العالمي، رسول الثقافة والعلم، رسول الهداية والتضحية، رسول الفلسفة الجديدة، رسول الإنسانية الجديدة" ..
"بدّل الضلال بالهدى ، والجهل بالعلم ، والهمجية بالمدنية" ..
"علمه الله العلم والحكمة ، فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء !" ..

المبحث الخامس
الخطاب التربوي
لم يكن خطابه r إلى الناس خطابًا دكتاتوريًا مستبدًا، أو براجماتيًا نفعيًا، إنما كان خطابه إلى الناس خطابًا تربويًا .. لم يكن يغلب عليه طابع الحاكم بقدر ما غلب عليه طابع المعلم الوقور الذي يتحدث إلى تلاميذه .. وهذا من تجليات رحمته r..
المطلب الأول : المعلم الرحيم :
كان النبي r هو المعلم الرحيم والمصلح الكبير لإبناء الإنسانية، علمهم الحياة ، والحضارة، فأصلح شؤونهم بعد فساد، يقول الباحث الهولندي وث ( 1814 – 1899م) :
"لقد جاء قرآن العرب على لسان نبيهم محمد العظيم [r]! ، وعلمهم كيف يعيشون في هذه الحياة ، وقد وحد صفوفهم وجمع كلمتهم وأدبهم حتى لا ترى أمة من الأمم أحسن منهم، وبالنهاية اعتمدوه في كل أمورهم ، وكان يتلقى الوحي من ربه الذي يوحي إليه ، ثم ينقله إلى الناس ، بعد أن يكتبه له الكتاب الذين انتدبهم لذلك" ..

كما كان النبي rفي سائر مراحل حياته القدوة الإنسانية والمثل الأعلى والنموذج الأمثل للمعلم الكبير، وقد جاء في القرآن الكريم:‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب : 21]
"فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا ،حتى نقتفي أثره"
وهذه القدوة التي تمسك بها المسلمون، عادت عليهم بانتشار هذا الدين في تلك الرقعة الفسيحة في الأرض كما يقول توماس آرنولد، و"وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام، متخذين من هدي الرسول [r] مثلاً أعلى وقدوة صالحة" .
المطلب الثاني: نماذج رحمته بالمتعلمين :
فمن نماذج رحمته r في التربية ما رواه مُعَاوِيَةَ بنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ قال: صَلّيْتُ مَع رسولِ الله rفَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ. فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله, فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَيّاهُ ! مَا شَأْنُكُم تَنْظُرونَ إلَيّ؟ ! قال:
فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأيْدِيهِمْ عَلَى أفْخَاذِهِمْ فَعَرَفْتُ أنّهُمْ يُصَمّتُونِي، فَلَمّا رَأيْتُهُمْ يُسكّتُونِي سكَتّ، فَلَمّا صَلّى رسولُ الله r - بِأبِي وَأُمّي - مَا ضَرَبَني وَلا قهَرَني وَلا سَبّنِي. ثُمّ قال:"إنّ هَذِهِ الصّلاَةَ لا يَحِلّ فيها شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النّاسِ هَذَا. إنّمَا هُوَ التّسْبِيحُ وَالتّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" .
ومن أعاجيب المواقف التي تدل على سعة صدره ورحمته للمتعلمين، قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.. فعن أنس  قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله r إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد وأصحاب الرسول r يصيحون به: مه مه! (أي اترك)، فقال رسول الله r: "لا تزرموه دعوه!" (لا تقطعوا عليه بولته)، فترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعا الرسول r الأعرابي، فقال رسول الله r للأعرابي: " إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر؛ إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن". وهنا قال رسول الله r لإصحابه: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه دلوا من الماء". فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا!!! فقال الرسول r: "لقد تحجرت واسعًا، (أي ضيقت واسعًا)" .

وهكذا نرى نبي الرحمة r في مثل هذه المواقف، التي يغلب عليها الجانب التربوي السمح، لا الجو العسكري الصارم . وإن كان رسول اللهr هو "الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد" في آن واحد .
المطلب الثالث : أساليبه في الخطاب التربوي :
وأساليبه r في الخطاب التربوي والتعليم، رحمة للمتعلمين، رحمة لكل من يستمع إليه ..
فتراه r وهو يحدث الناس، يمهد لحديثه ليفهموه، ويكرر المعلومة ويوكدها ليعقلوها، ويضرب الأمثلة ليصل المعنى إلى السامعين، ويتخولهم بالموعظة مخافة الملل، ويرسم بيده على الأرض، ويستخدم أصابعه ممثلاً...كل هذا رفقًا ورحمة بالمستمعين والمتعلمين .
أولاً: التمهيد والتهيئة:
كان النبي r يمهد للمعلومة قبل إيصالها للمتعلم، بحيث يستوعبها السامع، بسهولة ويسر، ومثال ذلك :
1- ما رواه أبو هريرة  عن النبي r قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا.. ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يارسول الله قال: " إسباغ الوضوء على المكاره.. وكثرة الخطى إلى المساجد... وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط... فذلكم الرباط " .
2- وعن أبي هريرة أن رسول الله r قال: " أتدرون من المفلس؟".
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا.. وقذف هذا.. وأكل مال هذا.. وسفك دم هذا... وضرب هذا... فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته... فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم.. فطرحت عليه ثم يطرح في النار " .
ففي المثال الأول مهد للمستمعين قائلاً : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا.. ويرفع به الدرجات..؟" ، ليتهيىء السامع، ويتجاوب مع السؤال، ويُعمل عقله، في محاولة الإجابة، ومن ثم يقوم النبي بالإجابة على السؤال بنفسه وقد استثار عقل السامع نحو فكرة الموضوع . فتدخل المعلومة إلى العقل، وقد اشتاق إلى المعلومة، كما تشتاق الأرض العطشى للمطر !
وبالمثل في المثال الثاني، فالسامع في اشتياق لمعرفة هذا المفلس وصفاته، بعدما تحرك العقل يمينًا وشمالاً لمعرفة الجواب الصحيح . فلا يزال العقل في حيرة حتى تصل إليه المعلومة الشافية، فتحصل الفائدة وترسخ المعلومة.

ثانيًا: التكرار والإعادة:
فعن أنس بن مالك  عن النبي r أنه " كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه.. " .
ومثال ذلك:
1- قوله r: " ألا وقول الزور " فما زال يكررها...
2- ويقول ابن عمر: قال النبي r : " هل بلغت؟ " ثلاثًا .
3- وعن عبد الله بن عمرو عن النبي r قال: " ويل للأعقاب من النار " مرتين أو ثلاثاً.
والتكرار في هذه النماذج للتفهيم والحفظ. وهذه من قبيل رفقه وتنبيهه للمستمع.

ثالثًا: التأني أثناء العرض:
فتصف عائشة طريقة عرض النبي r فتقول : " ما كان رسول الله r يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بيّن، فصل، يحفظه من يجلس إليه " .
والنبي r بطريقة عرضه هذه، إن دلت على شيء فإنما تدل على رفقه ورحمته بالمستمعين..

رابعًا: مراعاة طاقة المتعلمين:
فلقد كان النبي r، يقتصد في دروسه وخطبه ومواعظه، حتى لا يمل المتعلمين من تعاليمه r، وحتى ينشطوا لحفظها ويسهل عليهم فهمها ..
فقد كان النبي r يحسن اختيار أوقات النشاط الذهني، والاستعداد النفسي لدى المتعلمين.. ومباعدته بين الخطبة وأختها، والموعظة وأختها.. حتى تشتاق النفوس، وتنشرح الصدور لتلقي العلم..
فعن عبد الله بن مسعود  قال: " كان النبي r يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا " .

خامسًا: ضرب الأمثال:
وقد كان هذا الأسلوب هو المعتاد والمفضل في منهج النبي r في العرض والتفهيم، ومثال ذلك قوله r :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "
وفي ذلك أثر كبير في إيصال المعنى إلى المتعلم، ذلك أنه يقدم القيمة المعنوية في صورة حسية ملموسة، فيربطه بالواقع ويقربه إلى الذهن .
سادسًا: استخدام الوسائط المتعددة:
كان النبي r يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التعليمية أوالوسائط التوضيحية، لتبيين المعنى، وتوضيح المغزى في عقول السامعين، وشغل كل حواسهم بالموضوع:
ومن هذه الوسائط:
1- التعبير بحركة اليد والأصابع:
كتشبيكه r بين أصابعه وهو يبين طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه. فعن أبى موسى الأشعري ... عن النبي r قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان.. يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه .
2- التعبير بالرسم والمجسمات:
أ) أما الرسم : فعن عبد الله بن مسعود  قال: " خط النبي r خطًا مربعًا.. وخط خطًا في الوسط خارجا منه ـ وقد أحاط به ـ وهذا الذي هو خارج أمله... وهذه الخطوط الصغار الأعراض.. فإن أخطأه هذا؛ نهشه هذا. وإن أخطأه هذا؛ نهشه هذا" .
ففي هذا الحديث بين لهم النبي r بالرسم على الأرض كيف يحال بين الإنسان وبين آماله الكثيرة الواسعة بالموت .. وفيه حض على الاستعداد للموت قبل هجومه المفاجئ.
ب) وأما المجسمات : فعن علي بن أبي طالب  قال: " إن نبي الله r أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبًا فجعله في شماله: ثم قال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي... حل لإناثهم " .
3- التعليم التطبيقي العملي:
ولقد انتهج الرسول r هذا الأسلوب في التعليم عندما كان يعلم الصحابة الصلاة حيث قال بعد ما فرغ من الصلاة ذات يوم : " أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي " .
كل هذه الوسائط والأساليب من قبيل الرحمة بالمتعلمين، تبين لك عظيم رحمة النبيr، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على عظم قدر العلم والمعرفة والثقافة في نفس محمدr، وتقديره البالغ لرسالة التربية والتعليم، وممارسته الماهرة لشتى الوسائل التي تفيد المنظومة التربوية ..

المبحث السادس
خدمة الإنسانية
المطلب الأول : محمد خادم الإنسانية:
وفي رعايته للإنسانية وحقوق الإنسان مظهر آخر من مظاهر رحمته r ..
لقد عاش النبيr حياته يخدم الإنسان، ويهذب الإنسان، ويعلم الإنسان، ويدافع عن الإنسان.. !
لقد كان إنسانًا بكل ما في الكلمة من معان. وكانت سعادة نفسه ورضاها، في كونه إنسانًا، يأكل كما يأكل العبد، ويلبس كما يلبس العبد، يسأل ربه دومًا أن يحيه مسكينًا وأن يمته مسكينًا، وأن يحشره في زمرة المساكين .. و لا يأنف أن يطمئن رجلاً دخل علي حضرته – صلوات الله وسلامه عليه - ، وقد ارتعدت أوصال الرجل، من شدة هيبة النبي r، ظنًا منه أنه إنما دخل على جبار أو ملك، والنبي يهدىء من روعه قائلاً :
" هون عليك ! فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد !" .
"لقد كان محمد [r] أنموذجًا للحياة الإنسانية بسيرته وصدق إيمانه ورسوخ عقيدته القويمة. بل مثالاً كاملاً للأمانة والاستقامة وإن تضحياته في سبيل بث رسالته الإلهية خير دليل على سموّ ذاته ونبل مقصده وعظمة شخصيته وقدسية نبوته... وما حياة الرسول [r] سوى سلسلة وقائع تاريخية عظيمة الشأن نبيلة المرمى يتجلى فيها مقامه السامي من الحلقة الإنسانية " ..
تقول "اللادي ايفلين كوبولد":
".. لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر محمد [r] روعة ما يستطيع لها تفسيرًا، وهي روعة تملأ النفس اضطرابًا وذهولاً ورجاء وخوفًا وأملاً، ذلك أنه أمام نبي مرسل وعبقري عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة والعبقرية يهزان القلوب ويثيران الأفئدة فما بالك بالعظمة إذا انتظمت مع النبوة، وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية" .
ويؤكد القس "دافيد بنجامين كلدانى" في مؤلفه : " محمد في الكتاب المقدس " هذه الحقيقة بأن النبي r "خادم الإنسانية" بقوله :
"إن الخدمة الجليلة العظيمة المدهشة التي قدمها محمد [r] لله .. ولصالح البشر، لم يقدمها أي مخلوق من عباد الله ملكاً كان أو نبياً... فإنه [r] أقلع جذور الوثنية من جزء كبير من الأرض، وأما خدمته للإنسان فقد قدم له أكمل دين وأفضل شريعة لإرشاده وأمنه " .
ويتابع القس كلدانى القول :
" أقام دين الإسلام الذي وحد في أخوة حقيقية ، جميع الأمم والشعوب التي لا تشرك بالله شيئاً . إن جميع الشعوب الإسلامية تطيع رسول الله[r] وتحبه تحترمه! لأنه مؤسس دعائم دينها، ولكنها لا تعبده أبداً ولا ترفعه إلى مقام التقديس والتأليه" ..
ويقول الباحث السويسري ماكس فان برشم ( 1863 _ 1921 ) :
" إن محمداً [r] نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية، وإن ظهور محمد[r] للعالم أجمع إنما هو أثر عقل عال ، وإن افتخرت آسية بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم .." ..
و تلخص الموسوعة البريطانية السيرة الكفاحية لحياة الرسول r واجتهاده في خدمة الإنسانية عربياً وعالمياً فتقول :
"إن محمداً [r]، اجتهد في الله .. وفي نجاة أمته ، وبالأصح : اجتهد في سبيل الإنسانية جمعاء" ..
و"ما أجمل ما قال المعلم العظيم [r] :(الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ.).. "
المطلب الثاني: خطبة الوداع : الميثاق الإسلامي لحقوق الإنسان :
وقد جاء في هذه الخطبة الجامعة :
"أيها الناس ! إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا، بمكاني هذا، فرحم الله من سمع مقالتي اليوم فوعاها، فرب حامل فقه ولا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .
‏" ‏إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا‏.‏ ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هُذَيْل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله‏" .
" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يُؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه!" .
" واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث إخلاص العمل لله ومناصحة أولي الأمر وعلى لزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "
‏"‏فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏..وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ..كتاب الله .
"أيها الناس ! إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم واعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا ولاة أمركم تدخلوا جنة ربكم.‏ " .
"‏وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون‏؟‏‏" ‏ قالوا‏:‏ نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت‏.‏
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس‏:‏ ‏"‏اللهم اشهد‏!!"ثلاث مرات‏ .
ويعلق "هربرت جورج ولز "على هذه الخطبة فيقول :
"إنّ أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة.. إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها" .
ويعلق العلامة إميل درمنغم ، على هذه الرحلة العظيمة، وهذه الخطبة البليغة، قائلاً:
".. تجلت بهذه الرحلة الباهرة [حجة الوداع] ما وصلت إليه من العظمة والسؤدد رسالة ذلك النبي [r]الذي أنهكه اضطهاد عشر سنين وحروب عشر سنين أخرى بلا انقطاع، وهو النبي الذي جعل من مختلف القبائل المتقاتلة على الدوام أمة واحدة.."
المطلب الثالث: توجيهات إنسانية :
وإلى جانب خطبة الوداع الجامعة هناك توجيهات وتعاليم أخرى للنبي r، تعنى بحقوق الإنسان، لاسيما في مسألة الدماء :
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: قُتِلَ قَتِيلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r لا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ، فَصَعِدَ مِنْبَرَهُ ، فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! أَيُقْتَلُ قَتِيلٌ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ؟ لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِلا عَدَدٍ وَلا حِسَاب"
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ سَرِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ r غَشُوا أَهْلَ مَاءٍ صُبْحًا فَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ فَقَتَلَهُ ، فَلَمَّا قَدِمُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ r بِذَلِكَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْمُسْلِمِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ وَهُوَ يَقُولُ إِنِّي مُسْلِمٌ" فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا. فَصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ r وَجْهَهُ وَمَدَّ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَالَ : " أَبَى اللَّهُ عَلَيَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ..
و"مثل هذه الأقوال وهذه الأفعال ترينا في محمد[r] أخا الإنسانية الرحيم ، أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق ، وابن أمنا الأولى وأبينا الأول" .

الفصل الثالث
رحمته للعالمين في مجال الأخلاق
المبحث الأول : الرفق واللين
المبحث الثاني : العفو
المبحث الثالث : العدالة والمساواة
المبحث الرابع : الحب والإخاء
المبحث الخامس : السماحة في المعاملات المالية

المبحث الأول
الرفق واللين واللطف
المطلب الأول: طريق محمد .. طريق الرفق :
ماهي طريقة محمد  في دعوة الناس إلى منهج الله القويم ؟
يجيب عن هذا السؤال توماس أرنولد ، ويقول :
" قد جاءهم محمد []من طريق الرفق" !
أما لويس سيديو، فيفصل في الإجابة، ويقول :
"كان[] يستقبل بلطف ورفق جميع من يودّون سؤاله، فيسحر كلماءه بما يعلو وجهه الرزين الزاهر من البشاشة، وكان لا يضج من طول الحديث، وكان لا يتكلم إلا قليلاً فلا ينمّ ما يقول على كبرياء أو استعلاء، وكان يوحي في كل مرة باحترام القوم له.. " .
ويقول " برتلي سانت هيلر ": "كان محمد []أزكى العرب في عهده وأكثرهم تقوى وديناً، وأرحبهم صدراً ، وأرفقهم بأعدائه" ..
ولهذا قال هنري دي كاستري: " هكذا جذب الإسلام قسمًا عظيمًا من العالم... بما اشتمل عليه من الترفق بطبيعة البشر حيث أتاح للناس شيئًا مما يشتهون !" .. فهو دين واقعي، يتعامل مع حاجات الإنسان بفهم ورفق، أو بعبارة كويليام :" ليس بين الأديان أقرب للفهم من الدين الإسلامي للذين يفقهونه، كما أنه ليس بينها أثبت ولا أرفق منه."
ويقول "هربرت جورج ولز": "هذا الإلحاح على الرفق والرعاية في الحياة اليومية إنما هو واحد من فضائل الإسلام الكبرى بيد أنه ليس الفضيلة الوحيدة فيه" .، ولا زال الغرب يتعلم أخلاق الرفق من الإسلام ونبي الإسلام، كما يقول "ريشار وود" حتى صار النصارى يتعلمون من الدولة الإسلامية، و"ما يرمي إليه الدين [ الإسلامي ] من الحضّ على الرفق واللين" ..!
ومن ثم يدعو "سوسة" أتباع موسى وعيسى [عليهما السلام] " أن يراجعوا التاريخ الإسلامي ليقفوا على ما يأمر به الإسلام بشأن الرفق بالأطفال والنساء والشيوخ وغير المقاتلين بصورة عامة. ويثبت لنا التاريخ... أن المسلمين ساروا وفق شريعتهم القاضية بوجوب عدم مس الأطفال والنساء والشيوخ، بكل أمانة وحرص حتى في الظروف التي كان فيها العدو المقابل يقتل الأطفال والنساء وغير المحاربين من المسلمين" ..
المطلب الثاني : حثه على الرفق :
أولاً : الرفق يحبه الله :
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ"
و عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أن النَّبِيِّ  قال:
"إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَى بِهِ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ..." .
ثانيًا: الرفق جمال وذوق:
عَنْ عَائِشَةَ:
أن النَّبِيِّ  قَالَ : "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ" ..
ثالثًا: الرفق يجلب الخير:
و عَنْ جَرِيرٍ:
عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ : "مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ !" .
المطلب الثالث: من نماذج رفقه :
أولاً: الرفق بالمتعلمين:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ ( ليضربوه )، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
"لَا تُزْرِمُوهُ !"
ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ .
ثانياً: الرفق بالسفهاء :
عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  . فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ . قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا. فَقُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ ! ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ".
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟
فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : "قَدْ قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ" ..
وهذا وهو خلق رسول الله  دومًا إذا سابه أحد أو شاتمه..
ثالثًا : الرفق بالعصاة :
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا !! فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا : مَهْ مَهْ !!!
فَقَالَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادْنُهْ " ..
فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا.. فَجَلَسَ
قَالَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ "
قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ !
قَالَ : "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ."
"أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ "
قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ
قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ
" أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ "
قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ..
قَالَ : "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ "
" أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ "
قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ
قَالَ:" وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ "
"أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ " .
قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ" .
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ :
"اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ" ..
فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ .
رابعًا: الرفق بالشعب والرعية :
عن حَرْمَلَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ:
أَتَيْتُ عَائِشَةَ، أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ ..
فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ ؟
فَقُلْتُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ
فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ
فَقَالَ : مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ ..
فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ - فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْر-ٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي بَيْتِي :
"هَذَا اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ، عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ " .
خامسًا : الرفق بالمستفتي وصاحب المسألة :
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ قَالَ
كُنْتُ امْرَأً أَسْتَكْثِرُ مِنْ النِّسَاءِ لَا أَرَى رَجُلًا كَانَ يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ مَا أُصِيبُ! فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ، فَبَيْنَمَا هِيَ تُحَدِّثُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ انْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ ، فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا فَوَاقَعْتُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي ، وَقُلْتُ لَهُمْ : سَلُوا لِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-!!
فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَفْعَلُ إِذًا يُنْزِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِينَا كِتَابًا أَوْ يَكُونَ فِينَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلٌ فَيَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهُ، وَلَكِنْ سَوْفَ نُسَلِّمُكَ لِجَرِيرَتِكَ، اذْهَبْ أَنْتَ فَاذْكُرْ شَأْنَكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -..
قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "أَنْتَ بِذَاكَ ؟ "
فَقُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ، وَهَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَابِرٌ لِحُكْمِ اللَّهِ عَلَيَّ .
قَالَ: " فَأَعْتِقْ رَقَبَةً" .
قُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ !
قَالَ : " فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" .
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ دَخَلَ عَلَيَّ مَا دَخَلَ مِنْ الْبَلَاءِ إِلَّا بِالصَّوْمِ !
قَالَ: " فَتَصَدَّقْ أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " .
قُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ مَا لَنَا عَشَاءٌ !!
قَالَ : " فَاذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ، وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَانْتَفِعْ بِبَقِيَّتِهَا !!!" .
فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي فَقُلْتُ :
وَجَدْتُ عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ وَوَجَدْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ !
قال : فَادْفَعُوهَا لِي .
سادسًا: الرفق بالحيوانات :
نهى النبي  عن تعذيب الحيوانات والطيور وكل شيء فيه روح، فقد مَرَّ أنس بن مالك فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ فِتْيَانًا نصبوا أمامهم دجاجة، وجعلوها هدفًا لهم، وأخذوا يرمونها بالحجارة فَقَالَ أَنَسٌ: " نَهَى النَّبِيُّ  أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ."
أي تحبس أوتعذب أوتقيد أوترمي حتى الموت.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى؛ رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ  نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ." .
وقال" إنَّ النَّبِيَّ  لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا" .

وقال : " إن رسول الله  لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا .."
أي :هدفًا يُتدرب عليه ونحو ذلك .
و عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ" .
وفيه دلالة على حرمة إيذاء الحيوان حيًا أو ميتًا، ألإ لضرورة أو منفعة .
وقد بين النبي  أن الله سبحانه قد غفر لرجل؛ لأنه سقى كلبًا كاد يموت من العطش .
فبّين " أن رجلاً رأى كلبًا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له، فأدخله الجنة ." .
بينما دخلت امرأة النار؛ لأنها حبست قطة، فلم تطعمها ولم تَسْقِهَا حتى ماتت !
فقال : " عُذبت امرأة في هرة، حبستها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار " .
ومن الرفق بالحيوان ذبحه بسكين حاد حتى لا يتعذب، يقول النبي :
"إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ [أي: في الحروب والمعارك]، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ.وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ [السكينة التي يذبح بها الطير ونحوه]وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" .
ويروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
جاء بعير يشتد حتى سجد لرسول الله ، ثم قام بين يديه، فذرفت عيناه، فقال رسول الله  : "من صاحب هذا البعير؟" قالوا: فلان. فقال "ادعوه، فأتوا به"، فقال له رسول الله  "يشكوك" فقال: يا رسول الله، هذا البعير كنا نسنو عليه منذ عشرين سنة، ثم أردنا نحره.
فقال رسول الله : "شكا ذلك، بئسما جازيتموه، استعملتموه عشرين سنة حتى إذا أرق عظمه، ورق جلده أردتم نحره بعينه" قال: بل هو لك يا رسول الله. فأمر به رسول الله  فوجه نحو الظهر، أي الإبل .
و عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال كنا مع رسول الله  في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش ، فجاء النبي فقال:
" من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها ! "
ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال :
"من حرق هذه ؟ "
قلنا: نحن ..
قال : "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" .

المبحث الثاني
العفو
العفو ترك المؤاخذه بالذنب ، وقد ضرب النبي  المثل الأعلى في الصفح عن محاربيه ومعانديه ومن له عليهم قصاص . وذلك من تجليات رحمته .
المطلب الأول : النبي العفو
يذكر مارسيل بوازار عفو محمد فيقول:
" وبالرغم من قتاليته ومنافحته ، فقد كان يعفو عند المقدرة " .
ويتناول الكاتب الهندي "مولانا محمد علي" مظهر العفو في أخلاق الرسول، كمظهر من مظاهر رحمة محمد للبشر ، بشيىء من التفصيل والتدليل ويقول :
"وكان العفو جوهرة أخرى بالغة الإشعاع في شخصية الرسول . لقد وجدت فيه تجسدها الكامل . ولقد أوصاه القرأن الكريم بـأن يأخذ بالعفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين .
ولقد جاءه تفسير ذلك من لدنه تعالى . على هذا النحو : ( صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، واغفر لمن أساء إليك )... لقد عاش [] وفقها حتى في أحرج المواقف . وفي معركة أحد [ شوال 3هـ/إبريل624 م] ، عندما جُرح وسقط على الأرض ، سأله أحد الصحابة أن يستنزل اللعنة على العدو، فأجاب : ( أنا لم أبُعث لعاناً للعالمين ، ولكن بعثت هاديًا ورحمة . . اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون !). وذات مرة جذبه بدوي طارحاً دثاره حول عنقه ، وحين ُسئل الرسول  لمِ َلـم ْيعامله بالمثل أجاب قائلاً : إنه لا يرد على الشر بالشر أبداً ." ..
ويقول : "إن تاريخ العالم ليعجز عن تزويدنا بنظير لهذا الصفح الكريم الذي أغدقه الرسول [] على أمثال أولئك المجرمين الكبار . إن الضرب على وتر المواعظ الداعية إلى الصفح والغفران لا يكلف المرء شيئاً كثيراً ، ولكن عفو المرء عن معذبيه ليحتاج إلى قدر من الشهامة عظيم ، و بخاصة حين يكون أولائك المعِذبون تحت رحمته" .
ولا غرو أنْ وجدناه  أحسن الناس عفواً، وألطفهم عشرة، يعفو عن المسيء، ويصفح عن المخطئ حتى وصفه الخالق سبحانه وتعالى :  لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ] [التوبة : 128].
فقد أمره الله تعالى بانتهاج نهج العفو في دعوته .. قال الله تعالى : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة : 13] .
المطلب الثاني : نماذج عفوه :
أولاً: عفوه عن مشركي مكة عام الفتح( رمضان 8هـ/ يناير 630 م ):
يضرب الكاتب الهندي " مولانا محمد علي"، مثالاً بعفو النبي  عن مشركي مكة بعدما فعلوا به ما فعلوه.. فيقول:
"والمكيون الذين أخضعوه وأصحابه ، دائماً وأبداً ، لأشد التعذيب بربرية؛ منحهم عفواً عاماً" !
ويقول " اللورد هيدلي" ، معقباً على عفو النبي  في فتح مكة:
"عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذبوه ! آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة ! وأغنى فقراءهم، وعفا عن ألد أعدائه ؛ عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته...!" ..
يقول "كولن" :
"تأملوا معي كيف أنهم أخرجوه هو ومن يقف معه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة، ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة، وكانت تقضي بعدم التعامل معهم بيعًا وشراء وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج بناتهم لهم.
وقد دامت هذه المقاطعة ثلاث سنوات بحيث اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك منهم الأطفال والشيوخ من الجوع دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم عاطفة رحمة. ولم يكتفوا بهذا، بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بعيدة. ولم يدعوهم في راحة هناك فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم طعم الراحة والاطمئنان.
وفي غزوات بدر وأُحد والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية، وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة الكعبة، وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية. ولكن الله تعالى أنعم عليهم ففتحوا مكة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش عظيم.
فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضًا؟ لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء" .. "

ولو كان محمد  من ملوك الدنيا لسالت دماء أهل مكة ولكنه قابله صنيعهم بالعفو فما كان منهم إلا أن دخلوا في دين الله أفواجا ..
ثانيًا: عفوه عن أهل الكتاب :
يقول "مولانا محمد علي" :
"ولقد أسبغ عفوه على أتباع الأديان جميعاً - يهود ، ونصارى ، ووثنيين، وغيرهم - إنه لم يقصر إحسانه على أتباع دينه فحسب" ..
ومثال ذلك عفوه عن قبيلة بني قينقاع اليهودية الذين ناصبوه العداوة، وقد كان في استطاعته أن يفنيهم عن بكرة أبيهم في معركته معهم، في 15 شوال سنة 2 هـ/9 إبريل624. رغم ما صدر منهم من جريمة نكراء، قد تواطئوا فيها على كشف عورة سيدة مسلمة في مكان عام. وتواطئهم في قتل رجل مسلم، دافع عن عرض السيدة المسلمة وحاول رد العدوان ..
ومثال آخر ، عفوه عن قبيلة بني النضير اليهودية، بعد أن خططوا لعملية اغتيال فاشلة للنبي  ، وقد كان باستطاعته أن ينفذ فيهم حكم الإعدام في من شرعوا في محاولة اغتياله كما هو الحال في الأعراف والأدبيات الدولية، وقد كانوا جميعًا تحت رحمته بعد هزيمتهم في معركتهم ضد المسلمين (في ربيع الأول سنة 4 هـ/ أغسطس 625م)، ولكنه – صلوات الله وسلامه عليه – أصدر عفوًا عامًا لهم، مقابل أن يرحلوا خارج حدود الدولة.

ثالثًا: عفوه عن الضعفاء أثناء الحروب:
"إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء، والمسنين، والأطفال، والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة" .
وقد كان محمد  ينبه على هذه التعليمات، ويوصي بها جنوده، ويأخذ عليهم العهود في ذلك، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة .

رابعًا: عفوه عن الأعراب الغلاظ :
1- الأعرابي الذي رد على النبي بوقاحة:
قال أبو موسى الأشعري: كنت عند النبي  وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ  أعرابيُ، فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: " أبشر" فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر!! فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: "رد البشرى، فاقبلا أنتما!!" قالا: قبلنا. ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: "اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا !" فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة .
2- الأعرابي الذي اتهم النبي  بالظلم:
لما كان يوم حنين [شوال 8 هـ/ يناير 630 م]، ويوم توزيع الغنائم على الجيش، آثر رسول الله  ناسًا في القسمة، فأعطى أناسًا أسلموا حديثًا و أناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل من الأعراب: والله ! إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله !. فرفع الصحابي عبد الله بن مسعود إلى حضرة النبي تقريرًا بذلك. فتغير وجه النبي  حتى كان كالصرف. ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!" ثم قال: "يرحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" .
3- الأعرابي الذي قابل إحسان النبي بالإساءة :
عن أبي هريرة ، أن أعرابيا ، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -يستعينه في شيء ، فأعطاه شيئا ، ثم قال :" أحسنت إليك ؟ "
فقال الأعرابي : لا ، ولا أجملت !
قال : فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا .
ثم قام النبي -صلى الله عليه وسلم - فدخل منزله ، ثم أرسل إلى الأعرابي ، فدعاه إلى البيت ، فقال : "إنك جئتنا فسألتنا ، فأعطيناك ، فقلت : ما قلته" ، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال :" أحسنت إليك ؟ " !
قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا ..
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- :" إنك كنت جئتنا فسألتنا ، فأعطيناك ، وقلت ما قلت ، وفى أنفس أصحابي شيء من ذلك ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى تذهب من صدورهم ما فيها عليك " !!
قال : نعم .
فلما كان الغد أو العشي ، جاء فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن صاحبكم هذا كان جاء فسألنا ، فأعطيناه ، وقال ما قال ، وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، أكذلك؟"
قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا .
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -:" ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه ، فاتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورًا ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها وأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها وأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هونا هونا هونا حتى جاءت واستناخت وشد عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال ، فقتلتموه، دخل النار !" .
وهذا الموقف قد ازدحمت فيه العديد فضائل وأخلاق محمد، فاشتمل الموقف على وكرمه وحسن تصرفه ولطفه ورفقه ، إلا جانب خلق العفو الذي سطرنا تحته الحديث– صلوات الله وسلامه على صاحب الخلق العظيم - .

المبحث الثالث
العدالة والمساواة
نبين في هذا المبحث، مظهر آخر من مظاهر الرحمة في شخصية نبينا محمد .. فلقد تحدث علماء الغرب عن أخلاق العدالة والمساواة في سلوك النبي  ، لاسيما وهو يمثل الحاكم الأول لدولة المسلمين؛ التي تمخض عنها أعرق حضارة في تاريخ البشرية .. !
ولنتحدث عن أخلاق العدالة والمساواة في شخصية النبي  ..!
فجل الأنظمة الحالية التي تحكم كوكب الأرض تتشدق بقيم العدل، والمساواة بين الناس، وأنى لهذه الأنظمة أن تتطلع لهذه الأخلاق السامقة .. بعدما جعلت من العدالة والمساواة شعارات براقة جوفاء خالية من التطبيق على أرض الواقع .
فإلى هذه الأنظمة هذا النموذج الفذ ..
المطلب الأول : محمد  حاكمًا عادلاً:
يقول برتلي سانت هيلر :
"كان محمد[] رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي [] بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة."

كان الرسول  كمعلم ورئيس دولة ورجل سياسي؛ بالغ الحرص على تطبيق المساواة على الجميع، خاصة وقد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين، يقول "مولانا محمد علي" :
"وفي إقامة العدالة كان الرسول[] منصفاً حتى التوسوس . كان المسلمون وغير المسلمين، والأصدقاء والأعداء ، كلهم سواء في نظره . وحتى قبل أن يُبعث إلى الناس كانت أمانته وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام، وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم فيها . وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكماً في منازعاتهم كلها . وعلى الرغم من حقد اليهود العميق الجذور على الإسلام فإن الرسول[] حكم - عندما عرض عليه ذات مرة نزاع بين يهودي ومسلم - لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر بذلك من الإسلام ، بل ربما بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفر بذلك من الإسلام . ولا حاجة بنا إلى تبيان أهمية خسارة كهذه بالنسبة إلى الإسلام في أيام ضعفه ومحنته تلك ، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى بيان . " .
"ولقد نبه[] ابنته فاطمة، إلى أن أعمالها وحدها سوف تشفع لها يوم القيامة . وقال أيضاً : " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " . وفيما كان على فراش الاحتضار ، قبيل وفاته بقليل ، سأل كل من له عليه دين أن يتقاضاه ذلك الدين ، ولكل من أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه" .
إن صفة العدالة/ المساواة التي تخّلق بها نبي الإسلام ونظام الإسلام قد دفعت الكثيرين إلى اعتناق الإسلام، فالمساواة والعدالة في الإسلام – كما يقول "جاوبا " –" تختلف عنها في البلشفية التي تعمل على سحق الأغنياء لصالح الفقراء، ولا هي كالمساواة عند النصارى حيث يجلد الرجل الزنجي لا لشيء إلا لأنه وقع بصره على امرأة بيضاء. ويعبد الزنوج ربهم في كنائس خاصة بهم مستقلة عن كنائس البيض. أما في الإسلام فجميع المساجد مفتحة أبوابها لكل مسلم غنيًا كان أم فقيرًا، أسودَ كان أو أبيضَ، ملكًا كان أو عبدًا. وهذه الصفة تقيم صرح وحدة حقيقية راسخة بين المسلمين. ومن أجل ذلك فإن الدين الإسلامي لا يقيم مراسيم خاصة لكل داخل في الإسلام كما تفعل الأديان الأخرى، وإنما حسب المرء أن ينطق بالشهادتين حتى يغدو عضوًا في أعظم أخوة عالمية يتساوى في ظلها الناس جميعًا في الواقع العملي الملموس إلى جانب الناحية النظرية المجردة.. وليس في العالم كله أشمل وأصدق من هذه الأخوة الإسلامي" .
المطلب الثاني : العدالة والمساواة في معاملاته اليومية :
كان النبي  يمارس سلوكيات العدالة والمساواة في أدق تفصيل حياته اليومية، مع الغريب والقريب، في السفر والحضر، كمدين وكدائن .. بل نراه إيجابيًا عندما شارك في تأسيس هيئة خيرية تعنى بنصرة المظلوم !
يقول "مولانا محمد علي" :
"وفي معاملات النبي [] مع الآخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة. كان يضع نفسه على قدم المساواة مع سائر الناس . وذات يوم، وكان قد احتل في "المدينة" مقاماً أشبه بمقام الملك، وفد عليه يهودي يقتضيه ديناً ما ، وخاطبه في جلافة وخشنونه قائلاً : إن بني هاشم لا يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر . فثارت ثائرة عمر بن الخطاب لوقاحة اليهودي ، ولكن الرسول[] عنفه ذاهباً إلى أن الواجب كان يقتضي عمر أن ينصح كلاً من المدين والدائن : أن ينصح المدين - الرسول[] - برد الدين مع الشكر ، وأن ينصح الدائن بالمطالبة به بطريقة أليق . ثم دفع إلى اليهودي حقه وزيادة، فتأثر هذا الأخير تأثراً عظيماً بروح العدل والإنصاف عند الرسول[] ، ودخل في الإسلام."

"وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الآجام ، حان وقت إعداد الطعام ، فمهد إلى كل امرئ في القيام بجانب من العمل، وانصرف هو نفسه إلى جمع الوقود . لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي . وكان يراعي ، في معاملته خدمه ، مبدأ المساواة نفسه، وقال أنس : " خدمت رسول الله  عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته لم صنعته ، ولا لشيء تركته لم تركته . " .
ولقد كان رسول الله  من مؤسسي حلف الفضول، الذي ما أُوسس إلا لنصرة المظلوم ونشر العدل بين الناس، فتحرك رسول الله في إيجابية شديدة في دعم وتأييد هذه الحلف، وقال عنه:
" شهدت حلف المطيبين مع عمومتي - و أنا غلام - فما أحب أن لي حمر النعم و أني أنكثه " .
وقال : "لقد شهدت مع عمومتي في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " .

المطلب الثالث: نماذج العدالة في سنته وسيرته :
أولاً: تحذيره من استعباد الناس :
لقد رسخ الرسول قيم العدالة والمساواة في نفوس وزرائه وأتباعه ، فكان يقول ـ محذراً من استعباد الناس ـ : " لا يقولن أحدكم عبدي وأمَتي .. كلكم عباد الله وكل نسائكم إماء الله . ولكن ليقل : غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي . ولا يقل العبد : ربي ولكن ليقل : سيدي " ..
ثانيًا: نهيه عن التمييز العنصري :
فيقول : " كلكم بنو آدم و آدم خُلق من تراب. لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " .
ولقد عنّف الرسول  أبا ذر  تعنيفاً شديدا ً لما عير بلالاً بأمه ..
فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّبِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ -أى كيف تلبس حلة ويلبس خادمك أو صبيك نفس الحلة التى تلبسها؟ - ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ. فَقَالَ لِي النَّبِيُّ :" يَا أَبَا ذَرٍّ ! أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟ ! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ .. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"
فكأن أبي ذر رفع شعار المساواة بعد هذا التعنيف من رسول الله ، فأصبح أبو ذر يأكل ما يأكل منه خادمه، ويلبس ما يلبس منه خادمه !
ثالثًا: العدل بين الأولاد :
عن النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ
أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ : لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي! فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا ؟ "
قَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ: " أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا ؟؟"
قَالَ: لَا
قَالَ : "فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" .
رابعًا: عدله مع غير المسلمين:
1- العدل مع فصيل يهودي:
لقد حدث أن عبدالله بن رواحة  لما بعثه رسول الله  يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة حسب عهد رسول الله بعد فتح خيبر أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال لهم : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم والله أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم !!
فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض ..!
لقد كان  قد تخرج في مدرسة الرسول على المنهج الرباني المتفرد القائم على العدل والمساواة .
2- العدل مع رجل يهودي:
أ) رد الحق إلى رجل يهودي :
عن ابنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ
أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ ..
فَقَالَ اليهودي - شاكيًا إلى رسول الله - : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَاّ!
فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – آمرًا المسلم بالسداد- : "أَعْطِهِ حَقَّهُ " ..
قَالَ المسلم – معلالاً سبب المماطلة -: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا !
قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مؤكدًا على ضرورة التنفيذ فورًا - : " أَعْطِهِ حَقَّهُ"!.
قَالَ المسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا! قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ فَأَرْجُو أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ..
قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مكررًا الأمر - : "أَعْطِهِ حَقَّهُ" .
قَالَ الرواي : وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُرَاجَعْ !!!
فَخَرَجَ بِهِ (ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ) إِلَى السُّوقِ، وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ، وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ، فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا، وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ : اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ .
فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ ..
فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ : مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: هَا دُونَكَ هَذَا بِبُرْدٍ عَلَيْهَا ، طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ .
ب) آيات تنزل لتبرأة رجل يهودي :
ولقد أنزل الله نحو خمس آيات في سورة النساء، على رأسها قول الله تعالى :  إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] [ النساء : 105] ، لتبرأ رجلاً يهوديًا، اتهمه بعض المسلمين ظلمًا !
هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً ، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً . . وتشهد - وحدها - بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر - مهما ارتفع تصورهم ، ومهما صفت أرواحهم ، ومهما استقامت طبائعهم - لا يمكن أن يرتفعوا - بأنفسهم - إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله . . هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية - إلا في ظل هذا المنهج - ولا تملك الصعود إليه أبداً إلا في ظل هذا المنهج كذلك!
إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة ، التي تحويها جعبتهم اللئيمة ، على الإسلام والمسلمين؛ في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب؛ ويؤلبون المشركين؛ ويشجعون المنافقين ، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل ، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج . . في هذا الوقت الحرج ، كانت هذه الآيات كلها تتنزل ، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لتنصف رجلاً يهودياً ، اتهم ظلماً بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه ، وهم بيت من الأنصار في المدينة . والأنصار يومئذ هم عدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجنده ، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله ، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة . . . !
أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام ، وكل تعليق ، وكل تعقيب ، يتهاوى دون هذه القمة السامقة؛ التي لا يبلغها البشر وحدهم . بل لا يعرفها البشر وحدهم. إلا أن يقادوا بمنهج الله ، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء ؟! فقد كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِن الأنصار يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ ... وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ... فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ فَابْتَاعَ لرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنْ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلَاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ فَنُقِبَتْ الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رِفَاعَةُ إلى قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا. قَالَ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ : فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا : قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ. فلما أشارت أصابع الاتهام لبَنُي أُبَيْرِقٍ، َقَالَ رِفَاعَةُ إلى قَتَادَةَ – صاحب المال المسروق – لقتادة : يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ ..
قَالَ قَتَادَةُ : فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ : إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلَ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " سَآمُرُ فِي ذَلِكَ"..
فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، وخافوا الفضيحة، أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ.
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ !!
قَالَ قَتَادَةُ : فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمْتُهُ .
فَقَالَ : " عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبَتٍ وَلَا بَيِّنَةٍ !" .
قَالَ قتادة : فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ .فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ..
وفي رواية : لما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي ( اسمه زيد ابن السمين )
وما لبث أن اتهم الناسُ هذا الرجل البريء – وإن كان من غير المسلمين - بسرقة هذا الدرع..

فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ :
 إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
خامسًا: الكل سواء أمام القانون :
فعن عائشة رضي الله عنها:
أن قريشًا، أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت .. فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله  فكلمه أسامة ..فقال رسول الله  : " أتشفع في حد من حدود الله ؟ ! " . ثم قام فاختطب. ثم قال : " إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد .. وايم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ! "
سادسًا: عدله بين فصائل الدولة :
1- عدله بين قريظة والنضير في مسألة الديات:
و ما أروع عدله ! حتى بين غير المسلمين وبعضهم، فقد تحاكم إليه يهود قريظة والنضير، في مسألة تتعلق بالديات، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، وتحاكمت إليه نبي الرحمة، فعدل بينهما ، ونزلت الآية: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [المائدة: 45] .
فعن ابن عباس قال:
لما نزلت هذه الآية (فإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [المائدة42]، قال : "كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، فسوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم" .
وفي رواية :
"فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فودي بمائة وسق من تمر ! فلما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل رجلٌ من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله ، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت" الآية، وحكم بينهم بالعدل ..
2- عدله بين الفصائل في مسألة الري وتوزيع المياه :
فقد اتاه أهل مهزور من قريظة، يتحاكمون إليه في مشكلة تتعلق بالمياة والري، فحكم بينهم ..
عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع ... أن رجلاً من قريش كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في [ سيل ]مهزور يعني السيل الذي يقتسمون ماءه، فقضى بينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل
وفي رواية : قال ثعلبة بن أبي مالك :
"قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في سيل مهزور، الأعلى فوق الأسفل . يسقي الأعلى إلى الكعبين ثم يرسل إلى من هو أسفل منه" .
ومذينب ومهزور واديان بالمدينة معروفان يستويان يسيلان بالمطر ويتنافس أهل المدينة في سيلهما فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في سيلهما أنه للأعلى فأعلى والأقرب إلى السيل، فالأقرب يمسك الأعلى جميع الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسله إلى من تحته ممن يليه
سابعًا: مبادىء المساواة والعدالة في خطبة الوداع:
هذا، وتعد خطبة الوداع دستوراً عظيما في إقامة العدالة والمساواة في ربوع العالم .. ويعلق هربرت جورج ولز على هذه الخطبة بقوله :
" حجّ محمد [] حجة الوداع [في ذي الحجة 10هـ/ مارس632 م] من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة.. إنّ أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة.. إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم" .
إن دروس العدالة والمساواة في سيرة النبي  ودولته ونظامه، جلية بينة لكل ذي بال ، وهي تمثل مظهر من مظاهر رحمته  للبشر، بيد أن الخرص كثيراً ما يصيب طائفة من الحاقدين والحانقين على سيرة محمد ؛ فيغضون الطرف عن هذه القيم الزاهية في سيرة النبي  ..
المطلب الرابع : الناس سواء كأسنان المشط:
يقول رسول الله ، في جملة مشهورة للقاصي والداني:
" الناس كأسنان المشط " ..
ويشرح المستشرق والمؤرخ بودلي هذه العبارة البليغة قائلاً:
أي" ليس هناك أي عائق لوني للمسلم فلا يهم أكان المؤمن أبيض أو أسود أو أصفر، فالجميع يعاملون على قدم المساواة" .
ويتعرض توماس كارلايل لهذه القيمة في إعجاب شديد فيقول :
"في الإسلام خلّة أراها من أشرف الخلال وأجلّها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء. " !
و تأسيساً على مبدأ الأخوة الإنسانية بين الأجناس والشعوب، حقق نبينا محمد  واقعياً عملية توحيد مختلف الأجناس في ظل المساواة والعدل الإسلاميين ، يقول "برج"مؤكداً :
"إنه ليس هناك من مجتمع آخر سجل له التاريخ من النجاح كما سجل للإسلام في توحيد الأجناس الإنسانية المختلفة ، مع التسوية بينها في المكانة والعمل وتهيئة الفرص للنجاح في هذه الحياة" .

