توازُنُ الدعوةِ والسياسة
توازُنُ الدعوةِ والسياسة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آله وصحبِه أجمعين. وبعد، فمِن مَظاهِرِ التوازُنِ في السيرة النبوية الشريفة: التوازُن بين الدَّعوة والسياسة.
فقد كان النبِيُّ صلى الله عليه وسلم سيِّدَ الرُّسُلِ وإمامَ الدُّعاةِ وقُدوةَ الْمُصْلِحِين، وكان مع ذلك قائداً سياسياًّ حكيماً وإدارياًّ عظيماً، وقد شَهِدَ الْمُنصِفُون من الباحِثِين الغربيِّين بِجَمعِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم بين هذيْن الجانبَيْن العظيمَيْن.
لم يَختَلِف الصحابةُ رضي الله عنهم في شأنِ إقامةِ نِظامٍ سياسِيٍّ يَضبِطُ اجتِماعَ الناسِ وعلاقاتِهم, ويحكم اقتِصادَهم ومُعامَلاتِهم، ويهدي سِياستَهم بإنفاذِ شريعةِ الله في حياتِهم؛ حتى لا تكونَ حياةُ الناسِ فوضى يأكلُ القويُّ منهم الضعيف. قال القرطبِي رحمه الله: "جَوْرُ السلطانِ عاماً واحِداً أقلُّ أذايةً مِن كَوْنِ الناسِ فوضَى لحظةً واحِدة! فأنشأ الله سبحانه الخليفةَ لهذه الفائدةِ؛ لِتجرِيَ على رأيِه الأمور، ويَكُفَّ الله به عادِيةَ الجمهور".
ولم يَكُنْ ثَمَّةَ أدنَى تعارُضٍ في عُقولِ أولئك الأكابرِ بين الدعوةِ والدولةِ في حياةِ الجماعة المسلمة؛ إذ الدَّعوةُ هي الْمَنهَجُ والأهدافُ والعقائدُ والأفكارُ، والدولةُ هي الوِعاءُ الإداري والوسائلُ السياسِيةُ الْمُعِينة على تحقيقِ تلك الأهدافِ الكِبار. الدَّعوةُ مَبادىءُ وقِيمٌ وأُصُولٌ, والدولةُ مؤسَّساتٌ وأنظِمةٌ تقومُ على أساسِ تلك القِيَمِ والأفكار. وهو ما عبَّرَ عنه ابنُ خلدون في (المقدمة) بأنَّ "الْمُلكَ صورةُ العمرانِ البشري".
ومن الناحِيةِ الزَّمَنِية الدَّعوةُ فريضةٌ دائمةٌ لا ترتبِطُ بالتمكِين، والدولةُ وإنْ كانتْ فريضةً لكنها مَرحَلةٌ قد تتأخَّرُ، وقد تَغِيبُ في فترةٍ من الزمان. ولكنها دولةٌ لِنَشرِ الدعوةِ وخِدمَتِها وتَمكينِها.
ولله دَرُّ القرطبِي حيث قال في تفسيرِ قوله تعالى: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خليفة): "هذه الآيةُ أصلٌ في نَصبِ إمامٍ وخليفةٍ يُسمَعُ له ويُطاع؛ لِتَجتَمِعَ به الكلمةُ وتُنفَّذَ به أحكام الخليفة. ولا خلافَ في وُجوبِ ذلك بين الأُمَّة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصمِّ حيث كان عن الشريعةِ أصَمَّ؛ وكذلك كلُّ مَن قال بقولِه واتبعَه على رأيِه ومَذهبِه، قال: إنها غيرُ واجبةٍ في الدِّين... ودليلُنا قولُ الله تعالى: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خليفة)، وقوله تعالى: (يا داودُ إنَّا جعَلْناك خليفةً في الأرض)، وقال: (وَعَدَ الله الذين آمنوا مِنكم وعملوا الصالِحاتِ لَيَستَخْلِفَنَّهم في الأرض): أي يجعلُ منهم خُلفاءَ إلى غيرِ ذلك من الآي. وأجْمَعت الصحابةُ على تقديمِ الصدِّيقِ بعد اختلافٍ وقعَ بين المهاجرين والأنصار في سقيفةِ بنِي ساعِدة في التعيِينِ حتى قالت الأنصارُ: (مِنَّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ) فدفعَهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تَدِينُ إلا لهذا الحيِّ من قريش، وروَوْا لهم الخبرَ في ذلك؛ فرجعوا وأطاعوا لقريشٍ؛ فلو كان فَرضُ الإمامةِ غيرَ واجبٍ لا في قريشٍ ولا في غيرِهم؛ لما ساغت هذه المناظَرة والمحاوَرة عليها! ولقال قائل: إنها ليست بواجِبةٍ لا في قريشٍ ولا في غيرِهم؛ فما لِتَنازُعِكم وَجهٌ ولا فائدةٌ في أمرٍ ليس بواجبٍ! ثم إنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه لَمَّا حَضَرَتْه الوفاةُ عهدَ إلى عُمرَ في الإمامة ولم يقلْ له أحدٌ: هذا أمرٌ غيرُ واجِبٍ علينا ولا عليك؛ فدلَّ على وُجُوبِها، وأنها رُكنٌ من أركانِ الدِّينِ الذي به قِوامُ المسلمين، والحمد لله رب العالمين".