فلقد ساوى الإسلام بين الناس في إيجاب العبادات وتحريم المحرمات ، وكما ساوى بينهم في الفضل والثواب بحسب أعمالهم مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] [النحل : الآية 97 ] .
وساوى بينهم في كل حق ديني ودنيوي ، ولم يجعل لأحد منهم ميزة في مال أو لون أو عرق أوحسب أو نسب ، إنما الميزة والتفضيل بالصلاح القلبي والتقوى : فقال الله تعالى:  يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ‏‏[ الحجرات : 13 ]
وهذا مظهر من مظاهر رحمة النبي  .. فلم تكن العدالة والمساواة في اعتبارات زعماء العرب أو في أسلوب حكمهم للعرب، قبل بعثة الرسول ، فقد كان قبل عهده ، الإسترقاق على أشده، والتمييز العنصري في ذروته .. حتى أكرم اللهُ العرب برسالة محمد 
ولقد كان رسول الله  حريصاً على تربية أصحابه تربية عملية، بغرس قيم العدالة والمساواة في نفوس أصحابه ..فتخرج من مدرسة محمد  رجال؛ ملئو الأرض عدلاً ورحمة كما ملئت ظلماً وجوراً .. من هؤلاء الرجال عمر بن الخطاب صاحب المقولة الشهيرة : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".ولقد ضرب المسلمون الأوائل في فتوحاتهم أروع الأمثلة في تحقيق العدل والمساواة بين الشعوب، حتى قال جوستاف لوبون - في إعجاب وتقدير - : " ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب" .

المبحث الرابع
الحب والإخاء
المطلب الأول : الأُخوة مكان العصبية :
يقول آتيين دينيه:
"لقد دعا عيسى [عليه السلام] إلى المساواة والأخوة، أما محمد [] فوفق إلى تحقيق المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته" .
فليس من الطبيعي ـ في اعتقاد رسول الله  ـ أن يعيش الناس على هذه الأرض في شقاق و تمزق وتفرق، و قد أوجدهم الخالق سبحانه من أصل واحد، خلقهم جميعًا من آدم، أبيضهم وأسودهم، شرقيهم وغربيهم، عربيهم وعجميهم، غنيهم و فقيرهم ، بل إن أشد ما يتنافى مع الفطرة، ويتعارض مع العقل، أن يوحد الله عباده في الخَلق والمنشأ، ثم يتفرقون في المرجع والمصير. ولأجل هذا اتخذ الإسلام كل أساس وقاعدة تحمي هذا الكيان من الانشقاق والتصدع، وتمكنه من أداء مهمته على الوجه الأمثل ومن بين تلك القواعد : الإخاء.. الذي يمحو أمامه جميع الفوارق بين أفراد هذا الكيان ،و امتيازاتهم من نسب أو جاه أو مال ..
ويتحدث المفكر "وليم موير " عن هذا المبدأ الكبير في الإسلام – مبدأ الإخاء - ، فيقول :
"ومن عقيدة الإسلام أن الإنسان أخو الإنسان " .
ويبين المفكر الكبير "برج " :" أن مبدأ الإخاء الإنساني هو أساس فلسفة الأخلاق الاجتماعية في الإسلام " .
ويشير "فيليب حتي" إلى " أن إقامة الأخوة في الإسلام مكان العصبية الجاهلية (القائمة على الدم والقرابة) للبناء الاجتماعي كان - في الحقيقة - عملاً جريئًا جديدًا؛ قام به النبي العربي [].." .
إن النبي  أسس الدولة الإسلامية الأولى، على قاعدة الإخاء الإسلامى ما بين الأوس والخزرج والمكيين المهاجرين، وأسس الدستور المدني الإسلامي الذي نظم العلاقات ما بين قوى الشعب، ونجح هذا الدستور في تحقيق التعايش والإخاء بين المسلمين وبعضهم، وبين المسلمين وغيرهم، وتطورت جوانب هذا التعايش مع قيام الدولة الإسلامية التي ضمت شعوباً وأُمماً مختلفة، حققت بينها الانسجام والإخوة بين أبناء الوطن الواحد، بعيداً عن العصبية العرقية أو التعصب الديني .

ومن أجل تحقيق الحب والإخاء بين فصائل الشعوب، اعترف الإسلام بصدق الرسالات السماوية السابقة .. يقول مارسيل بوازار – في ذلك -:
" وقد فتح الإسلام الباب للتعايش على الصعيد الاجتماعي والعرقي حين اعترف بصدق الرسالات الإلهية المنزلة من قبل على بعض الشعوب ، وجعل المسلمين منحدرين من نسل مشترك مع اليهود والنصارى عبر إبراهيم ...  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  .. " .
المطلب الثاني : لماذا نجح النبي  في تحقيق الحب والإخاء ؟
يبين توماس آرنولد أن السبب في نجاح النبي  في نشر قيم الحب والإخاء سواء بين الشعوب الإسلامية والقبائل والعشائر المختلفة، هو حسن الخلق والمعاملة الحسنة والجاذبية التي كان يتمتع بها رسول الله ، فيقول آرنولد:
".. إن المعاملة الحسنة التي تعودتها وفود العشائر المختلفة من النبي [] واهتمامه بالنظر في شكاياتهم، والحكمة التي كان يصلح بها ذات بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قطع من الأرض مكافأة لكل من بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه[] مألوفًا لديهم، كما جعل صيته ذائعًا في كافة أنحاء شبه الجزيرة.. سيدًا عظيمًا ورجلاً كريمًا. وكثيرًا ما كان يفد أحد أفراد القبيلة على النبي [] بالمدينة ثم يعود إلى قومه داعيًا إلى الإسلام جادًا في تحويل إخوانه إليه.." .
ولعل الفيلسوف إدوار مونته – هو الآخر - يبين السبب الأساس في قدرة النبي الكريم  في نشر الحب والإخاء بين الناس، و هو ما عرف عن رسول الله  " بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد[] أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم" .
وكلها عوامل وأسباب أدت إلى نجاح محمد  في تحقيق الحب والإخاء بين فصائل وطوائف العرب .
وكان لمبادىء الحب والإخاء في الإسلام وأثرها على باقي الشعوب، في الشرق والغرب، أن حفرت عمقاً عميقاً في وجدانها.. تلك النزعة الإنسانية الخيرة ( الحب / الإخاء) التي ترفض التقسيم العرقي أو الطبقي.
ويتحدث "جواهر لال نهرو" ، عن هذا الجانب، ممثلاً بنموذج الهند، فيقول :
" إن نظرية الأخوة الإسلامية ... التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقاً . وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حَرَّم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية " .
المطلب الثالث : نماذج تعاليمه  :
لقد جعل النبي  من الحب والإخاء في الإسلام عبادة رفيعة يُتقرب بها إلى الله تعالى، ويُستظل بها في ظل عرش الله يوم القيامة .. ومن جملة أحاديثه  في ذلك :
أولاً : المسلمون المتآخون المتحابون كالجسد الواحد :
روى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عن رسول الله  أنه قال :
" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" .
ثانيًا: المسلمون المتآخون المتحابون كرجل واحد :
قال النبي  : " الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ" .
ثالثًا: المسلمون المتآخون المتحابون في ظلال الله :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي ." .
رابعًا: المسلمون المتآخون المتحابون وجبة لهم محبة الله :
عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله  يقول :
" قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين فيّ" .
خامسًا: المسلمون المتآخون المتحابون يغبطهم الأنبياء والشهداء :
قال النبي  :: " يقول الله تعالى : المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء" .
وعن أبي الدرداء  قال : قال رسول الله " ليبعثن الله أقوامًا يوم القيامة في وجوههم النور، على منابر اللؤلؤ ، يغبطهم الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء ". قال : فجثا أعرابي على ركبتيه، فقال : يا رسول الله حلهم لنا نعرفهم ! قال : " هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه " .
هكذا رسّخ رسول الله  قيم الحب والإخاء بين شعبه، ورسخها  عملياً، فيرغبهم في الحب والإخاء وثوابهما، ويرهبهم من التباغض والشقاق وعواقبهما في الدنيا والآخرة .
إن هذا مظهر من مظاهر رحمة النبي  ، فلقد نجح النبي  في تحقيق الأخوة والحب بين الشعب، حتى أصبح أبناء الدولة في عهده كالجسد الواحد أوكالرجل الواحد ..

المبحث الخامس
سماحته في المعاملات المالية
من مظاهر رحمته، سماحته وسهولته في المعاملات المالية ، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحنات، و تجنب إرهاق الناس بالمطالبة أو المماطلة ..وكان يحث على إنظار المعسر والرفق به، والتساهل في المعاوضات المالية، والمشاركة في سداد الديون عن المدينين، والكرم والعطاء بين المتعاقدين.
المطلب الأول : حثه على السماحة في المعاملات المالية :
أولاً: في البيع والشراء والقضاء :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى" ..
وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: "غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى" .
وعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ  قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :"الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" .
ثانيًا: التيسير على المعسر :
عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: "كان الرجلُ يُداينُ الناس، فكان يقولُ لفتاهُ: إذا أتيتَ مُعسِراً فتجاوَز عنه، لعلَّ اللهَ أن يَتجاوَز عنا .. فلَقِيَ اللهَ فَتجاوَزَ عنه" .
المطلب الثاني : نماذج سماحته في المعاملات المالية :
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
ابْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ  مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَعْرَابِ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ - وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ الْعَجْوَةُ - فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ  إِلَى بَيْتِهِ وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ  ..
فَقَالَ: " لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُورًا - أَوْ جَزَائِرَ- بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ !" ..
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : وَا غَدْرَاهُ !!
قَالَتْ : فَنَهَمَهُ النَّاسُ. وَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ ! أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ  ؟ !
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : "دَعُوهُ ! فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا " .
ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّه .. إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ " ..
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : وَا غَدْرَاهُ .. ! فَنَهَمَهُ النَّاسُ وَقَالُوا : قَاتَلَكَ اللَّهُ ! أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ ..؟ !
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : " دَعُوهُ ! فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا" .. فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ  مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا .
فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ؛ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : " اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقُلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ  يَقُولُ لَكِ إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ؛ فَأَسْلِفِينَاهُ حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ..
فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ فَقَالَ: قَالَتْ : نَعَمْ هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  لِلرَّجُلِ : "اذْهَبْ بِهِ فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ" .
فَذَهَبَ بِهِ فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ ..
قَالَتْ عائشة : فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ اللَّهِ  وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ.
قَالَتْ عائشة : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : " أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ" .

الفصل الرابع
رحمته للعالمين في مجال التشريع

المبحث الأول : المرونة والتجديد
المبحث الثاني : الوسطية والاعتدال
المبحث الثالث : التيسير
المبحث الرابع : الرخص الشرعية
المبحث الخامس : التدرج التشريعي

المبحث الأول
المرونة والتجديد

المطلب الأول – شهادة علماء الغرب
من مظاهر الرحمة في شخصية النبي  في ميدان التشريع، أن أحكامه الشرعية تتسم بالمرونة، وقابلية تشريعاته للتجديد ، والتمشي مع مقتضيات العصر والحاجات والمسائل المستجدة، رحمة بالناس ..
فتعاليم نبينا محمد  بسيطة وسهلة ومرنة .. وهي تتسم بالتطور الخصب كما يقول توماس آرنولد، "وإن بساطة هذه التعاليم ووضوحها لهي على وجه التحقيق؛ من أظهر القوى الفعالة في الدين وفي نشاط الدعوة إلى الإسلام.." ..

ويقول الدكتور "إيزيكو انسابا توحين" أحد علماء القانون:
" إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل خلال القرون ، ويبقى محتفظاً بكل ما لديه من قوة الحياة والمرونة . فهو الذي أعطا العالم أرسخ الشرائع ثباتاً، وشريعته تفوق كثيرًا الشرائع الأوربية" .
فالتشريع الإسلامي بعيد عن الجمود رغم تخرصات الكثير من الحاقدين..وتحمل ذاتيته قوة التجدد لما يمتلكه من مرونة في استيعاب التحولات الاجتماعية ، فقد ثبتت مكانته العالية ورفعة شأنه .
ومن هنا ظهر الإسلام في مرحلتنا المعاصرة كشريعة عالمية إنسانية، وكحل أمثل من الحلول المشتركة التي تطرحها فكرة مستقبل الإنسان والمجتمع ..
ويقول "دافيد دي سانتيلانا" :
"لما كان الشرع الإسلامي يستهدف منفعة المجموع، فهو بجوهره شريعة تطورية غير جامدة خلافًا لشريعاتنا من بعض الوجوه. ثم إنها علم ما دامت تعتمد على المنطق الجدلي.. وتستند إلى اللغة.. إنها ليست جامدة، ولا تستند إلى مجرد العرف والعادة، ومدارسها الفقهية العظيمة تتفق كلها على هذا الرأي. فيقول أتباع المذهب الحنفي أن القاعدة القانونية ليست بالشيء الجامد الذي لا يقبل التغيير. إنها لا تشبه قواعد النحو والمنطق. ففيها يتمثل كل ما يحدث في المجتمع بصورة عامة.."

المطلب الثاني: الشريعة الإسلامية : ثوابت و متغيرات :
الثابت والمتغير، المطلق والنسبي، بُعدان أساسيان في خلود الرسالة الإسلامية وخاتميتها، وصلاحيتها ورفقها بالمكلفين.
و لما كانت الشريعة الإسلامية شريعة البشرية من يوم أرسل الله بها النبي  إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، كان لابد لها ـ لتتضمن وتؤمن مصالح البشر دائماً ـ من أن تكون نصوصها مرنة تحتمل كل تطور الأزمنة وتبدل العصور وتواكب الجديد .
إن هذه الشريعة بما فيها من مرونة وشمول، استجابت لمطالب حياة البادية، كما استجابت فيما بعد لحياة الدولة الناشئة في عهد النبي  ، المتوسعة في عهد عمر . ثم ظلت تستجيب لحياة الحضارة فيما بعد .
و الحق، أن المبدأين كليهما من الثبات والتغير يعملان معاً، في الكون والحياة ، كما هو مشاهد و ملموس .. فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام، ملائمة لفطرة الإنسان و فطرة الوجود ، جامعة بين عنصر الثبات و عنصر المرونة .. وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم أن يستمر و يرتقي؛ ثابتاً على أصوله و قيمه وغاياته، متطوراً في معارفه و أساليبه وأدواته. فبالثبات، يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى ، أو التفكك إلى عدة مجتمعات ، تتناقض في الحقيقة و إن ظلت داخل مجتمع و احد في الصورة .. بالثبات يستقر التشريع وتتبادل الثقة و تبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة ، وأسس راسخة، لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم و آخر ... وبالمرونة ، يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن، وتغير أوضاع الحياة ، دون أن يفقد خصائصه و مقوماته الذاتية ..
وإن المبدأين كليهما ( الثبات و التغير ) يعبران عما هو أكثر من سمة من سمات هذا الدين؛ إنهما يعبران عن مكونات هذه الشريعة .. فأحكام الشريعة نجدها تنقسم إلى قسمين أساسيين : قسم يمثل الثبات و الخلود، و قسم يمثل المرونة و التطور .. ولكن ما هو مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ؟ و ما دلائل ذلك .. نبين ذلك في المطلب التالي.
المطلب الثالث : في مجال الثابت و مجال المتغير :
يقول ابن القيم ـ يرحمه الله ـ :
" الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة و لا الأمكنة ، و لا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات ، و تحريم المحرمات ، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ، و نحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ، و لا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه . و النوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً و مكاناً و حالاً ، كمقادير التعزيرات .. " .
ويبين الدكتور يوسف القرضاوي مجال الثابت و مجال المرن في شريعة الإسلام على نحو أشمل فيقول: " .. إنه الثبات على الأهداف و الغايات، والمرونة في الوسائل و الأساليب.. الثبات على الأصول و الكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.. الثبات على القيم الدينية و الأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية و العملية" .
وإن للثبات والمرونة مظاهر و دلائل شتى، نجدها في مصادر الإسلام وشريعته وتاريخه..يتجلى هذا الثبات في المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع من كتاب الله، وسنة رسوله ، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن ، وكلاهما مصدر إلهي معصوم ، لا يسع مسلماً أن يعرض عنه ..وتتجلى المرونة في المصادر الاجتهادية التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ، ومقل ومكثر، مثل الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، و أقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد، و طرائق الاستنباط .

وهكذا، يتضح مدى سعة المساحة المفتوحة للجانب المرن القابل للتجديد، ومدى ضخامة باب الاجتهاد. وأن الثابت الذي لا اجتهاد فيه، يمثل الجانب الأقل من حيث حجم التكاليف والأحكام المنصوص عليها .. وبعد ذلك يجد المجتهد نفسه أمام مساحات شاسعة ترحب بكل تجديد واجتهاد يتفق وأصول الشرع .. مثل تلك المساحة التي يسميها الفقهاء " منطقة الفراغ التشريعي " إلى جانب النصوص المتشابهات ..
المطلب الرابع : منطقة الفراغ التشريعي والنصوص المحتملة:
أولاً : منطقة الفراغ التشريعي :
هذه المساحة الكبيرة التي يسميها علماء الشريعة الإسلامية: " منطقة الفراغ التشريعي "، أو " العفو " ..! تلك المنطقة التي تركتها النصوص – قصداً- لاجتهاد أولي العلم وأولي الأمر والرأي ، وأهل الحل و العقد في الأمة .. يكشف الهدي النبوي عن هذه المساحة في بعض الأحاديث الشريفة .. و منها قول النبي :
" ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ! فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً . و تلا :  وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏‏ .."
وقول النبي : " إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها ، و فرض فرائض فلا تضيعوها، و حرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم ؛ من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " .

فالحدود التي قدرها الشرع ؛ لا يجوز اعتداؤها .. مثل تحديد نصاب الزكاة، و مقدار الواجب منها ، و تحديد أنصبة الورثة في تركة الميت،.. ومثل ذلك الفرائض التي أوجبها الله كالعبادات الأربع التي هي أركان الإسلام، ومبانيه العظام ، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و بر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانات، والحكم بالعدل وغيرها .. فلا يجوز لأحد أن يسقط أو يلغي شيئًا من هذه الفرائض، أو يتساهل فيها ، ففرضيتها ثابتة في شريعة الإسلام ، لا تقبل نسخاً و لا تجميداً و لا تطويراً و لاتعديلاً، ولا يجوز أن تضيع في مجتمع مسلم .. و كذلك المحرمات اليقينية، مثل : الشرك، و القتل، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، و الزنا و شرب الخمر، والسرقة، وأكل المال العام، و شهادة الزور، ونحوها.. فهذه كلها ثابتة لا تلين للعصور ، و لا يُتهاون فيها يوماً، فيفتي بحلها مجتهد، أو يرخص فيها حاكم .
فما عدا هذه الحدود و الفرائض و المحرمات المنصوص عليها ، فهي ـ كما سمها الهدي النبوي ـ : " مسكوت عنها " رحمة بالبشر ..
ويكلف الشرعُ علماء المسلمين أن يستغلوا هذه النعمة العظمى من المشرع – سبحانه وتعالى - ؛ فعليهم أن يملئوا هذا الفراغ التشريعي بكل جديد ونافع يتفق مع مقاصد الشريعة الغراء !

وذلك من خلال طرائق ومسالك عديدة أقرها الشرع؛ مثل القياس بقيوده و شروطه.. و الاستحسان،.. والاستصلاح أو اعتبار المصلحة المرسلة ؛ و هي التي لم يجيء نص خاص من الشارع ـ الحكيم ـ باعتبارها و لا بإلغائها .. و هناك اعتبار العرف بقيوده وشروطه ..
ثانيًا: المتشابهات:
فيما يتعلق بمنطقة النصوص المتشابهات، التي اقتضت حكمة الشارع أن تجعله هكذا محتملات، تتسع لأكثر من فهم، و أكثر من رأي ، ما بين موسع و مضيق ، و ما بين قياسي و ظاهري ، و ما بين متشدد و مترخص، و ما بين واقعي و مفترض . و في كل هذا رحمة، وفسحة لمن أراد الموازنة و الترجيح ، و أخذ أقرب الآراء إلى الصواب، وأولاها بتحقيق مقاصد الشريعة، فقد يصلح رأي أو مذهب لزمن و لا يصلح لآخر ، أو يصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى ، أو يصلح لحال و لا يصلح لغيره .
و بذلك يمكننا أخذ ما نراه أقرب إلى مقاصد الشرع الحنيف بالنظر إلى ظروف المجتمعات العصرية المتسارعة في التغير و التطوير.. إذاً شاء الله أن يكون من مصادر هذا الدين النص القطعي الراسخ الذي لا يقبل التجديد ..كما شاء – سبحانه – أن يكون بجوارها المصادر الاجتهادية التجديدية.. و الأدلة الظنية .. لتتسع دائرة النظر والترجيح.
المطلب الخامس : صيانة الثابت و تجديد المرن:
هذا وصيانة الثابت في الشرع والحفاظ عليه واجب من الواحبات، تماماً كما التجديد والاجتهاد في المرن مأمور به ! وسوف نتناول الثابت وحفظه ، و المرن و تجديده ؛ من خلال ثلة من الأمثلة المتنوعة من سنة النبي  :
أولاً: يتمثل الثبات في رفضه  التهاون أو التنازل في كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، و قيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية .. ومهما حاول المحاولون أن يُثنوا عنانه عن شيء من ذلك بالمساومات أو التهديدات، أو غير ذلك من أنواع التأثير على النفس البشرية ، فموقفه هو الرفض الحاسم ، الذي علمه إياه القرآن في مواقف شتى .. فحين عرض عليه المشركون أن يلتقوا في منتصف الطريق ، فيقبل شيئاً من عبادتهم ويقبلوا شيئاً من عبادته ؛ أن يعبد آلهتهم مدة ، و يعبدوا إلهه مدة ! كان الجواب الحاسم ؛ من رسول الله  يحمله الوحي الصادق ، في سورة قطعت كل المساومات و حسمت كل المفاوضات، و هي قوله تعالى : قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(3) وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[ سورة الكافرون] .
و هكذا تعلم  من وحي الله : أن لا تنازل و لا تساهل في أمور العقيدة و ما يتصل بها. وفي مقابل ذلك ؛ نجد مرونة واسعة في مواقف السياسة والتخطيط و مواجهة الأعداء ؛ بما يتطلبه الموقف المعين ، من حركة ووعي و تقدير لكل الجوانب والملابسات ، دون تزمت أو جمود.. نجده في معركة الأحزاب( شوال 5 هـ\ مارس627م) .. مثلاً يأخذ برأي "سلمان الفارسي "  في حفر الخندق حول المدينة ، و يشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء غطفان جزءاً من ثمار المدينة ، ليردهم و يفرقهم عن حلفائهم ، كسباً للوقت إلى أن يتغير الموقف .. و يقول لـ "نعيم بن مسعود الأشجعي" – وقد أسلم و أراد الانضمام إلى المسلمين - : " إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت" .. فيقوم الرجل بدور له شأنه في التفريق بين تحالف القبائل المحاربة للدولة الإسلامية ..وفي يوم الحديبية (في ذي القعدة 6هـ مارس628 م) تتجلى المرونة النبوية بأروع صورها ..تتجلى في قوله في ذلك اليوم : " و الله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها" . و في قبوله  أن يكتب في عقد الصلح : " باسمك اللهم " بدل : " بسم الله الرحمن الرحيم " .. وهي تسمية رفضتها قريش ..! و في قبوله من الشروط ما في ظاهره إجحاف بالمسلمين ، و إن كان عاقبته الخير .. كل الخير ..
و السر في هذه المرونة هنا ، و التشدد في المواقف السابقة:أن المواقف الأولى تتعلق بالتنازل عن العقيدة و المبدأ ، فلم يقبل فيها أي مساومة أو تساهل ، و لم يتنازل قيد أنملة عن دعوته .. أما المواقف الأخيرة فتتعلق بأمور جزئية ، و بسياسات وقتية ، أو بمظاهر شكلية ، فوقف فيها موقف المتساهل ..

هكذا يتجلى الهدي النبوي في ضرورة التمسك بالثوابت الإيمانية العقدية ، وضرورة التجديد والاجتهاد في طرائق السياسة وخطط الإصلاح .
ثانيًا: يتمثل الحفاظ على الثابت في رفضه  كل دروب الابتداع فيما يتعلق بالعبادات، والمناسك، و صور التقرب إلى الله تعالى، لأن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف ، فلا يُعبد الله إلا بما شرعه و أذن به، لا بما تستحسنه العقول، وتستسيغه الأهواء ، فهذا هو باب الغلو وأصل التحريف و التزييف في الدين .. و لا غرو أن أغلق الرسول  هذا الباب بإحكام و إصرار بمثل قوله :
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد " .
"... وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " .
و تتمثل المرونة في تشجيع الابتكار والاختراع في أمور الدنيا – المعينة على الدين – مثل أدوات الحرب التي تدخل في قوله تعالى:
وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال : 60 ] و مثل سائر الصناعات الحربية و المدنية المختلفة ؛ التي تشير إليها الآية الكريمة : ‏‏ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ َ  [الحديد: 25] . و لهذا رأيناه  يحفر الخندق حول المدينة في معركة الأحزاب، ويستخدم المنجنيق في معركة الطائف، و يحث على الإنتاج الحربي حتى يجعل صانع السهم كالمجاهد الرامي في استحقاق المثوبة عند الله ، و يحذر الأمة أن تكتفي بالزرع وتتبع أذناب البقر . .
ولعل حديث النبي  الذي يقول فيه :
".. أنتم أعلم بأمر دنياكم " .
يفتح الباب في هذا المجال ، للاجتهاد والتجديد .
وبهذا تتجلى صفة المرونة في التشريع والمشرع، كمظهر من مظاهر الرحمة في التشريع.
المبحث الثاني
الوسطية والاعتدال
المطلب الأول: شهادة علماء الغرب:
يقول "ول ديورانت"- عن النبي  :
"أوجد بين المسلمين.. درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم" .
وهذه الخاصية تعني أن محمداً  في نظرته للأمور وعلاجه للمشكلات يقف موقفا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط .
" وهذا الاعتدال بدوره يمهد السبيل نحو تقدم الأفراد والمجتمع" على حد قول ماري أوليفر .
فالاعتدال والتوسط في كل شيء – كما يقول "علي يول" – " هما الفكرة الأساسية للإسلام" .
والحق – كما يقول جورج سارتون - أن ما يتميز به الشرع الإسلامي من "البساطة والاعتدال، يسرّ لأي إنسان في أي موطن، أن يتقبله وينفذ إلى روحه وجوهره منذ اللحظة الأولى" !
كما أن الشريعة الإسلامية هي أنجح الشرائع في الجمع بين ما هو روحي وما هو مادي .. والتوازن بينهما ..
ولقد أُعجب بهذا التوازن الباحث الهولندي الدكتور ميليما بين المادة والروح في الإسلام، فقال : ".. لقد أعجبني اهتمام الإسلام بالمادة والروح باعتبارهما قيمتين أساسيتين، فالتطور العقلي والروحي للإنسان مرتبط في الإسلام وفي الفطرة على السواء ارتباطًا وثيقًا لا سبيل إلى فصله بحاجات الجسد" .
المطلب الثاني : حثه على الوسطية وتحذيره من التشدد:
يقول إميل درمنغم : " كان كثير من المسلمين يكثرون من ... الصلاة والصوم، فرأى محمد [] أن القصد أولى من الإفراط. فأشار بالاعتدال في التقشف وبترك كل ما يميت النفس، وحدث أن بعضهم قادوا أنفسهم إلى الحج بربط أنوفهم بأرسان الجمال فقطع محمد [] هذه الأرسان؛ لأن الله ليست له حاجة بجدع الأنوف !" .
ومثال ذلك قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول،  فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها‍! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال  : " أأنتم الذين قلتم كذا وكذ ؟؟ أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي" !
و قد جاء رجل إلى النبي فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا.. قال أبو مسعود الأنصاري - راوي الحديث -: فما رأيتُ النبي  غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال:
" أيّها الناس !! إن منكم منفّرين ! فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة" .
و عن أنس بن مالك  أن النبي  رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال:
"ما بال هذا؟" . قالوا: نذر أن يمشي، قال: " إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني" . وأمره أن يركب ..
ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال،  : " حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد " ..
وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله،  : " إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين " ..
وعن ابن مسعود  قال: قال رسول الله،  : " هلك المتنطّعون !!!" قالها ثلاثًا .
وعن أنس بن مالك  أن رسول الله،  كان يقول: : " لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .
المطلب الثالث : وسطية الإسلام في الأحكام:
إن الشرع الإسلامي وسط في أحكامه وأنظمته القانونية والاجتماعية، وبما في ذلك المجالات الأسرية والمدنية والجنائية والدولية .. :
فهو وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي بالغت في التحريم، وكثرت فيها المُحرَّمات.وبين النصرانية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجئ لينقض ناموس التوراة، بل ليكمله . ومع هذا أعلن رجال النصرانية أن كل شيء طاهر للطاهرين . فالإسلام قد أحلَّ وحرَّم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر، بل من حق الله وحده، ولم يُحرم إلا الخبيث الضار، كما لم يُحل إلا الطيب النافع، ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنه: ‏ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157]
والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة، كما هو وسط في شؤونه كلها، وسط بين الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد، وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة.
فقد شرع الإسلام الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق، والثقة بالعدل بين الزوجتين، فإن خاف ألا يعدل، لزمه الاقتصار على واحدة، كما قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة [النساء: الآية 3] .
وهو وسط في الطلاق بين الذين حرَّموا الطلاق، لأي سبب كان، ولو استحالت الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق، كالكاثوليك.. وبين الذين أَرْخَو العِنان في أمر الطلاق، فلم يقيدوه بقيد، أو شرط، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب ..أما الشرع الإسلامي فقد شرع الطلاق، عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى، ولا يجدي تحكيم ولا إصلاح، ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله، ويستطيع المُطلِّق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد .
والشرع الإسلامي – أيضًا - وسط في نظامه الاجتماعي بين (الإشتراكيين) أو(الماركسيين)، الذين يبالغون في حقوق المجتمع ودوره على حساب حقوق الفرد ونوازعه الذاتية وحريته.وبين (الليبراليين) أو (الرأسماليين) الذين يعطون للفرد الحريات المفرطة من غير ضوابط أو آداب على حساب المجتمع أو الجماعة الإنسانية ..
المبحث الثالث
التيسير
المطلب الأول – شهادة علماء الغرب :
تتحدث الباحثة ماري أوليفر عن مظهر التيسير باعتباره مظهر من مظاهر الرحمة لنبي الإسلام ، فتبين أن الشريعة الإسلامية التي نادى بها محمد  هي تشريعات "بسيطة سهلة يستطيع كل إنسان أن يفهمها بكل يسر. فالإسلام يؤكد في تعاليمه أن على الناس أن يفكروا وأن يستخدموا عقولهم في الأمور الدينية" ..
كذلك يبين جورج سارتون أن الشريعة الإسلامية تمتاز بـ" السماحة والبساطة والاعتدال" وهي – على حد قوله " يسرّ لأي إنسان في أي موطن.." ..
كما أن الشرع الإسلامي الحنيف كما يقول آتيين دينيه: " يستبين أقرب أنواع العلاج، فلا يحكم فيه حكمًا قاطعًا ولا يأمر به أمرًا باتًّا" .
ويبين - آتيين دينيه- أن الشرع الإسلامي لا يتعارض ولا يتصادم مع الطبيعة، لأنه شرع يسير، فهو " يساير قوانينها [ أي الطبيعة ] ويزامل أزمانها، بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها في كثير من شؤون الحياة، مثل ذلك الغرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة، فهم لا يتزوجون وإنما يعيشون غرباء. على أن الإسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة وأن لا يتمرد عليها؛ وإنما هو يُدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولاً وأسهل تطبيقًا في إصلاح، ونظام، ورضًا ميسور مشكور، حتى لقد ُسمي القرآن لذلك (بالهدى) لأنه المرشد إلى أقوم مسالك الحياة، والأمثلة العديدة لا تعوزنا، ولكنا نأخذ بأشهرها، وهو التساهل في سبيل تعداد الزوجات" .
المطلب الثاني : نماذج التيسير :
يتحدث القرآن الكريم عن صفات النبي الأمي محمد  المكتوبة صفته في التوراة والإنجيل، ويبين أن من أهم صفات محمد أنه ييسر على الناس في الأحكام الشرعية، فقال الله تعالى :  وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فمحمد  " يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به" .
والله تعالى - وهو الرحيم بعباده - لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد امتن على عباده بهذا التيسير ؛قال تعالى : ‏‏ يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر [ البقرة: 185] .
ومن اليسر إعفاء النساء من وجوب صلاة الجمعة والجماعة وإعفاء الصغير، والمجنون، والنائم من سريان الأحكام التكليفية عليهم، والحدود، وبعض حقوق العباد كحق القصاص، وحق حد القذف، فقد اشترط فيها جميعاً البلوغ والعقل، واشترط في حد الزنى أربعة شهود تقليلاً لحالات وجوب الحد، تخفيفاً وتيسيراً، واشترط للرجم لشدته الإحصان تخفيفاً عن غير المحصن، واستثنى الولي الفقير من عدم جواز الأكل من مال اليتيم ؛ تخفيفاً عنه، فقد أذن له أن يأكل ولكن بالمعروف ، ونماذج أخرى كثيرة.
ولقد كان النبي كمشرع يسعى إلى التيسير على الناس في الأحكام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .. والمواقف كثيرة في سنته وسيرته  وقد كان يتفادى ما يكون سبباً لتكاليف جديدة قد تشق على المسلمين، وكان يتجنب أن يفعل شيئاً يكون فيه مشقة وحرج على المسلمين ، فهم يتتبعون أفعاله ليتأسوا ..
فمن ذلك أنه  كان يحث أصحابه على ترك الإسئلة الفقهية المعقدة، أو التي لا ينبني عليها عمل، لئلاً تفرض عليهم فرائض بسبب سؤالهم. فقد سأله رجل عن الحج: أفي كل عام هو؟ فقال :"لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم" .

وقال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" .
وقال لبعض أصحابه: "ما بالكم تأتوني قلحاً لا تسوكون؟ لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة " .
وقال: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ " .

وعن قالت عائشة: خرج النبي  من عندي وهو مسرور طيب النفس ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: " إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا دَخَلْتُهَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي" .
فكونه قد دخل الكعبة، يخشى أن يشق بهذا العمل على المسلمين، فهذا العمل شاق، وغير متاح لكل الناس ..

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ! فَقَالَ : " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ" فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " ارْمِ وَلَا حَرَجَ " ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ  عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ:" افْعَلْ وَلَا حَرَجَ !" .
المطلب الثالث : حثه على التيسير:
قال النبي  مبَيِّنًا طبيعة هذا الدين: " إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا .."
وقال ابن عباس  : قيل للنبي : يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة" ..
وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: " يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا.."
وعن عروة الفقيمي قال: كنَّا ننتظر النبي،  فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله،  "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر"
وجاء في وصفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ  بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ " .
و قال،  " إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره" .
وقال، : " إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير" .
وعن عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله،  قال: " إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا "

المبحث الرابع
الرخص الشرعية
المطلب الأول : الرخص الشرعية : ماهيتها وشرعيتها :
من مظاهر رحمة نبينا الكريم  في التشريع، ما شرعه  من رخص لأصحاب الأعذار، عند تطبيقهم للأحكام الشرعية ..
والرخصة في اللغة معناها اليسر والسهولة. وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم. أو "مَا أُرْخِصَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا" ، كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء صيام رمضان عن المسافر. وهو المعنى الحقيقي للرخصة. ويقابلها العزيمة .
وقد شرع الإسلام الرخص لرفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة لفقدان المصالح الضرورية. ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل من أصولها، فإن الشارع لم يكلف الناس بالتكاليف والواجبات لإعناتهم أو تحصيل المشقة عليهم . وقد دل على ذلك القرآن والسنة وانعقد الإجماع على ذلك. فمن القرآن قوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة :6]
وضرب القرآن مثالاً للرخصة في قوله تعالى :  فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  [المائدة :3] ..
فمن ذلك الإفطار في السفر أيام رمضان، وقصر الصلاة المفروضة في السفر، فتصلي الصلاة الرباعية بركعتين فقط حال السفر. والمسح على الخفين في الوضوء، والتيمم بالتراب إذا فُقد الماء للوضوء أو إذا كان المسلم مريضاً.. كما في قوله تعالى : ‏‏ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً‏‏ [النساء : 43]
وفي الرخص الشرعية .. قال النبي : "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" .. وفي رواية : "كما يحب أن تؤتى عزائمه" ..
المطلب الثاني : نماذج الرخص الشرعية :
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ  قَالَ :
سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : "إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ" .
فَكَانَتْ رُخْصَةً .. فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: " إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ " .. فَأَفْطِرُوا ..
و عَنْ أَنَسٍ  قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  فِي سَفَرٍ فَصَامَ بَعْضٌ وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، فَقَالَ رسول الله فِي ذَلِكَ : " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ"
وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ  أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ"
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : " يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ " فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " فَلَا تَفْعَلْ ! صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ" ..
قال عبدالله : فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً.
قَالَ: " فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ " .
قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ:" نِصْفَ الدَّهْرِ " ..
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ  .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ:
خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ . فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ، أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ : " قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ !! أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ . إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" .
ولقد أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا فَعَذَّبُوهُ حَتَّى يقول كلمة الكفر، وقَارَبَهُمْ فِي بَعْض مَا أَرَادُوا، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ ، وقال له : ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير .. وبكى. فَجَعَلَ – صلوات ربي وسلامه عليه - يَمْسَح الدُّمُوع عَنْهُ ، وقال له: كَيْف تَجِد قَلْبك ؟ قَالَ : مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، قَالَ:" فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ " .
وفيه نزل َقَوْل اللَّه تَعَالَى: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏‏
المبحث الخامس
التدرج في التشريع
المطلب الأول : التدرج في التشريع: مفهومه والحكمة منه :
أولاً: مفهومه :
من مظاهر رحمته نبينا محمد أنه كان لا يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج، فهو القائل "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" .
ومن ملامح الرحمة في شريعة الإسلام التدرج في التشريع، وقد قُررت في كثير من الأحكام وخاصة في المحرمات كالخمر والربا وذلك تهيئة للنفوس وضمانا للاستجابة لأحكامها . رحمة من المشرع .
وقد كان التدرج في التشريع مسلكًا من مسالك علاج المجتمع وإصلاحه.
أما التدرج في الكشف عن حقيقة حكمٍ ما؛ فإنه يبدأ تلويحًا يفهمه الأذكياء، ثم تزداد الإبانة بما يكاد يوحي بالحكم، ثم يجيء الحكم حاسمًا بالمعنى المراد، وقد تم تحريم الربا والخمر بهذا الأسلوب المتأني، وليس في القرآن نص بإباحة الخمر أو الربا !.
ثانيًا: الحكمة منه :
والحكمة من التدرج هو ترويض النفوس على تقبل أحكام الله .. والتمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة في النفوس لا سيما العادات المتوارثة عبر قرون طويلة . وتخفيفًا على الناس، تماشيًا مع فطرة الإنسان التي يتطلب التعامل معها التزام التدرج لتغييرها وحسن الارتقاء بها، كما أن التدرج يتلاءم مع منهج التغيير بشكل عام، إذ لا يمكن تغيير أوضاع المجتمعات لتتفق مع الشريعة إلا بأسلوب التدرج .
المطلب الثاني : نماذج للتدرج في التشريع :
أولاً: تحريم الخمور:
كانت الخمور متعمقة في المجتمع قبل بعثة النبي عربيًا كان أو عالميًا . وفي البيئة العربية صار شرب الخمر جزءًا من السلوك الإجتماعي الذي يفاخر به ويتغنى به الشعراء، فلم يكن من الحكمة تحريم الخمر مرة واحدة إنما الأنفع والأصلح هو التدرج في التحريم ، ومن ثم حرمت الخمر على أربع مراحل :
المرحلة الأولى: هي قوله تعالى:‏‏ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ] [النحل: 67‏‏ففرقت الآية بين السكر والرزق الحسن أي أن السكر ليس من الرزق الحسن.
المرحلة الثانية: قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: الآية: 219] تمهيدًا للتحريم !
المرحلة الثالثة: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النساء: 43] .ومن ثم كان على المسلم أن يحذر أن يأتيه وقت الصلاة وهو سكران.
المرحلة الرابعة: هي المرحلة الحاسمة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] . ويمضي القرآن موضحا علة التحريم: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 91] .
ثانيًا: تحريم الربا:
كان الربا بأنواعه وأشكاله المختلفة عصب الاقتصاد في المجتمع العربي والرومي والفارسي آنذاك، وكانت النقلة الفجائية للتحريم ربما أحدثت خلخلة أدت إلى الانهيار الاجتماعي والاقتصادي ومن ثم كانت الحكمة في أن يتدرج القرآن في تحريمه على مرحلتين:
الأولى: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران: 130]
الثانية: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] .

الفصل الخامس
رحمته للعالمين في ميدان الصراعات السياسية والعسكرية
المبحث الأول : الحوار لا الصدام
المبحث الثاني : حرصه على نشر السلام
المبحث الثالث :رحمته للخصوم والأعداء
المبحث الرابع : رحمته للأسرى
المبحث الخامس : رحمته لقتلى العدو
المبحث السادس : رحمته لأهل الذمة
المبحث السابع: قيم حضارية في غزوة بدر الكبرى [ نموذجًا]

المبحث الأول
الحوار لا الصدام
المطلب الأول : الحوار مظهر من مظاهر الرحمة :
إن تقديم لغة الحوار على أسلوب الصدام، حقنًا للدماء وتغليب العقل على العنف، يعد من مظاهر الرحمة في شخصية النبي ، الذي ضرب المثل الأعلى في ميدان الحوار والتفاوض، كما ضرب المثل الأعلى في القتال والزود عن حياض الدين والوطن.
إنّ الإسلام هو دين الحوار والاعتراف بالآخر، وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإيجاد السّبل الكفيلة بتحقيق ذلك بما يساعد على العيش بسلام وأمن وطمأنينة، ويحفظ الإنسان من أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر. لهذا أمر الإسلام بالحوار والدّعوة بالتي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة ، والطّرق السليمة في مخاطبة الآخر. قال تعالى: ‏‏ ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏‏ .
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الحوار في الإسلام على أساس الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، إنه منهج حضاري متكامل في ترسيخ مبادئ الحوار بين الشعوب والأمم . " ومن الملاحظ على التعبير القرآني المعجز في الآية : أنه اكتفى في الموعظة بأن تكون(حسنة)، ولكنه لم يكتف في الجدال إلا أن يكون بالتي هي( أحسن). لأن الموعظة ـ غالباً ـ تكون مع الموافقين، أما الجدال فيكون ـ عادة ـ مع المخالفين؛ لهذا وجب أن يكون بالتي هي أحسن . على معنى أنه لو كانت هناك للجدال والحوار طريقتان: طريقة حسنة وجيدة ، وطريقة أحسن منها وأجود، كان المسلم الداعية مأموراً أن يحاور مخالفيه بالطريقة التي هي أحسن وأجود " .
ولذلك قال الله تعالى أيضا : ‏‏ وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ] [العنكبوت: 46]فالحوار ممكن لأنّ هناك قواسم مشتركة ، وهناك مجال للتّفاهم والتّقارب ، وهي الإيمان بما أُنزل على المسلمين وغيرهم ، فالمصدر واحد وهو الله . فليتعارفوا وليعرفوا بعضهم ، ومن ثم فليتقاربوا وليتعاونوا على ما هو صالح لهم جميعا. فالقرآن يعطينا أسلوب بدء اللّقاء والحوار ، وكيف نستغلّ نقط التّلاقي بين المتحاورين .فيبيّن الأصول التي يمكن الاتّفاق عليها ويركّز على ذلك فيقول : ‏‏قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ ] [عمران:64 ] ويبيّن الإسلام نوع العلاقة التي يجب أن تسود المسلمين وغيرهم .. إنّها علاقة التّعاون والإحسان والبرّ والعدل . فهذا هو الحوار الحضاري والعلاقة السامية ، قال تعالى: ‏‏ لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ‏[ الممتحنة: 8]
" وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود" .
ومن ثم يتبين للباحث مدى الرحمة الواسعة التي منحها الإسلام ورسول الإسلام، للبشر المخالفين للإسلام، فقرر أن الشرع أن التعامل يكون بالحوار، والدعوة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ويخص الإسلام أهل الكتاب بهذا الفضل، فهم أهل كتاب، وأخوة في الإنسانية، فالإسلام لا ينهانا أن نبر ونحسن إلى اليهود والنصارى ما داموا لم يقاتلون المسلمين في الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم، ونداء المسلم دائمًا لأهل الكتاب أن "تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" .

المطلب الثاني : الإسلام يرفض المركزية الحضارية :
ونعتقد مع ذلك أن الإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى الحوار مع الآخر.. ينكر (المركزية الحضارية) التي تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف، يريد الإسلامُ لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند؛ في كل ما هو مشترك إنساني عام . وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان، فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى (المركزية الدينية) التي تجبر العالم على التمسك بدين واحد.. إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، قال تعالى: ‏‏ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏‏ [المائدة:48] .وقال أيضاً: ‏‏ وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] [هود: الآية 118 ‏‏ .
إن دعوة النبي  إلى الحوار مع باقي الدول والحضارات تنبع من رؤيته في التعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالتهم السماوية، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعاً: قال تعالى:
" آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [ البقرة : الآية 285]
لقد حمل نبي الرحمة وأتباعه قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا في نشرها في كل أرجاء الدنيا، دون إجبار الناس عليها، وبدأت عملية التفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأوربية والمصرية والفارسية والهندية. فلم يلغ الإسلام الحضارة المصرية إنما جودها، ولم يلغ الإسلام حضارة الهند إنما هذبها ، ونقى الحضارات من خبيث العقائد والأفكار، وجلى الطيب النافع من الموروثات والثقافات القديمة .
ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت في إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التي دخلت في الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق الحوار والتفاعل، وكانت هي بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضارياً ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضاري متنوع .
الشيء نفسه يمكن قوله عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها في عصرنا الحاضر وذلك نتيجة التفاعل الحضاري مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخي وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنساني الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع في أي وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية، هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا في أي زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية .
المطلب الثالث : نماذج عملية من سيرة النبي :
إليك هذه النماذج الطيبة من سيرة النبي ، والتي تبين كيف كان النبي يحاور الحضارات والأمم الأخرى، يدعوها إلى كلمة سواء .
فبعدما عقد النبي هدنة بينه وبين مشركي مكة الذين حاربوه على مدار ثمانية عشر عاماً ـ أو أكثر ـ، استغل النبي هذه الهدنة في مراسلة زعماء وأمراء وملوك العالم ..للحوار والتواصل والتعريف بدعوة الإسلام.. مركزاً في خطاباته على قيم السلام وحرية الاعتقاد، نرى ذلك جلياً في محتوى هذه الرسائل ..
هذا، ولنتأمل أحد هذه النماذج المشرقة، ولتكن رسالة النبي  إلى الملك المقوقس .. فكتــب النبــي  إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية، رسالة نصها‏:‏
"بسم الله الرحمن الرحيم .. من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط.. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، ‏‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏‏‏" .
واختار لحمل هذا الخطاب الصحابي المتحدث حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏ . ‏
وجدير بنا أن نذكر كلام حاطب  للمقوقس حتى يعرف الغرب أن هذه البعوث كانت تعرف هدفها جيداً كما أنها بلغت حداً من الفقه والحصافة يستحق الإعجاب البالغ.
قال حاطب: إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ..وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به!
فقال المقوقس‏:‏ إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه‏.‏ ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر‏.‏
وأخذ كتاب النبي ، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي  ‏:‏
‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد ‏:‏ فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك" .
ولم يزد على هذا ولم يسلم، فتزوج رسول الله مارية، فأنجبت له طفل ـ سماه إبراهيم، تقديراً وتشريفاً لأبي الأنبياء ـ عليه السلام ـ ، أما سيرين، فقد تزوجها الشاعر حسان بن ثابت .
"تلك مُثلٌ لرسائله إلى رجالات النصرانية ومواقفهم منها. وقد ساق النبي كذلك مبعوثيه إلى رؤساء المجوسية يدعونهم إلى الله، ويحدثونهم عن الدين الذي لو تبعوه نقلهم من الغي إلى الرشاد.. وقد تفاوتت ردودهم، بين العنف واللطف والإيمان والكفر" ..
و النبي  بذلك أول من نادى بالحوار بين الحضارات والدول، في سبيل نشر قيم سامية .. ومارس هذا الحوار كما رأيت بمستوى عال من الأدب وحسن الخلق واحترام الرأي الآخر.
ولقد أرسل الرسول  الكثير من الرسل والسفراء – يدعوهم إلى الإسلام - ولتحقيق مثل هذا الحوار بينه وبين الأمم والحضارات الأخرى وملوك وزعماء العالم :
(1) فبعث الصحابي الفاضل دحية بن خليفة الكلبي – وكان أنيقًا وسيمًا -، إلى قيصر ملك الرومان، واسمه هرقل.
(2) وبعث الصحابي المناضل عبد الله بن حذافة السهمي – وكان راسخ الفكر والإيمان متحدثًا بليغًا - إلى كسرى ابرويز بن هرمز، ملك الفرس.
(3) وبعث الصحابي الجليل عمرو بن أمية الضمري – وكان لبقًا ذكيًا-، إلى النجاشي ملك الحبشة، ثم بعثه النبي مرة أخرى إلى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ مدعي النبوة المشهور ، برسالة، وَكَتَبَ إلَيْهِ بِكِتَابٍ آخَرَ مَعَ السّائِبِ بْنِ الْعَوّامِ أَخِي الزّبَيْرِ فَلَمْ يُسْلِمْ .
(4) وبعث - فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ - الصحابي القائد عمرو بن العاص – داهية العرب -؛ إلى جَيْفَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ ابْنَيْ الجُلَنْدَى الْأَزْدِيّيْنِ ، ملكي عمان.
(5) وبعث الصحابي الجليل سليط بن عمرو إلى هوذة ابن علي، الملك على اليمامة، وإلى ثمامة بن أثال، الحنفيين.
(6) وبعث الصحابي الجليل الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيّ مَلِكِ الْبَحْرَيْنِ.
(7) وبعث الصحابي الجليل شجاع بن وهب الأسدي، من أسد خزيمة، إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني، وابن عمه جبلة بن الأيهم، ملكي البلقاء من عمال دمشق للرومان.
(8) وبعث الصحابي الجليل الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ الْمَخْزُومِيّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ الْحِمْيَرِيّ أحد زعماء اليمن، وقال : سأنظر .
(9) وبعث العلامة الفقيه معاذ بن جبل إلى جملة اليمن، داعياً إلى الإسلام، فأسلم جميع ملوكهم، كذى الكلاع وذي ظليم وذي زرود وذي مران وغيرهم.
(10) وَبَعَثَ الصحابي الجليل جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ، إلَى ذِي الْكَلاعِ الْحِمْيَرِيّ وَذِي عَمْرٍو يَدْعُوهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَا وَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ  وَجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ.
(11) وَبَعَثَ الصحابي الجليل عَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ برسالة إلَى الْحَارِثِ وَمَسْرُوحٍ وَنُعَيْمٍ بَنِي عَبْدِ كُلَالٍ زعماء من حِمْيَرَ .
(12) وَبَعَثَ إلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُذَامِيّ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ .وكَانَ فَرْوَةُ عَامِلًا لِقَيْصَرَ بِمَعَانَ فَأَسْلَمَ وَكَتَبَ إلَى النّبِيّ  بِإِسْلَامِهِ وَبَعَثَ إلَيْهِ هَدِيّةً مَعَ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ وَهِيَ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ وَفَرَسٌ وَحِمَارٌ وَبَعَثَ أَثْوَابًا وَقَبَاءً مِنْ سُنْدُسٍ مُخَوّصٍ بِالذّهَبِ فَقَبِلَ  هَدِيّتَهُ وَوَهَبَ لِمَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنِشًا .
وأسلم سائر الملوك والأمراء الذين ذكرنا ، وأسلم قومهم، حاشا قيصر والمقومقس وهذوة وكسرى والحارث بن أبي شمر .. وتأخر إسلام ثمامة بن أثال، ثم أسلم مختاراً بعد ذلك.
وهكذا، أحدث الرسول  هذا الحوار البناء بين أمة الإسلام والأمم الأخرى في شتى بقاع العالم .. وتواصل مع قيادات ورموز العالم آن ذاك.. فمنهم من تجاوب وتناقش، ومنهم من تعامل مع رسل النبي بوقاحة، كما فعل كسرى ..
وهذا مظهر فريد من مظاهر الرحمة في شخصية النبي ، فقد قدم الحوار على الصدام في تعامله مع الأمم الأخرى لاسيما المخالفة للإسلام، وراسل النبي  زعماء وأمراء وملوك العالم؛ برسائل على مستوى عال من التحضر والذوق الرفيع، لتعريفهم بدعوة الإسلام وغايته. فحقن الدماء وأعلى من شأن الحوار والتبادل العلمي والثقافي ، حتى استفادت أوربا من الحضارة الإسلامية في بناء النهضة العلمية الأوربية الحديثة.

المبحث الثاني
حرصه على نشر السلام
لمحمد الفضل الأعظم في نشر السلام في ربوع الجزيرة العربية، التي عاشت عدة قرون في حروب طاحنة ومعارك على أتفه الأسباب، وكثرت حروب "الفجار" التي انتهك أصحابها حرمة البلد الحرام.
وفي هذا المبحث نبين من خلال شهادات علماء الغرب والمواقف والأحداث؛ هذا المظهر من مظاهر الرحمة في شخصية محمد :
المطلب الأول : محمد رجل السلام :
يقول المفكر هنري ماسيه :
" إذا بحثنا عن محمد []إجمالياً نجده ذا مزاج عصبي ، و فكر، دائم التفكير، ونفس باطنها حزن ، وأما مداركه فهي تمثل شخصاً يعتقد بإله واحد ، وبوجود حياة أخرى ، ويتصف بالرحمة الخالصة ، والحزم في الرأي والاعتقاد ، ويضاف إليه أنه رجل حكومة ، وأحياناً رجل سياسة وحرب ، ولكنه لم يكن ثائراً بل كان مسالماً " .
ووصف جورج بروك الإسلام بأنه : " دين السلام والمحبة بين البشر " .
وقال عنه المفكر الأيرلندي برناردشو: " إنه دين التعاون والسلام والعدالة في ظل شريعة محكمة لم تدع أمراً من أمور الدنيا إلا رسمته ووزنته بميزان لا يخطئ أبداً" .
إن إقرار السلام في منطة الجزيرة العربية الذي حققه محمد  يعد بحق مظهراً مهماً من مظاهر الرحمة، فقد شهدت الجزيرة العربية في عهد محمد  عدة معاهدات سلمية، مما يبين فضل رسول الله  في نشر ثقافة السلام بين العرب بعد قرون طويلة من الجاهلية والحروب الأهلية، وفضله في حقن الدماء وحفظ الأعراض والمقدسات، التي كانت منتهكة في عصور الجاهلية .. ولم تحدث أي حروب أهلية – في الجزيرة العربية - بعد ظهور محمد  وتسلمه زمام قيادة العرب .
المطلب الثاني : نموذج في حادث بناء الكعبة :
لما بلغ محمد  من عمره الخامسة والثلاثين – أي قبل بعثتة بخمس سنين -، تعرضت الكعبة للهدم ، بسبب سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، فعمدت قريش إلى بنائها، فلما تنازع القرشيون فيما بينهم من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه ، واختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكَّموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد ، فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك محمد  ، فلما رأوه قالوا‏:‏ هذا الأمين ، قد رضينا به هذا محمد ، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه ..
وهذا حل حكيم من رجل حكيم تراضت قريش بحكمه.

ولقد راح المفكرون والعلماء، يعلقون على هذا الحادث بتعليقات مليئة بالتقدير والإعجاب لهذه الشعلة العبقرية التي تحاول في حرص شديد دائم على تحقيق الأمن والسلم بين الناس ، وعن نجاح محمد  من تفهم الموقف بسرعة عظيمة، والتوسل بهذه الحيلة البريئة وإرضاء زعماء قريش جميعاً..
فقد استرعت هذه الحادثة انتباه الباحث الألماني أغسطينوس موللر ( 1148- 1894)، فتوقف عندها ملياً ، في كتابه "الإسلام "، وتعرض لسياسة النبي  في هذا المقام وأنه "أدهش قريشاً بسياسته الرشيدة " .
كما توقف الأب هنري لامنس عند هذه الحادثة فقال :
" لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة ، وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليه بوضع الحجر الأسود في مكانه ، وكادوا يقتتلون ، فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الله الهاشمي[]، قائلين : هذا هو الأمين ! " .
ولقد ربط المستشرق "أرثر جيلمان" بين هذه الحادثة التي منعت اقتتال القبائل العربية، وبين المرحلة التالية لبدء البعثة والوحي ، والتي تشكل مقدمة الدعوة الإسلامية، بقوله :
" لا بد أن يكون محمد []قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم بهذه الفكرة التي بسطت السلام بين مختلف القبائل ، ولايستبعد أن يكون محمد[] قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاءً وعبقرية ، وأن الله قد اختاره لأمر عظيم .. !" .

المطلب الثالث : نماذج المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة :
فلقد عقد النبي – صلى الله عليه وسلم – في العام الثاني من الهجرة- المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة لا سيما تلك القبائل التي كانت على الطريق التجاري المؤدي إلى الشام، وذلك من أجل أربعة أهداف :
الهدف الأول : تحييد هذه القبائل في قضية الصراع بين المسلمين والمشركين، وألا يكونوا يدًا مع المشركين على المسلمين .
الهدف الثاني : تأمين الحدود الخارجية للدولة .
الهدف الثالث : اعتراف هذه القبائل بدولة المسلمين
الهدف الرابع : تهيئة هذه القبائل لقبول الإسلام، والدخول فيه .
نماذج لهذه المعاهدات :
أولاً : مُوَادَعَةُ بَنِي ضَمْرَةَ
وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانَ نص وثيقة الْمُوَادَعَةِ على النحو التالي :
"بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِبَنِي ضَمْرَةَ ، فَإِنّهُمْ آمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ لَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ رَامَهُمْ -إلا أَنْ يُحَارِبُوا فِي دِينِ اللّهِ - مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً وَإِنّ النّبِيّ إذَا دَعَاهُمْ لِنَصْرِهِ أَجَابُوهُ، عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ، وَلَهُمْ النّصْرُ عَلَى مَنْ بَرّ مِنْهُمْ وَاتّقَى ." . وكانت هذه المعاهدة عقب أول غزوة للنبي وهي الأبواء أو ودان (في صفر 2هـ - أغسطس 623 هـ )
كما عقد النبي معاهدة مع بَنِي مُدْلِجٍ في ( جمادي الأولى 2هـ- نوفمبر 623 م) ، وكانت على نفس النحو من وثيقة بني ضمرة .
ثانيًا : مُوَادَعَةُ جهينة :
وهذه القبيلة تسكن منطقة العيص على ساحل البحر الأحمر، وكان نص هذه المعاهدة :
"إنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وإن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم من بر منهم واتقى ما لحاضرتهم" .
وقد دلت هذه الوثائق على مقتضيات أخلاقية سامية، فنرى فيها الرسول القائد السمح – صلى الله عليه وسلم - يوادع هذه القبائل على النصرة المتبادلة في المعروف، ويضمن لهم النبي الأمن والأمان على الأموال والأنفس، ويظهر لهم النبي أخلاق الإحسان والصلة ..

المطلب الرابع: نموذج في معركة الأحزاب :
ومن المواقف التي تدل على حرص محمد  على السلام، ما حدث في معركة الأحزاب (في شوال 5 هـ\ مارس627م) ، حيث حاصر المشركون المدينة المنورة، فلما اشتد على المسلمين الحصار و البلاء بعث رسول الله ، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المرى، وهما قائدا غطفان ـ في جيش الأحزاب ـ وعرض عليهما النبي  ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فأحضر النبي  الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس النبي ، مقنع في الحديد.. ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة.فلما أراد رسول الله  أن يفعل ذلك بعث إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه .
فرفضا هذه الفكرة..
ونزل النبي  على رأي الجماعة، فلم يتم هذا الصلح!
ولكن الشهاد في هذا الموقف، هو حرص النبي الدائم في تجنب الحل العسكري، قدر الإمكان.. وميله الدائم نحو الحل السلمي .
المطلب الخامس : نموذج معاهدة الحديبية:
لأول مرة تشهد الجزيرة العربية تلك المعاهدة المحمدية التي نادى بها النبي  وأبرمها في ذي القعدة سنة ست من الهجرة (مارس628 م) ، وهي معاهدة صلح الحديبية.
رغم ما كان من بنود مجحفة بالمسلمين في هذا الصلح ..
وإن المتأمل لأحداث صلح الحديبية يتبين له إصرار النبي  على تحقيق السلام، وأنه  كان دائماً يجنح للسلم إن هيئت له أسباب إقامة السلام في أي وقت..
فعندما قصد رسول  العمرة مع أصحابه، في العام السادس من الهجرة، أبت قريش أن تسمح للنبي وأصحابه بإداء عبادة العمرة، وهذا الفعل من القريشيين يعد جريمة كبرى في عرف العرب، إذ كيف يُصد عن البيت الحرام من جاء معظماً له !!
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو – متحدثًا رسميًا لها - للتفاوض مع النبي  حول عقد الصلح، وأكدت له أن يكون في شروط الصلح : أن يرجع عن مكة عامه هذا دون عمرة، ففي ذلك – كما يرى القرشيون - جرح لمشاعر المشركين بعدما انتصر عليهم المسلمون في معركة بدر انتصارًا ساحقًا ، وحتى لا تتحدث العرب أن محمدًا  دخل مكة وأدى العمرة رغمًا عن المشركين -.
فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه  قال‏:‏ ‏"‏قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل"‏ ، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه‏ :‏
البند الأول ‏:‏ الرسول يرجع من عامه هذا، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض‏.‏
البند الثاني : وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض‏.‏
البند الثالث : ‏ من أحب أن يدخل في عقد محمد  وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‏.‏
البند الرابع: من أتي محمداً  من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه!ّ‏
ثم ُدعي علي بن أبي طالب ليكتب مسودة المعاهدة، وكره سهيل بن عمرو ـ مبعوث القريشيين ـ أن يكتب في صدر الوثيقة " محمد رسول الله " وأبى عليّ بن أبي طالب، وهو كاتب الوثيقة ، أن يمحو بيده " رسول الله " ، فمحا النبي- صلى الله عليه وسلم -هذه الصفة بيده الكريمة، وأمر الكاتب أن يكتب " محمد بن عبد الله " .وهذا الموقف يدل على سماحته في التفاوض.. ثم تمت كتابة الوثيقة ، ولما تم الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت قبيلة بنو بكر في عهد قريش .

المطلب السادس: نموذج الصلح مع أهل خيبر :
لما استسلم يهود خيبر ( في المحرم 7 هـ / مايو 628)، في نهاية معركة رسول الله معهم صالحهم صلى الله عليه وسلم - ، وأعطاهم الأرض ، يَعْمَلُوا فيها وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا .
وفي هذه المصالحة - بهذا الشكل - رحمة وعفو كبيرين بأهل خيبر ..
فهم في الحقيقة يستحقون الإعدام ! فهم قد خانوا النبي  وغدروا وتحالفوا مع مشركي قريش سرًا، وأصبحت قيادات خيبر والفصائل اليهودية الأخرى عملاء وجواسيس لمشركي مكة وغطفان ..كل هذا إلى جانب أنهم السبب الرئيسي في تحزيب جيوش الأحزب، من كل حدب وصوب..

ولما أقدمت امرأة منهم على محاولة اغتيال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حيث أهدت لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ .. وتُوفي اثر هذه المحاولة الفاشلة أحد الصحابة .. لم ينقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أهل خيبر ولم يعمل فيهم القتل – كما يفعل بعض الزعماء في مثل هذه المواقف – إنما أثبت الصلح وأقر العهد .

المبحث الثالث
رحمته للخصوم والأعداء

المطلب الأول : لماذا القتال ؟
هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة [في يوليه 622م ] فرارًا بدينهم ولبناء مجتمع إسلامي جديد آمن، ولتكون المدينة مقرًا للدعوة الإسلامية تنطلق منها البعوث والرسل إلى شتى بقاع الأرض تبلغ رسالات الله إلى العالم ..
وبالفعل نجح المسلمون في تأسيس أول دولة إسلامية ، وأخذ رسول الله يعقد الأحلاف والعقود مع القبائل والجماعات على الصعيدين الداخلي والخارجي للمدينة ، وأصبح للمسلمين لأول مرة كيان معترف به من هذه القبائل ..
وفي كل يوم يزداد فيه التقدم الإسلامي عقب الهجرة، يزداد معه حنق الوثنيين وغيظهم على المسلمين.
وأصبح المسلمون في حاجة ماسة للتسلح والدفاع عن أنفسهم ولحماية عقيدتهم ودولتهم ، وبالفعل نزل النص القرآني يجيز للمسلمين الدفاع عن أنفسهم بالسلاح، إضافة جواز مطاردة المصالح المادية والتجارية لقريش، من أجل استرداد الأموال والحقوق التي استلبتها قريش من المسلمين المستضعفين عند هجرتهم.
قال الله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }[الحج : 39].
وكان الإذن بالقتال واسترداد الحقوق بالقوة، لعدة اعتبارات شرعية ومنطقية وجيهة:

أولاً: مصادرة أموال المسلمين وعقاراتهم :
عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة، أصبحوا في ضيق من العيش، حيث صادر كفار مكة أموال وعقارات وتجارات المسلمين، وقام المشركون بتوزيع هذه الأموال بين صناديد مكة ظلمًا وسحتًا !
وكانت تجارة قريش تمر بالمدينة في الذهاب وفي العودة حال رحلتها الصيفية إلى الشام . وكانت بالنسبة للمسلمين فرصة ذهبية لاسترداد بعض حقوقهم .
ثانيًا: إعلان الحرب على الدولة الإسلامية الناشئة:
بادر زعماء مكة في إعلان الحرب على المسلمين، والسعي بشتى الطرق لإحداث حرب أهلية داخل المدينة، فأرسلوا إلى عميلهم عبد الله بن أبي بن سلول- وكان إذ ذاك مشركًا بصفته رئيس المدينة قبل الهجرة، فقد كاد الأوس والخزرج أن يجعلوه ملكًا عليهم، لولا هجرة النبي كتبوا إلى ابن سلول ومن خلفه من المنافقين في كلمات تنم عن شدة الحنق والغيظ على المسلمين :
"إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا ! وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ"..
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ، لَقِيَهُمْ فَقَالَ : " لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمْ الْمَبَالِغَ ! مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ ؟ ! "..فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ تَفَرَّقُوا .
وهنا تظهر عظمة القائد الحكيم المربي – صلى الله عليه وسلم -، حيث قضى على هذه الفتنة في مهدها، وضرب على وتر العزة القبلية، فقد كان يدرك أغوار النفس البشرية التي يتعامل معها، ولذلك كان خطابه مؤثرًا في نفوس مشركي أهل يثرب .
وكان من أخلاقه – صلى الله عليه وسلم – أن تعصب لوحدة الصف ولم يتعصب لأصحابه المهاجرين دون الأنصار، أو المسلمين دون المشركين المدنيين، إنما ضرب ركز في خطابه على مصلحة المدينة - بما فيها من طوائف وعقائد - ضد أعدائها من الخارج ..
ثالثًا: تهديد أمن المسلمين :
وهو اعتبار آخر شرعي للإذن بالقتال لاسيما للدفاع عن حياة المواطن سواء داخل الدولة الإسلامية أو خارجها ، ونستدل على ذلك بحادث محاولة منع الصحابي الجليل سعد بن معاذ من أداء العمرة:
فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ : انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ .. فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ : يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ؟؟ فَقَالَ : هَذَا سَعْدٌ . فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ : أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّبَاةَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا!! فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ - وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ - أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ، طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ .
تدل هذه الحادثة على أن أبا جهل يعتبر سعد بن معاذ من أهل الحرب بالنسبة إلى المشركين في مكة ، ولولا أنه دخل في جوار زعيم من زعمائها لأهدر دمه، تأمل قول أبي جهل لسعد : " لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا" ! فلم يكن أحد من المسلمين وإن كانوا معتمرين أو حجاج يستطيع أن يدخل مكة حاجًا أو معتمرًا أو نحو ذلك، إلا في جوار زعيم من الزعماء الوثنيين كما رأيت .
وهكذا يتبدى للمتبصر أن المسجد الحرام تحت احتلال فعلي، وإهانة واقعة، وعتو بيّن من قبل هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم أوصياء على المسجد الحرام، وما هم . قال الله تعالى {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }الأنفال34
"إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه . إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف . إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله " .
ويدل هذا الحادث أيضًا – من كلام سعد – على أن المسلمين في هذا الوقت لم يتعرضوا ولو لمرة واحدة لقوافل مكة التجارية، وأن الدولة الإسلامية في هذا الوقت لم تعامل أهل مكة المشركين معاملة أهل الحرب. ومعنى هذا أن الأيدي الممسكة بزمام الأمور في مكة هي التي بادرت بالعدوان، وأعلنت الحرب على دولة الإسلام، وهددت الحجاج والمعتمرين من المسلمين، واعتبرت المسلمين أهل حرب لا يدخلون مكة إلا بصك أمان أو بصفة مستأمنين .
فكان بعد كل هذا أن يدافع الشعب المسلم عن عقيدته وأرضه ودولته ونبيه ..

تنبيه هام :
لا يفهم من ذلك أن الجهاد في الإسلام لدفع العدوان فقط، أو أن الجهاد هو نوع واحد أو مرحلة واحدة .. كلا ! فالجهاد مراحل وأقسام ، فقد كان الجهاد فى بداية الدعوة، مقتصراً على الدعوة السلمية مع الصمود فى سبيلها للمحن و الشدائد، ثم شرع الى جانبها - مع بدء الهجرة- القتال الدفاعى، أى رد كل قوة بمثلها، ثم شرع بعد ذلك قتال كل من وقف عقبة فى طريق إقامة المجتمع الإسلامى، على أن لا يقبل من الملاحدة و الوثنيين و المشركين إلا الإسلام وذلك لعدم إمكان الإنسجام بين المجتمع الإسلامى الصحيح وما هم عليه من الإلحاد و الوثنية، أما أهل الكتاب فيكفى خضوعهم للمجتمع الإسلامى وانضوائهم فى دولته على أن يدفعوا للدولة ما يسمى ( الجزية ) مكان ما يدفعه المسلمون من الزكاة. وعند هذه المرحلة الأخيرة استقر حكم الجهاد فى االإسلام، وهذا هو واجب المسلمين فى كل عصر إذا توافرت لديهم القوة و العدة اللازمة . وعن هذه المرحلة يقول الله تعالى :" قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين " [ التوبة 123]، وعنها أيضاً يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " .
المطلب الثاني : محمد  القائد الرحيم :
يتحدث الباحث "وليم موير" عن معاملة النبي  أعداءه تلك المعاملة التي اتسمت بالرحمة والعفو، حين فتحه مكة (في رمضان 8هـ/ يناير 630 م) ، فيقول :
"عامل حتى ألد أعدائه بكل كرم وسخاء حتى مع أهل مكة ، وهم الذين ناصبوه العداء سنين طوالاً ، وامتنعوا من الدخول في طاعته ، كما ظهر حلمه وصفحه في حالتي الظفر والانتصار ، وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له " .
كذلك يقول واشنجتون إيرفنج :"كانت تصرفات الرسول [] في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" .
فهو الفاتح الرحيم، بالحق والعدل، لا الغازي الطاغية أو الظالم..
"وفي إمكان المرء أن يتخيل المعاملة التي كان يجدر بفاتح دنيوي النزعة أن يعاملهم بها. ولكن صفح الرسول  كان لا يعرف حدوداً . فقد غفر لهم ثلاثة عشر عاماً من الاضطهاد والتآمر " .. وهم الذين عذبوه وعذبوا أصحابه وهجَّروه وهجّروه أصحابه، وقتلوا منهم نفراً ليس بالعديد القليل ..
يقول "جان باغوت غلوب" معقباً " وهكذا تم فتح مكة دون إراقة دماء إلى حد كبير ... إلا أنه اكتسب قلوب الجميع بما أظهره من رحمة وعفو في يوم انتصاره " .
هذا، ويقول المستشرق إميل درمنغم متحدثاً عن الفاتح والقائد الرحيم نبينا محمد  في حال انتصاراته :
"فقد برهن [محمد ] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء ! " .
"وهكذا ظهر الرسول  الذي كان رحمة للعالمين، وحرر الإنسانية من أصفاد الجهل والخرافة والفساد" .. بل ظهر كما وصفه المفكر البلجيكي هنري ماسيه :"يتصف بالرحمة الخالصة" . تلك الرحمة الخالصة التي غلبت دوماً – كما يبين مارسيل بوازار – على أحاديث النبي  وسيرته، فلا "تنفك الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية تصور في الأذهان كرم الرسول وتواضعه، كما تصور استقامته ونقاءه ولطفه وحلمه . وكما يظهره التاريخ قائداً عظيماً ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحاً قوي الشكيمة (ديمقراطياً).." .
وفوق أخلاق الرحمة التي تخلق بها النبي  لما انتصر على أعدائه وتمكن منهم، في المعارك والفتوحات، نراه أيضاً رحيماً بمجرمين وأعداء – داخل الدولة - أمضوا حياتهم في دس الفتن بين المسلمين، والعمل الدائب من أجل هدم الدين والدولة، فضلاً عن عمالة هؤلاء المجرمين لأعداء المسلمين خارج حدود الدولة ..
يقول "مولانا محمد على" :
"وسماحة الرسول [] نحو أعدائه يعز نظيرها في تاريخ العالم . فقد كان عبد الله بن أبي عدواً للإسلام ، وكان ينفق أيامه ولياليه في وضع الخطط لإيقاع الأذى بالدين الجديد، محرضاً المكيين واليهود تحريضاً موصولاً على سحق المسلمين . ومع ذلك فيوم توفي عبد الله دعا الرسول[] ربه أن يغفر له ، بل لقد قدم رداءه إلى أهله كي يكفنوه به" .
إن نبي الرحمة  لم ينتقم في أيما يوم من الأيام من امرىء أساء إليه! صحيح أنه أنزل العقوبة ببعض أعدائه في أحوال نادرة جداً، وفي فترات جد متباعدة . ولكن تلك الحالات كانت تنطوى كلها على خيانات بشعة قام بها أناس لم يعد الصفح يجدي في تقويمهم وإصلاحهم . والحق أن ترك أمثال هؤلاء المجرمين سالمين غانمين كان خليقاً به ألا يظن البعض أنه استحسن الأذى والإفساد .. والرسول لم يلجاً إلى العقوبة قط حيثما كان ثمة مجال لنجاح سياسة الصفح كرادع إن لم نقل كإجراء إصلاحي .
المطلب الثالث : هدي محمد في المعارك :
شرع نبي الرحمة لأمته آداب سامية وضوابط حاكمة على سلوك المقاتل المسلم، توجب عليه مخالفتها عقوبات زاجرة قي الدنيا والآخرة .
فلا يستخدم في الجهاد في سبيل الله إلا الوسائل المشروعة والأساليب النزيهة، فعن صفوان بن عسال قال :بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية فقال: " سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدا.." .
وعن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِم .
وقال جابر : نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل شيء من الدواب صبرا
وعن حنظلة الكاتب قال :
غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس، فأفرجوا له فقال: " ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل !"
ثم قال لرجل : " انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك يقول: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا .." .
وقال – ذات يوم في معركة مستنكرًا على بعض أصحابه - :
" ما بال قوم جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية !" .
فقال رجل : يا رسول الله :إنما هم أولاد المشركين !
فقال : "ألا إن خياركم أبناء المشركين .." .
ثم قال : " ألا لا تقتلوا ذرية ، ألا لا تقتلوا ذرية !! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يهب
عنها لسانها فأبواها يهودانها و ينصرانها " .
وعن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع ، فقال أبو بكر له :
"إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له " .. وأوصاه قائلاً : " وإني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما ، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا ، ولا تعقرن شاة ، ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا [ وفي رواية : نحلا ولا تفرقنه] ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن "
عن عمر بن الخطاب ، أنه قال : " اتقوا الله في الفلاحين ، ولا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب" .
وهذه النصوص وغيرها من دستور العسكرية الإسلامية التي وضعها رسول الله  تشتمل على الأصول الأخلاقية للحرب، وهذه جملتها :
1- الإخلاص والتجرد للأهداف الحقيقية للحرب وترك ما يخالف ذلك من غلول وغدر وثأر وانتقام.
2- المحافظة على البيئة واجتناب الفساد في الأرض بتحريق الأشجار وقتل الحيوانات لغير ضرورة.
3- عدم التعرض لغير المقاتلين من النساء والصبيان والشيوخ.
4- السماحة الدينية واحترام مقدسات الآخرين، بعدم قتل الرهبان والقسيسين ما لم يقاتلوا أو يعينوا على القتال، وعدم التعرض كذلك لبيعهم وكنائسهم بسوء.

المطلب الرابع: فرية العنف ونشر الإسلام بالسيف :
ومن العجيب أن بعض الحاقدين ألصقوا بمحمد  تهمة القسوة والعنف ، ونشر دعوة الله بالسيف!
والحق أن رجالات العلم والفكر في أوربا قد ردوا على هذا الزعم، وفندوه ..

أولاً : رد العلامة لويس سيديو :
وكان من أبرز المدافعين والمظهرين بطلان ما نفثته أقلام الحاقدين ، المؤرخ الفرنسي العلامة لويس سيديو حيث قال:
"من التجني على حقائق التاريخ ما كان من عزو بعض الكُتّاب إلى محمد [] القسوة... فقد نسي هؤلاء أن محمداً [] لم يأل جهداً في إلغاء عادة الثأر الموروثة الكريهة التي كانت ذات حظوة لدى العرب، كحظوة المبارزات بأوروبة فيما مضى . وكأن أولئك الكُتّاب لم يقرأوا آيات القرآن التي قضى محمد [] [بها] على عادة الوأد الفظيعة . وكأنهم لم يفكروا في العفو الكريم الذي أنعم به على ألد أعدائه بعد فتح مكة، ولا في الرحمة التي حبا بها ، كثيراً من القبائل عند ممارسة قواعد الحرب الشاقة... وكأنهم لم يعلموا أن محمداً [] لم يسئ استعمال ما اتفق له من السلطان العظيم ، قضاء لشهوة القسوة الدنيئة ، وأنه لم يأل جهداً -في الغالب - في تقويم من يجور من أصحابه، والكل يعلم أنه رفض - بعد غزوة بدر- رأي عمر بن الخطاب في قتل الأسرى ، وأنه عندما حل وقت مجازاة بني قريظة ترك الحكم في مصيرهم لحليفهم القديم سعد بن معاذ ، وأنه صفح عن قاتل عمه حمزة ، وأنه لم يرفض -قط - ما طلب إليه من اللطف والسماح" .
ثانيًا: رد الدكتورة كارين أرمسترونج
تقول الباحثة البريطانية كارين أرمسترونج في مقدمة كتابها (سيرة النبي محمد): "من الخطأ أن نظن أن الإسلام دين يتسم بالعنف أو بالتعصب في جوهره، على نحو ما يقول به البعض أحياناً، بل إن الإسلام دين عالمي، ولا يتصف بأي سمات عدوانية شرقية أو معادية للغرب ." .
و تبين أن السبب في إلقاء هذه التهمة على النبي من قبل بعض الغربيين، إنما هو بسبب أحقاد قديمة، فتقول:
"إننا في الغرب بحاجة إلى أن نخلِّص أنفسنا من بعض أحقادنا القديمة، ولعل شخصاً مثل محمد [] يكون مناسباً للبدء ! فقد كان رجلاً متدفق المشاعر.. وقد أسس ديناً وموروثاً حضارياً لم يكن السيف دعامته، برغم الأسطورة الغربية، وديناً اسمه الإسلام؛ ذلك اللفظ ذو الدلالة على السلام والوفاق !! " .
ثالثًا: رد الكاتب الألماني ديسون
يقول المفكر "ديسون: "من الخطأ أن يصدق المرء ما يروِّج له البعض من أن السيف كان المبشر الأول في تقدم الإسلام وتبسطه، ذلك أن السبب الأول في انتشار الإسلام يعود إلى هذه الأخوة الدينية الفريدة، وإلى هذه الحياة الجديدة الاجتماعية التي دعا إليها ومكَّن لها، ثم إلى هذه الحياة الشريفة الطاهرة التي راح يحياها محمد [] وخلفاؤه من بعده، والتي بلغت من العفة والتضحية حداً جعل الإسلام قوة عظيمة لا تُغلب" .
رابعًا: رد المفكر الهولندي دوزي:
يقول "دوزي" ، مبينًا ومؤكدًا أن النبي  لم يجبر أحدًا على اعتناق الإسلام .. فيقول في كلمات محددة جازمة :
"لم يُفرض فرضاً على أحد !!" ..
فلم يثبت ولو في مرة واحدة في تاريخ عهد النبي أن أجبر أي إنسان على اعتناق الإسلام ولو بالضغط النفسي، فضلاً عن استخدام العنف أو السيف.
خامسًا: رد المؤرخ الكبير جوستاف لوبون:
يقول جوستاف لوبون :
"لم ينتشر الإسلام بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط" ..
ويقول: "إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار الإسلام، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم" .
سادسًا: رد الكاتبة الايطالية لورافيشيا فاغليري:
وتبين لورافيشيا فاغليري أن" الإسلام لايبيح امتشاق الحسام إلاّ دفاعاً عن النفس ، وهو يحرم العدوان تحريماً صريحاً... وأباحت الشريعة القتال للمسلمين دفاعاً عن حرية الضمير لإقرار السلم، واستتاب الأمن والنظام" .
كما حدث في معارك عديدة، كمعركة بدر (17 رمضان 2هـ/13مارس624م)، ومعركة أُحد ( شوال 3هـ/إبريل624 م)، ومعركة الأحزاب ( شوال 5 هـ\ مارس627م) .. فكلها معارك دفاعية، أقل ما يقال فيها أنها معارك دفاع عن النفس .
أو كما حدث في معارك أخرى، كمعركة قينقاع (السبت 15 شوال 2هـ /9 إبريل624، ومعركة النضير (ربيع الأول 4 هـ/غسطس 625 م) ومعركة قريظة(ذي القعدة 5 هـ/إبريل 627 م)، ومعركة خيبر (المحرم سنة 7 هـ /مايو 628).. فهي معارك جائت نتيجة للخيانة، والتحالف ضد المسلمين، ونقض العهود، ومحاولات عديدة لاغتيال النبي .
سابعًا: رد العلامة توماس كارلايل
وحسبنا رد توماس كارلايل على تلك الفرية التي تذهب إلى أن محمداً لم ينشر دعوته إلا بحد السيف ،فقال :
"إن اتهام محمد [] بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته؛ سخف غير مفهوم!!" .. ويقول مفصلاً ..
"لقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد[] دينه بالسيف ، فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه[] ، فذلك أشد ما أخطأوا وجاروا ، فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف ، ولكن ما هو الذي أوجد السيف ؟ هو قوة ذلك الدين ، وأنه حق . والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد ، فالذي يعتقده هو فرد- فرد ضد العالم أجمع-، فإذا تناول هذا الفرد سيفاً وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع ! وأرى - على العموم- أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال، أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً، وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون ! وأنا لا أحفل إذا كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أو بأية آلة أخرى ، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار ، لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها فإنها لن تَهزم إلا ما كان يستحق أن يُهزم ، وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خير منها ، بل ما هو أحط وأدنى " .. فإنها حرب لا حكم فيها إلا لله الذي أرسل الرسل ذاتها ، ونعم الحكم ما أعدله وما أقسطه، إذا كان من عند الخالق !
المطلب الخامس : فرية حول القتل الجماعي ليهود بني قريظة :
معروف لدى كتب التاريخ أن يهود قريظة كانوا فصيل من فصائل المدينة المنورة .
ومعروف أنه بمجرد قدوم النبي  المدينة عقد بينه وبين اليهود الموجودين بها معاهدة تنظم الشأن العام الداخلي والخارجي للمدينة. وكان من بنود هذه المعاهدة:
1- التزام كل أبناء المدينة بما فيهم المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما وعدم اعتداء أي فريق منهما على الآخر .
2- الدفاع المشترك عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي على المدينة .
وحدث في شوال 5 هـ \ مارس627م .. أن مر المسلمون بظروف قاسية عندما تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة، وأحاطت جيوش التحالف المشركة بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل، من مشركي قريش وأشجع وغطفان وبني سليم وأسد وفزارة .. على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل، وكان المتوقع أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات المحتلة لحدود المدينة، بناء على نصوص المعاهدة المبرمة بين الفريقين.. لكن الذي حدث هو عكس هذا، فقد فوجئ المسلمون ببني قريظة يخونهم في أخطر أوقات محنتهم، ولم يرعوا للجوار حقاً، ولا للعهود حرمة، بل كانوا يسعون من وراء انضمامهم هذا إلى صفوف القوات الغازية التعجيل بالقضاء على المسلمين ودولتهم الناشئة !
أحدثت هذه الخيانة زلزالاً عنيفًا في نفوس المسلمين، وجرحًا عميقًا في وجدانهم، لا سيما بعد إعلان قريظة – جهارًا نهارًا - الانضمام إلى صفوف الغزاة ..لدرجة أن الرسول  حرص أول الأمر على كتمان الخبر على الشعب لمـا كان يخشى من وقعه على نفوس الجنود. وبمجرد أن انتهى إلى سمعه  النبأ أرسل وفداً دبلوماسيًا مكوناً من القادة الأفاضل سعد بن معاذ(قائد الأوس)، وسعد بن عبادة (قائد الخزرج)، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير- رضوان الله تعالى عليهم - ليذّكروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عقود وعهود، ويحذروهم مغبة ما هم مقدمون عليه، ولكن دون جدوى!
وبعد أن ولى المشركون المحتلون وحلفاؤهم الأدبار، يحملون معهم الهزيمة والإخفاق، وفشلت محاولاتهم لاقتحام المدينة المنيعة . رجع المقاتلون المسلمون إلى بيوتهم بالمدينة يستريحون من هذه الغمة، ويلتقطون أنفاسهم بعد فزع وقلق نفسي مريع دام شهرًا كاملاً.
ويبدو أن بعض الصحابة ظن أن الموضوع انتهى إلى ذلك الحد ! لكن أيترك الخائنون العملاء الناكثون للعهود دون محاسبة ؟ فنادى النبي  في المسلمين "ألا .. لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة !" ، فسار الجيش الإسلامي إلى فصيل الفتنة والخيانة، وتبعهم النبي  - القائد العام - بعد أن استخلف على المدينة – نائبًا عنه –عبد الله بن أم مكتوم، وحاصر المسلمون بني قريظة شهراً تقريبًا، ولمـا طال عليهم الحصار.. ورفض النبي  إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط، واستسلم بنو قريظة، ونزلوا على حكم رسول الله  ، فوكل  الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ– قائد الأوس - .. وفي اختيار سعد دلالة على حكمة النبي  وبُعد نظره، وإدراكه لنفسيات يهود قريظة ، لأن سعدًا كان حليف بني قريظة في الجاهلية، وقد ارتاح اليهود لهذا الاختيار، وظنوا أن الرجل قد يحابيهم في حكمه، لكن سعداً نظر إلى الموقف من جميع جوانبه. وقدره تقدير من عاش أحداثه وظروفه.
وبعد أن أخذ سعد  المواثيق على الطرفين أن يرضى كل منهما بحكمه. أعلن حكمه بالإعدام على الخونة، قائلاً: "فَإِنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ الرّجَالُ وَتُسْبَى الذّرّيّةُ وَتُقْسَمَ الأمْوَالُ "، فقال رسول الله مؤيدًا هذا الحكم : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ " ..
فسيقوا إلى خنادق في المدينة، فُقتل رجالهم وُسبي نساؤهم وذراريهم. ولاقى بنو قريظة هذا المصير على هذه الخيانة.
وهنا يحلو للبعض أن يتطاولوا على تصرف النبي  ومعاملته لبني قريظة، ويعتبروا أن الإعدام الجماعي الذي تم لهؤلاء الناس يتسم بالقسوة والوحشية والإجرام... الخ ..
ونرد على مثل هذه الآراء ونقول :
أولاً: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبمًا كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم؟ ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين. على أن اليهود لم يقدِموا على هذا العمل الخسيس إلا بعد أن تكون لديهم ما يشبه اليقين بأنهم- بمساعدة المشركين- سوف يقومون بتدمير الكيان الإسلامي تدميراً كاملاً، واستئصال شأفة المسلمين استئصالاً كلياً – كما ورد في كتبهم إذا ظهروا على شعب من الشعوب - ولهذا لم يترددوا في الغدر بحلفائهم المسلمين وعلى تلك الصورة البشعة .
لقد جاء في سفر التثنية : "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإن أجابتك وفتحت لك؛ فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك.. بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك " .
ويعلق "مولانا محمد علي"، على هذا النص بقوله: "وهكذا حكم سعد وفقًا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف- في وضوح بالغ- أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس" .
ثانياً: أن اليهود – لا سيما يهود قريظة - لم يلقوا من المسلمين طيلة السنوات التي تلت المعاهدة إلا كل بر ووفاء، ومعاملة حسنة طيبة، كما شهدوا أنفسهم بذلك، فعندما ذهب حيي بن أخطب – أكبر زعماء اليهود - إلى كعب بن أسد القرظي زعيم قريظة يغريه بنقض العهد مع النبي  قال: " وَيْحَك يَا حُيَيّ !! فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمّدٍ إلّا صِدْقًا وَوَفَاءً " .. لكنه لم يزل به حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد.
ثالثًا : أن قانون أي دولة الآن يحكم بالإعدام على من يخون وطنه ويقيم اتصالات مع العدو أو يتجسس لحسابه، و لو درس الذين يطعنون في حكم سعد على بني قريظة القوانين المعاصرة دراسة نافذة وطبقوها على قضية بني قريظة لرأوا أن قوانين العصر الحديث والدول المتقدمة لا تختلف في شيء عما أصدره سعد بن معاذ . .
فيهود قريظة خانوا العقد، وتآمروا وانضموا إلى أعداء الدولة الإسلامية وأوقعوا المسلمين بين شقي الرحى في المدينة مكتوين بنار المشركين من جهة واعتداء اليهود في ساعة المحنة من جهة ثانية فاقترفوا بذلك الغدر أربع جرائم:
أ - رفع السلاح ضد سلطان المدينة مع الأجنبي المعتدي المحتل.
ب - تسهيل دخول العدو للبلاد .
ج - التجسس لصالح تحالف المشركين.
د- دس الفتن والمشاركة في الحرب الإعلامية النفسية على الشعب المسلم.
إذا هو ( القصاص العادل) الذي أصاب بني قريظة على خيانتهم ..
ومعظم قوانين العقوبات العصرية تجعل الإعدام عقوبة كل جريمة من الجرائم الأربع، وتسمى أي جريمة من هذه الجرائم باسم الخيانة العظمى!
رابعًا : قد يقال: كان من الممكن أن يعامل النبي  يهود بني قريظة كما يعامل القائد المنتصر رجال جيش عدوه الذي انهزم أَمامه واستسلم، أو يعاملهم كما عامل يهود بني النضير وبني قينقاع.. والجواب على ذلك أن بني قريظة لم يكونوا أسرى حرب حتى يميل بهم إلى الشفقة، ولم يكونوا في حالة حرب مع المسلمين، وإنما كانوا جيرانا متحالفين يشكلون مع المسلمين وحدة وطنية ملزمة بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي عدوان، لكنهم ظهروا أخطر من الأعداء، إذ يبيتون لأناس يأمنونهم ويخصونهم بحقوق الجار، وواجبات الذمام، فكانوا بمثابة الخائن المتآمر المتواطئ مع العدو على أمته ووطنه في حالة الحرب القائمة وهذه خيانة عظمى ليس لها في جميع الشرائع إلا الإعدام السريع.. وموقفهم هنا يختلف اختلافًا واضحًا عن موقف بني قينقاع وبني النضير، فالأولون قد أبدوا البغضاء من أفواههم وأشاعوا الرعب والشكوك ورأوا في الدعاية المغرضة سلاحًا لا يفل.. وبنوا النضير ائتمروا على قتل الرسول ، وتحالفوا مع بعض المنافقين على المناجزة دون أن تتيح لهم الفرصة طريقًا يصلون منه إلى التنفيذ، وهؤلاء وأولئك أَهون خطًبا من الذين سلوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية، فتعادل الكفتين بينهما طيش لا يقره إنصاف .
المبحث الرابع
رحمته للأسرى
في الوقت الذي كانت فيه الحروب الجاهلية لا تعرف أبسط قواعد أخلاقيات الحرب، ظهر النبي بمبادئه العسكرية، ليشرع للعالمين تصورًا شاملاً لحقوق الأسرى في الإسلام.
وفي هذا العصر الحديث الذي شرّعت فيه المنظمات الدولية بنودًا نظرية – غير مفعلة وغير مطبقة – لحقوق الأسرى، كاتفاقيات جنيف بشأن أسرى الحرب في معاملة أسرى الحرب ورعايتهم جسدياً ونفسياً.و نرى رسولنا  يشرع قبلهم بمئات السنين حقوقًا شاملة وجامعة للأسرى، أضف إلى ذلك أن النبي  لم يجعل هذه الحقوق بنودًا نظرية بعيدة عن واقع الحروب – كما هو الحال في عصرنا -، بل جعلها منهجًا عمليًا وطبقها بنفسه في غزواته وطبقها تلاميذه في السرايا والمعارك الإسلامية ..
وفي إكرامه  للأسرى، مظهر فريد من مظاهر الرحمة، في وقت كانت تستباح فيه الحرمات والأعراض ..
"وكثيراً ما أطلق [] سراح الأسرى في سماحة بالغة ، رغم أن عددهم بلغ في بعض الأحيان ستة آلاف أسير" .
يقول سيديو : "والكل يعلم أنه[] رفض -بعد غزوة بدر- رأي عمر بن الخطاب في قتل الأسرى... وأنه صفح عن قاتل عمه حمزة ، وأنه لم يرفض - قط -ما طلب إليه من اللطف والسماح" .