ليست (الدولةُ) بديلا عن (الدعوة)، بل هي امتِدادٌ لها وثَمرةٌ مُبارَكةٌ مِن ثَمراتِها! وكَمْ كان واضِحاً وناصِعاً مَوقِفُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم, حينما أراد الجاهليون مُساوَمتَه بنَيْلِ الْمُلكِ عن إقامةِ الدِّين, وبالْحُكمِ الجاهلِي عن الحكمِ الإلَهي: (قُلْ أفغَيرَ الله تأمُرُونِّي أعبُدُ أيها الجاهِلُون) (أفحُكْمَ الجاهليةِ يَبغُون ومَن أحسَنُ مِن الله حُكماً لِقومٍ يُوقِنُون)؛ إذْ ليسَتْ الدولةُ غايةً في حدِّ ذاتِها – وإنْ غرَّرَ الشيطانُ بضُعفاءِ النفوسِ في امتِلاكِ القُوةِ والمالِ والسُّلطانِ – لأنَّ أساسَ الدولةِ هو الإيمانُ والدعوةُ. وإذا خلَتْ الدولةُ مِن هذه القِيَمِ والأفكارِ كانت (كمثل الحمارِ يحملُ أسفارا)؛ لِفِقْدانِها صِفَتَها الشَّرعيَّة ووَظيفتَها الربَّانية (الذين إنْ مكَّنَّاهم في الأرضِ أقامُوا الصلاةَ وآتَوُا الزكاةَ وأمَرُوا بالمعرُوفِ ونَهَوْا عن المنكَر ولله عاقِبةُ الأُمور).
لقد كانت التجربةُ النبوية بُرهاناً عظيماً على أنَّ الدولةَ الإسلامية لا تقومُ على مُجرَّدِ الأحلامِ السياسِيةِ والْحُظوظِ الشخصيةِ في التمكينِ والْحُكمِ والرئاسة! بل هي دَعْوةٌ ومُثابَرَةٌ ومُجاهَدةٌ ومُصابَرةٌ لإقامةِ مَمْلَكةِ الدِّينِ في النفسِ قبلَ إقامَتِها في حياةِ الناس (واصْبِرْ نفسَك مع الذين يَدْعُون ربَّهم بالغَداةِ والعَشِيِّ يريدون وَجْهَه ولا تَعْدُ عيناك عنهم تُرِيدُ زِينةَ الحياةِ الدنيا ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قلبَه عن ذِكْرِنا واتَّبَعَ هواه وكان أمْرُه فُرُطاً)؛ فلذلك تقدَّمَ في سياقِ آياتِ الإذنِ بالجهادِ ذِكرُ الاستِضعافِ والإخراجِ والمدافَعةِ على ذكرِ النَّصرِ والتَّمكِينِ: (أُذِنَ للذين يُقاتَلُون بأنهم ظُلِموا وإنَّ الله على نصرِهم لقديرٌ الذين أُخْرِجُوا مِن ديارِهم بغيرِ حقٍّ إلا أن يقولوا ربُّنا الله ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لهُدِّمَتْ صوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومساجِدُ يُذكَرُ فيها اسمُ الله كثيراً ولَيَنصُرَنَّ الله من ينصرُه إنَّ الله لقويٌّ عزيزٌ الذين إنْ مكَّنَّاهم في الأرضِ أقامُوا الصلاةَ وآتَوُوا الزكاةَ وأمرُوا بالمعروفِ ونَهَوْا عن المنكَر ولله عاقِبةُ الأُمور).
فقد كانت الدَّعوةُ أساساً في تكوينِ الجماعة المسلمة، كما كان للسياسةِ الشرعيَّةِ الحكيمةِ دَورٌ عظيمٌ في خِدمةِ الدِّين؛ ولذلك سَمَّى القرآنُ الحديبِيةَ (فَتحاً مُبِيناً)؛ لأنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم وصحبَه الكرام قد أجبروا قريشاً على الاعتِرافِ بهم واعتِبارِهم قُوَّةً مُستقلَّةً لها كِيانٌ وعُنوانٌ ولِسانٌ. وبين ذلكم التفاوُض السياسي مع سهيل بن عمرو في الحديبية - وقد سَماه القرآن فتحاً - وبين الفتح العسكري بمكة جُملةٌ من الدلالاتِ على العلاقةِ الوثيقة بين الدعوةِ والدولة, والسياسةِ والقوة. وأنَّ صِلاتِ الاجتِماعِ والاقتِصادِ والسياسةِ التي تربِطُ الدولةَ بالشريعة لا تقلُّ عن رباطِ الصلاةِ والنسُك في حياةِ الفرد (قلْ إنَّ صلاتِي ونُسُكي ومَحياي ومَماتِي لله ربِّ العالمين لا شريكَ له). وهذه الشُّموليةُ في مفهومِ العبادةِ الإسلامية, واندِراج شُعَبِ الحياةِ كلِّها في منهجِ التوحيد؛ جعلا النظامَ السياسيَّ في الإسلام في قمَّةِ التكامُلِ والواقعية والإنسانية.