المطلب الأول : نماذج في معركة بدر (17 رمضان 2هـ/13مارس624م):
لقد استشار النبي وزرائه في أسارى بدر فأشار عليه أبو بكر  أن يأخذ منهم فدية ، فهم بنو العم والعفو عنهم أحسن، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام. وقال عمر  : لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها!!
فهوي النبي  ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر. فلما كان من الغد أقبل عمر فإذا رسول الله  يبكى هو وأبو بكر فقال: يا رسول الله! من أي شئ تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله : "أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ! لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة !" وأنزل الله تعالى قوله: ‏ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ .
وقد تكلم العلماء في أي الرأيين كان أصوب فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب، ولتشبيه النبي  له في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ولموافقة رسول الله  لأبي بكر أولاً ولموافقة الله له آخراً حيث استقر الأمر على رأيه ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخراً وغلب جانب الرحمة على جانب العقوبة ..
وحين أقبل بالأسارى – بعد بدر - فرقهم النبي بين أصحابه وقال :
"استوصوا بهم خيراً" ..
وبهذه التوصية النبوية الرفيعة، تحقق في هذا الجيل الإسلامي الفضيل قول الله تعالى:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا  .
وهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى. قال: كنت في الأسرى يوم بدر ، فقال رسول الله :" اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا" . وكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاهُمْ بِنَا ، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلّا نَفَحَنِي بِهَا . قَالَ فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدّهَا عَلَيّ ما يَمَسّهَا .
ويقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: "لما كان يوم بدر أُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي  له قميصاً فوجدوا قميص عبدالله بن أُبي يقدر عليه فكساه النبي  إياه"
وهذا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ يحدثنا قال: كنت في رهط من الأنصار - جزاهم الله خيرًا -، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد: وكانوا يحملوننا ويمشون .
وقد كان أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ في الأسارى، وختن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وزوج ابنته زينب، أسره خِرَاشُ بْنُ الصّمّةَ ، فلما بعثت قريش فداء الأسرى بعثت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بقلادة لإمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا "، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها .

كان هذا الخُلق الكريم الذي غرسه المعلم الكبير محمد  في أصحابه وجنده وشعبه، قد أثر في إسراع مجموعة من كبراء الأسرى وأشرافهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقب معركة بدر، بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة، وتنفيذ وصية  ، وأسلم معه السائب بن عبيد.
وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون عن محمد  ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير .
المطلب الثاني : نموذج معركة بني المصطلق (شعبان 5 هـ /يناير 627 م)
لقد أطلق المسلمون من في أيديهم من أسرى بني المصطلق – بعد معركة مع بني المصطلق أعداء الرسول ، وذلك أن جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد بني المصطلق وقعت في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فـأدي عنها رسول الله  وتزوجهـا، فأعـتق المسلـمون بسبـب هـذا التزويـج مـائـة أهـل بيـت مـن بنـي المصطلق قـد أسلمـوا، وقـالـوا‏:‏ أصهـار رسول الله  ‏.‏ حيث كره المسلمون أن يأسروا أصهار رسول الله ! قالت عائشة : فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها .
واستكثر الصحابة على أنفسهم أن يتملكوا أصهار نبيهم وقائدهم ، وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة، دخلت القبيلة كلها في دين الله. إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي ، وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم ، وتأسيهم بأخلاق قائدهم في معاملة الأسرى، والتي عهدوها من معلمهم في حروب سابقة .

المطلب الثالث : نموذج معركة حنين( 10 شوال 8 هـ/30 يناير 630 م)
يقول "جان باغوت غلوب":
"وكان انتصار المسلمين [على هوازن] في حنين كاملاً، حتى أنهم كسبوا غنائم كثيرة بين أعداد وفيرة من الإبل والغنم ، كما أسروا عدداً ضخماً من الأسرى معظمهم من نساء هوازن وأطفالها ، وعندما عاد النبي [] عن الطائف دون أن يتمكن من فتحها شرع يقسم الغنائم والأسلاب بين رجاله . ووصل إليه وفد من هوازن المهزومة المغلوبة على أمرها يرجوه إطلاق سراح النسوة والأطفال من الأسرى، وسرعان ما لبى النبي [] الطلب بما عرف عنه من دماثة و تسامح ، فلقد كان ينشد من جديد في ذروة انتصاره أن يكسب الناس أكثر من نشدانه عقابهم وقصاصهم" .
لقد تأثر مالك بن عوف زعيم هوازن المهزومة بهذا العفو الكريم والخلق العظيم من محمد ، بعدما أطلق له كل الأسرى من قومه..
فجادت قريحته لمدح النبي  ، فأخذ ينشد فاصلاً من الشعر، يشكر فيه رسول الله 
فقال مالك :
šŠ¤1فِي النّاسِ كُلّهُمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
š š مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ
Šš
šوَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَــدٍ

š š أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اُجْتُدِيَ
Šš
šبِالسّمْهَرِيّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَــنّدِ

š š إذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابَهَا
Šš
šوَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ 4 .
مرصد
š š فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ
¤Šš

المطلب الرابع : نماذج أخرى:
أولاً : عفوه عن ثمانين أسيرًا في الحديبية :
هبط عليه فى صلح الحديبية (في ذي القعدة 6 هـ/ مارس628 م) ، ثمانون متسلحون، من جبل التنعيم ، يريدون قتله، فأسرهم، ثم منَّ عليهم .
ثانيًا : عفوه عن ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة
أُسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، وسيد اليمامة، فربطه الصحابة بسارية بالمسجد النبوي . وإنما رُبط بسجد بناه أكرم الخلق، مطلق العاني الأسير، خير من أكرم العزيز إذا ذل، والغريب إذا ضل .
فَقَالَ النبي  - لأصحابه -: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ " ..
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
فلقد هزته الأخلاق المحمدية هزًا عنيفًا، فطفق يهتف بأخلاق محمد، ويقول :
"مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ!! وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ !! وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ !! " ..
بل ويترجم ثمامة هذا الحب عمليًا ..فيبغض في الله ويقاطع في الله، فلما فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : صَبَوْتَ ؟؟!
قَالَ: " لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " ! .
ثالثًا: لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح :
رأى الرسول أسارى بني قريظة موقوفين في قيظ النهار تحت الشمس فأمر من يقومون بحراستهم قائلاً: "لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح.. قيلوهم حتى يبردوا"، وقد سئل الإمام مالك - يرحمه الله: "أيعذب الأسير إن رجي أن يدل على عورة العدو؟" فأجاب قائلاً: "ما سمعت بذلك" وبذلك يحرم الإسلام تعذيب الأسرى، ويرفض إهانتهم، ويقرر عدم إهمالهم.. كما لا يجوز تعذيب الأسير، ولا إهانته للحصول على معلومات عسكرية منه..
رابعًا : كسوة ونفقة لإسيرة :
وأعطى رسول الله كسوة ونفقة لابنة حاتم الطائي عندما وقعت أسيرة في أيدي المسلمين، بل حملها حتى خرجت مع بعض أناس من قومها .
خامسًا : عفوه عن مشركين قاتلوا يوم الفتح :
وأطلق يوم فتح مكة (رمضان 8هـ/ يناير 630 م ) جماعة من قريش فكان يقال لهم : الطلقاء .
فهذه نماذج، تبين لك مدى رحمة النبي  للأسرى، وهذه المواقف وغيرها تكشف الستار عن شخصية بلغت من السمو والرفعة مبلغًا بعيدًا، شخصية تحرك الأفئدة نحوها بفيض عارم من الرحمة والعفو والجاذبية .
المبحث الخامس
رحمته لقتلى العدو

المطلب الأول : مواراة جيف قتلى العدو في بدر:
فلما انتصر النبي – صلى الله عليه وسلم – على المشركين في معركة بدر نصراً ساحقًا، وقُتل في هذه الموقعة سبعون من صناديد الوثنية، لم يأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتمثيل بجثث القتلى أو إهانتها، بل أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بدفن هذه الجثث في بئر من آبار بدر القديمة ..
وقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- وقف على القتلى فقال – يعاتبهم في حرقة - : «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» .
ونادى عليهم وهم في البئر قائلاً: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب» .
المطلب الثاني : جثة نوفل بن عبد الله !
لما حاول نوفل بن عبد الله – لعنه الله – اقتحام الخندق الذي صنعه المسلمون لتحصين المدينة من حصار التحالف الوثني – في غزو الأحزاب - ومات مقتولاً في الخندق، عندما أصر على اقتحامه في فرقة من المشركين، سأل المشركون المسلمين جثته بمال يعطونه المسلمين، فأرسل المشركون إلى النبي: أن أرسل إلينا بجسده ونعطيك اثني عشر ألفاً .. فتعفف رسول الله عن هذا المال الخبيث، ونهاهم عن ذلك وكرهه !! وقال: " ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ جِيفَتَهُمْ فَإِنَّهُ خَبِيثُ الْجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ"
وفي رواية قال: " ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته" . فلم يقبل منهم شيئًا، وخلى بينهم وبينه ..
وفي رواية : عن عن عكرمة أن نوفلاً تردى به فرسه يوم الخندق فقُتل فبعث أبو سفيان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بديته مائة من الإبل فأبى النبي -صلى الله عليه وسلم -وقال : "خذوه فإنه خبيث الدية خبيث الجثة" ..
وقال صلى الله عليه وسلم : " هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى "
وإنما كره هذا لئلا ينسب إلى المسلمين ما لا يليق بمكارم الأخلاق، فقد كان عليه السلام يقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
المطلب الثالث : جثة عمرو بن ود :
وبالمثل في نفس الغزوة، حدث مع عمرو بن ود – طاغية العرب - ، عندما قتله علي – رضي الله عنه – في مبارزة عنيفة.. وذكر ابن إسحاق أن المشركين بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:
"هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى" .
ولما أقبل علي – رضي الله عنه - بعد قتله لعمرو بن عبد ود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متهلل، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع خير منها؟ قال: إني حين ضربته استقبلني بسوءته فاستحييت يا ابن عمي أن أسلبه .

المبحث السادس
رحمته لأهل الذمة
المطلب الأول : من هم أهل الذمة وما موقف الدولة الإسلامية منهم ؟
أهل الذمة هم الأقليات من أهل الكتاب دخل الدولة الإسلامية ..
يقول أدوار بروي:
"فاليهود والنصارى الذين هم أيضًا من أهل الكتاب، حق لهم أن يتمتعوا بالتساهل وأن لا يضاموا. وكان لابدّ من وقوف هذا الموقف نفسه من الزرادشتية والبوذية والصابئة.. وغيرها من الملل والنحل الأخرى. والمطلوب من هؤلاء السكان أن يظهروا الولاء للإسلام ويعترفوا بسيادته وسلطانه، وأن يؤدوا له الرسوم المترتبة على أهل الذمة تأديتها.. وفي نطاق هذه التحفظات التي لم يكن لتؤثر كثيرًا على الحياة العادية، تمتع الزميون[ في الإسلام] بكافة حرياتهم" .
ويقول : مونتكومري وات:
"إن تعامل المسلمين كان مختلفًا تجاه اليهود والمسيحيين والزرادشتيين وغيرهم ممن اعتبرت دياناتهم شقيقة للإسلام، رغم الدعوى القائلة بأن الأتباع المعاصرين لتلك الديانات قد ابتعدوا عن جوهرها. ومهما كان الأمر فقد كان بالإمكان قبولهم نوعًا من الحلفاء للمسلمين في معظم الأقطار التي فتحتها العرب. لذلك فإن غرض الجهاد لم يكن يهدف إلى تحويل أولئك السكان نحو الإسلام بقدر ما كان يهدف إلى اعترافهم بالحكم الإسلامي وبمنزلة أناس يحميهم الإسلام. وبعامة فإنهم (أهل الذمة)" .
" وكانت الطائفة الذمية مجموعة من الناس تعتنق ديانة واحدة لها استقلالها الداخلي برعاية رئيس ديني كالبطريك أو الرابي، وكان على كل فرد من أفراد المجموعة الذمية دفع ضريبة شخصية إلى الحاكم المسلم ... وكانت تلك الضرائب أحيانًا أقل وطأة من الضرائب التي كانت تدفع للحكام السابقين. وكانت حمايتهم بصورة فعالة بالنسبة للدولة الإسلامية تمثل كلمة شرف تلتزم بها الدولة وتنفذها" .
المطلب الثاني : شهادات علماء الغرب :
أولاً: حرية أهل الذمة في الاعتقاد :
يقول "روم لاندو" :
"على نقيض الإمبراطورية النصرانية التي حاولت أن تفرض المسيحية على جميع رعاياها فرضًا، اعترف العرب بالأقليات الدينية وقبلوا بوجودها. كان النصارى واليهود والزرادشتيون يعرفون عندهم بـ (أهل الذمة)، أو الشعوب المتمتعة بالحماية. لقد ضمنت حرية العبادة لهم من طريق الجزية.. التي أمست تدفع بدلاً من الخدمة العسكرية. وكانت هذه الضريبة مضافًا إليها الخراج، أقل في مجموعها من الضرائب التي كانت مفروضة في ظل الحكم البيزنطي. كانت كل فرقة من الفرق التي تعامل كملّة، أي كطائفة نصف مستقلة استقلالاً ذاتيًا ضمن الدولة. وكانت كل ملّة تخضع لرئيسها الديني" .
ثانيًا: حرية أهل الذمة في ممارسة الشعائر :
يقول ول ديورانت:
".. كان أهل الذمة المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في المسيحية في هذه الأيام. فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم.. وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانينهم" ..
ويقول" آدم متز"
"كانت حياة الذمي عند أبي حنيفة وابن حنبل تكافئ حياة المسلم، ودية المسلم، وهي مسألة مهمة جدًا من حيث المبدأ.. ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحض مواكبهم وأعيادهم ويأمر بصيانتهم.. وكذلك ازدهرت الأديرة بهدوء.." .
ثالثًا: رعاية المسلمون لأهل الذمة:
يقول آرثر ستانلي تريتون :
"ولما تدانى أجل (عمر بن الخطاب) أوصى من بعده وهو على فراش الموت بقوله: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، وأن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم) وفي الأخبار النصرانية شهادة تؤيد هذا القول، وهي شهادة (عيثويابه) الذي تولى كرسي البطريركية من سنة 647 إلى 657م إذ كتب يقول: (إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، أنهم ليسوا بأعداء للنصرانية بل يمتدحون ملّتنا ويوقرون قسيسينا وقدّيسينا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا). والظاهر أن الاتفاق الذي تم بين (عيثويابه) وبين العرب كان من صالح النصارى، فقد نصّ على وجوب حمايتهم من أعدائهم، وألا يحملوا قسرًا على الحرب من أجل العرب، وألا يؤذوا من أجل الاحتفاظ بعاداتهم وممارسة شعائرهم، وألا تزيد الجزية المجباة من الفقير على أربعة دراهم، وأن يؤخذ من التاجر والغني اثنا عشر درهما، وإذا كانت أمة نصرانية في خدمة مسلم فإنه لا يحق لسيدها أن يجبرها على ترك دينها أو إهمال صلاتها والتخلي عن صيامها." .
رابعًا: الاستعانة بهم في أجهزة الدولة :
يقول آدم متز:
"ومن الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرّفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية" ..
وقد كان عمر بن الخطاب  يستخدمهم في كتابة الدواوين والترجمة.
المطلب الثالث : وصايا النبي  بأهل الذمة والتحذير من إيذائهم:
أولاً: حرمة قتل الذمي بغير حق :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:
عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : " مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا" .
ثانيًا: حرمة قذف الذمي :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :مَنْ قَذَفَ ذِمِّيًّا حُدَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسِياطٍ مِنْ نَارٍ" قيل لِمَكْحُولٍ: مَا أَشَدُّ مَا يُقَالُ، قَالَ: يُقَالُ لَهُ:يَا ابْنَ الْكَافِر ِ.
ثالثًا: تحريم ظلمه :
عن عبد الله بن جراد ، أن رسول الله  قال :" من ظلم ذميًا مؤدياً الجزية مقرًا بذلته ، فأنا خصمه يوم القيامة " .
وفي ذلك يقول يقول كولدتسيهر :
"فظلم أهل الذمة، وهم أولئك المحتمون بحمى الإسلام من غير المسلمين، كان يحكم عليه بالمعصية وتعدي الشريعة. ففي بعض المرات عامل حاكم إقليم لبنان الشعب بقسوة عندما ثار ضد ظلم أحد عمال الضرائب، فحكم عليه بما قاله الرسول []: (من ظلم معاهدًا، وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة). وفي عصر أحدث من هذا ما رواه بورتر Porter في كتابه (خمس سنين في دمشق) من أنه رأى بالقرب من بصرى (بيت اليهود) وحكى أنه كان في هذا الموضع مسجد هدمه عمر [] لأن الحاكم قد اغتصبه من يهودي ليبني عليه هذا المسجد!" .

المبحث السابع
قيم حضارية في غزوة بدر [ نموذجًا]

كثيرة هي تلك القيم الحضارية التي ظهرت في غزوة بدر[الجمعة 17 رمضان 2هـ - 13مارس624م]كأحداث رئيسية في هذه المعركة..تلك المعركة التي لم تكن في حسبان جيش المسلمين الذين خرجوا لمطاردة ثفقة تجارية لقريش قادمة من الشام يقودها أبو سفيان بن حرب، كمحاولة جديدة لاسترداد بعض أموال المسلمين التي صادرتها قريش !
ولكن قضى الله أمرًا غير الذي أراده المسلمون، فقد استطاع أبو سفيان أن يفلت بالقافلة، بعدما أرسل الى مكة من يخبر قريشاً بالخبر غير الذي أراده المسلمون، فغضب المشركون في مكة، فتجهزوا سراعاً، وخرجوا في ألف مقاتل .. أما أبو سفيان فقد أرسل إلى قيادات مكة ، من يخبرهم بأن القافلة قد نجت، وأنه لا داعي للقتال، وحينئذ رفض أبو جهل إلا المواجهة العسكرية..
وفيما يلي نقف – سريعًا - على بعض القيم الحضارية المستفادة من هذه الغزوة :
المطلب الأول : لا نستعين بمشرك على مشرك :
لما خرج رسول الله  ، إلى بدر، أدركه خبيب بن إساف، وكان ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج منجدًا لقومه من الخزرج طالبًا للغنيمة، وكانت تُذكر منه جرأة وشجاعة، ففرح أصحاب النبي  حين رأوه، فلما أدركه قال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي " أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: لا، قال: "فارجع فلن نستعين بمشرك" " فلم يزل خبيب يلح على النبي، والنبي يرفض، حتى أسلم خبيب، فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ  بِذَلِكَ ، وَقَالَ : " انطلق" ..
وعلى النقيض من هذا الموقف، جاء أبو قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ، يطلب القتال مع المسلمين وقد كان مشركًا، فلما رفض الإسلام، رده رَسُولُ اللّهِ  وَرَجَعَ الرجل إلَى المدينة، وأسلم بعد ذلك .

نرى القائد الإسلامي في هذا الموقف، يرفض أشد الرفض أن يستعين بمشرك على قتال مشرك، وأقل ما نُعَنون به هذا الموقف الحضاري المتكرر في السيرة الغراء، هو عنوان الحرب الشريفة النظيفة، التي تكون من أجل العقائد والمثل، لا من أجل القهر والظفر بالمغانم .. ففي هذا الموقف دلالة على أن الحرب في الإسلام لا تكون إلا من أجل العقيدة، فلا يصح إذن – إذا كنا نقاتل من أجل العقيدة – أن نستعين بأعداء هذه العقيدة في الحرب ..
وتخيل معي شعور الجيش المشرك، عندما تأتيه أنباء رفض القائد الإسلامي الاستعانة عليهم بغير المسلمين.. بيد أن الحروب الجاهلية في الماضي والحاضر يستعين فيها الخصم على خصمه بشتى الملل والنحل، الصالحة والطالحة، المهم أن يظفر الخصم بخصمه، فينهب ويسلب ويغدر .. دون الالتفات إلى قيم أو مثل !
أما القيادة الإسلامية الكريمة ترسخ هذا الأصل الأصيل في أخلاقيات الحروب، بحيث تُظهر عقيدتها السمحة، وتستميل نفوس الجنود الذين جاءوا لحرب المسلمين، ناهيك عن البعد الإعلامي، الذي يسحب القائد الإسلامي بساطه من تحت خصمه، الذي جاء بطرًا ورئاء الناس، فيظهر الخصم المشرك أمام الرأي العام العالمي والإقليمي بمظهر المتعجرف .. أما الجيش الإسلامي فيظهر بمظهر جيش الخير ، الذي يحترم العقيدة ، إلى الدرجة التي يرفض فيها أن يستعين في قتاله بمن يخالف عقيدته!

المطلب الثاني : مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله  قال : فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله  قالا : نحن نمشي عنك قال : " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما "
فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقر.

المطلب الثالث الشورى :
ففي وداي ذَفِرَانَ بلغ النبي نجاة القافلة وتأكد من حتمية المواجهة العسكرية مع العدو.. فاستشار الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن إما ملاقاة العدو وإما الهروب إلى المدينة .. فقال لجنوده : " أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ"، ولا زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن . ثم قام عمر فقال وأحسن . ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن.. حتى قام القيادي الإنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري .
فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه.. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي كنسي مستبد، يقيد الجنود بالسلاسل – في المعارك – حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن - في تصوراتهم – لفكر !

المطلب الرابع : النهي عن استجلاب المعلومات بالعنف :
وهذا مظهر آخر من المظاهر الحضارية في السيرة، فقد حذر رسولنا  من انتزاع المعلومات بالقوة من الناس، ففي ليلة المعركة بَعَثَ النبي  عَلِيّ بْنَ أَبِي طالب فِي مفرزة إلَى مَاءِ بَدْرٍ في مهمة استخباراتية لجمع المعلومات، فوجدوا غلامين يستقيان للمشركين، فأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا ، وَرَسُولُ اللّهِ  يُصَلّي، فقالا : نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ . فطفق الصحابة يضربوهما، حتى اضطر الغلامان لتغيير أقوالهما . فلما أتم رسول الله صلاته؛ قال لهما مستنكرًا : "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونهما إذا صدقا و تتركونهما إذا كذبا .. إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا ؟ ! ، صَدَقَا ، وَاَللّهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ" .
هكذا كانت معاملة القيادة الإسلامية لمن وقع في قبض المخابرات الإسلامية للاستجواب، فنهى القائد عن تعذيب المستجوَب، أو انتزاع المعلومات منه بالقوة، فسبق اتفاقية جينيف الثالثة لعام 1949 التي تحظر إجبار الأسير على الإدلاء بمعلومات سوى معلومات تتيح التعرف عليه مثل اسمه وتاريخ ميلاده ورتبته العسكرية، ، وجرّم رسول الله كل أعمال التعذيب أو الإيذاء أوالضغط النفسي والجسدي التي تمارس على الأسير ليفصح عن معلومات حربية .
وثمة تقدم إسلامي على هذه الاتفاقات الأخيرة، فرسول الله قد طبق هذه التعاليم التي تحترم حقوق الأسير، بيد أن دول الغرب في العصر الحديث لم تعير اهتمامًا لهذه الاتفاقات ولم تحترمها، والدليل على ذلك ما يفعله الجنود الأمريكيون في الشعب العراقي والأفغاني .. وما يفعله الصهاينة في الشعب الفلسطيني.

المطلب الخامس : احترام آراء الجنود:
فلما تحرك رسول الله إلى موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع، وهو عند أقرب ماء من العدو، فَقَالَ له رَسُولُ اللّهِ  - مشجعًا - :" لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ" .وبادر النبي بتنفيذ ما أشار به الحباب ، ولم يستبد برأيه رغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء!
إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة .

المطلب السادس : العدل بين القائد والجندي :
قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بيت القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود.. أما محمد فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده ليّقتص الجندي منه .. أما الجندي فهو ِسَوَادِ بْنِ غَزِيّةَ، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي غمزة خفيفة في بَطْنِهِ - بالسهم الذي لا نصل له - وقال : " اسْتَوِ يَا سَوّادُ !" .. قال : يا رسول الله ! أوجعتني ! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي ! فكشف رسول اللّهِ  عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ : " اسْتَقِدْ" .. فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ ! فَقَالَ النبي  : " مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ ؟ " ، قال : حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك ! فدعا له رسول الله بخير

المطلب السابع : الحوار قبل الصدام :
أراد النبي أن يستنفذ كل وسائل الصلح والسلام قبل أن يخوض المعركة، فما أُرسل إلا رحمة للعالمين، فأراد أن يبادر بمبادرة للسلام ليرجع الجيشان إلى ديارهما، فتُحقن الدماء، أو ليقيم الحجة على المشركين، فلما نَزَلَ الجيش الوثني أرض بدر أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ  عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ إلَى قُرَيْشٍ، وقد كان سفيرهم في الجاهلية، فنصحهم عمر بالرجوع إلى ديارهم حقنًا للدماء .. فتلقفها حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أحد عقلاء المشركين، فقال: قد عَرَضَ نِصْفًا، فَاقْبَلُوهُ، والله لا تُنْصَرُونَ عليه بعد ما عرض من النّصْفِ . فقال أبو جهل : والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم . فانظر حرص الرسول على حقن الدماء وحرص أبي جهل على سفك الدماء، وانظر إلى هذه القيمة الحضارية التي يسجلها نبي الرحمة في هذه المعركة : الحوار قبل الصدام .

المطلب الثامن : الوفاء مع المشركين :
فقد قال النَّبِي في أُسَارَى بدر: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" !!
وذلك لأن المطعم قد أدخل النبي  في جواره فور رجوعه من الطائف إلى مكة، وفي الوقت الذي تخلى فيه الناس عن حماية النبي خوفًا من بطش أبي جهل، قال المطعم : "يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم " .. وقد حفظ النبي  للمطعم هذا الصنيع وهذه الشهامة .
وقال النّبِيّ  في هذا اليوم أيضًا: "مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنّهُ إنّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا ." وقد كان العباس في مكة بمثابة قلم المخابرات للدولة الإسلامية، وقد كان مسلمًا يكتم إيمانه .. أما أبو الْبَخْتَرِيّ فقد كان أكف المشركين عن المسلمين، بل ساند المسلمين في محنتهم أيام اعتقالهم في الشِعب، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، ومن ثم كانت له يد على المسلمين، فأرد النبي يوم بدر أن يكرمه. فالقيادة الإسلامية تحفظ الجميل لإصحاب الشهامة وإن كانوا من فسطاط المشركين .

المطلب التاسع : حفظ العهود :
قال حذيفة بن اليمان: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله  فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد  ، لما جاوزناهم أتينا رسول الله  فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم فيما ترى؟ قال: "نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم" !! .
وهذا الموقف من رسول الله يعد من مفاخر أخلاقيات الحروب في تاريخ الإنسانية، فلم ير المؤرخون في تاريخ الحروب قاطبة موقفًا يناظر هذا الموقف المبهر، ذلك الموقف الذي نرى فيه القيادة الإسلامية تحترم العهود والعقود لأقصى درجة، حتى العهود التي أخذها المشركون على ضعفاء المسلمين أيام الاضهاد، رغم ما يعلو هذه العقود من شبه الإكراه .

المطلب العاشر : النهي عن المثلة بالأسير :
لما أُسر سهيل بن عمرو أحد صناديد مكة فيمن أُسر، قال عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِرَسُولِ اللّهِ : يَا رَسُولَ اللّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيّتَيْ سهيل بن عمرو، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا ! وقد كان خطيبًا مفوهًا، يهجو الإسلام. فقَالَ رَسُولُ اللّهِ  - في سماحة وسمو -: " لا أُمَثّلُ بِهِ، فَيُمَثّلُ اللّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيّا !!" . فلم يمثل به كما يمثل الهمجيون في قتلى وأسرى الجيش المهزوم، وسن بذلك سنة حسنة في الحروب، ويبقى له الفضل والسبق في تحريم إهانة الأسرى أو إيذائهم .

هكذا كان نبي الرحمة في ميدان القتال ، لا يستعين بمشرك على مشرك، يشارك جنوده ، ويستشيرهم، ويعدل بينهم، ويحترم آرائهم، ويحاور أعدائه، ويكون وفيًا كريمًا لأهل الفضل منهم، ويكرم االأسرى، وينهى عن إيذائهم

الفصل السادس
رحمته للعالمين في مجال المرأة والطفل
المبحث الأول : تحرير المرأة من الجاهلية
المبحث الثاني : مميزات المرأة في الإسلام
المبحث الثالث : رحمته للأطفال
المبحث الرابع : رحمته للبنات
المبحث الخامس : رحمته للإيتام
المبحث السادس : رحمته للأرامل

المبحث الأول
تحرير المرأة من الجاهلية

في هذا المبحث نرى مظهراً جلياً من مظاهر رحمة سيدنا محمد  .. إنه تحرير المرأة، من ظلام الجاهلية . .
وبالطبع يحدثنا عن هذا المظهر من مظاهر الرحمة علماء الغرب !
لا سيما في معرض تناولهم لوضع المرأة العربية في عهد النبي ..
ونلحظ في هذه الآراء التقدير العالي من هؤلاء العلماء الغربيين لإصلاحت النبي  التي رفعت من قدر المرأة، وحمايتها من الوأد والإقصاء والتهميش .
المطلب الأول : محمد  منقذ المرأة :
يقول الباحث البريطاني " جب "، متحدثًا عن محمد :
" إنه من المسَلم به عالمياً بصفة عامة أن إصلاحاته [] رفعت من قدر المرأة ومنزلتها ووضعها الإجتماعي والشرعي " .
"ورفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء " ..
ويرى العلامة ول ديورانت أن الإسلام قد رفع "من مقام المرأة في بلاد العرب ... وقضى على عادة وأد البنات، وسوّى بين الرجل والمرأة في الإجراءات القضائية والاستقلال المالي، وجعل من حقها أن تشتغل بكل عمل حلال ، وأن تحتفظ بما لها ومكاسبها، وأن ترث، وتتصرف في مالها كما تشاء، وقضى على ما اعتاده العرب في الجاهلية من انتقال النساء من الآباء إلى الأبناء فيما ينتقل لهم من متاع ، وجعل نصيب الأنثى في الميراث نصف نصيب الذكر، ومنع زواجهن بغير إرادتهن" .

ويوضح إميل درمنغم كيف حرر النبي المرأة، ويفصل في ذلك..قائلاً:
" مما لا ريب فيه أن الإسلام رفع شأن المرأة في بلاد العرب و حسَّن حالها، قال عمر بن الخطاب [ ] :(مافتئنا نعد النساء من المتاع حتى أوحى في أمرهن مبينًا لهن )، وقال النبي []:( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم ).. أجل، إن النبي [] أوصى الزوجات بإطاعة أزواجهن، ولكنه أمر بالرفق بهن ونهى عن تزويج الفتيات كرهاً وعن أكل أموالهن بالوعيد أو عند الطلاق " .
يقول نظمي لوقا " ولم يكن للنساء نصيب في المواريث أيام الجاهلية ... فأنزلت الآية التي تورث النساء. وفي القرآن تحريم لوأد البنات، وأمر بمعاملة النساء والأيتام بالعدل، ونهى محمد []عن زواج المتعة وحمل الإماء على البغاء .." .
ويقول سوسة : ".. كانت المرأة في ديار العرب قديمًا محض متاع، مجرد ذكرها أمرٌ ممتهن. هكذا كان الوضع حينما جاء محمد []، فرفع مقام المرأة في آسيا من وضع المتاع الحقير إلى مرتبة الشخص المحترم الذي له الحق في الحياة حياة محترمة، كما أن له الحق في أن يملك ويرث المال" .
المطلب الثاني : افتراءات وردود :
وهذه افتراءات يلوكها بعض الحاقدين، والرد عليها من قبل العلماء المسلمين وغير المسلمين:
الفرية الأولى : حول تعدد الزوجات :
أولاً: فيما يخص تعدد الزوجات الخاص بشخص النبي  :
يقول كويليام :
"أما تعدد الزوجات فإن موسى [عليه السلام] لم يحرمها، وداود [عليه السلام] أتاها، وقال بها ولم تحرم في العهد الجديد (أي الإنجيل) إلا من عهد غير بعيد. ولقد أوقف محمد [] الغلوّ فيها عند حدّ معلوم."
والحق أن محمد لم يكن بدعًا من الرسل في قضية التعدد، فإبراهيم عليه السلام تزوج سارة ثم هاجر، و يعقوب عليه السلام تزوج بأربع نسوة، و داود عليه السلام تزوج بأكثر مما تزوج رسول الله بل يتهمه العهد القديم – ظلمًا - بأنه زنى بامرأة أوريا وقتل زوجها بالحيلة، ثم أخذها ، وتزوج سليمان -عليه السلام- بألف امرأة، سبعمائة منهن حرائر من بنات السلاطين وثلثمائة جوار .

كما أن التعدد كان سنةً جارية عند العرب، لاسيما عند الزعماء، فهو رمز للفحولة عندهم، ولقد كان الرجل يأتي النبي  ، فيقول: عندي ست زوجات أو تسع أو عشر أو أكثر، فبم تأمرني؟. فيأمره بأن يمسك أربعاً منهن ويسرح الأخريات ! وإلا لو لم يكن التعدد شائعاً عند العرب لاتخذوا تعدد الرسول  مطعناً فيه، أو سبة له، ولم يرد ذلك على لسان أحدٍ منهم. بل نرى أن جمع النبي بين تسع نسوة يعد عددًا متواضعا في عرف العرب في ذلك الوقت !

ثانيًا:فيما يخص تعدد الزوجات العام:
يقول إميل درمنغم:
"وأباح [النبي ] تعدد الزوجات..ولم يوصي الناس به، ولم يأذن فيه إلا بشرط العدل بين الزوجات فلا يهب لإحداهن إبرة دون الأخرى" .
ويتسائل إميل درمنغم قائلاً : "وأيهما أفضل : تعدد الزوجات الشرعي أم تعدد الزوجات السري؟...إن تعدد الزوجات من شأنه إلغاء البغاء والقضاء على عزوبة النساء ذات المخاطر" .
ويقول جاك ريسلر: " وفي الحق أن تعدد الزوجات بتقييده الانزلاق مع الشهوات الجامحة، قد حقق بهذا التشريع الإسلامي تماسك الأسرة، وفيه ما يسوغ عقوبة الزوج الزاني " .
ويبن "لايتنر" : " أن هذا التعدد في الزواج مشروط بشروطه، فيقول "يَقدر الرجل أن يتزوج من أربع نساء بشرط المساواة بينهن في كل شيء حتى بالمحبة والوداد، فإن لم يكن قادرًا على كل ذلك فلا يباح له بإن يتزوج غير واحدة .ومن يتدبر شريعته [] يرى أنه قد حض على الزواج بامرأة واحدة ، ولقد رفع مقام المرأة ورقاها رقيًا عظيمًا ، فإنها بعد ما كانت تعد كمتاع مملوك صارت مالكة، وحكمها مؤيد وحقوقها محفوظة" .
ويرد " كويليام " –أيضًا - على أصحاب هذه الفرية، فيقول لهم :
" جاء في القرآن فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً (سورة النساء، الآية: 3)، فيما يتعلق بمسألة تعدد الزوجات التي تنتقدون فيها على المسلمين ظلمًا وعدوانًا. إذ لا شك في أنكم تجهلون عدل النبي [] بين أزواجه [رضوان الله عليهن] وحبه فيهن حبًّا مساويًا مما علم المسلمين الانتماء والإنصاف بينهن. على أن القرآن لم يأمر بتعدد الزوجات بل جاء بالحظر مع الوعيد لمن لا يعدل في الآية المتقدمة، ولذلك ترى اليوم جميع المسلمين منهم القليل لا يتزوجون إلا امرأة واحدة خوف الوقوع تحت طائلة ما جاء من الإنذار في القرآن المجيد. وإذا سلّمنا على العموم بأن عدم تعدد الزوجات أوفق للمعاشرة الدنيوية من تكررهن، فلا نسلم بالاعتراف بذلك على الوجه المتعارف اليوم بأوروبا من حصر الزواج في امرأة واحدة إذعانا للقانون واتخاذ عدة أزواج أخرى [غير شرعيات] من وراء الجدار..!!"
الفرية الثانية: قول أحدهم :إن الإسلام لا يسوي بين المرأة والرجل :
ويرد جاك ريسلر على هذه الفرية، فيقول :
".. لقد وضعت المرأة على قدم المساواة مع الرجال في القضايا الخاصة بالمصلحة فأصبح في استطاعتها أن ترث، وأن تورث، وأن تشتغل بمهنة مشروعة" .
ويقول العالم القانوني مارسيل بوازار:
" إن الإسلام يخاطب الرجال والنساء على السواء ويعاملهم بطريقة (شبه) متساوية وتهدف الشريعة الإسلامية بشكل عام إلى غاية متميزة هي الحماية، ويقدم التشريع للمرأة تعريفات دقيقة عما لها من حقوق ويبدي اهتمامًا شديدًا بضمانها . فالقرآن والسنة يحضان على معاملة المرأة بعدل ورفق وعطف... وسعيا[ أي القرآن والسنة] إلى رفع وضع المؤمنة بمنحها عددًا من الطموحات القانونية . أمام القانون و الملكية الخاصة الشخصية، والإرث " .
ويقول نظمي لوقا :"وفي سور القرآن أشار إلى المساواة عند الله بين الذكر والأنثى بغير تفريق في التكليف أو الجزاء ، وإشارة صريحة مساواة المرأة والرجل في ثمرات الأعمال و الجهود .. وفي بعض الأمم القديمة ، والحديثة، كانت المرأة تحرم غالباً من الميراث، فأبى الإسلام هذا الغبن الفاحش.. " .
ويقول في موضع آخر : " ليس الإسلام-على حقيقته-عقيدة رجعية تفرق بين الجنسين في القيمة . بل إن المرأة في موازينه تقف مع الرجل على قدم المساواة . لا يفضلها إلا بفضل، ولا يحبس عنها التفضيل إن حصل لها ذلك الفضل بعينه في غير مطل أو مراء وما من امرأة سوية تستغني عن كنف الرجل بحكم فطرتها الجسدية والنفسية على كل حال" .

الفرية الثالثة : قول أحدهم: إن الإسلام لا يهتم بتعليم المرأة :
تقول "ماكلوسكي ":
"لقد دعا الإسلام إلى تعليم المرأة، وتزويدها بالعلم والثقافة لأنها بمثابة مدرسة لأطفالها. قال رسول الله : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). لقد منح الإسلام المرأة حق التملك وحرية التصرف فيما تملك. وفي الوقت الذي نرى فيه أن المرأة في أوروبا كانت محرومة من جميع هذه الحقوق إلى عهد قريب جدًّا، نجد أن الإسلام منح المرأة بالإضافة إلى ما تقدم حق إبرام العقود للزواج. والمهر في نظر الإسلام هو حق شخصي للمرأة. والمرأة في الإسلام تتمتع بحرية الفكر والتعبير.." .

الفرية الرابعة : حول ضرب الزوج لزوجته:
ونرد هذه الشبه ونقول :
من المعلوم أن المذاهب والشرائع الوضعية التي كانت تسود العالم قبيل بعثة النبي ، كانت تشرِّعُ العنف ضدَّ المرأة إلى حد القتل!
وكانت المرأة في نظر الكنيسة في العصور الوسطى، جرثومة ملعونة ، وهي مصدر الذنوب والآثام !

أما الإسلام فهو يحرّم العنف ضد المرأة، غير إن الشرع أباح استخدام الضرب للتأديب في نطاقٍ ضيقٍ جداً، وذلك خاصٌّ بالمرأة الناشز التي خرجت عن قوامة زوجها، وشكلت تهديداً لنظام الأسرة، وأصرت عليه، إذ لا يبيح الإسلام اللجوء إلى الضرب إلا بعد استخدام الوعظ كمرحلة أولى، ثم يجرَّب الهجر في المضاجع أثناء النوم بشروط وضوابط فقهية، ولا يهجر إلا في البيت، فإذا لم يجد الوعظ ولا الهجر فلا حرج من اللجوء إلى ضربٍ غير مبرح، هو إلى التهديد أقرب منه إلى التنفيذ، إذا وجد المصلحة في ذلك، ومثل هذه المرأة التي لم يصلحها وعظٌ ولا هجرٌ - والهجر عند النساء أشدُّ من الضرب نفسه ؛ لرقتهن وغلبة العاطفة عليهن – غالباً ما تكون في حالة شذوذٍ نفسي، وقد ينفع فيه العقاب البدني كحلٍّ أخيرٍ، وهو - رغم ما فيه من ضررٍ على المرأة - خيرٌ من الطلاق وتمزيق الأسرة، وهي أشبه ما تكون بقاعدة الضرورة التي تباح في بعض الحالات الاستثنائية ..

إن التشريع الإسلامي في هذه القضية منطقي وموزون ومعتدل بالنظر إلى وضع المرأة المقذذ في الحضارات الأخرى التي تضهد النساء، وبالنظر أيضًا إلى النظام الإسلامي الذي يعطي الرجل حق القوامة على الأسرة، أي رئاسة مؤسسة البيت وتدبير شؤونه، ومثل هذه السلطة لا بد لها من قوة تجعلها نافذة وضابطة وإلا فإنها ستبقى حبراً على ورقٍ ليس غير..

الفرية الخامسة: حول الحجاب وحق المرأة في ستر عورتها :
تقول "روز ماري هاو ":
" الحجاب يحافظ على كرامة المرأة ويحميها من نظرات الشهوة، ويحافظ على كرامة المجتمع ويكف الفتنة بين أفراده. لذلك فهو يحمي الجنسين من الانحراف. وأنا أؤمن أن السترة ليست في الحجاب فحسب، بل يجب أن تكون العفة داخلية أيضًا، وأن تتحجب النفس عن كل ما هو سوء" .
وتثني "لورا فيشيا فاغليري" على هذا الكلام وتقول: "وليس هذا ناشئًا عن قلة احترام للنساء، أو ابتغاء كبت إرادتهن، ولكن لحمايتهن من شهوات الرجال. وهذه القاعدة العريقة في القدم، القاضية بعزل النساء عن الرجال، والحياة الأخلاقية التي نشأت عنها، قد جعلتا تجارة البغاء المنظمة مجهولة بالكلية في البلدان الشرقية، إلا حيثما كان للأجانب نفوذ أو سلطان. وإذا كان أحد لا يستطيع أن ينكر قيمة هذه المكاسب فيتعين علينا أن نستنتج أن عادة الحجاب.. كانت مصدر فائدة لا تثمن للمجتمع الإسلامي" .

المبحث الثاني
مميزات المرأة في الإسلام
يقول مارسيل بوازار:
".. أثبتت التعاليم القرآنية وتعاليم محمد [] أنها حامية حمى حقوق المرأة" ..
ونذكر في ذلك عدة نماذج :
المطلب الأول: الاستقلال الفكري للمرأة :
من أهم المميزات التي منحها الإسلام للمرأة، أن الإسلام احترم الاستقلال الفكري للمرأة، واحترم علمها وبيعتها وشهادتها ووجهة نظرها .. فيقول الله تعالى في القرآن : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ
"والآية تشير -بجانب ما فيها من أحكام- إلى ما كانت تستمتع به المرأة من استقلال فكري وكيان أدبي محترم" في عهد محمد 
و"لم تكن النساء [المسلمات] متأخرات عن الرجال في ميدان العلوم والمعارف فقد نشأ منهن عالمات في الفلسفة والتاريخ والأدب والشعر وكل ألوان الحياة" ..

المطلب الثاني: حقوق المرأة في أمور الزواج :
ولقد كانت المرأة في الجاهلية لا حق لها في اختيار زوجها، أما في شريعة الإسلام فقد جعل الإسلامُ حقاً للمرأة في حرية اختيار زوجها، فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه : وقال: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ثم أورد حديث أبي هريرة  أن النبي  قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" ..
وفي هذا يقول الباحث الفرنسي آتيين دينيه : " بفضل تشريعاته [] الحكيمة أصبحت البنت البالغ تستشار قبل زواجها ، وأصبح المهر لا يعطى للأب بل للعروس نفسها ، وقد وصف أعداء الإسلام تلك السنة الحكيمة بأنها : " شراء للمرأة " . وهم لم يسمعوا - فيما أظن - ذلك الجواب المفعم الذي يمكن أن يرد به المسلمون عليهم حينا يقولون لهم : إن المهر في بعض الأقطار العربية يدفعه والد البنت إلى رجلها ! ... وفوق ذلك ، فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أي حق في التصرف في مال امرأته."
" وأتبع [] ذلك بأن منح المرأة حق المطالبة بالطلاق إن لم يوف الرجل بواجباته الزوجية " ، وهو حق آخر للمرأة، يساعدها في دخول حياة زوجية جديدة أكثر توفيقاً ونجاحاً ..

إلى جانب الحقوق الزوجية الأخرى مثل حقها في الصداق ( المهر)، وحقها في الخلع، وحقها في النفقة، فقد أوجب الإسلام على الزوج أن ينفق على زوجته مع حسن معاملته لها، وفي هذا سأل أحد الناس النبي  فقال : يارسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ... ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " ..
المطلب الثالث: حقوق المرأة في الميراث والتملك:
وعن حق المرأة في الميراث يقول الباحث الفرنسي آتيين دينيه :
" منح الرسول [] المرأة - كذلك - حق في الميراث. وحقها به : نصف حق الذكر ، وذلك لأن المرأة لا تدفع مهراً كالرجل، وليست مكلفة بحاجات البيت " .
ويقول روم لاندو:"يوم كانت النسوة يعتبرن، في العالم الغربي، مجرد متاع من الأمتعة، ويوم كان القوم هناك في ريب جدّي من أن لهن أرواحًا! كان الشرع الإسلامي قد منحهن حق التملك. وتلقت الأرامل نصيبًا من ميراث أزواجهن" .

المطلب الرابع: حق المرأة في العمل :
وعن حق المرأة في العمل تقول روز ماري :
" إن الإسلام قد كرم المرأة وأعطاها حقوقها كإنسانة ، وكامرأة ، وعلى عكس ما يظن الناس من أن المرأة الغربية حصلت على حقوقها ... فالمرأة الغربية لا تستطيع مثلا أن تمارس إنسانيتها الكاملة وحقوقها مثل المرأة المسلمة . فقد أصبح واجبًا على المرأة في الغرب أن تعمل خارج بيتها لكسب العيش . أما المرأة المسلمة فلها حق الاختيار، ومن حقها أن يقوم الرجل بكسب القوت لها ولبقية أفراد الأسرة . فحين جعل الله سبحانه وتعالى للرجال القوامة على النساء كان المقصود هنا أن على الرجل أن يعمل ليكسب قوته وقوت عائلته . فالمرأة في الإسلام لها دور أهم وأكبر.. وهو الإنجاب وتربية الأبناء، ومع ذلك فقد أعطى الإسلام للمرأة الحق في العمل إذا رغبت هي في ذلك، وإذا اقتضت ظروفها ذلك " .

هذا إضافة إلى حق المرأة في العمل العام : فتبين ماكلوسكي " أن نشاطات المرأة المسلمة قد تمتد أحيانا خارج المنزل، فبعض النساء المسلمات كن يقمن بمسؤوليات عامة ..في الحرب والتجارة. ولكن ذلك كله كان في إطار الخلق الكريم" .
المطلب الخامس: تقدير الدور السياسي للمرأة :
وتقديراً لدور المرأة في بناء المجتمع الإسلامي، فقد بايع رسول الله  النساء في موقعة مشهودة للقاصي والداني، فكانت بيعة النساء ثانى يوم الفتح (رمضان 8هـ/ يناير 630 م) على جبل الصفا بعدما فرغ من بيعة الرجال ..
وسطّرها القرآن الكريم بآيات خالدة أمد الدهر:
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهََ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 

فلما كان اشتراك المرأة مع الرجل ، على أساس المساواة التامة ، في جميع المسؤوليات التي ينبغي أن ينهض بها المسلم .. كان على الخليفة أو الحاكم المسلم أن يأخذ عليهنّ العهد بالعمل على إقامة المجتمع المسلم بكل الوسائل المشروعة الممكنة ، كما يأخذ العهد فى ذلك على الرجال، ليس بينهما فرق ولا تفاوت .
ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تتعلم شئون دينها ودنياها ، كما يتعلم الرجل، وأن تسلك كل السبل المشروعة الممكنة إلي التسلح بسلاح العلم والوعي و التنبه إلي مكامن الكيد و أساليبه لدى أعداء الإسلام الذين يتربصون به، حتى تستطيع أن تنهض بالعهد الذي قطعته على نفسها وتنفذ عقد البيعة الذي في عنقها، وواضح أن المرأة لا تستطيع أن تنهض بشيء من هذا إذا كانت جاهلة بحقائق دينها غير منتبهة إلي أساليب الكيد الأجنبي من حولها ..
المطلب السادس: إحترام جوار المرأة :
ولقد احترم الرسول  جوار المرأة ، فكان النبي  أول من اعترف بجوار المرأة في الجزيرة العربية بعد عهود الظلام .
ومثال أم هانىء واضح وجلي .. فقد أدخلت أحد المجرمين في جوارها – أي في حمايتها - يوم فتح مكة وقَبِل رسول الله  هذا الجوار، ومن ثم عفا عن هذا المجرم !
فلقد ذهبت أم هانئ بنت أبى طالب إلى رسول الله عام الفتح، فقالت: يا رسول الله زعم ابن أمي علىّ أنه قاتل رجل أجرته : فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله : "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" !!
المطلب السابع : تأملات في هذه المميزات :
تستطيع أن تتأمل في هذه المميزات التي منحها النبي  للمرأة..
فتعلم مدى الرفعة التي نالتها المرأة في حمى الإسلام وظله، وكيف أنها نالت كل حقوقها الإنسانية والاجتماعية كما نالها الرجل سواء بسواء، مما لم يحدث نظيره في أمة من الأمم.

غير أن المهم أن تعلم الفرق بين هذه المساواة الإنسانية الرائعة التي أرستها شريعة الإسلام، والمظاهر الشكلية لها مما ينادى به عشاق العُري اليوم، إنما هي نزوات حيوانية أصيلة يتوخى من ورائها اتخاذ المرأة مادة تسلية ورفاهية للرجل على أوسع نطاق ممكن، دون أى نظر إلى شئ آخر .

إن النبي  لم يعتبر المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اختص به من صفة الرجولة، وقوة الجلد، وبسطة واتساع الحيلة، أن يلي رعايتها، فهو بذلك وليها، يحوطها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده، ذلك ما قرره الله تعالى بقوله،: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ 

إن " تحرير المرأة" الذي قام به النبي ، كان تحريراً شاملاً وكاملاً بمعنى الكلمة .. فقد كان النبي هو العامل الأساسي في إيقاف الجريمة الكبرى التي كانت تمارس في حق المرأة، ألا وهي جريمة " قتل البنات خشية العار".. إن ثقافة وأد البنات كانت هي الثقافة السائدة في تصور المجتمع نحو المرأة .. ولم يجرأ أحد المصلحين قبل النبي  التصدي لهذه العادة القبيحة .. بل كانت تزداد فحشاً وانتشاراً في أنحاء الجزيرة ..

هذا، وقد كانت المرأة تباع وتُشترى.. فلما بعثَ الله محمداً  أعاد للمرأة حقوقها المسلوبة، فمنحها حق الحرية، وأن تبيع وتَشتري لا أن تُباع وتُشترى، وأن ترث كما يرث الرجل، لا أن تَورث كما كان الرجل يرثها مع مال أبيه .. إن العالم عن بكرة أبيه لم يعترف بالذمة المالية للمرأة .. وجاء النبي وقرر هذا الحق للمرأة .. فأصبحت تستطيع أن تعقد كبرى الصفقات التجارية، وتتعاقد مع من تشاء وتوكل من تشاء ..

المبحث الثاني
رحمته للبنات
المطلب الأول : فضل محمد  على البنات :
لو كانت الخدمة الوحيدة التي أداها نبينا محمد  للبنات أنه أنقذهن من عادة الوأد الجاهلية .. لكفى بذلك فضلاً له عليهن .. !
فقد " كانت قبائل العرب في الجاهلية تئد البنات كراهة لهن وازدراء لشأنهن، ومن لم يئدهن كان يضيق بهن ضيقًا شديدًا" .
أضف إلى ذلك الفضل العظيم أنه  غير أفكار المجتمع العربي القديم تغييراً جذرياً .. في تعامله مع البنات ..
ولقد كَلف النبي المجتمع الإسلامي أن يتعهد البنات الصغيرات بالتعليم والتثقيف والرعاية،- كما يقول جاك ريسلر - حيث يتم " تعليم البنات على تلقيهن تربية دينية قويمة ، وعلى تعويدهن على الصلاة، وجعلهن في وقت مبكر صالحات للأعمال المنزلية .وبعد سنوات أيضاً يعلمن قرض الشعر والفنون .." ..
ويقول "ول ديورانت": "كانت البنات يذهبن إلى المدارس سواء بسواء، ونبغ عدد من النساء المسلمات في الأدب والفن" .

المطلب الثاني : نماذج رحمته للبنات:
أولاً: حثه على الإحسان إليهن :
عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ  قَالَتْ:
جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي؛ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ،فَدَخَلَ النَّبِيُّ ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ:" مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ" ..
فرعاية البنات في الإسلام ليس له جزاء إلا الجنة، فهن حائط الصد والحماية من النار يوم القيامة لمن أحسن إليهن .
كما في حديث آخر قال فيه النبي  :
" من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته ؛ كن له حجابًا من النار يوم القيامة " ..

ثانيًا: عطفه على البنات :
عن أبي قَتَادَةَ قَالَ:
خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ  وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا .
وتحكي أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عن ذكريات الطفولة، عندما زارت النبي برفقة أبيها- بعدما قدمت من الحبشة - .. قَالَتْ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "سَنَهْ سَنَهْ " .. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ "حَسَنَةٌ" .. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي . فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "دَعْهَا " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " أَبْلِي وَأَخْلِقِي ، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي " .
انظر كيف تركَ النبي هذه الصبية الصغيرة حتى تَلعبَ معه، وتعبث بثوبه وجسمه كما يحلو لها ، فلا ينهرها، بل تراه يمازِحُها، ويلاعبها، ويضحك إليها، ويخاطبها بلغتها لغة أهل الحبشة .. ويعلق على ثوبها، ويقول لها عِيشْي وَخَرِّقْي ثِيَابك وَارْقَعْيهَا.. كما يقول المسلم لأخيه عندما يلبس ثَوْبًا جَدِيدًا : تُبْلِي وَيُخْلِف اللَّه .. !

ثالثًا: إكرامه لعائل البنات :
كان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، في أسرى معركة بدر (17 رمضان 2هـ/13مارس624م)، وكان محتاجًا ذا بنات، ولا يملك ثمن ما يفتدي به نفسه من الأسر .. فقال للنبي  : يا رسول الله، لقد عرفتَ ما لي من مال، وإني لذو حاجة، وذو بنات فامنن عليَّ، فمن عليه رسول الله  وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدًا . فقال أبو عزة يمدح رسول الله  على هذا العفو والكرم ونبل الأخلاق:
šŠ¤1بأنك حق والمليك حميدُ
š š مَنْ مبلغ عني الرسول محمدًا
Šš
šلها درجات سهلة وصعودُ
š š وأنت امرؤ بُوِّئت فينا مباءة
Šš
šشقيٌّ ومن سالمته لسعيدُ
š š فإنك من حاربته لمحاربٌ
Šš
šتأوَّّبُ ما بي، حسرة وقعود
š š ولكن إذا ذكرت بدرًا وأهله
¤Šš

المبحث الثالث
رحمته للأطفال
المطلب الأول : شهادة علماء الغرب:
يقول السير وليم موير : "وكان[] سهلاً لين العريكة مع الأطفال، لا يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السلام !" .
ويقول لويس سيديو: "لا شي أدعى إلى راحة النفس من عناية محمد [] بالأولاد. فهو قد حرّم عادة الوأد، وشغل باله بحال اليتامى على الدوام.. وكان يجد في ملاحظة صغار الأولاد أعظم لذة. ومما حدث ذات يوم أن كان محمد [] يصلي فوثب الحسين بن علي [رضي الله عنهما] فوق ظهره فلم يبال بنظرات الحضور فانتظر صابرًا إلى حين نزوله كما أراد. " .

ولقدكافح النبي في سبيل استرداد حقوق الأطفال المسلوبة، عبر العصور الغابرة - خاصة في الميراث – بعدما كانت العصور الجاهلية تحرم الأطفال من الميراث، وتعتبر أن من لهم الحق في الميراث هم الذين يتستطيعون جلب الغنائم أو يمتطون الخيل بمهارة وفروسية !..
كما أن محمداً  حمَّل الأسرة كلها أمانة رعاية الأطفال وصيانة حقوقهم.
فكانت الأسرة الإسلامية - كما يقول جاك ريسلر-:" ترعى دائمًا الطفل، وصحته، وتربيته، رعاية كبيرة. وترضع الأم هذا الطفل زمنًا طويلاً، وأحيانًا لمدة أكثر من سنتين، وتقوم على تنشئته بحنان وتغمره بحبها وباحتياطات متصلة. وإذا حدث أن أصاب الموت بعض الأسرة، وأصبحوا يتامى، فإن أقرباءهم المقربين لا يترددون في مساعدتهم وفي تبنّيهم"
ولا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى ..
المطلب الثاني : نماذج رحمته للأطفال :
أولاً : أرحم البشر بالعيال:
يقول أنس بن مالك:
"مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ " .
قال بريدة قال : كان رسول الله  يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران [ يتعثران في المشي ] فنزل رسول الله  من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال : " صدق الله  إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ  [ سورة التغابن: الآية15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " .
وعن شداد بن أوس قال :
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ  فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ  فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا . قال شداد : فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ  وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ  الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ . قَالَ : "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ " !
وعن ثَابِت عَنْ أَنَس : أَخَذَ النَّبِيّ  إِبْرَاهِيم فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ .
ويقول أنس :
كان إبراهيم ( ابن محمد ) مسترضعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينًا فيأخذه فيقبله ثم يرجع .

ثانيًا : توبيخه للغلاظ مع الأطفال:
عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: أَبْصَرَ اْلأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ الّنبيّ  وهُوَ يُقَبّلُ الْحَسَنَ فقالَ إنّ لي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً ما قَبّلْتُ أحَداً مِنْهُمْ، فقالَ رَسُولُ الله : "إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" .
وهو نداء إلى غلاظ القلوب عامة، وإلى المسيئين للأطفال خاصة..
ثالثًا : دعاؤه  للأطفال :
عن عائشة :
أن رسول الله  كان يؤتى إليه بالصبيان "فيبرّك عليهم "– أي يدعو لهم بالبركة، "ويحنكهم" – أي يضع في أفواههم التمر اللين الذي مضغه في حنكه الشريف.
وعن ابن عباس قال : كَانَ النَّبِيُّ  يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ : إِنَّ أَبَاكُمَا [ إبراهيم عليه السلام ] كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ" .
وعن أسامة بن زيد عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ : "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا " .
وقال البراء : رَأَيْتُ النَّبِيَّ  وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، يَقُولُ :" اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ" .
رابعًا : سلامه على الأطفال وعطفه عليهم:
لقد كان محمد  يسلم على الأطفال في الطرقات، ويمسح على رؤوسهم ووجوههم، فعن جَابِرِ بن سَمُرَةَ ، قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  الأُولَى ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا ، قَالَ : وَأَمَّا أنا فَمَسَحَ خَدِّي فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا ورِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُونَةِ عَطَّارٍ  .
خامسًا : رفقه  بالأطفال إذا صلى بهم :
يقول " كولن " :
"كانت صلاة رسول الله  طويلة، ولا سيما النوافل منها؛ إذ كانت تتجاوز طاقة الصحابة، ولكنه عندما يقف للصلاة يريد إطالتها ويسمع بكاء طفل في أثنائها؛ إذ به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها؛ ذلك لأن النساء كن يقفن للصلاة خلف رسول الله  أي يشتركن في أداء صلاة الجماعة خلفه، فخوفاً من أن تكون أم ذلك الطفل موجودة بين المصليات فإنه كان يخفف صلاته، ويسرع بها لكي يريح قلب تلك الأم" .
يقول النبي  : "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فاتجوز في صلاتي كراهية ان أشق على أمه" .
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال:
مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنْ النَّبِيِّ  ، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ .
سادسًا: تعزيزه  للطفل الصادق :
فلما نزل القرآن، مصدقًا لكلام عمير بن سعيد، عندما قال قول الصدق والحق في رجل شتم النبي ، أخذ النبي  بأذن عمير فقال له النبي - وهو يُحَيِّيه على الصدق- : " وفت أذنك يا عمير.. وصدّقَكَ رَبُكَ" .
سابعًا: ملاطفته للأطفال:
عن أنس بن مالك قال:
كان رسول الله  أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، فكان إذا جاء رسول الله  فرآه قال " أبا عمير ما فعل النغير ؟" ..
والنغير طائر صغير كان أبو عمير يلعب معه !
وقد كان يصلي فإذا سجد ؛ وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أراد الناس أن يمنعوهما ؛ أشار إليهم أن دعوهما ..
قال أبو هريرة : كنا نصلي مع رسول الله  العشاء فكان يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع رأسه أخذهما [ بيده من خلفه أخذا رفيقًا ] فوضعهما وضعًا رفيقًا ، فإذا عاد عادا فلما صلى [ وضعهما على فخذيه ] جعل واحدًا هاهنا وواحدًا هاهنا .. ! قال أبو هريرة :
فجئته فقلت : يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما ؟ قال : لا ..!" .
ثامنًا: رحمته بغلام يهودي:
فعَنْ أَنَسٍ  قَالَ :
كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ  فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ  يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ : "أَسْلِمْ" فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ .فَقَالَ : لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ  فَأَسْلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ  وَهُوَ يَقُولُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ! !" .

وهكذا نرى أعلى درجات الرحمة في شخصية هذا النبي الكريم ، الذي يطلب من غلام يعالج سكرات الموت، أن ينطق بالشهادتين في لاحظاته الأخيره، لتكونا برهاناً لرسول الله يشفع به أمام الله لهذا الغلام .. يوم القيامة !
وهذا الشعور من رسول الله  يبين عمق عاطفته النبيلة الجياشة تجاه سائر البشر على اختلاف عقائدهم ودياناتهم .
إتها الرغبة الشديدة الفياضة في هداية البشر ، رغم جهلهم المطبق برسالة محمد – إلا من رحم الله -، فهو يدعوهم إلى الجنة، وهم يتفلتون منه، كما في حديثه، الذي يمثِّل فيه لرحمته بتصوير رائع بليغ، فيقول: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ: كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي" .

المبحث الرابع
رحمته للأيتام
المطلب الأول : النبي اليتيم :
يقول جيمس متشنر عن النبي:" ولد يتيماً محباً للفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى" ويقول"فيليب حتي" ومع أنه كان في دور من أدوار حياته يتيمًا فقيرًا، فقد كان في قلبه دائمًا سعة لمؤاساة المحرومين في الحياة" .
ومن أولى بحب اليتيم من محمد، وهو نبي الرحمة اليتيم، الذي رغب في كفالة الأيتام وإيوائهم، وهو الذي ذاق مرارة اليتم، إذ حُرِم محمد  من أمه وأبيه، فلم تكتحل عيناه برؤية أبيه، ثم لم يلبث أن فقد أمه وهو في سنة السادسة من عمره، فآواه ربه سبحانه ورباه، وامتنَّ عليه بهذه النعمة قائلاً:
 أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ، وأمره بشكر هذه النعمة بألا يقهر يتيماً أو يجرحه أو يهينه، وأن يجبر كسر قلبه، ويمسح على رأسه، ويكون هو الأب الأكبر الحنون لكل أيتام البشرية ! لاسيما في أوقات كان المجتمع قاسياً لا يرحم يتيمًا . فقد بُعث رسول الله  في مجتمعات - كما يقول سيدني فيشر- : "يعامل فيها الأرامل واليتامى وسائر الضعفاء كأنهم من سقط المتاع. فإذا بمحمد – عليه السلام – وهو فقير من كل ما يعتز به الملأ قد جاءهم بالهداية إلى الله وإلى سبل الخلاص، وغيّر مقاييس الأخلاق والآداب في أرجاء البلاد العربية" ..
فعاش سيدنا محمد وقد "شغل باله بحال اليتامى على الدوام.." على حد قول لويس سديو .

وبهذا لا تنكسر نفس اليتيم ولا يشعر بذلَّة أو حزن حينما يرى كل ولد بجوار أبيه يقبل بفرح إليه ، ويرتمي في أحضانه، لأنه وجد في المسلمين أكثر من واحد يصنع معه ذلك .

ولذك نجد أن القرآن الكريم تحدث في شأن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعاً، نظراً لأهمية تضافر المجتمع لرعاية اليتيم، كما سن النبي  .

المطلب الثاني : نماذج في رحمته لليتيم:
أولاً: ترغيبه في كفالة اليتيم :
فعن سِهْلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله : "أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الْجَنّةِ كَهَاَتَيْنِ، وأَشاَرَ بإِصْبعَيْهِ يَعْنِي السّبّابَةَ وَالوُسْطَي" ..
وهو يشمل يتامى المسلمين وغيرهم، كما تدل عليه صيغة العموم، لأن "أل" في اليتيم للجنس...

ثانيًا: مواساته لليتامى :
فمن أخباره  في هذا الجانب، أنه عندما قُتِل جعفر أمهل آل جعفر ثلاثاً، ثم أتاهم، يقول عَبْد اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ : فقال رسول الله : " لا تبكوا على أخي بعد اليوم ". ثم قال: "ادعوا لي بني أخي ". فجيء بنا كأنَّا أفرخ فقال: " ادعوا لي الحلاق " فأمره فحلق رؤُوسنا ثم لما رجع رَسُول اللَّهِ  إلى أهله، قال لهم:"إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً" ..
ثالثًا: ترغيب النساء في تربية الإيتام :
يقول النبى :" أنا أول من يفتح باب الجنة فأرى امرأة تبادرنى[أى تسابقنى] تريد أن تدخل معى الباب فأقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي" ..
مات زوجها فأبت الزواج مع حاجتها إليه، وابتعدت عن مواطن الشبهات والريبة، وعكفت على تربية الأبناء . هذه المرأة مكانتها- في الإسلام - أنها تسابق النبى لتدخل معه الجنة!!
رابعًا: تحذيره من الإعتداء على مال اليتيم :
قال النبي r داعيًا ربه: "اللهمَّ إنِّي أحرِّج حقَّ الضعيفينِ اليتيم والمَرأة " .
ومعنى الحديث : أي أُلحق الإثم بمن ضيَّع حقهما وأحذر من ذلك تحذيراً بليغاً .
وعد أكل مال اليتيم من الموبقات، فقال النبي r : " اجتَنبوا السَّبعَ الموبقَات " قيلَ يَا رسولَ الله ومَا هنَّ ؟ فذكرهن إلى أن قال : "وأكلُ مالِ اليَتيم " .
فإذا بلغ اليتيم أشدَّه فيجب أن يسلم له جميع ماله ولا يجوز للوصي أن يبخس أو يأخذ منه شيئاً إلا بطيبة نفس من اليتيم بعد أن يبلغ أشده ويحصل رشده، فكل تصرف في مال اليتيم لا يقع في دائرة ما هو أحسن فهو محظور ومنهيٌّ عنه، فأكل ماله طمعاً فيه واستضعافاً له محرم ومنهي عنه، وتجميد ماله وعدم استثماره محرم ومنهي عنه، وإهماله وعدم صيانته محرم ومنهي عنه .

المبحث الخامس
رحمته للأرامل
المطلب الأول: حثه على السعي على الأرامل:
الأرملة التي حُرمت من الزوج، تكون منكسرة ومجروحة الخاطر وبحاجة إلى من يعولها، ولهذا رغب النبي rبجبر كسرها، ورعايتها فكان فيقول :
"الساعي على الأرملةِ والمسكين كالمجاهدِ في سَبيلِ الله: كالقائم لا يَفتُر وكالصائم لا يُفطِر" .
ومعنى الساعي : الْكَاسِب لَهُمَا : الْعَامِل لِمَئُونَتِهِمَا ، الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين" .. . فكافل الأرملة كالمجاهد في سبيل الله سواءً بسواء ..
وقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : سُمِّيَتْ أَرْمَلَة لِمَا يَحْصُل لَهَا مِنْ الْإِرْمَال ، وَهُوَ الْفَقْر وَذَهَاب الزَّاد بِفَقْدِ الزَّوْج .
المطلب الثاني : سعيه على الأرامل :
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قال:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ rيُكْثِرُ الذِّكْرَ ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ" .
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ:
"إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ r فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ" .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ لَهَا : " يَا أُمَّ فُلَانٍ اجْلِسِي فِي أَيِّ نَوَاحِي السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَجْلِسَ إِلَيْكِ " قَالَ: فَجَلَسَتْ فَجَلَسَ النَّبِيُّ r إِلَيْهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا .

الفصل السابع
رحمتهr للضعفاء
المبحث الأول : رحمته للفقراء
المبحث الثاني : رحمته للعبيد والخدم
المبحث الثالث : رحمته لذوي الاحتياجات الخاصة
المبحث الرابع : رحمته للمسنين
المبحث الخامس : رحمته للأموات

المبحث الأول
رحمته للفقراء
وفي رعاية محمد  للفقراء والمحتاجين مظهر من مظاهر الرحمة في شخصيته ، وخصوصاً تلك الجهود المشكورة التي بذلها في مكافحة الفقر والبطالة ..
فبعدما عاشت الجزيرة العربية حياة الطبقية .. الغني يأكل الفقير، والقوي يبتذ الضعيف، ظهر سيدنا محمد  بدعوته التي حققت العدالة الاجتماعية متمثلة في دولة المدينة المنورة من ناحية، وفي منهج الإسلام في مكافحة الفقر والمرض والجهل من ناحية أخرى ..
المطلب الأول : فضل محمد على الفقراء :
كان النبي  رحمة حقيقة للفقراء ..
رحمة لهم كمشّرع، رحمة لهم كحاكم، ورحمة لهم كغني ، ورحمة لهم كنبي قبل كل شيء!
يقول المستشرق الإسباني جان ليك:
" وقد برهن [] بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ، ولكل محتاج إلى المساعدة ، كان محمد [] رحمة حقيقة لليتامى والفقراء وابن السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكد والعناء" .
وكان - كما تقول كوبولد -: "كريمًا بارًا كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحايين قليلاً لا يكاد يكفيه" .
"ومن يجهل أنه [] لم يعدل، إلى آخر عمره، عما يفرضه فقر البادية على سكانها من طراز حياة وشظف عيش؟ وهو لم ينتحل أوضاع الأمراء قط مع ما ناله من غنى وجاه عريض.. وكان [] حليمًا معتدلاً، وكان يأتي بالفقراء إلى بيته ليقاسمهم طعامه" .
وذات مرة " أوحى الله تعالى إلى النبي [] وحيًا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًا من ذوي النفوذ" .
ويلخص واشنجتون إيرفنج السلوك المالي للنبي  بقوله :
"كان الرسول [] ينفق ما يحصل من جزية أو ما يقع في يديه من غنائم في سبيل انتصار الإسلام، وفي معاونة فقراء المسلمين، وكثيرًا ما كان ينفق في سبيل ذلك آخر درهم في بيت المال.. وهو لم يخلف وراءه دينارًا أو درهمًا أو رقيقًا.. وقد خيره الله بين مفاتيح كنوز الأرض في الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة !" .
وفي يوم ازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال : "أيها الناس، ردوا علي ردائي ! فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً " .
ورد على هوازن سباياهم وكانت ستة آلاف، وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله!
وحُملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير !! فقام إليها يقسمها، فمارد سائلاً حتى فرغ منها !.
وأعطى صفوان بن أمية غنماً ملأت وادياً بين جبلين فقال صفوان: أرى محمداً  يعطى عطاء من لا يخشى الفقر !
وفي ذلك؛ نرى في شخص رسول الله  نموذج الحاكم المسلم العفيف، الذي يتعفف عن المغانم والأموال في سبيل سد أبواب الفقر في المجتمع الإسلامي، كما أنه  بهذا المسلك يكون قدوة وأسوة للأغنياء، فيكون محفزاً لهم على البذل والإنفاق فوق الزكاة المفروضة..
المطلب الثاني : نظام الزكاة – نموذجًا:
وفي نظام الزكاة رحمة عملية للفقراء ..
فالحكومة الإسلامية تحّصل زكاة المال من الأغنياء لتردها إلى فقراء الشعب..
فلما بَعث النبيُ  معاذَ بن جبل إلى اليمن ، أوصاه الرسول  قائلاً : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" ..
وتعرف الزكاة بأنها الجزء المخصص للفقير والمحتاج من أموال الغنى . وتحسب الزكاة كنسبة 2.5% من المدخرات السنوية إذا تعدت قيمة معينة تعرف بالنصاب .
والزكاة مشتقة في اللغة العربية من زكا والتى تعنى النماء والطهارة والبركة. فإخراج الزكاة طهرة لأموال المسلم وقربة إلى الله تعالى يزداد بها ومجتمعه بركة وصلاحًا .
إذ ينظر الإسلام إلى مال المسلم الغني كأمانة استأمنه الله عليها ينبغي عليه أن يؤدى حقها ويستعملها فيما يرضى الله تعالى .

والزكاة في الإسلام هى أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين .
وخول "الفقراء حق أخذها إذا امتنع الأغنياء من دفعها طوعاً"، كما بين "ليورودتن" .

وتؤدى الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أحسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها .
وفي الزكاة يقول "ول ديورانت" :
".. لسنا نجد في التاريخ كله مصلحًا فرض على الأغنياء من (الضرائب) ما فرضه عليهم محمد [] لإعانة الفقراء.." .
ويفصِّل "جاك ريسلر" القول في فضائل الزكاة فيقول :
"كانت الزكاة قبل كل شيء عملاً تعاونيًا حرًا وإداريًا ينظر إليه على أنه فضيلة كبرى. "وفي تنظيم جماعة (المدينة) اعتد النبي [] هذا العمل الخير كضريبة شرعية إجبارية لصالح الفقراء والمعوزين. وسيتحول فيما بعد هذا النظام وسيتولد عنه هيئة من موظفين وبيت مال.. لكن إذا كانت الدولة قد صنعت هذا العمل الخيّر مصدرًا لمواردها، فإن مبدأ الزكاة ظل – بفضل القرآن – فضيلة مارسها المسلمون تلقائيًا بوصفه واجبًا دينيًا. وينبغي أن نزجي الثناء لمحمد [] فقد كان أول من شرع ضريبة تجبى من الأغنياء للفقراء، هكذا أوجد القرآن الرحمة الإجبارية !" .
وما أجمل ما قاله بنكمرت في وصفه لنظام الزكاة، حين قال : "لم أجد دينًا وضع للزكاة تشريعًا شاملاً كالإسلام. والمجتمع الإسلامي الذي يحرص على إخراج الزكاة يخلو من الفقر والحرمان والتشرد.. إنني أتصور لو أن العالم كله اهتدى إلى الإسلام لما بقي على ظهر الأرض جائع أو محروم ! ! والمجتمع المسلم الذي يلتزم بأحكام الإسلام وآدابه مجتمع نظيف سعيد تنعدم فيه الجرائم بكافة ألوانها."
من ناحية أخرى ، فقد حذر سيدنا محمد من مغبة منع الزكاة وتوعد مانع الزكاة بالعذاب الشنيع يوم القيامة، فقال 
"من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع [ نوع من الثعابين ] له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ( يعني شدقيه ) ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ".. ثم تلا النبي [] ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة  [آل عمران : الآية 180] " .
وقال مرغبلاً في فريضة الزكاة :"من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره" .
وقال  "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان : من عبد الله وحده، وعلم أن لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره" .
وقال: "من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ، ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله غرمة من غرمات ربنا . لايحل لآل محمد منها شيء" .
المطلب الثالث: دوره  في مكافحة البطالة :
أولاً : ترسيخ قيم العمل والانتاج :
لقد رسخ سيدنا محمد  في المجتمع بتعاليمه الغزيرة قيمًا اجتماعية وتنموية جليلة كالانتاجية والعمل.
فكرس في نفوس المسلمين بغض العطلة، وحب التكسب من عرق الجبين..
فكان رسول الله  يمقت أن يرى الرجل لا شغل له، وقد فضل  ثواب العامل من أجل لقمة العيش على العابد العاكف في المسجد، بل عد الساعي على إطعام بطنه وبطون أهله من الحلال كالخارج في سبيل الله . ونراه في أكثر من موضع يحبذ لكل مسلم فقير أن يحفظ ماء وجهه من سؤال الناس والأفضل له أن يخرج يتكسب من أي وسيلة مشروعة، ولو في جمع الحطب ..
فقال  - مشجعاً على العمل منفرًا من البطالة ـ :"لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره؛ فيبيعها فيكف بها وجهه؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه" .
قال العلامة القرضاوي :
"فبين الحديث أن مهنة الاحتطاب على ما فيها من مشقة، وما يحوطها من نظرات الازدراء، وما يرجى منها من ربح ضئيل، خير من البطالة وتكفف الناس" .
ثانيًا : قضاء حوائج العاطلين :
تجده  يفكر ويخطط لشاب فقير بحيث يوفر له فرصة عمل يتكسب منها ..
فعن أنس بن مالك: أن رجلاً من الأنصار أتى النبي يسأله (الصدقة)، فقال " أما في بيتك شىء ؟ " قال: بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه من الماء . قال " ائتني بهما " قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله  بيده وقال " من يشتري هذين " ؟ قال: رجل أنا آخذهما بدرهم. قال :" من يزيد على درهم ؟ " مرتين أو ثلاثا . قال رجل :" أنا آخذهما بدرهمين ". فأعطاهما إياه ، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري. وقال " اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فأتني به " فأتاه به. فشد فيه رسول الله عودًا بيده ثم قال له: "اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا " . فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا . فقال رسول الله : " هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة . إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع [ الفقر الشديد ] أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع " .
فانظر كيف خطط النبي لهذا الشاب ، بحيث يوفر له النبي فرصة عمل يتكسب منها.
ثالثًا: تحريمه البطالة :
هذا، ولقد حارب سيدنا محمد  كل مظاهر البطالة، والإخفاق عن التكسب، بشتى الطرق، ليسد كل باب أمام انتشار الفقر في المجتمع ..
فقلد حرم النبي  البطالة مع القدرة على العمل، والحاجة إلى الكسب لقوته وقوت من يعوله، وفي هذا يقول النبي  : "إن الله يكره الرجل البطال"، " والبطالة تقسي القلب" .
رابعًا: ترغيبه في الزراعة :
ونراه يرغب في الزراعة في أحاديث مباركة ، مثل قوله :
"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَزْرَعُ زَرْعًا أَوْ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" .
خامسًا: ترغيبه في الصناعة :
ويرغب في الصناعة، فيقول:
" مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ- عَلَيْهِ السَّلَام -كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" .
سادسًا: ترغيبه في التجارة :
ويرغب في التجارة، قائلاً:
" التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" .
وقد صنف الإمام البخاري باباً، تحت عنوان : بَاب الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ " .

المبحث الثاني
رحمته للعبيد والخدم
تتمثل رحمته للعبيد في عدة جوانب، أهمها أنه ساهم بشكل كبير تحرير العبيد، فضيق مصادر الاسترقاق ووسع منافذ التحرير، كما جعل للعبيد حقوقًا وواجبات وأمر بالرفق بهم وبالخدم، فهم على أقل الأحوال إخوننا في الإنسانية .

المطلب الأول : تحرير العبيد
لقد كانت دعوة النبي  دعوة لحرية الإنسان ، والقضاء على العبودية ، فقرر الحرية الإنسانية وجعلها من دلائل تكريم الخالق للإنسان، ولذا رأيناه يول عناية خاصة لتحرير الأرقاء ، عن طريق إلغاء مصادر الرق أولاً ، و تشجيع المسلمين على تحرير عبيدهم، انطلاقاً من قاعدة أن من أعتق عبداً أعتق الله له بكل عضو عضواً من أعضائه من عذاب النار .
ومن ثم نظم الإسلام أحكام الرق، بحيث تضيق في أسباب حدوث الرق، وتوسع في أساليب العتق، ولذلك - كما يقول إميل درمنغم : - "عُدّ فك الرقاب من الحسنات ومكفرًا لبعض السيئات" .
ويذكر آدم متز أهم أساليب العتق في الإسلام – مبيناً أن العتق يعد مبدأ من مبادىء الإسلام - ، فيقول : "كان في الإسلام مبدأ في مصلحة الرقيق، وذلك أن الواحد منهم كان يستطيع أن يشتري حريته بدفع قدر من المال، وقد كان للعبد أو الجارية الحق في أن يشتغل مستقلاً بالعمل الذي يريده.. وكذلك كان من البر والعادات المحمودة أن يوصي الإنسان قبل مماته بعتق بعض العبيد الذين يملكهم" .
وكان الرسول في مجتمعه الإسلامي إماماً في إقرار مبدأ تحرير العبيد ، حتى أن أسرى الحرب لم يعتبرهم عبيدًا ، وسمح لهم بدفع الفدية أو تعليم أبناء المسلمين لفك أسرهم .
فلم يبق [] أيما عبد على عبوديته . فما إن يؤول إليه عبد رقيق، حتى يسارع إلى إعتاقه .
بل رفع  من شأن العبيد حتى جعل النبي -كما يقول نظمي لوقا - "العبدان والأحابيش سواسية وملوك قريش !" .
ومن هنا وقفت قيادات قريش الأرستقراطية في وجه الدعوة التي ترنو إلى تحرير العبيد وتنادي بالمساواة التامة بينهم وبين السادة، ولقد كانت قيادات مكة تساوم قائد الدعوة على طرد هؤلاء العبيد مقابل إقرار قيادات مكة بالإسلام، ومن ثَم نزل القرآن الكريم محذرًا رسول الله أن يترك العبيد أو أن يطردهم، وهم الذي بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدعوة، ويدعون ربهم الواحد الأحد صباحًا ومساءً، يريدون ببذلهم وجه الله تعالى، لا يبتغون منصبًا أو جاهًا كما يبتغي غالبية السادة.. فقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]، إن هؤلاء العبيد -في الشرع الإسلامي السمح- هم أعظم قيمة وأكثر بركة وأرق أفئدة وأطهر نفسًا، من هؤلاء السادة الذين يستعبدون الناس، ويتجبرون في الأرض بغير الحق.. هؤلاء العبيد نزل من أجلهم الأمر من السماء إلى رائد الدعوة بأن يضعهم في عينيه! بل نزل التحذير من الله لرسوله من أن يلتفت عن العبيد إلى زينة الكبراء، أو أن يتلهى عن العبد ويطيع السيد المارق.
أما العبيد فقد وجدوا الكرامة والحرية، في تعاليم الإسلام الإصلاحية، وفك رقابهم من طوق الفقر والذل، وخلصهم من عبادة الحجارة وسياط السادة. بل جعل منهم سادات المسلمين، حتى أُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعليقًا على حادثة شراء أبو بكر لبلال بن رباح رضي الله عنهما ليعتقه من الرق فقال: "سيدنا وأعتق سيدنا!".
المطلب الثاني : فرية سن الإسترقاق:
ورغم جهود محمد  في تحرير العبيد إلا أن بعض الحاقدين زعموا أن محمداً  سن الاسترقاق!
ونحن نترك العلامة" لايتنر" يرد على هذه الفرية، فيقول:
".. إنا نرى الأغبياء من النصارى يؤاخذون دين الإسلام كأنه هو الذي قد سنّ الاسترقاق، مع أن محمدًا [] قد حضّ على عتق الرقاب، وهذه أسمى واسطة لإبطاله حقيقة" ..
كذلك يتحدث الكاتب الفرنسي "فانسان مونتييه" ، مستنكراً هذه الشبيهة على أصحابها، فيقول:
" إنهم يتهمون الإسلام بظاهرة الرَقّ التي وُجِدَتْ قبل الإسلام وليس بعده، بل حين انتشر الإسلام وطُبقت تعاليمه كان يسعى لإلغاء الرّق، بل إن كثيراً من الكفَّارات للذنوب التي يقدم عليها المرء هو تحرير الرقاب الذي عَدَّه الإسلام تقرباً وطاعة لله" ..
ويتحدث كويليام عن هذه الرويات التي اختلقها الحاقدون، وزعموا أن محمداً، سن الإسترقاق والخناسة .. فيقول :
"إن روايات كهذه مجردة بالمرة عن الحقيقة، لا يمكن تصديقها وتصور وقوعها" .. ويدلل على حقيقة أن محمداً  له الفضل في القضاء على النخاسة في الجزيرة العربية، فيضرب مثالاً بمناطق شرق ووسط أفريقيا، التي تفشت فيها مظاهر النخاسة والاسترقاق، ويبين أن السبب في تفشي هذه المظاهر في هذه المناطق هو "لأن الإسلام لم يدخل فيها ! ! وبرهان ذلك أن الإسلام من خصائصه إبطال النخاسة إبطالاً دائمًاً" ..
رغم أن تجار النخاسة والرق – كما يقول ادوار بروي – كانوا "من الأوربيين" .. ومن ثم.. "توقفت حركة التطور في البلدان [الأفريقية] على أثر العبث الذريع الذي أحدثه في تلك الأرجاء تجار النخاسة والرق من الأوربيين " .
وإذا قيل: إن الإسلام لم يلغِ الرق والاتجار بالبشر إلغاءً كاملاً رغم عظم مجهودات نبي الإنسانية  في مكافحة الاسترقاق.. فجواب ذلك أن الدولة الإسلامية وحدها لا تستطيع أن تقضي تمامًا على عادة الاسترقاق والاتجار بالبشر، وذلك لعدة أساب وجيهة ومنطقية..
السبب الأول: أن مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر كانت متأصلة ومنتشرة في المجتمعات الإنسانية، العربية وغير العربية، منذ قديم الزمن، فكان على الشرع الإسلامي -كعادته- أن يستخدم التدرج في القضاء على المنكرات والأعراف الفاسدة، فضيّق منافذ الاسترقاق ووسع أبواب العتق.
السبب الثاني: أن هذه العادات كانت قبل ظهور الإسلام بمثابة الأعراف الدولية، فقد كانت جميع الدول والإمبراطوريات -دون استثناء- تمارس الاسترقاق والاتجار بالبشر، ومن ثَم فإن القضاء على الرق يحتاج إلى اتفاق دولي عام، يلزم الجميع بمنع الاسترقاق أو الاتجار بالبشر.. ومعلوم أن الدولة الإسلامية أيام النبي  لم تكن من القوة والانتشار بالقدر الذي يسمح لها بمنع هذه العادات.
السبب الثالث: أن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام، وإذا أصدرت الدولة قرارًا بمنع الرق؛ فسوف يقع حرج شديد على هؤلاء الناس الذين أصبحت تجاراتهم وأعمالهم تقوم على كاهل هؤلاء العبيد.. فكان على النظام الإسلامي أن يأخذ بمبدأ التدرج في منع الاسترقاق والاتجار بالبشر.
السبب الرابع: أن الدولة الإسلامية لم تكن تمتلك من الإمكانيات الاقتصادية والمالية بحيث تتمكن من كفالة هؤلاء العبيد بعد تحريرهم، أو حتى توفير فرص عمل لهم جميعًا، فمن المعروف أن العبيد كانوا في كفالة أسيادهم، يطعمون من مال السادة، ويحترفون لهم في مهنهم..
المطلب الثالث : نماذج رحمته للعبيد :
إن المتأمل في التوجيهات النبوية يجدها تشي بالجهد الجهيد الذي بذله نبي الإنسانية في سبيل تحسين أوضاع العبيد والإماء ويعرف بحق كيف كانت مكرمة العبيد في الإسلام. وهذه بعض التوجيهات النبوية التي نذكر بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر.
أولاً : وصيته  بالعبيد والإماء :
كان آخر كلمات النبي  وهو يجود بروحه الشريفة، وقد حضره الموت، الوصية بالعبيد والإماء.. فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله : "الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم" !
إنه يوصي بالعبيد، وهو في سكرات الموت! فهو الذي احتضنهم حيًّا، وأوصى بهم بعد مماته خيرًا، فكان خير معلم لهم وخير أب وخير محرر .
ثانيًا: تحذيره  من إيذاء العبيد والإماء:
فكان يغضب أشد الغضب من ضرب العبيد أو إيذائهم، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: كنت أضرب غلامًا لي؛ فسمعتُ مِنْ خَلْفِي صوتًا: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ.. لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"! فالتفتُ فإذا هو النبي! فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى. قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَعَتْكَ النَّارُ أَوْلَمَسَّتْكَ النَّارُ" .
كذا كان رسول الله يربي تلاميذه، ويفقه شعبه، على احترام آدمية الناس، وخاصة الضعفاء منهم والعبيد والخدم والأجراء.
ويمتد هذا النداء الأبوي إلى حكام المسلمين في كل زمان ومكان؛ فيلزمهم بحماية العبيد من التعذيب أو الاضطهاد، فضلاً عن السعي الجاد لتحريرهم.
ثالثًا: أمره  بالإحسان إلى العبيد
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألطف الناس بالعبيد، وأرفق الناس بالإماء، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله من أشد الناس لطفًا! والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه!! وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه .
وعن المعرور قال : لقيت أبا ذر بالربدة، وعليه حلة وعلى غلامه حله [يعني من نفس الثوب ]فسألته عن ذلك . فقال : إني ساببت رجلاً، فعيرته بأمه[قال لبلال : يابن السوداء ]فقال لي النبي : "يا أبا ذر ! أعيرته بأمه ! ؟ إنك امروء فيك جاهلية ! إخوانكم خولكم [العبيد والإماء والخدم والأسرى هم إخوانكم في الدين والإنسانية]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده: فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " .

فحرم السخرية من العبيد أو الاستهزاء بألوانهم أو أنسابهم، كما حرم إجهاد العبد في الخدمة، وأوجب مساعدته إذا كُلّف ما يغلبه.. وحذر الفقهاء من استعمال العبيد على الدوام ليل نهار، فقالوا: إذا استعمل السيدُ العبدَ نهارًا أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، وقالوا: يريحه بالصّيف في وقت القيلولة، ويمنحه قسطه من النّوم، وفرصة للصّلاة المفروضة. وإذا سافر به يجب عليه أن يحمله معه على الدابة أو يتعاقبان على البعير ونحوه.
بل قالوا: "إن كان العبد ذمّيًّا فقد ذكر بعض الفقهاء أنه لا يمنع من إتيان الكنيسة، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك دينه، نقله البنانيّ عن قول مالكٍ في المدوّنة"
وتأمل معي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن عيّر العبد: "إنك امرؤ فيك جاهلية".. دلالة على أن صفة من يهينون العبيد ويؤذونهم بالقول أو الفعل، فوصفهم بالجهل، وربطهم بعصور الجاهلية، وعهود التخلف.
رابعًا: التعاون في تحرير العبيد :
شغل الرقُ سلمانَ الفارسي حينًا من الزمن .. فقد كان مولى عند أحد الوجهاء، حتي فات سلمان عدد من المشاهد مع الرسول الكريم ، منها بدر وأحد.
فذهب إلى النبي 
فأشار عليه النبي  أن يكاتب سيده، فكاتبه علي ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من ذهب.
وشارك المسلمون في أداء هذا الدين عن سلمان، فأحضروا له النخل وحفروا معه أماكنها وقدم رسول الله  ووضعه بيده الشريفة وعُتق سلمان.
وكانت أول مشاهده غزوة الأحزاب، وكان هو صاحب فكرة إنشاء خندق عظيم حول المدينة لتحصينها من الغزاة .. ولما نجحت الفكرة، زاد تقدير الناس لسلمان نظرًا لرجاحة عقله، وجهده في خدمة دولة الإسلام بفكرة الخندق، فقال الأنصار : سلمان منا ! وقال المهاجرون: سلمان منا !
فقال النبي  : "سلمان منا أهل البيت !!" .
وهكذا ارتفع شأن العبيد في دولة الإسلام بجهدهم وخدمتهم للمجتمع، ولم تكن عبوديتهم أيما يوم من الأيام تشينهم بين إخوانهم المسلمين.وفي ذلك أيضًا النموذج العملي الذي حشد فيه النبي  جهود شعبه من أجل تحرير عبد. وهو بذلك يلزم المجتمع بضرورة تضافر الجهود الشعبية لفك الإنسان من الرق .

خامسًا: سن قاعدة : "كفارة ضرب العبد عتقه":
شرع الإسلام منفذًا لتحرير العبيد عن طريق سن قاعدة "كفارة ضرب العبد عتقه" والذي لم يكن موجودًا أيام الجاهلية، فمنح حق الحرية للعبد إذا ضربه سيده.
فعن أبي صالح ذَكْوَانَ عن زَاذَانَ قال: أتيتُ ابن عمر، وقد أعتق مملوكًا له، فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: مالي فيه من الأجر مَا يَسْوَى هذا.. سمعتُ رسول الله  يقول: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أو ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ" .
سادسًا: كفالة الدولة الإسلامية للعبد المعاق أو المريض:
فلقد كان لِزِنْبَاعٍ أبو روح رضي الله عنه -أحد الصحابة- عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرَ بْنَ سَنْدَرٍ، فوجده يقبل جارية له، فقطع ذَكَرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فأَتَى الْعَبْدُ النبي  فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزنباع: "مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت؟" قَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فذكر له ما فعل بالجارية!.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعبد: "اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ" فقال العبد: يا رسول الله فمولى من أنا؟ فقال: "مولى الله ورسوله".. فأوصى به المسلمين؛ فلما قُبض جاء العبد إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: وصية رسول الله  ، فقال: نعم، تجري عليك النفقة وعلى عيالك، فأجراها عليه حتى قبض.. فلما استخلف عمر رضي الله عنه جاءه فقال: وصية رسول الله  قال: نعم، أين تريد؟ قال: مصر، قال: فكتب عمر إلى صاحب مصر أن يعطيه أرضًا يأكل منها" .
فالدولة -في الشرع الإسلامي- تكفل أصحاب الإعاقات من العبيد، -كما رأيت- كالمواطنين الأحرار، وقرر لهم الراتب المالي الدوري الذي يغنيهم عن التسول أو سؤال الناس.
المطلب الرابع: تحريم الاتجار بالبشر
ومن دلائل مكافحة الاسترقاق في الشرع الإسلامي، تحريمه لكافة صور ومظاهر الاتجار بالبشر، وخاصة النساء والأطفال الأحرار.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: "قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"
فجعل الاتجار بالبشر من أبواب الخيانة والغدر والظلم، والله عز وجل خصم لجميع الغادرين إلا أنه أراد التشديد على هذه الأصناف الثلاثة، فقد ارتكبوا جرمًا شنيعًا يتعلق بحقوق الإنسان، فأحدهم غدر بأخيه الإنسان، فعاهده عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه، والثاني باع أخاه الإنسان الحر، والثالث أكل مال أخيه الإنسان الأجير، وهو داخل في إثم المتاجرة بالبشر كالثاني؛ لأنه استخدمه بغير حق، وخالف الأمر النبوي: "أَعْطِ الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"
وجريمة الاتجار بالبشر -التي حرمها الشرع الإسلامي الفضيل- تتسربل بصور عديدة مارستها المجتمعات الجاهلية في القديم والحديث.. فمارستها قبائل العرب ودول الفرس والرومان قبل بعثة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقطعون الطرق على الأحرار، فيسرقون أموالهم ويبيعونهم في أسواق النخاسة على أنهم عبيد.. وفي العصر الحديث مارس الأمريكان هذا السلوك الجاهلي مع الزنوج، فخصصوا الهيئات التي تبيع وتشتري فيهم، وهم أحرار، ومارسوا أبشع صور التمييز العنصري في حقهم. إضافة إلى ظهور جماعات المتاجرة بالأطفال والنساء؛ لغرض الاستغلال الجنسي التجاري، ناهيك عن استغلال هذه الجماعات للكوارث الطبيعية والحروب لممارسة نشاطها، وخير شاهد ما حدث في كارثة تسونامي وما أعلنته الصحف عن أرقام مفزعة للنساء والأطفال الذين تم الاتجار بهم في ظل هذه الكارثية الإنسانية، الأمر نفسه حدث مع ضحايا الشعب المسلم في البوسنة والهرسك بعد ما أعمل فيه الجيش الصربي الذبح، فتم بيع آلاف الفتيات والأطفال على مرأى ومسمع من العالم (المتحضر).. وتحولت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى مراكز كبرى للاتجار بالبشر من جانب العصابات المنظمة التي تحصد سنويًّا ما بين 8 و10 مليارات دولار من الاتجار بالأطفال والنساء، وذلك وفقًا لإحصائيات وزارة العدل الأمريكية... بيد أن الشرع الإسلامي الكريم حرّم بيع الأحرار، وناهض تجارة البشر بالبشر، وحرم إكراه الفتيات على ممارسة البغاء فقال الشارع الحكيم: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].
إلى جانب أن جريمة الاتجار بالبشر تنتهك حق الإنسان في الحرية، وتنتهك حقوق الأطفال والنساء في العيش في بيئة آمنة صالحة، فهي تنزعهم من أسرهم ومن بين آبائهم وأمهاتهم إلى جحيم الاستغلال الجنسي والسخرة والتعذيب النفسي والجسدي.. وكلها مظاهر حرمها الإسلام وحاربها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر؛ ليسجل أمام الله تعالى ثم التاريخ أن النظام الإسلامي هو أول نظام في تاريخ البشرية ناهض الاسترقاق وحارب المتاجرة بالبشر
المطلب الخامس – رفقه وعطفه على الخدم
أولاً: سلوكه  مع خادمه :
خادمه أنس  يحدثنا عن رحمته وشفقته  بالخدم..
وإن شهادة الخادم عن سيده لصادقة، وخاصة من رجل كأنس الذي خدمه تسع سنين، ونقل عنه إلى الأُمة آلاف الأحاديث، وكان معه كظله..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ أَحْسَنَ النّاسِ خُلُقاً. فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ.
فَقُلْتُ: وَاللّهِ لاَ أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيّ اللّهِ ، فَخَرَجْتُ حَتّىَ أَمُرّ عَلَىَ صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ  قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ:" يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قُلْتُ: نَعَمْ ! أَنَا أَذْهَب يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلاّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا ..
وإذا لام أحدٌ الخادم لتقصيره في خدمة سيدنا محمد ، قال  : "دعوه ! فلو قُدر أن يكون كان!" .
ثانيًا: حثه على العفو عن الخادم :
كان سيدنا محمد  يوصي أصحابه بالعفو عن الخدم ..فعن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت. فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرَّةً " .
ثالثًا: توبيخه مَنْ ضرب الخادم:
كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله باكية، فاستدعى الرسول مالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها .
وعن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما ولا امرأة قط
رابعًا: ترغيبه في إطعام الخادم :
فعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ" .
خامسًا: نهيه عن الدعاء على الخادم :
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ" .