ومِن مَظاهِرِ توازُنِ الدَّعوةِ والسياسةِ ما شيَّدَه النبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن نظامِ (المؤاخاة)؛ فإنَّ المتأمِّلَ لتجربةِ (المؤاخاة) في دولةِ المدينةِ يُلاحِظُ أنها كانت نَمُوذَجاً سِياسياًّ ودَعَوِياًّ حَكِيماً وبُرْهاناً على أهَمِّيةِ تألِيفِ القُلوبِ المؤمنة لإقامةِ دولةِ الدعوة.
8) الدولة خادمةٌ للدعوة:
ولا يخفى أنَّ الدَّعوةَ إلى الأفكارِ الساميةِ مَنْزِلةٌ سامِيةٌ، وتحقيق ذلك في واقعِ الناسِ منزلةٌ في غايةِ السُّمُوِّ والرُّقِيِّ، كما عَبَّرَ عن ذلك (اينين دينيه) في كتابه (محمد رسول الله) تعبِيراً حَسَناً، فقال: "لقد دعا (عيسى) إلى المساواةِ والأخوة، أما (محمد) فوُفِّقَ إلى تحقيقِ المساواة والأُخُوَّة بين المؤمِنين أثناء حياته".
لا ريبَ أنَّ القدوة والأسوة الحسنة خيرُ دليلٍ على الانسجام ما بين الدعوة والدولة؛ فإذا كان رجال الدولة هم رجال الدعوة كما كان الخلفاء الراشدون يقومون برعاية مصالِحِ العباد في دينِهم ودُنياهم ومَعاشِهم ومَعادِهم.
فالدولةُ المسلمة لا تُثْمِرُ أفكارُها في واقِعِ الناسِ إلا إذا كان قادتُها أُسْوةً للناسِ في تلك الأفكارِ العظيمة والمبادىءِ القويمة؛ (لقد كان لكم في رسولِ الله أُسْوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليومَ الآخرَ وذكر الله كثيراً).
ولهذا قال الفيلسوف الفرنسي (كارديفو): "إنَّ (محمداً) كان هو النبِيَّ الْمُلْهَم والمؤمِن... إنَّ شُعُورَ المساواةِ والإخاءِ الذي أسَّسَه (محمدٌ) بين أعضاءِ الكُتْلةِ الإسلامية كان يُطبَّقُ عَمَلِياًّ حتى على النبِيِّ نفسِه".
مِن ثِمارِ التوازُنِ بين الدَّعوةِ والسياسةِ في المجتمعِ المسلم أنْ تحافظ الدولة على استقرارِها السياسي؛ لأنَّ الدولةَ تقوم على حِفظِ ثوابتِ الدين وتحقيقِ مَصالِحِ المسلمين في التنميةِ والرُّقِيِّ بالاقتصادِ والاجتِماعِ والتعليمِ والصحةِ وغير ذلك من نواحي الحياة.
فإذا كان الأمرُ كذلك كانت الثمرةُ ثِقةً سياسيةً ووفاءً اجتماعياًّ بين الحاكمِ والمحكومِ والداعيةِ والمدْعُو، كما روى مالك رحمه الله في الموطأ: "أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بامرأةٍ مجذومةٍ وهي تطوفُ بالبيت؛ فقال لها: يا أمَةَ الله لا تؤذي الناس؛ لو جلستِ في بيتكِ! فجلَستْ. فمرَّ بها رجلٌ بعد ذلك، فقال لها: إنَّ الذي نَهاكِ قد مات؛ فاخرُجي؛ فقالت: ماكنتُ لأُطِيعَه حَياًّ وأَعْصِيَه مَيِّتاً"!
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
راجع مَقالتَيْ: (عظمة السياسة النبوية)، و(عظمة القيادة النبوية).
تفسير القرطبي 6/325.
البقرة 30.
تفسير القرطبي 1/264-265.
الحج 41.
الكهف 28.
الحج 39-41.
الأنعام 162-163.
محمد رسول الله لاينين دينيه ص 323.
الأحزاب 21.
ذكره الكاتب المغربي إدريس الكنبوري في (النبي صلى الله عليه وسلم كما تحدث عنه المنصفون والعقلاء في الغرب:
الاعتراف بعالمية الإسلام وفضل رسوله على البشرية والحضارة الغربية). موقع صيد الفوائد.
الموطأ، كتاب الحج، باب جامع الحج.
المصدر: http://www.meshkat.net/node/12357