المبحث الثالث
رحمته بذوي الاحتياجات الخاصة

أخيرًا ًًالتفت العالم المتحضر في هذا القرن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة !! بعدما نحى جانبًا نظريات عنصرية، فاسدة، تدعو إلى إهمالهم ، بزعم أن هؤلاء – أمثال الصم والبكم والعمي والمعاقين ذهنيًا– لا فائدة منهم ترتجى للمجتمع .. ولقد قدرت منظمة العمل الدولية في تقرير لها عام (2000م ) عدد ذوي الاحتياجات الخاصة بأكثر من (610) مليون نسمة ، منهم (400) مليون نسمة في الدول النامية، وفي تقرير للبنك الدولي، تمثل هذه الفئة 15 % تقريبًا من نسبة السكان في كل دولة من دول العالم .

المطلب الأول : الفئات الخاصة في المجتمعات الجاهلية:
وإذا نظرنا – سريعًا- إلى تاريخ الغرب مع ذوي الاحتياجات الخاصة، نجد مجتمعات أوربا القديمة، كروما وإسبرطا شهدت إهمالاً وإضهادًا صارخًا لهذه الفئة من البشر، فلقد كانت هذه المجتمعات – حكامًا وشعوبًا – تقضي بإهمال أصحاب الإعاقات، وإعدام الأطفال المعاقين عقب ولادتهم، أو تركهم في الصحراء طعاماً للسباع والطيور..
وكانت المعتقدات الخاطئة والخرافات هي السبب الرئيسي في هذه الانتكاسة، فكانوا يعتقدون أن المعاقين عقليًّا هم أفراد تقمصتهم الشياطين والأرواح الشــريرة. وتبنّى الفلاسفة والعلماء الغربيون هذه الخرافات، فكانت قوانين (ليكورجوس) الإسبرطي و(سولون) الأثيني تسمح بالتخلص ممن بهم إعاقة تمنعه عن العمل والحرب، وجاء الفيلسوف الشهير (أفلاطون) وأعلن أن ذوي الاحتياجات الخاصة فئة خبيثة وتشكل عبئًا على المجتمع، وتضر بفكرة الجمهورية.. أما (هيربرت سبنسر) فقد طالب المجتمع بمنع شتى صور المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، بزعم أن هذه الفئة تثقل كاهل المجتمع بكثير من الأعباء دون فائدة.
بيد أن العرب -وإن كانوا يقتلون البنات خشية العار- كانوا أخف وطأة وأكثر شفقة على أهل البلوى والزمنى، وإن كانوا يتعففون عن مؤاكلة ذوي الاحتياجات الخاصة أو الجلوس معهم على مائدة طعام.
وفي الوقت الذي تخبط فيه العالم بين نظريات نادت بإعدام المتخلفين عقليًّا وأخرى نادت باستعمالهم في أعمال السخرة اهتدى الشرق والغرب أخيرًا إلى "فكرة" الرعاية المتكاملة لذوي الاحتياجات الخاصة.. في ظل هذا كله نرى رسولنا المربي المعلم صلى الله عليه وسلم كيف كانت رحمته لهذه الفئة من بني البشر، وهذا غيض من فيض رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة.

المطلب الثاني : رعاية النبي  لذوي الاحتياجات الخاصة:
فعن أنس أن امرأة كان في عقلها شيىء ، فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ! فَقَالَ: فَقَالَ: " يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ " فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ، حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا .
وهذا من حلمه وتواضعه  وصبره على قضاء حوائج ذوي الاحتياجات الخاصة ..
وفي هذا أيضاً : " بيان بروزه  للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله وحركاته فيقتدي بها وهكذا ينبغي لولاة الأمور وفيها صبره  على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين واجابته من سأله حاجة" .

وفي هذا دلالة شرعية على وجوب تكفل الحاكم برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، صحيًا واجتماعيًا، واقتصاديًا، ونفسيًا، والعمل على قضاء حوائجهم، وسد احتياجاتهم .
ومن صور هذه الرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة :
-توفير الحياة الكريمة لهم
- العلاج والكشف الدوري لهم
- تأهيلهم وتعليمهم بالقدر الذي تسمح به قدراتهم ومستوياتهم
- توظيف مَن يقوم على رعايتهم وخدمتهم .
ولقد استجاب الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز – رضي الله عنه – ، لهذا المنهج النبوي السمح، فأصدر قرارًا إلى الولايات:
"أن ارفعوا إلىَّ كُلَّ أعمى في الديوان أو مُقعَد أو مَن به فالج أو مَن به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه " وأمر لكل كفيف بموظف يقوده ويرعاه ، وأمر لكل اثنين من الزمنى – من ذوي الاحتياجات – بخادمٍ يخدمه ويرعاه .
وعلى نفس الدرب سار الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك – رحمه الله تعالى -، فهو صاحب فكرة إنشاء معاهد أو مراكز رعاية – لذوي الاحتياجات الخاصة ، فأنشأ [عام 707م- 88 هـ]مؤسسة متخصصة في رعايتهم، وظّف فيها الأطباء والخدام وأجرى لهم الرواتب، ومنح راتبًا دوريًا لذوي الاحتياجات الخاصة ، وقال لهم : " لا تسألوا الناس " ، وبذلك أغناهم عن سؤال الناس ، وعين موظفًا لخدمة كل مقعد أو كسيح أو ضرير .

المطلب الثالث: الأولوية لهم في الرعاية وقضاء احتياجاتهم:

وإذا كان الإسلام قد قرر الرعاية الكاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، والعمل على قضاء حوائجهم، فقد قرر أيضًا أولوية هذه الفئة في التمتع بكافة هذه الحقوق، فقضاء حوائجهم مقدم على قضاء حوائج الأصحاء، ورعايتهم مقدمة على رعاية الإكفاء ، ففي حادثة مشهورة أن سيدنا محمد  عبس في وجه رجل أعمى – هو الصحابي الفاضل عبد الله ابن أم مكتوم - جاءه يسأله عن أمرٍ من أمور الشرع، وكان يجلس إلى رجالٍ من الوجهاء وعلية القوم، يستميلهم إلى الإسلام، و رغم أن الأعمى لم ير عبوسه، ولم يفطن إليه، إلا أن المولى تبارك وتعالى أبى إلا أن يضع الأمور في نصابها، والأولويات في محلها، فأنزل - سبحانه آيات بينات تعاتب النبي الرحيم عتاباً شديداً:
عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ] [عبس: الآيات 1-12]
يقول الباحث الإنجليزي "لايتنر " معلقًا على هذا الحادث :
".. مرة، أوحى الله تعالى إلى النبي [] وحيًا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان [] كما يقول أغبياء النصارى بحقه [] لما كان لذاك الوحي من وجود !" .
وقد كان النبي  يقابل هذا الرجل الأعمى، فيهش له ويبش، ويبسط له الفراش، ويقول له:
" مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي " !
ففي هذه القصة، نرى علة المعاتبة، لكونه انشغل بدعوة الوجهاء عن قضاء حاجة هذا الكفيف، وكان الأولى أن تُقضى حاجته، وتقدم على حاجات من سواه من الناس .
وفي هذه القصة دلالة شرعية على تقديم حاجات ذوي الاحتياجات الخاصة على حاجات من سواهم.

المطلب الرابع: عفوه  عن سفهائهم وجهلائهم :
وتجلت رحمة الحبيب  بذوي الاحتياجات الخاصة، في عفوه عن جاهلهم، وحلمه على سفيههم ، ففي معركة أحد[ شوال 3هـ- أبريل624 م]، لما توجه الرسول  بجيشه صوب أحد، وعزم على المرور بمزرعة لرجل منافق ضرير، أخذ هذا الأخير يسب النبي وينال منه ، وأخذ في يده حفنة من تراب وقال – في وقاحة - للنبي: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك لرميتك بها ! حَتَّى هم أصحاب النبي بقتل هذا الأعمى المجرم، فأبي عليهم -نبي الرحمة- وقال:
" دعوه ! فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر " .

ولم ينتهز رسول الله  ضعف هذا الضرير، فلم يأمر بقتله أو حتى بأذيته، رغم أن الجيش الإسلامي في طريقه لقتال، والوضع متأزم، والأعصاب متوترة، ومع ذلك لما وقف هذا الضرير المنافق في طريق الجيش، وقال ما قال، وفعل وما فعل، أبى رسول الله إلا العفو عنه، والصفح له، فليس من شيم المقاتلين المسلمين الاعتداء على أصحاب العاهات أو النيل من أصحاب الإعاقات، بل كانت سنته معهم؛ الرفق بهم، والاتعاظ بحالهم، وسؤال الله أن يشفيهم ويعافينا مما ابتلاهم .
المطلب الخامس : تكريمه وموساته  لهم :
فعن عائشة أنها قالت : سمعت رسول الله  يقول : " إن الله عز وجل أوحى إلى أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة ومن سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة... " .
وعن العرباض بن سارية ، عن النبي  ، عن رب العزة - قال : " إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين ، لم أرض له ثوابًا دون الجنة، إذا حمدني عليهما"
ويقول النبي لكل أصحاب الإصابات والإعاقات : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ"
ففي مثل هذه النصوص النبوية والأحاديث القدسية، مواساة وبشارة لكل صاحب إعائقة؛ أن إذا صبر على مصيبته، راضيًا لله ببلوته، واحتسب على الله إعاقته، فلا جزاء له عند الله إلا الجنة .
وقد كان النبي  يقول عن عمرو بن الجموح ، تكريمًا وتشريفًا له: " سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح "وكان أعرج ، وقد قال له النبي  ذات يوم: " كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة "، وكان – رضي الله عنه - يولم على رسول الله  إذا تزوج .
و عن أنس بن مالك : أن رسول الله  استخلف بن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى .
وعن عائشة أن ابن أم مكتوم كان مؤذنا لرسول الله  وهو أعمى .
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا .
وعن الحسن بن محمد قال: دخلت على أبي زيد الأنصاري فأذن وأقام وهو جالس قال: وتقدم رجل فصلى بنا، وكان أعرج أصيب رجله في سبيل الله تعالى .
وهكذا كان المجتمع النبوي، يتضافر في مواساة ذوي الاحتياجات الخاصة، ويتعاون في تكريمهم، ويتحد في تشريفهم، وكل ذلك اقتضاءً بمنهج نبي الرحمة  مع ذوي الاحتياجات الخاصة . .
المطلب السادس : زيارته لهم
وشرع الإسلام عيادة المرضى عامة، وأصحاب الإعاقات خاصة، وذلك للتخفيف من معاناتهم .. فالشخص المعاق أقرب إلى الإنطواء والعزلة والنظرة التشائمية، وأقرب من الأمراض النفسية مقارنة بالصحيح، ومن الخطأ إهمال المعاقين في المناسابات الاجتماعية، كالزيارات والزواج ..
وقد كان رسول الله  يعود المرضى، فيدعو لهم ، ويطيب خاطرهم، ويبث في نفوسهم الثقة، وينشر على قلوبهم الفرح، ويرسم على وجوهه البهجة، وتجده ذات مرة يذهب إلى أحدهم في أطراف المدينة، خصيصًا، ليقضي له حاجة بسيطة، أو أن يصلي ركعات في بيت المتبتلى تلبية لرغبته .. فهذا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ- وكان رجلاً كفيفًا من الأنصار- يقول للنبي : إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم؛ لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى.
فوعده  بزيارة وصلاة في بيته قائًلا : "سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ" ..
قال عتبان فغدا رسول الله  وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله  فأذنتُ له فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ"، فأشرتُ له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله  ،فكبر فقمنا، فصفنا، فصلى ركعتين، ثم سلم .
المطلب السابع: الدعاء لهم :
وتتجلى – أيضًا - رحمة نبي الإسلام  بالفئات الخاصة - من ذوي الاحتياجات- عندما شرع الدعاء لهم، تثبيتًا لهم، وتحميسًا لهم على تحمل البلاء .. ليصنع الإرادة في نفوسهم، ويبني العزم في وجدانهم .. فذات مرة ، جاء رجل ضرير البصرِ إلى حضرة النبي .. فقَالَ الضرير: ادعُ اللَّهَ أنْ يُعافيني..
قَالَ : "إنْ شِئتَ دَعوتُ، وإنْ شِئتَ صبرتَ فهوَ خيرٌ لك".
قَالَ: فادعُهْ.
فأمرَهُ أنْ يتوضَّأ فيُحسنَ وُضُوءَهُ ويدعو بهَذَا الدُّعاءِ:
" الَّلهُمَّ إنِّي أسألكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ مُحَمَّد نبيِّ الرَّحمةِ إنِّي توجَّهتُ بكَ إِلى رَبِّي في حاجتي هذِهِ لتُقْضَى لي، الَّلهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيَّ " .
وعن عطاء بن أبي رباح، قال لِي ابْنُ عَبَّاس: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ : بَلَى .
قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ .. أَتَتْ النَّبِيَّ  فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي !
فقَال النبيَ :" إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ".
فَقَالَتْ :أَصْبِرُ . فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا .
هذا، وقد كان رسول الله يدعو للمرضى والزمنى عامة، فعن عائشة رضي الله عنها
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضا أو أتي به قال : " أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"
وهكذا المجتمع الإسلامي؛ يدعو -عن بكرة أبيه- لأصحاب الإعاقات والعاهات وما رأينا مجتمعًا على وجه الأرض يدعو بالشفاء والرحمة لأصحاب الاحتياجات الخاصة، غير مجتمع المسلمين، ممن تربوا على منهج نبي الإسلام!.
المطلب الثامن : تحريم السخرية منهم
كان ذوو الاحتياجات الخاصة، في المجتمعات الأوربية الجاهلية، مادة للسخرية، والتسلية والفكاهة، فيجد المعاق نفسه بين نارين، نار الإقصاء والإبعاد، ونار السخرية والشماتة، ومن ثم يتحول المجتمع - في وجدان أصحاب الإعاقات- إلى دار غربة، واضهاد وفرقة .. فجاء الشرع الإسلامي السمح، ليحرّم السخرية من الناس عامة، ومن أصحاب البلوى خاصة، ورفع شعار " لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك " . وأنزل الله تعالى آيات بينات توكد تحريم هذه الخصلة الجاهلية، والتي نبتت في من نتن العصبية، والنعرات القبائلية، فقال عز من قائل :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الحجرات:11]
كما ثبت عن النبي  أنه قال: "الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس" ،"وغمط الناس" : احتقارهم والاستخفاف بهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المبتلى أعظم قدرًا عند الله، أو أكبر فضلاً على الناس، علمًا وجهادًا، وتقوى وعفة وأدبًا .. نهيك عن القاعدة النبوية العامة، الفاصلة :" فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ"
ولقد حذر النبي  أشد التحذير، من تضليل الكفيف عن طريقه، أو إيذاءه، عبسًا وسخرية، فقال :
"مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ "
وقال : " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَمَّهَ أَعْمَى عَنْ السَّبِيلِ "
فهذا وعيد شديد، لمن اتخذ العيوب الخلقية سببًا للتندر أو التلهي أو السخرية، أوالتقليل من شأن أصحابها، فصحاب الإعاقة هو أخ أو أب أو إبن امتحنه الله، ليكون فينًا واعظًا، وشاهدًا على قدرة الله، لا أن نجعله مادة للتلهي أو التسلي.
المطلب التاسع : رفع العزلة والمقاطعة عنهم:
فقد كان المجتمع الجاهلي في القديم- سواءً في الجزيرة العربية أو أوربا الرومانية أوأسيا الفارسية - يقاطع ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعزلهم ويمنعهم من ممارسة حياتهم الطبيعية، كحقهم في الزواج، والاختلاط بالناس، وزيارتهم والأكل والشرب معهم..
فقد كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّ  لا يخالطهم في طعامهم أعرج ولاأعمى ولا مريض، وكان الناس يظنون بههم التقذّر والتقزّز. فأنزل الله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون }[النور: 61 ] .
أي ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج، فهؤلاء بشر مثلكم، لهم كافة الحقوق مثلكم، فلا تقاطعوهم ولا تعزلوهم ولا تهجروهم، فأكرمكم عند الله أتقاكم، "والله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أشكالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم " .
وهكذا نزل القرآن، رحمة لذوي الاحتياجات الخاصة، يواسيهم، ويساندهم نفسًيا، ويخفف عنهم . ويتقذهم من أخطر الأمراض النفسية التي تصيب المعاقين، جراء عزلتهم أو فصلهم عن الحياة الاجتماعية .
وبعكس ما فعلت الأمم الجاهلية، فلقد أحل الإسلام لذوي الاحتياجات الخاصة الزواج، فهم – والله – أصحاب قلوب مرهفة، ومشاعير جياشة، وأحاسيس نبيلة، فأقر لهم الحق في الزواج، ما داموا قادرين، وجعل لهم حقوقًا، وعليهم واجبات، ولم يستغل المسلمون ضعف ذوي الاحتياجات، فلم يأكلوا لهم حقًا، ولم يمنعوا عنهم مالاً، فعن عمر بن الخطاب أنه قال :
" أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلًا..." .
المطلب العاشر: التيسير على ذوي الاحتياجات الخاصة :
ومن الرحمة بذوي الاحتياجات الخاصة مراعاة الشريعة لهم في كثيرٍ من الأحكام التكليفية، والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، فعن زيد بن ثابت أن رسول الله أملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله". قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها "علي" – رضي الله عنه - (لتدوينها)، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، قال زيد بن ثابت: فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله  ، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي [من ثقل الوحي]، ثم سري عنه- فأنزل الله عز وجل: ‏غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ .
وقال تعالى – مخففًا عن ذوي الاحتياجات الخاصة - : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }[الفتح:17 ].
فرفع عنهم فريضة الجهاد في ساح القتال، فلم يكلفهم بحمل سلاح أو الخروج إلى نفير في سبيل الله، إلا إن كان تطوعًا .. ومثال ذلك، قصة عمرو بن الجموح – رضي الله عنه – في معركة أحد [ شوال 3هـ/إبريل624 م]، فقد كان – رضوان الله عليه - رجلا أعرج شديد العرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله  المشاهد فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه ، وقالوا : له إن الله عز وجل قد عذرك ! فأتى رسول الله  فقال:إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه . فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ! فقال نبي الرحمة  : "أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك "، ثم قال لبنيه : "ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة" فخرج مع الجيش فقتل يوم أحد .
بيد أن هذا التخفيف، الذي يتمتع به المعاق في الشرع الإسلامي، يتسم بالتوازن والاعتدال، فخفف عن كل صاحب إعاقة قدر إعاقته، وكلفه قدر استطاعته، يقول القرطبي :
"إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الاعرج فيما يشترط في التكليف به من المشى، وما يتعذر من الافعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك." ومثال ذلك الكفيف والمجنون، فالأول مكلف بجل التكاليف الشرعية باستثناء بعض الواجبات والفرائض كالجهاد .. أما الثاني فقد رفع عنه الشارع السمح كل التكاليف، فعن عائشة أن رسول الله  قال :" رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ " .
فمهما أخطأ المجنون أو ارتكب من الجرائم، فلا حد ولا حكم عليه، فعن ابن عباس قال: أتي عمر – رضي الله عنه - بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- فقال: ما شأن هذه؟
قالوا : مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم .
فقال: ارجعوا بها !
ثم أتاه، فقال : يا أمير المؤمنين ! أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة ، عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل ؟ قال : بلى. قال: فما بال هذه ترجم ؟ !قال لا شيء. قال علي: فَأَرْسِلْهَا. فَأَرْسَلَهَا . فجعل عمر يُكَبِّرُ .
هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، في وقت لم تعرف فيه الشعوب ولا الأنظمة حقًا لهذه الفئة، فقرر – الشرع الإسلامي- الرعاية الكاملة والشاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، وجعلهم في سلم أولويات المجتمع الإسلامي، وشرع العفو عن سفيههم وجاهلهم . وتكريم أصحاب البلاء منهم، لاسيما من كانت له موهبة أو حرفة نافعة أو تجربة ناجحة، وحث على عيادتهم وزيارتهم ، ورغب في الدعاء لهم، وحرّم السخرية منهم، ورفع العزلة والمقاطعة عنهم، ويسر عليهم في الأحكام ورفع عنهم الحرج. فالله الله في شريعة الإسلام ونبي الإسلام !
المبحث الرابع
رحمته للمسنين
يشهد العالم في السنوات الأخيرة اهتمامًا ملحوظًا بالمسنين، وقد شهد المجتمع الدولي أكثر من فعالية دولية، من مؤتمرات وندوات عالمية، لتناول قضايا المسنين، وشهد عام 1982 أول إشارة من العالم المتحضر لرعاية المسنين، حيث أعلنت الأمم المتحدة، في اجتماع لمندوبي 124 دولة، أن العقد التاسع من القرن العشرين عقد المسنين، ورفعت منظمة الصحة العالمية عام 1983 شعار "فلنضف الحياة إلى سنين العمر"، وقد تبنى مؤتمر الأمم المتحدة الذي انعقد في مدريد عام 2002م خطة عمل لمعالجة مشاكل المسنين في مختلف بلدان العالم ..
والحق أن هذه المؤتمرات كانت شبيهه بالملتقيات الفكرية النظرية، فلم يطبق لها قراراً، ولم تُفعل لها خطة !
وكان الأولى لهذه الفعاليات والمؤتمرات أن تقرأ في منهج نبي الإسلام ، وكيف رسم المنهج العملي في رعاية المسنين .
لقد كان نبي الرحمة سباقًا في هذا الميدان، ومرجعًا مهمًا – ينبغي أن يُأخذ به - لكل فعالية أو نشاط يهدف إلى رعاية المسنين .
وينطلق منهج رعاية المسنين – في الإسلام – من منطلق إنساني سامق، بعيدًا عن التمييز بين فئات المسنين على أساس الجنس أو اللون أو الدين . فالإسلام لا يقرر قواعد الرعاية للمسنين من منطلق عنصري أو عرقي كما هو الحال في العالم " المتحضر " في هذا الوقت الراهن .
فالمسن الفرنسي ذو البشرة البيضاء له الرعاية الشاملة والحقوق الكاملة، أما المسن الأسود والذي يحمل نفس الجنسية لا يتمتع بمعشار ما يتمتع به المسن الأبيض، رغم أنهم أصحاب وطن واحد ودين واحد ولغة واحدة.. !
فياليت هذا العالم " المتحضر" ينظر إلى منهج نبي الإسلام مع المسنين، كل المسنين، البيض والسود، العرب وغير العرب، المسلمين وغير المسلمين .
وإليكم بعض تعاليمه  في رعاية المسنين ..
المطلب الأول : حثه على إكرام المسنين والرفق بهم:
أولاً: مناشدة الشباب لإكرام المسنين :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" .
وهكذا أوصى شباب المجتمع بشيوخه، وشباب اليوم هم شيوخ الغد، وتبقى الوصية المحمدية متواصلة ومتلاحقة مع حقب الزمن، توصي الأجيال بعضها ببعض، وفيه بشارة بطول العمر وبالقرين الصالح الذي يكرم من أكرم شيخًا، والجزاء من جنس العمل .
وانظر إلى هذا التعميم : " مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ" .. أي شيخ مسن، مهما كان لونه، ومهما كان دينه، فالمسلم مطالب بإكرام المسن دون النظر إلى عقيدته أو بلده أو لونه ...

كما في حديث أنس بن مالك ، أن رسول الله  قال: "والذي نفسي بيده ، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم" ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا يرحم ، قال :" ليس برحمة أحدكم صاحبه .. يرحم الناس كافة " . فيرحم الناس كافة، والأطفال كافة، والمسنين كافة، بعجرهم وبجرهم، مسلمهم وغير مسلمهم .
ثانيًا: إكرام المسن من إجلال الله :
فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أن رَسُولُ اللَّهِ  قال "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" .
فجعل إكرام المسنين من إجلال الله . . وربط بين توقير الخالق وتوقير المخلوق ، وإجلال القوي سبحانه وإجلال المسن الضعيف، وذكر علامة، يُكرم بها صاحبها، هي الشيب، فكان حقًا على كل من رأي هذه العلامة في إنسان إن يكرمه ويجله .
ثم انظر كيف جمع بين المسن وحامل القرآن والسلطان، وقدم المسن، كأنه يقول لك وقرْ المسن كما توقر السلطان والرئيس والحاكم، وعظم المسن كما تعظم حامل القرآن الحاذق.
وتحت لفظ " إكرام ذي الشيبة المسلم "، تأتي كل صور الرعاية والإكرام للمسنين، كالرعاية الصحية، والرعاية النفسية، والرعاية الاجتماعية والاقتصادية، ومحو الأمية، والتعليم التثقيف، وغيرها من صور العناية التي ينادي بها المجتمع الدولي الآن .
ثالثًا: ليس من المسلمين من لا يوقر الكبير :
فعن عبد الله بن عمرو : أن رَسُولُ اللَّهِ  قال : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويُوَقِّرْ كَبِيرَنَا " .
فجعل من الذين لا يوقرون الكبراء والمسنين عناصر شاذة في مجتمع المسلمين، بل وتبرأ منهم ! إذ ليس من المسلمين من لا يحترم كبيرهم، وليس من المجتمع من لم يوقر مشايخه وأكابره من المسنين . وتأمل – هداك الله – لفظة النبي " يوقر كبيرنا " – هكذا بضمير الجمع ، تعظيمًا للكبير والمسن - ، ولم يقل " يوقر الكبير"، ليقرر أن الاعتداء على الكبير أو المسن بالقول أو الفعل أو الإشارة هو اعتداء على جناب رسول الله ، الذي نسب المسن إليه وانتسب إليه، بقوله .." كبيرنا" .
رابعًا: تسليم الصغير على الكبير :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنْ النَّبِيِّ قَالَ: " يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ" .

فقرر النماذج العملية البسيطة ، فيما يتعلق بجوانب الذوقيات الاجتماعية العامة، وبدأ بأهم هذه المظاهر الأخلاقية والذوقية، وهو مظهر توقير الكبير واحترام المسن، فهو البند الأول في " الإتيكيت الإسلامي ".. ولما كان الصغير هو المبادر في مثل هذه الأحوال، كان عليه فيما دون ذلك ، فيبدأ بالمساعدة، ويبدأ بالملاطفة، ويبدأ بالزيارة، ويبدأ بالنصيحة، ويبدأ بالاتصال .. الخ
خامسًا : تقديم المسن في وجوه الإكرام عامة:
قال النبي  : " أمرني جبريل أن أقدم الأكابر " .
وهذه قاعدة عامة في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام والتشريف عامة ..
وقد أمر النبي  أن يُبدأ الكبير بتقديم الشراب ونحوه للأكابر..فقال : "أبدؤا بالكبراء - أو قال – بالأكابر" .
ولقد مارس هذا الخلق عمليًا، فتقول عائشة : " كان  يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه : أن أعط السواك أكبرهما ! " .
وعن عبدالله بن كعب :"كان  إذا استن أعطى السواك الأكبر، و إذا شرب أعطى الذي عن يمينه" .
قال ابن بطال : فيه تقديم ذي السن في السواك ، و يلتحق به الطعام والشراب و المشي والكلام . ومن ثم كل وجوه الإكرام .
كما أمر  بتقديم المسن في الإمامة :
ففي الصحيح من حديث مالك بْنِ الْحُوَيْرِثِ أن النَّبِيِّ قال :" .. فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ " .
وهو لا يتعارض مع تصريح النبي  بتقديم الأحفظ لكتاب الله.
وجد جمع بينهما في حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ حين قَال رَسُولُ اللَّهِ : " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَة،ً فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا ..." .
كما أن الكبير – في الهدي النبوي – أحق بالمبداءة في الكلام، والحوار، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْل،ِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ  فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِم،ْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ :
"كَبِّرْ الْكُبْرَ " ..
قَالَ يَحْيَى يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ .. الحديث
سادسًا : التخفيف عن المسنين في الأحكام الشرعية :
فالأحكام الشرعية في الإسلام دائما تأخذ في الاعتبار مبدأ التخفيف عن صاحب الحرج، كالمسن .. نرى ذلك بوضوح في جل التشريعات الإسلامية .. فقد خفف الشرع عن المسن في الكفارات والفرائض والواجبات..
أما التخفيف عن المسن في الكفارات، فقصة المجادلة (خولة بنت ثعلبة) في القرآن خير دليل، عندما وقع زوجها (أوس بن الصامت) – وهو الشيخ المسن – في جريمة الظهار، ونزل الحكم الشرعي العام : " وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)" [ المجادلة ]..
وقال رسول الله  لخولة المجادلة: "مُريه فليعتق رقبة"، فسألت التخفيف عن زوجها .فقال: "فليصم شهرين متتابعين". فقالت: والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر". فقلت: يا رسول الله، ما ذاك عنده ! فقال نبي الرحمة : "فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر" ! ولم ينس الرسول الجليل والأب الرحيم أن يوصي المرأة الشابة بزوجها الشيخ فقال:"استوصي بابن عمك خيرًا".
وفي الفرائض : أجاز للمسن أن يفطر في نهار رمضان - ويطعم - إذا شق عليه الصيام، وأن يصلي جالسًا إذا شق عليه القيام، وأن يصلي جالسًا إذا شق عليه الجلوس .. وهكذا..
ولقد عنّف الرسول  معاذ بن جبل، ذات يوم، لما صلى إمامًا فأطال فشق على المأموم، قائلا :
"يَا مُعَاذُ ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ ! [ ثَلَاثَ مِرَارٍ] ! فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ !"
ورخص للمسن أن يرسل من يحج عنه إن لم يستطع أن يمتطى وسيلة النقل . فعَنْ الْفَضْلِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ  :" فَحُجِّي عَنْهُ". .
المطلب الثاني : نماذج رحمته  للمسنين :
أولاً: إنصاته لعتبة وتلطفه معه :
جاء عتبة بن ربيعة - أحد شيوخ المشركين في مكة- يتحدث إلى النبي ، بحديث طويل يريد أن يثنيه عن دعوته، وكان من بين ما قال:
أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت النبي، تأدبًا وإعراضًا عن الجاهلين !
فواصل عتبة قائلاً : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك، لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى .. فلما عاين عتبةُ هذا الأدب الجم من رسول الله، خفف من حدة الحديث، وقال : يا بن أخى، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيًا [ يعني جنون أو مس ] تراه لا تستطيع رده عن نفسك؛ طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه.
و لا زال عتبة يتحدث إلى النبي، بهذا الحديث الذي لا يخلوا من التعريض أو من التجريح، ورسول الله  في أنصات واستماع بكل احترام للشيخ ..
حتى إذا فرغ عتبة، قال له النبي - في أدب ورفق -: " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال: نعم.
قال: "اسمع منى".
قال: أفعل.
فقرأ عليه النبي أول سورة فصلت .
ثانيًا: سعيه لفك أسر شيخ كبير:
فلما أُسر عمرو بن أبي سفيان بن حرب، في معركة بدر، ووقع أسيرا في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقيل لأبي سفيان: افد عمرًا ابنك ! قال: أيجمع علي دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرًا، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.
فبينًا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله  إذ خرج شيخ كبير مسلم إلى مكة لأداء العمرة، وكان اسمه سعد بن النعمان بن أكال - أخو بني عمرو بن عوف- فخرج معتمرًا، رغم أن الظروف السياسية عصيبة لاسيما بعد بدر .. ولم يظن أنه يحبس بمكة، وقد كان عهد أن قريشًا لا يعرضون لأحد جاء حاجًا أو معتمرًا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة، فحبسه بابنه عمرو ..
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله  فأخبروا خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان، فيفكوا به الشيخ، ففعل رسول الله  ، وأفرج عن ابن أبي سفيان على الفور، دون فداء، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل الشيخ .
ثالثًا:رفقه بأبي قحافة وتوقيره له :
لما دخل رسول الله  مكة فاتحًا (في رمضان 8هـ/ يناير 630 م)، ودخل المسجد الحرام، أتى أبو بكر بأبيه يقوده إلى حضرة النبي ، ليتعرف عليه، لعله أن يسلم . فلما رآه رسول الله  قال:
" هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ؟ ! " .
قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى أنت إليه! !
فأجلسه النبي  بين يديه، وأكرمه، ثم مسح على صدره، ثم قال:" أسلم"
فأسلم.
ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة بياضًا من شدة الشيب.
فقال رسول الله - في تلطف جم وذوق رفيع -: " غيروا هذا من شعره ! " .
وأخيرًا، يمكن أن نلخص الهدي النبوي في التعامل مع المسنين في عدة نقاط هي :
1-مسؤولية المجتمع بكامله – خاصة الشباب - عن شويخه ومسنيه، علمًا بأن رعاية المسنين واجب عيني على الأنظمة والحكومات والشعوب . ويمتد الواجب إلى حشد الجهود الفردية والجماعية والرسمية وغير الرسمية لرعاية المسنين .
2- الرعاية الكاملة والشاملة للمسن، صحيًا نفسيًا وعقليًا واجتماعيًا، وغيرها من صور العناية وقد جمعها اللفظ النبوي في جملة " إكرام ذي الشيبة " ..
3-توقير المسنين في المعاملات الاجتماعية اليومية المختلفة .
4-تقديم المسنين في وجوه الإكرام عامة، كالإمامة والطعام والشراب .
5-التخفيف عن المسنين في الأحكام الشرعية، ومراعاة الفتوى الشرعية لهم .

المبحث الخامس
رحمته للأموات

المطلب الأول : زيارته لقبور الأموات :
وتمتد رحمته – صلوات ربي وسلامه عليه – إلى الأموات، باعتبار أنهم إخواننا في الإنسانية سبقونا إلى الدار الأخرة .. ولما كان الأموات إخواننا قد سبقونا إلى القبور، فحقاً لهم أن نبرهم ونرحمهم ونصلهم .. فسن النبي  سنة زيارة المقابر وإلقاء السلام على أهل القبور .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ :
" السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ.. وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا " .. قال أصحابه : أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ ! قَالَ : " أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ.." .
هذا وقد كان يزور سيدنا محمد  مقبرة البقيع من حين إلى آخر ..
وكان يزور شهداء معركة أحد كل أسبوع .
بهذه الأحاسيس المرهفة، يزور النبي قبور إخوانه، حيث يدعو لهم، ويتذكر أيامهم، ويسترجع ذكرياته معهم، ويأمل أن يلقاهم في دار الخلد في ظلال الله .. عند الحوض الشريف يوم القيامة ..
ومن هنا احترم الإسلام شعيرة زيارة القبور حتى ولو كانت من غير مسلم، فالفتح الإسلامي – مثلاً – كما يقول كرامرز " لم يمنع من زيارة القبر المقدس أو يحول بين الأوربيين المسيحيين وبين إنجاز هذه الفريضة الدينية" .
المطلب الثاني : مشاركته في دفن الأموات بنفسه :
أولاً : جنازة عدو من أعدائه :
وتراه في ذوق رفيع وسمو، ورحمة، يشارك الناس في دفن الميت بنفسه، ويدخل في الحفرة فيستلم الميت على ركبته، ويهدي قميصه إلى الميت ليكفّن فيه، رحمة منه، وموساة لأهله، وإن كان الميت من ألد أعدائه ..
انظر كيف كانت أخلاقه مع عدو الدعوة الإسلامية في المدينة عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ، لما مات، وأرادوا دفنه:
قال جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ :
"أَتَى رَسُولُ اللَّهِ  عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ..!" .
ثانيًا: جنازة حبيب من أحبابه :
قال عبدالله بن مسعود :
قُمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله  في غزوة تبوك(في رجب 9 هـ/ أكتوبر630) ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله  وأبو بكر وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله  في حفرته، وأبو بكر وعمر، يدليانه إليه وهو يقول :"أدنيا إلى أخاكما " فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه، قال اللهم : "إنى قد أمسيت راضياً عنه؛ فارض عنه" .قال عبدالله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة . فقال أبو بكر : والله لوددت أني صاحب الحفرة ..
المطلب الثالث : حزنه  إذا فاتته جنازة وصلاته عليها :
فذات يوم مر سيدنا محمد  بالمقابر فوجد قبراً جديداً ومعه أبو بكر . فقال النبي : " قبر من هذا ؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله هذه أم محجن، كانت مولعة بلقط القذي من المسجد. فقال : " أفلا آذنتموني !!" فقالوا :كنتَ نائمًا، فكرهنا أن نهيجك .
قال : "فلا تفعلوا ، فإن صلاتي على موتاكم نور لهم في قبورهم" .
فصف أصحابه فصلى عليها ..
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  : أَنَّ أَسْوَدَ - رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً - كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ (وكَانَتْ تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ وَالْعِيدَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ) فَمَاتَ – أو ماتت - وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ  بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ :مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ ؟ قَالُوا : مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " أَفَلَا آذَنْتُمُونِي ؟ ! "فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ، قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ. قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ .
يقول : " أَفَلَا آذَنْتُمُونِي ": أَفَلَا أَعْلَمْتُمُونِي ؟ ! يلوم أصحابه أن فوته عليه هذا العمل الإنساني، وهو تشييع جنازة مسلم، ولو كان حقيراً في نظر الناس ..

المطلب الرابع :توقيره للجنائز والقبور ولو كانت لغير المسلمين :
أولاً : قيامه  إذا مرت الجنازة :
بينما الرسول  في مجلس علم مع أصحابه، إذ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ على الفور!
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ .فَقَالَ – في سماحة - : "أَلَيْسَتْ نَفْسًا ؟ ! "
وقد كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ وسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، يقومون للجنازة.
وقال جابر بن عبد الله :
قَامَ النَّبِيُّ  وَأَصْحَابُهُ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ حَتَّى تَوَارَتْ
وعن أبي أسَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : " إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ " ..
ثانيًا: وضعه  الجريد الأخضر على القبر :
فقد مَرَّ النَّبِيُّ  بمزرعة من مزارع الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ  : " يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ " ثُمَّ قَالَ : " بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِه،ِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" . ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ (خَضْرَاء ) فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً ..
فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟
قَالَ : " لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا - أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا" .
وقَدْ رَوَى اِبْن حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " أَنَّهُ  مَرَّ بِقَبْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ : اِئْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ ، فَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا عِنْد رَأْسه وَالْأُخْرَى عِنْد رِجْلَيْهِ "
وَقَدْ تَأَسَّى الصَّحَابِيّ الجليل بُرَيْدَة بْن الْحُصَيْب بِذَلِكَ، وتأثر بهذه المواقف من رسول الله، فَأَوْصَى أَنْ يُوضَع عَلَى قَبْره جَرِيدَتَانِ ، تبركًا بفعله ، ورجاء أن يخفف عنه .
ثالثًا : أمره بعدم إيذاء الميت:
فنهى عن التمثيل بالمقتول في الحرب، فقال : "وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا"
ونهى عن المساس بعظام الموتى، فعَنْ عَائِشَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: " كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا" .
ونهى عن إيذاء الأموات بأي شكل من الأشكال، فعن ابن مسعود: قال: "أذى المؤمن في موته، كأذاه في حياته" ..
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ" .
وعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ:" لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا"
وعن عمارة بن حزم  قال رآني رسول الله  جالسًا على قبر، فقال:" يا صاحب القبر ! أنزل من على القبر، لا تؤذي صاحب القبر، ولا يؤذيك ! "
المطلب الخامس: دعاؤه  للأموات :
يقول عَوْف بْنَ مَالِكٍ :
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ  عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ :" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَه،ُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَد،ِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ _ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ -" قَالَ : حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  آخَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ الْآخَرُ بَعْدَهُ، فَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ  : "مَا قُلْتُمْ ؟ " قَالُوا : دَعَوْنَا لَهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَأَيْنَ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ، فَلَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
وكان يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ – أيضًا -: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا" .
وكان يأمر أصحابه بالدعاء للميت فيقول : " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" .
المطلب السادس : بكاؤه  على الأموات وعند القبور:
أولاً : في وفاة عثمان بن مظعون :
فعندما أُخبر رسول الله  بوفاة عثمان بن مظعون  أسرع إلى بيته، فقد كان عثمان  من الصحابة القريبين إلى قلبه. فبكى النبي  عليه بكاء كثيراً .
ثانيًا: في وفاة سعد بن عبادة :
عن ابن عمر  قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي  يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم جميعًا-، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: "قد قضى؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي  ، فلما رأى القوم بكاء النبي  بكوا. فقال: "ألا تسمعون، إن الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه .
ثالثًا : في وفاة طفله إبراهيم :
لما رُزق رَسُولُ اللَّهِ  بطفل من زوجته السيدة مارية المصرية، قال لأصحابه - في ابتهاج وسرور - : "وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ" . قال أنس : ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ َقُلْتُ يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ [ أي توقف]! جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ  فَأَمْسَكَ!
فَدَعَا النَّبِيُّ  بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ..
فَقَالَ أَنَسٌ : لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ[أي يحتضر] بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ  فَقَالَ :
"تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ" .

رابعًا: بكاءه عند قبر أمه:
ومن المواقف المؤثرة الصعبة على نفوس الصحابة، موقفهم عندما شاهدوا قائدهم في عام الحديبية ( 6هـ) يبكي بحرقة عند قبر أمه آمنة بنت وهب.
فعن سفيان الثوري أن نبي الله  انتهى يوماً من عام الحديبية إلى رسم قبر فجلس، وتفجر ينبوع الرحمة في قلبه فبكى وقال – بعينين دامعتين -: "هذا قبر آمنة بنت وهب" وكان عمره إذ ذاك نحو السّتين .
وعن عبد الله بن مسعود :
أن النبي  خرج يومًا وخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر ، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها ، فجلس إليه فناجاه طويلاً ، ثم ارتفع صوته ينتحب باكيًا ، فبكينا لبكاء رسول الله  ، ثم إن رسول الله  أقبل إلينا ، فتلقاه عمر بن الخطاب  ، فقال : ما الذي أبكاك يا رسول الله ؟ فقد أبكانا وأفزعنا ، فأخذ بيد عمر ، ثم أومأ إلينا فأتيناه، فقال – في شفقة -: " أفزعكم بكائي ؟ " فقلنا : نعم، يا رسول الله فقال ذلك مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : " إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر آمنة بنت وهب ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ، ثم استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي .. فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة ، فذلك الذي أبكاني.." .
قال أحد الصحابة : فما رأيت ساعة أكثر باكيًا من تلك الساعة .
لقد تذكر  بهذه الزيارة لقبر أمه الذكريات ..
فراح يستعيد جروح الماضي في وجدانه ..
فخيم عليه شعور اليتم الرهيب !
فتأوه القلب الصديع !

الخــــــاتــمة
أولاً : ملخص البحث:
تناولت هذه الدراسة موضوع رحمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - للعالمين في مقدمة وسبعة فصول، وخاتمة، فكان ملخص البحث على النحو التالي :
الفصل الأول : من هو نبي الرحمة ؟
قام الباحث بعمل تعريف موجز بنبي الرحمة  يشتمل على مختصر لأهم الأحداث في حياة الرسول  ، وشهادات الأدبيات الغربية بصدق نبوته ، وبحقيقة رحمته للعالمين. وبين الباحث في نهاية الفصل خصائص هذه الرحمة المتجسدة في شخص محمد ، وذلك من حيث كونها رحمة ربانية وعالمية وعملية ومتزنة.
الفصل الثاني : رحمته للعالمين مجال التنوير والحضارة:
تناول الباحث في الفصل الثاني أهم مظاهر رحمته  للعالم في مجال التنوير والحضارة، ورحمته للبشر في ذلك كونه أخرجهم من الظلمات إلى النور، فحول العرب من قبائل عصبية متناحرة إلى أمة متماسكة متحضرة، ولا يخفى فضله  على الحضارة الأوربية أيضًا بشهادة علماء الغرب أنفسهم.
وفي هذا الفصل تناول الباحث رحمته للبشرية بتدعيمه لقيم العلم والمعرفة، والتحضر والتربية والتسامح الديني ، وخدمة الإنسانية ورعاية حقوق الإنسان فكلها قيم حضارية تمثل جانبًا عظيمًا من جوانب الرحمة قي شخصية النبي محمد ، ويغفل عنه الكثير من الباحثين.
الفصل الثالث: رحمته للعالمين في مجال الأخلاق:
في هذا الفصل تناول الباحث أهم مظاهر الرحمة في الجانب الأخلاقي والسلوكي لشخصية النبي ، فتناول البحث بعض من شمائله وأخلاقه، مثل رفقه  ولين عريكته وذوقه مع الناس، وعفوه لا سيما مع أعدائه، وتخلقه  كحاكم بأخلاق العدل والمساواة بين الناس، وتحذيره من استعباد الناس ونهيهه عن التمييز العنصري .
ودوره  في نشر الحب والإخاء بين العرب وبعضهم، وبين العرب وغيره، وبين المهاجرين وبعضهم، وبين فصائل المدينة وبعضها، حتى صار المسلمون قوة أخوية واحدة قد ألف الله بين قلوبهم بشكل معجز .
وتناول الباحث في هذا الفصل - أيضًا - مظهرًا سلوكيًا مهمًا يبين رحمته ألا وهو جانب المعاملات المالية وسماحته فيه .
الفصل الرابع: رحمته للعالمين في مجال التشريع :
تحدث الباحث في هذا الفصل عن رحمة النبي بالناس كمشرع، فتناول مرونته ووسطيته واعتداله
وفي سياسته الشرعية في الأحكام التي تتسم بالتيسير .
ونماذج عملية للرخص الشرعية والتدرج في التشريع، والتي تبين رحمته للبشر كمشرِّع، أرسله الله ميِّسرًا سهلاً ، يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .
الفصل الخامس : رحمته للعالمين في ميدان الصراعات السياسية والعسكرية :
في هذا الفصل تناول الباحث رحمة النبي بغير المسلمين في ميدان الصراعات والحروب، وكيف كان يقدم الحوار على الصدام، ويجنح للسلم، ويبرم المعاهدات والعقود حقنًا للدماء، ويرحم العدو إذا قُهر، ويوصي خيرًا بأهل الذمة، ويمنحهم الحق في حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، ويوصي بالأسرى خيرًا .
وتناولنا في هذا الفصل الرد على أهم الشبهات في ذلك، والتي منها فرية نشر الإسلام بالسيف والعنف ورد علماء الغرب أنفسهم في ذلك ..

الفصل السادس: رحمته للعالمين مجال المرأة والطفل:
في هذا الفصل تناول الباحث مظاهر رحمة النبي في مجال المراة والطفل، وكيف أنقذ سيدنا محمد النساء من ظلام الجاهلية وظلم الوأد وهضم الحق، ومن ثم كيف حررهن التحرير الحقيقي الكريم، وجعل لهن مميزات متفردة، في وقت كانت فيه المرأة – الأورببية - تعامل كجرثومة فوق الحيوان ودون الإنسان !
وتناول البحث الرد على الإفتراءات المتعلقة بهذا الموضوع، لاسيما في مسائل مثل تعدد الزوجات، وزواج النبي  وضرب الزوج لزوجته، وحجاب المرأة، والرد على ذلك من خلال أدبيات الغرب أنفسهم .
وتناول الفصل نماذج عملية لرحمة النبي  بالأطفال عامة وبالبنات خاصة، ورحمته بالأيتام والأرامل.
الفصل السابع: رحمته للضعفاء
في هذا الفصل تناول الباحث رحمة محمد  للضعفاء، فبين كيف كانت رحمته للفقراء ، في كل زمان حتى قيام الساعة .
وكيف تعامل النبي  مع مشكلة الفقر ومشكلة البطالة .
ورحمته للخدم وللعبيد وكيف جعل لهم حقوقًا وساهم في تحريرهم .
ورحمته لذوي الاحتياجات الخاصة وكيف كانت سنته معهم ورفقه بهم في الأحكام والمعاملات .
ورحمته للمسنين، وكيف كانت سنته ورعايته للمسن .
ورحمته للأموات، وكيف سن هذا الكم الضخم من الآداب المتعلقة بالجنائز والأموات، والتي تبين رحمته وتكريمه  للإنسان حيًا وميتًا. ونماذج عملية في كل ذلك .
ثانيًا : النتائج :
وبعد هذه الجولة، في هذه الدراسة،نستطيع نجمل أهم النتائج التي توصل إليها الباحث على النحو التالي :
1- كان محمد  رحمة حقيقة وعملية للبشرية منذ بعثته وحتى وقتنا هذا، بشهادة علماء الغرب، أمثال جان ليك، وتوماس كارلايل، و لين بول، ولوبون وغيرهم..
2- تبين للباحث عظم رحمة النبي  للبشرية في ميدان التنوير والمعرفة والعلم، فظهر دوره  في نقل الجزيرة العربية من مرحلة الجهل إلى مرحلة العلم، ومن عصر الظلام إلى عصر النور، وبان دروه كذلك في تحضر العالم كله، خاصة الغرب، وتحدث في ذلك علماء غربيين أمثال رودي بارت، وولز، واشنجتون ايرفنج، وغيرهم .
3- عاش أصحاب الديانات والعقائد المختلفة في ظل حكم النبي  حياة آمنة ، قد حفظ النبي لهم فيها حق حرية الاعتقاد، وممارسة الشعائر، وحفظ لهم دماءهم وأموالهم وأعراضهم من السوء كالمسلمين سواء بسواء .
4- في مجال الأخلاق، تبين للباحث ذلك الكم الضخم من القيم الأخلاقية والسلوكية المجتمعة في شخصية سيدنا محمد ، كالرفق واللين والعدالة والمساواة والحب والإخاء، والتي تمثل بعض تجليات الرحمة في شخصيته  ..وقد ركز العلامة توماس أرنولد كثيرًا على الجانب الخلقي في شخصية النبي .
5- تجلت مظاهر الرحمة – كذلك - في شخصية النبي  كمشرِّع لتنظيم حياة المجتمعات البشرية، فظهرت في سياسته التشريعية مظاهر عدة على رأسها المرونة والوسطية والاعتدال والتيسير والرخص الشرعية والتدرج في التشريع..
6- في ميادين الصراعات السياسية والعسكرية، تجلت بوضوح مظاهر رحمته ، فقدم الحوار على الصدام، و الحل السلمي على الحل العسكري، وطبق مبدأ الحوار بين الحضارات بنجاح وراسل لذلك قادة وملوك العالم وأرسل إليهم الرسل والسفراء . وشهد أعداؤه وخصومه، بعظم أخلاقه، وسمو عفوه، لاسيما مع الأسرى.وقد أطنب الباحثون الغربيون في تجلية هذه المظاهر، أمثال إميل درمنغم، والعلامة لويس سيديو ، والدكتورة كارين أرمسترونج ، وغيرهم .
7- حرر النبي  المرأة من رق الجاهلية ، وأنقذها من مأساة الوأد، ورد لها اعتباراتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وظهرت له النماذج الفذه في رحمته بالأطفال عامة وبالبنات خاصة، إضافة إلى الأيتام والأرامل .
8- لقد ضرب نبينا محمد  المثل الأعلى في الرحمة بالضعفاء، فظهرت رحمته الجلية البينة بالفقراء وكيف ساندهم، والعبيد وكيف حررهم، والخدم وكيف أكرمهم، وذوي الاحتياجات الخاصة وكيف واساهم، والمسنين وكيف وقرهم.. وامتدت رحمته بالإنسان حتى في بطن الأرض ميتًا !

ثالثًا : التـوصيـات
1- : اقتراح عقد مؤتمر في موضوع تحت عنوان " تجليات الرحمة النبوية" :
وهو مؤتمر يهدف إلى تجلية جوانب الرحمة في شخصية النبي ، ودفع الإفتراءات القديمة والحديثة ، ويتم تناول هذا الموضوع في سبعة محاور هي :
المحور الأول: خصائص رحمة النبي 
- تأصيل لغوي وشرعي لصفة الرحمة
- الرحمة صفة الخالق
- الرحمة صفة الرسالة
- الرحمة صفة الأمة
- عالمية الرحمة
- عملية الرحمة
- حول الرحمة المتزنة
المحور الثاني: من تجليات رحمة النبي في مجال التنوير والحضارة :
- التوحيد
- التحضر
- التسامح
- المعرفة
المحور الثالث : من تجليات رحمة النبي في مجال الأخلاق:
- الرفق
- العفو
- العدل
- الإخاء
المحور الرابع : من تجليات رحمة النبي في مجال التشريع
- المرونة
- الوسطية
- التيسير
- نموذج : الرخص الشرعية
المحور الخامس: من تجليات رحمة النبي في مجال الحرب والسلام
- معاهدات السلام النبوية
- رسائل الملوك
- أخلاقيات الحرب
- حقوق الأسرى
- ردع الطغاة والمجرمين
المحور السادس : من تجليات رحمة النبي في مجال المرأة والطفل
- التحرير الإسلامي للمرأة
- حقوق المرأة في الإسلام
- حقوق الطفل في الإسلام
المحور السابع : من تجليات رحمة النبي للضعفاء :
- مكافحة الفقر
- رعاية المسنين
- رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة
الفترة التحضيرية :
مدة سنة، ويتم دعوة الباحثين والمفكرين والكتاب في جميع أنحاء العالم، للمشاركة في المؤتمر بإعداد الدراسات والبحوث المحكمة حول محاور المؤتمر، من خلال مسابقة عالمية لخدمة المؤتمر .
ويتم توزيع نتائج المؤتمر وتوصياته – مترجمة - على أصحاب القرار والساسة والمثقفين والتربويين والإعلاميين البارزين في أوربا وأمريكا.
2- اقتراح مشروع تحت عنوان " ترجمة مائة كتاب في السيرة " :
يتم تشكيل لجنة من كبار الباحثين والكتاب والمترجمين الذين أسهموا بكتابات أو بحوث في مجال سيرة النبي ، لاختيار مائة دراسة عربية حول سيرة النبي تصلح ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية بالأساس ثم الفرنسية، وتركيز نشر هذه الكتب – بعد ترجمتها - في أوربا وأمريكا. ويتم استنهاض الداعمين لهذا المشروع من الحكومات العربية والإسلامية ورجال الأعمال .
3- اقتراح إنشاء مركز بحثي علمي للتعريف بنبي الرحمة 
وتكون مهمة هذا المركز إنتاج البحوث والدراسات والدوريات والوسائط المتعددة للتعريف بنبي الرحمة  باللغات الحية .
4- اقتراح تدريس السيرة النبوية في المراحل التعليمية :
فتقوم وزارات التربية والتعليم العالي في البلدان الإسلامية، بتشكيل لجان متخصصة لبحث إمكانية تدريس السيرة النبوية في الصفوف الدراسية والجامعية..
5: اقتراح إنشاء قناة فضائية للتعريف بنبي الرحمة 
فتقوم هذه القناة بعرض كل ما يتعلق بسيرة النبي  والتعريف به، من ندوات ومحاضرات، وأفلام، ورسوم متحركة، وكتابات .
6- اقتراح فيلم سينمائي عالمي :
بحيث يوجه الفيلم إلى عامة الشعوب الغربية، بهدف تعريفهم بنبي الإسلام، ويتم عرضه في كبرى دور العرض الأوربية والأمريكية .. ويشترط في هذا العمل السينمائي أربعة شروط:
الشرط الأول : أن ينضبط بالضوابط الشرعية .
الشرط الثاني : الاستعانة بالكفاءات العالمية من ممثلين ومخرجين .
الشرط الثالث: أن ينال الدعم المالي السخي من رجال الأعمال المسلمين .
الشرط الرابع : ألا تحتكر حقوق نشره شركة معين أو شخص محدد، بل تكون حقوقه ممنوحة لأي إنسان ينشر الفيلم .
7- فقرة إعلانية للتعريف بنبي الرحمة :
مدة هذه الفقرة الإعلانية دقيقة واحدة، يتم بثها من خلال كبرى القنوات الأوربية والغربية .. وهي بلا شك تحتاج إلى دعم مالي كبير.
إضافة إلى استئجار عدد من الساعات من مساحة البث في بعض القنوات وتقديم من خلالها برامج تعريفية بنبي الرحمة .
8 – المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية :
على القادة والساسة العرب والمسلمين قطع أية علاقات دبلوماسية أو تجارية أو أية شراكات أو اتفاقات مع أي دولة تسىء لنبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم -.
عليهم أن يمحو العار الذي لحق بهم جراء تعاملهم مع من سب نبيهم .
9- اقتراح " مهرجان محمد للجميع " :
وهو مهرجان عالمي سنوي يعقد في عاصمة كبرى من عواصم العالم، يشتمل هذا المهرجان على مجموعة فعاليات تعريفية بنبي الرحمة، ومن ضمن تلك الفعاليات محاضرات وندوات ومعارض وأفلام وأناشيد ومسابقات وجوائز تصب في موضوع النصرة والتعريف بنبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم - .
وهو مشروع يحتاج إلى دعم الحكومات والجماعات ورجال الأعمال، أو يكون على الأقل تحت رعاية أحد زعماء العرب ...
10- أن يحمل كل مسلم ومسلمة أمانة الدفاع عن نبي الرحمة، والزود عن حياضه، ونشر منهجه الإصلاحي على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، ومن ثم العمل على إعداد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم، والحكومة المسلمة.

رابعًا : أفكار عملية لنصرة نبي الرحمة :
وهذه أفكار عملية - لكل مسلم - لنصرة نبي الرحمة :
1-الكتابة إلى الصحف والمجلات وتعقب أية تصريحات تسيء بنبي الرحمة – عليه الصلاة والسلام -
2-عمل مدارسة مسجدية أو حلقة أسبوعية بالمسجد لمدارسة كتاب نبي الرحمة أو كتاب مفيد في السيرة، إضافة إلى العلوم الشرعية الأخرى ( كالحديث والتفسير والفقه والعقيدة)
3- إرسال 10 رسائل إلكترونية على الأقل إلى مواقع عالمية، بهدف التعريف بنبي الرحمة. وذلك بشكل أسبوعي على الأقل.
4- إرسال ثلاثة رسائل نصية sms بالمحمول للأصحاب والإخوان بهدف التذكير بقضية النصرة. وذلك بشكل أسبوعي على الأقل .
5- تعليق بوسترات ولوحات – تشتمل على أحاديث نبوية وتوصيات عملية- في الأماكن العامة – بشكل لائق – بهدف نصرة نبي الرحمة .
6- عمل مسابقة ثقافية وأخرى بحثية عن " نبي الرحمه وأخلاقه وسيرته ومنهجه " بشكل دوري وجوائز مجزية.
7- إنشاء جمعية خيرية لتحفيظ القرآن وتعليم السيرة النبوية .
8- توزيع ونشر الكتب التي تعرف بنبي الرحمة .
9- إنشاء مدونات مواقع دعوية ومجموعات بريدية للتعريف بنبي الرحمة – بكل اللغات - ومن السهل جدًا إنشاء مدونة مجانية على موقع مثل blogspot.com
10 – عمل كروت شخصية .. الوجه الأول يشتمل على بيناتك والوجه الثاني يشتمل على شعار " معًا لنصرة نبي الرحمة " أو نحو ذلك من النصائح العملية المفيدة .
11- حث الخطباء على تناول القيم الحضارية في السيرة النبوية وعدم الإغراق في الجزئيات .
12- حث المعلمين والتربويين على نشر القضية بين جموع الطلاب .
13- العمل على إقامة المعارض الفنية والدعوية في المدارس والجامعات للتعريف والنصرة .
14- إقامة مخيمات ومعسكرات صيفية تتناول فعاليات ومحاضرات للنصرة والتعريف بنبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم -
15- عقد الدورات العلمية التي تتعلق بمنهج السيرة وكيفية الاستفادة منها .
15- نشر فتاوى العلماء في حكم سب النبي أو التعريض بجنابه – صلوات الله وسلامه عليه - .
16- على كل مسلم حر شريف أن يقاطع منتجات الأعداء " الصهاينة والأمريكان" والدول التي تسيء لنبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم - . عار على المسلم أن يُدخل بيته هذه المنتجات أو يطعم منها بطون أولاده !

منتدى الكتْاب
"مساحة حرة لآراء العلماء والباحثين والكُتّاب"

نحو التمكين
كتابنا "نبي الرحمة" وأمثاله من الكتابات الجادة .. أنا أعتبره من مبشرات الغلبة القادمة والتمكين، وأحرى به أن يساهم في تغيير واقع الأمة على الصعيدين الداخلي والخارجي . " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون"
فريد عبد الخالق
*******
نبي الرحمة ووقعنا !
ليس من المعقول أن نجد في عصر ارتفعت فيه رايات الظلم ، وسمات الإظلام أن نترك جوانب مضيئة، من تراثنا وديننا يغفلها الكثيرون عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهم تلك الصفات التي اتسم بها " الرحمة" ولم تكن هذه الصفة بادية عليه فحسب، وإنما كانت خلقا لصيقا اتصف به لدرجة أن الله، وصفه به ، فقال تعالى :" لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" وقال عن نفسه صلى الله عليه وسلم "أنا نبي الرحمة" ولم تكن الشهادات على مستوى الكلام اللفظي، بل امتدت للواقع العملي فكان خلقه القرآن، وكان يتعامل مع الناس جميعا بعين الرحمة، وكان يقول "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" و ليس هذا فقط بل امتدت رحمته للحيوان فجرم حبس الهرة وتوعد الفاعلة بالنار، وامتدح من رحم كلبا ووعده بالجنة..
وفك الأسير، وأحسن إليه، ورحم قتلى الحروب من المشركين فواراهم الثرى، كل هذا في زمن كانت الجاهلية فيه متعمقة في الغلظة، والظلم فيها أساس الحياة، والقانون فيها قانون الساعد والسلاح والقوة.
فهذه حياة نبينا التي تتسم بالرحمة، وهده مدنيتهم التي لا تعرف إلا الخراب والدمار والقوة فيها أساس الحكم وليس العدل . والبطش بالآخرين أساس حياة الظالمين. فانظر وتفكر بالأمر، ستجد عجبًا بين حال الإسلام وحياة نبيه ، وترك المسلمين للنهج، وطمع الآخرين ..فقط أريدك أن تتدبر الأمر بروية..
وفق الله تعالى الجميع للعمل بالشرع وإعلاء رايته، والسير وراء خاتم المرسلين نبي الرحمة
ا. د / محمد عبد اللطيف البنا
مدير تحرير النطاق الشرعي
بشبكة إسلام اون لاين
*******

الغرب والإسلام ( رؤية سيكولوجية )
تبدى الغرب على حقيقته ، وزالت القشور ، وربما إرهاصات الأحداث المؤلمة التي يشهدها العالم الإسلامي ، على ما فيها من ألم وقتل وتعذيب واستضعاف للأمة المسلمة ، واستهانة بها وبمقدساتها وقيمها وثوابتها ، ولكن ذلك على الرغم من آلامه ووحشيته ، أزال القناع عن الوجه البشع للغرب ، بما فيه من عنصرية مقيتة ، وأحادية انفعالية هائجة مائجة .

وأيامنا تشهد مهزلة عالمية للقيم المدنية التي يدعو لها المجتمع الغربي ، وأصبحت مصدر تنكيت العالم ، في ما يدعونه من الديمقراطية وحقوق الإنسان ، والحرية التي لا تعرف ذوقاً ولا اعتباراً للإسلام ، في ضوء نظرة عنصرية ، تحترم فيها الديانة المسيحية واليهودية ، والمعتقدات الأخرى ، ولا تجد طاقتها وجهدها إلا في النيل من الإسلام ورسالته ، وتوجه كيدها العالمي عبر الصحف والانترنت للهجمة على الرسول الأكرم محمد  ، حتى أصبح مشروعاً غربياً منظماً، نسمعه كل يوم ، في صحف متنوعة ، ومواقع متعددة ، في رسالة عدائية منظمة ، تبدي مساحات من القلق الغربي من سرعة انتشار الإسلام ، وبالأخص بدايات اعتلائه مناصب قيادية في ضوء لعبة الديمقراطية ، التي يقبلها المجتمع الغربي ، إنهم يريدون إسلاما ، على مزاجهم هشاً سلبياً يتيح مساحات لاستهلاك بضائعهم الفكرية المتهاوية ، وسلخ المسلم من دينة ، حتى يكون كائن مهجن من بضائع فكرية متنوعة ، يمكن وصفها بأنها حاويات قمامات الشعوب ، من الأفكار والقيم المتهاوية ، فهذه الصورة المثالية التي يريدها الغرب لأبناء الأمة المسلمة .

انكشف الغرب ، وتهاوت مقالته الدعائية ، وغدا على وجه الحقيقة ، لصوصية ، تنادي بالقيم في عقر دارهم ، ويصدرون العنف والأرهاب والدمار والقتل والاحتلال ، وإلا كيف نفسر التعاضد الأمريكي مع أوروبا مع اللوبي الصهيوني وهم يعيثون فساداً في العراق، ودموية في غزة ، واحتلالأ معلناً في أفغانستان ، وتهديد وقح للمقاومة اللبنانية، التي رفعت قيم الإسلام عالية ، بأخلاقياتها السامية التي تكاد تكون مفقودة في عالمنا المتساقط أخلاقيا، واستفزاز سافر للسيادة السورية والنهضة النووية الإيرانية ، في استراتجيات سياسية عنصرية مقيتة ، تستهدف القوة في الجسم الإسلامي الواحد .

الإسلام صحوة في الزمان والمكان ، والعزة مرتبطة به ، ولا عزة لنا ، ورسولنا الأكرم يهان ، وتشوه صورته في الغرب الأسود المقيت الحاقد ، فلا عزة لنا إلا باتباع نبينا الأكرم  ، ورفع مقامه عالياً ، في ضوء معطيات العصر وإمكانياته ، ولا عزة لنا إلا بذلك ، ومن هنا يجب التصدي لكل محاولات النيل منه ، ومن رسالته المحمدية السمحة ، إنه النور الساكن في قلوبنا ، وماء الحياة ، الذي يصنع حاضرنا ومستقبلنا ، والطهر السلوكي في كافة مسارات حياتنا .
مهما نالوا من نبينا الأعظم  سيبقى شمساً مشرقة في قلوبنا ، حيث تفتح نوافذها للوجود في طاقة نورانية لا حدود لها ، تتجاوز الدنيا بكافة مساحاتها ، لتنير طريق السالكين على الله تعالى ، إنه الحب الخالد في قلوبنا ، ولا بد لليل أن يسافر بعيدا ، ويسفر الفجر ، فكل متوقع آت ، وكل آت قريب ، ولا بد للأمة المسلمة أن تنهض ، وتتولى مقاليد مشروعها النهضوي التنويري العلمي في العالم أجمع ، فتنشر رسالة النور والتسامح ، ورسالة التواصل الثقافي ، عوضاً عن رسالة الإرهاب الغربي ، والديمقراطية المزورة ، وحقوق الإنسان المشوهة الأحادية ، التي يعتريها دوما قيم اللامساواة ، والحرية الفوضوية العبثية ، التي تدمر الشعوب المستضعفة ، وتختال بنفسها ، لابد للحقيقة أن تنجلي ، لا بد ولو عن قريب .
د. سعاد جبر
كاتبة وناقدة من الأردن
suad_jaber@hotmail.com

********
حجة على الغرب وحجة علينا
إن ما يفعله الغرب من الإساءة للنبي الأكرم صلوات الله عليه وآله وصحبه ما هو إلا حجة تقام عليه والتي عجزنا نحن عن إيصالها إليه، كما أنها عمل دعائي بغير رضانا ..
بل وبغضبنا للفت الانتباه للإسلام..
ثم إن ما يفعله أيا كان للإساءة لهذا الدين ولرسوله لا يملك حجة واحدة
مقبولة عقلا حتى يمكنها بناء القناعات بعدم مصداقية دين الله، وعليه، فإن الأمر فيه ما يخدم الإسلام، ولا يعني هذا الرضى عما يفعله اللؤماء من إساءة لنبينا.. كلا ! بل نحن نعلم تشريعه في حق من يسيء إليه .. إنه إن نال المسيء عقوبته أفاد غيره وألجم شيطانه ووفر عليه وساوسه..
محمد محمد البقاش
أديب وباحث وصحافي من المغرب
maisa_rose@yahoo.com
***********
ماذا فعلنا للدفاع عن سيد البشر ؟
لقد أسهمت حركات التنصير ومؤسساتها الدينية في التشكيك في الإسلام والطعن في مقدساته، ، ولا تخفى علينا كتابات كثير من المستشرقين داخل الدوائر الأكاديمية، وانتهاء بقنوات الاتصال ووسائل الإعلام المعاصرة، وكل يلمس تصعيد حملات الدعاية المناوئة للإسلام وتشويه صورته أمام الرأي العالمي بشكل محموم ، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، والتي أشعلت جذوة نيران تشتعل تحت كثير من رماد الشبهات المتراكمة ضد الدعوة الإسلامية الحق ، وها نحن نسمع كل يوم هذه الإساءات تصب على رؤوس المسلمين وليس آخرها التشويه الكاريكاتوري المسيء لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم - المنشور في صحف ومجلات دنمركية ونرويجية، فالتشويه والصمت عن محاسن الإسلام هما السلاحان الرئيسيان لبعض وسائل الإعلام الغربي في تشكيل الرعب الهستيري من الإسلام، بل بلغ الأمر التطاول على مقام سيد الخلق والمرسلين وشتمه علناً من قبل رموز دينية مسيحية ويهودية وأخرى سياسية عبر وسائل الإعلام، بل والدعوة إلى توجيه ضربة عسكرية، انتقامية أو وقائية في إطار ما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب، لهدم الكعبة الشريفة وقصف مكة المكرمة بقنبلة نووية. وظهر الصليبيون الجدد بشعارهم القديم والمطالبة برفع الصليب على مقدسات المسلمين وأطلال الحرم المكي بعد تدميره !
لقد أنبأنا القرآن الكريم بهذه الحملات التي تدق طبول الحرب بوسائل الإعلام حيث يقول الله تعالى: "لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ"[ آل عمران: 186]
ولعلنا نطرح تساؤلاً هو: ماذا فعلت الحكومات والمؤسسات الدينية الإسلامية في عالمنا الإسلامي؟
هل ستصمت خوفًا من تهم دعم الإرهاب والحبو لأمريكا.
أم ستشجب وتستنكر كما تعودنا دوما من منظماتنا الاسلامية التي تجري تعقد ندوات في الدنمرك بعد الحادث وكأننا نطيب خاطرهم ونقول لهم حقكم علينا قاطعناكم ياجماعة لا تفعلون ذلك مرة أخرى؟
والآن نشاهد صورًا من دولة السويد ودولانا ومؤسساتنا صامتة وعلى رؤؤسها الطير في حين أوقفت ماليزيا صحيفة لمدة شهر لرسمها المسيح عليه السلام وهو يمسك سيجارة.
إنا لمنتظرون ما هم فاعلون ويا حسرة عليهم وعلينا، بيد أن هناك صورة نمطية للذل والخضوع والخنوع لهؤلاء الذين يبررون أن الدين ربنا يحفظه ويحميه وينسون أن العمل واجب لحماية الدين ! أم ننتظر انتشار البشير والتنصير ونتفرج ومؤسسات الدعوة الإسلامية مكبلة خائفة مرعوبة من حكوماتها !! أما الأفراد فلا بد لهم من أخذ الإذن من مؤسسات الإعلام والدعوة للعمل حتى لو لنشر كتاب واحد !
ا.د ليلى بنت صالح محمد زعزوع
كاتبة وأكاديمية سعودية
www.drlailazazoe.com

***********
أحد.. جبل يحبنا ونحبه
أحد جبل قريب من المدينة المنورة، كانت عند سفحه المعركة المشهورة التي مس المسلمين فيها القرح. وهو الجبل الذي التف المشركون من خلفه ليكروا على المسلمين وليحولوا نصرهم إلى هزيمة.
أحد الجبل الذي استشهد على جنباته أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، مع سبعين من رجال الإسلام الميامين. أحد الجبل الذي كسرت عنده رباعية النبي الشريفة وجرحت وجنتاه حتى سال دمه.
أحد الذي وقف عنده أبو سفيان بعد النصر العارض ينادي اعل هبل.. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأصحابه ردوا عليه، قولوا الله أعلى وأجل.
أحد هذا ما كان له حسب التصور الإسلامي للكون ولعلاقة المسلم بما حوله من مخلوقات أن يكون معلماً للتشاؤم، ولامحطة من محطات النقمة، ولا مركز إشعاع للكراهية والنكد.
كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، أسد الله وأسد رسوله، أثيراً عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حبيباً إلى قلبه، وهو عمه وأخوه من الرضاعة، كما كان الحسين رضي الله عنه ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله لم يحول أحد إلى كربلائية غفلة وجهل وكراهية وإنما أثبته سنة ماضية منبعاً للحب والرضى، فقال: أحد جبل يحبنا ونحبه. قال هذا تقويماً لتصور،وتقريرا لحقيقة ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المسلم وبين هذا الكون الفسيح. قال هذا تأسيساً ليكون كل جبل وكل واد وكل نهر وكل بحر (أحداً).
أحد جبل يحبنا ونحبه..
أي نفس سامية هذه التي تستشعر الحب يفيض من الجمادات وتمتلك القدرة على استقباله مشاعر طرية ندية، وإن كانت قد فقدت حول هذه الجمادات الأصحاب والأحباب. تستقبل الحب من جلاميد صخر، مسها عندها القرح، وعظم فوقها المصاب.
أحد جبل يحبنا ونحبه..
لتفيض النفس المؤمنة على الموجودات كلها حباً حتى تغمرها. دورة للحب في هذا الوجود تشبه دورة الماء الذي يروي كل ما يمر به. والإنسان بقلبه ونفسه وروحه وجسده، محطة الإرسال ومحطة الاستقبال يفيض حباً على كل شيء، ويستقبله من كل شيء.
أحد جبل يحبنا ويحبه..
أي حالة من الصفاء الوجودي التي تستشعر الحب يفيض من الوجود كل الوجود، بينما يغفل عنه الكثيرون، الذين تعطلت في نفوسهم القدرة على الاستشعار، والقدرة على الأحساس. النفوس المؤمنة وحدها هي التي تستشعر الحب يفيض من الأحياء ومن النباتات ومن الجمادات تستشعره درجة، وتستقبله ثانية، وتتبادله ثالثة، حتى مع الموطن الذي كان فيه جرح وقرح وهذه رابعة.
أما الكراهية والبغض فهي حالة لا يعرفها قلب المؤمن، ولا تصدر عن نفسه، إلا لتصبغ الشر المجرد والإثم المحض. تكره الشر المتلبس في إنسان، ولا تكره الإنسان، وتبغض الإثم الذي يواقعه، وتذكر دائماً أنه أخوك، فتظل يدك أبداً ممدودة إليه بالحب لتستنقذه من الشر والإثم الذي هو فيه.
زهير سالم
مدير مركز الشرق العربي - لندن
zuhair@asharqalarabi.org.uk

********
نبي الحب !
الحب أنقى عاطفة إنسانية في الوجود ولها عظمة كعظمة الاعتقاد أو الإيمان يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، قرن الرسول الكريم هنا الإيمان بالحب لتكوين الاخوة الاسلامية ، كقناة يدخلها المرء ليغتسل من أدرانه ويرتقي سلم الاتصال الدائم بالله تعالى ، ومفردات الإيمان والحب والأخوة تفرض على الانسان أن يكون على قدر عالٍ من الأخلاق وإلا كيف استطاع رسول الرحمة ان يأخذ مكانته في قلوب الناس ويدعوهم الى حضن الاسلام مالم يكن مثالية حية من الأخلاق ، إذ قال الله تعالى : (وإنك لعلى خُلق عظيم ) .إن الأخلاق الحسنة التي حملها الرسول الكريم كانت لها ثقل كبير في اجتذاب الناس والدخول الى الإسلام وإنقاذهم من ظلمات الكفر والجهل وفوضى السلوك ... نعم بالحب كجذر للأخوة وسلوك طريق الأخلاق الحسنة، يعيش الانسان تحت خيمة الإسلام سعادة الحياتين ، الدنيا والاخرة .. قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - (إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الانبياء والشهداء يوم القيامة بمكانتهم من الله . قيل يارسول الله تخبرنا من هم؟؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير ارحام بينهم ولا اموال يتعاطونها ، فوالله ان وجوههم لنور وانهم لعلى نور لايخافون اذا خاف الناس) وقرأ – صلى الله عليه وسلم - : (آلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون ). فما أحرانا أن نقتفي هذه الآثار العظيمة .. فالمسلم يشع نور المحبة ويمنحها الاخر دون منّة سواء لأخيه المسلم أم لأخيه في الإنسانية هذا الإسلام وهذه مسيرته ، فتعساً للذين يتصيدون في الماء العكر من أعداء الإسلام دين المحبة...
وجدان عبدالعزيز
كاتب عراقي
wijdan_abd@yahoo.com
*******
الرحيم شيّد حضارة والمتهوّسون صنعوا صُلبان الدم
الإمبراطورية الثالثة التي أسسها نبي الصحراء محمد كانت عجيبته الكبرى وبناءه المجيد، هذا البنّاء العظيم ( محمد ) شيّد ملكا وسلطانا امتّد من حافات المحيط الأطلسي حتى سهول الصين ومن جنوب فرنسا حتى أواسط أفريقيا في سنوات معدودات لا يكفين لبناء قرية .. عمل محمد الديني والمدني استغرق ثلاث وعشرين سنة أمضى ثلثها في مكة خائفا يترقب وممنوعا من الاتصال بأي شخص إلا سراً ، لكن يثرب قريته الطينية التي هاجر إليها أخيرا قُدِر لها أن تكون سيدة الكون بلا منازع .
هل لك أن تتخيل كم من الجيوش سيحتاج الرجل وكم من الحروب سيخوض وكم من الأموال سيمتلك ليحقق ذلك ، اجل لقد كان جيش محمد – صلى الله عليه وسلم - مؤلفا من بضع مئات !! ورجاله لم يكونوا يمتلكون ما يقيم أودهم من التمر والخبز ، وفي إحدى الحروب وهي حرب الخندق كانوا يستعيرون ثياب نسائهم ليتقوا بها برد الشتاء ، إن حروبه وغزواته الكثيرة والتي بلغت أكثر من اثنين وعشرين حربا وغزوة عمّ بعدها الإسلام وتعاليمه كل جزيرة العرب لم يُقتل خلالها أكثر من ثمانمائة وخمسين رجلا من جميع المتقاتلين من المؤمنين والكافرين ..
هذا العدد المتواضع كان اقلّ بكثير من أعداد القتلى الذين يسقطون في أية معركة تافهة بين أية قبيلتين عربيتين أو الذين تدوسهم الخيل في نزهة صيد من نزهات كسرى أو قيصر إبان ملكهما العضوض ، انه حقا ثمن زهيد لنشر دين وإقامة دولة وبناء حضارة يتفق الجميع على دورها المحوري في البناء الإنساني الكوني في كرتنا الارضمائية ، وانه أيضا لقربان معقول ومبارك لنشر روح أخرى في الكون غير روح الإيقونات والنيران المقدسة وآلهة الطين التي كانت تحكم العالم القديم والتي رأينا جزءً من سفالتها أثناء الحروب الصليبية التي أجد من واجبي قبل التحدّث عنها أن أنبه إلى إن تبيين وكشف سفاهة وانحطاط إتباع دين ما أو الإشارة إلى الأدران التي لحقت بأي ديانة لا يعني بالضرورة معاداة أصل ذلك الدين أو الحقد عليه أو السعي للانتقاص من مؤسسه الأول ، فمن الواضح لمتتبعي تاريخ الأمم المتدينة التي ظلت تنافح طويلا عن انتمائها الديني , إن مسيرة أبنائها المتدينين كانت في كثير من الأحيان سلسلة من الخيانات الكبرى لروح الرسالة الأصلية ومبادئ صاحبها الأول ، وان التطاحن والاحتراب الطائفي هو بضاعة مُزجاة لبعض الخبثاء المجاذيب الذين يعيدون تسويقها للدهماء بعد دمغها بماركات تجارية إلهية أو سماوية أو أخروية – سمها ماشئت – .
لقد بدأت قصة الحروب الصليبية التي استغرقت قرنين من الزمان عندما لبّى العالم المسيحي الغارق في التخلف آنذاك نبوءة مجذوب ارعن اسمه بطرس ، ذلك الجندي القديم الذي ترهب بعد أن طرأ على حياته الروحية شيء من المس جراء ما لاقاه من سوء المعاملة من قبل بعض المسلمين عندما كان حاجّا إلى بيت المقدس ، فحلم بأنه مرسل لدعوة أوربا إلى تحرير الأرض المقدسة ، وقبل هذا كان رجال الاكليروس قد أوجبوا الحج إلى تلك الديار وجعلوه فريضة مكفِّرة لأسوء الجرائم وأبشع الرذائل .. والتقت هلوسات بطرس الذي سمي بــ ( الناسك) مع رغبات البابا أوربان ومصالح القيصر الروماني الكسيس كومنين وبقية سنيورات أوربا، فعُقد في ايطاليا مؤتمر سنة 1095م لهذا الغرض برعاية الحبر الأعظم ورددت جموع الغوغاء (( الرب يريد ذلك )) مطالبة بالزحف نحو فلسطين ، وتألف جيش ابتدائي من العصابات قوامه 130 ألف رجل كان على رأسه بطرس الناسك فزحف بحركة شاملة مابين بحر الشمال ونهر التيبر ، وقد أكرمت البلدان الاوربية جيش الرب هذا بتوفير الأرزاق والدعم في بادئ الأمر , وما إن وصل إلى بلغاريا التي كان سكانها قليلي الحماسة لمثل هذه الهستريا الجماعية فأبوا أن يضّيفوا هذه العصابات مجاناً مما اغضب الصليبين فاخذوا في نهب قرى تلك البلاد وذبح أهليها وارتكبوا أبشع الجرائم بحق السكان المحليين مثل تقطيع الأطفال إربا إربا وشيّهم كالخراف وقد اضطر الأتراك المسلمين في آسيا الصغرى لمقابلة جيش الوحوش هذا بقسوة وصلابة ولم يلبث هذا الجمع أن أُبيد ، ثم توالت بعده الحملات الصليبية وكان بعضها يتألف من مليون مقاتل .. وقد تميز الصليبيون في جميع حملاتهم بأنهم اشد الوحوش نذالة وخسة فقد كانوا لايفرقون بين الحلفاء والأعداء. والمحاربين والعزل , يقول المؤرخ الراهب روبرت عن دخول الصليبيين للقدس :(( وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل وذلك كاللبؤات التي خُطفت صغارها ،وكانوا يذبحون الأولاد والشيوخ ، وكانوا لايستبقون إنسانا ، وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية ، فيا للشره وحب الذهب ، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث ، فيا لتلك الشعوب العمي المعدة للقتل ، ثم احضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم ، وسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاكية ليباعوا فيها )). وقد كان سلوك الصليبين عند دخولهم القدس مناقضا تماما لسلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب عندما دخلها قبل قرون , يقول الكاهن ريموند داجيل كاهن مدينة لوبوي عندما روى خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر : (( لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان ، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك وكانت الأيدي والأذرع تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها ، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعث من ذلك إلا بمشقة )) ..وقد شمل الانحطاط والسفالة جميع المشتركين في الجهد الصليبي المسعور ، حتى من يفتخر به المسيحيون ويسمونه قلب الأسد فقد ذبح ريكاردوس ملك انكلترا هذا ثلاثة الآف أسير مسلم أمام معسكر المسلمين ،كانوا قد سلموا أنفسهم إليه بعدما قطع لهم عهداً بحقن دمائهم ليثبت انه ابعد الناس عن قيم النبل والفروسية التي كان يتمتع بها أمير الجيش الإسلامي آنذاك الناصر صلاح الدين الذي لم يبخل عليه بالطعام والمرطبات و بطبيبه الخاص أثناء مرضه ، ومع إن الحملات الصليبية الست الكبرى استمرت لقرنين من الزمن فأنها فشلت في أن تحتل القدس أو تحتفظ بها ..لكنها نجحت في التأسيس للحقد والصراع المزمن بين أبناء الحضارتين الإسلامية والمسيحية ، هذا الصراع الذي يجعل المسلمين يشكّون بأي جهد سياسي أو عسكري صادر من الغرب تجاههم , وهو الذي يجعلهم يحسبون هفوة لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش في بداية حملته العسكرية على العراق التي وصف فيها حملته تلك بالحملة الصليبية ، يحسبونها حلماً مقيماً وخطة متأصلة في قلوب المسيحيين .. بعد هذا هل يحق لنا أن نشتط فنقول إن عيسى وإنجيله المترع بالسلام والمحبة كانا مسئولَين عن برامج القتل وخطط الفساد التي ينفذها أتباعه المحسوبين على ديانته ، لاشك إنهما بريئان كبراءة محمد وقرآنه من صفاقة بعض المسلمين وانحطاطهم ، ومها يكن من أمر فأن رجلا استطاع أن يبعث امة ويقيم حضارة وينشر دينا كبيرا في بضع سنين .. لهو مزاج الرحمة الحقيقي ونزوة الكون الكبير العتيقة .. انه الرحيم محمد ...

بركات محي الدين
مفكر وباحث عراقي
barakatmr@yahoo.com
********
رجل من الشرق عظيم
النبي الذي لم تكن له عصا سحريه
يشق بها البحار
ويفجر بها العيون والانهار
النبي الذي لم يأمر الرياح
و لم يأمر الجن ولم يكلم النمل
النبي الذي لم يحيي الموتا
ولم تنزل عليه مائدة من السماء
ولم ينزل عليه المن و السلوى
***
النبي الذي ربط على بطنه الحجر من الجوع
النبي الذي كُسرت أسنانه الأمامية في احد المعارك
النبي الذي هاجر من مكة إلى ألمدينه هو وصاحبه سيرا على الإقدام في صحراء لم تطأها قدم انسان
النبي الذي قال لجلدية عندما قدر عليهم اذهبوا فانتم الطلقاء

***
هوالنبي محمد بن عبد الله النبي الأمي الصادق الأمين
نبي المنطق ولا شيء غير المنطق.
رجل من الشرق عظيم
هلّ على أرضِ الحجاز عظيم
دنا فأقبل في الربوع نعيم
صلى عليك الله يا نور الهدى
صلوا عليه و سلموا تسليم
صارت بمقدمهِ العروبة معْقِلاً
للعلْمِ تحْمِلُ شعْلة التنظيم
رجلٌ على عرْش الكمال تربّع
كيفَ وكان حفيدُ إبراهيم
مثل بياض الثلج كان فؤاده
مثل غِلال القمْح كان كريم
مثل سِباع البرّ في نظراتهِ
عزُّ الرُجولة صادقٌ وحكيم
صعبٌ يُهاب إذا تقدم في الوغى
كالصقْرِ يجْثم فوْق كل غريم
وإذا تقدم في السلام كإنه
مطرٌ تحايا منهُ كل هشيم
رجلٌ من الصحراء يعْشقُ رمْلها
لو مسّها ضرٌّ تراهُ سقيم
يبْني على بحْر الرمال عرينُهُ
بيتٌ من السعفِ وبضعُ أديم
ترى الخيول مع الجمَال تحفّه
وترى النخيلَ مع الرياح تهِيم
سبْحان من جعلْ الصحارى موْطِناً
في وصْفِها يحْتارُ كل عليم
التمْر واللبن المخضُّ غِذاؤه
وفِرَاشُهُ قشٌ عليه كليم
لا يبتغي ترف الحيـاة و عزَهـا
لا يبْتغي جاهاًٌ ولا تعْظيم
دانت لهُ روما وفارس يوْمَها
تحْت خِيام البدوِ كان يُقيم
إن محاسِنُهُ أحِير لوصْفِها
طبْعُ التواضع فيه كان عظيم
رجلٌ أكرر قلّ ما أمْثالُهُ
وكأنّهُ ملَكٌ لهُ تكْرِيم
هبطَ من العلْياء يحْمِل نُوره
رجلٌ إذا ذُكِرَ العِظَامُ زَعِيم

محمد عبد القادر عزوز
شاعر ليبي – بنغازي
mazzuoz@yahoo.com

*******

دعوة لدعم مشروع كتاب نبي الرحمة
مشروع كتاب نبي الرحمة مشروع حضاري كبير نال رعاية نخبة من علماء وكتاب الأمة .
وهو مشروع يهدف إلى نشر كتاب نبي الرحمة على أوسع نطاق وباللغات الحية وإيصاله إلى الساسة والمثقفين والإعلاميين الغربيين ..
إن رجل الأعمال كريك وينن " Craig Winn " أنفق ملايين الدولارات على كتاب "نبي الخراب" المسيىء لخير البرية ، وأنشأ للكتاب موقعًا إلكترونيًا يحمل عنوان الكتاب، للترويج له بين شعوب أوربا ..
لقد أكددت العديد من الدراسات أن أكثر من 60 % من الشعوب الأوربية يعتقدون أن محمد بن عبد الله قاطع طريق ومدعي للنبوة ليس إلا !
لذا نهيب بالمسلمين في كل مكان أن يسارعوا في دعم هذا المشروع الطموح الذي يهدف بالأساس إلى التعريف برسول الله – صلى الله عليه وسلم - بين شعوب الغرب..
فرجال المال والأعمال يساهموا في تمويل المشروع من أموال الصدقات وزكاة المال والوصايا والصدقات الجارية – وهو خير باب في أبواب الصدقات الجارية .."علم ينتفع به" – كذلك المال الذي عرضت له شبهة ويريد صاحبه ان يتخلص من، فهو مال حرام على صاحبه حلال لمثل هذه المشاريع .
وكذلك الإعلاميين والمثقفين والدعاة لهم دور كبير في نشر قضية الكتاب، في وسائل الإعلام المختلفة .. ليصدق فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم " الدال على الخير كفاعله " .
أيضًا لسنا في غنى عن الدعم المعنوي من الأخ القارىء ولو بدعوة بظهر الغيب لكل من شارك وساهم في هذا المشروع .
للاستفسار ومزيد من المعلومات
www.nabialrahma.com
nabialrahma@gmail.com
هاتف: 0020104420539
*****************

المصادر والمراجع

• القرآن الكريم : كتاب الله تعالى .
• إنجيل برنابا: ترجمة : خليل سعادة، تقديم : محمد رشيد رضا، القاهرة : دار الفتح للإعلام العربي.
• إبراهيم خليل أحمد(القـس إبراهيم فيلـوبـوس سابقًا) : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ، مكة المكرمة : المكتبة التجارية، 1409هـ.
• ابن أبي شيبة( أبو بكر عبد الله بن محمد الكوفي) : المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق : كمال يوسف الحوت، الرياض : مكتبة الرشد، الطبعة الأولى ، 1409.
• ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج): صفة الصفوة، تحقيق : محمود فاخوري - محمد رواس قلعه جي بيروت : دار المعرفة، الطبعة الثانية ، 1399 – 1979
• ابن القيم (محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي) : زاد المعاد في هدي خير العباد ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط، بيروت – الكويت: مؤسسة الرسالة - مكتبة المنار الإسلامية -الطبعة الرابعة عشر ، 1407 هـ- 1986م،
• ابن القيم(محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي) : إغاثة اللهفان، تحقيق : محمد حامد الفقي، بيروت : دار المعرفة، الطبعة الثانية ، 1395 – 1975
• ابن حبان (محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي) : صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق : شعيب الأرنؤوط، بيروت : مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية ، 1414 – 1993.
• ابن حجر (أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي) : فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت : دار المعرفة ، 1379هـ .
• ابن حزم (علي بن أحمد بن سعيد الظاهري ) :جوامع السيرة ، تحقيق : إحسان عباس، القاهرة: دار المعارف ، الطبعة الأولى ، 1900 م
• ابن حزم (علي بن أحمد بن سعيد الظاهري): الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة: مكتبة الخانجي، د.ت
• ابن رجب ( أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي): جامع العلوم والحكم، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأولى ، 1408هـ.
• ابن سعد (محمد بن سعد بن منيع أبو عبدالله البصري الزهري): الطبقات الكبرى، تحقيق : إحسان عباس، بيروت: دار صادر، الطبعة الأولى 1968 م.
• ابن سيد الناس (أبي الفتح محمد بن محمد بن عبدالله بن محمد بن يحيى)(ت 734هـ): عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، بيروت : دار الآفاق، 1977م.
• ابن عبد البر (بو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري): الاستذكار، تحقيق : سالم محمد عطا ، محمد علي معوض، بيروت : دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى ، 1421 - 2000
• ابن عساكر (علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي):تاريخ دمشق، تحقيق: علي شيري، دمشق : دار الفكر . د.ت
• ابن كثير(إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية، بيروت:مكتبة المعارف، د. ت.
• ابن كثير(إسماعيل بن عمر): السيرة النبوية، بيروت: مكتبة المعارف،د. ت.
• ابن ماجه (محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني): سنن ابن ماجه، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت : دار الفكر، د.ت .
• أبو الحسن علي الحسني الندوي: السيرة النبوية، دمشق : دار القلم، الطبعة الثالثة، 1427هـ-20062.
• أبو الحسن علي الحسني الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، القاهرة : مكتبة السنة، 1410هـ - 1990م.
• أبو بكر جابر الجزائري : هذا الحبيب محمد رسول الله يا محب، القاهرة : المكتبة التوفيقية، د. ت.
• أبو داود (سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي) : سنن أبي داود ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت : دار الفكر ، د.ت.
• أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ر الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الرابعة ، 1405هـ.
• أبو يعلى (أحمد بن علي بن المثنى الموصلي التميمي) : مسند أبي يعلى، تحقيق : حسين سليم أسد، دمشق :دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى ، 1404 – 1984.
• آتين دينيه وسليمان الجزائري : محمد رسول الله، ترجمة : عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم محمود، القاهرة : الشركة العربية، الطبعة الثالثة ـ 1959 م،
• أحمد الحجي الكردي : بحوث في علم أصول الفقه، د. ط .
• أحمد أمين : التكامل في الإسلام، د. م : دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، د.ت .
• أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني : المسند، القاهرة: مؤسسة قرطبة، د.ت .
• أحمد ديدات: ماذا يقول الكتاب المقدس و الغرب عن محمد، الطبعة الأولى ، القاهرة: الدار المصرية للنشر والتوزيع ، 1404هـ.
• أحمد راتب عرموش: قيادة الرسول السياسية والعسكرية، بيروت: دار النفائس، الطبعة الثالثة، 1423هـ- 2002م.
• أحمد سوسة : في طريقي إلى الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2006م
• أحمد عبد الرحمن إبراهيم : الفضائل الخلقية في الإسلام، القاهرة : دار الوفاء، الطبعة الأولى، 1409هـ-1989م .
• أحمد فريد : وقفات تربوية مع السيرة النبوية، الأسكندرية : دار ابن خلدون، د. ت.
• آرثر ستانلي تريتون: أهل الذمة في الإسلام ، طبعة لندن ، 1951 م.
• آرلونوف : مقالة "النبي محمد "، مجلة الثقافة الروسية ، ج 7 ، عدد 9..
• أرنولد توينبي: الإسلام والعرب والمستقبل، ترجمة: نبيل صبحي الطويل، د.ط.
• أكرم ضياء العمري : السيرة النبوية الصحيحة، الرياض : مكتبة العبيكان، ط5، 1424هـ 2003م
• أكرم ضياء العمري ، موقف الاستشراق من السنة والسيرة ، بحث منشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة ، 1995م .
• الألباني (محمد ناصر الدين) : تمام المنة في التعليق على فقه السنة، المكتبة الإسلامية ، دار الراية للنشر، الطبعة الثالثة ، 1409هـ .
• الألباني (محمد ناصر الدين) : مختصر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، بيروت : المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1405 هـ – 1985م.
• الألباني (محمد ناصر الدين): إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل(8 مجلدات)، بيروت : المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية ، 1405هـ – 1985م.
• الألباني (محمد ناصر الدين): السلسلة الصحيحة ،الرياض: مكتبة المعارف، د.ت.
• الألباني (محمد ناصر الدين): صحيح الترغيب والترهيب، الرياض: مكتبة المعارف - الطبعة : الخامسة.
• الألباني (محمد ناصر الدين): صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، بيروت : المكتب الإسلامي، د. ت.
• الألباني (محمد ناصر الدين): ضعيف الترغيب والترهيب، الرياض : مكتبة المعارف، د. ت.
• الألباني (محمد ناصر الدين): ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة - 1413-1993م.
• الألباني(محمد ناصر الدين) : تخريج أحاديث كتاب مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، بيروت : المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى ،1405 هـ- 1984 م.
• البخاري (محمد بن إسماعيل ): صحيح البخاري، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الثالثة ، 1407هـ – 1987م.
• البيهقي (أحمد بن الحسين بن علي بن موسى): سنن البيهقي الكبرى ، تحقيق : محمد عبد القادر عطا،- مكة المكرمة: مكتبة دار الباز ، 1414هـ - 1994م.
• البيهقي (أحمد بن الحسين بن علي بن موسى): شعب الإيمان، بيروت : دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، 1410هـ.
• التبريزي (محمد بن عبد الله الخطيب): مشكاة المصابيح، تحقيق: تحقيق محمد ناصر الدين الألباني بيروت : المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة - 1405 هـ- 1985م.
• الترمذي (محمد بن عيسى أبو عيسى السلمي) : الجامع الصحيح، تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون ، بيروت : دار إحياء التراث العربي، د. ت.
• الحاكم (محمد بن عبدالله أبو عبدالله النيسابوري): المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت :دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى ، 1411هـ - 1990م،
• الحميدي (عبدالله بن الزبير أبو بكر ) : مسند الحميدي، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت – القاهرة : دار الكتب العلمية، مكتبة المتنبي ، د. ت.
• الدارمي (عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد ) : سنن الدارمي، تحقيق : فواز أحمد زمرلي، خالد السبع العلمي، بيروت : دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى ، 1407.
• السهيلي: الروض الأنف، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل ،القاهرة: 1967 م.
• السيد سابق: إسلامنا ، القاهرة: الفتح للإعلام العربي، د. ت .
• الطبراني (سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم) : المعجم الأوسط، تحقيق : طارق بن عوض الله بن محمد ، ‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، القاهرة: دار الحرمين ،1415 هـ.
• الطبراني (سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم) : المعجم الصغير، تحقيق : محمد شكور محمود الحاج أمرير، بيروت : المكتب الإسلامي ، الطبعة الأولى ، 1405 – 1985.
• الطبراني (سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم) : المعجم الكبير، تحقيق : حمدي بن عبدالمجيد، الموصل : مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الثانية ، 1404 – 1983.
• الطبراني (سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم) : مسند الشاميين، بيروت : مؤسسة الرسالة، تحقيق : حمدي بن عبد المجيد، الطبعة الأولى ، 1405 – 1984.
• الطبري(محمد بن جرير أبو جعفر) :تاريخ الأمم والملوك( تاريخ الطبري)، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407هـ.
• الغزالي (محمد بن محمد أبو حامد) : المستصفى في علم الأصول، تحقيق : محمد عبد السلام عبد الشافي ، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى ، 1413.
• الكتاب المقدس . طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
• الكولونيل بودلي: حياة محمد، لندن، 1946م.
• المتقي الهندي (علي بن حسام الدين ): كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، بيروت : مؤسسة الرسالة، 1989 م .
• الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف الكويتية، الكويت.
• النسائي (أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن) : المجتبى من السنن، تحقيق : عبدالفتاح أبو غدة حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية، الطبعة الثانية ، 1406 – 1986.
• الهيثمي (نور الدين علي بن أبي بكر ) : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، بيروت:دار الفكر، 1412 هـ.
• إميل درمنغم : حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة : دار إحياء الكتب، الطبعة الثانية، 1949 م .
• إميل درمنغم :حياة محمد، ترجمة : محمد عادل‌ زُعَيْتِر، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الطبعة الثانية، 1988م
• آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد ، د. م: دار مادرس للنشر، 1932م.
• أنجوغو أمبكي صمب : أروع القيم الحضارية في سيرة سيد البرية، السنغال : مطبعة دار الكتاب يمبل دكار،1427هـ 2006م
• برهان غليون ومحمد سليم العوا: النظام السياسي في الاسلام، بيروت – دمشق: دار الفكر، الطبعة الأولى ، 2004.
• توماس كارلايل : الأبطال وعبادة البطل والبطولات في التاريخ ، ترجمة : محمد السباعي. كتاب الهلال، القاهرة: العدد 326 صفر 1398
• جاك ريسلر :الحضارة العربية، ترجمة : خليل أحمد خليل، عويدات للطباعة والنشر.د.ت
• جان باغوت غلوب : الفتوحات العربية الكبرى، د .ط
• جمعة علي الخولي: معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، والرد على ما يثار حولها من شبهات، الرياض: مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود، العدد 57، 1423هـ - 2003
• جورج حنا : قصة الإنسان، طبعة بيروت- دار الثقافة، 1959م.
• جورج سارتون : الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، تعريب عمر فروخ، بيروت : مكتبة المعارف، 1952 م.
• جوستاف لوبون: الدين والحياة، ترجمة عادل زعيتر، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الطبعة الثانية، 1988.
• جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الطبعة الثانية، 1988.
• جون وليام دريبر : تاريخ التطور الفكري الأوروبي، المجلد الأول، طبعة لندن 1875م.
• حسن عزوزي: الإسلام وترسيخ ثقافة الحوار الحضاري، مجلة البلاغ، يناير 2007
• حسين محمد يوسف : سيد الدعاة -صلى الله عليه وسلم، القاهرة: دار الإنسان ، القاهرة ط. 1399هـ.
• حكمت بشير ياسين، عناية السنة النبوية بحقوق الإنسان، جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، الطبعة الأولى، 1426هـ-2005م.
• خالد محمد خالد : رجال حول الرسول، القاهرة : دار المقطم، الطبعة الأولى، 1415هـ-1994م.
• دانييل بريفولت:نشأة الإنسانية، ترجمة: سهيل حكيم ، دمشق: وزارة الثقافة السورية.د.ت.
• ديسون : محمد بن عبد الله: تعريب عمر أبو النصر، د . م، 1934م
• ديفيد بنجامين (عبد الأحد داود): محمد في الكتاب المقدس، ترجمة : فهمي شما، مراجعة : أحمد محمد الصديق . مطابع الدوحة الحديثة ، د. ت.
• ديوان شند شرمة: أنبياء الشرق، طبعة كلكتا ،1935م.
• رالف لنتون : شجرة الحضارة، ترجمة أحمد فخري ، القاهرة: مكتبة الإنجلومصريّة، د.ت.
• راوية أحمد عبد الكريم الظهار: المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام: الرياض: جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، الطبعة الأولى، 1426هـ- 2005م.
• رشدي فكار: نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع خلال القرن الرابع عشر الهجري، القاهرة : مكتبة وهبة، ط 1، 1980م، ص 31.
• رقية طه جابر العلواني : فقه الحوار مع المخالف في ضوء السنة النبوية، الرياض: جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، الطبعة الأولى، 1426هـ- 2005م.
• روجيه جارودي: دعوة الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، القاهرة / بيروت : الوطن العربي، 1984 م
• رودي بارت : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة : مصطفى ماهر – القاهرة 1967م.
• زيد بن عبد الكريم بن عبد الكريم الزيد : التسامح في الإسلام، الرياض : جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، إصدارات الجائزة، 1426هـ.
• زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، تعريب : فؤاد حسنين علي ، القاهرة: دار المعارف .د.ت
• ستانورد كب : المسلمون في تاريخ الحضارة، الرياض : الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1305هـ 1985م .
• ستيفن ونسيمان : تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة: السيد الباز العريني ، بيروت: مكتبة الحياة، 1413هـ -1993م.
• سيد قطب : معركة الإسلام والرأسمالية ، القاهرة : دار الشروق ، 1415هـ - 1995م
• سيد قطب: في ظلال القرآن، القاهرة : درا الشروق، ط 16. 2000م
• سير توماس أرنولد (إشراف) : تراث الإسلام، بيروت : دار الطليعة ، 1972.
• شاخت وبوزورت: تراث الإسلام ، ترجمة : د.حسين مؤنس وإحسان صدقي، عالم المعرفة، الجزء الأول، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والعلوم الآداب.
• شوقي أبو خليل: الإسلام في قفص الاتهام، دمش: دار الفكر ، الطبعة الثانية. د.ت.
• صفي الرحمن المباركفوري : الرحيق المختوم، المنصورة : دار الوفاء : 1426هـ-2005م.
• عباس محمود العقاد : إسلاميات ، القاهرة : دار المعارف، الطبعة الثانية، 1985.
• عباس محمود العقاد : عبقرية محمد ، القاهرة : المكتبة العصرية- الدار النموذجية، ، الطبعة الأولى، 2000م.
• عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، القاهرة :كتاب الهلال، د.ت.
• عباس محمود العقاد: ما يقال عن الإسلام (سلسلة كتاب الهلال/ 189) القاهرة: دار الهلال. 1386هـ/ 1966م.
• عبد الحسين شعبان :ثقافة حقوق الإنسان، رابطة كأوا للثقافة الكردية، بيروت ، الطبعة الأولى،2001.
• عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله : كمال الدين الإسلامي وحقيقته ومزاياه ، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية، الطبعة الأولى ، 1418هـ
• عبد الله محمد الرشيد: القيادة العسكرية في عهد الرسول ، دمشق : دار القلم، الطبعة الأولى، 1420هـ-1990م.
• عبد الله ناصح علوان : معالم الحضارة في الإسلام وأثرها في النهضة الأوربية، القاهرة : دار السلام ، ط 2، 1404هـ - 1984م ، ص 155
• عبد الله نجيب سالم : مواقف إنسانية في السيرة النبوية، بيروت : دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1994م.
• عبد المجيد بن عزيز الزنداني وآخرون : البرهان شرح كتاب الإيمان، د.م : طباعة مركز البحوث بجامعة الإيمان، الطبعة الأولى، 1427هـ - 2006م.
• عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا، الكويت : دار القلم، الطبعة الثالثة، 1983م.
• عفيف عبد الفتاح طبارة : روح الدين الاسلامي، بيروت: مطبعة دار العلم للملايين، الطبعة الثامنة، 1969م.
• علي بن برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية، دار المعرفة للطباعة و النشر، 1400 هـ 1980 م
• علي محمد الصلابي : السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث، القاهرة : مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى ، 1426هـ-2005م
• عماد الدين خليل : دراسة في السيرة، بيروت : مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة عشرة، 1422هـ - 2001م .
• عماد الدين خليل : قالوا عن الإسلام ، الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1412هـ.
• فاطمة صالح الجارد : عناية السنة النبوية بحقوق الإنسان، الرياض جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، الطبعة الأولى، 1426هـ- 2005م.
• فريد عبد الخالق: في الفقه السياسي الإسلامي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانية، 1427هـ - 2007م.
• فريد عبد الخالق : تأملات في الدين والحياة، القاهرة : دار التوزيع والنشر الإسلامية،الطبعة الأولى، 1423هـ- 2003م.
• فيليب حتي : تاريخ العرب ، ترجمة : ادوارد جرجي وجبرائيل جبور، بيروت 1965 م
• كارين أرمسترونج :سيرة النبي محمد ،ترجمة :فاطمة نصر، و محمد عناني، د.م: طبعة كتاب سطور ، شركة صحارى.د.ت .
• كونستانس جيورجيو : نظرة جديدة في سيرة رسول الله، تعريب : محمد التونجي، د. م : الدار العربية للموسوعات، الطبعة الأولى، 1983م.
• لايتنر : دين الإسلام ، ترجمة : عبدالوهاب سليم ، دمشق: المكتبة السلفية ، دمشق، 1423هـ
• لورافيشيا فاغليري : دفاع عن الإسلام: ، ترجمة: منير بعلبكي، بيروت : دار العلم، 1960م.
• لويس سيديو : خلاصة تاريخ العرب العام: إشرف علي مبارك باشا ، القاهرة، د.ت
• مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام، ترجمة : عفيف دمشقية، بيروت: دار الآداب، 1980 م
• محمد الخضري: تاريخ التشريع الإسلامي، القاهرة: مطبعة الاستقلال، الطبعة السابعة، 1960 .
• محمد الغزالي : فقه السيرة، القاهرة: دار الشروق، الطبعة الثانية، 1424هـ 2003م
• محمد الغزالي: تأملات في الدين والحياة، الإسكندرية : دار الدعوة، الطبعة الأولى، 1410هـ- 1990.
• محمد الغزالي: خلق المسلم، الإسكندرية : دار الدعوة، الطبعة الثالثة، 1411هـ- 1990.
• محمد أمين حسن : خصائص الدعوة الإسلامية، الأردن : مكتبة المنار، الطبعة الأولى، 1983م،
• محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي: مسند الشهاب، بيروت : مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية ، 1407 هـ– 1986م
• محمد بن عبد الله السحيم: أعظم إنسان في الكتب السماوية ، القاهرة: منشورات مكتبة الخانجي ، د.ت.
• محمد بن عبد الوهاب: مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الرياض: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الطبعة الأولى، 1418هـ.
• محمد بن يوسف الشامي الصالحي (ت 943هـ)،: سبل الهدى والرشاد في سير خير العباد، تحقيق :مصطفى عبدالواحد. مصر:المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي ، عام 1392هـ / 1972م.
• محمد حميد الله : الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، بيروت : دار النفائس، الطبعة السابعة، 1422هـ 2001م.
• محمد حسام الدين الخطيب: نبي المسلمين، ودين الإسلام، والحضارة الإسلامية، المشاركة الفائزة بالجائزة الثانية بمسابقة موقع الألوكة:(انصر نبيك وكن داعياً)، فرع البحث العلمي، 27/11/2006 م 7/11/1427 هـ.
• محمد رجب البيومي: مجلة الحج، العدد 12 السنة 88.
• محمد سعيد رمضان البوطي : فقه السيرة، القاهرة : دار السلام 1419هـ- 1999م
• محمد شريف الشيباني : الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة،. د.ط.
• محمد عبد القادر أبو فارس : السيرة النبوية دراسة تحليلية، عمان : دار الفرقان، الطبعة الأولى : 1428هـ - 1997م .
• محمد عبد القادر أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام، الكويت: الاتحاد الإسلامي العالمي، 1984.
• محمد عزت الطهطاوي: محمد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن ، القاهرة : مكتبة النور، د. ت.
• محمد علي الخطيب : رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، البحث الفائز بالجائزة الرابعة بمسابقة موقع الألوكة: (انصر نبيَّك وكن داعياً)، فرع البحث العلمي. 28/11/2006 م - 8/11/1427 هـ.
• محمد فتح الله كولن : النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية ، ترجمة و تحقيق: لينا عبد القدوس أبو صالح ، بيروت : مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 1999
• محمد مسعد ياقوت : " دور النبي صلى الله عليه وسلم في تحضر العرب"، المقالة الفائزة بمسابقة " انصر نبيك وكن داعياً " من الموقع الإسلامي " الألوكة " .. فرع المقالة الصحفية- 2006.
• محمد مسعد ياقوت : حوار الحضارات : الموجود والمفقود والمنشود، القاهرة: منظمة الكتاب الأفريقيين والأسيويين ، أغسطس 2005م ـ مسابقة مبارك العالمية للسلام والتنمية.
• محمد مسعد ياقوت : دور الإسلام في مشروع حوار الحضارات،مجلة المجتمع، الكويت، العدد1677، بتاريخ 19/11/2005
• محمد مسعد ياقوت :الإسلام والغرب .. حوار وصدام، جريدة الأسرة العربية، العدد 59، بتاريخ : 14\11\2005م.
• محمد مصطفى الزحيلي: التدرج في التشريع والتطبيق في الشرعية الإسلامية، الكويت: ادارة البحوث والدراسات ، اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، سلسلة تهيئة الأجواء، العدد 14، 2007م.
• محمود شيت خطاب : الرسول القائد، بيروت : دار الفكر، الطبعة السادسة، 1422هـ - 2002م
• مسلم بن الحجاج : صحيح مسلم، بيروت : دار إحياء التراث العربي.
• ممدوح إبراهيم الطنطاوي : أخلاقيات الحرب في الإسلام، مجلة الجندي المسلم : العسكرية الإسلامية العدد 112.
• منير محمد الغضبان : المنهج الحركي للسيرة النبوية، المنصورة : الطبعة الخامسة عشرة، 1427هـ 2006م .
• موسوعة تاريخ الحضارات العام، ترجمة: فريد م. داغر، فؤاد ج. أبو ريحان، إشراف: موريس كروزيه، عويدات للطباعة والنشر، الطبعة الأولى ، 2003 م.
• مولانا محمد علي : حياة محمد وسيرته، ترجمة : منير البعلبكي، بيروت: دارالعلم للملايين،1397هـ- 1977م
• مونتجمري وات : محمد في المدينة، ترجمة : شعبان بركات ، بيروت: منشورات المكتبة العصرية ، د. ت
• مونتجمري وات : محمد في مكة ، ترجمة: شعبان بركات ، بيروت: منشورات المكتبة العصرية ، د. ت
• مونتجمري وات :تأثير الإسلام في أوربا في العصر الوسيط. ترجمة: حسين أحمد أمين، بعنوان "فضل الإسلام على الحضارة الغربية" دار الشروق. بيروت. 1983.
• مونتجمري وات:الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر، ترجمة : عبد الرحمن عبد الله، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م
• ناصر بن سليمان العمر : الوسطية في ضوء الكتاب والسنة، د.ط
• نصري سلهب: في خطى محمد، بيروت: دار الكتاب العربي، 1970م
• نظمي لوقا: محمد في حياته الخاصة، القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1969 م.
• هــ. أ. ر. جب : المحمدية ، طبعة لندن ، 1953 م.
• هربرت جورج ولز :معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة، 1967م
• هنري ماسيه : الإسلام، بيروت: منشورات عويدات، 1988م.
• ول ديورانت :قصة الحضارة ، بيروت : مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى، 2003م.
• ياقوت بن عبد الله الحموي أبو عبد الله : معجم البلدان، بيروت : دار الفكر، د.ت .
• يوسف القرضاوي : الإسلام و العلمانية وجهاً لوجه ، القاهرة: دار الصحوة للنشر و التوزيع ، 1408هـ - 1987، ط1
• يوسف القرضاوي : الخصائص العامة للإسلام ، القاهرة، مكتبة وهبة،الطبعة الرابعة، 1409هـ-1989م
• يوسف القرضاوي : الوسطية ودور الإعلام في إبرازها، بحث مقدم لندوة اقرأ الفقهية (رمضان 1427هـ)
• يوسف القرضاوي : خطابنا الإسلامي في عصر العولمة، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الأولى، 1424هــ - 2004م، ص 40 ، 41 .
• يوسف القرضاوي: الإيمان والحياة: القاهرة: مكتبة وهبة، الطبعة التاسعة، 1410هـ- 1990م .
• يوسف القرضاوي: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، القاهرة : مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة، 1406هـ - 1986م.

المحتويات
šŠ¤12
š الإهداء
š4
š المقدمة
š19
š الفصل الأول: من هو محمد  ؟
Šš
š20
š المبحث الأول: تعريفٌ عامٌ بنبي الرَحْمَة 
š20
š المطلب الأول : الميلاد والنشأة
š20
š المطلب الثاني : أخلاق وصفات محمد
š22
š المطلب الثالث : حال العالم عشية البعثة Šš
š23
š المطلب الرابع :النبوة والوحي Šš
š23
š أولاً : شهادة الكتب السماوية السابقة Šš
š24
š ثانيًا: شهادات علماء الغرب: Šš
š24
š 1- شهادة واشنجتون إيرفنجŠš
š24
š 2- شهادة مارسيل بوازارŠš
š25
š 3-شهادة إميل درمنغمŠš
š25
š 4- شهادة لايتنر Šš
š26
š 5- شهادة لورافيشيا فاغليري Šš
š26
š 6- شهادة روم لاندو Šš
š27
š المطلب الخامس : لمحة مختصرة عن سيرة النبي : Šš
š27
š أولاً : أول ما نزل عليه  Šš
š27
š ثانيًا: إسلام العالم والكاتب النصراني ورقة بن نوفل Šš
š27
š ثالًثا:أول من أسلم Šš
š27
š رابعًا: إيذاء المسلمين Šš
š28
š خامسًا: الهجرة إلى الحبشة وإسلام ملك نصارى الحبشةŠš
š28
š سادسًا: الحصار وعام الحزنŠš
š29
š سابعًا: دعوة القبائل ولقاء الأنصارŠš
š29
š ثامنًا: الهجرة إلى المدينة المنورة Šš
š31
š تاسعًا: الفتح وانتشار الدعوةŠš
š32
š عاشرًا: حجة الوداع، ووفاة النبي Šš
š33
š المبحث الثاني: محمد رَحْمَة  للعالم في أدبيات الغربŠš
š33
š المطلب الأول:شهادة إنجيل برناباŠš
š34
š المطلب الثاني: شهادة الراهب النصراني بحيرا Šš
š35
š المطلب الثالث: شهادة العلامة توماس كارلايلŠš
š35
š المطلب الرابع : شهادة المفكر البريطاني لين بولŠš
š35
š المطلب الخامس : شهادة السير وليم مويرŠš
š36
š المطلب السادس: شهادة القسيس السابق دُرّانيŠš
š36
š المطلب السابع : شهادة الكاتب الإسباني "جان ليك"Šš
š36
š المطلب الثامن : شهادة العلامة واشنجتون ايرفنجŠš
š37
š المطلب التاسع : شهادة الباحث الفرنسي جوستاف لوبون Šš
š37
š المطلب العاشر: شهادة المؤرخ الشهير جيمس متشنر Šš
š38
š المبحث الثالث: خصائص رحمته Šš
š38
š المطلب الأول: ربانية الرحمةŠš
š39
š المطلب الثاني : دعوية الرحمة Šš
š40
š المطلب الثالث : عالمية الرحمةŠš
š42
š المطلب الرابع : عبقرية الرحمة Šš
š42
š المطلب الخامس : وسطية الرحمةŠš
š43
š المطلب السادس : عملية الرحمةŠš
š44
š الفصل الثاني : رحمته للعالمين في مجال التنوير والحضارة:Šš
š45
š المبحث الأول: التنوير والتوحيد:Šš
š45
š المطلب الأول : محمد  تنويرياً عملاقًا: Šš
š48
š المطلب الثاني : نضاله في إخراج الناس من الظلمات إلى النورŠš
š49
š المطلب الثالث : نجاح حركة التنوير Šš
š51
š المبحث الثاني: التحضر والرقيŠš
š51
š المطلب الأول : العرب من القبيلة إلى الدولة والأمة:Šš
š51
š أولاً: العرب لم يعرفوا الوحدة الحضارية قبل محمد Šš
š52
š ثانيًا: جهود مضنية من النبي : Šš
š53
š ثالثًا: تميز فكرة الأمة الإسلامية Šš
š54
š المطلب الثاني : إشادة العلماء الغربيين بجهود النبي  Šš
š55
š المطلب الثالث: فضل النبي في تحضر العالم Šš
š58
š المبحث الثالث: التسامح الديني Šš
š58
59š المطلب الأول : محمد[]الحاكم المتسامح الحكيم المشرع
المطلب الثاني : دستور المدينة نموذجًاŠš
š60
š المطلب الثالث: استقبال الوفود النصرانية Šš
š61
š المطلب الرابع : الحرية في الاعتقاد وممارسة الشعائر Šš
š63
š المبحث الرابع: رعاية العلم والمعرفةŠš
š63
š المطلب الأول : بداية عصر العلم والمعرفةŠš
š64
š المطلب الثاني : القرأة أولي تعاليم محمدr Šš
š64
š المطلب الثالث : احترام العقلŠš
š65
š المطلب الرابع : حثه على طلب العلم Šš
š66
š المطلب الخامس: العلم من وظائف رسالتهŠš
š68
š المطلب السادس : من توجيهات محمدrŠš
š70
š المبحث الخامس: الخطاب التربويŠš
š70
š المطلب الأول : المعلم الرحيم Šš
š71
š المطلب الثاني: نماذج رحمته للمتعلمين Šš
š72
š المطلب الثالث : أساليبه في الخطاب التربوي:Šš
š72
š أولاً: التمهيد والتهيئةŠš
š73
š ثانيًا: التكرار والإعادة Šš
š73
š ثالثًا: التأني أثناء العرض Šš
š73
š رابعًا: مراعاة طاقة المتعلمين Šš
š73
š خامسًا: ضرب الأمثال Šš
š74
š سادسًا: استخدام الوسائط المتعددة Šš
š74
š 1- التعبير بحركة اليد والأصابع Šš
š74
š 2- التعبير بالرسم والمجسمات: Šš
š74
š أ) الرسم Šš
š74
š ب) المجسمات Šš
š74
š 3- التعليم التطبيقي العملي Šš
š75
š المبحث السادس: خدمة الإنسانية Šš
š75
š المطلب الأول : محمد خادم الإنسانيةŠš
š76
š المطلب الثاني: خطبة الوداع : الميثاق الإسلامي لحقوق الإنسان Šš
š78
š المطلب الثالث: توجيهات إنسانية Šš
š79
š الفصل الثالث: رحمته للعالمين في مجال الأخلاق:Šš
š80
š المبحث الأول: الرفق واللينŠš
š80
š المطلب الأول: طريق محمد .. طريق الرفق Šš
š81
š المطلب الثاني : حثه على الرفق : Šš
š81
š أولاً : الرفق يحبه الله Šš
š81
š ثانيًا: الرفق جمال وذوقŠš
š81
š ثالثًا: الرفق يجلب الخيرŠš
š81
š المطلب الثالث: نماذج رفقه:Šš
š81
š أولاً: الرفق بالمتعلمين:Šš
š82
š ثانياً: الرفق بالسفهاء :
ثالثًا : الرفق بالعصاة :
Šš
š82
š رابعًا: الرفق بالشعب والرعية:
خامسًا : الرفق بالمستفتي وصاحب المسألة
سادسًا: الرفق بالحيواناتŠš
š83
š المبحث الثاني: العفوŠš
š83
š المطلب الأول : محمد العفو .Šš
š85
š المطلب الثاني : نماذج عفوه : Šš
š85
š أولاً: عفوه عن مشركي مكة عام الفتحŠš
š85
š ثانيًا: عفوه عن أهل الكتاب Šš
š86
š ثالثًا: عفوه عن الضعفاء أثناء الحروبŠš
š86
š رابعًا: عفوه عن الأعراب الغلاظ :Šš
š86
š 1- الأعرابي الذي رد على النبي بوقاحةŠš
š86
š 2- الأعرابي الذي اتهم النبي  بالظلم
3- الأعرابي الذي قابل إحسان النبي بالإساءة :
š87
š المبحث الثالث: العدالة والمساواة
š87
š المطلب الأول : محمد  حاكمًا عادلاً
š89
š المطلب الثاني : العدالة ومساواة في معاملاته اليومية
š90
š المطلب الثالث: نماذج تعاليمه :
š90
š أولاً: تحذيره من استعباد الناس …
š90
š ثانيًا: نهيه عن التمييز العنصري
š90
š ثالثًا: عدله مع غير المسلمين ( العدل مع فصيل يهودي – العدل مع رجل يهودي)Šš
š90
š رابعًا: الكل سواء أمام القانون
š91
š خامسًا : مبادىء المساواة والعدالة في خطبة الوداع: Šš
š91
š المطلب الرابع : الناس سواء كأسنان المشط:Šš
š93
š المبحث الرابع: الحب والإخاء
š93
š المطلب الأول : الأُخوة مكان العصبية Šš
š94
š المطلب الثاني : لماذا نجح النبي  في تحقيق الحب والإخاء ؟
š95
š المطلب الثالث : نماذج تعاليمه  : Šš
š95
š أولاً : المسلمون المتآخون المتحابون كالجسد الواحد
š95
š ثانيًا: المسلمون المتآخون المتحابون كرجل واحد
š96
š ثالثًا: المسلمون المتآخون المتحابون في ظلال الله
š96
š رابعًا: المسلمون المتآخون المتحابون وجبة لهم محبة الله
š96
š خامسًا: المسلمون المتآخون المتحابون يغبطهم الأنبياء والشهداء
š96
š المبحث الخامس: سماحته في المعاملات المالية
š97
š المطلب الأول : حثه على السماحة في المعاملات المالية :
š97
š أولاً: في البيع والشراء والقضاء
š97
š ثانيًا: التيسير على المعسر
š97
š المطلب الثاني : نماذج سماحته في المعاملات المالية
š99
š الفصل الرابع: رحمته للعالمين في مجال التشريع :
š100
š المبحث الأول: المرونة والتجديد:
š100
š المطلب الأول – شهادة علماء الغرب
š101
š المطلب الثاني: الشريعة الإسلامية : ثوابت و متغيرات
š102
š المطلب الثالث : في مجال الثابت و مجال المتغير
š103
š المطلب الرابع : منطقة الفراغ التشريعي والنصوص المحتملة:
š103
š أولاً : منطقة الفراغ التشريعي
š104
š ثانيًا: المتشابهات
š104
š المطلب الخامس : صيانة الثابت و تجديد المرن
š107
š المبحث الثاني: الوسطية والاعتدال:
š107
š المطلب الأول: شهادة علماء الغرب
š107
š المطلب الثاني : حثه على الوسطية وتحذيره من التشدد
š109
š المطلب الثالث : وسطية الإسلام في الأحكام
š110
š المبحث الثالث: التيسير:
š110
š المطلب الأول – شهادة علماء الغرب
š111
š المطلب الثاني : نماذج التيسير
š113
š المطلب الثالث : حثه على التيسير
š114
š المبحث الرابع: الرخص الشرعية:
š114
š المطلب الأول : الرخص الشرعية : ماهيتها وشرعيتها
š115
š المطلب الثاني : نماذج الرخص الشرعية
š116
š المبحث الخامس: التدرج في التشريع:
š116
š المطلب الأول : التدرج في التشريع: مفهومه والحكمة منه :
š116
š أولاً: مفهومه
š117
š ثانيًا: الحكمة منه
š117
š المطلب الثاني : نماذج للتدرج في التشريع :
š117
š أولاً: تحريم الخمور
š118
š ثانيًا: تحريم الربا
š119
š الفصل الخامس : رحمته للعالمين في ميدان الصراعات السياسية والعسكرية:
š120
š المبحث الأول: الحوار لا الصدام
š120
š المطلب الأول : الحوار مظهر من مظاهر الرحمة
š121
š المطلب الثاني : الإسلام يرفض المركزية الحضارية
š123š المطلب الثالث : نماذج عملية من سيرة النبي
š126
š المبحث الثاني: حرصه  على نشر السلام
š126
š المطلب الأول : محمد رجل السلام
š127
š المطلب الثاني : نموذج في حادث بناء الكعبة
المطلب الثالث : نماذج المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة :
أولاً : مُوَادَعَةُ بَنِي ضَمْرَةَ
ثانيًا : مُوَادَعَةُ جهينة :

š128
š المطلب الرابع: نموذج في معركة الأحزاب
š129
š المطلب الخامس : نموذج معاهدة الحديبية
š130
š المطلب السادس: نموذج الصلح مع أهل خيبر
š131
š المبحث الثالث: رحمته للخصوم والأعداء
š131
š
المطلب الأول : لماذا القتال ؟
أولاً: مصادرة أموال المسلمين وعقاراتهم :
ثانيًا: إعلان الحرب على الدولة الإسلامية الناشئة:
ثالثًا: تهديد أمن المسلمين
المطلب الثاني : محمد  القائد الرحيم
المطلب الثالث : هدي محمد في المعارك
š133
š المطلب الرابع : فرية العنف ونشر الإسلام بالسيف
š133
š أولاً : رد العلامة لويس سيديو
š133
š ثانيًا: رد الدكتورة كارين أرمسترونج
š134
š ثالثًا: رد الكاتب الألماني ديسون
š134
š رابعًا: رد المستشرق الهولندي دوزي
š134
š خامسًا: رد المؤرخ الكبير جوستاف لوبون
š135
š سادسًا: رد الكاتبة الايطالية لورافيشيا فاغليري
š135
š سابعًا: رد العلامة توماس كارلايل
š136
š المطلب الخامس: فرية : القتل الجماعي ليهود بني قريظة
š140
š المبحث الرابع: رحمته للأسرى
š140
š المطلب الأول : نماذج في معركة بدر Šš
š142
š المطلب الثاني : نموذج معركة بني المصطلق Šš
š142
š المطلب الثالث : نموذج معركة حنينŠš
š143
š المطلب الرابع : نماذج أخرى.
المبحث الخامس : رحمته لقتلى العدو
المطلب الأول : مواراة جيف قتلى العدو في بدر
المطلب الثاني: جثة نوفل بن عبد الله
المطلب الثالث : جثة عمرو بن ود
š144
š المبحث السادس: رحمته لأهل الذمة
š144
š المطلب الأول : من هم أهل الذمة وما موقف الدولة الإسلامية منهم ؟
š144
š المطلب الثاني : شهادات علماء الغرب :
š144
š أولاً: حرية أهل الذمة في الاعتقاد
š145
š ثانيًا: حرية أهل الذمة في ممارسة الشعائر
š145
š ثالثًا: رعاية المسلمون لأهل الذمة
š146
š رابعًا: الاستعانة بهم في أجهزة الدولة
š146
š المطلب الثالث : وصايا النبي  بأهل الذمة والتحذير من إيذائهم:
š146
š أولاً: حرمة قتل الذمي بغير حق
š146
š ثانيًا: حرمة قذف الذمي
146
ثالثًا: تحريم ظلمه
المبحث السابع: قيم حضارية في غزوة بدر الكبرى[ نموذجًا]
المطلب الأول : لا نستعين بمشرك على مشرك :
المطلب الثاني : مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
المطلب الثالث الشورى :
المطلب الرابع : النهي عن استجلاب المعلومات بالعنف :
المطلب الخامس : احترام آراء الجنود:
المطلب السادس : العدل بين القائد والجندي :
المطلب السابع : الحوار قبل الصدام :
المطلب الثامن : الوفاء مع المشركين :
المطلب التاسع : حفظ العهود :
المطلب العاشر : النهي عن المثلة بالأسير
š148
š الفصل السادس: رحمته للعالمين في مجال المرأة والطفل:
š149
š المبحث الأول – تحرير المرأة من الجاهلية:
š149
š المطلب الأول : محمد  منقذ المرأة
š150
š المطلب الثاني : افتراءات وردود
š150
š الفرية الأولى : حول تعدد الزوجات
š150
š أولاً: فيما يخص تعدد الزوجات الخاص بشخص النبي
š151
š ثانيًا:فيما يخص تعدد الزوجات العام
š152
š الفرية الثانية: قول أحدهم :إن الإسلام لا يسوي بين المرأة والرجل
š152
š الفرية الثالثة : قول أحدهم: إن الإسلام لا يهتم بتعليم المرأة
š153
š الفرية الرابعة : حول ضرب الزوج لزوجته
š154
š الفرية الخامسة: حول الحجاب وحق المرأة في ستر عورتها
š154
š المبحث الثاني : مميزات المرأة في الإسلام
š154
š المطلب الأول: الاستقلال الفكري للمرأة
š155
š المطلب الثاني: حقوق المرأة في أمور الزواج
š156
š المطلب الثالث: حقوق المرأة في الميراث والتملك
š156
š المطلب الرابع: حق المرأة في العمل
š157
š المطلب الخامس: تقدير الدور السياسي للمرأة
š158
š المطلب السادس: إحترام جوار المرأة
š158
š المطلب السابع : تأملات في هذه المميزات
š159
š المبحث الثاني: رحمته للبنات
š159
š المطلب الأول : فضل محمد  على البنات
š160
š المطلب الثاني : نماذج رحمته للبنات:
š160
š أولاً: حثه على الإحسان إليهن
š160
š ثانيًا: عطفه على البنات
š161
š ثالثًا: إكرامه لعائل البنات
š161
š المبحث الثالث: رحمته للأطفال
š161
š المطلب الأول : شهادة علماء الغرب
š162
š المطلب الثاني : نماذج رحمته للأطفال :
š162
š أولاً : أرحم البشر بالعيال
š163
š ثانيًا : توبيخه للغلاظ مع الأطفال
š163
š ثالثًا : دعاؤه  للأطفال
Šš
š163
š رابعًا : سلامه على الأطفال وعطفه عليهم
š164
š خامسًا : رفقه  بالأطفال إذا صلى بهم
š164
š سادسًا: تعزيزه  للطفل الصادق
š164
š سابعًا: ملاطفته للأطفال
š165
š ثامنًا: رحمته بغلام يهودي
š165
š المبحث الرابع: رحمته للأيتام
š165
š المطلب الأول : محمد  اليتيم
š166
š المطلب الثاني : نماذج في رحمته لليتيم:
š166
š أولاً:ترغيبه في كفالة اليتيم
š166
š ثانيًا:مواساته اليتامى
š167
š ثالثًا: ترغيب النساء في تربية الإيتام
š167
š رابعًا: تحذيره من الإعتداء على مال اليتيم
š167
š المبحث الخامس: رحمته للأرامل
š168
š المطلب الأول: حثه على السعي على الأرامل
š168
š المطلب الثاني : سعيه على الأرامل
š169
š الفصل السابع: رحمته للضعفاء
š170
š المبحث الأول: رحمته للفقراء
š170
š المطلب الأول : فضل محمد على الفقراء
š171
š المطلب الثاني : نظام الزكاة – نموذجًا
š173
š المطلب الثالث: دوره  في مكافحة البطالة :
š173
š أولاً : ترسيخ قيم العمل والانتاج
š175
š ثانيًا : قضاء حوائج العاطلين
š175
š ثالثًا: تحريمه البطالة
š175
š رابعًا: ترغيبه في الزراعة
š175
š خامسًا: ترغيبه في الصناعة
š175
š سادسًا: ترغيبه في التجارة
š176
š المبحث الثاني: رحمته للعبيد والخدم
š176
š المطلب الأول : تحرير العبيد
š177
š المطلب الثاني : فرية سن الإسترقاق
š178
š المطلب الثالث : نماذج رحمته للعبيد :
š179
š أولاً : وصيته  بالعبيد والإماء
š179
š ثانيًا: تحذيره  من إيذاء العبيد والإماء
š179
š ثالثًا: أمره  بالإحسان إلى العبيد
š180
š رابعًا: التعاون في تحرير العبيد
š180
š خامسًا: كفارة ضرب العبد عتقه
سادسًا : ألطف الناس بالعبيد :
سابعًا :كفالة الدولة الإسلامية للعبد المعاق أو المريض:

š180
š المطلب الرابع: تحريم الاتجار بالبشر
المطلب الخامس – رفقه وعطفه على الخدم

رفقه وعطفه على الخدم:
š180
š أولاً: سلوكه  مع خادمه
š181
š ثانيًا: حثه على العفو عن الخادم
š181
š ثالثًا: توبيخه مَنْ ضرب الخادم
š181
š رابعًا: ترغيبه في إطعام الخادم
š182
š خامسًا: نهيه عن الدعاء على الخادم
š182
š المبحث الثالث: رحمته بذوي الاحتياجات الخاصة :
š182
š المطلب الأول : الفئات الخاصة في المجتمعات الجاهلية:
š182
š المطلب الثاني : رعاية النبي  لذوي الاحتياجات الخاصة:
š182
š المطلب الثالث: الأولوية لهم في الرعاية وقضاء احتياجاتهم:
š183
š المطلب الرابع: عفوه عن سفهائهم وجهلائهم :
š183
š المطلب الخامس : تكريمه وموساته  لهم :
š184
š المطلب السادس : زيارته لهم
š184
š المطلب السابع: الدعاء لهم :
š184
š المطلب الثامن : تحريم السخرية منهم
š184
š المطلب التاسع : رفع العزلة والمقاطعة عنهم
المطلب العاشر: التيسير على ذوي الاحتياجات الخاصة

Šš
š185
š المبحث الرابع : رحمته للمسنين :
š185
š المطلب الأول : حثه على إكرام المسنين والرفق بهم:
š185
š أولاً: مناشدة الشباب لإكرام المسنين
š185
š ثانيًا: إكرام المسن من إجلال الله
š185
š ثالثًا: ليس من المسلمين من لا يوقر الكبير
š185
š رابعًا: تسليم الصغير على الكبير
خامسًا : تقديم المسن في وجوه الإكرام عامة
سادسًا : التخفيف عن المسنين في الأحكام الشرعية
Šš
186
المطلب الثاني : نماذج رحمته  للمسنين :
186
أولاً: إنصاته لعتبة وتلطفه معه
186
ثانيًا: سعيه لفك أسر شيخ مسن
186
ثالثًا:رفقه بأبي قحافة وتوقيره له
187
المبحث الخامس: رحمته بالأموات:
187
المطلب الأول : زيارته لقبور الأموات
188
المطلب الثاني : مشاركته في دفن الأموات بنفسه :
188
أولاً : جنازة عدو من أعدائه
188
ثانيًا: جنازة حبيب من أحبابه 
189
المطلب الثالث : حزنه  إذا فاتته جنازة وصلاته عليها
189
المطلب الرابع :توقيره للجنائز والقبور ولو كانت لغير المسلمين :
189
أولاً : قيامه  إذا مرت الجنازة
190
ثانيًا: وضعه  الجريد الأخضر على القبر
190
ثالثًا : أمره بعدم إيذاء الميت
191
المطلب الخامس: دعاؤه  للأموات
192
المطلب السادس : بكاؤه  على الأموات وعند القبور:
192
أولاً : في وفاة عثمان بن مظعون
192
ثانيًا: في وفاة سعد بن عبادة
192
ثالثًا : في وفاة طفله إبراهيم
192
رابعًا: بكاءه عند قبر أمه
194
الخاتمة
194
أولاً : ملخص البحث
195
ثانيًا: نتائج البحث
198
ثالثًا : التوصيات
رابعًا : أفكار عملية لنصرة نبي الرحمة :

110
المصادر والمراجع
212
تعريف بالكاتب
212
المحتويات

الكاتب في سطور
محمد مسعد ياقوت – كاتب وداعية إسلامي مقيم في مصر .
المشرف العام على موقع نبي الرحمة
www.nabialrahma.com
البريد الإلكتروني : yakoote@gmail.com
المدونة الشخصية : yakut.blogspot.com
جوال 0104420539(002)
الأعمال التي قام بها:
- باحث متفرغ لإعداد مشروع علمي في مؤسسة أحمد بهاء الدين الثقافية.
- يكتب في العديد من المجلات العربية والإسلامية كمجلة المجتمع الكويتية، ومجلة المعرفة السعودية، ومجلة الرسالة المصرية، ومجلة آراء حول الخليج الإماراتية، ويكتب في شبكة إسلام أون لاين . نت.
- قدم سلسلة حلقات عن الثقافة العلمية وأزمة البحث العلمي، في القناة السادسة المصرية
- أعد سلسلة حلقات عن أخلاقيات الحرب في الإسلام. في قناة الأمة الفضائية .
- يمارس الخطابة الدينية في مساجد مصر .
- ألقى العديد من المحاضرات الفكرية والثقافية في العديد من المحافل.
المؤلفات :
- الاختلاط وأثره على التحصيل العلمي والابتكار- رؤية شرعية - ، البحث الفائز بجائزة موقع المرأة " لها أون لاين" للثقافة و الإبداع ، عام 2004
- حوار الحضارات : الموجود والمفقود والمنشود، بحث مقدم إلى منظمة الكتاب الأفريقيين والأسيويين ، أغسطس 2005م ـ .
- هروب النخب العلمية ، بين واقع النزيف وسبل العلاج : بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي، " الشباب وبناء المستقبل" .
- صفات رجل البر، لم يطبع بعد .
-عناية الكتاب والسنة بالمسجد الأقصى المبارك ، لم يطبع بعد .
- حق النصرة للشعب الفلسطيني ماديًا ومعنويًا، لم يطبع بعد .
- التجديد والمجددون في الإسلام، لم يطبع بعد .
- أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية، لم يطبع بعد .
- الرقائق والخواطر ، تحت الإعداد
- الحوار في السيرة النبوية ، تحت الإعداد.
- مشاركة الشباب العربي في العمل السياسي – بين الواقع والمأمول ، تحت الإعداد
- قيم حضارية في السيرة النبوية، كتاب إلكتروني.
- قصص قصيرة منشورة في المجلات المواقع [ بار أحرنوت – سجين رأي – المسكن الشعبي – على الطريقة الفيدرالية –السجينة – طوابير النهضة – ملحمة شاعر ]
-صنائع المعروف، ثلاثون بابًا من أبواب الخير، القاهرة ، دار النشر للجامعات، 2007
- أزمة البحث العلمي في مصر والوطن العربي، القاهرة : دار النشر للجامعات، الطبعة الأولى، يناير 2007م

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك