الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة

الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة

محمد شريف الشيباني

القسم الأول
إضاءات استشراقية على السيرة النبوية

الجزيرة العربية عشية البعثة النبوية

لقد ألهمت شخصية الرسول  الكثير من الباحثين في الشرق و الغرب، فدرسوا سماتها بفيض من المؤلفات التي صورت حياة محمد  و تناولت جوانب عظمته و عبقريته، و صفة البطولة الملحمية في سيرته التي انضوت في ثناياها حياة الأمة، تجسدت كحقيقة تاريخية ناصعة عبر دعوته التي أحدثت انقلابا في حياة تلك القبائل العربية المتناحرة فعمقتها امةً رائدةً أخذت بيد أمم و شعوب في معارج الرقي و التقدم، هاديا أيها إلى سبيل النور، و لم تلبث إلا ردحا قصيرا حتى انقلبت ثورة عالمية معطاءً خيراً و عدالة و معرفة.

عظمة أصحاب الرسالات

لا مرية في أن أصحاب الرسالة العظيمة عظماء في ذواتهم، عظماء في سيرتهم، و هم ان ظهروا بمرحلة تاريخية بعينها تركو بصماتهم ليس في مجتمعاتهم فحسب ، بل مدوا ظلهم على التاريخ في مشارق الأرض و مغاربها. و هذا ما حدا بالمستشرقين المنصفين لدراسة شخصية الرسول و تحليل صفاته الخلقية و الخلقية، و الاهتمام بدوره القيادي في المجتمع كصاحب رسالة سماوية لم تقتصر على العرب وحدهم ، بل كانت رسالة عالمية ؟، صالحة لكل زمان و مكان، و لقد جاء في تنزيل العزيز قوله تعالى :  و ما ارْسَلْناكَ إلا كافَّةً للنَّاسِ بَشيراً و نَذيراً  و  قُلْ يا أيُّها الناسُ أني رَسولُ الله إلَيْكُمْ جَميعاً  .

أن عظمة الرسول البارزة للعيان ، تكمن في انه كان حامل رسالة سماوية توحيدية ، شمولية تهدف أساساً إلى إصلاح حياة البشرية عامة، و نقلها من البربرية إلى الوثنية إلى الحضارة التوحيدية اليقينية .. يقول مؤلف "قصة الحضارة" الباحث الأمريكي وول ديوارنت :

(( كان محمد  نبياً كبيرا، و توحيديا كاملا و لم يكن له نظير جاء لإصلاح البشر )) .

و منذ نعومة أظافره  تبدت فيه علامات النباهة و النبوغ، و ظلت مرافقةً إياه في سائر أطوار حياته، و لذا شدت المستشرقين لدراستها، كما سبق أن استوقفت كتاب السيرة النبوية المسلمين الذين بحثوا بالتفصيل علائم النبوة و دلالتها في حياته – عليه السلام – بدءاً من مولده حتى التحاقه بالرفيق الأعلى، بل ذهب الكثير منهم إلى بحث علامات نبوته ، فيما كان يتردد حوله القول بأن امة العرب سيكون لها نبيها المرتقب ، و سيخرج من مكة ، و انه سيكون من قبيلة قريش، و على وجه التحديد من أسرة بني هاشم.

النفوذ السياسي و الاقتصادي و الروحي لقريش مكة :

كانت قبيلة قريش التي ينتسب إليها الرسول الكريم ، تتميز بين القبائل العربية بنفوذها السياسي و الاقتصادي و الروحي ، فقد توحدت بعد تفرق، و سكنت مكة منذ حوالي مئة سنة قبل انبعاث نور الإسلام بقيادة قصي احد أجداد النبي محمد  ، الذي أسس دار الندوة التي هي بمثابة مجلس المدينة ، و المكان الذي تعقد فيه الاجتماعات للتباحث في الأمور العامة و الخاصة التي تهم القبيلة دينياً و دنيوياً، و التشاور بين وجوه مكة في قضايا الحرب و السلم ، و بحث الشؤون السياسية و الاقتصادية ... و كان لتلك القبيلة السيادة الروحية و السياسية و الاقتصادية في قلب جزيرة العرب، خاصة و لها سدانة الكعبة، و كانت إلى ذلك فرعين : قريش "البطاح" التي تسكن قلب مكة ، و قريش "الظواهر" التي تقطن الضواحي – و تضم بهما بطون أمية و نوفل وزهرة و مخزوم و أسد و جمح و سهم و هاشم و تيم و عدي – و هي بذلك تؤلف أرستقراطية المدينة، و تهيمن على مختلف الأنشطة اقتصاديا و اجتماعيا في أواسط بلاد العرب غربها، ناهيك عما كان لها من تجارة واسعة مع البلاد المجاورة استدعت عقد اتفاقات مع رؤسائها، إذ كانت القوافل التجارية منظمة، و تسير بين مكة و بلاد الشام و اليمن، متبعة طريق التجارة الرئيسي المار بمكة. و أكسبت قريش – بفضل تعظيم العرب الكعبة و حجمهم إليها – فوائد اقتصادية، و نفوذاً روحياً و سياسياً بين القبائل .

الكعبة المشرفة و الحجز الأسود و بئر زمزم :

و كان لقريش رموز قدسية ثلاثة بقيت في الإسلام، و هي الكعبة المشرفة التي يحج إليها العرب، و تضم الحجر الأسود، و إلى جانبها بئر زمزم ... و يتحدث المفكر الإنكليزي توماس كارليل عن رموزها الدينية و القدسية بقوله :

(( و الحجر الأسود كان من أهم معبودات العرب و لا يزال للان بمكة في البناء المسمى "الكعبة" ، و قد ذكر المؤرخ الروماني "سيسلاس" الكعبة فقال : إنها كانت في مدته اشرف معابد العالم طراً و أقدمها، و ذلك قبل الميلاد بخميس عاماً، و قال المؤرخ "سلفستر دي ساسي" ان الحجر الأسود ربما كان من رجوم السماوات، فإذا صح ذلك فلابد أن أنساناً قد بصر به ساقطاً من الجو ، و الحجر موجود الآن في جانب بئر "زمزم" و الكعبة مبنية فوقهما، و البئر – كما تعلمون – منظرا حيثما كان سار و مفرح، ينبجس من الحجر الأصم كالحياة من الموت، فما بالكم بها إذا كانت تفيض :

بديمومة لاظل في صحصحانها ترى الآل فيها يلطم الآل مائجاً أظل إذا كافحتها، و كأنني و لا ماء، لكن قورها الدهر عوّم و بارحها المسموم للوجه الطم بواجها دون اللثام ملثم

و قد اشتق لها اسمها زمزم من صوت تفجيرها و هديرها، و العرب تزعم انها انبجست تحت أقدام هاجر و إسماعيل فيضاً من الله و شفاءً، و قد قدسها العرب، و الحجر الأسود، و ما شادوا عليهما الكعبة منذ ألاف السنين. وما أعجب هذه الكعبة و أعجب شأنها، فهي في هذه الآونة قائمة على قواعدها، و عليها الكسوة السوداء، يبلغ ارتفاعها سبعاً و عشرين ذراعاً، حولها دائرة مزدوجة من العمد، و بها صفوف من المصابيح، وبها نقوش وزخارف عجيبة، و ستوقد تلك المصابيح الليلة لتشرق تحت النجوم المشرقة، فنعم اثر الماضي هي، و نعم ميراث الغابر. هذه كعبة المسلمين، و من أقاصي المشرق إلى أخريات المغرب، و من دلهي إلى مراكش، تتوجه أبصار العديد المجمهر من عباد الله المصلين شطرها، و تهفو قلوبهم نحوها خمس مرات هذا اليوم و كل يوم. نعم، لهي و الله من اجل مركز المعمورة و اشرف أقطابها )) .

مكة و مكانتها في جزيرة العرب :

مما تقدم نجد أن مكة كانت قبلة العرب، لان جوانحها تضم الرموز القدسية للعرب، بحكم موقعها التجاري الخطير، و لذا سرعان ما تطورت و غدت الحاضرة العربية الأولى في جزيرة العرب، يقول كارليل :

(( و إنما من شرف بئر زمزم و قدسية الحجر الأسود، و من حج القبائل إلى ذياك المكان، كان منشأ مدينة مكة. و لقد كانت هذه المدينة وقتاً ما ذات بال و شأن، و أن كانت الآن فقدت كثيراً من أهميتها. و موقعها من حيث هي مدينة سيء جداً. إذ هي واقعة في بطن من الأرض كثير الرمال ، وسط هضاب قفرة و تلال مجدبة، على مسافة بعيدة من البحر، ثم يمتاز لها جميع ذخائرها من جهات أخرى، حتى الخبز. و لكن الذي اضطر إلى إيجاد هذه المدينة هو أن كثيرا من الحجيج كان يطلبون المأوى، ثم أن أماكن الحج ما زالت من قديم الزمان تستدعي التجارة، فأول يوم يلتقي فيه الحجيج يلتقي فيه كذلك التجار و الباعة. و الناس حتى وجدوا أنفسهم مجتمعين لغرض من الأغراض رأوا انه لا بأس عليهم أن يقضوا كل ما يعرض لهم من منافع و أن لم يكن ذلك في الحسبان، لذلك صارت مكة سوق بلاد العرب باجمعها، و المركز لكل من كان من التجار بين الهند و بين الشام و مصر و بين إيطالية، و قد بلغ سكانها في حين من الأحيان مائة ألف نسمة بين بائعين و مشترين و موردين لبضائع الشرق و الغرب و باعة للمأكولات و الغلال، و كانت حكومتها ضربا من الجمهورية الأرستقراطية عليها صبغة دينية، و ذلك أنهم كانوا ينتخبون لها عشرة رجال من قبيلة عظمى، فيكون هؤلاء حكام مكة و حراس الكعبة.

و كانت الكعبة لقريش في عهد محمد ، و أسرة محمد من قبيلة قريش، و كان سائر الأمة مبدداً في أنحاء تلك الرمال قبائل تفصلها بين الواحدة و الأخرى البيد و القفار، و على كل قبيلة أمير أو أمراء، و ربما كان الأمير راعيا أو ناقل أمتعة، و يكون في الغالب غازيا. و كانت الحرب لا تخمد بين بعض هذه القبائل و بعضها الأخر. و لم يك يؤلف بينهم حلف علني إلا التقائهم بالكعبة، حيث كان يجمعهم على اختلاف و ثنياتهم مذهب واحد، و هي رابطة الدم و اللغة)) .

لغتنا العربية البنت الشرعية للهجة قريش :

و لم تقتصر معالم سيادة قريش على الجانبين الاجتماعي و الاقتصادي و حسب، بل كان للهجة قريش سيادتها في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية. و ما اللغة العربية الفصحى، إلا البنت الشرعية للهجة قريش التي نزل بها القران الكريم، و كانت الأداة "اللغوية" التي وحدت أبناء الجزيرة العربية و أوصلت رسالة الإسلام إلى مختلف شعوب الأرض.

يقول المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (1820-1884) مؤلف تاريخ الدولة الإسلامية في الأندلس و المغرب، و مدرسة اللغة العربية في لايدن، يقول في في مؤلفه "عرب أسبانية" :

(( كان يوجد على عهد محمد في بلاد العرب ثلاث ديانات : الموسوية و العيسوية و الوثنية)).

ثم مضى الباحث باسطاً عادات الوثنين الذميمة حتى انتهى الى القول :
(( في عهد هذه الأحوال الحالكة، ووسط هذا الجيل الشديد الوطأة، ولد محمد بن عبد الله في شهر أغسطس 29 منه عام 570، من هذا نرى أن العالم الإنساني كان بحاجة الى حادث جلل يزعج الناس عما كانوا فيه، و يضطرهم الى النظر و التفكير في امر الخروج من المأزق الذي تورطوا به )) .

شبه الجزيرة العربية قبيل البعثة النبوية :

لقد عرفت الفترة السابقة لظهور الإسلام، عند المؤرخين العرب "بالجاهلية"، استنادا للوصف الذي أطلقه القرآن على تلك الحقبة السابقة لدعوة النبي، تدليلا على ما آلت إليه أحوال شبه الجزيرة العربية من تدهور و انحطاط، إذ ظهر الفساد في البر و البحر.

و لقد كتب باحث غربي عن الوضع الذي آلت أليه الحضارة الإنسانية قبل ضهور الدعوى الإسلامية بقوله :

(( في القرنين الخامس و السادس، كان العالم المتمدين، على شفا السقوط في هاوية الفوضى، لان العقائد التي تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، و لم يك ثمة ما يعتد به مما يقوم مقامها و كان يبدو وقتئذ أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة ألاف سنة مشرفة على التفكك و الانحلال ، و أن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية إذ أن القبائل تتحارب و تتناحر، فلا قانون و لا نظام. أما النظم التي خلفتها المسيحية فكانت تعمل على التفرقة و الانهيار، بدلا من الاتحاد و النظام فكانت المدينة التي تشبه شجرة ضخمة متفرعة، امتد ظلها إلى العالم كله، واقفة تترنح، و قد تسرب إليها العطب حتى اللباب ، و بين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم المعروف جميعه )) .

الاتجاهات الفكرية الدينية في جزيرة العرب قبل البعثة :

الوثنية في شبه الجزيرة العربية :

لقد ارتبطت الحياة الاجتماعية و الفكرية في شبه الجزيرة العربية بالذهنية الغيبية الوثنية التي تجلت بعبادة الأصنام المختلفة يتجه إليها عابدوها في تضرعهم و ابتهالاتهم اعتقاداً منهم القادرة على تسيير الحياة و المسيطرة على مصائر الناس، و أنها المنظمة لحركة الكون، هذا، و لقد اهتم المستشرقون بأوضاع شبه الجزيرة العربية قبل عموماً و بالوثنية العربية خصوصاً، يقول الدكتور جواد علي :

(( و قد عني المستشرقون بهذا الموضوع، فكتبوا بحوثا فيه. و من هولاء (ولهوزن) J.Wellhausen صاحب كتاب (بقايا الوثنية العربية) Arabischen Heidentums و (دتلف نيلسن) Detlef Nielson و (لودولف كريل) Ludolf Krehl و غيرهم.

و لقد اعتمد (ولهوزن) على ما نقله (ياقوت الحمودي) من كتاب الأصنام الذي لم يكن مطبوعاً و لا معروفاً ايام ألف (ولهوزن) كتابه عن الوثنية العربية.

و يعد كتاب (ولهوزن) أوسع مؤلف في موضوعه كتبه مستشروق عن الوثنية العربية، إنما تبعته حديثاً جملة بحوث عن الأصنام العربية ، إنما تبعته حدثيا جملة بحوث عن الأصنام العربية التي عثر عليها في الكتابات مما فات ذكراها في كتاب (ولوزن) ، لان أكثر النصوص الجاهلية لم تكن قد نشرت يومئذ، و بدهياً لم يكن في استطاعة هذا الرجل أن يبحث بشيء من التفصيل في الوثنية ببلاد العرب الجنوبية. و لذا كان أكثر ما جاء في كتاب (ولهوزن) مستمداً من روايات الإخباريين، و لذا كان ضروريا إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو و أمثاله ، لنحصل على صورة شاملة عن أديان الغرب قبل الإسلام)) .

و كان للوضع القبلي علاقة بعبادة الأصنام، فالآلهة الجاهلية كانت آلهة قبلية، و عبادتها عبادة متوارثة، فالصنم هو رمز القبيلة و ممثل الوحدة بين أفرادها، و الموكل بالدفاع عناه، و لذا عبده الأبناء أخذا من الآباء. و كان أي خروج عن عبادة صنم القبيلة يعني الخروج عن إرادتها، وأي تشكيك بهذا المعبود يعني تفكيكاً لوحتها .. و التي هي إدارة شيوخ القبيلة و ساداتها.

يقول الدكتور جواد علي :

(( نعم كان في إمكان أصحاب الكلمة و السيادة و الرئاسة تغيير أصنام القبيلة وتبديل آلهتها .. فهو هم السادة، و الناس تبع لساداتهم ، و في المثل " الناس على دين ملوكهم" لقد أضاف السادة أصناما إلى قبائلهم . فبعدت و تمسك أتباعها بعباداتها، و كانهم قد تلقوا أوامرهم من السماء. و نبذت قبائل بعض أصنامها بأمر من ساداتها ، و دخلت قبائل في الإسلام بدخول سيدها فيه، و دخلت أخرى قبل ذلك في النصرانية لتنصر سادتها ، بكلمة أقنعت الرئيس أو بعد محاورة أو بأبلال من مرض قيل له انه ببركة ذلك الدين، فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال و لا جواب)) .

الإسلام
الحدث الكوني العظيم

تلك هي الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية التي كانت سائدة في جزيرة العرب، و كذلك الحالة الفكرية الدينية المهيمنة على مشاعر العرب قبيل ظهور الإسلام، من وثنية مشركة ، وحركات دينية ضعيفة قوامها اليهودية و المسيحية و الحنفية ... إلى جانب ظهور محاولات إصلاحات دينية محلية، إذ ظهر قبل الإسلام عدد من الأنبياء العرب المصلحين، ورد ذكرهم في القران الكريم اذ بعث الله النبي هوداً في قبيلة عاد و صالحاً غفي ثمود و سواهما من أنبياء عهد الجاهلية.. و هكذا ضلت جزيرة العرب تعيش مرحلة مخاض تاريخي ، يقول توماس كاريل :

(( و على هذه الطريقة عاش العرب دهوراً طوالاً خاملي الذكر غامضي الشأن، أناسا ذوي مناقب جليلة و صفات كبيرة، ينتظرون من حيث لا يشعرون اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ، و يطير في الأفاق صيتهم، و يرتفع إلى عنان السماء صوتهم، و ما ذلك ببعيد، و كأنما كانت وثنياتهم قد وصلت إلى طور الاضمحلال و أذنت بالسقوط و قد حدثت بينهم دواعي اختلال و فوران)) .

و لم تقتصر أوضاع شبه الجزيرة على سيطرة الوثنية و عبادة الأصنام فيها، بل في كونها خاضعة للنظام القبلي الذي فرض حالة الانقسام السياسي و التمزق الداخلي ، بسبب كون كل قبيلة تشكل وحدة سياسية و اقتصادية – اجتماعية مستقلة، مما قاد إلى نشوب صراعات قبلية حالت دون توحيد الجزيرة العربية و جمع كلمة العرب، حتى إذا جاء الإسلام قضي على الوثنية المخزية و القبلية الخطرة ، بقيادة محمد  .. يقول وليم موير في كتابه حياة محمد :

(( كانت أولى الخصائص التي تلفت انتباهنا ، إذاً هي انقسام العرب إلى جماعات لاتعد و لا تحصى ، خاضعة لقانون في الشرف و الأخلاق واحد، و متمسكة بأهداب عادات واحدة ، و متحدثة في الأعم الأغلب بلغة واحدة، و لكن كلاً منها مستقلة عن الأخرى. كانت تلك الجماعات لا تعرف طمأنينة و لا استقراراً و كثيراً ما نشبت الحروب بينهما و حتى لو اتفق أن جمعتها رابطة الدم أو رابطة المصلحة فسرعان ما كانت تتفرق لاتفه الأسباب وتستلم لعداواتها الحقود. و هكذا كان خليقاً بمن يرجع البصر، قبيل بزوغ الإسلام إلى التاريخ العربي ، أن يرى – و كأنما بواسطة المبداع Kaleidoscop - ، حالة من التمازج و التنافر لا تفتأ تتغير و تتقلب، مما أدى إلى إجهاض أيما محاولة من محاولات الوحدة الشاملة .. و كان لابد لهذه المشكلة من أن تحل عن طريق أيما قوة توفق إلى إخضاع العرب أو جمع شملهم ، و لقد حل محمد المشكلة)) .

و يتحدث القس لوزون في كتابه (الله في السماء)) عن الانقلاب المنتظر الذي قاده الرسول  ، بقولة :

(( لقد بعث محمد رسولاً إلى العرب و عاشت بلاد العرب الأزمان الطويلة عاكفة على عبادة الأصنام و توغلت في ذلك حتى احتاجت إلى انقلاب ديني عظيم )) .

و هكذا كان النبي محمد  هذا الرسول، الذي تمكن في المرحلة المقبلة بفضل كفاحه الإنساني المرير أن يحقق ذلك النجاح العظيم و التحول الكبير ليس في الجزيرة العربية وحسب، بل على الصعيد العالمي أيضا. و يتحدث مولانا محمد علي عن عظمة الرسول في نشر الوحدانية الإسلامية في بلاد العرب و قضاءه على الوثنية ، قائلاً :

(( من حضيض هذه الوثنية المخزية انتشل الرسول محمد (عليه اللام) بلاد العرب كلها في فترة من الزمان القصير لا تعدوا عشرين عاماً. انه لم يستأصل الوثنية من بلاد العرب استئصالاً نهائياً فحسب، بل أضرم في قلوب أولائك العرب أنفسهم شرارة من الحماسة لوحدانية الله دفعتهم إلى الانطلاق بعيدا في كل رجاً من إرجاء العالم المعروف آنذاك لرفع راية الإله الواحد، أيضا. و هذا الفطام لبلد برمته – يمتد على مساحة هائلة مقدارها مليون و مئتا ألف ميل مربع – عن لعنة الوثنية التي كانت تهيمن عليه هيمنة مطلقة نتيجة الإرث و التقاليد الراسخة، في مدة لا تتجاوز خمس قرن، بحيث اكتسبت ذلك البلد لقب (محطم الأوثان) المشرف، أقول أليس هذا الفطام هو أعظم معجزة قدر للعالم أن يشهدها في تاريخه كله؟ إلا يستحق الرجل الذي أحدث هذا التحول التقدمي لقب (خير الأنام) استحقاقاً لا مراء فيه )) .

الباب الأول
من مولده ( ) إلى مبعثه ()

مولده ( )

كانت حياة الرسول محمد  متميزة عن حياة أقرانه ، فقد ولد يتيماً ، إذ مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وهو في بطن أمه آمنة بنت وهب بن عبه مناف عام الفيل الموافق لعام 570 للميلاد . . . يقول القس الفرنسي لوازون في محاضرة له عن الرسول محمد  :

(( أواخر جميع الأنبياء كان يعتقد المسلمون هو محمد الذي ولد في مكة لعشر ليال مضت من ابريل سنة 570 للميلاد ، وكانت عائلته شرف عائلة في قريش ، وهى إحدى القبائل الشهيرة في بلاد العرب ، وصاحب النسب المرتقي إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وقد كان جده متولياً سدانة الكعبة ، وكانت دار حكومتهم ، معبد ديانة العرب الوثنية ، وتوفي والده عبد الله قبل ولادته ، و توفيت أمه وهو ابن ستة أعوام ، وكان على أعظم ما يكون من كرم الطباع وشريف الأخلاق ، ومنتهى الحياء ، وشدة الإحساس ، وقد كفله جده وهو ابن ست سنوات وأثناء كفالته بدأت تظهر من محمد علامات الذكاء ورجاحة العقل ، ومر بصبيان يلعبون فدعوه للعب معهم ، فأجابهم أن الإنسان خلق للأعمال الجليلة ، والمقاصد الشريفة ، لا للأعمال السافلة والأمور الباطلة ، وكان على خلق عظيم ، وشيم مرضية ، شفوقاً على الأطفال ، مطبوعاً على الإحسان ، غير متشدق في نفسه ، و لا صلف في معاملته مع الناس ، وكان حائزاً قوة إدراك عجيبة ، وذكاء مفرط ، وعواطف رقيقة شريفة )) .

علامات النبوة في مولده :

لقد دلت الدراسات الإسلامية لسيرة الرسول  ، على أن علامات النبوة ، قد رافقته منذ ولادته ، وأن بعضاً من تلك الدلائل كانت سابقة على ميلاده ، وتستدل على أنه سيكون للعرب نبيهم المرتقب . . . وليس هذا بالأمر العجيب ، إذ كانت نبوة الرسول قديمة قدم ألخلق ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد )) وفي رواية ثانية للرسول  يتحدث فيها عن قدم رسالته ودلائل نبوته حين رأت أمه يوم مولده نوراً أضاء قصور الشام بقوله  :

(( إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بتأويل ذلك ، أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيس بي ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين )) .

و تذكر كتب السيرة الإسلامية والحديث أن اليهود اضطربوا يوم مولد الرسول ، ففي رواية لأم المؤمنين عائشة أنها قالت :

(( كان يهودي قد سكن بمكة فلما كان الليلة التي ولد فيها رسول الله  قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : لا نعلم قال : انظروا فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة بين كتفيه علامة ، فانصرفوا فسألوا فقيل لهم قد ولد لعبد المطلب غلام فذهب اليهودي معهم إلى أمه فأخرجته لهم فلما رأى اليودي العلامة خر مغشياً عليه وقال : ذهبت النبوة من بنى إسرائيل يا معشر قريش أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب )) .

ولم يغب على بال المستشرق والوزير الروماني كونستانس جيورجيو ( المولود عام 1916) في كتابه : " نظر ة جديدة في سيرة رسول الله" ، أن يذكر أن السيد المسيح قال لحوارييه حسب رواية في إنجيل يوحنا : إنه سيأتي بعدي شخص يقويكم ويحميكم وإنه سيرسل إليكم" باركلت" لأنني لن أدعكم يتامى ، وقد أعلن المسيحيون بعد صعود السيد المسيح أن "باركلت" هو نفسه روح القدس . . . يقول جورجيو :

(( ويرى المسلمون أن النصارى حرفوا كلمة السيد المسيح ، لأنه قال انه سيأتي بعدي " بريكلي توس" ومعناها باليونانية ( أحمد )وهو بمعنى ( الممدوح ) . وهو اسم نبي المسلمين . و ( محمد ) معناها الأكثر مدحاً . ويروى أن اليهود ذكروا هذه الكلمة "بريكي تول" ويعلمون أن السيد المسيح سيخلفه ( أحمد ) ، لأن اليهود ( والعهدة على الرواية ) ليلة ولادة رسول الله  اضطربوا كثيراً ، وتخوفوا من وضع آمنة)) .

طفولته في بادية بني سعد :

لقد كان لطفولة الرسول  في بادية بني سعد أثرها على بنيته الجسدية ومستقبلاً على تحوله الفكري ، فقد تكون في تلك البادية استعداده للتأمل الفكري منذ نعومة أظفاره ، يقول المستشرق الفرنسي آتيين دينيه في كتابه : "محمد رسول الله":

(( هذه الصحة الأخلاقية والجسمية التي يدين بها إلى البادية ، ساعدته كثيراً على تحمل ما ابتلي به بعد من محن .
كان محمد يحب إعادة ذكريات تلك الفترة ، كثيراً ما كان يقول : " إن من نعم الله علي التي لا تقدر، أني ولدت في قريش أشرف القبائل، وأني نشأت في بادية بني سعد، أصح المواطن بالحجاز " وقد بقيت منطبعة في نفسه صور البادية التي كانت أول الأشياء تأثيراً في حسه عندما كان يسرح فيما مع الرعاة فيتسلق شرفاً ليلاحظ القطعان في مراعيهاً.

على أن استعداده للتأمل والوحدة لم يكن لينسجم مع أخلاق أقرانه الصاخبة ، فكان يفضل اعتزالهم في ألعابهم ، ويذهب وحيداً حيث الهدوء والسكون 0)) .

وتتحدث كتب الحديث والسيرة عن دلائل النبوة التي ظهرت له أثناء طفولته في بادية بنى سعد التي ترويهاً حليمة السعدية ، حين حضرت إلى مكة مع نساء عشيرتها لالتماس تربية أطفال أشراف مكة حسبما درجت عليه الطبقات الأرستقراطية التي تعهد بأبنائها للمراضع من القبائل البدوية لتنشئهم التنشئة الصحية في أجواء البادية . ومن جهتهم نقل المستشرقون ممن دونوا سيرة النبي عن تلك الكتب بما يخص طفولة الرسول ودلائل النبوة .

ولقد جاء في كتب السيرة والحديث عن طفولته ( صلوات الله عليه ) على لسان أمه بالرضاع حليمة السعدية ، قولها :

« قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء في سنة شهباء فقدمت على أتان لي ومعي صبي لنا وشارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ولا نجد في ثديي ما يغذيه ولا في شارفنا ما يغذيه ، فقدمنا مكة فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله  فتأباه إذ قيل إنه يتيم الأب فو الله ما بقى من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غره ، فلما لم أجد غيره قلت لزوجي إني لأكره أن أرجع من بين صواحباتي وليس معي رضيع ، لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه . فذهبت فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن يفوح منه المسك وتحته حريرة خضراء راقداً على قفاه يغط ، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فدنوت منه رويداً ، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكاً ففتح عينيه ينظر إلي فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء ، وأنا أنظر فقبلته بين عينيه وأعطيته ثدي الأيمن فأقبل عليه بما شاء من لبن ، فحولته إلى الأيسر فأبى ، وكانت تلك حاله بعد . قالت فروي وروي أخوه ، ثم أخذته بما هو إلى أن جئت به رحلي ، فأقبل عليه ثدياي بما شاء الله من لبن ، فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي ، فقام صاحبي تعني زوجها إلى شارفنا تلك فإذا بها لحافل فحلب فشر ب وشربت حتى روينا وبتنا بخير ليلة . فقال صاحبي يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه ، فلم يزل الله يزيدنا خيراً . قالت حليمة رضي الله عنها فودعت أم النبي  ثم ركبت أتاني وأخذته بين يدي فسبقت دواب الناس الذين كانوا معي ، وهم يتعجبون منها . م قدمنا منازل بي سعد ولا أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها وكانت غنمي تروح علي حين قدمنا شباعاً لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعانهم : اسرحوا حيث يسرح راعي غنم بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً ما نبض بقطرة لبن و تروح أغنامي شباعاً لبناً )) .

و تتحدث كتب السيرة كذلك عن خبر شق صدر الرسول  واستخراج علقة سوداء من قلبه ، مما يرمز لعصمته و تطهره ..

هذا، وقد علق آتيين دينه في كتابه : ((محمد رسول الله)) على حادثة شق صدر الرسول بقوله :

(( سجل القرآن هذه الحادثة في قوله  الم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ... .

هذه القصة ككل القصص التي من نوعها، والتي يجدها القارىء أثناء قراءته هذا الكتاب يجب أن تؤول تأويلاً رمزياً . والقصة التي نحن بصددها تعنى : أن الله شرح صدر محمد إلى الفرح بحقيقة التوحيد ، إذ أزال عنه منذ الطفولة وزر الوثنية )) .

رعاية جده و توسميه له بالخير

هذا ، وتولى عبد المطلب بن هاشم جد الرسول محمد  رعاية حفيده و سماه محمداً . متوسماً به الخير، وكان يعتقد حسب مصادر الحديث _ بأنه سيكون له شأن . يقول توماس كارليل متحدثاً عن مولده وتوسم الخير به :

(( وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم ، أن ولد الرجل محمد (عليه السلام ) عام 570 ميلادي ، وكان من أسرة بني هاشم من قبيلة قريش ، وقد مات أبوه قبل مولده، ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه ، وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل ، فقام عليه جده الشيخ الذي كان ناهز المائه من عمر، وكان صالحاً بارا وكان ابنه عبد الله أحب أولاده إليه ، فأبصرت عينه الهرمة في محمد صورة عبد الله فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه ، وكان يقول : (( ينبغي أن يحسن القيام على ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حسناً وفضلاً )) .

و تتحدث كتب السيرة الإسلامية ، أن جده كان يعتقد بأن محمداً سيكون نبي العرب ، ولم يكن هذا مستغرباً ، في تلك المرحلة التي تنتظر ولادة تاريخية جديدة ، ويقول الكاتب جيورجيو في دراسته حياة الرسول  ، واستدلال معاصريه بأنه سيكون الرسول المرتقب :
(( والأمر المسلم به أن العرب - في الماضي - لم يدهشوا من ولادة نبي ، لأن مثل هذا الأمر حصل في بعض أنحاء جزيرتهم قبلاً . حتى آمنة ، لم يبد عليهاً العجب ، فقد روي أنها سمعت أن ابنها نبي ، فلم تندهش لهذه البشرى ، لأن أرض العرب ، لم تكن أرضاً منجبة للأنبياء وحسب ، بل كانت مهاداً لأفراد خاطبوا الله تعالى ، بل إن كل أنبياء الجزيرة خاطبوا ربهم )) .

وتابع قوله :

(( ففي شبه الجزيرة العربية المترامية الأطراف ، خلافاً للأقطار الأخرى ، وصحرائها التي لا يعترضها حاجز . . . ترى البصر يمتد إلى اللانهاية من كل طرف ، صحراء ممتدة الأرجاء ، وسماء لا نهاية لها . . . ولهذا فليس فيها ما يمنع إمكانية معرفة الله وملائكته . ولم تكن مصادفة الخالق في هذه الصحراء الواسعة حالة استثنائية نادرة ، كا كما لم تكن ولادة نبي فيها خارقة للعادة.

ويروي بالإضافة إلى آمنة _ إذ أقرباء محمد  جميعاً علموا أن هذا الطفل نبي . ومع هذا فإنهم لم ينظروا إليه نظرة لم أعجاب ، كما لم تختلف رعايتهم له عن رعاية غيره من أطفال قريش. ربما كانت نظرتهم لم إلى ولادة النبي عادية ، لأن المهم في الأمر أن هذا النبي في النهاية يستطيع أن يؤدى رسالته التي سيتلقاها )) .

كفالة عمه إياه

وحين توفى جد الرسول  عبد المطلب وهو في الثامنة من عمره ، كفله عمه أبو طالب رأس أسرة بنى هاشم بعد أبيه ، فأحسن تربيته ، وسافر معه إلى الشام في بعض رحلاته التجارية ، فالتقي النبي محمد  وهو في الثانية عشر من عمره بالراهب ( بحيرا ) واسمه جرجيس ، في بصرى الشام ، و توسم هذا الأخير به علامات النبوة . . . ولقد أوصي بحيرا الراهب أبا طالب أن يعني بابن أخيه لأنه سيكون النبي المرتقب وحذره من خطر اليهود . . .

رحلته الأولى إلى بلاد الشام ولقاؤه ببحرا الراهب

تقول كتب السيرة والحديث ، أن بحيرا الراهب حين رأى رسول الله قال وهو آخذ بيده :

(( هذا هو سيد المرسلين ، هذا سيد العالين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقيل له وما علمك بذلك فقال : أنكم حين أشرفتم به من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدان إلا لنبي ، و أني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة و أنا نجده في كتبنا ، وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عليه من اليود )) .

ولقد بحث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل قضية لقاء الرسول  ببحيرا الراهب ، وما كان لهذا اللقاء من أثر على توجيه للتفكر في قضايا الحياة والخلق . . . وقد رد كارليل في كتابه الأبطال على تلك المزاعم التي تقول إن ذلك الراهب قد لقنه العلم و انه وراء النبوة التي أنزلت على النبي محمد  يقول :

« ولما شب محمد وترعرع ، صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه ، وفي الثامنة عشر من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب ، غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين ، رحلة إلى مشارف الشام ، إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره ، أعنى الديانة المسيحية . واني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرا ) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في الدار ، ولا ماذا عساه أن يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما ، فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشر ، ولم يكن يعرف إلا لغته ، ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها . ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان ، ولا بد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضميره ، ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشي ، وتحلها له يد الزمان يوماً ما ، فتخرج منها أراء وعقائد ونظرات نافذات ، فلعل هذه الرحلة الشامية كانت لحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة )) .

الرحلة الثانية إلى بلاد الشام

ولم تكن رحلته إلى الشام برفقة عمه هي الوحيدة ، بل كانت رحلته الثانية وهو ابن عشرين عاماً، التماساً للرزق على ما درج عليه المكيون في العمل بالتجارة » يقول آتيين دينيه :

(( كانت حالة أغلب المكيين - كأبي طالب - تضطرهم إلى التجارة ، فإقليمهم من أشد الأقاليم جدباً ، ولذلك لم يكن من الممكن لقانطيه أن يعيشوا إلا بالتعامل مع اليمن وسورية ، اللذين تربط بينهما مكة ، فكانت قوافلها تذهب إلى اليمن الذي أطلق عليه "الإقليم العربي السعيد " للبحث عن منتجاته والمنتجات التي تصل إليه عن طريق البحر، فيبتاعون مما تنتج الحبشة والهند والصين ، من التوابل والعطر والبخور ، والتبر، والحرير ، وفي عودتهم إلى الحجاز يضيفون إلى ذلك تمر يثرب أو الطائف . . ثم يذهبون بعد ذلك إلى سورية ليستبدلوا ببضائعهم منتجاتهم الزراعية : كالقمح ، والشعير ، والأرز ، والتين ، والزبيب ، يضاف إليها ما يوجد في سورية مما يصدره إليها اليونان والرومان . ولم تكن النساء بمعزل عن هذا النوع من التجارة : فقد كن يخترن من يخرج في مالهن للاتجار في مقابل جزء من الربح . هكذا كانت تفعل خديجة بنت خويلد ذات الثراء الواسع ، والحسب النبيل . وفي ذات يوم أرسلت إلى محمد – وقد كانت تسمع بما له من عقل متزن ، وأمانة وإخلاص - فعرضت عليه أن يسير على رأس تجارتها إلى الشام <، وأن تمنحه في مقابل ذلك ضعف ما كانت تمنح عادة لغيره )) .

خبر لقاءه مع نسطور الراهب

و تتحدث كتب السيرة أيضاً عن لقاءه ، بحيرا الراهب ، وفي كتب أخرى مع نسطور الراهب ، وكيف أنه جلس في ظل شجرة ، وأنه في الرواية الأولى قال بحيرا الراهب لأبي بكر : (( هذا والله نبي ما استظل تحت ظلها بعد عيس إلا محمد  ، بين كان تعليق نسطور : (( ما نزل تحت ظل هذه الشجرة بعد عيس إلا نبي )) .

زواج الرسول

و تزوج النبي محمد  خديجة بنت خويلد وهو ابن خمسة وعشرين عاماً ، بينما كانت هي في الأربعين ، وعلى جانب من الثراء والجمال ، (( ويقال إنها تزوجته لما عرفت عنه من الأمانة والإخلاص والنباهة ، وإنها رأت فيه علامات النجابة والنبوة ، وان غلامها ميسرة أخبرها حين رجع من رحلته مع الرسول من الشام بأنه شاهد في الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس )) .

لقد اتفقت الدارسات الاستشراقية على أن النبي شهر بأخلاقه السامية وأمانته وشرف نفسه، يقول الباحث والمستشرق البلجيكي ألفرد الفانز ، في كتابه علم النفس : عن أخلاقه  وأمانته وزواجه من خديجة :

(( شب محمد حتى بلغ ، فكان أعظم الناس مروءة وحلماً وأمانة ، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً ، وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالأمين ، وبلغت أمانته وأخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية ، وكانت ذات مال ، فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسر ، فحرج وربح كثيراً ، وعاد إلى مكة واخبرها ميسرة بكراماته ، فعرضت نفسها عليه وهي أيم ، ولها أربعون سنة ، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة ، ثم بقيت معه حتى ماتت )) .

هذا ، وقد توقف المفكر الإنكليزي توماس كارليل عند زواج الرسول الحازم الأمين من خديجة التي أعجبت به ، وحبه العميق إياها ، وعيشه معها تلك العيشة الهادئة ، حتى ثار في أعماقه ألق النبوة :

(( وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة ، وكيف أنه كان أولاً يسافر في تجارات لها إلى أسواق الشام ، وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والأمانة ، وكيف جعل شكرها له يزداد وحبها ينمو ، ولما زوجت منه كانت في الأربعين ، وكان هو لم يتجاوز الخامسة والعشرين ، وكان لا يزال عليها مسحة من ملاحة .

ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة ، يخلص لها الحب وحدها ، ومما يبطل دعوى القائلين أن محمداً لم يكن صادقاً في رسالته ، بل كان ملفقاً مزوراً أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ، لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوى ، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة ، ولما يك الا بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماوية . ومن هذا التاريخ تبتدىء حوادثه وشواذه ، حقيقة كانت أم مختلقة ، وفي هذا التاريخ توفيت خديجة . نعم ، لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادىء الساكن ، وكان حسبه من الذكر والشهرة حسن آراء الجيران فيه ، وجميل ظنونهم به ، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب واقبل المشيب أن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هائجاً ، و ثار يريد أمراً جليلاً وشأناً عظيماً )) .

وكتب المستشرق البلجيكي الأب هنري لامنس ( لا 186 _1977 ) الذي عرف بدراسته عن عرب الجاهلية والعهد الأموي ، فصلاً في أحد مؤلفاته (عهد الإسلام) يقول :

((ن محمداً بعد أن تزوج بخديجة أصبح معروفاً في قومه ، وكان الناس يجلون أوصافه ويحمدون سيرته ، ويلقبونه بالأمين أي الصادق الذي يعتمد عليه )) .

ويقول غلرب باشا في كتابه الفتوحات العربية الكبرى :

(( وحرر ثراء خديجة زوجها محمداً من العوز ، وفسح له المجال لاحتلال مركز اجتماعي مرمرق في مجتمع مكة الذي يقدر الثراء )) .

وهنا لا بد لنا من وقفة ، عند آراء المستشرقين أمثال لامنس وغلوب باشا عن عزوا تبوؤ محمد مكانة مرموقة في مكة بفضل ثروة زوجته خديجة .

ومن إقرارنا بأن زواجه يسر له شؤون حياته وحرره من المشاكل المادية ، ليجعله أكثر تفرغاً للنواحي الروحية ، ولكن هيهات لهذا أن يعزز مكانته الاجتماعية ويدفعه لتسنم ذرى المجد بسبب ثروة زوجته لأنه كان أبعد عن حياة البذخ ، دائم التبتل والتأمل ، بل يمكن القول إن نجاح الرسول  مكانته في قبيلته وفي أخلاقه ، وأهانته وعصمته . . .

يقول المستشرق الفرنسي « مارسيل بوازار » في كتابه ((إنسانية الإسلام )) :

(( هذا ، ولقد أمن له هذا الزواج اليسر والرخاء ، فكان يقضي أوقات الفراغ في عمله بالتجارة في العزلة والتأمل في ما بلغته الأقوام العربية من التردي الخلقي ، كما كان يخلو - قبل رسالته بثلاثة أعوام - إلى غار حراء خلال شهر رمضان للتبتل و توزيع الطعام على الفقراء )) .

ويتحدث الباحث الإنكليزي مونتجمري وات في كتابه « محمد في مكة » أن الرسول  بعد زواجه من خديجة ، أخذ يرتقي سلم النجاح في مجتمعه المكي ، لمكانته في عشيرته ولأخلاقه السامية . . . وأن خديجة رغم اهتمامها بالمسائل المادية كانت أعجب بكفاءاته الروحية وخير معوان له في المرحلة التالية ، يقول :

(( كانت السنوات التي تلت زواجه سنوات لم إعداد لعمله في المستقبل . ولم يحفظ لنا شيء عنها يسمح لنا بإعادة تكوين مراحل هذا الاستعداد . وأفضل ما نفعل هو أن نقوم ببعض الاستنتاجات مما وصلنا فيما بعد . كهذه الآيات في سورة الضحى ( 93/ 6- 8) التي يبدو أنها ترجع لتجارب محمد الأولى.

ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى .

يمكن أن نستنتج من هذه الآيات أن إحدى مراحل تفتحه كانت إدراكه أن يد الله قد أخذت بيده بالرغم من مصائب الدهر وسنعرف بعض الإشارات إلى هذه السنوات الغامضة بعد )) .

وكانت خديجة رضي الله عنها خير رفيقة الحياة في مرحلة نبوته اللاحقة وأماً لأولاده ، يقول آتيين دينيه :

(( كانت خديجة أول زوجة بنى بها الرسول . وبقيت - طيلة حياتها - زوجه الوحيدة المحببة التي لا يجد غيرها إلى قلبه سبيلاً . وقد أنجبت له سبعة أولاد ، ثلاثة ذكور هم : القاسم ، والطاهر والطيب ، وأربع إناث : رقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، وفاطمة . وبعد مولد القاسم الذي كان أول من أنجب الرسول من الذكور كني محمد بأبي القاسم . لكم سعد محمد بأن منحه الله طفلا ذكرا ولكم أعز محمد هذا الطفل وأحبه ، ولكم حزن حين أصابته المقادير ، وهو ما زال بعد في دور الطفولة . وأراد الله أن يكون مصي الطاهر والطيب مصير القاسم ، فمات الجميع قبل بعثة الرسول .

أما البنات فقد عشن إلى ظهور الإسلام وكن من أوليات أسلمن ، وساعدن جاهدات، في سبيل الله ورسوله )) .

المثل الأعلى في الاستقامة و الأمانة

وأجمع مؤرخو السيرة على استقامة الرسول  وأمانته التي اعترف فيا أعداؤه قبل أصدقائه . . . وكان يلقب قبل البعثة بالأمين . . . . حتى أن زواج خديجة منها سببه استقامته ، يقول أستاذ اللغات الشرقية ورئيس مجمع البحوث والآداب في باريس المستشرق الفرنسي كليمان هوار (1854 -1927 ) في الجزء الأول من كتابه : ( تاريخ العرب )) :

(( كيف تعرف محمد إلى خديجة ، وكيف أمكن أن يحصل على ثقتها ويتزوج بها ، الجواب على الشق الأول لا زال غير معروف عندنا ، وأما على الشق الثاني فقد اتفقت الأخبار على أن محمداً كان في الدرجة العليا من شرف النفس ، وكان يلقب بالأمين ، أي بالرجل الثقة المعتمد عليه إلى أقصى درجة ، إذ كان المثل الأعلى في الاستقامة )) .

وعن رفيع أخلاقه وسامي خصاله وعصمته من الانزلاق في مهاوي الرذيلة يتحد المستشرق جرسان دتاسي ، قائلاً :

((أن محمداً ولد في حضن الوثنية ، ولكنه منذ نعومة أظفاره أظهر بعبقرية فذة ، انزعاجاً عظيماً من الرذيلة وحباً حاداً للفضيلة ، وإخلاصاً ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين )) .

وبديهي أن يعتبر الباحثون المسلمون والمؤرخون العرب تلك الصفات ، و هذه السجايا من دلائل النبوة ، و تتمثل أشد ما تتمثل بعصمة الله رسوله المرتقب من أجواء الرذيلة الشائعة في جاهلية العرب ، وأنه صلوات الله عليهى كان يشعر انطلاقاً من حدسه بأن عليه الابتعاد عن المعاصي والموبقات ، وأن الله جلت عظمته اختاره لأداء رسالة عظيمة . . . وعن هذا الأمر يتحدث الباحث الأرجنتيني دون بايرون ( 1839 _ 1900 ) في مؤلفه : « أتح لنسفك فرصة » فيقول :

« لا يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينته أرق من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاء وعبقرية ، وأن الله اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمد بن عبد الله كان ممتازاً بين قومه بأخلاق حميدة ، من صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى سماه أهل بلده الأمين ، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم ، وكان لا يشرب الاشربة المسكرة ، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً ، وكان يعيش مما يدره عليه عمله من خير ، ذلك أن والده لم يترك له شيئاً يذكر ، ولما تزوج خديجة كان يعمل بأموالها () .

إذاً ، كانت حياة الرسول الأولى ، قبل أن ينزل عليه الوحي حياة الهدوء والسلام ، يميل للدعة ، مما وقف تجاهه المستشرق الايرلندي السير وليم موير (1808-1867 ) في كتابه (الإسلام) ، فقال :

(( إن محمداً لم يكن في وقت من الأوقات طامعاً في الغنى ، إنما سعيه كان لغيره ، ولو ترك الأمر لنفسه لآثر أن يعيش في هدوء وسلام قانعاً بحالته )) .

وقال ، في مكان آخر :
((إن النبى محمداً في شبابه طبع بالهدوء والدعة والطهر والابتعاد عن المعاصي التي كانت قريش تعرف بها )) .

ويقول المستشرق سيديو ، في الجزء الأول من كتابه : ( تاريخ العرب) :

(( ولقد بلغ محمد من العمر خمساً وعشرين سنة استحق بحسن مسرته واستقامته مع الناس أن يلقب بالأمين ثم استمر على هذه الصفات الحميدة حتى نادى بالرسالة ودعا قومه إليها فعارضوه أشد معارضة ، ولكن سرعان ما لبوا دعوته وناصروه ، وما زال في قومه يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، ويفيض عليم من عمله وأخلاقه )) .

وعن هذه القضية يتحدث المؤرخ والمستشرق الإنكليزي السير موير في كتابه : (حياة محمد ) :
((إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه، وحسن سلوكه . ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداً أسمى من أن ينتهي إليه الواصف ، ولا يعرفه من جهله . وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيد ، وذلك التاريخ الذي ترك محمداً في طليعة الرسل ومفكري العالم )) .

الأمين وبناء الكعبة

ولما بلغ النبي محمد  من عمره الخامسة والثلاثين ، تعرضت الكعبة للهدم ، فعمدت قريش إلى بنائها ، فلما تنازع القرشيون فيما بينهم من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه ، اتفقوا على تحكم أول من يخرج لهم ، .. فكان  أول من خرج ، فحكم بينهم بأن يجعلوا الحجر الأسود في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل .

وجاء في أحدى روايات كتب الحديث الشريف : أنهم قالوا : نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة ، فكان أول من دخل منه ، فاخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل فخذ من قبائل قريش بأن يأخذ بطائفة من الثوب فرفعوه م أخذه فوضعه بيده الشريفة )) .

وقد استرعت هذه الحادثة انتباه المستشرق الألماني أغسطينوس موللر ( 1148- 1894) الذي درس اللغة العربية في فيينا ، فتوقف عندها ملياً ، وقال في كتابه « الإسلام » :

(( ذكر أن قريشاً هدمت الكعبة ، وكان النبي هو ابن -35- منة يشتغل معهم ، وتعرض لتنازع قريش برفع الحجر الأسود فيضعه مكانه ، ثم تعرض لسياسة النبي محمد في هذا المقام وأنه أدهش قريشاً بسياسته الرشيدة .

ولقد راح بعض المستشرقين يعلق على هذا الحادث تعليقات مليئة بالتقدير والإعجاب لهذه الشعلة العبقرية التي مكنت محمدأ من تفهم الموقف بسرعة عظيمة ، والتوسل بهذه الحيلة البريئة إلى إرضاء زعماء قريش جميعاً )) .

كما توقف الأب هنري لامنس عند هذه الحادثة فقال :
(( لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة ، وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليه بوضع الحجر الأسود في مكانه ، وكادوا يقتتلون ، فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الإله الهاشمي ، قائلين هذا هو الأمين )) .

حادثة بناء الكعبة مقدمة النبوة

لقد ربط المستشرق الأسوجي أرثر جيلمان في كتابه : « الشرق » بين هذه الحادثة التي منعت اقتتال القبائل العربية التي هي بطون لقريش ووحدت إرادتهم في بناء الكعبة ، وبين المرحلة اللاحقة لبدء البعثة ، والتي تشكل مقدمة للنبوة بقوله :

(( لا بد أن يكون محمد قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم هذه الفكرة التي بسطت السلام بين مختلف القبائل ، ولا يبعد أن يكون محمد قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاءً وعبقرية ، وأن الله قد اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمداً كان ممتازاً بين قومه بأخلاقه جميلة ، من صدق الحديث ، والأمانة ، والكرم وحسن . الشمائل و التواضع ، حتى سماه أهل بلده – الأمين – و كان من شدة ثقتم به يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم ، و كان لا يشرب الأشربة المسكرة لا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً)) .

أجل ، لقد شهر عن الرسول ابتعاده عن الوثنية السائدة في قريش ، وكان دائم التفكير في أحوال أمته ، ينأى عن كل أسباب التلوث الفكري والعملي ، فعصمته إرادة الله عن ارتكاب المعاصي ، يأنس في نفسه الحدس فيما هو مقبل عليه ، بمرحلة تأمله في الحقيقة الأزلية لسر الوجود وجوهر الألوهية . . . . يقول المستشرق كادا دوفيك (1805_1877) في مؤلفه : « مفكرو الإسلام » :

(( أن محمداً من سن الخامسة والعشرين إلى الأربعين كان كثير التفكير هادئاً ساكناً، وكان حليماً تقياً حسن الأخلاق ، وانه عندما بلغ الأربعين توجهت جميع قواه العقلية إلى جهة التأمل في جوهر الألوهية ، والبحث عن الحقيقة الدينية ومذ ذاك أخذ يعتزل الناس ويخلو بنفسه في غار حراء بقرب مكة )) .

مقدمات النبوة وسر الوجود

أن هذه الحالة الفكرية التأملية التعبدية التي عاشها الرسول - عليه السلام - كانت عملياً المقدمة للنبوة ، فالبحث عن الحقيقة في شؤون الحياة ، وواقع العرب ، ومسائل الدين لا بد أن يقود إلى معرفة الحقيقة ، وان يقترب الإنسان أكثر فأكثر من خالقه ، خاصة ، وأنه كان على موعد مرتقب مع الوحي الإلهي . . . . يقول توماس كارليل في هذا الصدد :

(( لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه - كما قلت - بأهواله ومخاوفه وروانقه ومباهرة ، لم يك هناك من الأباطيل ، ما يحجب ذلك عنه ، فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه : « هأنذا » . فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى الهي مقدس ، و ما كلمة مثل هذا الرجل الا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة ، فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية ، وكل القلوب واعية ، وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء ، وما زال منذ الأعوام الطوال ، منذ أيام رحله وأسفاره ، يجول بخاطره آلاف من الأفكار : ماذا أنا ؟ وما ذلك الشيء ، العديم النهاية الذي أعيش فيه ، والذي يسميه الناس كوناً ؟ وما هي الحياة ؟ وما هو الموت ؟ وماذا أعتقد ؟ وماذا أفعل ؟ فهل أجابته على ذلك صخور جبل حراء ، أو شماريخ طود الطور ، أو تلك القفار والفلوات ؟ كلا ولا قبة الفلك الدوار، واختلاف الليل والنهار ، ، ولا النجوم الزاهرة والأنواء الماطرة . لم يجبه لا هذا ولا ذاك ، وما للجواب عن ذلك إلا روح الرجل وألا ما أودع الله فيه من سره .

وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه ، فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هذه هي كبرى المسائل وأهم الأمور ، وكل شيء عديم الأهمية في جانبها ، وكان لم إذا بحث عن الجواب في فرق اليونان الجدلية ، أو في روايات اليهود المبهمة ، أو نظام وثنية العرب الفاسدة ، لم يجده . وقد قلت إن أهم خصائص البطل ، وأول صفاته وأخرها ، هي أن ينظر من خلال الظواهر إلى البواطن ، فأما العادات والاستعمالات والاعتبارات والاصطلاحات ، فينبذها حميدة كانت أو رديئة . وكان يقول في نفسه : ( هذه الأوثان التي يعبدها القوم لا بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ما هي لم إلا رمز له وإشارة إليه ، وألا فهي باطل وزور ، وقطع من الخشب لا تضير ولا تنفع ) .

وما لهذا الرجل والأصنام ، وأنى تؤثر في مثله أوثان ولو رصعت بالنجوم لا بالذهب ، ولو عبدها الجحاجح من عدنان والأقيال من حمير، أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافة ؟ إنه في وادٍ وهم في واد، هم يعمهون في ضلالهم ، وهو ماثل بين يدي الطبيعة قد سطعت لعينيه الحقيقة الهائلة ، فإما أن يجيبها و إلا فقد حبط سعيه ، وكان من الخاسرين. فلتجبها يا محمد، أجب ، لابد من أن توجد الجواب ، أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره ؟ حمق وأيم الله ، وسخافة وهوس، أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب ، وفي تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما بالأرض من تيجان وصوالجة ، وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر، أفي مشيخة مكة ، وقضيب مفضض الطرف ، أو في ملك كسري و تاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة ؟ كلا، إذن فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين القائل أن محمداً كاذب ونعد مواقفهم عاراً وسبة » وسخافة وحمقأ» فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع )) .

الباب الثاني
من البعثة إلى الهجرة

الفصل الأول

البعـــــــــــــــــــــثة
الوحي وبدء البعثة

لقد عرف عن النبي  أنه كان دائب الاعتكاف يتأمل في سر الوجود ، حبب إليه الخلوة والتحنث ، يقض الأيام الطوال في العزلة والتعبد . . .

وكان نزول الوحي عليه في شهر رمضان من عام 610 ميلادية حين بلغ الأربعين من عمره وهو في غار حراء » فهو المصطفى المختار ليكون للناس كافة بشيراً ونذراً . . ..

يتحدث المستشرق الفرنسي جان توزنون كرو ( 1867 _ 1924 ) في كتابه « العرب » عن مقدمات النبوة وبدء البعثة في مقدمة كتابه بقوله :

((أن الله اصطفى محمداً لإرشاد أمته ، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة وإنارة أبصارهم بنور الحق ، فأخذ من ذلك العهد ينادى باسم الواحد الأحد ، بحسب ما أوحى إليه وبمقتضى عقيدته الراسخة )) . إلى أن قال :

(( وقذف في نفس محمد مجموع كتاب ملآن بالأسرار والإلهية ، وأوحى إليه مجموعة حقائق تجتاز مسافة عقله الطبيعي ، لذلك فإن الله علم الإنسان بالقلم » علمه ما لم يعلم ، هذا هو سر الوحي ، وهو مر الكلمة المكتوبة ، و كانت الكلمة المكتوبة وحياً إلهياً)) .

ويتابع الباحث الفرنسي حديثه من بدء البعثة بقوله :

(( وفي نواحي سنة 610 للميلاد ، بلغ محمد أشده ، فكان لا يقدر أن يتصور حال قومه بدون أن يتألم ، وكان يرى أن أمراً ضرورياً ينقصه وينقص قومه ، وكان العرب ، كل قبيلة منهم عاكفة على صنمها ، وكانوا يقولون بالجن والأشباح والغيلان ، ولكنهم كانوا في غفلة عنها ، وكانت هذه الغفلة هي الموت الروحي ، وكان قلب محمد قد خلا من كل فكر غير الفكر بلله ، وكان قد تجرد من كل قوة غير هذه القوة ، وكان ليس في نظره غير واجب الوجود الأحد الصمد ، إلى أن قال : « وأحب محمد في تلك الفترة العزلة ، فكان يشعر في خلوته في جبل حراء بسرور عميق ، يتزايد يومأ فيوماً » فكان يقض هناك الأسابيع وليس معه إلا قليل من الغذاء ، لأن نفسه كانت تلتذ بالصوم والتهجد » )) .

وتحدث المفكر الإنكليزي توماس كارليل في كتابه الأبطال عن اعتكاف الرسول  وتفكره بحقائق الحياة وأسرار الكون حين يقول :

« وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس في شهر رمضان ، فينقطع إلى السكون والوحدة دأب العرب وعادتهم ، ونعمت العادة ما أجل وأنفع ، ولا سيما الرجل كمحمد ، لقد كان يخلو إلى نفسه فيناجي ضميره صامتاً بين الجبال الصامتة ، متفتحاً صدره لأصوات الكون الغامضة الخفية . آجل ، حبذا تلك عادة ونعمت ، فلما كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غار بجبل ( حراء ) قرب مكة شهر رمضان ، ليفكر في تلك المسائل الكبرى ، إذ هو قد خرج إلى خديجة ذات يوم ، وكان قد استصحبها ذلك العام و أنزلها قريباً من مكان خلوته ، فقال لها : انه بفضل الله قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر ، وأنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشك وبرح الخفاء ، وآن جميع هذه الأصنام محال ، وليست إلا أخشاباً حقيرة ، وان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، فهو الحق وكل ما خلاه باطل ، خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي ، الله اكبر والله الحمد ، ثم الإسلام وهو آن نسلم الأمر لله ، ونذعن له ، ونسكن إليه ، ونتوكل عليه ، وآن القوة كل القوة في الاستنامة لحكمه ، والخضوع لحكمته ، والرضا بقسمته ، أية كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة ، ومهما يصبنا به الله ولو كان الموت الزؤام فلنلقه بوجه مبسوط و نفس مغتبطة راضية ، و نعلم أنه الخير وآن لا خير إلا هو )) .

ويتابع كارليل الحديث عن هذا الاعتكاف والتفكر في شؤون الحياة والكون ، إذ كشفت له الحقيقة وأنيرت بصيرته ، مع نزول الوحي عليه » بقوله :

((نعم ، هو نور الله قد سطع ئ روح ذلك الرجل فأنار ظلماتها، هو فياء باهر كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك ، وقد سماه محمد _عليه السلام _ وحياً و« جبريل » ، وأينا يستطيع أن يحدث له اسماً ، ألم يجيء في الإنجيل أن وحى الله يهبنا الفهم والإدراك ، ولا شك أن العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء سر من أغمض الأسرار لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره . وقد قال نوفاليس : « أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله ؟ » فشعور محمد - إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة _ بأن الحقيقة المذكورة هي أهم ما يجب على الناس علمه ، لم يك إلا أمراً بديهياً ، وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه من الهلاك والظلمة ، وكونه قد أصبح مضطراً إلى إظهارها للعالم أجمع ، هذا كله هو معنى كلمة ( محمد رسول الله) وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين)) .

لقد أنار نزوع الرسول  إلى الوحدة والتأمل الوجداني العميق ، مفكراً بالشؤون الدينية والقضايا الاجتماعية ، أنار له الطريق لإدراك جوانب الفساد وضروب الضلال في المجتمع المكي، كما كشف له الحقيقة الأزلية : حتمية وجود خالق فرد صمد ، ولا بد بالتالي أن يخضع هذا الكون الكبير لنواميس تديره ، ~ من أصنام قريش وأوثانها .

ويتحدث المؤرخ الألماني كارل بروكلمان في كتابه : « تاريخ الشعوب الإسلامية » عن بعثة الرسول بقوله :

(( وأغلب الظن أن محمداً قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جداً ، وهو أمر لم يكن مستغرباً عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن أرواء ظمئهم الروحي . و تذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى ، أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد . ومع الأيام أخذ الإيمان بالله يعمر قلبه ويملك عليه نفسه ، فيتجلى له فرغ الآلهة الأخرى )) .

ويجدر بنا أن نقف عند نقطة هامة ، أثارها بروكلمان عرضاً ، لكن وقف عندها الكثير من الباحثين الفرنسيين ، وهي أن الرسول  قد أخذ من اليهود والمسيحيين أخبارهم السالفة ، ومعلوماتهم الدينية والتاريخية ليشككوا بصدق الوحي ، لينتهوا إلى القول بأن القرآن من تأليف محمد ، ولقد أشار الباحث العربي اللبناني الدكتور عمر فروخ في تعليقه على كتاب بروكلمان بقوله :

(( أكثر المبشرين والمستشرقين يذكرون أن الرسول اتصل ببعض النصارى واليهود وأخذ عنهم عدداً من المعلومات الدينية والتاريخية . ثم هم يذكرون أن هذه المعلومات كانت خاطئة أو ناقصة .

أما وجه الحق فخلاف ذلك . إلا أنني لا أريد أن أريد هنا على المبشرين والمستشرقين مفنداً جميع أقوالهم فذلك مما يطول ، ومما اشتعل به نفر من العلماء أيضا كالشيخ محمد عبده . ولكنني أقول أن العرب أنفسهم قالوا للرسول أن ما في القرآن يشبه بعض ما يقوله علماء اليهود ، فنزلت الآيات الكريمة ( 26/192 - 197) :  وانه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروحُ الأمينُ . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين . وانه لفي زبر • الأولين . أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ؟  .

فالخلاف إذن لا يتناول أن بعض المعلومات التي في القرآن تشبه بعض المعلومات التي في التوراة ، بل في زعم هؤلاء بأن القرآن فهم هذه المعلومات فهماً خاطئاً في رأيهم أو أخذها من مصادر غير موثوقة . فالقضية كانت من العرب الأولين ومن المستشرقين اليوم قضية تعصب فقط )) .

طبيعة محمل الروحية

لقد كان الرسول  ذا طبيعة روحية عالية ، جم التفكير ، عميق التقوى ، حساسا بطبعه ، متديناً بفطرته ، فرضت عليه أحواله الحياتية الخاصة وأسفاره و تعرفه على حقائق الحياة وتفكره بشؤون الكون ، أن يكون مهيأً لحمل الرسالة . . . . يقول الباحث الإنكليزي المستشرق روم لاندو :

(( وفي أمكان المرء أن يتخيل ، في يسر ، ما استشعره الشاب الحساس من وحدة وانفراد ، والأثر الذي لاذ لا بد لذا الوضع أن يتركه في تكوينه العقلي . والواقع أن ما نزل عليه بعد من وحي لم يهبط في خواء Vacuum ، بل هبط في جو من الاستبطان Introspeetion المحتوم و التساؤل الروحي - وهو الجو الذي يلائم في العادة حياة غلام فقد أباه وأمه ، وعدم الأخوة والأخوات )) .

والى جانب كونه رجل فكر وذا طبيعة روحية ، كان رجلاً عملياً واقعياً ، أدرك نواحي الفساد في مجتمع قبلي وثني ، فابتعد عنه وهداه التفكير إلى بلوغ الحقيقة الأزلية القائمة على فكرة الإله الواحد . . . يتابع ( روم لاندو ) ، قائلاً :

((كان محمد تقيأ بالفطرة ، وكان من غير ريب مهيأ لحمل رسالة الإصلاح التي تلقاها في رؤاه . وبالإضافة إلى طبيعته الروحية ، كان في جوهره رجلاً عملياً عرف مواطن الضعف ومواطن القوة في الخلق العربي ، وأدرك أن الإصلاحات الضروريه ينبغي أن تقدم إلى البدو الذين لا يعرفون انضباطاً والى المدينين الوثنيين ، في آن معاً ، على نحو تدريجي . وفي الوقت نفسه كان محمد يملك إيماناً لا يلين بفكرة الإله الواحد - وهى فكرة لم تكن جديدة كل الجدة في بلاد العرب - وعزماً راسخاً على استئصال كل أثر من آثار عبادة الأصنام التي كانت سائدة بين الوثنيين العرب)) .

أما الباحث العسكري جان باغوت غلوب ، الذي عرف في البلاد العربية باسم غلوب باشا ، حيث كان رئيساً لاركان الجيش الأردني ، فقد كتب عن تحنث الرسول ، ونزول الوحي عليه في كتابه : « الفتوحات العربية الكبرى » ، بقوله :

(( واقترب عام 610 ميلادية ، وكان محمد قد بلغ الأربعين من عمره وازداد ميله إلى الوحدة والتأمل . وكان يهرب من طرقات مكة المحرقة المغبرة ، ويلجأ إلى كهوف الجبال القريبة من الوادي العتيق الذي تقبع فيه المدينة ليقض فيا أحياناً أياماً متوالية . وتسرح أفكار الرجل متأملاً في هذه القمم الجرداء الداكنة التي يراها من فتحات الكهوف ، والتي لا تظهر عليها نأمة حياة ، ولا تفصلها عن بعضها إلا شعاب عميقة ضيقة من الأخاديد والوديان الجافة ، و تعود فتتركز على فلسفة الحياة الأخرى التي كان قد سمع نتفاً عنها من اليهود والنصارى ، وعلى وجود اله واحد أحد قوي صمد عنده الجنة السرمدية والحياة السعيدة الأزلية ، يمنحها للمؤمنين من عباده ، وعنده جحيم بما فيما من عذاب لا نهاية له ينزله بالكفرة وغير الصالحين .

وكان يعود إلى بيته وقد أثقلته هذه الأفكار فيبوح بها إلى زوجته الوفية خديجة التي ما برح يجد عندها المستقر والمراح والحث والتشجيع وقد مزجت في رعايتها له بين حب الزوج وحنان الأم .

وألف محمد اللجوء إلى الغار في الجبال في فترات معينة من شهر رمضان طلباً للتأمل والتعبد والتفكير والتهجد . وبينما كان يتعبد في غار حراء حسب عادته إذ نزل عليه جبريل رأس الملائكة )) .

الوحي في كتب الحديث والسيرة

لقد اهتمت المصادر الإسلامية من كتب الحديث أو السيرة بمسألة الوحي ، حين صاع الرسول محمد  بالرسالة ، إذ كانت هذه الحادثة هي الانقلاب الخطير في حياة محمد  وبالتالي في حياة العرب . . . إذ بدأت منذ ذلك اليوم مرحلة تاريخية جديدة ، مع الدعوة الإسلامية . . . ونجد هنا من المناسب أن نذكر أحدى روايات الحديث ، من رواية للسيدة عائشة أم المؤمنين عن بدء الوحي بقولها :

(( أول ما بدىء به رسول الله  من الوحي : الرؤيا يا الصالحة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ، - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل آن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق - وفي رواية : حتى فجأة الحق - وهو في غار حراء ، فجاء الملك ، فقال : اقرأ ، قال : قلت : ما أنا بقاريْ ، قال : فأخذني فغطني ، حتى بلغ منى الجهد ، تم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقاريء ، قال : فأخذني فغطني ثانية حتى بلغ منى الجهد ، تم أرسلني ، فقال : اقرأ : فقلت : ما أنا بقاريْ ؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ، تم أرسلني ، فقال :  و اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم  و ( 96/ 1-5 ) . فرجع بها رسول الله  يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملونى ، زملونى ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له خديجة : كلا ، أبشر ، فو الله لا يخزيك الله أبدا ، أنك لتصل الرحم ، و تصدق الحديث ، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ، و تقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .

فانطلقت به خديجة ، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قص - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها- وكان امرءأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمى ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله  خبر ما رأى ، فقال له ورقة : « هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيما جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك » . فقال له الرسول  : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وان يدركني يومك حياً أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وخر الوحي )) .

الوحي صوت الحقيقة الأبدية

هذا ، وقد تناول عدد من المستشرقين قصية البعثة ونزول الوحي على النبي محمد  ، وأن الصوت الذي سمعه في غار حراء كان حقاً هو صوت الحقيقة الأبدية التي أنزلها الله عليه عن طريق جبريل عليه السلام .

يقول الأب هنري لامنس :

(( هكذا كان محمد بحراء ، فكان ينشد الكون في تلك الجبال إلى كان يذهب يخلو بنفسه فما متأملا في السماء ذات الكواكب ، إلى ما كان في يسمعه من أعمق أعماق قلبه ، وهو الرجل الأمي الفطري الصادق ، و ذلك الصوت هو صوت الحقيقة الأبدية )) .

ويتابع الأب هنرى لامنس ، قوله :

«لم يكن محمد ممن لم يعرف العالم الباطن ، نعم ، لم يكن متصوفاً بالمعنى المعروف ، إلا انه كان عن يرى أن الأمور التي في الغيب أعظم من الأمور التي تحت الحس ، المشهود أدنى درجة من المحجوب ، فالنظام الروحي في نظره هو الأهم وهو الوجود الحقيقي )) .

بينما كتب المشتشرق اليوغسلافي الدكتور التر بتكين (1833~1907 ) في مؤلفه (الحياة تبدأ بالأربعين »، قائلاً :

((في أحدى ليال شهر رمضان بينما كان محمد نائماً في أحد كهوف حراء، عاد فتجلى عليه ذلك الشبح ، وفي يده قطعة من الحرير عليها كتابة ، وقال له ذلك الشخص: اقرأ أ، فأجابه : لست بقاريء ، فأعاد عيه القول ثانياً : اقرأ - اقرأ أ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق إلى آخر السروة فردد محمد هذه الكلمات ، وأحس بالنور قد أشرق عليه » .

أما المستشرق الروسي ماكس مايرهوف ( 1815 _ 1887 ) فقد قال في كتابه : ( العالم الإسلامي ) :

((أن محمداً عام 610 للميلاد كان كثير التفكير والانفراد ، وكان يقصد إلى البادية ويخلو بنفسه في جبل حراء قرب مكة ، فرأى ذات يوم رؤيا هي أن الملك جبريل تجلى له ، وناوله كتاباً وقرأ عليه هذه الآيات ص السورة السادسة والتسعون من القرآن  اقرأ باسم
ربك الذي خلق  الخ نزل عليه هذا الكلام وحياً فأخبر امرأته بما وقع ، ثم جاء وحى آخر فيما بعد ، فلما شعر تغطى بثوب فسمع هذه الكلمات  يا أيها المدثر قم فأنذر ودربك فكبر  (74/3) ومنذ ذلك الحين اقتنع بأن الله اختاره مبشراً بعقيدة جديدة ، و تسمى برسول الله ليدعو إلى الله بلسان عربي مبين )) .

أن نزول الوحي على النبي محمد  كان إيذاناً ببدء المرحلة التاريخية الحاسمة الجديدة في حياته - عليه السلام - أولاً ، وفي حياة شبه الجزيرة العربية ثانياً ، لقد كان الإسلام منعطفاً تاريخياً كبيراً ، ولا بد لانتشاره من أن يصطدم بكل القيم والعادات والتقاليد والعبادات السائدة . . . فالدعوة الجديدة تحمل في ثاناياها خصوصية مرحلتها وعالمية الدعوة دونما تناقض أو تنافر ، فهي تسعى إلى صلاح الإنسان وصلاح المجتمع ، ونبذ العادات القبلية الذميمة كوأد البنات والعبادات الوثنية ونقلها إلى العادات الإنسانية السامية ، ورأسها العبادة التوحيدية التي تقول بوحدانية الله وربوبيته .

صلاحية الرسالة ووحدانيتها

لذا ، فإن الكثير من المستشرقين المنصفين رأوا في دعوة الرسول دعوة إصلاحية قوامها صلاح المجتمعات و توحيديته : أي المناداة بوحدانية الله ، وان مرحلة النبوة الحقة التي جعلت من الرسول قطب أقطاب رجالات التاريخ العظماء ، وبطل الأبطال الأفذاذ ، وخاتم الأنبياء أصحاب الرسالات الخالدة .

يقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه صاحب كتابي ، (الحروب الصليبية) ، و ( مدنيات من الشرق ) في مؤلفه الأخير :

((كان محمد لما قام بهذه الدعوة شاباً كريما نجداً، ملآن حماسة لكل قضية شريفة ، وكان أرفع جداً من الوسط الذي يعيش فيه ، وقد كان العرب يوم دعاهم إلى الله منغمسين في الوثنية ، وعبادة الحجارة ، فعزم على نقلهم من تلك الوثنية إلى التوحيد الخالص البحت ، وكانوا يهتفون بالفوضى ، وقتال بعضهم بعضاً فأراد أن تؤسس لهم حكومة ديموقراطية موحدة ، وكانت لهم عادات وحشية همجية صرفة ، فأراد أن يلطف أخلاقهم ، ويهذب من خشونتهم )) .

بينا نظر اليه المستشرق السويسري ادوار مونتيه ( 1810 - 1882 ) مدير جامعة جنيف ومدرس اللغات الشرقية - في مؤلفه : « المدنية الشرقية » » نظرته إلى الأنبياء التوراتيين القدماء بقوله :

« كان محمد نبياً بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء ، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة لا صلة لها بالوثنية ، وأخذ يسعى لانتشال قومه من ديانة جافة لا اعتبار لها بالمرة ، وليخرجهم من حالة الأخلاق المنحطة كل الانحطاط ، ولا يمكن أن يشك لا في إخلاصه ، ولا في الحمية الدينية التي كان قلبه مفعماً بها )) .

ويقول مونتيه نفسه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن :

(( كان محمد نبياً صادقاً ، كما كان أنبياء بنى إسرائيل في القديم ، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه ، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين به كما كانتا متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه فتحدث فيه كما كانت تحدث فيهم ، ذلك الإلهام النفسي ، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشرى المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من بابها )) .

هذا ، ولا بد من وقفة مطولة في دراسة صدق الرسول وصحة الرسالة الإسلامية ، في بحث مستقل سندرس فيه حقيقة الوحي ، وأن محمداً لم يؤلف القرآن ، ونرد على المزاعم الاستشراقية التي اتهمت الرسول بالصرح والجنون والاحتيال ، وبأن الوحي الذي سمعه في رؤاه الصادقة كان صوت الحقيقة الأبدية ، صوت الله الذي اختاره ليكون رسولاً للناس كافة .. . . . ونقول : أن الرسالة التي نزلت على الرسول  قد حملته أعباء هائلة فوق طاقة البشر ، يقول آتيين دينيه :

(( نزل الوحي كجذوة وهاجة بددت من نفس محمد كل شك ، و أشعلت فيما تلك الآمال اللاشعورية ، و تلك القوى الكامنة التي كدسها في نفسه خمس عشر سنة تقضت في التأمل والتحنث . لقد فح الوحي عينيه على آفاق شاسعة . وأطلعه على ما يجب أن يقوم به نحو تلك الرسالة من جهود جبارة خطرة . لم يدر بخلد محمد يومأ ما أنه سيحمل هذا العبء، الهائل ، ولثن كان بعض الرهبان قد تنبئوا بشي ، منه ، فإنه لم يعر تنبؤاتهم أي اهتمام ، بل لقد نسيها ، وان اضطرابه وخوفه ، حينا فوجي بالوحي ، من أن يكون فريسة لتخيلات شيطانية ، ليؤكدان لنا صحة ما نقول .

وهذا محمد الذي كان يفر من الاختلاط ببني جنسه ، والذي كان يأبى أية وظيفة من تلك الوظائف العامة ، التي كان مواطنوه على استعداد لأن يمنحوها إياه ، وقد أصبح -تحت تأثير الوحي - مستعدا لأن يواجه الحياة الصاخبة الجارفة ، وقد امتلأ قلبه إيماناً مكيناً، وأفعمت نفسه بشجاعة لا تلين ، و تأهب للقيام بالرسالة ، بل تأهب للقيام بأعظم رسالة اؤتمن عليما إنسان . ولقد تأهب ، في غير ما خوف أو إشفاق من تلك الامتحانات الهائلة التي لا مفر من أن يبتلى بها أمثاله من الهداة المرسلين . في تلك الليلة الخالدة ، ليلة القدر ، نزل القرآن كله من السماء العليا حيث كان محفوظاً بها إلى السماء الدنيا ، التي تنتشر مباشرة فوق كرتنا الأرضية . وفي هذه السماء الدنيا وضع القرآن في بيت العزة ، ذلك البيت الذي على سمت بيت الله : الكعبة المقدسة )) .

الفصل الثاني
الدعوة الإسلامية
في
مسيرتها الكفاحية

المسلمون الأوائل وسرية الدعوة

لقد كان قميناً بتلك الدعوة الإسلامية أن تكون كفاحية المسيرة ، وخاصة فيما يتصل بانطلاقتها التي بدأت سراً ، ومن ثم بالمجاهرة والعلانية ، إذ أقصرت بادىء ذي بدء على قلة من المسلمين ، في طليعتهم زوج الرسول خديجة من النساء وأبو بكر من الرجال ، وعلى بن أبي طالب من الفتيان ، وزيد بن حارثة من الموالي ، و بلال من العبيد .

ومن ثم انضم إلى صفوف المسلمين عدد من الرجالات الذين كان لهم دورهم البارز في التاريخ الإسلامي . . . يتحاث « آتيين دينيه » عن تلك المجموعة الإسلامية الأولى وممارستها العقيدة سراً ، وبالتالي مسيرة الحركة في هذه المرحلة بقوله :

(( هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين كانت تحيا حياة مليئة بالانفعالات والعواطف . حقاً ما أجمل اجتماعهم في عبادة الله مستخفين عن أعين الناس . لشد ما كانوا يأخذون حذرهم كيلا يثيروا انتباه المشركين . وفي هذه الظروف لا يمكن للدعوة الإسلامية أن تنشر إلا سراً ، وبين الأصدقاء ، ولهذا كان تقدم الإسلام في سنواته الثلاث الأولى بطيئاً جداً )) .

علانية ألدعوة وعداء قريش للإسلام

وبعد ثلاثة أعوام على بدء البعثة ، انتقلت الدعوة إلى العلانية ، حيث صدع الرسول  بأمر رمه لنثر رسالة الإسلام انطلاقاً من عشيرته الأقربين ، وبعدها إلى سائر أفراد قبيلته في قريش المكية . . . .

ولم يلق الرسول  إلا إعراضا وهزءاً جابههما به سكان مكة ، بل سرعان ماً ثارت ثائرة قريش حين دعاً - عليه السلام - إلى نبذ عبادة الأصنام ، والالتفات إلى الديانة التوحيدية . . . . وكان قادة مكة من مشركي قريش متمسكين بتقاليدهم الدينية عكوفاً على الأوثان ، ورموا الرسول  بأقبح النعوت ، من سحر وشعر وكهانة وجنون ، وأطلقوا عليه لقب الصابىء لخروجه على عقيدة أجداده ، وساموه مر العذاب . . . ويتحدث المفكر الإنكليزي توماس كارليل عما لاقاه الرسول من عشيرته وعاناه في محاولته إقناع أفرادها بصحة ما يؤمن به ، فقال :

(( وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك ، فما كان يصادف إلا جحوداً وسخرية ، حتى أنه لم يؤمن به في خلال ثلاثة أعوام إلا ثلاثة عشر رجلاً ، وذلك منتهى البط ، و بئس التشجيع ، ولكنه المنتظر في مثل هذه الحال ، وبعد هذه السنين الثلاث أدب مأدبة لأربعين من قرابته ثم قام بينهم خطيبا فذكر دعوته ، و انه يريد أن يذيعها في سائر أنحاء الكون ، و أنها المسألة الكبرى بل المسألة الوحيدة ، فيهم يمد إليه يده ويأخذ بناصره ؟ وبينما القوم صامتون حيرة و دهشة وثب على ، وكان غلاماً في السادسة عشر ، وكان قد أغاظه سكوت الجماعة فصاح في أشد لهجة أنه ذاك النصير والظهير . ولا يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداً ومعادينه وكلهم قرابته ، وفيه أبو طالب عم محمد وأبو علي ، ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلام في السادسة عشر ، يقومان في وجه العالم بأجمعه كانت مما يدعو إلى العجب المضحك ، فانفض القوم ضاحكين ... ولكن الأمر لم يك بالمضحك ، بل كان نهاية في الجد والخطر)) .

اضطهاد قريش للرسول والمسلمين الأوائل

لكن عداء قريش لرسالة الإسلام لم تثن الرسول ولا المسلمين الأوائل عن عقيدتهم ، فاستمر عليه الصلاة والسلام على نشر الدعوة بروح كفاحية مما لية ، كما لم تستطع كل أساليب الاضطهاد والإرهاب أن تنتزع الإيمان من قلوب تلك العصبة الإسلامية الصغيرة بعددها ، الكبيرة بإيمانها بالرسالة الجديدة . . . . .

وإذا كان الرسول  يحظى بحماية قبيلته - بنى هاشم – حسب الأعراف القبلية ، وكذلك بعض المؤمنين من أسرهم القرشية ، تبعاً للأعراف نفسها ، فقد لاق مستضعفو المسلمين أقس أنوع الظلم والاضطهاد ، وعوملوا بمنتهى الوحشية ، إذ تفنن القرشيون في عذابهم ، حتى سقط منهم الشهداء ، مما دل على الإيمان العميق لأولئك المسلمين الأوائل الذين صمدوا للهمجية الشرسة لمشركي قريش ، ودلل صمودهم البطولي على قوة الإسلام ومنعته رغم طراوة عوده .

الصراع بين الوثنية والتوحيد

كان الصراع بين الوثنية والتوحيد على أشده ، وقد تجل فيه الثبات على العقيدة والإيمان بالمبدأ لدى طرفي الصراع . . . . فمن جهة ، كان القرشيون حريصين بالغ الحرص على طقوس عبادة أسلافهم ، لاسيما وقد جاءت الدعوة الجديدة لتهدم كل معتقداتهم ولتضرب مصالحهم الأرستقراطية القائمة على ترابط العوامل السياسية والاقتصادية والدينية . . . .
كفاحية الرسالة الإسلامية

ومن جهة ثانية ، دلل صمود المسلمين الأوائل على أن العقيدة التي آمنوا بها هي أقوى من جميع نوازعهم ، بلغ لديهم الثبات على المبدأ ذروة التضحية بالذات والمال في سبيل أن تبقي شعلة الإسلام متألقة نيرة . . .

وكان نضال الرسول ملحمياً ، لم إيمانه بالرسالة عميقاً ، لم تثنه مواقف قومه عن المضي في نشر الدعوة ، مما تحدث عنه المستشرق الإيطالي ميخائيل ايمارى في كتابه (تاريخ المسلمين) ، فقال :

(( وحسب محمد ثناءً عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته على كثرة فنون المساومات واشتداد المحن وهو القائل "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ". عقيدة راسخة ، وثبات لا يقاس بنظير، و همة تركت العرب مدينين لمحمد بن عبد الله ، إذ تركهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر )) .

رسالة الإسلام وخطرها عل السلطة القرشية

وقد جر موقف الرسول  الثابت في نشر الدعوة عداء القبيلة ، ممثلاً في السلطة القرشية التي أخذت تخشى على مواقعها السياسية ومصالحها التجارية فضلاً عن استيائها من ذم عباداتها وأوثانها ، يقول « وشنطون إرفنج » متحدثاً عن مكانة الرسول  في قبيلته واصطدامه بها حين صدع بالرسالة التي تشكل خطراً على السلطة القرشية :

(( هل كان قوي النفوذ ؟ نعم ، فقد كانت أسرته تقوم بسدانة الكعبة ، وتتولى شؤون مكة ، تلك المدينة المقدسة ، ولذا كان مركزه وما اتصف به من أخلاق كريمة يؤهلانه ليكون موضع الثقة . ولكن حينها دعا محمد إلى الإسلام اصطدم بأسرته وقبيلته ، وجر على نفسه عداءهما ، فقد كان تحطيم الأوثان يقضي على سيطرة قريش على الكعبة وما تستفيده من قدوم الحجاج )) .

الأثر التاريخي للدعوة الإسلامية

لقد شكلت الدعوة الإسلامية التي لا تعرف الطبقية ، بمناداتها بالمساواة الاجتماعية ، خطراً على الأرستقراطية القرشية . . . . فالإسلام دعوة إنسانية تبشر بالإخاء والحرية والعدل والمساواة ، وذلك لأن الرسالة لم تكن مقصورة على الخاصة ، بل اجتذبت إلى صفوفها الفقراء والعبيد ، الذين رأوا بتعاليم الإسلام الإصلاحية ، إطلاقهم من أمر العبودية والفقر ، وخلاصاً روحياً من عبادة الأوثان ، فتطهراً بوحدانية الإيمان . . . هذا ويذهب الباحث المجرى جولد تسهير ( 1850 - 1903) في مؤلفه : (العقيدة و الشريعة في الإسلام ) إلى دراسة الأثر التاريخي للدعوة الإسلامية في محيطها العربي بقوله :

(( يمكننا أن نلقى نظرة عامة شاملة على الأثر التاريخي الذي قامت به الدعوة إلى الإسلام ، خاصة أثرها في الدائرة القريبة ، التي كانت دعوة محمد موجهة إليها بطريق مباشر قبل غيرها، حقاً لا جدة ولا طرافة في هذه الدعوة ، ولكن قد استعيض عنها بأن محمداً قد بشر برسالة الإسلام للمرة الأولى بحماس لا يفتر ولم تعوزه المثابرة ، وبعقيدة ثابتة بأن هذا الدين يحقق صالح الجماعة الخاصة ، وقد كان في ذلك كله مظهرا إنكار الذات ، برغم سخرية الجمهور ، إذ الحق أن محمداً كان بلا شك أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية ، تلك كانت طرافته برغم قلة المادة التي كان يبشر بها)) .

الوعد والوعيد والترغيب والترهيب

هذا ، وقد استخدمت السلطة القرشية جميع أسلحتها لمحاربة الدعوة الإسلامية ، التي وان كانت تعيش أجواء الحصار ، وتنتشر بصعوبة ، لأنها أدركت جدية الخطر المقبل ،إذ أخذ بعض القرشيين يتعاطفون مع هذه الفئة الصامدة ، كما كان للرسول  الداعية الإسلامي الأول عميق الأثر في وجدان من يحاججهم ويدعوهم إلى طريق الهداية ... فحين أدركت قريش فشل أساليبها العقيمة لجأت إلى سلاح آخر هو سلاح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ... لقد عرضت على الرسول  المال والجاه والسلطان والنساء ، على أن يتخلى عن رسالته ... لكن هيهات أن تجدي هذه الوسائل والأساليب نفعاً . . . فارتدت إلى أساليب الإيذاء النفسي والجسدي ، التي بلفت مرحلة خطيرة ، إذ جرت محاولتان لقتله وهو يصلى في ظل الكعبة .

غر أن الرسول  بلغ من الإيمان برسالته درجة لا رجوع فيها ورغم كل الخاطر و المزالق ، وكل أساليب الوعد والوعيد ما كان بمقدوره ، أن يتراجع قيد أنملة عن مسيرته ، وهو على ثقة تامة بأن الله مؤيده بنصر ولا ريب ، وأن الرسالة لا بد أن تعم مستقبلاً ، ولذا مضى مستهيناً بكل الصعاب ليقينه أن نشر رسالة التوحيد في الأجواء الوثنية لا بد أن تؤلب عليه الأعداء وتقوده إلى خصومة القيادة القرشية ، يقول المؤرخ الأمريكي واشنجتون ارفنج :

(( لقي الرسول من أجل نشر الإسلام كثيراً من العناء ، وبذل عدة تضحيات . فقد شك الكثير في صدق دعوته ، وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحاً كبيراً ، وتعرض خلال إبلاغ الوحي إلى الإهانات والاعتداءات والاضطهادات ، بل اضطر إلى أن يترك وطنه ويحث عن مكان يهاجر إليه . . . فقد كان في الأربعين من عمره حينا نزل عليه الوحي وعانى كثيراً سنة بعد أخرى في نثر الإسلام بين أفراد قبيلته )) .

وبدوره تناول الباحث الإنكليزي توماس كارليل موقف قريش من الرسول وكفاحه المرير في نشر الدعوة وموقف عمه أبى طالب ، فقال :

(( وسرى أمر محمد ببط ، ولكنه سريان على كل حال . وكان عمله بالطبع سيء ، الوقع لدى كل إنسان ، إذ جعلوا يقولون : « من هذا الذي زعم أنه أعقل منا جميعاً ، والذي يعنفنا ويرمينا بالحمق وعبادة الخشب ، وأشار عليه أبو طالب أن يكتم أمره ويؤمن به وحده، وأن يكون له من نفسه ما يشغله عن العالم ، وأن لا يسخط القوم ويثير غضبهم عليه فيخطر بذلك حياته ، فأجابه محمد : " و الله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته" كلا ، فإن في هذه الحقيقة التي جاء بها لشيئاً من عنصر الطبيعة ذاتها لا تفضله الشمس ولا القمر ، ولا أي مصنوعات الطبيعة ، ولا بد لتلك الحقيقة من أن تظهر برغم الشمس والقمر ، ما دام قد أراد أن تظهر ، وبرغم قريش جميعها ، وبكره سائر الخلائق والكائنات . نعم لا بل أن تظهر ولا يسعها إلا أن تظهر ، بذلك أجاب محمد ، ويقال انه اغرورقت عيناه : لقد أحس من عمه البر والشفقة ، وأدرك وعورة الحال ، وعلم أنه أمر ليس بالهين اللين ، ولكنما أمر صعب المراس ، مر المذاق )) .

الهجرة إلى الحبشة

كان لعلانية الدعوة الإسلامية أن شكلت منعطفاً تاريخياً في مسارها ، إذ لاقى المسلمون الأوائل شتى أفانين العذاب وضروب الظلم ،و تعرضوا للفتنة والقتل ، فسقط منهم الشهداء ، وهم صامدون مدللين بذلك على الثبات على إيمانهم العميق الذي هيهات أن تزعزعه أية قوة غاشمة .

ومع ذلك لم يكن جميع المسلمين الأوائل على هذا المستوى والاستعداد للتضحية ، فكان هناك من لانت قناته فلم يصبر ولم يصمد أمام العذاب ، فانتزعت من شفاههم كلمات الردة عن الإسلام ، رغم إيمانهم بالرسالة ، مما جعلهم يعانون الأمرين ، مرارة الخجل والشعور بالهزيمة ، ومرارة تنكرهم للإسلام والتزامهم بدين أجدادهم ، ويتحدث المستشرق الرومانى « جيورجيو» عن الأوضاع السائدة ، قبل أتحاذ الرسول قرار هجرة المسلمين إلى الحبشة ، بقوله :

(( لم يكن إيمان بعض من أسلم مؤخراً بمستوى المسلمين الأوائل ، كما لم يكن لهم ذلك العزم الذي يجابه شدائد المشركين ، ولاسيما أن قريشاً زادت من عدائها حيث منعت الناس من بيع المسلمين والشراء منهم ، كما منعت الزواج منهم ، أو التزوج ببناتهم . ففي مكة ، كانت التجارة هي الوسيلة الوحيدة للعيش ، فعندما امتنعوا عن التعامل معهم شلوا حركتهم وهذا ما دفع بعض من أسلموا مؤخراً إلى التخلي عن إيمانهم والارتداد إلى دين أجدادهم )) .

ويتحدث المستشرق الفرنسي ه آتيين دينيه ، عن مأساة المسلمين وآلام الرسول  لفتنتهم ، وقراره الشجاع بهجرتهم إلى الحبشة ، قائلاً :

(( وامتلأت نفس الرسول حزناً ، أمام هذه المآسي التي كان يتحملها ضعاف المسلمين الذين لا يجدون من يحميهم . حقاً إن شجاعة المعذبين والشهداء في سبيل الله برهنت على إسلامهم العميق ، ولكنه رأى أن من الخير ألا يستمر هذا البلاء ، فنصح الضعفاء ومن لم تدعهم الضرورة إلى البقاء في مكة بالهجرة إلى الحبشة حيث المسيحيون ، وحيث التسامح والعدل اللذان اشتهر بهما ملكها النجاشي)) .

وتدل فكرة الهجرة إلى الحبشة على ما تعانيه الحركة الإسلامية من تعثر وضغوط نفسية وآلام جسدية في أتون ذلك الصراع بين العقيدتين الوثنية والتوحيدية ، ونلخص بما يلي الأسباب المباشر لتلك الهجرة :

 الهروب من الاضطهاد الجسدي والمعنوي والإفلات من الحصار المادي .
 تجنيب المسلمين خطر الارتداد عن الإسلام .
 وتذهب بعض المصادر الاستشراقية إلى الاعتقاد بأن وراء الهجرة أسباباً أخرى منها التجارة ، أو مخططاً سياسياً ، هدف الرسول من ورائه الحصول على مساعدة حربية من الأحباش. في حين يتحدث بعض المستشرقين عن ظهور انشقاق داخل أمة الإسلام الناشئة بين طائفتين متنافستين يقود كلاً منهما أبو بكر وعثمان بن مظعون ، فعمل الرسول  على القضاء على الشقاق في مهده فأشار بالسفر إلى الحبشة لتأييد مخطط المحافظة على مصالح الإسلام )) .

لقد كان قرار الرسول  حكيماً وواقعياً لحماية المسلمين من الاضطهاد ، وحماية الحركة الإسلامية - مستبعدين الآراء الاستشراقية الأخرى - فجاء تصميمه على هجرة المسلمين وأن يبقى هو في مكة يواجه ذلك الإعصار العاتي ، يقول جيورجيو :

((وقر رأيه أخيراً على ترحيل المسلمين إلى الحبشة ، بينما يبقى هو في مكة ، متحملاً كل الأخطار . ولم يقم أي من الأنبياء السابقين بمثل هل ا التصميم)) .

وتوجست القيادة القرشية من هجرة المسلمين إلى الحبشة شراً مستطيراً ، فحاولت دون جدوى أن تقبض عليهم وتحول دون إبحارهم ، فثارت ثاثرتها لإفلاتهم من قبضة الكفر ، وأخذت تحسب لهذه الهجرة ألف حساب ، فاستقر رأيها على إيفاد رجلين من لدنها ها عمرو بن العاص داهية العرب وعمارة بن الوليد ليطلبا إلى النجاشي إعادة المسلمين على أنهم مارقون من الدين . . . وفعلاً ، تحدث سفيرا قريش مع النجاشي في مهمتهما هذه ، إلا أن دفاع المهاجر جعفر بن أبي طالب عن الإسلام بحضرة النجاشي ، كان له أثره العميق في وجدانه . ورأى بالرسالة الجديدة ديناً جديداً يعترف بالرسالات السماوية السابقة ، ويقر بوحدانية الله ، ورفض الشرك والوثنية ، وينهى عن فواحش الجاهلية ويدعو إلى مكارم الأخلاق. فكان أن رفض طلب القيادة القرشية ، ومنح المسلمين حق اللجوء ، فوجدوا بحواره أمناً ودعة .

ويتحدث الباحث الإسلامي مولانا محمد على في كتابه : « حياة محمد ورسالته » عن آثار الهجرة الإسلامية على القيادة القرشية ، بقوله :
(( وحين عاد الوفد القرشي من الحبشة بخفي حنين تخطى غيظهم كل حد، لقد واصلوا اضطهادهم المسلمين في اهتياج مضاعف . كانوا حتى ذلك الحين يشهدون صبر المسلمين على هذه المحن القاسية في دهش عظيم ، ولكن الهجرة إلى الحبشة أعطتهم برهاناً قاطعاً على أن المسلمين مستعدون لمختلف ضروب المخاطر، ولتحمل كل لون من ألوان التعذيب في سبيل عقيدتهم ، وعلى أنهم لن يحجموا عن خوض غمار المخاطر كلها في سبيل الله . وفوق هذا ، فعندما تسامع سائر المسلمين في مكة بالرعاية الكريمة التي أسبغها النجاشي على إخوانهم شخص عدد منهم في العام التالي إلى الحبشة . و تعرف هذه الهجرة بالهجرة الثانية إلى الحبشة . وبذل القرشيون قصارى جهدهم لكبح جماح هذه الهجرة ، ولكن دونما طائل )) .

نقد خبر «الغرانيق»

وفي تلك الفترة المتأزمة في تاريخ مسيرة الدعوة الإسلامية ، التي شهدت هجرة المسلمين إلى الحبشة ، تحول أعظم رجلين من رجالات قريش إلى الإسلام وهما حمزة عم الرسول وعمر بن الخطاب ، فبلغ الصراع بين المشركين والمسلمين أعلى مراحل احتدامه ، وهنا ، في هذه الفترة بالذات يأتي خبر « الغرانيق العلى » ليحدث في سيرة الرسول ومسيرة الدعوة الإسلامية شرخاً ، بإيمان النبي محمد وعسيرة الإسلام . . .

ورغم اقتناعناً المسبق باختلاق خبر (الغرانيق العلي)، لكننا آثرنا الوقوف عنده لأنه عملياً ، أثار ضجة كبرى في الدراسات الإسلامية ، ونبهت الكثير من المستشرقين للتوقف عندها ، بل للتحقق من مدى صحتا تاريخياً لما فيها من مساس برسول الإسلام ، وشخصيته العظيمة وحقيقة الصلح المؤقت المزعوم بينه وبين الزعامة القرشية . . . ويندرج في جملة من تحدث بها على أنها حقيقة ثابتة المؤرخ الألماني كارل بروكلمان الذي ذهب به الرأي إلى أنه رغم ما يعمر قلبه  من إيمان بوحدانية الله جل جلاله وبالتالي بطلان آلهة قريش ، فقد اعترف في البدء بآلهتم الغرانيق الثلاث ، اللات والعزى ومناة ، يقول :

((ولكنه على ما يظهر اعترف فى السنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله . ولقد أشار إليهن في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله : " تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى " . أما بعد ذلك حين قوى شعور النبي بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله ، وجاءت السورة الثالثة والخمسون (النجم ) وفيها إنكار لأن تكون الآلهة الثلاث بنات الله . ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسليم إلا تحولاً أغراه به الشيطان ، ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد أوقات النبي ضيقاً في مكة ، ثم ما لبث أن أنكره و تبرأ منه في اليوم التالي )) .

والغريب أن الباحث العسكري غلوب باشا ، قه أورد خبر (الفرايق) رغم الاتجاه العسكري لكتابه : " الفتوحات العربية الكبرى" وما يحرص عليه غالباً من الموضوعية فقد ساق الخبر نقلاً عن المستشرقين الذين سبقوه في التشكيك برسالة الإسلام ، ونحن لا نرى في ذلك بدعاً ، إذ وقع في هذا الشرك الكثير من كتاب السيرة المسلمين ورواة الأحاديث الضعيفة ، يقول :

(( وكان وجوه مكة وشيوخها يجلسون ذات يوم في العراء على مقربة من الكعبة عندما اقترب منهم محمد واقتعد مجلسه معهم ، وبعد صمت قصير بدأ النبي يتلو على مسامعهم سورة النجم ، فيحدثهم عن الوحي والتنزيل وكيف وقف الملاك جبريل على بعد خطوتين منه حدثهم عن زيارة الملاك الثانية ، عند سدرة المنتهى ، ثم مضى يقول . . .  ثم رأى من آيات ربه الكبرى . أفرأيتم اللات والعزى ، و قناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذا قسمة ضيزى*  ورأى سادة قريش الرسول وهو يشهد لهذه الآلهة الثلاثة ، ثم رأوه في نهاية السورة وهو يسجد في صلاته فسجدوا معه جميعاً وأخذوا يصلون معه . ولا ريب في أن هذا الحادث يقيم الدليل على أن أهل مكة كانوا يعترفون بصورة عامة بوجود إله عظيه واحد . ولكنهم كانوا يرون أن آلهتهم المحلية هذه هي سبيل للوساطة عنده . وكانوا يقولون إنهم على استعداد لإتباع النبي في عبادة الله شريطة أن يكون على استعداد للاعتراف بدور آلهتهم الصغرى . وسرعان ما وقعت مهادنة آنية وتوقفت حملات العذاب والاضطهاد .

ولكن الرسول ما فتىء أن عاد إلى داره وشعر بضميره يعذبه ، فهل من الحق أن يهادن الشرك حتى ولو كانت غايته إنقاذ أتباعه من الاضطهاد وظهر له جبريل من جديد وأخذ يعاتبه . وأحس بالألم والخوف من الله . انه لا يرضى عن تراجعه وقرر أن يتراجع عن موقفه السابق وأن يواجه من جديد غضب قومه . وعاد إلى القوم فأكمل على مسامعهم السورة على النحو الذي يبدو في القرآن . وأثار هذا التراجع سخط أهل مكة واستفزهم فعادوا إلى اضطهاد المسلمين )) .

ويعتبر المستشرقون أن اعتراف الرسول  بالآلهة الثلاث كان وراء هدف سياسي لكسب الأنصار في مكة والمدينة والطائف ، واستمالة عدد من زعماء قريش . . . غير أنه من الأهمية بمكان ، التأكيد على أن الرسول  الذي عرف طوال عمره بروحه الكفاحية العالية التي لا تهادن لا يمكن البتة أن يعترف بتلك الآلهة ، ويقع في فخ الشرك الذي كان أساس دعواه القضاء عليه وإقامة الوحدانية . . وهذا مما يؤكد بدوره اختلاق هذا الخبر المدسوس في كتب الحديث المشهورة بضعفها وعدم ثقة رواتها .

و نرى أن نثبت هنا مارد به الباحث اللبناني الدكتور عمر فروخ في تعليقه على كتاب بروكلمان ومناقشته تمسك المبشرين بهذه الرواية ، يقول ذلك العلامة :

(( الكلام في هذا الموضوع كثير ، وجله خارج عن الحقيقة . وخلاصة الموضوع توجز في ما يلي :

" زعم توم من الرواة أن الرسول قواً يوماً في سورة النجم ( السورة 53 ) :  أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى  ( الآيات 19 _ 20 ) ثم قرأً بعدها : " تلك الغرايق العلى وان شفاعتهم لترتجى ".

وأمسك المبشرون وبعض المستشرقين بهذه الروايه وزعموا أن الرسول لم أنما فعل ذلك لما قاومه مشركو مكة ، فأحب أن يقترب منهم فمدح آلهتهم ثم عدوا عمله هذا تراجعاً عن تشدده في التوحيد ومجابهة الأصنام .

ولقد وجدت أن أحسن رد على هذه الفرية ما ذكره العالم الهندى المشهور مولانا محمد على :

قال : إن هذه الرواية وردت عند الواقدى وعند الطبرى ، ومع ذلك فإنها لا ظل لها من الحقيقة ، فإن كل عمل من أعمال رسول الله مناقض لمثل هذا الاتجاه . أضف إلى ذلك أن الواقدي معروف بسرد الإسرائيليات وبسرد الخرافات . وكذلك الطبري معروف بالجمع الكثير وباستقصاء الروايات مهما كان حظها من الصحة .

على أننا لو رجعنا إلى رواية محمد بن اسحق أو إلى صحيح البخاري وهو الذي لم يغادر من حياة الرسول شيئاً إلا ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثراً . وابن اسحق جاء قبل الواقدي بأربعين سنة وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيد . ومع ذلك لم يذكر هذه القصة . ثم إن الواقدي معروف عند المحدثين بأنه يضع الأحاديث وأنه غير ثقة فيما يروي ، وكذلك لم يذكرها أحد من رواة الحديث .

وإذا عدنا إلى قراءة الآيات نفسها بالتسلسل وجدناها:  أفرأيت اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى؟ ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذن قسمة ضيزى، إن هي إلا أسماء سيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى.

فليس من المعقول أن تحشر بين هذه الآيات المتتالية آية مناقضة لها في أصل العقيدة الإسلامية وصلب دعوة محمد  )) .

وجدير بالذكر أن المفكر العربي الإسلامي محمد حسين هيكل ناقش بدوره مسألة "الغرايق العلى" ورد على ادعاءات المستشرقين الذين اعتروها مسلمة ، وفي مقدمتهم المستشرق الإنكليزي وليم موير ، فخلص إلى القول :

(( هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيق وهي حجج واهية لا تقوم أمام التمحيص)) .

إسلام حمزة وعمر

هذا ، وإن كان خبر "الغرانيق" غير صحيح ، فالثابت أن قريشاً لم تهادن الرسول  البتة ، بل كانت في هذه المرحلة التاريخية ، التي اختلق في سياقها هذا الخبر ، على أشد عنفها ومحاربتها الدعوة الإسلامية ، التي كانت تعاني صعوبات جمة ، ومع ذلك استطاعت أن تحقق نصرا كبيرا في إسلام رجلين هما من أبرز وجوه قريش وأشجع أبطالها . . وهما حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب ، وذلك في السنة السادسة للبعثة . . .

وكان لإسلام هذين الرجلين أثره البالغ على مسار الحركة الإسلامية ، إذ شجع الناس على الدخول في الإسلام ، فكان أن تحولت الدعوة للمرة الثانية للعلانية ، بعد أن اضطرت إلى السرية إبان الهجمة الشرسة ، يتحدث الباحث الإسلامي مولانا محمد على عن أثر إسلام هاتين الشخصيتين الضخمتين - حمزة وعمر- في مسار الدعوة الإسلامية بقوله :

(( وكان في إسلام عمر منعة للجماعة الإسلامية الفتية التي كان عودها ما زال أطرى من أن يواجه عاصفة المعارضة . وإنما أعز الله الإسلام بحمزة وعمر في السنة السادسة من رسالة محمد ، فحتى ذلك الحين لم يجرؤ المسلمون على ممارسة شعائرهم علناً. وكانوا قد حصروا نشاطهم الديني ضمن جدران دار الأرقم الأربعة . حتى إذا أعلن عمر إ سلامه استشعروا أنهم أمسوا من القوة بحيث يخرجون من نطاق السرية ، فأخذوا يقيمون صلواتهم على نحو علني في البيت الحرام ( الكعبة) ، وفي غضون ذلك دخل في كنف الإسلام كثير من أبناء الطبقات الدنيا )) .

النصر المرحلي في مسار الدعوة الإسلامية

كان إسلام حمزة وعمر انعطافاً في تاريخ الدعوة إذ تمكنت من كسر طوق الحصار القرشي وانتهت إلى الانتشار بين القبائل العربية المجاورة ، فحققت بذلك نصرا مرحلياً مؤقتاً ، لكن سرعان ما تحركت قريش هذه المرة بجدية اكبر، لأنها شعرت بالخطر المحدق ينمو يوماً بعد يوم ، ويشكل تهديداً حقيقياً لمصالحها الاقتصادية والسياسية ، لاسيما حين سلكت الدعوة هذه المرة سبيل التحدي وممارسة الشعائر الإسلامية علانية وأخذت تكسب أنصاراً جدداً ... يقول الباحث العسكري غلوب باشا :

(( و على الرغم من أن إسلام هذين الرجلين - حمزة وعمر - قد شجع النبي إلا أنه في الوقت نفسه حفز كبراء قريش على أن يوسعوا نشاطهم ضد الدعوة الإسلامية . وخافوا أن يؤدي اغتيالهم المسلمين من القرشيين إلى نزاعات دموية في المدينة ولا سيما مع بني هاشم )) .

حصار المسلمين في شعب أبي طالب

وفي هذه المرحلة المحرجة من مسيرة الدعوة ، استخدمت القيادة القرشية سلاحها الأخير إذ اتخذت قرارها المجرم بفرض الحرم الجماعي عل قبيلة بي هاشم لمعتها الرسول  ضد أعدائه ، وذلك حين أفلست جميع محاولاتها السابقة لإيقاف مسيرة الدعوة الإسلامية ، يقول مولانا محمد علي :

(( حتى إذا مني القرشيون بالخيبة في تلك المحاولات جميعاً عزموا على اللجوء إلى سلاحهم الأخير . كان ذلك في السنة ألسابعة للدعوة ، وكانت كثرة المسلمين قد وفقت إلى الفرار بأنفسها إلى الحبشة . وكان هزة وعمر قد اعتنقا الإسلام ، وكذلك أبو طالب قد رفض صراحة ، أن يخذل الرسول نزولا عند مطلب قريش . وباستثناء أبي لهب كان بنو هاشم كلهم قد عقدوا العزم على أن ينصروه ويقاتلوا دفاعاً عنه حتى الرجل الأخير . وفوق هذا ، فقد راح نور الإسلام ينتشر من قبيلة إلى قبيلة . من أجل ذلك قرر القرشيون إذ يفرضوا حرماً اجتماعياً على بي هاشم ، فلا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يبيعونهم شيئاً ولا يبتاعون منهم شيئاً . ثم أنهم كتبوا صحيفة بهذا المعنى وعلقوها في ( جوف ) الكعبة لكي يعطوها معنى القداسة . فلما سمع بنو هاشم بهذا شخصوا إلى موطن منعزل من
مكة يعرف بالشعب )) .

ووقفت قبيلة بني هاشم موقفاً شجاعاً بتأييدها الرسول وقبلت الحرم الاجتماعي رغم أن الإسلام لم يعم سائر أفرادها ، وينبع موقفها هذا من موقف أبي طالب من جهة ، ولاحترامها النبي  من جهة ثانية ، فرفضت التخلي عنه في أيام محنته . . .

هذا ، وشكل الحرم الاجتماعي مصاعب جدية أمام الدعوة الإسلامية ، إذ مرت في مرحلة جمود بعد نهضتها السابقة ، فلم يعد بالامكان أن يتصل المسلمون بالقبائل العربية وهم محصورون داخل شعب أبي طالب ، ذلك أن بني هاشم قبلوا ببطولة ملحمية أن يقفوا مع الرسول في محنته ، ويعيشوا في أشد الظروف قساوة في ظل المقاطعة القرشية اجتماعياً واقتصادياً .

ثبات الرسول على المبدأ

رغم أن الحصار دام ثلاث سنوات ، لكن ما لبث أن ظهرت المعارضة داخل صفوف القرشيين لفك الحصار عن بني هاشم والمسلمين ، ولاسيما بعد تمزق صحيفة الطرد الجماعي المعلقة في الكعبة ، فكان أن عادت الدعوة مرة أخرى إلى نشاطها .

وشهد العام العاشر للبعثة تحولاً في أسلوب محاربة قريش الدعوة الإسلامية إذ عرضت على الرسول أن لا يتعرض لديانة أجدادهم وأن لا يتعرضوا بدورهم للمسلمين شريطة أن يدعهم ودينهم ويدعوه ودينه . . .وكان أن تم اللقاء بين الطرفين في منزل عم الرسول أبي طالب وهو على فراش الموت . . . لكن موقف الرسول  ظل ثابتاً فلم يقبل بأي شكل من أشكال التراجع عن نشر رسالته في صفوف المشركين ، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله . . . .

مصاعب على طريق الدعوة

وفي هذه المرحلة من مسيرة الدعوة الإسلامية ، أصيب الرسول بضربة ، قاسية إذ توفيت زوجته المخلصة خديجة ، وعمه وراعيه أبو طالب ، وشرعت قريش تحاربه بشراسة وضراوة ، ويحدث توماس كارليل عن وضع الرسول الجديد بقوله:

(( فصبوا له الإشراك وبثوا الحبائل وأقسموا بالآلهة ليقتلن محمد بأيديهم ، وكانت خديجة قد توفيت ، وتوفي أبو طالب ، وتعلمون - أصلحكم الله - أن محمداً ليس بحاجة إلى أن ترثى له ولحاله النكراء إذ ذاك ومقامه الضنك وموقفه الحرج ، ولكن اعرفوا معي أن حاله إذ ذاك من الشدة والبلاء كما لم ير إنسان قط ، فلقد كان يختبىء في الكهوف ، ويفر متنكراً إلى هذا المكان وإلى ذاك ،لا مأوى ولا مجير ولا ناصر ، تتهدده الحتوف وتتوعده الهلكات ، وتفغر له أفواهها المنايا ، وكان الأمر يتوقف أحياناً على أدنى – كإجفال فرس من أفراس أتباع محمد - فلو حدث ذلك لضاع كل شيء ولكن أمر محمد - ذلك الأمر العظيم - ما كان لينتهي على مثل تلك الحال)) .

طرد الرسول من قريش

ولكن رغم تلك الصعوبات التي واجهها الرسول  في مسيرته الكفاحية لنشر الدعوة الإسلامية ، لم يتوقف هنيهة عن متابعة تبليغ رسالات ربه ، وما كانت قريش لتتوقف بدورها عن مهاجمته ومحاربته . . . وكان أخطر قرار اتخذته بعد تسلم عمه أبي لهب زعامة بنى هاشم خلفاً لأخيه أبي طالب هو طرد الرسول ، يقول المستشرق الروماني جيورجيو :

(( لقد طرد محمد  في المرحلة الأولى من قبل قريش ، في حين أن هاشماً لم تطرده ، إذ حماه أبو طالب ، وخرج معه من مكة إلى الشعب ، ولكن قبيلة هاشم هذه المرة هي التي أقوت طرده . ومنذ الساعة التي صمم فيا رئيس قبيلة هاشم على طرد محمد  تبدلت شخصية محمد  نبي الإسلام ، وغدت أشبه برجال الثورة الفرنسية . فالذين يسيرون على مبدأ مخالفة القوانين لا يحميهم القانون . وساءت أوضاع محمد  بعد طرده بشكل يفوق من خرج عن حماية القانون أيام الثورة الفرنسية ، لأن من يقتل شخصاً فرنسياً تعاقبه محكمة الثورة ، وهي وحدها التي تحاكم هؤلاء الأشخاص وتحكمهم . أما في مكة فإن من طرد من قبيلته هدر دمه ،وبإمكان أي امرىه أن يقتله ، أو يبيعه ، أو يستعبده . حتى إن أحرقه أحدهم حياً لا يعاقب حارقه . لان المطرود من القبيلة يغدو شيئاً لا قيمة له ،وبالتالي غير لائق لان يخضع أحد للمحاكمة بسببه ، فهو من طبقة لا تعتبر من ذوي الحياة )) .

الإسراء و المعراج

في خضم النضال البطولي الذي خاضه الرسول  لنشر الدعوة الإسلامية ، وفي تلك الظروف الصعبة من محاربة كفار قريش إياه ، والحصار المفروض على المسلمين كان الحدث العظيم : الإسراء والمعراج الذي أوقع بلبلة فكرية في صفوف المسلمين وزاد في تعنت المشركين ، أي إسراء الرسول  إلى بيت المقدس ، وعروجه إلى السماوات السبع وبلوغه سدرة المنتهى ...

هذا و قد ساهمت الدراسات الاستشراقية في بحث مسألة الإسراء والمعراج من زاويتهما الإيمانية والعلمية وإعادة طرح مسألة طالما أثارها المسلمون أنفسهم من قبل - أي كيفية الإسراء وهل أسري به  بالروح والجسد معاً أم بالروح وحده - . . .

وتقترب نظرة المستشرقين من موقف عقلانيي المسلمين الذين يعتقدون بأن الإسراء والمعراج كانا بالروح فقط ، اعتماداً على حديث عائشة التي ترى أن الإسراء كان ضربا من الرؤيا الصادقة .

يقول المستشرق الفرنسي آتيين دينيه في كتابه : "محمد رسول الله " :

(( أثار الإسراء والمعراج كثيراً من المناقشات بين علماء الإسلام ، فبعضهم يرى أن ذلك معجزة حصلت فعلاً بالروح والجسد في اليقظة ، بينما يعتمد الآخرون على أصح الآثار ، من بينها حديث عائشة زوج الرسول المفضلة وبنت أبي بكر ، ويرون أن الروح وحدها هي التي أسري بها وعرج إلى السماء ، وليس ذلك إلا رؤيا صادقة ، كما كان يحصل كثيرا للرسول أثناء نومه )) .

هذا ، ولقد أدلى الباحث الروماني ك . جيورجيو برأيه بهذه المسألة ،0 فهو رغم اعتقاده أن إسراء الرسول ومعراجه قد تما بالروح فقط ، وهذا ليس بغريب على أصحاب الرؤى العظيمة الصادقة ، لكنه يؤكد احترامه للعقيدة الإسلامية حتى وإن ذهب بعض مفكريها إلى القول بالإسراء بالروح والجسد معاً في تلك الرحلة الإعجازية ، التي تفوق كل خيال ، وتتجاوز موضوعية العلوم الفيزيائية ، فيقول :

)) وعلم الفيزياء ، وإن لم يقبل هذا الموضوع ، فإنني أحترم العقيدة الإسلامية ، وأقبل كل ما جاءت به من الناحية الدينية . ولدينا نحن المسيحيين اعتقادات دينية لا يقبل بها علم الفيزياء كذلك ، مع ذلك فنحن نقبل بها ، ونعتبرها من صلب معتقداتنا )) .

وكان لمسألة الإسراء والمعراج وقعها الخطير في مسار الدعوة الإسلامية إذ قوبلت بسخرية قريش وهزئها ، بينما أحدثت بلبلة في الصف الإسلامي الذي كاد أن ينشق على نفسه بين مصدق و مشكك لولا وقفة أل بكر الحازمة التي صدت تيار البلبلة الفكرية التي كادت أن تحدث شرخاً وردة في الصف الإسلامي . . .

اتصال الرسول بقبائل العرب وخروجه إلى الطائف

كان للحصار الذي فرضته قريش على المسلمين وفقدان الرسول  حماية بنى هاشم إياه ، أن جعلته يسارع إلى التفكير في ضرورة نشر الرسالة الإسلامية خارج حدود مكة . . . إذ أن رسالة الإسلام لم تكن البتة مقصورة على قبيلة قريش المكية ، بل كانت رسالة لللانسانية عامة . . . وإذا كانت الظروف الموضوعية فرضت على الرسول حين انتقال الرسالة من السرية إلى العلنية أن يبدأ بالأقرب فالأقرب ، ويحصر جل نشاطه في مكة لتكون قاعدة ينطلق الإسلام منها إلى باقي مناطق جزيرة العرب . . . فقد رأى الرسول الآن مع الحصار الجديد أن ينشط لكسب القبائل العربية .

و تأكيداً على هوية الرسالة الشمولية ، تابع الرسول نشر الدعوة بين قبائل العرب في مواسم الحج ، كما خرج إلى الطائف عارضاً الإسلام على سادات ثقيف لكنه لم يلق في محاولاته لجميعاً إلا الإعراض والسخرية والإيذاء...

لكن ، رغم كل هذا وذاك تابع الاتصال بالقبائل العربية في مواسم الحج إيماناً منه بأن الله جاعل له مخرجاً وأنه لا بد مظهر دين الحق وناصر نبيه.

بيعة العقبة :

وفي العام العاشر للهجرة ( 620 م ) حدث تحول في حياة الرسول  وفي مسرة الدعوة الإسلامية معاً ، حين التقى صلوات الله عليه برهط من الخزرج قادمين من يثرب (المدينة) فبايعوه على الإسلام عند العقبة - موقع بين مكة والمدينة - أثناء قدومهم لأداء فريضة الحج ، وفي العام التالي بايعه اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج « الذين نشطوا في نشر الرسالة الإسلامية في يثرب ... ولما كان العام الثالث حدثت بيعة العقبة الثانية التي عرفت باسم بيعة الحرب حين بايعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من الأوس والخزرج (الأنصار) .

وحين أدركت قريش نبأً الحلف الجديد المعقود بين محمد  وأنصار المدينة ، خشيت ازدياد نفوذه واستشراء خط الدعوة الإسلامية ، إذ غدا ذا منعة من قبيلتي الأوس والخزرج ، لذا شرعوا يضيقون الخناق على مسلمي مكة ، ومكروا تآمراً لإحكام خطة يغتالون بها الرسول و بالتالي القضاء على الإسلام قبل أن يفلت من أيديهم زمام المبادرة .

طلائع الهجرة الإسلامية

ومع اشتداد الحملة القرشية المسعورة أذن الرسول  لأتباعه بالهجرة إلى يثوب على شكل جماعات صغيرة وبسرية متناهية ، وحين لاحظ القرشيون حركة الهجرة السرية عمدوا إلى إيقافها ، ولكن أشد ما كان يقض مضاجعهم ويتوجسون منه الشر المستطير هو إفلات الرسول من قبضتم ، لأن معنى ذلك الخطر الداهم على الزعامة القرشية خاصة ، إذا ما فكر عليه الصلاة و الإسلام بتشكيل جيش هدفه الكر على مكة و انتزاعها من أيديهم ...

ويحلل الباحث الإنكليزي غلوب باشا الوضع العام الناشيء عن الهجرة الإسلامية من مكة إلى يثرب لتلك الفئة التي غالبيتها من الفقراء والمسحوقين والتي اضطرت أن تقطع 250 ميلاً ميلا على الأقدام في ظروف قاسية جداً ، ومن ثم يخلص إلى القول :

(( ولم تنقض سبعة أسابيع أو ثمانية حتى كان جميع المسلمين قد هاجروا من مكة باستثناء النبي نفسه وابن عمه علي بن أبى طالب وولده بالتبني زيد بن حارثة ورفيقه الأمين أبو بكر الصديق . وارتد عن الإسلام نفر خوفاً من أهلهم بينما حال هؤلاء دون هجرة نفر آخر ،وجدير بنا أن نعترف هنا بأن محمداً أبدى جرأة منقطعة النظير ببقائه في مكة حيث لم يعد يحظى بحماية عمه أبو طالب كبير بني هاشم .

وأدركت قريش خطورة ما وقع من تطور وهالهم أن المسلمين أخذوا يقيمون الآن في يثرب مجتمعاً متلاحم الوشائج خارجاً على نفوذهم وبعيداً عن متناول أيديهم ، وأنهم شرعوا يكسبون أنصاراً إلى جانبهم من أبناء القبائل الأخرى الذين قد يتحولون إلى معاداة قريش . واجتمع كبار القوم في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد ورأى بعضهم أن محمداً هو سبب كل ما يواجهونه من متاعب ، وان من الخير لهم لو تخلصوا منه في أسرع وقت ممكن قبل أن يتمكن من اللحاق بأصحابه في يثرب )) .

خطة قريش لهدر دم الرسول

وإزاء ذلك ، اتخذ زعماء قريش قراراً خطيراً إثر اجتماعهم في دار الندوة ، ويقض بقتل الرسول  بشكل جماعي على أن تشرك بذلك البطون العشرة المنتمية إلى قبيلة قريش ، وهدر دمه بين هذه القبائل نزولاً عند رأي أبي جهل ، يتحدث المستشرق الفرنسي آتيين دينيه عن إقرار زعماء فريش تلك الخطةً الغادرة بقوله :

(( أقرت الجماعة الغادرة هذا الرأي ، واعتقد المشركون - منذ إقراره - أنهم قد تخلصوا من عدوهم ، غير أن المشيئة الإلهية أخلفت ظنهم ، فقد أرسل الله جبريل إلى رسوله يعرفه بمؤامرة دار الندوة ، ويأمره بالهجرة ويطلب إليه أن لا يبيت على فراشه الذي كان يبيت عليه.

كان بمنزل الرسول أمانات وضعها عنده المشركون لثقتهم في طهارته ، فأبت نفسه الهجرة قبل رد الأمانات إلى أهلها ، لذلك أتى بعلي المخلص الوفي ، وكلفه بردها ، بعد أن أخبره بنبأ دار الندوة ، وقال له : « نم على فراشي، و تسج ببردى هذا الخضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم »)) .

وبحث المستشرق الفرنسي سيديو في كتابه : " خلاصة تاريخ العرب " مسألة خلاص النبي محاطاً بالعناية الإلهية ، من مكيدة القرشيين ، بقوله :

(( فدفع الله شرهم ، وهو أولى أن يحفظ نبيه القائم بالدعوة له ، وأحق أن يجعل كيدهم في نحورهم وما زال آخذاً بيمينه ، حتى غني له الزمن ، وصفق له الدهر )) .

وكانت الهجرة الإسلامية إيذاناً بعهد جديد ، ومرحلة عتيدة في مسيرة الدعوة الإسلامية وجاءت تأكيداً على الهوية الشمولية لدعوة التي لم تكن قاصرة على قريش وإنما جاءت لتغير واقع المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية ، و صهرها في بوتقة الإسلام ، ومن ثم لتؤكد أنها رسالة عالمية للناس كافة .

باب الثالث

من الهجرة إلى وفاته 

الفصل الأول
الهجرة و إقامة الدولة الإسلامية الأولى

الهجرة إلى المدينة

مع العام الثالث عشر للبعثة الإسلامية ، حدثت الهجرة النبوية التي كانت مبدءاً للتاريخ الإسلامي ، من مكة - عاصمة الشرك - إلى المدينة - قاعدة الإسلام الأولى - يقول توماس كارليل :

(( ومن هذه الهجرة يبتدىء التاريخ فى المشرق ، والسنة الأولى من الهجرة توافق 622 ميلادية ، وهى السنة الخامسة والخمسون من عمر محمد ، فترون أنه كان قد أصبح شيخاً كبيراً ، وكان أصحابه يموتون واحداً بعد واحد ويخلون أمامه مسلكاً وعراً ، وسبيلاً قفراً وخطة نكراة موحشة ، فإذا هو لم يجد من ذات نفسه مشجعاً ولامحركاً ، ويفجر بعزمه ينبوع أمل بين جنبيه ، فهيات أن يجد بارقات الأمل فيما يحدق به من عوابس الخطوب ويحيط به من كالحات المحن والملمات ، وهكذا شأن كل انسان في مثل هذه الأحوال )) .

الدلائل الووحية للهجوة

ولقد حملت الهجرة معان عدة ، فهى هجرة الشرك وخلاص المسلمين المهددين بفتنتهم عن دينهم ، بسبب الحصار القرشي العنيف ، واضطهاد ضعفاء المسلمين ، كما حفلت بدلائل ايمانية عميقة ، قاربت المعجزات حين اختباً الرسول عن أعين مطارديه هو وأبو بكر في الغار الذي نسجت العنبوت على فمه نسجها وباض الحمام على مدخله ....

وتحدث المستشرقين الأمريكي ماكس و( 1795 -1686 ) في كتابه : « عظماء الشرق » عئ هجرة الرسول  ودلائل النبوة والقوة التي ظهرت في تلك المرحلة التي مثلت منعطفاً تاريخياً عظيماً في سيرة رسول الله وتطوراً نوعياً في مسار الدعوة الإسلامية ، يقول ماكس :

(( لقد نفذت روح الإسلام من محمد رسول الله إلى المسلمين ، إلى الهداة والصالحين ، وإن هذه الروح القوية حدت بالنبي إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ، بينها كان أعداؤه من المشركين يجدون في البحث عنه ليؤذوه بل ليذيقوه ريب المنون ، ومن الغريب أن أعداء النبي لم يقنعوا أنفسهم بتركه مكة بل تعقبوه في هجرته ، وهناك ضربوا على منزله سياجاً من الحيطة لأجل القبض عليه ، ولكن روح الإسلام الدفينة في أعماق الهمة ، ألهمته أن يتناول قبضة من تراب فتناولها وربى بها عليم فأخذتهم سنة من النوم تمكن خلالها النبي من النجاة منهم إلى الصحراء حيث اختفى في غار هناك ، لا تقل إن اختفاءه في الغار يجول دون هلاكه وحتفه ، ولكن الإسلام وما في ثناياه من روحانية وقوة ، جعل الحمام يبيض على باب الغار ، ولما أفاق أعداؤه من غشيانهم تتبعوا أثره إلى الغار ، وأخذتهم هواجس الظن ، لعلمهم بأن النبي لا يمكن بأي حال أن يكون في الغار، فمن يرد أن يؤمن بوحدانية الله ، فعليه أن يشاهد بسهولة يد الله المحركة للكائنات من غير أن تبصرها العين المجردة وخاصة عندما أحيطت حياة النبى من يد العدوان برعاية الطير الذي اندفع إلى حماية محمد بيد الإله الخافية عن الأبصار)) .

الدلائل الايمانية للهجرة

لا مرية فى أن الهجرة الإسلامية من مكة إلى يثرب تمثل مرحلة من مراحل الصراع الدينى السياسي الدائر في الجزيرة العربية ، كما تتضمن دلائل إيمانية بخروج المسلمين من عهد الجاهلية و تشكيل بداية التاريخ الإسلامي ، يقول المستشرق الفرنس مارسيل بوازار في كتابه «انساية الإسلام » :

(( وما ان شعر محمد بالخطر حتى أوعز لفئة قليلة ممن آمنوا بدعوته ، وكانوا مهددين بشكل خاص ، على الهجرة إلى الحبشة . ثم ما لبث أن نظم هجرة أتباعه بالتدريج إلى ثرب التي عرفت فيما بعد باسم ( المدينة ) . وائتمر المكيون لقتل النبي ، وعلم بالأمر ، وتمكن من النجاة بشبه معجزة بمساعاة شجاعة من ابن عمه علي ، كما تقول كتب السيرة . وفي المدينة استقبل محمد بالتهليل في شهر تموز عام 622م ، وكانت « الهجرة » التي يحدد بها المسلمون مطلع سنتهم ، والتي تعتبر بداية التاريخ الإسلامي . وتعني اللفظة حرفياً ترك البلاد الى أخرى ، والمنفى ، والنجاة بالنفس . أما الدين فقد أضفى عليها معنى خاصاً هو الخلاص من الجهل ، ورفض الشر ، واطراح الكفر ، وبكلمة تكون الهجرة فعل ايمان . ومن المفيد التذكير بأن الهجرة (ابتعاد طوعى وإن يكن محدداً بأسباب لا إرادية) يتجدد بلا انقطاع اذا حدث اذلال أو اضطهاد . وعلى المسلم أن ( يهاجر اذا اقتضى الأمر ليجاهد في سبيل الله حتى يزول كل ظلم )) .

معالم الدولة الاسلامية الاولى

ومع وصول الرسول إلى المدينة عام 622 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الإسلامية الفتية ، هي مرحلة كانت ما بين عهدي الجاهلية والإسلام . وأخذت تتبلور فيها معالم الدولة الإسلامية الأولى ، المبنية على قاعدة الإخاء الإسلامى ما بين الأنصار ( الأوس والخزرج ) والمهاجرين المكيين وأسس الدستور الإسلامي الجديد الذي نظم العلاقات ما بين قوى المدينة ، المسلمين والقبائل التي لا تدين بالإسلام واليهود ، فكان التعايش بين مختلف الطوائف هو مدى هذا الدستور ، والإخاء لحمته . . . دستور المدينة ، الذي نضمن تنظيم العلاقات ما بين المسلمين من جهة ، وأصحاب اذاهب الأخرى من جهة أخرى ، في إطار من الحرية الدينية ، يقول المستشرق الروماني جيورجيو :

(( وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً ، كلها من رأي رسول الله . خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان . وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية ، ولهم أن يقيموا شعاثرهم حسب رغبتهم ، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء . وضع هذا الدستور في السنة الاؤلى للهجرة ، أى عام 623م . ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده )) .

وحقق المجتمع الديني في ظل الدستور الجديد نقلة نوعية ، وثورة اجتماعية ، اذ غدت الأمة الإسلامية هي البديل العملي للعصبية القبلية ، والإخاء والمساواة عوضاً عن طبيعة العلاقات الاجتماعية الجائرة ... وأخذ بالسطوع نجم الرسول  الذى أصبح عملياً الحاكم السياسي للمدينة ، فكان الداعية والنبى والحاكا والقاثد العسكرى وأصبحت سيرة حياته تاريخاً للحركة الإسلامية .

عوامل انتشار الدعوة الاسلامية

كانت المدينة قبل الهجرة تعانى اضطرابات داخلية ، ومشاكل اقصادية وتمور داخلها تيارات سياسية وفكرية شتى ، ناهيك بما كانت تعيش من صراعات قبلية ، هذا ويتحدث الباحث الإنكليزي غلوب باشا عن واقعها السكانى وأحوالها في تلك المرحلة بقوله :

(( كانت المدينة مأهولة عندما هاجر اليها النبي بقبائل عدة ، منها العربية ومنها اليهودية. ( أرى من الأسهل التمييز بينها على هذا النحو ، و ان كان من يدعون باليود قد لا يخرجون عن كونهم عربأ تحولوا الى اليودية ) . وكان اليهود ينقسمون الى ثلاث قبائل تعمل اثتان منها في الزراعة و تعيش على زراعة النخيل والحبوب ، أما الثالثة فتضم فنيين يعملون في صياغة الذهب والفضة وصناعة الأسلحة .أما العرب فكانوا قبيلتين : الأوس والخزرج ، ولم تكن قد انقضت أربع سنوات على توقف الحرب بينهما ليحل محلها السلام ، وليصبح للقبيلتين ريئس واحد هو عبد الله بن أبي يتولى قيادتهم وزعامتهم معاً )) .

التفوق الروحي و الزمني للرسول

كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على انتشار الإسلام في يثرب ، ومكنت الرسول حين بلوغها إلى تحويلها قاعدة انطلاق لنشر الدعوة الإسلامية ، ومركزاً للدولة الإسلامية الأول مما أكسب الرسول التفوق الروحي والزمني ، ومنح الإسلام عزة ومنعة . يقول المستشرق الهولندي فلوتن يان ( 1807- 1879 ) صاحب الدراسات العديدة والجادة في كتابه : " الفصول ":

(( إن محمداً لم يلبث أن أصبح له تفوق روحي وزمني بعد سنين قلائل من الجهاد والاضطهاد ، كما يدل على ذلك غير آية من القرآن ، وذلك بتحول أهل المدينة إلى الإسلام بفضل ذلك النفوذ الذي كان يتمتع به الرسول . وغدا الإسلام دينا قويا ما لبث أن انتشر بين الشعوب عن طريق الوعد والوعيد )) .

أعداء الإسلام في المدينة

وكان أن واجهت الرسالة الإسلامية صعوبات مع قيام الدولة الإسلامية الأولى ... ممن لم يعجبهم الواقع الديني الاجتماعي السياسي الجديد ، فشكلت القوى التي عملت بالسر أو بالعلن على تخريب الإسلام من الداخل والإيقاع بين المسلمين ، وقد تشكلت من ركائز ثلاث :

أولاً : القبائل العربية التى ما زالت محافظة على وثنيتها ، و تلتقي مع قريش في اتجاهاتها الدينية ومصالحها الاقتصادية .

ثانياً : اليهود بقبائلهم وتجمعاتهم السكنية الثلاثة ( قينقاع وقريظة والنضير ) وذلك حين شعروا بخطر الدعوة الإسلامية التي عملت على تقويض نفوذهم الديني ومكانتهم الاقتصادية ، فكانوا أن عمدوا الى إثارة الفتن بين المسلمين وحبك الدسائس ضدهم، وهذا ما قاد الرسول في مرحلة تالية إلى تقويض وجودهم في المدينة ، اذ أجلى القبيلتين الأوليين ( قينقاع والنضير ) وأنفذ حكم السيف في القوة الثالثة ( قريظة ) حين تأكد من تآمرها و تواطئها مع قريش ، والحلف العادى للرسول ( في معركة الخندق ).

ثالثاً : المنافقون ، وهم الحركة السياسية التي تزعمها عبد الله بن أبي ، التي أعلن أفرادها اسلامهم ظاهراً ، لكنهم ظلوا يكيدون للإسلام وللمسلمين ويحاولون الإيقاع بين الأنصار ( مسلمي المدينة ، وهو الاسم الذي أطلقه الرسول على قبيلتي الأوس والخزرج اللتين نصرتا الإسلام ) والمهاجرين ( مسلمي مكة ) الذين هاجروا الى المدينة .

بدء الصراع مع قرشيي مكة

الا أن أعداء الداخل لم يكونوا هم الخطر الوحيد الذي يهدد الإسلام ودولته . . . لقد كان العدو الخارجي - أي مشركو قريش- هم الخصم الأساسي ، الذين عملوا على كسب أعداء الداخل ، واستخدموا مختلف الأساليب في الضغط السياسي والاقتصادي والتهديد العسكري ، كما لجؤوا إلى أسلوب الفتنة التى كان هدفها الوقيعة بين المسلمين ويهود المدينة ، غير أن جميع وسائل الضغط والترهيب لم تجد فتيلا» لاسيما وأن مكانة الرسول والتفاف القوى الإسلامية حوله أدخلت الذعر في قلوب أعداء الداخل ...

الصراع الاقتصادي

وكان السهم الخطير الذي لعبته مكة ، هو الحصار الاقتصادي الذي ضربته على المدينة ، وكان له أثره في تعجيل الصراع ما بين قوتي الشرك والإسلام ، رغم أن الرسول الكريم كان يهدف الى نشر الدعوة بالوسائل السلمية ، إلا أن موقف العدو الذى يسيء إلى القضاء على الدعوة في مهدها ، بخنقها اقتصادياً فرضت على المسلمين المواجهة ، يقول توماس كارليل :

(( وكانت نية محمد حتى الآن أن يشهر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة فقط ، فلما وجد أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الإصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبه ، حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة - عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه دفاع رجل ، ثم دفاع عربي ، ولسان حاله يقول ( أما وقد أبت قريش الا الحرب فلينظروا أى فتيان هيجاء نحن )- وحقا رأى أن أولئك القوم صموا آذانهم عن كلمة الحق وشريعة الصدق ، وأبوا إلا التمادي في ضلالهم يستبيعون الحريم ويهتكون الحرمات ويسلبون وينهبون ويقتلون النفس التى حرم الله ، ويأتون كل اثم ومنكر ، وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والأناة فأبوا لم لا عتواً وطغياناً ، فليجعل الأمر اذن إلى الحسام المهند والوشيج المقوم ، الى كل مسرودة حصداء وسابحة جرداء ، وكذلك قضى محمد بقية عمره وهي عشر سنين اخرى في حرب و جهاد لم يسترح غمضة عين و لا مدر فواق و كانت النتيجة ما تعلمون )) .

ومن هذا المنطلق الفكرى يتحدث المستشرق الفرنسي جان بروا في كتابه : « محمد نابليون السماء » بقولة :

(( إن إبلاغ الرسالة الى العالم هو الهدف الأول والأخير للنبي محمد ، ولم تكن مشاغل الأسرة والحياة لتحول بينه وبين أدائها أبداً ، وإنك إذا نظرت الى عنف قريش ومؤامراتها الدموية وربط جأثسها على اغتياله مراراً ، بل اذا نظرت الى كل القبائل العرية حينذاك ، ألفيت الفزو جل عملها ، ولم يكن النبي إلى ذلك الوقت - وإن كثر حوله الرجال - قد - اذن له في النضال ودفع العدوان بالعدوان ، ولكن بعد كل تلك الاعتداءات جاء الوحي الإلهى يبيح له حرب المعتدين  أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق لم لا أن يقولوا ربنا الله  (22 /39)
( الحج ) وجاء أيضاً  وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يجب المعتدين  (2 / 190 ) )) .

الحصار الاقتصاى المضاد

وكان طبيعياً أن يواجه المسلمون المشركين بصراع اقصادى مضاد ، فكان أن أنفذ الرسول عدداً من السرايا العسكرية ، التى شكلت خطراً على القوافل التجارية القرشية . . . كما عقد عدداً من المعاهدات مع القبائل العربية ، التى شكلت رديفاً في صراعه مع قادة مكة .

وهذا ، ما دفع المستشرقين لأن ينظروا الى الرسول كنبي ورجل دولة وقائد عسكرى حين قرن الدين بالسيف والدعوة بالقوة ، يقول المستشرق اً. أفريمان في كتابه : " تاريخ العرب ":

(( وجد النبي – الذي لا كرامة له في عشيرته- الولاء والإجلال في مدينة الهجرة. وأخذ النبى يظهر تدريجياً في صورة جديدة . فالنبي المضطهد يتحول الآن الى محارب ظافر . واذا فشلت : نذر النبي وبشائره في اقناع قريش فإن سلطان الفاتح سيرغمهم على الاقتناح )) .

الاذان بالقتال و بدء العمليات العسكرية

وما إن زلت الآية القرآية التي تأذن للمسلمين بقتال أهل الشرك حتى أدرك المسلمون أن عليهم واجباً مقدماً . هو نشر الرسالة سلماً وحرباً ، ومجابهة أعداء الإسلام عسكرياً ، لأن هؤلاء يهدفون أساساً إلى القضاء على الدولة الإسلامية الأولى . . .

فكان أن تحول المسلمون إلى جيئ الثورة الإسلامية وغدت المدينة قاعدة الانطلاق للعمليات العسكرية الموجهة ضد مكة ، وكانت فاتحة لتاريخ الإسلام العسكري ، وقادت إلى أول مواجهة ما بين الطرفين فى موقعة بدر . . .

الفصل الثاني
حروب الدعوة الإسلامية

المدينة قاعدة الثورة الإسلامية

كانت الهجرة إلى المدينة حدثاً تاريخياً عظيماً في تاريخ الجزيرة العربية ، مع قيام الثورة الإسلامية ، المحاطة بأعداء الداخل والخارج ، ناهيك برسوخ الدعوة الإسلامية التي اشتد ساعدها في قاعدتها الجديدة بعد أن كانت مطاردة في مكة ، ولذا ترتب عليها أن تحسب حسابها لمواجهة أعداء الإسلام ، لأنهم يخشون وجودها خشية تدفعهم للسعي للانقضاض عليها عند أول بارقة تسنح لهم ، ثم لأن الرسالة لم تكن مقصورة على مكة والمدينة ، وإنما لتنشر في جميع أرجاء بلاد العرب .. . وهذا ما يحدوها لأن تعد العدة لمواجهة طويلة مع أعداء حركة التوحيد ، وخاصة بعد أن أنزل الله آية الإذن بالقتال أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير (الحج آية 39) . وهكذا كانت حروب الدعوة الإسلامية في عهد الرسول ، تزيل الحواجز القبلية وتسقط الوثنية ، فوحد العرب و تعلي راية وحدانية إلا في ربوعهم .

العمليات العسكرية السابقة على معركة بدر

إذا كانت معركة بدر أول مواجهة فعلية من المسلمين ومشركي قريش ، فقد جرت مع ذلك سلسلة من العمليات العسكرية التمهيدية قادها الرسول بنفسه أو أنفذها بقيادة رجال من صحابته وكانت حسب تعبير الباحث العسكري العماد مصطفى طلاس:

((أشبه بدوريات الاستطلاع القتالية التي تجري عادة قبل المعركة لتعرف جهاز الخصم الدفاعي وسبر نقاط القوة ونقاط الضعف فيه)) .

وكانت هذه الحركات ضرورة في بدء تاريخ الثورة الإسلامية لدراسة طبيعة المنطقة ، ولإظهار قوة المسلمين ويقظتهم ضد تحركات الأعداء .

ويتحدث الباحث العسكري جان باغوت غلوب عن طيبعة الخطط السوقية ( الاستراتيجية ) التي اتبعها الرسول في صراعه مع قاعدة الشرك العربي : مكة في عهده ، قائلاً :

((وكانت الخطط السوقية التي اتبعها النبي بين عامي 623 و 630 هي عين الخطط السوقية التي اتبعها فيصل ولورنس في الحملة بين عامي 1916 و 1918 . فلقد احتفظ الأتراك في الحرب الكونية الأولى محاميات ضخمة في مكة والمدينة وكانت هذه الحاميات تعتمد في بقائها على قوافل الإبل بل على الخط الحديدي بين المدينة ودمشق ، وقد عزز الأمير فيصل ولورنس مواقعهما إلى الشمال من المدينة حيث كانا في وضع يمكنهما من قطع شريان حياتها مع سوريه .

وكان الغزو بالنسبة إلى العرب وسيلة طبيعية للخلاص من العوز . ولقد تولت القيام بالغزوات الصغيرة الأولى جماعات صغيرة من المهاجرين . ولم يشترك أهل المدينة في هذه المشاريع ، لكن أهل مكة والمدينة على السواء لم يكونوا قد ألفوا العمليات الحربية ، وهى العمليات التي يقضي فيها البدو الرحل أوقات فراغهم ، ولا تعرفها الجماعات التي تعمل في التجارة أو الزراعة . لكن أياً من الغزوات الأولى لم تحقق نجاحاً مذكورا ، فلقد كانت أنباء الحملة تصل إلى قريش قبل وقوعها ، بينما كانت الأنباء التي تصل إلى المسلمين إما متأخرة أو مفتقرة إلى الدقة .

وفي خريف عام 623 ميلادية مرت قافلة كبير ة تضم نحواً من ألف بعير محملة بالبضائع التي تملكها قريش ويتولى قيادتها أبو سفيان أحد كبار أعداء النبي في مكة قاصدة الشمال إلى غزة . وقد حاول المسلمون قطع الطريق عليها في ذهابها ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك .

ولكن بينما كان رجال مكة والمدينة يعيشون في هاتين المديتين كانت الصحراء الفسيحة المكشوفة مأهولة بقبائل متفرقة من البدو وتعيش على الرعي ، وبداً النبي يدرك أن مساعدة هؤلاء البدو ضرورية لنجاح حملاته الصحراوية ولذا فقد شرع وبصورة تدريجية يقيم علاقات معهم ولاسيما مع قبيلة جهينة التي كانت تقيم آنذاك كما تقيم اليوم بين المدينة والبحر )) .

موقعة بدر

تعتبر موقعة بدر من أهم المواقع السرية في التاريخ العسكري الإسلامي لأنها المعركة الأولى التي خاضتها قوات الثورة الإسلامية ضد قوى الشرك التي تزيدها ثلاثة أضعاف ، وكانت ترمي إلى تصفية الحركة الإسلامية الفتية في المدينة ، حين لاقاها الرسول بقواته التي قدر عددها 313 رجلا ( ثلاثة وسبعون منهم من المهاجرين الذين تطالب مكة برؤوسهم والبقية من الأنصار ) عد قرية بدر الصغيرة القريبة من المدينة والواقعة على طريق القوافل بين مكة والشام ، وذلك في السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة .

وحين تقابل المعسكران الإسلامي والمكي ، لم يكن الطرفان في حالة نفسية واحدة ، كان المسلمون كتلة متراصة مضبطة تحفزها حمية دينية طاغية وروح عسكرية منظمة لأنها تحارب دفاعاً عن العقيدة والنفس والوجود . . .

بينما كان معسكر الشرك موزعاً في نوازعه فبعضهم أرادها حرباً ضروسأ تقضي على شعلة الإسلام لأنها شكل خطراً يهدد المجتمع الأرستقراطي القرشي ، كما أرادها آخرون تطميناً لمصالحهم التجارية المهددة ، على حين كان ثمة فريق لا يريد الحرب أصلاً مع أباء العمومة من المهاجرين ، يقول غلوب باشا في كتابه : " الفتوحات العربية الكبرى " :

(( وهكذا تقدمت قريش إلى المعركة وهى موزعة بين الإقبال والإحجام كما أن بنى زهرة أخوال النبي رفضوا القتال وعادوا إلى مكة . أما نفسية المسلمين فكانت على النقيض من ذلك تماماً ، فلقد كان في المهاجرون يائسين تخلوا عن كل ما يملكونه في مكة ولا يحملون إلا سيوفهم ، يضاف إلى هذا أن المسلمين تخلوا عن العصبيات القبلية والعائلية التي تربطهم بعد أن أكد لهم النبي أن المسلمين هم إخوانهم فقط . فالخوف من سفك دماء الأقرباء ، وهي النزعة التي كبحت جماح قريش ، وحدت من إقبالهم على المعركة والتي لا تزال مسيطرة على عقلية البدو من العرب حتى اليوم لم تكن معروفة عند المسلمين الأوائل ، الذين قيل إن بعضهم قتلواً آباءهم أو إخوانهم إذا كانوا من المشركين . يضاف إلى هذا أن تعودهم الوقوف في صفوف منتظمة خمس مرات في اليوم لأداء فريضة الصلاة مؤتمين بقائدهم قد أوحى إلى عقولهم الباطنة بشي ، من الانضباط ، ومن الروح العسكرية المنظمة. يضاف إلى هذا أن المهاجرين والأنصار كانوا تحت تأثير حمية دينية عارمة وهم يشهدون قائدهم محمداً بين ظهرانيهم يشترك معهم في القتال )) .

عبقرية الرسول العسكرية في ، بدر

هذا ، وقد اعترف بعض المستشرقين وخاصة الباحثين العسكريين الغربيين بعبقرية محمد الرسول العسكرية ، تقويماً منهم لخطته العسكرية حين أصدر أمره للمسلمين بأن يحاربوا حرباً جماعية والابتعاد عن المبارزات الفردية ، فالمعركة هنا ليست لإظهار بطولة الأفراد ومهاراتهم القتالية ، وإنما في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا . . . يتحدث المستشرق والباحث العسكري الروماني جيورجيو عن خطة الرسول البارعة ، بقوله :

((وبعد ذلك شرح النبي  خطته الحربية للمسلمين ، وهي خطة ابتدعها فليب أبو الإسكندر المكدوني قبل ألف سنة تقريبا وتدعى باليونانية (فالانثر ، ferlange) وهي عبارة عن اصطفاف الجنود إلى جانب بعضهم بعضاً وتلتصق نهاية الصف الأول في أول الصف الثاني ، وهكذا حتى يتكون من المجموع شكل هندسي كالمثلث أو المربع أو الداري . ويقف الجميع بهذه الأشكال بمواجهة العدو، في هين تكون ظهورهم نحو الداخل . وبهذا الشكل لا يقدر العدو على مهاجمتهم من الخلف ، لأنه حيثما اتجه قابله الجنود مستعدين . هذا (التكتيك العسكري) هو الذي يدعى باليونانية ( فالانثر) لهذا سميت وحداتهم العسكرية اليونانية قديماً بهذا الاسم . وقد اتبع محمد  هذه الخطة لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية . وفي معركة بدر بالذات . هذه الخطة ، إضافة إلى شجاعة المسلمين . كانت سبب نصرهم في هذه المعركة .

وقد رتبت ( فلانثرات ) المسلمين في ذلك اليوم بشكل مثلث . ارتفع فيه ثلاث رايات إسلامية في رؤوس المثلث وقد ابرز محمد  عبقريته العسكرية في تنظيمه هذا المثلث واستحكام كل جندي في مكانه واستقباله العدو ، من غير استدباره )) .

وأسفرت المعركة عن فوز ساحق للمسلمين في معركة لم تدم أكثر من ساعة ، وهزيمة منكرة للجيش المكي الذي فقد فيها قادة قريش وصناديدها فكانت ضربة قاصمة لمعسكر الشرك . .

سلسلة العمليات العسكرية ما بين بدر و احد

كان الانتصار الكبير الذي حققته القوى الإسلامية على مشركي مكة في بدر ، فاتحة مرحلة جديدة أساسية في التاريخ الإسلامي عموماً ، والتاريخ العسكري خصوصاً ، مع ارتفاع الروح المعنوية لدى المسلمين ، التي عمل الرسول على إبقائها متقدة لإدراكه ألاً مناص من مواجهة مقبلة مع القرشيين الذين سيعيدون الكرة لمهاجمة المسلمين في المدينة ، ويحلل المفكر مونتجمري وات هذه المسألة بقوله :

(( أدرك محمد ، بعد انتصاره في بدر أنه كتب عليه (القتال الشامل) ضد المكيين ، إذ أن ازدهارهم متعلق بمكانتهم ، وكان عليهم أن يستعيدوا ما فقدوه في بدر ، حتى يحافظوا على وضعهم والقضاء على سيطرة محمد على طريق الشمال . فلم يكن محمد ينتظر إذاً من المكيين سوى ازدياد حدة النضال حتى أنه كرس كل قواه لتقوية نفسه وإضعاف أعدائه . وكانت أخبار بدر ومشاهدة الغيمة قد أدتا إلى ازدياد قوة محمد ، وأصبح أهل المدينة أكثر رغبة في الاشتراك بغزواته)) .

إجلاء يهود بني قينقاع عن المدينة

لعل أبرز العمليات التي قام بها الرسول في هذه المرحلة إجلاء يهود قيقاع عن المدينة في السنة الثانية للهجرة ، حين أخذوا يلعبون دور "الثورة المضادة" خلف صفوف المسلمين والطابور الخامس للعدو ، ويتحدث المستشرق إسرائيل ولغنسون في كتابه (تاريخ العرب واليهود في بلاد العرب) عن انعدام الثقة بين الطرفين بقوله :

(( وقد نجم عن هذا النزاع أزمة سياسية جعلت تشتد يوماً بعد يوم ، تأكد عندها لمحمد استحالة تحقيق الفكرة التي كان يرمي إليها من التأليف بين قلوب اليهود والعرب وإيجاد أمة مؤلفة من جميع عناصر يثرب . وكان لابد من عمل حاسم إزاء بني قينقاع ، وهم يسكنون داخل المدينة في حي واحد من أحياء العرب فتطهر المدينة وأحياء الأنصار من غير المسلمين )) .

وكان لهذه العملية آثارها البعيدة ، لتأكيد الوحدة السياسية للمدينة ، وانتزع السيادة المطلقة عليها ، وجعلها حصراً في أيادي المسلمين .

العمليات التأديبية ضل القبائل العربية المناوئة للإسلام

وفضلاً عن عملية إجلاء يود بنى قينقاع عن المدينة ، نفذ الرسول سلسلة من العمليات التأديبية التي قادها بنفسه ضد القبائل العربية المتحالفة مع قريش والتي هدفت إلى غزو المدينة ، انطلاقاً من موقف تحالفها مع قريش قوى الشرك ودرجاً مع شرعة الغزو السائدة لدى القبائل ... المفكر العسكري غلوب باشا باحثاً قضية العلاقة بين مدينتي مكة و المدينة مع القبائل العربية بقوله :

((على الرغم من أن العداء كان في هذه الفترة قائماً بين مدينتي مكة و المدينة إلا أن القبائل البدوية التي تعيش في الصحاري المجاورة لعبت دوراً هاماً في المشاحنات التي قامت بين المديتين . وكان هؤلاء البدو بتجوالهم المستمر بين المدينتين يؤدون دوراً بارزاً في نقل الأخبار والمخابرات وهي ضرورة عسكرية كان المسلمون مفتقرين إليها أشد الافتقار في البداية . يضاف إلى هذا أن هذه القبائل كانت تحتل الصحراء المكشوفة وكانت قادرة عن هذا الطريق على حماية القوافل أو نهبها ، وكانت قريش واثقة من أنها لو استطاعت ضمان ولاء هؤلاء البداة فإن قوافلها تستطيع أن تنجو من الغزاة المسلمين ، أما إذا أفلح النبي في كسب ولاء هذه القبائل فإن أهل مكة سيصبحون محصورين داخل مدينتهم ويتعرضون للتضوع جوعاً . كان المسلمون قد فازوا بصداقة قبيلة جهينة التي تقيم في السهل الساحلي ، لكن قبيلتي غطفان وبي سليم المقيمتين في الشرق من المدينة ظلتا حليفتين لقريش . ودفعت هذه الأوضاع المسلمين إلى القيام بغزوات صغيرة عديدة ضد هاتين القبيلتين لارهابهما وإقناعهما بأن صداقة محمد خير لهما من التحالف مع أهل مكة )) .

معركة احد

كان للهزيمة القاسية التي حلت بالجيش المكي ، دورها في ضياع هيبته ، مضافاً إليها عملية الحصار الاقتصادي الإسلامي لمكة عن طريق تحركات السرايا الإسلامية التي هيمنت عملياً على طريق القوافل الواصلة بين مكة والشام . . مما جعل القيادة القرشية تعيش أحلك ظروفها ، خاصة وان قوام حياة مكة يرتكز على التجارة أساساً . وكان لهذين العاملين الهامين أن عجلا في تسريع المواجهة ثانية بين قريش والمسلمين ، ليمحو المشركون عنهم عار الهزيمة أولاً ، ولفتح الطريق أمام تجارة قريش ثانياً .

ومن هنا شكل المكيون جيشاً قوامه ثلاثة آلاف محارب بإمرة أبي سفيان الذي تحرك بقواته باتجاه المدينة ، وعسكر في شمالها قرب جبل أحد حيث التقى هناك بالقوة الإسلامية المؤلفة من ستمئة وخمسين رجلاً بقيادة الرسول . . .

وكان أن وضع الرسول خطته حطته الحربية لمجابهة جيش الأعداء الذي يفوقه عدة وعدداً اعتماداً على مبدأ القتال الجماعي و مجابهة الأعداء بكتلة بشرية متراصة . ويتحدث الباحث العسكري المستشرق جيورجيو عن.. خطة الرسول الحربية والأسلوب الذي اتبعه صايغاً ذلك على لسان النبي محمد  بقوله :

(( إن خطتنا الحربية اليوم هي خطتنا في يوم بدر تماماً ، فعليكم أن تشكلوا الصفوف المتكاملة المتراصة ، حتى لا يجد الخصم فرصة لشق الصفوف ومحاربتكم من الخلف علينا اليوم أن نقدر قوة خصمنا ، ففيه الآن جيش من الفرسان ، مئتا فارس بقيادة خالد بن الوليد ، وبإمكان هؤلاء الفرسان أن يبددوا صفوفنا . عندما تتشكل صفوفنا المتراصة بكل مربع أو دائرة تثبت تجاه أية حملة من المشاة ، أما إذا كانت الحملة من الفرسان فإن صفوفنا تقع في خطر . وقد نستطيع أن نصد صف الفرسان الأول ، و لكننا أيقنا أننا سنفاجأ بسيل من الخيل والفرسان يلاحقونا من الصف الأول ، وسيشتت شملنا حتماً . ومن الواضح أن سرعة حركة الخيل لن تسمح لنا بإعادة تنظيم صفوفنا كما كانت .

وبعد ذلك أثار محمد  بإصبعه نحو الجنوب و تابع :

لم إذا أراد خالد بن الوليد مهاجمتنا فسيأتينا من هذه الناحية ، لأن هذا السهل يسهل حركة جياده .

أن الموقع الذي أشار إليه محمد كان شعباً في جبل أحد ، تكثر فيه الحقول . وان عبر هذه الحقول أحد نحو الجنوب فقد وصل إلى الدينة . وفي ذلك الشعب تلة قليلة الارتفاع ، تدعي (عينين) فقسم محمد  الرماة من المشاة إلى قسمين برئاسة (عبد الله بن جبير) حيث أمره أن يتخذ مكانه على تلك التلة ، وعدد هاتين الفرقتين خمسون نفراً على رأي بعض المؤرخين ، ومئة نفر على رأى آخرين ، وأعتقد أن عددهم مئة ، كل فرقة خمسون )) .

لقد أدرك الرسول الأهمية الاستراتيجية لهضبة عينين ، وأنها تشكل خطراً ساحقاً على المسلمين إن استطاع المشركون مباغتتهم من الخلف . . . وعملياً كانت مسيرة المعركة تجري في صالح المسلمين ، فما إن التحم الطرفان حتى ظهر النصر جلياً لصاح المسلمين الذين أخذت تتحرك قواهم بصفوف متراصة منتظمة يستحيل اختراقها ساحقة قوى الخصم ، دافعة العدو إلى الخلف ، وما عتم أن دب الرعب والذعر في صفوفه ، فتراجع منهزماً فانكشفت صفوفه . . .

ولقد دللت مسيرة المعركة على عبقرية الرسول العسكرية في تحقيق النصر في المرحلة الأولى وإدراكه موقع الخطر الذي وقع فيه المقاتلون المسلمون بارتكابهم الخطأ الفادح حين خالفوا الرسول فسارعوا إلى جمع الغنائم من معسكر العدو المنهزم ، ونزل الرماة بدورهم متخلين عن موقعهم الاستراتيجي فكانوا أن فتحوا الثغرة القاتلة التي تبينها الرسول ووضع لأجلها الرماة خشية قيام خيالة العدو ، بقيادة خالد بن الوليد بحركة التفاف مباغتة من الخلف ، وكان لتخلي الرماة عن مواقعهم على الجناح الأيسر ما عدا قلة قليلة بقيت مع قائدها عبد الله بن جبير ، أن تبدل سير المعركة وقلبت موازينها ، وتحولت هزيمة الجيش المكي الأكيدة إلى نصر ، فكاد أن يفنى الجيش الإسلامي لولا ثبات قلة التفت حول رسول الله  واستبسلت استبسالاً ملحمياً بعزيمة لا تقهر ، وهي تذود عن صاحب الرسالة ، حتى تمكنت أن تفتح طريقاً حتى مضيق عينين الذي تكسرت عنده هجمة المشركين . . . مما اضطر قادتهم إلى الانسحاب من المعركة بعد أن تواعد الفريقان على اللقاء في بدر العام المقبل ، واعتبر المكيون أنفسهم منتصرين وثأروا للهزيمة في بدر ، إذ أوقعوا الكثير من القتلى في صفوف المسلمين الذين مثل بجثثهم . . . ولا يخفى أن غالبية المؤرخين الإسلاميين عدوا موقعة أحد نصراً لقريش وهزيمة للمسلمين .

على إن للاستشرق المنصف كلمته إذ لم ير في معركة أحد هزيمة للمسلمين ، ولم تكن بالتالي نصرا للمشركين ، وهذا ما استعرضه المستشرق جيورجيو مناقشاً أراء المؤرخين الإسلاميين كباحث عسكري، انطلاقاً من مفهوم النصر والخسارة في الحرب ، يقول :

((يذكر المؤرخون الإسلاميون أن المسلمين خسروا في معركة أحد . وهذا الرأي يحتاج إلى مناقشة . ولو أننا تحدثنا مع متخصص حربي في مسألة خسارة المعركة ، وسألناه : ما هي علامة الخسارة الحربية ؟ ، لأجاب إن كان جيش الخصم المنتصر احتل البلاد ، وأزال جيش العدو ، عد عندئذ منتصراً ، أما أن احتل دولة ما ولم يتمكن من أبادة جيشها فلا تعتبر الدولة خاسرة . فألمانيا في الحرب العالمية احتلت روسيا كلها ، ووصلت جيوشها حتى شواطيء نهر الفولغا ، ولأنها لم تستطع دحر جيش روسيا دحراً كاملاً فإن ألمانيا لم تعتبر منتصرة تماماً . فالدولة تعتبر ظافرة بشرطين : أولهما احتلال الدولة المغلوبة ، وثانيهما إخماد حركة الجيش .

والمشركون في معركة أحد لم يستطيعوا احتلال المدينة ، كما لم يوفقوا إلى إفناء جيش محمد  . فمع أنهم شتتوا جيش المسلمين ، فإن فلوله عادت فتجمعت في اليوم الثاني ، فعندما عاد محمد إلى مدينه (كما سنذكر ) كان تحت سيادته جيش منظم . فعن وجهة نظر محارب متخصص - برأيي- لم يخسر المسلمون في معركة أحد ، إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب ، لأن جيش مكة لم يفن جيش المسلمين ، كما لم يحتل المدينة )) .

ومما عزز معنويات المسلمين ، ودلل على قوة الجيش الإسلامي وتماسكه ، أن الرسول قام في اليوم التالي لمعركة أحد ، بحركة عسكرية بارعة طارد فيا جيش مكة إلى منطقة تعرف باسم ( حمراء الأسد ) إلا أن الجيش المكي آثر عدم الاشتباك مع الجيش الإسلامي والعودة الى مكة . . .

الحركات العسكرية في أعقاب أحد وقبل الخندق

و كان لغزوة أحد أثارها النفسية على الدعوة الإسلامية ، فبعد الفوز العسكري الباهر في بدر كانت نكسة أحد مريرة ، ولكنها لم تعزز وضع المكيين في صراعهم مع الرسول ، يقول غلوب باشا :

« أصابت هزيمة أحد الدعوة الإسلامية بما يشبه الجزر بعد المد الذي حققه نصر بدر ، ولما كان النصر في بدر قد عزي إلى نصره الله وعونه للمؤمنين فقد صعب على هؤلاء أن يفهموا لماذا ضنت العناية الإلهية عليهم بالنصرة في أحد. و توالت الآيات منزلات على النبي ، لتعينه في الحفاظ على الروح المعنوية القوية عند المسلمين . وسورة آل عمران في القرآن طافحة باللوم والتثريب على عبد الله بن أبي وأتباعه لتخاذلهم وبالوعد للمسلمين بالنصر النهائي والتأكيد لهم بأن الله أراد لهم الانكسار ليبتليهم ويمتحنهم )) .

أجلاء يهود بني النضير

كانت العلاقة بين المسلمين واليهود متوترة انعدمت فيها الثقة وخاصة بعد إجلاء يهود بني قينقاع ، واستهانة يهود بنى النضير بالمسلمين بعد معركة أحد ، واهتزاز هيبة الرسول  وعزمهم على اغتياله وهو في عقر دارهم ، فكان أن اتخذ الرسول قراره الحاسم لتصفية أعداء الإسلام داخل المدينة . . .

وذهب المستشرقون في تأويل أسباب إجلاء الرسول يود بنى النضير شي المذاهب ، ومنها التشكيك بصحة رواية مؤامرتهم لاغتيال الرسول  .

« ويرى الدكتور إسرائيل ولغنسون مؤلف كتاب : « تاريخ اليهود في بلاد العرب » أن إنذار بنى النضير بوجوب الجلاء عن المدينة كان بمثابة انتقام منهم على عدم اشتراكهم في معركة أحد ، إذ أنها غزوة موجهة إلى مدينة يثرب ، فكان على بنى النضير أن يخرجوا للقاء العدو ، كما تقضى به شروط المعاهدة المعقودة بين المسلمين واليهود )) .

العمليات العسكرية ضد القبائل المعادية للإسلام

وإلى جانب عملية إجلاء يود بني النضير عن المدينة ، قام الرسول بسلسلة من العمليات العسكرية قاد بعضها بنفسه أو أنفذ سرايا يقودها صحابته كعمليات تأديبية ضد القبائل التي تحشدت لغزو المدينة . وكان أن بلغ في إحدى غزواته الطرف الشمال الغربي من الجزيرة العربية لضرب التحشدات المعادية في دومة الجندل ، لمنع انضمام قبائل الشمال إلى التحالف المعادي للإسلام .

وكان لهذه التحركات العسكرية أن وطدت دعائم الحكم الإسلامي في المدينة ، وقوت ساعد المسلمين ، وشلت حركة قريش التي تميزت في تلك المرحلة بالسلبية ، يقول غلوب باشا :

(( ولعل المفارقة العظيمة بين الجانبين في هذه السنوات من سنوات المعارك تبدو واضحة جلية فيما تميز به المسلمون من نشاط لا حدود له ، وما تميزت به قريش من سلبية وجمود . وظل المسلمون يقومون بغزوات وسرايا من هذا النوع ، من قاعدتهم في المدينة ضد القبائل البدوية الحليفة لقريش مستعينين فيها بحلفائهم من البدو . أما الأفراد الذين يظهرون عداء شديداً للمسلمين أو للنبي فكان مصيرهم القتل)) .

كان الرسول  يدرك أن معركة ما بين المسلمين والمشركين واقعة ولا مناص ، ولذلك كانت أعماله تهدف إلى لم إعطاء الثورة الإسلامية زخماً وقوة استعداداً للمستقبل ، وأضعاف لجبهة الأعداء ، يقول مونتجمرى وات :

(( وهكذا استطاع محمد في الفترة الواقعة بين موقعة أحد وحصار المدينة - وإن عجز عن منع المكيين من تكوين حلف ضده - أن يمنع كثيرا من القبائل من الانضمام إليهم ، وزادت القوى التي كانت في حوزته . ولم يكن يستطيع أن ينظر إلى الهجوم المهدد له بدون قلق ولكنه لم يفقد الأمل )) .

موقعة الخندق أو الأحزاب

كانت الرسالة الإسلامية ظافرة دائماً ، رغم ما يعترض مسيرتها من صعوبات ونكسات ومؤامرات ومخاطر . . وكان أشدها وطأة يوم تآمر أطراف الأحزاب للقضاء على الإسلام في معركة الخندق ، وقوامها قريش ويهود النضير (ممن أجلوا عن المدينة ) وخيبر وقبائل البدو الغطفانية ، ناهيك بيهود الداخل بني قريظة ، الذين اتفقوا مع الأحزاب على ضرب الإسلام من الخلف ...

وتشير التقديرات الأولية إلى أن عدد الحلف الجديد يتراوح ما بين عشرة آلاف وأربعة وعشرين ألفا ، زجت كلها في المعركة الجديدة بهدف القضاء على الرسالة الإسلامية ...

وأمام هذا الخطر المحدق من الحشد الهائل ، اتخذ الرسول  قراره باتخاذ الإجراءات الدفاعية الكفيلة بحماية المدينة ، واستقر الرأي على حفر خندق لحماية القسم المكشوف من المدينة ، عملاً باقتراح سلمان الفارسي ، فبداء بتنفيذه فوراً ، واشترك سائر المسلمين بحفره يتقدمهم النبي  وقد تم فعلاً إنجازه في فترة ستة أيام قبل وصول الأحزاب إلى المدينة .

ويقيم ك . جيورجيو عالياً خطة الرسول في موقعة الخندق التي حازت إعجاب المفكرين والباحثين العسكريين ، بقوله :

((ولم تكن خطة محمد  الحربية هذه سبب إعجاب الناس العاديين وحسب ، بل مبعث إكبار من وجهة نظر رجال الحرب المتخصصين . إذ كيف استطاع محمد  استنباط هذه الخطة وإنجازها ، لأن النبوغ ليس في استنباط الخطة وحسب ، بل في تنفيذها أيضاً . فالذين يقيمون في منازلهم ويقرأون على صفحات الجرائد الخطط الحربية والعمليات العسكرية التي يقوم بها رجال ضد خصومهم لا يقدرون مدى العناء الذي يعانيه القائد في تنفيذ مثل هذه الخطط في ساحة المعركة . وقد كان حفر الخندق في الجزيرة لمنع هجوم جيش معاد جديداً ، يشبه « الفالانج » الذي خططه في معاركه السابقة من حيث الجدة والبراعة )) .

وعملياً ، فإن الخندق الجديد حال دون اقتحام جيش العدو المدينة في هجوم كاسح ، واضطره إلى في ضرب الحصار عليها شهراً كاملاً دون . أن يتمكن من اختراق الخطوط الدفاعية الإسلامية ، يقول غلوب باشا محللاً :

(( ولم يكن حلفاء قريش من قبائل البادية يستسيغون طعم الحرب الثانية ، وسرعان ما أخذت المؤن تنضب والاحتكاك ينشب بين الأحزاب . وقد أثار الكثير منه رسل محمد الذين أخذوا يبذرون الخلافات سراً في صفوف المشركين ، و راحت إبل قريش وجيادها تنفق لنقص المرعى . ورغم أن أبا سفيان كان القائد العام للحملة اسمياً إلا أن الأحزاب اتبعت نظاماً غريباً للقيادة ، وهو إسناد أمرها في كل يوم إلى واحد من رؤسائهم وعلى الرغم من أن هذا النظام كان ضرورياً لتهدئة حوافز الغيرة والحسد بين مختلف القادة إلا أن مثل هذا الترتيب جعل أية عملية منظمة للحصار أمراً مستحيلاً )) .

ويحلل الباحث الإنكليزي مونتجمري وات في كتابه : « محمد في المدينة » أهمية النصر الذي حققه الرسول بل بدبلوماسيته على أعدائه ، بقوله :

(( ولن نألو جهداً في تقدير أهمية هذا الانتصار الدبلوماسي لأن هجوم قريظة من الجنوب على مؤخرة المسلمين كان بمكانه القضاء على رسالة محمد . لقد دل تفسخ المحالفة على فشل المكيين فشلاً ذريعاً في عملهم ضد محمد . وأصبح المستقبل مكفهراً بالنسبة إليهم . لقد استخدموا أقصى جهودهم لإزاحته عن المدينة ، فبقي فيها أكثر نفوذاً مما مضى ، وذلك بسبب فشل المحالفة . كما ماتت تجارتهم مع سورية ، وفقدوا الكثير من مكانتهم . ولم يعودوا يأملون ، حتى لو انقطع محمد عن مجابهتهم ، في الاحتفاظ بثرواتهم ومكانتهم . وهو يستطيع أن يستخدم القوة المسلحة ضدهم ، ويحاول أبادتهم كما حاولوا أبادته . ومن الغريب أن بعض المكيين ، وهم الشعب الواقعي لم يأخذوا بالتساؤل عما إذا لم يكن من الأفضل قبول محمد وديانته )) .

ومع الهزيمة العسكرية المرة التي أحاقت بقوى الأحزاب ظهر المسلمون قوة عسكرية لا يستهان بها ، وطفقت القبائل الوثنية تخشى جانبه . . وعملياً ، انتقل زمام المبادرة بعد معركة الخندق لأيدي المسلمين ، إذ أصبحوا منذ ذلك اليوم في موقع الهجوم ، تأكيداً لرؤية الرسول لمسيرة الصرع المستقبلية مع قريش ، حين قال صلوات الله عليه :

« لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم » .

تصفية آخر معاقل اليهود في المدينة

كان لنقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله  في أخطر مرحلة مرت بها الدعوة الإسلامية حين ضرب الأحزاب الحصار على المدينة ، وفتحهم ثغرة كبيرة في دفاع المسلمين ، بتحالفهم مع الأعداء الخارجيين ( الأحزاب ) أن وضع المسلمين في موقف حرج ، كاد أن يودي بحركة التوحيد الإسلامية ، إذ وجدت نفسها بين طرفي كماشة ، فالأحزاب من أمام وبنو قريظة من الخلف ...

و لكن ما إن فشل حصار الأحزاب وتفرق شملهم حتى أحس بنو قريظة بفداحة الخطأ الذي ارتكبوه نتيجة نقضهم العهد مع الرسول ... يقول جيورجيو :

(( بني قريظة نقضوا عهد المدينة ، فاتحدوا مع أعدائها، في حين أن الواجب كان يحدوهم إلى الدفاع عن بلدتهم ضد المهاجمين . والرسول  في معركة أحد قإلى لهم إن هذه الحرب دينية ، ولستم مضطرين إلى الخروج مع المسلمين ، والحرب في صفهم ، ولاسيما أن المعركة جرت خارج المدينة ، أما الآن فهم داخل الخندق .

حين رأى بنو قريظة أن المشركين رحلوا ، وتفرغ لهم المسلمون ، أحسوا بالخط يداهمهم لخيانتهم ، فتحصنوا في قلاعهم ومنازلهم )) .

وسارع المسلمون بضرب الحصار على منازلهم الشبيه بالقلاع الحجرية بقيادة على بن أبي طالب مدة خمسة وعشرين يوماً ، فقرروا في نهايتها الاستسلام والنزول على حكم النبي محمد ، وقبلوا بتحكيم حليفهم من الأوس سعد بن معاذ ، الذي أصدر حكم وفق الشريعة الوسوية "بأن تقتل المقاتلة ، وتقسم الأموإلى وتسبى الذرية والنساء » ...

ويتابع جيورجيو متحدثاً عن الحكم الذي صدر بحق اليهود ، بقوله :

(( خالفت قريظة العهد ، وأهملت العقد ، وسعت إلى الاتفاق مع الخصوم لضرب المسلمين من الخلف ، لذا توجب عليهم الإعدام . لم يصدر المسلمون هذه الفتوى ، بل أعلنها رجل اعتبره اليهود صديقاً لهم ، وهم الذين اختاروه لهذه المهمة . وبعد صدور هذا الحكم برأ علي النساء والأطفال الذين لم يبلغوا سن الرشد ، والشيوخ المسنين . أما الباقون فمن دخل في الإسلام برئت ساحته ، وأما الباقون فقد ثبتوا في القلاع والمنازل ، وحاربوا ببسالة حتى قتلوا عن بكرة أبيهم )) .

هذا ، وقد ناقش الباحث الإسلامي مولانا محمد علي الحكم الذي صدر بحق بنى قريطة ورد على اتهامات المستشرقين المتعاطفين مع اليهود حين اعتبروه جائراً ، بأنه تم وفق الشريعة الموسوية ،وإن الذي أصدره هو قاض من اختيارهم ، يقول :

(( وهكذا حكم سعد ، وفقاً للشريعة الموسوية ، بقتل ذكور بني قريظة ، وعددهم ثلاثمئة ، وبسبي نسائهم وأطفالهم ، وبمصادرة ممتلكاتهم . ومهما بدت هذه العقوبة قاسية فقد كانت على وجه الضبط العقوبة التي كان اليهود ينزلونها ، تبعاً لتشريع كتابهم المقدس ، بالمغلوبين من أعدائهم ، وإلى هذا فإن جريمة الغدر الشائنة التي اتهم بها بنو قريظة خليق بهم ، في مثل تلك الظروف ، أن لا تجازى بأيما عقوبة أخف ، حتى في عصر المدنية هذا. كان القاضي من اختيارهم ، وكان الحكم منطبقاً أشد انطباق مع شريعتهم المقدسة نفسها . وفوق ذلك ، فقد أدينوا بخيانة من نوع خطير . فهل من المنطق في شيء أن ينتقد الرسول لهذا السبب ؟ إن كل اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو اعتراض على الشريعة الموسوية. إنه في الواقع انتقاد لا شعوري لتلك الشريعة ، و تسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها ، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف ، في وضوح بالغ ، أي قانون رفيق عطوف ، رحيم قدمه الإسلام إلى الناس )) .

وكان من نتائج تصفية بني قريظة ، القضاء التام على السلطة اليهودية في المدينة ، و توطيد السلطة الإسلامية فيها دينياً وسياسياً واقتصادياً ، كما أخذ دورها يكبر على القبائل الوثنية في جزيرة العرب ، التي أخذت تحسب للمسلمين ألف حساب ...

صلح الحديبية

ونتيجة للعمليات العسكرية التي حققت فيما الدعوة الإسلامية النصر تلو النصر ، ظهرت كقوة بارزة مركزها المدينة ، إنما تمتد ذراعها إلى أبعد نقطة في الجزيرة العربية ، وتوجت عملياً بصلح الحديبية بين المسلمين وقرشيي مكة ... وذلك حين أتتخذ الرسول عليه السلام قراره الخطير بذهابه إلى مكة مسلماً معتمراً ...

لقد كانت هذه الحركة مفاجأة ليس للمشركين فحسب ، بل للمسلمين كذلك ، يقول الباحث العسكري الروماني جيورجيو :

(( كان المسلمون يظنون أن النبي  سيهاجم خيبر أو مكة ليفك الحصار ، لكنه ارتأى حلاً آخر لم يتوقعه المسلمون ، ذلكم هو ذهاب المسلمين جميعاً معه لأداء العمرة ، في حين أن مكة تحمل في طياتها الضغينة والحقد لمحمد  . فهي التي جيشت الجيوش لحربه . ومع ذلك فقد صمم على الذهاب إليها . وقد ظنوا بادىء ذي بدء أنه يريد فتحها. لكنه أجابهم بأنه يريد زيارتها لا حربها .

وهكذا سار، و معه ألفا رجل ، وعدة مات من الجمال إلى مكة في الشهر الثاني من فصل الشتاء سنة 628 المطابقة للسنة السادسة)) .

وبعد تردد ، اتتخذ ت قريش قرارها بمنع الرسول والمسلمين من دخول مكة ولو سلماً كما أحجزت لديها رهينة رسول رسول الله إليها عثمان ابن عفان ، وتأهبت للحرب ، يقول الباحث العسكري غلوب باشا في معالجة هذا الموضوع :

(( لكن قريشاً لم تقتنع بنوايا الرسول السليمة . فسارعت تسلح نفسها وتتخذ مواقعها على طريق المدينة للدفاع عن مكة . ولم يكن المعمرون من المسلمين يحملون إلا السيوف ، ولم يكونوا في وضع يمكنهم من خوض القتال ويبدو أن محمدا بحركته هذه مع جماعته نصف المسلحين قد ارتضى المغامرة ،وكانت مغامرة من طراز نادر . وعندما وجد المسلمون طريق مكة مغلقاً في وجوههم انحرفوا ناحية اليمين ومروا إلى الغرب من مواقع العدو واقتربوا من مكة من الطريق المؤدي إليها من ساحل البحر ثم توقفوا عند الحديبية ، وهي على مسيرة يوم إلى الغرب من مكة . وعندما سمع أهل مكة بأن محمداً قد التف حول جناح مواقعهم الدفاعية تراجعوا مسرعين إلى مكة وراحو يوفدون إلى لمفاوضته )) .

وأصر الرسول على دخول مكة سلماً ، مؤكداً الاعتراف بقدسية الكعبة ، لكن قراره السياسي الخطر هذا قد يدفعه للجوء إلى الحل العسكري ، رغم عدم تكافؤ القوى الإسلامية والمكية ، إذ خرج المسلمون عزلاً إلا من أسلحتهم الفردية وكان عددهم دون عدد القرشيين بكثير ، ومع ذلك تخوف القرشيون من مجابهة المسلمين حين علموا بمبايعتهم الرسول على القتال حتى آخر رجل ، بالمبايعة التي عرفت " بيعة الرضوان" دفاعا عن العقيدة ، ولذا سارعوا جدياً بفتح صفحة المفاوضات مع المسلمين ، يقول جيورجيو :

(( ولقد تخوف المشركون ،ولاسيما قريش ، من بيعة الرضوان ، التي بموجبها يتعهدون بتنفيذ ما يأمرهم رسول الله  ، وإن كان مخالفاً لمعتقداتهم . فلقا تصوروا أن الرسول  أخذ هذه البيعة ، لأنه سيهاجمهم ، وسيقتل من يقاوم ، ويأسر من يستسلم . لقد كانت قريش على يقين من براعة محمد  العسكرية ، بعد أن لمسوا منه ذلك في المعارك السابقة ، كما أيقنوا بأن المسلمين يتحلون بيقظة تامة . ووثقوا بأن محمداً  إن صمم على احتلال مكة فعل .

ولهذا أطقوا مراح عثمان فوراً ، وأعادوه إلى الحديبية ، وحملوه رسالة إلى النبي  ، مفادها أنهم مستعدون للمباحثة معه ، وسيرسلون وفداً لذلك )) .

وأخيراً توصل الطرفان إلى عقد صلح الحديبية الذي يقر السلم بين الطرفين مدة عشر سنوات ، وكان النص النهائي للوثيقة :

« باسمك اللهم : هذا ما صاح عليه محمد بن عبد الله سهيل ابن عمرو على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأنه بيننا بيعة مكفوفة ، وأنه لا اسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه . وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فادخلها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً ومعك سلاح راكب و السيوف في القرب ، لا يدخلونها بغيرها .

خاتم خاتم
سهيل بن عمرو محمد رسول الله

شهود عقد الصلح : أبو بكر ، عمر بن الخطاب ، على بن أبي طالب .

وكتب : وكان هو كاتب الصحيفة ، عبد الرحمن بن عوف ، عبد الله بن سهيل بن عمرو ، محمود بن مسلمة ، مكرز بن حفص )) .

فتح خيبر

يدخل فتح خيبر في إطار علاقات الرسول باليهود الذين مثلوا الثورة المضادة للإسلام في جزيرة العرب ، وكان ليهود خيبر مع بني النضير دور بالغ الخطورة في إقامة الحلف المعادي للقوة الإسلامية الذي عرف باس الأحزاب وحاول القضاء عليها في موقعة الخنق . يقول الباحث الإسلامي مولانا محمد علي :

((أما موقعة خيبر فقد حدثت بعد صلح الحديبية ، في السنة السابعة للهجرة ولكنا لا نحسب ، بقدر ما يتعلق الأمر بأثرها في العلاقات الإسلامية اليهودية ، أن من الخروج عن الموضوع أن نتحدث عنها في هذا الفصل . فحين نفي بنو النضير من المدينة نزلت كثرتهم الكبرى وبخاصة زعماؤهم وأعيانهم ، في خيبر ، معقل اليهود في بلاد العرب ، على مبعدة مئتي ميل تقريباً ، من المدينة. وكان اليهود ينعمون ثمة بسلطان مستقل ، وكانوا قد حصنوا الموقع تحصيناً قوياً . حتى إذا وفد عليم بنو النضير غرست بذرة العداوة للإسلام في قلوبهم. وما إن نشبت معركة الأحزاب حتى راحوا يحرضون المكيين ، وقبيلة غطفان ، والقبائل البدوية ، على المسلمين بل لقد وفقوا إلى اكتساب تعاون بني قريظة أيضاً . ورسخت جذور القوة الإسلامية في المدينة بعد إخفاق حملة الأحزاب . ولكن الحقد اليهودي لم يزدد إلا ضراوة ، لقد أجروا مفاوضات سرية مع عبد الله ابن أبي ، زعيم المنافقين الذي حكم لهم توكيداً جازماً أنه لا يزال في إمكانهم محق القوة الإسلامية )) .

وكان لصلح الحديبية الذي، عقد بين الرسول ومشركي قريش أن سرع في تطور الأحداث ، إسقاط آخر قلاع اليهودية في جزيرة العرب ... لقد اعتقد يهود خيبر أن هذا الصلح الذي عقد بشروط مجحفة بحق المسلمين ، يشكل دليلاً على ضعفهم ... فراودتهم الآمال بالقضاء على الدولة الإسلامية في المدينة قضاء تاماً . وذلك بتحالفهم مع قبيلة غطفان ، يقول جيورجيو :

(( حين علم سكان خيبر أن المسلمين عقدوا هدنة مع أهل مكة صمموا على حربهم وحدهم ، وذلك بأن يهاجموا المدينة بصورة خاطفة . ولكن محمداً  أعد ألفاً وخمسمئة محارب لحرب خيبر، في حين أن اليهود يستطيعون تجهيز عشرين ألف مقاتل )) .

وحاصر جيش المسلمين بقيادة على بن إلى طالب معاقل اليهود في خيبر ، وسرعان ما أخذت قلاعهم تتساقط الواحدة تلو الأخرى، ودان اليهود بسلطان المسلمين ....

((وأحسن محمد  معاملة اليهود . إذ سمح لمن يريد منهم بالرحيل ، وحمل ما يريدون ،عدا التمر والغنم والغلال . وبرواية أخرى عدا أثاث المنازل . أما من لم يرد الرحيل فليبق ، وله الحرية في العمل الذي يريد .كما انه منع المسلمين من الزواج بالنساء اليهوديات على طريقة الزواج بالمتعة و"المتعة " زواج مؤقت بنساء الأمة المغلوبة . وللمسلم كامل الحرية في اقتناء النساء على أساس هذا الزواج _ . أما إذا كانت النساء قلة فيوزعن عليهم بالتساوي .

كما أن علياً منع الجنود المسلمين من دخول بساتين اليهود ، والعبث بحقول الخيل ، كيلا يؤذوا فواكههم أو أشجارهم . وكي يوطد محمد  العلاقة بين المسلمين واليهود عقد قرانه على صفية إحدى نسائهم .

وكان يسكن في وادي القرى - قرب تلك الديار - قبيلتان يهوديتان ،وقبيلتان أخريان سكنتا فدك وتيماء . فبعد أن رأوا انتصار المسلمين في خيبر عقدوا معهم صلحا ، يدفعون فيه الجزية المستحقة )) .

غزوه مؤتة

هذا ، ولقد جرى بين فتح خيبر وفتح مكة عدد من السرايا العسكرية والغزوات التي قادها الرسول  بنفسه أو أنفذها بقيادة صحابته . كان بعضها بمثابة حملات تأديبية أو دوريات استطلاع ، لكن أهم حملة حدثت في تلك الفترة هي غزوة مؤتة لأنها جرت داخل الأراضي الواقعة تحت النفوذ البيزنطي ، يقول غلوب باشا :

(( ومع كل هذه العوامل فقد أعد النبي في شهر سبتمبر / أيلول / عام 629 حملة عسكرية كبيرة الأهمية وكثيرة التنظيم ، وكان القصد منها غزو بعض الأراضي الخاضعة للسيطرة البيزنطية ، وتقول الروايات العربية إن القصد من الحملة كان الثأر لبعض الرسل المسلمين الذين أوفدهم النبي إلى المنطقة . كان الثأر دفاعاً أقوى في الحروب العربية من الفتح والاحتلال .

وأقام النبي معسكراً على بعد بضعة أميال إلى الشمال من المدينة وأمر المتطوعين من المسلمين بالتجمع فيه وولى زيد بن حارثة ولده بالتبني - قيادة الحملة التي ضمت نحوا من ثلاثة آلاف رجل . وكانت هذه هي الحملة الإسلامية الأولى على هذا النطاق الضخم التي خرجت إلى هدف بعيد عن المدينة ، وتطلب أعداد مثل هذه الحملة وقتا طويلا . ولذا فان أنباءها بلغت ما يسمى الآن بشرق الأردن قبل تحركها )) .

وكان أن التقى الجيشان الإسلامي والبيزنطي في مؤتة ، وكانت النسبة بين الجيشين هي واحد إلى سبعة لصاح الروم وحلفائهم من القبائل العربية الموالية لهم ، ورغم عدم تكافؤ القوى في العدد والعدة ، لم يتردد المسلمون الذين عمر الإيمان قلوبهم ثم في خوض المعركة . وكانت النتيجة أن سقط قائد القوات ، الإسلامية زيد بن حارثة والقائدان جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ... وهنا ظهرت عبقرية خالد بن الوليد الذي اعتنق الإسلام ، وكان ذا خبرة عالية في القيادة العسكرية فاستطاع أن ينقذ الجيش الإسلامي من الفناء بانسحابه المنظم والعودة به إلى المدينة ، فنال بفضل ذلك اللقب الذي أطلقه عليه الرسول : سيف الله .

غزوه ذات السلاسل

واتخذ الرسول قراره بتجريد حملة يقودها عمرو بن العاص إلى شمالي الجزيرة العربية ، لإعادة الثقة بالجيش الإسلامي ، لضرب القبائل العربية الموالية للبيزنطيين ، حين بلغه تحشدها لمهاجمة المدينة ، وتمكن عمرو بن العاص - بعد طلب المدد الذي أنفذه إليه الرسول ووصول تلك المساعدات العسكرية _ من إلحاق هزيمة نكراء بالقبائل العربية وتشتيت جموعها ..وبالتالي إعادة الهيبة للجيش الإسلامي .

فتح مكة

كان صلح الحديبية الذي عقد ما بين الرسول والمشركين مجحفاً بظاهره بحق المسلمين سرعان ما انقلب لصالحهم ، وبلغ الأمر أن طلبت قريش بالذات إلغاء البنود التي اعتبرها البعض مذلة ، وخاصة ما يتعلق بأولئك الذين يلجؤون إلى محمد هرباً من قريش بأن يعيدهم إلى مكة ... والذين لم يلبثوا أن انقلبوا عصبة مسلحة تهدد قريشاً تهديداً جدياً .

وعملياً ، فقد نشأت تلك العصبة بقيادة أبي بصير من مسلمي مكة الذين لم يستطيعوا اللحاق بالمدينة ، تنفيذاً لاتفاق صلح الحديبية ، فنزلوا العيص على ساحل البحر وطفقوا يغيرون على قوافل قريش يستلبون أموالها ويفتكون بقواتها، ويتحدث جيورجيو عن تلك العصبة المجاهدة بقوله :

(( ولم يمض حين حتى ازداد عددهم ، واستطاعوا أن يؤلفوا جيشاً فأخذوا يغيرون على قوافل مكة . فتضايقت جماعة قريش كثيراً منهم ، فاضطرت إلى مراسلة النبي  تسأله بأرحامها ألا آواهم فلا حاجة لهم بهم . فطالبهم رسول الله  بكتاب خطي كي سنداً له وعهداً . وبهذا نقض هذا الشرط من كتاب العهد . وما فتئت الشروط التي لم تكن لصاح المسلمين يزول مفعولها شيئاً فشيئاً ، وما هي إلا مدة وجيزة حتى غدا صلح الحديبية كله في صاح المسلمين )) .

ولم ينقض طويل وقت حتى أخذت قريش تتململ من هذه الاتفاقية ، التي تحولت لصاح المسلمين إذ مكنتهم من نشر الدعوة الإسلامية مما دفع المشركين إلى التذمر ومحاولة نقض صلح الحديبية ، وإلغائه من جانب واحد ، لكن سرعان ما شعرت بالخطأ ، وحاولت أن تتدارك الأمر ، لكن بعد فوات الأوان ، إذ أتتخذ الرسول قراره بفتح مكة .

يقول غلوب باشا :

(( وكان الرأي العام في مكة قد تحول في هذه الآونة تحولاً واضحاً إلى جانب المسلمين . وأدرك النبي أن الوقت قد حان لتوجيه ضربته النهاية الى قريش.

وسرعان ما أمنت له القبائل البدوية الذريعة أو المبرر. وكانت هناك قبيلتان إحداهما تسمى خزاعة والأخرى بنو بكر تعيشان متجاورتين خارج مكة، وبينهما ثارات قديمة منذ عهد الجاهلية .وكانت خزاعة حليفة النبي بينما كان بنو بكر حلفاء لقريش . وحدث في هذه الآونة أن أرادت بكر الثأر بن خزاعة فخرج نفر منها لمباغتة أعدائهم على ماء خارج مكة ، وأوقعوا بالخزاعيين عاداً من الإصابات القاتلة . وخرج بديل بن ورقاء أحد شيوخ خزاعة والذي قام بدور الوساطة في الحديبية على رأس وفد من قومه إلى المدينة ، فأخبروه بنقض قريش لعهدها ، وأن غدر بني بكر حلفاء قريش يعتبر خرقا لمعاهدة الحايبية . ويبدو أن النبي قرر أن الفرصة جد مؤاتية للقيام بعمل حاسم إزاء قريش وراح في يناير / كانون الثاني / عام 630 يأمر المسلمين بالتأهب للحرب ، وسيطر الرعب على زعماء قريش الذين كانوا يدركون ولا شك ما بلغه نفوذ محمد وسلطانه وراح أبو سفيان قائدها في معركة أحد وأحد كبار أعداء النبي ومعارضيه يسرع إلى المدينة ولكن هذا القائد المتغطرس وزعيم قريش لم يستطع مقابلة النبي أن رفض السماح له بمقابلته واضطر أن يرجو أبا بكر وعمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب الوساطة والشفاعة عند محمد فضنوا بها عليه وعاد إلى مكة مخذولا مهاناً )) .

وسار الرسول على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل قاصدين مكة لفتحها .. ويربط الباحث الإسلامي مولانا محمد علي فتح مكة بالنبوءة الموسوية بقوله :

((وأخيرا سار الرسول ، على رأس عشرة آلاف من أتباعه البررة ،إلى مكة في العاشر من رمضان ، من السنة الثامنة للهجرة ، وهكذا حققت النبوءة التي انطلقت ، قبل ألفي عام ،من بين شفتي موسى " وأتى مع عشرة آلاف من القديسين " ( سفر التثنية 33: 2) .

وليس في التاريخ بعد الموسوي أيما حادثة أخرى تتحقق بها هذه الكلمات النبوئية . يا لها من ظاهرة أعجوبية ، لقد كان عدد المسلمين عشرة ألاف مقاتل ، وكانوا في الوقت نفسه كلهم (بررة ) كما جاء في النبوءة .

إن هدفهم في الحياة لم يكن بأية حال خوض غمار الحرب وسفك الدماء ولكن إقامة قواعد البر ولو كلفهم ذلك حياتهم )) .

وحين أدرك القرشيون ألا قبل لهم بمواجهة المسلمين قبلوا الاستلام دونما قتال ، ولقد أورد العلامة الفرنسي لوزوذ في كتابه : " الله في السماء" دخول الرسول الكعبة وقضاءه على رموز الوثنية ، وذلك بتحطيم الأصنام المنتشرة حولها :

(( ولما فتح محمد مكة جاء بيت الله الكعبة في احتفال وفيها – 360 - صنماًً فكان محمد يقفر أمام كل صنم ثم يضربه بعصاه ويقول  جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقاً  فيهوي على الأرض تحت أقدامه )) .

ولقد قوم الباحث الإسلامي مولانا محمد علي هذه الحادثة التاريخية الفريدة بقوله :

(( إن تاريخ العالم ليعجز عن تزويدنا بنظير لهذا الصفح الكريم الذي أغدقه الرسول على أمثال أولئك المجرمين الكبار . أن الضرب على وتر المواعظ الداعية إلى الصفح والغفران لا يكلف المرء شيئاً كثيراً ، ولكن عفو المرء عن معذبيه ليحتاج إلى قدر من الشهامة عظيم ، و بخاصة حين يكون أولائك المعذبون تحت رحمته . وهذا الانفساح في مدى العطف الإنساني والعفو الكريم لا نقع عليه في حياة يسوع . فالحق أن يسوع لم تتح له الفرصة لممارسة فضيلة العفو ، ذلك بأنه لم يكسب في أيما يوم السلطة التي تمكنه من الرد على مضطهديه )) .

أما الباحث العسكرى غلوب باشا ، فقد اعتبر نصر الرسول عظيماً لأنه حققه دونما إراقة دماء ، وتمكن من كسب قلوب الجميع ، فكان أن برزت مزاياه كرجل دولة وسياسة ...

(( وهكذا تم فتح مكة دون إراقة دماء إلى حد كبير . وعلى الرغم من أن النبي كان قد عانى الاضطهاد في المدينة ، وعلى الرغم من أن عدداً من ألد أعداءه كانوا لا يزالون يعيشرن فيها ، إلا أنه اكتسب قلوب الجميع بما أظهره من رحمة وعفو في يوم انتصاره .ولا ريب في أن هذا التسامح أو هذه الفطنة السياسية التي اتصف بها النبي كرجل دولة ، كانت غريبة على العرب الذين كانت صفة الانتقام من خصالهم ومزاياهم . وقد حقق النصر الكبير بسياسته ودبلوماسيته اكثر منه بعمله العسكري . ولا ريب في أن عظمته تقوم في أنه أدرك في عصر يسوده العنف وسفك الدماء أن الأفكار أقوى من القوة والعنف )) .

وكان لموقف الرسول  من القرشيين ، أن دخلوا في دين الله أفواجاً أفواجاً ، فقد أسلم في الأيام العشرة الأولى ألفا قرشي ..... وكانت مدة مكوثه في مكة خمسة عشر يوماً أسلم فيا غالبية السكان ، ولقد رأى منصفو المستشرقين بفتح مكة سلماً الرد القاطع ، والدليل الساطع ، على أن الإسلام ليس دين السيف وحسب ، بل هو دين السلم كذلك ، ومن هذه الأقوال اعتراف السير وليم موير ، حين علق على هذه الحادثة التاريخية ، بقوله :

(( على الرغم من أن البلدة رحبت بسلطانه ترحيباً بهيجاً ، فلم يكن جميع سكانها قد اعتنقوا الدين الجديد ، ولم يكونوا قد اعترفوا رسمياً بصحة دعواه النبوئية . ولعله عقد العزم على أن يسلك ههنا ذلك النهج الذي سلكه في المدنية ، ويدع الناس يدخلون في الإسلام ، شيئاً بعد شيء، من غير إكراه )) .

غزوه حنن وحصار الطائف

كان للنصر العظيم الذي حققه الرسول بفتح مكة مسلماً ودخول قريش الإسلام أن أقض مضاجع القبائل المشركة القاطنة قرب مكة ، ولاسيما هوازن في شمال شرقيها ، ثقيف في جنوب شرقيها . فكان أن تحالفتا واتفقتا على تولية مالك بن عوف النصري قيادة الحملة الموجهة ضد المسلمين . للانقضاض على مكة وأخذها بغتة ....

ولحن سرعان ما تناهى إلى مسامع الرسول  من أرصاده ما يتم من حشود ضد القوى الإسلامية فخرج هو للقائها بحيش بلغ أثني عشر ألف رجل ، إذ انضم إليه ألفان من مسلمي مكة الجدد .. وتحركت القوات الإسلامية صوب الطائف ، وعبرت طلائعه وادي حنين دون أن تنتبه إلى كمائن الأعداء ... يقول غلوب باشا :

(( وكانت كثرة المسلمين العددية وثقتهم من النصر سببين كما يدو في إظهار ما أظهروه في هذه المعركة من افتقار إلى الاستعداد والحيطة . فلم يكد المسلمون يتحركون عند الفجر عبر وادي حنين الضيق حتى باغتهم العدو من جميع الجهات بعد أن كمن لهم في شعاب الوادي . كانت المباغتة كاملة تمام الكمال ، ولم يتح لهم الوقت للثبات وتنظيم صفوفهم . وتراجعت طلائعهم فزعة لا تلوي على شيء وسرعان ما دب الرعب في الجيش كله وراح ينهزم محاولاً الفرار من الوادي الضيق وقد سادته الفوضى)) .

و تعقب الرسول  بنفسه قوات ثقيف إلى مدينتهم الحصينة : الطائف ، نضرب حولها الحصار والرجوع بقواته إلى مكة .. يقول غلوب باشا :

« وكان انتصار المسلمين في حنين كاملاً حتى أنهم كسبوا غنائم كثيرة بين أعداد وفيرة من الإبل والغنم ، كما أسروا عدداً ضخماً من الأسرى معظمهم من نساء هوازن وأطفالها ، وعندما عاد النبي عن الطائف دون أن تمكن من فتحها شرع يقسم الغنائم والأسلاب بين رجاله . ووصل إليه وفد من هوازن المهزومة المغلوبة على أمرها يرجوه إطلاق سراح النسوة والأطفال من الأسرى ، وسرعان ما لبى النبي الطلب بما عرف عنه من دماثة و تسامح ، فلقد كان ينشد من جديد في ذروة انتصاره أن يكسب الناس أكثر من نشدانه عقابهم وقصاصهم )) .

ودفع هذا الوقف المتسامح من أعداء الرسول  إلى أن يعلنوا إسلامهم ، فأسلمت هوازن في البدء لتتبعها بعد ذلك ثقيف ، وهذا ما جعل القبائل العربية تترى مسارعة إلى إعلان إسلامها ، فأسلمت قبيلة طييء ... وأصبح إلى الرسول صاحب أعظم قوة سياسية وعسكرية على الجزيرة العرب.

غزوة تبوك

إن انضواء جزيرة العرب تحت لواء الإسلام ، وبروز الرسول كموحد للعرب وظهوره كحاكم ديني وسياسي وعسكري ، وانتشار الإسلام كعقيدة سماوية انتشاراً واسعاً .. كل ذلك أخذ يقلق الإمبراطورية البيزنطية - رغم أن الرسول كان يتعاطف مع الدولة الرومانية في قتالها ضد فارس - فتحركت كوامن الغيرة الدينية والحسد لتك الانتصارات الباهرة ... لذلك رأت بيزنطة أن تهب مسارعة إلى القضاء على هذا الخطر الجديد قبل استفحاله ، وأخذ قيصر الروم يعد العدة للقيام بحملة عسكرية على الجزيرة العربية عن طريق سورية بهدف القضاء على المسلمين ....

ووصلت الرسول أخبار عن تلك الحملة ، وأن عدداً من القبائل المسيحية انضمت إلى الروم لقتال العرب المسلمين ، ولذا سارع إلى إعداد جيش لملاقاة العدو عند الحدود الفاصلة بين الجزيرة العربية وسورية ، تم تجهيزه على جناح السرعة وقوامه 30 ألف مقاتل بينهم عشرة آلاف فارس ، وخرج على رأس ذلك الجيش في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة . كما انضم إليه الكثير من القبائل العربية أثناء مسيرته ، مما دفع الروم إلى العدول عن حرب المسلمين ، كما فر رؤساء القبائل المسيحية حين يئسوا من وصول الحملة البيزنطية ، وبعدها صالحوا الرسول ، وأبدوا استعدادهم لدفع الجزية وعقد معاهدة معه ، إذ أدركوا أن قوة الإسلام جعلت دولة الروم العظمى تخش مواجهتها .

((ونظم عدداً من نقاط الارتكاز على الحدود الشمالية للجزيرة العربية التي تربطها بلاد الشام ، وذلك بعقد التحالفات مع سكان تلك المنطقة ، وانضمام بعضهم إلى الثورة الإسلامية )) .

ورأى الباحث العسكري غلوب باشا أن ما هدفت إليه غزوة تبوك ، هو بسط السيطرة الإسلامية حتى الحدود البيزنطية يقول :

(( ولا ريب في أن الهدف من هذه الحملة كان رفع الراية الإسلامية على حدود الروم ، ولم يكن النبي قد نسي معركة مؤتة ، ولذا فقد عزم على الثأر لها )) .

الفصل الثالث
سياسة الرسول التوحيدية

الرسول و رسالة التوحيد

إن المسيرة الكفاحية للدعوة الإسلامية ، ونضال الرسول الملحمي لنشر رسالة الإسلام ، ومن ثم الحروب التي خاضتها الدعوة ضد الأنظمة القبلية الوثنية ، جميع هذه الأمور التي استعرضناها في الصفحات السابقة ، كان هدفها نشر راية التوحيد في ربوع الجزيرة العربية ....

وإذا كانت الدعوة الإسلامية توحيدية على صعيد الفكر الديني فهي بدورها توحيدية على الصعيدين السياسي والاجتماعي ، إذ استطاعت عبر نضال الرسول الملحمي أن تتوج بتوحدي جزيرة العرب وصهر القبائل المتنافرة في بوتقة الإسلام كتلة واحدة متراصة.

هذا ، وقد ظهرت سياسة الرسول التوحيدية مع استقراره في المدينة التي فتحها بالقرآن الكريم وحده في أعقاب الهجرة ، وإرساء قاعدة الدولة الإسلامية الأولى ، ووضع أول دستور للمدينة ، وهكذا أخذت تبلور مفاهيم الأمة الإسلامية . . .

الأمة الإسلامية

كانت الحياة العربية قبل الإسلام تقوم أساساً على نمطية خاصة ، فالقبيلة هي التنظيم الاجتماعي السياسي الذي يظم حياة الفرد في القبيلة ، فكان انتماء العربي الجاهلي انتماء قبلياً ، وليس هناك أية رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها ، بل على العكس كانت القبائل متناحرة متحاربة ، وإذا ما قامت أحلاف قبلية ، فلمناصرة قبيلة على أخرى ، وبالتحديد كانت القبيلة العربية تشكل وحدة سياسية مستقلة . . ومن هنا كان الانقلاب الذي أحدثه الرسول  عميقاً في حياة الجزيرة العربية إذ استطاع بسياسته الكفاحية التي تمليها روح الإسلام أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقى بها على سيد التطور الاجتماعي لتظهر في إطار الأمة الإسلامية . . . ويبحث المستشرق مونتجمري وات الفرق بين مفهومي القبيلة والأمة ، بقوله :

(( الفرق البديهي بين الأمة والقبيلة هو أن الأمة تقوم على الدين ، بينما تقوم القبيلة على القرابة ، ولا نجد هذه الفكرة في أية نظرية ، ولكنها فكرة ضمنية كامنة )) .

وكان التطور السياسي للأمة الإسلامية التي وضع أسسها في المدينة ، ثم تطورت بإجلاء اليهود عنها ، وانتشار الإسلام في جزيرة العرب ، يعني فيما تعنيه الجماعة في زمن خلفاء الرسول فغدا يشمل الجماعات والأجناس والشعوب التي تعيشها في ظل « دار السلام » تمييزاً لها عن « دار الحرب » . . .

هذا ، ويناقش المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه : « إنسانية الإسلام » فكرة « الأمة الإسلامية » ومغايرتها المفهوم الغربي ، وعلاقة الفرد بهذه البلاعة ، يقول :

((ليس لفكرة " الأمة " الإسلامية مقابل في فكر الغرب ولا في تجربته التاريخية . فالجماعة الإسلامية ، وهى تجمع من المؤمنين يؤلف ينهم رباط سياسي وديني في آن واحد ، ويتمحورون حول كلام الله القدسي و توحدهم العزة بالانتساب إلى التنزيل الأخير والحقيقي لا تطابق فكرة « الشعب » التي كانت سائدة عند مسيحي القرون الوسطى ، ولا فكرة " الأمة " الغربية التي راجت في القرن الثامن عشر . وصعوبة التوافق منبثقة عن فكرة الكائن البشري . فالإنسان يسهم ، بالنسبة إلى الفكر الغربي ، في الحياة الاجتماعية المقسمة إلى طبقات ومراتب بنشاطه الخارجي والفعلي ، وعلى العكس من ذلك فإن الفرد يندمج في الإسلام بالجماعة المؤمنة بالتساوي عن طريق شهادته ، الفردية واستبطان إرادته وصفاته الخاصة كمؤمن ، فالنية المعلنة والجهر بالكلام شرطان من شروط الانتماء إلى المجتمع . وبصورة تلازمية يحدد الامتثال لمشيئة الله البنية الاجتماعية . وهكذا تكون النظم التأسيسية للجماعة مشروطة بالعبادة الواجبة عليها نحو الله )) .

كسب القبائل العربية بالمعاهدات السياسية

إلى جانب النضال العسكري كان الرسول  يعمل على كسب القبائل العربية ولم قامة المعاهدات والمواثيق ينهما ، وأوضح دليل على ذلك دستور المدينة ، الذي وحد المسلمين واليهود في المدينة والقبائل العربية المجاورة ، وجعل من النبي الحاكم السياسي والإداري للمدينة ، إن خولته الوثيقة أن يكون المرجع الوحيد لحل الخلافات التي قد تنشب بين أطراف التحالف ، وكان الاعتراف السياسي بقيادته اعترافاً ضمنياً بنوته .

وكان دستور المدينة نصياً سياسياً للرسول ولرسالته التوحيدية ، فقد سرت فيه القبائل العربية القاطنة في المدينة حتى رغبت عدة قبائل أن تدخل في ظل وثيقة المدينة ، لتتمتع بحماية السلم الإسلامي ، الذي شكل قاعدة الأمة الإسلامية المقبلة القائمة على أسس دينية ، يقول مونتجمري وات :

(( وكانت المشكلة الأولى هي استتباب السلم بين مختلف قبائل المدينة . وكانت مشكلة ليست في المدينة فقط بل في كل شبه الجزيرة العربية . ولما نجح محمد في إقامة « السلم الإسلامي » في المدينة مع القبائل المجاورة ، أرادت قبائل أخرى أن تستفيد من النظام الجديد . ولم يعارض محمد من جهة امتداد نظام السلامة الذي أقامه إذا كانت الترتيبان التفصيلية مرضية ، فإن امتداده يؤدي إلى قدر كبير من السلامة . تخيل محمد نفسه يتوسع بالأمة الإسلامية - أي جماعة الذين يعتنقون الإسلام أو يؤمنون بالله_، دون اعتناق الإسلام ، وقد احتموا به أو برسوله )) .

ويرى كثير من الباحثين في الشرق والغرب ، وكذلك لفيف من المستشرقين أن اهتمام الرسول بقبائل الشمال ، كان من أهدافه الإسلامية توجيه العرب نحو بلاد الشام إدراكاً منه لأهمية هذه المنطقة استراتيجياً لمستقبل الدعوة الإسلامية ، لتكون مجالاً للفتوحات المقبلة . . وتأمينا "للسلم الإسلامي" الذي يقوم حق التقويم القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية معاً انطلاقاً من (( اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسي اجتماعي واقتصادي على أسس دينية )) .

ويبحث المفكر مونتجمري وات في مكان آخر الأهمية الاقتصادية للتجارة مع بلاد الشام بالنسبة لجزيرة العرب ولمستقبل الفتوحات الإسلامية ، يقول :

((وكانت مسألة أخرى تشغل حكم محمد . وهي أنه كان يحرم القتال والنهب بين المسلمين وبهذا إذا دخل عدد كبير من القبائل أو قبلت زعامة محمد لها، فكان عليه أن يبحث عن متنفس آخر لطاقاتها ، وقد نظر محمد إلى المستقبل ووجد أنه يجب توجيه غرائز الغزو لدى العرب نحو الخارج ، نحو المجتمعات المجاورة لشبه الجزيرة العربية ، كما أدرك إلى حد ما أن نمو طريق سورية هو إعداد للتوسع)) .

هذا ، وناقش الباحث العسكري محمود الدرة ، ما ذهب إليه الباحثون العسكريون الغربيون والمستشرقون ورد عليهم بما يؤكد عالمية الرسالة وطموح الرسول  إلى أن يعم الإسلام المعمورة وخاصة البلدان المجاورة لجزيرة العرب يقول :

(( والحقيقة هي أن محمداً قد رسم لأمته خطوط السياسة السوقية (الاستراتيجية ) ساعة حصار المدينة ، فضلا عن الحركات العسكرية التمهيدية التي أمر بها باتجاه الديار الشامية ، وبأحاديثه المعروفة بهذا الخصوص . كما أن رسالته كما جاء في القرآن الكريم تؤكد على أنها للعالمين جميعاً )) .

ومن الثابت أن الرسول في أحاديثه ورؤاه المستقبلية كان مدركاً بإيمان النبي المرسل أن رسالة الإسلام ستعم الأرض ، وقناعته هذه لم تتزحزح البتة حتى في أحلك الظروف السياسية وأشدها خطورة على مستقبل الإسلام إبان موقعة الخندق أو الأحزاب حيث تجلت شخصية الرسول العظيمة ورؤاه العملاقة مما حفر في وجدان المسلمين عميقاً ، وغدت نبوءة الفتوحات واقعاً ، حين انطلقت رايات الفتح خارج الجزيرة تأكيداً على عالمية الرسالة ، ولندع منا للباحث الإسلامي مولانا محمد على تحليل هذه القضية النبوءة ، يقول :

((أن التاريخ لم يدون لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني - أيضاً على أمة من الأمم . ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عادى ، جنباً إلى جنب مع أتساعها في ساعة الحرج الوطني العظيم .

إنه لمن سمات شخصية الرسول المميزة أنه كان يضفي رواء على أيما شيء يشارك في صنعه . فحيثما وضعته أدى واجبه في كياسة عجيبة . ولئن كان ، من ناحية ، حكم الملوك رجولة ، لقد كان _في الوقت نفسه _ أكثر الرجال جلالاً ملكياً. وفيما هم يحفرون انتهوا إلى حجر صلد . وبذلوا كلهم قصارى جهدهم لتحطيمه . وهكذا اقترح على الرسول ، الذي كان قد رسم حدود الخندق بيديه الاثنتين ، أن يجيز لهم الانحراف بعض الشيء ، عن الخطة الأصلية ، فلم يكن منه إلا أن تناول معولاً وانهمك في أداء المهمة التي أعجزت رجاله لا لقد هبط إلى جوف الخندق وراح يقرع الصخرة بعنف ، فانزاحت مطلقة في الوقت نفسه شرارة نار لم يكد الرسول يلمحها حتى صاح ، يتبعه أصحابه ، « الله اكبر» وقال إنه رأى في الشرارة أن مفاتيح قصر الملك في الشام قد آلت إليه . وضرب الصخرة كرة أخرى فانشقت ، مطلقة شرارة النار نفسها . وكرة ثانية ارتفع التكبير : « الله أكبر» ولاحظ الرسول أنه وهب مفاتيح المملكة الفارسية . وعند الضربة الثالثة تناثرت الصخرة قطعا وأعلن الرسول أنه رأى مفاتيح اليمن تصبح ملك يديه ثم أوضح قائلاً إنه ، في المرة الأولى ، اهلع على قصر قيصر ، وفي المرة الثانية على قصر أكاسرة فارس ، وفي المرة الثالثة على قصر صنعاء ،وإنه أنبىء ، أن أتباعه سوف يمتلكون تلك البلاد كلها . أنها لظاهرة رائعة . ولقد كانت قوة جبارة ، تتألف من أربعة وعشرين ألف رجل ، تقف عند أبواب المدينة نفسها على أتم الاستعداد لسحق الإسلام . وكانت بلاد العرب كلها متعطشة لدماء المسلمين . وفي غمرة من سحب هذا الخطب الرهيب تلمح عين الرسول شعاعاً قصياً يؤذن بالقوة التي ستتم للإسلام في المستقبل . أليس ذلك شيئاً يتخطى أبعد طاقات الخيال البشري؟ ومن غير الرب الكلي الحكمة والكلي العلم يستطيع أن يكشف للرسول أسرار المستقبل هذه في لحظة كان الإسلام مهدداً فيها بالفناء المطلق ؟ )) .

رسل محمد  إلى الملوك و عالمية الإسلام

بعد صلح الحديبية الذي عقده الرسول محمد  مع قريش ، وظهور الإسلام كقوة في جزيرة العرب ، ونضوج الدعوة الإسلامية ، كان قرار الرسول  أن يؤكد على عالمية الإسلام ، وأنه دين الله للناس كافة ، وذلك بإيفاده الرسل إلى ملوك الدول المجاورة ، يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وذلك في السنة السابعة للهجرة ، فحملوا له الرسائل إلى كل من هرقل الروم ، و كسرى الفرس ، ومقوقس مصر ، ونجاشي الحبشة ، وعامل كسرى في اليمن ، وعامل الروم شرحبيل بن عمرو على بصرى على الحدود الشمالية لجزيرة العرب عند تخوم بلاد الشام .

هذا ، وإن دلت هذه الرسائل على أمر فتلك الغاية التي كانت وراء قصد الرسول ، وهي نشر العقيدة الإسلامية خارج جزيرة العرب ، لأن الإسلام دين عالمي ، وأنه رسول الله إلى الناس كافة . أن اشتملت هذه الرسائل جميعها على الدعوة إلى الوحدانية ، وكانت متوجة بالآية الكريمة التي تدعو أهل الكتاب إلى تحقيق ما هو، مشترك بين جميع الأديان السماوية ، أي عبادة الله وحده وأن لا يكون له شريك من آلهة أخرى ، أو بشر ، تقول الآية الكريمة :

 قل يا أهل الكتاب تعالواً إلى كلمه سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون  (س3 ، الآية 64).

يقول الباحث الإسلامي مولانا محمد علي :

(( والواقع أن الآية تلفت الانتباه إلى مبدأ لو اصطنع اليوم إذن لوضع حداً لجميع المنازعات الدينية ، صاهراً مختلف الأنظمة في دين كوني واحد ، وصاهراً البشرية كلها في أخوة كلية واحدة . إنه يقرر ، ابتغاء إزالة الفروق جميعاً ، أن كل ما هو مشترك بين جميع الأديان يجب أن يقبله الجميع ، كأساسي يبدأ به ، ثم تشاد فوق الأساس بيع التفاصيل الدينية المتناغمة مع هذه الحقيقة الأساسية . وهكذا تستطيع أديان العالم كلها أن تتلاقى على أرض مشتركة و تسوي خلافاتها بطريقة حبية . والواقع أن فكرة الدين الانتقائي التي انبثقت مؤخراً تنسجم مع الحقيقة نفسها التي دعا إليها الإسلام منذ ثلاثة عشر قرناً )) .

لقد كانت مواقف الحكام والملوك مختلفة في ردود أفعالها حين تلقت رسائل رسول الله  يقول آتيين دينيه في كتابه : "حمد رسول الله" :

(( فتلقي المنذر ، ملك البحرين الرسالة فأسلم ، وكذلك فعل نائب ملك اليمن . وبعث المقوقس ملك مصر بالهدايا الثمينة إلى محمد ، وكان من بين تلك الهدايا جارية شابة بارعة الجمال يقال لها : مارية القبطية ، تزوجها محمد . وكان من بينها أيضاً حمار يقال له يعفور وبغلة تدعى دلدل . أما هرقل لم إمبراطور الرومان والنجاشي ملك الحبشة ، فقد رد كل منهما الدعوة برسالة غاية في التلطف والاحترام . غير أن كسرى ملك الفرس أقسم ليعاقبن النبي على جرأته ، فنزل عليه في الحال غضب الله ، أن اغتاله ابنه شيرويه ، وتبوأ عرشه . ومزق الحارث بن أبي شمر رسالة النبي ، فرأى ملكه يتمزق ، جزاء له من الله على تمزيق رسالة محمد ، وكان الحارث بن عمير الرسول الوحيد الذي استقبل استقبالاً مشيناً ، ثم اغتيل عند الكرك بالبلقاء بأمر من شرحبيل الغسانى حاكم تلك البلاد التي كانت تخضع للرومان )) .

هذا و تتفاوت مواقف المستشرقين والباحثين الغربيين من مسألة حقيقة الوفود ، بين التصديق والإنكار والدهشة والإعجاب ، والتشكيك في صحة الأمر . . . رغم ثبوتها وخاصة بعد العثور على الرسالة التي وجهها الرسول  إلى المقوقس حاكم مصر ، يقول الباحث العسكري غلوب باشا :

(( حكم بعض المؤرخين المعاصرين أثاروا بعض الشكوك في موضوع الرسائل فليس هناك في ما حفظ عن حياة النبي ما يشير أن النبي قد تصور أو توقع احتلال سورية وفارس . ولقد أدهشت الانتصارات العظيمة التي حققها العرب بعد وفاة النبي المسلمين أنفسهم ، وهي انتصارات ما كانت لتتحقق لولا أن النبي قد تنبأ بوقوعها . لكن مارية القبطية كانت من الناحية الأخرى شخصية تاريخية )) .

هذا وقد ناقش الباحث الإسلامي مولانا محمد على ، الظروف التي أحاطت بتوجيه الرسائل إلى الملوك وإيمانه العميق بالانتصار النهائي للإسلام ، وأن ضياءه سيعم المعمورة ، وأن الإسلام يمتلك القوى الذاتية للصمود ، رغم كل القوى المضادة وأنها تشير إلى نقطة هامة أخرى هي أن محمداً كان رسولا من الله ، وهيهات أن يكون دجالا أو صاحب عقلية منحرفة ، كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين المعادين لرسالة الإسلام ، يقول :

(( إن الظروف التي أحاطت بتوجيه هذه الرسائل إلى الملوك والأمراء لتستحق شيئاً من التأمل والاعتبار . فلو أن الرسول وجهها بعد إخضاع بلاد العرب برمتها إذاً لكان في أمكان الباحث أن يعتبرها إجراء أوحى به الطموح . ولكن ما الظروف التي كانت سائدة فعلا في تلك الآونة ؟

كانت المدينة قد حوصرت قبل ذلك باثني عشر شهراً ليس غير ، وكان ثمة أمل ضئيل في نجاة نفس مسلمة واحدة . لقد كان المسلمون ، حتى في ذلك الحين أضعف من أن يشقوا طريقهم إلى مكة لأداء فريضة دينية هامة كالحج . وكان المشركون لا يزالون هم أصحاب السلطان ، حتى لقد فرضوا شروط الصلح ، منذ فترة يسيرة ، على المسلمين . وفي كل ناحية من بلاد العرب كان الإسلام محاطاً بالأعداء . وكان تناثر المسلمين هنا وهناك لا يغير من الموقف إلا قليلاً . . ومع ذلك فإن إيمان الرسول بانتصار الإسلام النهائي لم يتزعزع لحظة واحدة ، في وجه تلك الظروف الموئسة كلها ، كان الرسول واثقاً كل الثقة من أن الإسلام سوف يسود آخر الأمر ، وكان في ميسوره أن يرى بعين بصيرته النافذة ذلك اليوم الذي سينير ضياؤه فيه كل زاوية من زوايا العالم . إلى هذا الحد كان إيمانه بقوة الإسلام عميق الجذور ، وإن في هذا لدرسً نافعاً لبعض مسلمي العصر الحاضر الضعيفي الثقة بإمكان انتشار الإسلام في ديار الغرب ، ذلك بأنهم يعتقدون بأنه ليس ثمة إمبراطورية جبارة تسنده و تدعمه . " أن الحق لا يعتمد ، في بقائه وانتصاره ، على القوة . إن له من القوة الذاتية ما يمكنه من الصمود " . وهذه النقطة جديرة أيضاً باعتبار الناقد العادي للإسلام . أمن الممكن لدجال من الدجالين أن ينعم بمثل هذا الإيمان الراسخ بنجاحه النهائي ؟

مردها إلى عقلية منحرفة أن يتأملوا قليلاً في النجاح العظم الذي حظي به الإسلام بعد سنوات معدودات انقضت على توجيهها . وإذا كانت هذه الوقائع تشير إلى أن محمداً لم يكن لا دجالاً ولا معتوهاً فلم يبق إذاً غير استنتاج واحدا يفرض نفسه على الناقد النزيه - أعنى أنه كان رسولاً من رسل الله - إن هذه الرسائل لتثبت أيضاً الحقيقة القائلة بأن الرسول اعتبر الإسلام منذ البدء ، ديناً عالمياً . لم النصرانية لم تدع العالمية . ويسوع نفسه لم يدع مثل هذا الوضع لقد قال ، في وضوح ، انه جاء لهداية خراف إسرائيل الضالة . بل رفض أن يصلى على امرأة غير إسرائيلية . أما محمد ، صلوات الله عليه - ، فقد أعلن على العكس منذ فجر بعثته بالذات ، أنه مرسل إلى البشر كافة . ولم تكن هذه دعوى فارغة . والحق أنه لم يدخر وسعاً لتحقيق هذا المثل الأعلى في حياته هو ، فدعا مختلف الملوك إلى قبول الحق الذي جاء به الإسلام )) .

عام الوفود و انتشار الإسلام في جزيرة

كان العام التاسع للهجرة حافلاً بأحداث ترسيخ الرسالة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية ، أن أخذت القبائل العربية البعيدة تدين بالإسلام ، وتظهر للرسول r الطاعة والإذعان . . وفي هذا العام تدفقت على المدينة الوفود التي تمثل مختلف القبائل ، مظهرة رغبتا في الانضواء تحت راية الهداية الإلهية باعتناقها طوعاً الإسلام ديناً .

ويتحدث المستشرق الروماني جيورجيو عن هذه المرحلة في حياة الرسول فيقول :

(( ونصل هنا إلى نقطة هامة في حياة النبي r متصلة بعام الوفود ، فالمسلمون يسمون هذه السنة التاسعة " عام الوفود " أي "سنة السفراء والبعثات " فعحمد r قبل تسع سنوات من هذا التاريخ خرج من مكة كيلا يقتله المشركون ، وهاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر . وكانت الهجرة كما رأينا ذات قيمة معنوية كبيرة للمسلمين . ولم ننس أن قريشاً منحت جائزة قدرها مئة ناقة لمن يمنع محمداً عن هذه الهجرة حياً أو ميتاً . في ذلك الوقت ، وقد مضى تسع سنوات على الهجرة ، وفق النبي r إلى فتح مكة ، كما وفق إلى دخول خصومه الذين كانوا يرغبون في قتله ، في الإسلام ، حتى عكرمة بن أبى جهل أسلم ، وسقط في ميدان الجهاد شهيداً ، كما أسلم أبو سفيان الذي كان قائد جيش مكة في أحد والخندق ، وعينه النبي r حاكماً على نجران ، وغدا خالد بن الوليد أحد القواد البارزين من المشركين ، من أبرز قواد الإسلام ، و ملقب بسيف الله . ولم يفتح محمد في هذه السنة ( التاسعة ) مكة وحدها ، بل فتح الجزيرة كلها ، وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين . وقد انتشر الإسلام من السنة الأولى للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها 822/ ألف كم 2 تقريباً )) .

وينتقل المستشرق جيورجيو للحديث عن كيفية استقبال الرسول r وفود القبائل العربية ، بكل بساطة و تواضع جم ، وهو الحاكم الفعلي لكل جزيرة العرب يقول :

(( وقد استقبل النبي في ذلك العام السفراء والممثلين عن القبائل في المدينة ل. ولكثرة هذه الاستقبالات سمي هذا العام «بعام الوفود» . ولان محمد في ذلك الوقت رئيس الجزيرة العربية كلها دينياً وسياسياً وعسكرياً . ومع هذا فإن الوفود ، عندما كانت تفد عليه ، تراه جالساً على حصير مضفور من ورق شجر النخيل ، وهذا هو أثاث المنزل كله . وعندما كان يفد الوفد يستقبله بلال المؤذن الحبشي، ويدخله غرفة النبي r . وحين تحط الوفود في المدينة كانت تنزل في بيت "رملة بنت الحارث" الواقع في محلة (النجارية) ، ضيوفاً على الحكومة . وكثيراً ما لان يفيض عدد الوفود ، فيضيق المنزل بهم ، مما حدا بالنبي r إلى أن يأمر بأن تنصب الخيام في المسجد ، لينزل فيها من لا يجد مكاناً في المنزل )) .

ويقول الباحث مونتجمري وات :

(( تقول الرواية التقليدية للسنتين الأخيرتين من حياة محمد إن معظم القبائل في شبه الجزيرة العربية دخلت الإسلام و تسمي السنة التاسعة للهجرة ( نيسان 630-631م ) « عام الوفود » فقد أرسلت كل قبيلة وفدها إلى محمد لاعتناق مبادىء الدين الجديد )) .

المفكر الإسلامي مولانا محمد على ، في عام الوفد خير رد على أولئك المتعصبين من أعداء الإسلام الذين لم يروا أنه انتشر إلا بحد السيف وحده . . . وأن السلام كان من أقوى بواعث نشره في سائر أرجاء الجزيرة العربية . . . وأن الرسول الذي كان يعرض نفسه على أفراد القبائل ووجوهها فلا يرى سوى الإعراض عنه والسخرية به ، بله الإهانة والتعذيب قد أخذت هي تسعى إليه ، وكيف كان يستقبلها ، وأنه - عليه السلام - لم يرفع الحسام إلا دفاعا عن حق ، فذوداً عن وجود ، وإعلاء لكلمة الله في ربوع الجزيرة العربية ، يقول :

(( وكان الإسلام قد اكتسب الآن شعبية عامة ، في طول بلاد العرب وعرضها . لقد انتشر نباً الانتصار النهائي إلى أقص زوايا الجزيرة . ولم يكن الناس غافلين عما جرى ،طوال سنوات وسنوات ، بين الرسول وقريش ، في لهفة وشوق ، مراحل الصرع كلها . لقد عرفوا كيف عذبته قريش وعذبت أصحابه لتبشيرهم بالفضيلة وبوحدانية الله ، وكيف قامت - بعد هجرتهم – بمحاولات متعددة استمرت ثماني سنوات ، لسحق المسلمين . والواقع أن الذين شهدوا مواسم الحج السنوية حملوا هذه الأنباء إلى زوايا البلاد القصوى . وكان الناس على علم أيضاً بنبوءة الرسول القائلة بأن كل مقاومة للإسلام سوف تتلاشى آخر الأمر . وهكذا أخذت الوفود تتدفق على المدينة من كل حدب وصوب . فكان الرسول يستقبلها في حفاوة بالغة ، ويعلمها مباديء الإسلام في لطف ليس بعده لطف . وكان يبعث مع الذين يعتنقون الإسلام بمعلم يفقههم في الدين . وهكذا تقاطرت إلى المدينة في النصف الأول من هذه السنة بالذات وفود مقبلة من مواطن قصية ، كاليمن وحضرموت والبحرين وعمان لا والتخوم الشامية والفارسية . يالتحريف الحقائق ! إن الجهل والهوى يعزوان انتشار الإسلام إلى اصطناع السيف . على حين أن الواقع يقول إن انتشار الإسلام ظل راكداً ما بقيت حالة الحرب بين المسلمين والمشركين . فما إن أقر السلام حتى انتشر الإسلام في كل ناحية بخطى واسعة لا لقد بدا وكان قوة غير منظورة كانت تعمل على إدخال الناس في دين الله أفواجاً بعد أفواج . ولم يبعث في أيما يوم بحملة عسكرية إلى أيما بلد من تلك البلاد التي أقبلت الوفود منها . تلك هي الحقيقة التي شاءت سخرية القدر أن تحرف إلى اليوم تحريفاً متعمداً . فلطالما ساعدت الحرية والسلام ، ولسوف يظلان يساعدان إلى الأبد ، على انتشار الإسلام )) .

الرسول و سياسة التسامح الديني

هذا ، وقد تجلت سياسة التسامح الديني في عهد الرسول عام الوفود حين استقبل وفوداً مسيحية وبعث برسالة إلى أسقف نحران . . ويتحدث الباحث الروماني ك. جيورجيو عن أوضاع أصحاب الديانات السماوية في ظل الحكم الإسلامي فيقول :

(( مع أن الإسلام عم الجزيرة كلها في السنة التاسعة فان محمداً لم يكره اليهود و لا النصرى على قبول دينه ، لأنهم أهل الكتاب . و قد جاء في رسالة محمد إلى أبي الحارث أسقف نجران أن وضع المسيحيين في الجزيرة بعد الإسلام تحسن كثيراً ، يقول في الرسالة :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من رسول الله r إلى أبي الحارث أسقف نجران الأكبر وقساوسته وأساقفه لا أما بعد ، فليعلم الأسقف الأكبر وقساوسته وأساقفته أن كنائسكم ومعابدكم وصومعاتكم ستبقى كما هي ، وأنكم أحرار في عباداتكم . ولن يزاح أحد منكم عن منصبه ومقامه ، ولن يبدل شيء . كما لم يبدل في مراسم دينكم ، ما دام الأساقفة صادقين ، ويعملون حسب تعاليم الدين . فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسول r ، ومن منعه فإنه عدو الله ولرسوله .

تشير هذه الرسالة إلى أن المسيحيين ( وكذلك اليهود ) في الجزيرة أحرار في أداء شعائرهم ، ولن يزاحمهم من المسلمين مزاحم . وقد قدم في السنة التاسعة وفد من مسيحي نجران يرأسهم أبو الحارث الأسقف الأكبر ، وعبد المسيح الأسقف ، والأيهم رئيس القافلة ، وحين أرادوا الدخول على النبي r ارتادوا ألبستهم الدينية الرسمية الكاملة ، فأخذ سكان المدينة بهذه الثياب . وبعد أن زاروا النبي r سألوه أن يسمح لهم بأداء شعائرهم فطلب منهم أن يؤدوا صلواتهم في مسجد المدينة ، فدخلوا واتجهوا نحو بيت المقدس » و تعبدوا هناك . . لا شك أن النبي كان يحترم المسيحين احتراماً خاصاً ، لأن القرآن ذكرهم وأكرمهم . وقد أشار الله تعالى إلى هذه النقطة في محكم كتابه في سورة المائدة (الخامسة) في الآية ( 82 ) :  لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون  و يقول في الآية التي بعدها :  وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعنهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين  ، ويقول بعدها كذلك  وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين  ويقول بعدها  فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين  )) .

هذا ويجدر القول إن سياسة التسامح الديني التي اتبعها الرسول r تجاه أصحاب الديانات الأخرى استلهاماً لروح الإسلام ، غدت – فيما بعد_ قاعدة لخلفاء الرسول ، في ظل الدولة ألإسلامية العظمى التي ضمت و أمما مختلفة وأصحاب ديانات ظلوا يمارسون شعائرهم في ظل الحماية الإسلامية ، وكان لسياسة هذه التسامح أن حظيت باحترام وتقدير المفكرين والمستشرقين المنصفين فعقدوا المقارنة بن تسامح الإسلام وتعصب الصليبيين ، يقول المستشرق ميشون في كتابه : « تاريخ الحروب الصليبية » :

((إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى ، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان _على الخصوص _ لعكوفهم على العبادات ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس ..

و قد ذبح الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوها )) .

ويزيد الباحث نفسه في كتابه ، "سياحة دينية في الشرق" ،، متحدثاً عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية ، وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثير من المسلمين في التسامح وحسن المعاملة ، يقول :

((وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة ، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم ، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد )) .

وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين الإسلامي ديناً عالمياً ، بدءاً من مراحله الأولى أيام الرسول في جزيرة العرب إلى أن عم أصقاعاً شاسعة ، يقول المستشرق جولد تسهير :

(( سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة ، ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتوماً فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس ( الجزية ) أن يمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية ، ولم يكن واجب الإسلام أن ينفذ إلى أعماق أرواحهم أنما كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية . بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة ، ففي الهند مثلاً كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل و المعابد في ظل الحكم الإسلامي )) .

حجة الوداع

كان الإسلام يتوطد بقوة وثبات ، و تطهرت البلاد من الوثنية إلى الأبد ، وأدرك الرسول أنه قد أدى الرسالة ، وأتم الأمانة بنشر دعوة التوحد حين دانت له جزيرة العرب وانضوت تحت الراية الإسلامية الظافرة .

وفي حجة الوداع ، التي اجتمع فيها مئة وأربعة وعشرون ألف مسلم قصدوا البيت الحرام في مكة من سائر أرجاء الجزيرة العربية ، خطب فيهم الرسول خطبته الأخيرة التي عرفت باسم خطبة حجة الوداع ، والتي أعلن فيا بعد أن نزل عليه الوحي الإلهي  اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام ديناً  ، أعلن أن الشيطان قل يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ، ولكنه رضي أن يطاع فيها سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم . . .

وقال في خطبته : أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه : تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم ، وأن المسلمين أخوة ، فلا يحل لامرىء من أخيه ، إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم .

وقال : اللهم هل بلغت ؟ فأجاب المسلمون : نعم ، فقال رسول الله r « اللهم فاشهد » .

أجل ، لقد بلغ الرسول رسالات ربه ، وبلغ الإسلام مرحلة الكمال في جزيرة العرب ، فكانت هذه الخطبة بمثابة ، إعلان ذلك النبأ العظيم ، نبأ استكمال الدين على خير وجه . . . وكان أن تحقق ذلك الانقلاب التاريخي الكبير الذي غير مسار بلاد العرب ، فحولها من مجموعة قبائل متناحرة تدين بالوثنية إلى أن تتوحد في كتلة متراصة تحت راية الإسلام الظافرة لتبدأ بعد وفاة الرسول وانتقاله إلى الرفيق الأعلى في العام الحادي عشر للهجرة ( 632 م ) بنشر راية الإسلام خارج بلاد العرب ، ليعم المناطق الشاسعة من العالم تأكيدا على أنه دين سماوي للناس كافة . . .

يقول المستشرق الإنجليزي سبربت و . أرنولد :
(( وقبيل وفاة محمد نرى جميع أنحاء الجزيرة العربية تقريباً تدين له بالطاعة ، وإذا ببلاد العرب التي لم تخضع إطلاقاً لأمير من قبل تظهر في وحدة سياسية وتخضع لإرادة حاكم مطلق . ومن تلك القبائل المتنوعة ، صغيرها وكبيرها ، ذات العناصر المختلفة التي قد تبلغ المائه والتي لم تنقطع عن التنازع والتناحر ، خلقت رسالة محمد أمة واحدة ، وقد جمعت فكرة الدين المشترك تحت زعامة واحدة شتى القبائل في نظام سياسي واحد ، ذلك النظام الذي سرت مزاياه في سرعة تبعث على الدهش والإعجاب . وأن فكرة واحدة كبرى هي التي حققت هذه النتيجة ، تلك هي مبدأ الحياة القومية في جزيرة العرب الوثنية ، وهكذا كان النظام القبلي لأول مرة ، وإن لم يقض عليه نهائياً (إذ كان ذلك مستحيلا) ، شيئاً ثانوياً بالنسبة للشعور بالوحدة الدينية.

(( و تكللت المهمة الضخمة بالنجاح ، فعندما انتقل محمد إلى جوار ربه كانت السكينة و ترفرف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية ، بصورة لم تكن القبائل العربية تعرفها من قبل ، مع شدة تعلقها بالتدمير وأخذ الثأر. وكان الدين الإسلامي هو الذي مهد السبيل إلى هذا الائتلاف )) .

ويقول الباحث الإسلامي مولانا محمد علي :
(( وبكلمة موجزة ، فقد انقضت فترة الحرب ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، فلم تكد تنقض سنتان حتى لم يبق في طول جزيرة العرب المترامية الأطراف غير دين واحد -الإسلام - وبعض الجاليات اليهودية والنصرانية الضئيلة المتناثرة هنا وهناك لا لقد ترددت صيحة .« الله اكبر » في كل رجا من أرجائها . يالها من ظاهرة أعجوبية . لقد أتى على الرسول عهد طاف فيه بمختلف القبائل - وكان ذلك في أشهر الحج - يدعوها إلى الإسلام ، ولكن أحداً منهم لم يصغ إليه . أما الآن ، فهاهي ذي القبائل نفسها تبعث إليه بوفودها وتعتبر انضواءها تحت راية الدين الجديد شرفاً لها عظيماً . فخلال سنتين اثنتين ليس غير انقضتا على انتهاء حالة الحرب وفق الرسول لا إلى ضم بلاد العرب كلها إلى الحظيرة الإسلامية فحسب ، بل وفق في الوقت نفسه إلى إحداث تحول جبار في حياة الأمة العربية أزال جميع مفاسدها ورفعها إلى أسمى مراتب الروحانية )) .

القسم الثاني

عبقرية الرسول و مناقبه

الفصل الأول
عظمة الرسول و عبقريته المتكاملة

الاستشراف بين الإنصاف والجحود :

إذا كان الرسول  في عرف المسلمين سيد الرسل وإمام البشر فآراء المستشرقين والمفكرين الغربيين تتفاوت في تقويمه ، وطبيعي أن تتباين وجهات نظرهم فيه عليه أفضل الصلاة والسلام ، تبايناً قد يبلغ حد التناقض .

وطبيعي ، أن ترد أسباب الاختلاف في المواقف الاستشراقية إلى حالات الاستشراق ومناهجه الفكرية المتأرجحة بين الجحود والإنصاف ، الكره والمحبة ، السخرية والاحترام ، وذلك لما أدركه المستشرقون من العلاقة العضوية التي لا تنفصم بين الرسالة والرسول ، وارتكاز الإسلام كعقيدة وشريعة على القرآن ( كتاب الله ) والسنة - أحاديث الرسول وأقواله وأفعاله وتقريره . . .

فبعد أن فرض الإسلام نفسه عالمياً ، كان طبيعياً أن تستأثر سيرة النبى  وشخصيته ومناقبه باهتمام المستشرقين والمفكرين الغربيين . . . يقول المفكر الفرنسي المعاصر مارسيل بوازار في كتابه « إنسانية الإسلام » ، متحدثاً عن طبيعة المواقف واتجاهات المستشرقين في الغرب ، بقوله :

(( لقد سبق أن كتب كل شيء عن نبي الإسلام . فأنوار التاريخ تسطع على حياته التي نعرفها في أدق تفاصيلها . والصورة التي خلفها محمد عن نفسه تبدو ، حتى وإن عمد إلى تشويهها ، « علمية » في الحدود التي كشف فيها ، وهي تندمج في ظاهرة الإسلام عن مظهر من مظاهر المفهوم الديني ، و تتيح إدراك عظمته الحقيقية . ولا رب أن تقدم نبي الإسلام يتلون تلوينات دقيقة تبعاً لمواقف ثلاثة : الرغبة النابعة من الود والاحترام ، أو من السخرية ، في إثبات أن الإسلام هو ، على الأخص ، من صنع رجل ، والسعي إلى أتحاذ تطور البيئة الاجتماعية دليلاً لتفسير ظهوره ، والاعتقاد بأنه كلام الله ، ومحمد الذي يوليه المسلمون ولا ريب نوعاً من الإجلال الورع قد يكون من الخطر إساءة تأويله ، هو على وجه الحصر المبشر بالكلام السرمدي ولا يتمتع في نظر المؤمنين بالأهمية التي يتمتع بها يسوع المسيح مثلا في نظر المسيحيين .

ومع ذلك يبدو الإطلاع على حياته ضرورياً ، نظراً للعلاقة الوثقى بين الرسالة والرسول ، فمع أن القرآن يلح على طبيعة النبي البشرية البحتة ، إلا أنه يجعل منه « أسيرة حسنة ، يقتدي بها المؤمنون )) .

أول المئة الأوائل في التاريخ

وفي عداد أولك الذين أنصفوا الرسول  وأعطوه بعض حقه ، وتمثلوا روح الإسلام ، وأدركوا موضوعياً أهمية الرسول التاريخية ، بعيداً عن المواقف المتزمتة أو المتعصبة معه أو ضده ، يقف في الطليعة الدكتور مايكل هارت صاحب كتاب : «المائة الأوائل » ، الذي يشدنا إلى أن نقف معه عند نظرته العلمية ، التي وضعها لتصنيف عظماء التاريخ ، ضمن سلم ترتيبي ، اختاره حسب مقاييس منطقية يمليها أولاً وأخيراً ، أثر هذه الشخصية في التاريخ في مرحلتها ، وفي تكوين اتجاهات المراحل التالية وديمومة هذا الأثر . وكان منطلقه الذي وضعه لنفسه يرتكز على النقاط الثلاث التالية :

1. الأهمية الأولى للأشخاص الذين أثروا في التاريخ تأثيراً دائما سواء في ذلك الشخصية المشهورة أو المغمورة أو الشريرة ، المتواضعة أو المغرورة .

2. الاعتماد في تصنيفه السابق على الشخصيات التي أثرت على الصعيد العالمي وعدم الأخذ بالشخصيات التي أثرت على الصعيد المحلي . . .

3. وفي تقرير مكانة الشخص ، أخذ الباحث بعين الاعتبار أهمية الحركة التاريخية التي أسهم بها ، رغم إدراكه أن ضرورة حركة التطور التاريخية ليست ناجمة عن عمل أفراد . .

وتبعاً لهذه المعايير العلمية التي وضعها هذا الباحث لأولئك المئة الذين اعتبر كلا منهم من الشخصيات الرائدة حقاً في التاريخ ، كان الرسول  على رأس السلم ، وهكذا ليس بدعاً بالنسبة لنا نحن العرب المسلمين ، أن نرى في صنيعه بادرة إنصاف عظيمة ونظرة علمية متجردة ، من مفكر غربي ، اضطر معها إلى تقديم التبرير والدفاع عن اختياره لأنه يقدم كتابه لأبناء جلدته من الغربيين . . فهو يقول في دراسته شخصية الرسول وأثره في التاريخ :

(( إن اختياري محمداً ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ ربما أدهش كثيراً من القراء إلى حد قد يثير بعض التساؤلات ، ولكن في اعتقادي أن محمداً  كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي .

لقد أسس محمد  ونشر أحد أعظيم الأديان في العالم ، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام . ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وفاته ، لا يزال تأثيره قوياً عارماً )) .

وحين أجرى المؤلف مقارنة بين محمد والمسيح وجدهما متساويين في العظمة ، غير أنه قدم محمداً لكزنه هو الذي قام بإرساء قواعد الدين الإسلامي و نشره بنفسه بينما نجد أن المسيح عليه السلام قدم رسالة روحية وأفكارا أخلاقية سامية ، إلاً إن علم اللاهوت ألمسيحي مدين للقديس بولس ، وأضاف إليها قسماً كبيراً مما يؤلف العهد الجديد في الكتاب المقدس ...

ويتحدث هارت في مقدمة كتابه عن مبررات تصنيف الرسول  في مرتبة أعلى من يسوع المسيح ، بقوله :

(( ولأن في اعتقادي أن محمداً له تأثير شخصي على صياغة الدين الإسلامي أكثر مما كان ليسوع من تأثير على الدين المسيحي )) .

أعظيم العظماء وفوق كل عبقرية

هذا ويلتقي الدكتور مايكل هارت مع العديد من الباحثين في الشرق والغرب في تقويمه عظمة الرسول ، ويتحدث المفكر السوري الأستاذ فارس الخوري ، عن عظمة الرسول و عظمة الرسالة ، في خطبة ألقاها بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوي :

(( إذ محمداً أعظيم عظماء العالم ، ولم يجد الدهر بعد بمثله والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها و أكملها)) .

لقد اشتملت شخصية الرسول على شمائل عظيمة وصفات نبيلة ومزايا حميدة ، دفعت شاعراً لبنانياً هو الأستاذ رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي إلى نظم القصائد في مدح الرسول الذي أشرقت شمس الهداية على يديه ، فكان ذلك الفاتح الفذ الذي حول القفار القاحلة إلى مدنية مشربة بأنوار رسالة الإسلام التي لم تكن للعرب وحدهم بل للإنسانية جمعاء ، يقول القروي في محاضرة له عن رسول  :

(( فلا وليم شكسبير، ولا فكتور هوغو، ولا لاون تولستوى، ولا غيرهم من أمثالهم يطولون مهما اشرأبت أعناقهم إلى الدرجة السفلى من تلك المنصة العالية التي يقف عليها محمد بن عبد الله ، لأنه الرجل الذي تلتقي أكمل الصفات في قلبه الكبير، وعقله الفريد ورقته المتناهية وروحه المتدفقة بشرف الإحساس وروح العاطفة )) .

ويتحدث البحاثة اللبناني لبيب الرياشي في كتابه : نفسية الرسول العربي ، عن أثر الرسول عليه حين اطلع على سيرة حياته ودرس رسالته ، فكان أن شعر بالندم لأنه جهل سابقاً عظمة الرسول ونفسيته « وهو الإمام الأعظم » وحسب المرء أن يستنير بهديه ويعمل بسنته حتى يغدو إنساناً آخر ، ولو أن العرب اليوم أدركوا الجوهر الحقيقي لسيرة سيد الرسل ، لغيروا ما بأنفسهم أولا وغيروا العالم ثانياً ، يقول :

(( أما لو أدرك المسلمون سيرة الرسول بجوهرها ، وشرع الرسول بسنائه ، وحكم الرسول بجلالها ، وإبداع الضمائر الجديدة التي ابتدعها الرسول بحدتها الوضاءة ، وعملوا بما أدركوا لكان المسلمون غير هؤلاء المسلمين ، ولكان العالم غير هذا العالم - ثم قال - أما لو درس عشاق الرسول وعشاق العظماء والحكماء والمبدعين غير العرب ، بطهارة وجدان وبراءة سريرة ، وتحليل عبقري ، حياة الرسول العربي ، وسمو الرسول العربي وبراءة سريرته وأعماله وشرعه ، لاستكشفوا أعظيم شخصية وأقدس رسالة للتاريخ الإنساني ، ولقد طالعت مئات المجلدات وقرأت حياة ألوف العظماء والرسل ، ولكن مئات المجلدات وحياة ألوف العظماء والرسل ما فعلت بنفسي وأثرت في دماغي وهذبت وثقفت وأدهشت ، مثلما فعلت حياة الرسول العربي العالمي ، محمد بن عبد الله )) .

مكامن عظمته علبه السلام متعددة الجوانب

ويشير مولانا محمد على في مقدمة كتابه حياة محمد ورسالته إلى أن لكل أمة وشعب إنسانها الكامل الأمثل ، وأن صفات الكمال والعظمة لا تكمن في الرسول محمد لأنه لم يكن رسول أمته فقط ، بل كان للإنسانية كافة . ولقد جمع في هذا الصدد أقوال عدد من المستشرقين عن مكامن عظمته المتعددة الجوانب ، بقوله :

((أنا أومن ، شأن كل مسلم . بأنه كان لكل أمة إنسانها الأمثل (سوبرمان )، أو الكوكب الساطع الذي أعطاها النور، والمصلح الذي ألمها فكرات نبيلة ، والرسول الذي رفع من شأنها أخلاقياً . ولكن محمداً  هو الرسول الأعظم Par excellence لأنه ليس رسول أمة واحدة بل رسول أمم العالم كافة ، ولأنه هو - دون غيره من الأنبياء - أعلن الإيمان بجميع رسل العالم جزءاً أساسياً من العقيدة التي بشر بها، وبذلك وضع الأساس لسلم سرمدي بين مختلف الأمم. ولأنه «هو أعظيم الصلحين جميعاً» (بوزوورث سميث Bosworth Smith) باعتبار أنه أحدث تحولاً نحو الأفضل لم يحدث نظيره لا قبله ولا بعده ، ولأنه - أخيراً - «أوفر الأنبياء والشخصيات الدينية حظاً من النجاح » «الموسوعة البريطانية » تحت مادة : «قرآن» .

إن أحكامنا على الرجال يجب أن تبنى على ما حققوه من أعمال ، ولقد أنجز محمد الرسول في مدى عشرين سنة ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين اليهود والنصارى برغم السلطة الزمنية التي كانت تساندهم . لقد استأصل من بلد كامل تراث أجيال من الوثنية « والخرافة » وسرعة التصديق ، والجهل « والبغاء» والقمار ، ومعاقرة الخمر ، واضطهاد الضعيف ، والحرب الضروس ، ومئات من الشرور الأخرى . وليس في استطاعة التاريخ أن يدلنا على أي مصلح آخر وفق إلى إحداث تحول في مثل هذه الروعة والتمام ، وعلى مثل هذا النطاق الواسع خلال فترة في مثل هذا القصر . « فلم يكن الإصلاح في أي يوم من الأيام ميؤوساً منه أكثر مما كان ، عند ظهور الرسول - كما لاحظ ميووير Muir - ولم يكن أكثر كمالاً منه عندها التحق بالرفيق الأعلى . وبكلمة أخرى ، « كان ذلك ولادة من الظلمة إلى النور » كما يقول كارليل . وحياة في مثل هذه العظمة لا يمكن أن تكون خلواً من كمونيات Potentialities عظيمة ، بنسبة مماثلة للمستقبل . إنها لا يمكن أن توحي إلى أيما قلب من القلوب بأنبل الفكرات الدائرة حول خدمة الإنسانية . وإذا كان في سمات خلقه سمة اكبر تميزاً من غيرها فتلك السمة هي حدبه على اليتيم والأرملة ، ونصرته للضعيف والمسكين ، وحبه للعمل والسعي من أجل إغاثة الملهوف . إنها حياة رجل عاش لله ومات في سبيل الله . «إن يكن قد قدر لإنسان على سطح هذه الأرض أن يجد الله في يوم من الأيام ، وإن يكن قد قدر لإنسان أن يقف حياته لخدمة الله بدافع خير وعظيم فليس من ريب في أن نبي بلاد العرب هو ذلك الرجل » لييونارد Leonard »() .

عظمة الرسول و مواهبه المختلفة

هذا ، و قد درس الباحث الإنكليزي المستشرق مونتجمري وات ، عظمة الرسول في كتابه : « محمد في المدينة » ، انطلاقاً من النجاح الذي حققه على مسرح التاريخ الذي ظهر عليه ، والظروف الزمانية والمكانية التي ساعدته ، وهيأت المناخ الطبيعي لانتشار الإسلام في جزيرة العرب والتطور اللاحق الذي جعل منه ديناً عالمياً . . .

ولكن ، رغم تركيزه على العوامل الزمانية والمكانية في مرحلتها التاريخية ، والتي كانت مقدمة التحولات الكبيرة التي هي ابنة واقعها ومرحلتها » لم يغفل مونتجمري وات ، الدور الكبير الذي اضطلع به الرسول  الذي هو في شخصيته وعظمته مزيج من السجايا الرائعة والمواهب العالية ، يقول :

(( ولولا هذا المزج الرائع من الصفات المختلفة الذي نجده عند محمد لكان من غير الممكن أن يتم هذا التوسع ، ولاستنفذت تلك القوى الجبارة في غارات على سورية والعراق دون أن تؤدي لنتائج دائمة . ونستطيع أن نميز ثلاث هبات مهمة أوتيها محمد ، وكانت كل واحدة منها ضرورية لإتمام عمل محمد بأكمله .

لقد أوتي أولا موهبة خاصة على رؤية المستقبل . وكان ثانياً رجل دولة حكيماً .. وكان ثالثاً رجل إدارة بارعاً .... )) .

ويخلص مونتجمري وات إلى القول :

(( كلما فكرنا في تاريخ محمد وتاريخ أوائل الإسلام ، تملكنا الذهول أمام عظمة مثل هذا العمل . ولا شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصاً للنجاح لم تتحها لسوى القليل من الرجال ، غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تماماً . فلو لم يكن نبياً ورجل دولة وإدارة ولو لم يضع ثقته بالله ، ويقتنع بشكل ثابت بأن الله أرسله ، لما كتب فصلاً مهماً في تاريخ الإنسانية . ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد يمكنها أن تساعد على إثارة الاهتمام ، من جديد ، برجل هو أعظيم رجال "أبناء آدم " )) .

الشخصية الثورية الانقلابية

هذا ، وقد جذبت شخصية الرسول الكثير من الباحثين إلى دائرتها فأعجبوا بها عن اقتناع بعظمتها وجاذبيتها ، وإيمان بتلك العبقرية الخالدة . . من ذلك ما رآه المؤرخ البريطاني تشارلس أرمان ( 1886 - 1940) في دراسة له عن الإسلام ، أن شخصية الرسول ثورية انقلابية لم تؤثر على المستوى المحلى فحسب بل على المستوى العالمي كذلك ، يقول :

(( إن شخصية محمد ثورية وانقلابية ، تفوق مقدرة الشخص الموهوب العادي ، فلم تنتج بلاد العرب قبله ولا بعده فرداً أثر في مجموع تاريخ العالم ، ويكون من المضحك حقاً الادعاء أنه نتيجة محتمة لحالة بلاد العرب الفكرية والاقتصادية في القرن السابع بعد المسيح ، بل أن مبدأه الذي جاء به هو مبدأ اعتنقته أمم سرعان ما تحققت فكرته في بلاد العرب لأنها نافعة ولم يكن فيها ما يحارب لأجله غيرها من الديانات السابقة )) .

أجل ، إن شخصية الرسول ثورية وانقلابية ، فهي ثورة في فعلها وانية مجيئها كحدث تاريخي كوني في مرحلتها كضرورة حتمية لعالم يعج بالمتناقضات ويتهيأ للتبديل بهدم قيم قديمة بالية وبناء عالم جديد ومجتمع متقدم ...

لقد جمع الرسول في برديه كفاءات متعددة كنبي ملهم وقائد سياسي فذ ، ومشرع بارز ، ورجل عسكري من الطراز الأول ، كتب الأستاذ فريد وجدي في الموسوعة الفرنسية لاروس :

(( ومن أعجب العجيب أن الذي أتى بكل هذه الأعمال يعني ( محمد ) كان قائداً ، مشرعاً ، قاضياً ، إماماً ، واعظاً ، خطيباً ورب أسرة ، فكانت قيادته أحسن القيادات وكان يخوض الغمرات فيكشفها عن أصحابه . وشرعه أعدل الشرايع للآن . وقضاؤه أقوم الأقضية . وكان وعظه أنفذ وعظ إلى النفوس وخطبته تأسر الألباب ، وكان في أسرته من العدل والرأفة بحيث كان يجلب شاته ، ويعين على عملهن . فإن ضن ضان على (محمد بن عبد الله ) بالرسالة فليسمح لي أن أقول إنه أرق من الرسول )) .

المناضل الفذ

ولقد أوضحت لنا سيرة الرسول ، أي مناضل فذ هو ، والقدر الذي يتحلى به من الشجاعة والقوة مع دماثة الخلق والرقة ، وأية إنجازات استطاع أن يحققها في مرحلة وجيزة ، وقد تحدث أستاذ السامية ومحرر مجلة العالم الشرقي ، المستشرق الأسوجي سينرستن ( 1866 ) وصاحب كتابي : « القرآن و الإنجيل المحمدي و تاريخ حياة محمد » فقال في مؤلفه الأخير :

(( إنا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا ، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية ، مصراً على مبدئه ، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين ، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع وهو فوق عظماء التاريخ )) .

العبقرية المتكاملة

أن عبقرية الرسول ، في عرف الدارسين عبقرية متفردة متكاملة ، فهي تقدم صورة للإنسان الكامل والنبي والداعية ورجل الفكر والسياسة والقائد العسكري ، والمصلح الاجتماعي الكبير والرجل المخلص الصادق الأمين ، الذي امتلأ رجولة وحيوية . . .

نابليون السماء

ويتحدث المستشرق الفرنسي جان بروا في كتابه « محمد نابليون السماء » عن تلك العبقرية المتكاملة ، التي ثقفت في مدرسة الحياة بقوله :

(( وكان محمد نبياً ومشرعاً وسياسياً وملكاً عظيماً وخطيباً مفوهاً وقائداً خطيراً محنكاً ، وإن كان لم يدخل جامعة من جامعات الرومان ، ولا مدرسة من مدارس فارس ، إن محمداً قد كبر اسمه واعتز بربه حتى عرف باسمه وحده دون ذكر أسرته كما عرف نابليون ، وإن محمداً لنابليون السماء )) .

النبي الملهم والإنسان

وكانت هذه العبقرية المتكاملة والعظمة السامية ؟ قد اجتمعت إلى خصال حميدة ، لإنسان لم يداخله الغرور البته ، بل ظل ينظر إلى ذاته على انه واحد من أفراد تلك الأمة . يقول الأستاذ كرادي فو :

(( أن محمداً كان هو النبي والملهم والمؤسس ، لم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا ... ومع ذلك فلم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر، أو من طبقة أخرى غير طبقات بقية المسلمين . إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه بين أعضاء الجمعية الإسلامية ، كان يطبق تطبيقاً عملياً حتى على النبي نفسه )) .

المعرفة الواسعة والمقدرة الفذة

وكان لتلك العبقرية المتكاملة التي جمعت التفكير العميق بالعمل الدؤوب وحسن الإدارة والنجاح كداعية يجتذب القلوب أن حقق للدعوة الإسلامية النجاح ، يقول المستشرق الإنكليزي صموئيل زويمر (1843~ 1904 ) في كتابه " يسوع في إحياء الغزالي " :

((أن عبقرية محمد هي السبب في نجاحه واستطارة شأنه ، يضاف إلى هذا كله معرفته العظيمة بالديانات في عهده ، وقوته في اجتذاب القلوب إليه ، ومقدرته في الإدارة والحرب ، ولباقته في السياسة الفائقة )) .
نبوغ و ذكاء و حسن سياسة

هذا ، و قد اتسمت عبقرية الرسول بالنبوغ و الذكاء اللذين ، امتلكهما ، مقرونين بحسن السياسة ، فاستطاع في فترة وجيزة أن ينشر الدعوة الإسلامية الخيرة .

يقول المستشرق برتلمي سانت هيليا في كتابه « مع الشرق » :

)) كان محمد أزكى العرب في عهده وأكثرهم تقوى وديناً ، وأرحبهم صدراً ، وأرفقهم بأعدائه وخصوم دينه ، وما استقامت إمبراطورته الخارقة إلا بسبب تفوقه على رجال عصر ، وأما الدين الذي راح يدعو إليه فقد كان خيرا عظيماً على الشعوب التي اعتنقته وآمنت به )) .

رجل المثالية والخيال
أما المستشرق والمؤرخ الهولندي راينهارت دوزى (2018 - 1884)، فقد سطر في مؤلفه «مسلمو الأندلس » قائلاً :

(( لعل الرسول محمداً كما كان يلقب نفسه - لم يكن أسمى من مواطنيه - ولكن المؤكد أنه لم يكن يشبهم ، كان صاحب خيال ، في حين أن العرب مجردون عن الخيال ، وكان ذا طبيعة دينية ولم يكن العرب كذلك ، وكان محمد يقبح ما كان عليه قومه من عادات جاهلية كانوا يعكفون عليها، وكان على جانب مثالي من التواضع للناس والإيمان بربه . وهذه من عوامل تقدم رسالته )) .

نبي العالم والإنسان الكامل

ومن دلائل عظمة الرسول ، كماله في عبقريته و صفاته و بكمال الرسالة إلى حملها للعالم أجمع يقول المستشرق الألماني الكبير ، تيودور نولدكه ( 1836-1920 ) في كتابه :"تاريخ القرآن"ً :

(( نزل القرآن على محمد نبي المسلمين بل نبي العالم ، جاء بدين إلى العالم عظيم، وبشريعة كلها آداب وتعاليم ، وحري بنا أن ننصف محمداً في الحديث عنه لأننا لم نقراً عنه إلا كل صفات الكمال فكان جديراً بالتكريم )) .

محمد القدوة والرمز

أن حياة الرسول في مواقفه الحاسمة وسلوكه العام ، قد جعلت منه القدوة والرمز . . فهو رمز للحكم العادل والسياسة الدينية الصحيحة ، وصاحب المنهج الاجتماعي السديد ، يقول عنه الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر ( 0182 - 0193) في كتابه : "أصول الاجتماع " :

(( فدونكم محمداً ، انه رمز للسياسة الدينية الصحيحة ، واصدق من نهج منهاجها المقدس في البشرية كافة ، ولم يكن محمد إلا مثالاً للأمانة المجسمة والصدق البريء وما زال يدأب لحياة أمته ليله نهاره )) .

رسول الإنسانية الجديدة

أن يكون الإنسان القدوة والرمز ، معناه أن يبلغ مرحلة الكمال ، عميق الأثر في وجدان الأفراد والجماعات ، يؤلف بين القلوب ، ويوحد الإرادات ، وأن يحترمه الغريب قبل القريب ، والمسيحي قبل المسلم . . يقول الكاتب اللبناني لبيب رياشي في مؤلفه " نفسية الرسول العربي " :

(( حقاً يا محمد إنك الشاعر الأعظم » حقاً إنك السوبرمان الأول العالمي ، رسول الثقافة والعلم ، رسول الهداية والتضحية ، رسول الفلسفة الجديدة ، رسول الإنسانية الجديدة )) .

ويظل محمد القدوة والرمز ، ليس في عهده فحسب ، بل حتى عهدنا هذا وإلى يوم يبعثون . . فحري بنا كعرب ومسلمين أن نحتذي حذوه ، يقول المفكر السوري الأستاذ ميشيل عفلق في كتابه : « في سبيل البعث » :

« حتى الآن كان ينظر إلى حياة الرسول محمد من الخارج ، كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدمها ، فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل ، لنحياها ، كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع أن يحيا حياة الرسول العربي ، ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل والقطرة إلى البحر ، طبيعي أن يعجز أي رجل مهما بلفت عظمته أن يعمل ما عمل محمد ، ولكن من الطبيعي أن يستطيع أي رجل مهما ضاقت قدرته أن يكون مصغراً ضئيلاً لمحمد ، ما دام ينتسب إلى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمداً ، أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فرداً من أفراد الأمة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها ، في وقت مضى تلخصت في رجل واحد كل حياة هذه الأمة في نهضتما الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم ، كان محمد كل العرب ، فليكن كل. العرب اليوم محمداً )) .

مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ

لقد نظر منصفو المستشرقين إلى الرسول ليس كنبي عمل في إطار الجزيرة العربية فحسب ، بل كواضع أسس سياسة عالمية أثرت على المسيرة التاريخية كذلك ، يقول الكاتب الفرنسي المعاصر ، المستشرق مارسيل بوازار في مؤلفه : " إنسانية الإسلام " :

(( ولم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشراً بدين وحسب ، بل كان كذلك مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ ، وأثرت في تطور انتشار الإسلام فيما بعد على أوسع نطاق )) .

عظيم في دينه عظيم في مناقبه

أما المستشرق الفرنسي ساديو لوي ( 1807-1875 ) فيتحدث عن عظمة الرسول لا لكونه صاحب رسالة عالمية فقط ، ورجلاً عسكرياً فاتحاً للعرب والعالم وحسب بل عن عظمته في دينه ومناقبه وحاجة الإنسانية لرجل مثله ، يقول :

(( لم يكن محمد نبي العرب بالرجل الفاتح للعرب فحسب بل للعالم لو أنصفه الناس، لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب ، وان تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم في دينه ، عظيم في صفاته ، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين )) .

أما المفكر الإنكليزي المستشرق بوسورث اسمث ( 1815-1892) فقد خاطب العقل الأوروبي ، ورأى أن من الإنصاف أن ينظر إلى رسول الإسلام بمحبة واحترام ، لأنه من جهة بشر برسالة عظيمة تحمل الخير للبشرية جمعاء ، ولكونه من جهة ثانية عظيماً في كفاءاته العالية ، وسجاياه الكريمة ، وان الغرب المسيحي لا بد أن يقدره مستقبلاً حق التقدير ، يقول :

(( إذا قدرنا تاريخ الإسلام فنظرنا إليه من نافذة الإنصاف فإنما نقدر صاحبه الذي أسسه ووضع حجره الأساسي ، وهو - محمد - الذي لا نستطيع أن نقول في حقه إلا أنه رجل عظيم بعقله وعمله وأخلاقه وبلاغته و تدينه ، وسيحمل له المنصفون من النصارى وغيرهم الإخلاص متى عرفوه في المستقبل )) .

وأخيرا ، فإن معيار عظمة الأنبياء والقادة والمصلحين يظهر في مدى الإنجازات التي حققوها على الصعيدين المحلي والعالمي ، وتظل إنجازاتهم مستمرة راسخة باسقة ، يقول غوستاف لوبون :

(( إذا كانت قيمة الرجال تقدر بعظمة أعمالهم فعن المستطاع القول : إن محمداً كان من أعظم الشخصيات التي عرفها التاريخ )) .

أما الباحث الفرنسي المستشرق ديزريه بلانشيه فقد وجد في شخص النبي  مزيجاً نادرا من الكفاءات إذ حقق إنجازات عظيمة ما زالت راسخة ثابتة تقوم دليلاً قاطعاً على عظمته ، يقول :
(( إن النبي محمداً يعد من أبرز واشهر رجال التاريخ ، فقد قام بثلاثة أعمال عظيمة دفعة واحدة ، وهى أنه أحيا شعباً ، وأنشأ إمبراطورية ، وأسس دينا )) .

الفصل الثاني
محمد و القيادة الدينية

لقد كانت الهجرة إلى المدينة ، مرحلة تاريخية هامة في حياة المسلمين وفي حياة رسول الإسلام ، فمع قيام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة نجمت أمام الرسول قضايا هامة فأبرزته قائداً دينياً وسياسياً وعسكرياً . . وهنا سنعالج موضوع القيادة الدينية ، كصاحب دعوة ورسالة . . .

الرسول  وميوله الفطرية لديانة التوحيد

لقد عرفنا من دراستنا سيرة الرسول  أنه كان لا يدين بدين قبيلته ، وينأى بجانبه عن عبادة الأوثان ، ولقد قاده تفكيره إلى اعتناق مبداً الحنيفية - دين إبراهيم عليه السلام - تبعاً لميله الفطري للدين ، واقترابه من معرفة الحقيقة الأزلية بوحدانية الله .

الرسول والروح الكفاحية في نشر الإسلام

حين صدع الرسول  بالرسالة ، كان ذلك المناضل العنيد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية ، تحفزه تلك الروح الكفاحية العالية ، في جو معاد كل العداء ، لكن إيمانه بصدق نبوته وصلابة إرادته ، وقوة شخصيته مكنته جميعاً من أن يكسب القلوب ويؤلف بينها فظهرت تلك المجموعة الإسلامية المناضلة ، التي اقتفت نهجه حتى النهاية ، فهاجرت من مكة إلى المدينة ، ومن ثم توحدت مع الأنصار في جبة نضالية ، مكنت الرسول  أخيراً من أن يبسط شرعة الإسلام التوحيدية ، ويلغي عبادة الأصنام الوثنية .. يقول المفكر واشنطن ارفنج في محاضرة له ألقاها في ميلاد الرسول عام 1936 :

(( لم يكن محمد محباً للدنيا قط ، وقد لقي من الاستهزاء من قومه والإهانات ، حتى اضطر إلى الهرب ، وكانت له آراء عالية ، واعتقاد حسن بربه ، ويقين بشريعته فوق كل يقين ، أي رسول من الرسل هو ؟ ويدلنا على ذلك قوله : " لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته" )) .

لقد كانت الروح النضالية ، التي كافح الرسول بها بصلابة إرادة ، وعزم لا يلين مثار إعجاب الباحثين من الشرق والغرب ، لدرجة لم يقدر معها المفكر الفرنسي الكبير فرانسوا فولتير ، رغم علمانيته ، أن يكتم إعجابه بتلك الشخصية الفذة للمناضل والداعية الديني في شخص الرسول ، فيقول :

(( أن في نفس محمد لشيئاً عجيباً طريفاً رائعاً يحمل الإنسان على الإعجاب والتقدير ، ولعمري إن الرجل وقف وحده يدعو إلى الله ، ويتحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة سنوات عديدة ، وأمامه الجموع المشركة ، تعمل جهدها لمعاكسته وقتل فكرته ، إنه إذاً يستحق كل تقدير وتمجيد )) .

الطبيعة الدينية للرسول

لقد كان الرسول  احد أبرز رجالات التاريخ من حيث الثبات على المبداً ، والإخلاص في تطبيق العقيدة ، وكل ذلك نابع من طبيعته الدينية وصلابة شخصيته ، يقول الباحث الفرنسي المستشرق ادوار مونتيه في مؤلفه : " محمد والقرآن " :

(( أن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه المقصد، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص ، فقد كان محمد مصلحاً دينياً ذا عقيدة راسخة ، ولم يقم إلا بعد أن تأمل كثيراً وبلغ سن الكمال بهاتيك الدعوة العظيمة ، التي جعلته من أسطح أنوار الإنسانية في الدين ، وهو في قتاله الشرك والعادات القبيحة التي كانت عند أبناء زمنه ، كان في بلاد العرب أشبه بنبي من أنبياء بني إسرائيل الذين نراهم كبارا جداً في تاريخ قومهم ، ولقد جهل كثيراً من الناس محمداً بخسوه حقه ، ذلك لأنه من المصلحين النادرين ، الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها)) .

يؤكد هذا الباحث فكرته تلك ، بوصف رسول الله  بأنه نبي من الأنبياء يسائل في جزيرة العرب أنبياء التوراة لدى العبرانيين القدماء، كما يتطرق إلى نضاله لإخراج أمته من ضلال الوثنية والأخلاق المنحطة إلى معارج الوحدانية والصلاح ، بتلك الحمية الدينية العظيمة ، يقول :

((كان محمد نبياً بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء ، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة لا صلة لها بالوثنية ، وأخذ يسعى لانتشال قومه من ديانة جافة لا اعتبار لها بالرة ليخرجهم من حالة الأخلاق المنحطة كل الانحطاط ، ولا يمكن أن يشك لا في إخلاصه ولا في الحمية الدينية التي كان قلبه مفعماً بها)) .

الهدم و البناء

كانت رسالة الإسلام ، التي دعا إليها النبي  رسالة بناء ، لكنه لم يشد بناءه على أسس المجتمع القديم ، و إنما على أسس جديدة ، ولا سبيل إلى تحقيق غاياته السامية هذه إلا بهدم أسس المجتمع القديم المبني على الوثنية ، ليشيد صرح الإسلام . فلا بناء دون هدم ، ولا فكر جديد دون معارضة القديم .

الإسلام جاء متمماً للرسالات السابقة

لقد جاءت رسالة الإسلام التي حملها الرسول وبشر بها في جزرة العرب ، لتتم لا لتنقص ، فقد صرح الرسول مراراً بأن الرسالة الإسلامية هي متممة لما سبقها من رسالات سماوية وكذلك خاتمتها ، كما أنه خاتم المرسلين . يقول الدكتور وغسطون كريستا الإيطالي في كتابه : الكياسة الاجتماعية » :

(( كان محمد يعلن أنه رسول الله تعإلى ، لإصلاح دين إبراهيم المطهر الذي أفسده أبناؤه ، وأقام العبادة القويمة التي أنشأها ذلك النبي ، فسدت على مر الزمن ، وليؤيد وهو - خاتمة الرسل - ما كان الله أنزله على من سلفه من الأنبياء : موسى وداود وأشعيا وعيسى .

إذ هذه الجدران العالية ، لدليل على قوة عظيمة لمحمد ، مثال القيادة ورمز السياسة )) .

الإصلاح الديني من الوثنية إلى الوحدانية

غير أن النقطة الهامة التي يقف عندها معظم الباحثين هي دور الرسول  في تحقيق نقلة نوعية من تاريخ العرب والشعوب التي دخلت فيما بعد الحظيرة الإسلامية ، هي في نقلها من الوثنية إلى الوحدانية ...

إ ذا كان الرسول يحمل في نضاله ورسالته برنامجاً ثورياً إصلاحياً للمجتمع ، أبرزه كمصلح ، فإن إصلاحه هذا قد امتد حتى كل جوانب الحياة جميعاً : دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصاديا ، فقام بتنظيم المجتمع على قاعدة المساواة والعدل وفي ظل الحرية الفكرية والدينية والسماحة بين الشعوب ، كل ذلك في إطار أخوة إسلامية عريقة بإنسانيتها كريمة بمثلها .

الإصلاح الديني انطلاقاً من أن الإسلام دين ودولة

وهنا لا بد أن نقف عند حدود جانب الإصلاح الديني ، بما يحمله الإسلام كدين وعقيدة ، من فعالية للتغيير إلى الأفضل والأسمى . . فعملياً كانت تلك النقلة الثورية العظيمة في مضامينها بانتقال مجتمع الجزيرة العربية من الشرك إلى الإيمان ، في مجتمع الأخوة الإسلامية ، يقول الكاتب الروسي ليون تولستوي في كتابه : « الإنسان والحياة » :

(( إن محمداً نبي الإسلام الذي آمن به الآن أكثر من مئتي مليون نفس ، قد قام بعمل جليل ، فإنه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهلية وسفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية إلى معرفة الإله الواحد ، وأنار أبصارهم بنور الأيمان ، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله سبحانه ، والحق الذي لا مراء فيه ، أن محمداً قام بعمل عظيم وانقلاب كبير في العالم )) .

الوحدانية جوهر الإسلام

بينما يرى المفكر ميسمر أن الدور العظيم الذي اضطلع به الرسول  ، هو إسقاط الضلالات التي كان العرب يؤمنون بها إلى اقتراب من الحقائق الأزلية فكان أن انتصر جوهر الدين الإسلامي الذي هو الوحدانية ، يقول ميسمر :

(( وعند الفلاسفة المحققين أن الرجال أولي العظمة الذين تبقى أعمالهم على مدى الدهر ، هم من أهل النباهة الكبرى الذين يجيئون لإصلاح العالم ، وشفاء عصرهم من مرضه ، وما فعله محمد هو أنه لما رأى ضلال الناس في معرفة الخليقة ، عزم على إرشادها ، وتطبيق قوانين الطبيعة على أمور العالم ، بقدر ما كان معروفاً في ذلك الوقت ، لذلك أعلن الوحدة الإلهية ، بدلاً من الخرافات التي مقتضاها تثليث إله ، وجعله مركباً من الأب والابن وروح القدس ، فالوحدانية هي أساس دين الإسلام وسبب نصرة محمد )) .

من الوثنية الصماء إلى الوحدانية المتنورة

أما المفكر الأيرلندي الكبير برنارد شو ، فقد أكبر عظمة الرسول الدينية ، في تلك النقلة الجبارة التي حققها طفرة من الوثنية الصماء إلى الوحدانية المتنورة ، فكتب يقول :

(( قطع محمد بعد المسيح بستمائة عام خطوة إلى الأمام ضخمة هائلة من الوثنية الصماء الموات إلى وحدانية متنورة ، بيد أنه وإن مات فاتحاً ، وتخلص بذلك من أن يكون رئيساً لغرفة تعذيب عربية ، وجد من المستحيل أن يشد قومه العرب إلى عقيدته الإلهية دون ترغيبهم وترهيبهم بوعود في النعيم للمؤمنين ، ووعيد في العذاب الأليم للأشقياء الجاحدين ، بعد انفصال أرواحهم عن أبدانهم ، كما أنه رضي أيضاً ، ولكن بعد عديد الاحتجاجات الصادقة المخلصة ، بالصفات الخارقة ، التي الصقتها به عقلية أتباعه الخرافية الصبيانية ، وهكذا فإنه يحتاج اليوم أيضاً إلى إعادة استكشافه من جديد ، والتعرف إلى طبيعته الحقيقة قبل أن يعود الإسلام كإيمان حي )) .

الرسول الشخصية الدينية الأوفر نجاحاً

وإذا كان التاريخ الإنساني يؤكد على أن المجتمعات البشرية ، قد عرفت منذ نشوئها الكثير من المصلحين الدينيين والأنبياء المرسلين ، فإن الإنجاز العظيم الذي حققه الرسول محمد  لم يبلغه أي من أولئك السابقين من الأنبياء أو اللاحقين - من المصلحين - ، وهذا ما أثار دهشة الحركة الاستشراقية ، بمختلف اتجاهاتها ، وقد جاء في الموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشر، تحت مادة "القران " ما يؤكد هذه الحقيقة ، ويقدم الدليل على النجاح المذهل الذي حققه في مجتمعه، بقولها :

((كان محمد بين شخصيات العالم الدينية جميعاً ، أوفرهم حظاً من النجاح )) .

لقد صهر الرسول  أمته المشرذمة إلى قبائل متناحرة في أمة إسلامية ، بقيت ثابتة على مدار التاريخ « مقاومة أسباب الفناء » ويتحدث الكاتب الفرنسي الكبير غوستاف لوبون عن النجاح العظيم الذي حققه الرسول ، بقوله :

(( فمما لا ريب فيه أن محمداً أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام ومنها اليهودية والنصرانية ولذلك لا ترى حداً لفضل محمد على العرب)) .

الإصلاح الإسلامي وخير الدنيا والآخرة

ويتحدث الدكتور نجيب أرمنازي ( 1819 - 1887 ) في كتابه : "الشرع الدولي في الإسلام" عن ذلك الحدث الديني العظيم بقوله :
(( كان العرب لما بعث محمد فيم على الفطرة البيضاء النقية ،لم يكدرها مكدر ، و لم يبعث برونقها عابث ، تتطلع إلى أمر عظيم ، و خطب جسيم ، قد استكنت من المواهب الشريفة و القوى الكامنة ، والعزائم الشديدة ما يسمو كالنار إلى إشاعة ذكره ، وتعرف خبره ، واستفاضت فيما روح الحياة ، وشاع في الناس نباً حادث ديني كبير، يكون عنوان تاريخ جليل - ، فقد ظهر الإسلام في عنفوان تلك البعثة ، وأصاب بدعوته شاكلة القلوب ، ودانت له العرب ، فأصلح بينهم وجمع كلمتم ، وجينئذ نفروا من البادية ، وانتشروا في أقطار الأرض ، تنقاد لهم أعنة الأمم انقياداً يشابه المعجزات ، ولما أظهر محمد دعوته قال لعشيرته الأقربين : «ما أعلم أن إنساناً في العرب جاء قومه بأفضل كما جئتكم به ، فقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة »)) .

الإصلاح الديني والمبدأ الراسخ

أما المستشرق البريطاني جون ديفولبوت ( 1832 ~ 1902 ) فيتحدث عن الإصلاحات الدينية والاجتماعية الخالدة في جزيرة العرب ، والمبدأ الراسخ الذي ما زالت الإنسانية تعمل به ، يقول :

(( هل بالامكان إنكار فضل محمد نبي العرب الذي قام بإصلاحات غريبة وعظيمة فكانت خالدة لبلاده ، فقد جعل أهلها يعبدون الله ويهجرون عبادة الأصنام (وهو الذي منع واد البنات وحرم شرب الخمر ولعب الميسر) ، وترك لأمته مبدءاً لا يزال ، وعليه يعمل الملايين من الناس)) .

ويتحدث الكاتب الإسلامي مولانا محمد على في بحثه عن صفات الرسول المميزة كمصلح ، وعن عظيم ما قام به  في تحويل المجتمع الغارق في الجهالة وضروب الفساد الديني والأخلاقي والاجتماعي ، بقوله :

(( والواقع أن أيما مصلح لم يجد قط شعبه غارقاً في الدرك الأسفل من الجهالة بقدر ما كان العرب غارقين عند ظهور الرسول . كانوا يجهلون المباديء الحقة في الدين والسياسة والحياة الاجتماعية على حد سواء . ولم يكن لديهم فن عظيم أو علم وافر يتباهون بهما ، لا ولم يكن لهم أي اتصال بسائر أجزاء العالم . وكان التماسك القومي شيئا مجهولاً لديهم ، إذ كانت كل قبيلة من قبائلهم تشكل وحدة مستقلة بينها وبين زميلاتها ما صنع الحداد . وكانت اليهودية قد بذلت قصارى جهدها لإصلاحهم ، ولكن على غير طائل . وكانت النصرانية أيضاً قد أخفقت في محاولات مسائلة. كذلك فشلت حركة الأحناف ، التي نشأت على نحو واهن ، كفشل الحركتين السابقتين ، وتلاشت من غير أن تخلف أيما أثر في المجتمع العربي . وإنما بعث الرسول الكرم لانتشال شعب كهذا الشعب الضائع من وهدة الجهالة . فما هي غير سنوات معدودات حتى محا جميع ضروب الفساد الديني والأخلاقي والاجتماعي الراسخة الأصول في بلاد العرب ، و حتى خلق تربة تلك الديار - إذا جاز التعبير - خلقاً آخر . لقد حل أصفى شكل من أشكال الوحدانية محل صنوف الخرافات واشكال الوثنية المنحطة . فإذا بأبناء الصحراء نصف البرابرة أنفسهم يفعمون بحمية جديدة لقضية الحق إفعاماً حملهم إلى أقاصي العالم ليؤدوا رسالة الله . وفي ما يتصل بعبادة الخالق ، بزوا أعظيم الزهاد والنساك ، من غير أن يرفضوا العالم أو يتخلوا عنه . فما إن يطرق الأذان مسامعهم في غمرة من حياتهم اليومية الناشطة ، حتى يطرحوا همومهم الدنيوية ويسجدوا خاشعين للرب . وكانوا ينفقون معظم لياليهم في عبادة الله . وهكذا فقد كانوا ، برغم وجودهم في هذا العالم ، منفصلين عن هذا العالم . وبالتالي فإن صلواتهم كان يلازمها دائماً إيمان حي لم يعرفه أيما ناسك معتزل في صومعته البتة )) .

صلاحية الإسلام لكل الأمم

وانطلاقاً مما حققه الإسلام من إصلاح في المجتمع العربي في تلك النقلة التاريخية الرائعة، يرى المستشرق الإيطالي ميخائيل إيمارى في كتابه « تاريخ المسلمين » أن الإسلام بفضل كماله صالح لكل الأمم :

(( لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكون ديناً لكل الأمم لأنه دين كمال ورقي ، دين دعة و ثقافة ، دين رعاية وعناية ، ولا يسعنا أن ننقصه ، وحسب محمد ثناء عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته )) .

عالمية الرسالة الإسلامية

أن الرسالة التي حملها النبي محمد ، لم تكن مطلقاً لشعب بذاته دون غيره ، أو لجنس دون سواه ، بل كانت رسالة عالمية . . . والرسول الكريم الذي بعثه الله كمصلح ، ما انفك يناضل في الجزيرة العربية ، حتى عم فضل الرسالة التي حملها فشمل الإنسانية جمعاء ، وهذا ما ميزه عن سائر أصحاب الرسالات السابقة ، يقول مولانا محمد على :

(( والنقطة الثانية التي تميز محمداً من سائر المصلحين الروحيين العظام وأنبياء العالم تتصل بعالمية رسالته . فقد حمل كل نبي رسالة كل من أولئك الأنبياء مقصورة على شعب بعنه . فقد حمل كل نبي رسالة النور والهداية إلى أمه مخصوصة أو بلد مخصوص . وليس من ريب في أن تطهير النفس البشرية كانت هي رسالة كل منهم ، ولكن هذه الرسالة كانت محدودة دائماً . آما رسالة محمد فكانت كونيه ، ونوره كان عالمياً ، ونطاق مشاركته الوجدانية كان يستغرق البشرية كلها . مال تعالى : و ما أرسلناك إلا رحمه للعالمين  (21/107) وقال :  وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً و نذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون  ( 34/28) وقال :  تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً  ( 52/ 1 ) وقال :  قل يا أيها الناس إني رسول إليكم جميعاً  ( 7/158) ، والواقع أن هذه الآيات لا تعدو أن تكون قلاً من كثر نص فيها القرآن الكرم على أن الرسول قد بعث للنهوض بالجنس البشرى كله . وفوق هذا ، فإن القرآن الكريم يتحدث عن نفسه فيقول :  وما تسألهم عليه من أجر ، إن هو إلا ذكر للعالمين  ( 12/104 ) .

لقد أتى على الإنسانية حين من الدهر كانت مجزأة فيه إلى عدة « مقصورات » كتيمة ، إذا جاز التعبير . كانت كل أمة منكمشة على نفسها ضمن تخوم وطنها ، منعزلة كل الانعزال عن سائر الأمم . كانت وسائل المواصلات محدودة . وطبيعي أن لا يتوقع المرء في مثل هذه الأحوال اتساعاً في العقلية كبيراً . فقد كان استشراف كل أمة مقصورا على بيئتها المباشرة ، فهي تحسب نفسها الكل في الكل . وهكذا لم يكن في مستطاع الحكمة الإلهية إلا أن تبعث إلى كل أمة بنبي مستقل كيفت رسالته وفق حاجاتها وأحوالها الخاصة . ولقد أدى هؤلاء الأنبياء المختلفون مهمتهم الخصوصية : أعني إحياء أمة بعينها . ولكن طاقتهم الروحية كانت ، مثل حقل رسالتهم ، محدودة النطاق . فكانت الشعلة تتوهج فترة من الزمان ثم تخبو شيئاً بعد شيء ، حتى انطفأت آخر الأمر انطفاء كاملاً . وعندئذ كانت الحاجة تنشاً إلى مصلح روحي ينير العصر المظلم . ومن ثم إلى بعثة نبوية إثر بعثة نبوية. ولكن بينا حققت العناية الإلهية مصلحة الإنسان الروحية ، باختيارها الرسل حيناً بعد حين من بين مختلف الأمم ، أدى ذلك إلى نشوء انطباعية شديدة الأذى ، فقد شرعت كل أمة ، لجهلها بما أغدق الله على الأمم الأخرى من أفضال مماثلة ، تعتقد أنها هي شعب الله المختار . وهذا ما غذى الفكرة الضارة القائلة بالمحاباة الإلهية ، وما رافق ذلك من شرور ملازمة . ولتقوم هذا الشعور بالتمييز العنصري ، وإزالة الأحقاد التي خلقتها التخوم الجغرافية والاجتماعية وبعض الحواجز المصطنعة ، ولصهر الإنسانية في كل واحد متراص ، شاءت الحكمة الإلهية أن تبعث نبياً عالمياً ذا رسالة إلى الجنس البشري كله ، نبياً لا تتخطى قوته الروحية كل تخم فحسب ، بل تحتفظ فوق ذلك بفعاليتها إلى آخر الدهر أيضاً . وهكذا ها إن تمت سلسلة الأنبياء المليين بظهور حلقتها الأخيرة ، يسوع ، الذي أرسل - ونحن نستعمل هنا كلماته نفسها - « إلى خراف الإسرائيليين الضالة » حتى آن الأوان لأن تشرق شمس الروحانية على الأفق الديني لتضيء ، العالم كله . وهكذا ظهر الرسول الذي كان « رحمة للعالمين » « وحرر الإنسانية من أصفاد الجهل والخرافة والفساد . وإنما كان الأنبياء السابقون أشبه بمصابيح إلهية كثيرة ذات ضياء يكفي هذه الحجرة أو تلك ، ومن هنا مست الحاجة إلى مصابيح مختلفة تطابق مختلف المناطق الجغرافية والقومية . لقد سفحت نورها حولها ، فإذا بكل ما هو واقع ضمن نطاقها مشرق، متألق . ولكن ما إن بزغت الشمس من رمال بلاد العرب حتى أمست البشرية في غير حاجة إلى تلك المصابيح . ولكن ضياء الشمس لا يمكن أن يحل محله أيما ضياء آخر ، وهو كاف لإنارة العالم إلى يوم يبعثون )) .

إنسان فوق البشر و نبي من أنبياء الله

إن الروح الكفاحية للرسول  نضاله الدؤوب في نشر الدعوة الإسلامية جعلته رغم بساطته المتناهية في سيرته وسلوكه وأخلاقه ومناقبه ، إنساناً خارق المقدرة فوق مستوى البشر،.. لقد تناول المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار هذه القضية ، حين بحث إقامة الدولة الإسلامية الأولى بمجتمعها الجنين في المدينة ، وكيف تمكن من انتزع اعتراف خصومه بالجماعة الإسلامية عن طريق المعاهدات ، وكيف حقق النصر كنبي ملهم ورجل عسكري فذ ، فيقول :

(( وإذا تذكرنا أخيراً على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يمتع به زعيم من زعماء العرب ، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها ، استطعنا أن نستخلص أنه لا بد أن يكون محمد الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير به إنساناً فوق مستوى البشر حقاً ، وأنه لابد أن يكون نبياً حقيقياً من أنبياء الله )) .

الرسول والحرية الدينية

لقد خاض الرسول حروباً عسكرية عديدة ، ولكن كان في جميعها مدافعاً ، ولم يلجاً إلى السيف إلاً حين فرض عليه . . ومن ثم دخل المسلمون في دين الله أفواجاً دونما فرض أو إكراه ، وعن هذه النقطة يتحدث المستشرق الهولندي راينهارت دوزى ( 1820- 1884 ) ، في مقدمة كتابه : "ملحق و تكملة القواميس العربية " :

(( أن ظاهرة دين محمد تبدو لأول وهلة لغزاً غربياً لاسيما متى علمنا أن هذا الدين الجديد لم يفرض فرضاً على أحد )) .

الحرية الدينية و الإخاء

لقد أثارت مباديء الحرية الدينية في الإسلام فيما أثارته احترام المستشرقين المنصفين وكذلك الباحثين العرب المسيحيين الذين قدروا الأخوة المسيحية الإسلامية حق قدرها ، وتطرق الأستاذ يوسف نعيي عرافة في خطبة له في عيد المولد النبوي عام 1346هـ 1927 م إلى معاهدة الرسول مع أصحاب الديانات الأخرى ، لاسيما المسيحيين منهم ، فيقول :

(( إن محمداً هو باني أساس المحبة والإخاء بيننا ، فقد كان يحب المسيحيين ويحميهم ، من ذلك ما قام به في السنة السادسة بعد الهجرة ، حيث عاهد الرهبان خاصة والمسيحيين عامة ، على أن يدفع عنهم الأذى ، ويحمي كنائسهم وعلى أن لا يتعدى على أحد من أساقفتهم ولا يجبر أحداً على ترك دينه ، وان يمدوا بالمساعدة لإصلاح دينهم وأديرتهم ، كما أن القرآن نطق بمحبة المسيحيين للمسلمين وبودتهم لهم ، وإن الآية الشريفة :  و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون  ، لتبعث على شد أواصر الصداقة بين الطرفين ، بل حتى مع الشعب الإسرائيلي في أكثر الأوقات ، إننا لنعلم أن ما أتى به الرسل موسى وعيسى ومحمد ما هو إلا لإصلاح العالم لا لإفساده وخرابه ، وما الكتب الثلاثة المنزلة إلا نور صادر من بؤرة واحدة ينعكس نورها في ثلاثة أشعة ، كل منها للبشر)) .

عظمة الرسول و جلال نبوته

إن من معالم عظمة الرسول الدينية ، أن الرسالة التي دعا إليها وناضل في سبيل وضع أسسها في مجتمع وثني متناحر ، غدا وحدة إيمانية صلبة ، ولم تبق رسالة الإسلام للعرب وحدهم بل هي عالمية بظهور العالم الإسلامي وأمة الإسلام ، فكان  حسب قول الباحث بوسورث اسمث في كتابه : " حياة محمد " :

((مؤسس أمة ومملكة وهداية ، وهذا أمر لا مثيل له ، وهو الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة )) .

أما القس الفرنسي لوازون ، فيتحدث عن جلال الرسول وعظمته الدينية بروح من الإنصاف والتجرد:

(( محمد - بلا التباس ولا نكران - من النبيين والصديقين وهو رسول الله ، بل إنه نبي عظيم جليل القدر والشأن أمكنه بإرادة الله تكوين الملة الإسلامية وإخراجها إلى الوجود بما صار أهلها ينيفون على الثلثمائة مليون من النفوس ، وداسوا بخيولهم سلطنة الرومان ، وبرماحهم قطعوا دابر أهل الضلال إلى أن صارت ترتعد من ذكرهم فرائص الشرق والغرب)) .

عبقرية النبي و استمرارية الرسالة

ويبقى في أساس معايير عظمة رجالات التاريخ استمرارية الرسالات التي حملوها للإنسانية جمعاء ، لأن الاستمرار والبقاء دلالة صلاحيتها لكل زمان ومكان ، فكيف إذا اتصل الأمر برسالات السماء وحملتها من الأنبياء البررة :

يقول المؤرخ البريطاني فتلي ( 1815 _1890) في مقدمة كتابه :

(( قد ينحرف المؤرخ عن موضوعه ليتأمل حياة رجل نال سلطة خارقة على عقول أتباعه وعماله ووضعت عبقريته نظاماً أساسياً دينيا سامياً سياسياً ، وما زال يحكم الملايين من البشر من أجناس مختلفة وصفات متباينة ، وان نجاح محمد كمشرع بين أقدم الأمم الآسيوية ، وثبات نظمه على مدى أجيال طويلة ، في كل نواحي الهيكل الاجتماعي ، دليل على أن ذلك الرجل الحاذق قد كونه مزيج نادر من الكفاءات )) .

خادم الله والإنسانية
إن مسيرة الرسول ، الكفاحية ونضاله المرير لنشر رسالة الإسلام قد أدت إلى نتيجتين هامتين أولاها : خدمة وحدانية الله بإسقاط الوثنية ، ومن ثم خدمة الإنسانية كنتيجة منطقية بانتشار رسالة الإسلام بين الشعوب العربية والإسلامية من جهة ، ولكونها رسالة عالمية من جهة أخرى ( راجع بحث : عالمية الرسالة الإسلامية ) فكان أن عم خيرها البشرية جمعاء ، وقدمت الحلول المنطقية لخلاص الأمم من مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والروحية . . . ويؤكد القس دافيد بنجامين كلدانى ( الذي عرف باسم عبد الأحد داود بعد اعتناقه الإسلام ) في مؤلفه : " محمد في الكتاب المقدس " هذه الحقيقة بأن الرسول خادم الله والإنسانية بقوله :

(( أن الخدمة الجليلة العظيمة المدهشة التي قدمها محمد  لله ، ولصالح البشر ، لم يقدمها أي مخلوق من عباد الله ملكاً كان أو نبياً ، خدمته لله فإنه اقلع جذور الوثنية من جزء كبير من الأرض ، وأما خدمته للإنسان فقد قدم له أكمل دين وأفضل شريعة لإرشاده وأمنه )).

ويتابع عبد الأحد داود القول :
(( أقام دين الإسلام الذي وحد في أخوة حقيقية ، جميع الأمم والشعوب التي لا تشرك بالله شيئاً . إن جميع الشعوب الإسلامية تطيع رسول الله وتحبه تحترمه ؟ لأنه مؤسس دعائم دينها ، ولكنها لا تعبده أبداً ولا ترفعه إلى مقام التقديس والتأليه )) .

أن عالمية الرسالة الإسلامية وإنسانيتها قل جعلت من النبي محمد ، رسول البشرية جمعاء وزعيم مريدي الخير للإنسانية ، وذلك كما يرى المستشرق السويسري ماكس فان برشم ( 1863 _ 1921 ) بمعرض حديثه عن دوره التاريخي العظيم في حياة العرب والشعوب التي دخلت في الإسلام ، فارتقت من وهاد الضلالة إلى معارج النور والحضارة ، يقول في كتابه : « العرب في آسية » :

(( إن محمداً نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية ، وإن ظهور محمد للعالم أجمع إنما هو أثر عقل عال ، وإن افتخرت آسية بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم ، إن من الظلم الفادح ، أن نغمط حق محمد الذي جاء من بلاد العرب وإليهم ، وهم على ما علمناه من الحقد البغيض قبل بعثه ، ثم كيف تبدلت أحوالهم الأخلاقية والاجتماعية والدينية بعد إعلانه النبوة ، وبالجملة مهما ازداد المرء إطلاعاً على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مستوى الإنسان ، إنه لا يجوز أن ينسب إلى محمد ما ينقصه ، ويدرك أسباب إعجاب الملايين بهذا الرجل ويعلم سبب محبتهم إياه و تعظيمهم له )) .

و تلخص الموسوعة البريطانية السيرة الكفاحية لحياة الرسول محمد  واجتهاده في رفع راية التوحيد وعظمته عرياً وإسلاميا وعالمياً فقول :
((إن محمداً اجتهد في الله وفي نجاة أمته ، وبالأصح اجتهد في سبيل الإنسانية جمعاء )) .

الفصل الثالث
محمد و القيادة السياسية

كان الرسول عليه السلام إلى جانب ميزاته المتعددة الجوانب قائداً سياسياً عظيماً ورجل دولة فذاً ، في أمة تأخذ طريقها في البناء ، بعد حركة هدم ، والتوحد بعد تجزئه و تفرقة . . إنها مرحلة انعطاف تاريخي كبير ، ليس في إطار شبه جزيرة العرب فحسب ، بل انعطاف في حياة الشعوب والأمم ، فمرحلة عظيمة كهذه تحتاج إلى قيادة سياسية عظيمة هي بحجم هذا التحول الكبير . . .

القائد والمشرع

لقد تجلت قيادته السياسية مع بدء مرحلة التاريخ الإسلامي أي مع الهجرة إلى المدينة ، وقيام الدولة العربية الإسلامية الأولى ، فكان عليه السلام القائد والحاكم والشرع يضع خطط البناء الداخلي ، والمجابهة مع العدو الخارجي ، بتزامن غاية في الدقة والتنظيم :

يقول هارون ماركوس ( 1812-1887 ) :

(( كان محمد زعيماً سياسياً بأسمى معاني الزعامة السياسية منى معني وسيادة ، هذه كانت تتجلى في أروع المظاهر التي عرفها بنى الإنسان ، وخليق بي وأنا في صدر الكلام من الزعامة السياسية أن أدحض فرية وأرد بهتاناً ، لا يزالان عالقين في أذهان قاصري العقول ، الذين لا يملكون ذرة من حصافة الرأي ، و تلك الفرية وذلك البهتان هما ما يردده أولئك الأغبياء ، الذين يزعمون أن لا علاقة بين الدين والسياسة ، وأن لاً رابطة تربط أحدها بالآخر . إن من الخطأ أن يظن ظان هذا )) .

حكمة وبعد نظر
لقد تجلت عبقرية محمد  السياسية في بعد نظره وحكمته في حل المسائل العالقة والشائكة ، وكان يخفي سرها حتى على أقرب المقربين إليه ، حيث يذهب بعضهم إلى معارضته ومحاولة ثنيه عما عزم عليه ... من ثم يدكون بعد حين سداد رأيه وبعد نظره وليس أدل على ذلك من الميثاق الذي عقده مع قريش وعرف فيما بعد باسم « عهد الحديبية » ، الذي ظهر في بادىء الأمر وكأنه يجري لصاح قريش، ومجحف بحق المسلمين ، لكن ما لبثت أن ظهرت خطورة هذا العهد على مشركي قريش أنفسهم فتوسلوا إلى الرسول بصلة الرحم أن يتجاوز ذلك البند الذي كان في الظاهر يجري لصالحهم : إعادة من لجأ إليه هرباً من براثنهم ، ولم يجبهم إلى ذلك إلا بعد أن خطياً).

سداد السياسي العاقل و نورانية النبي الصادق

إن دارس سيرة الرسول  في مختلف أدوار حياته منذ أن صدع بالرسالة ، ودوره العظيم في تبديل واقع الجزيرة العربية المجزأة وتوحيد القبائل العربية ، وإعلاء اسم الله في معقل الوثنية ، قد دللت على بعد النظر لديه وسداد الرأي ، يقول المستشرق الأسوجي كازانوفا ( 1937 - 1903 ) في مؤلفه : "حضارة الشرق " :

(( إن التعقل ونضوج الفكر اللذين دل عليهما ، إذ أظهر الآيات الأولى الموحاة إليه ، وحن سياسته في توحيد القبائل العربية رغم الخرافات المتأصلة ، وفي تمييز ما ينبغي الإبقاء عليه من تقاليدها القديمة ، كلها أدلة على أنه كان له في الأمور نظر سديد ، كان يرى الغاية ويسعى إليها بغريزة السياسي العاقل ، ونورانية النبي الصادق على السواء )) .

رجل فكر وحكم وسلم وحرب

إن دراسة الجوانب السياسية في حياة الرسول ونمط تفكيره ، تقودنا إلى أنه كان إنساناً عميق التفكير ، قبل مبعثه وفي مرحلة نشر الدعوة الإسلامية في مكة ، ومن ثم في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية الأولى ، وكان دائماً يجنح للسلم إن هيئت له أسباب إقامة السلام في ربوع أرض العرب .

يقول المفكر البلجيكي هنري ماسيه ( 1820 - 1886 ) في كتابه :

(( إذا بحثنا عن محمد إجمالياً نجده ذا مزاج عصبي و فكر دائم التفكير ونفس باطنها حزن ، وأما مداركه فهي تمثل شخصاً يعتقد بإله واحد ، وبوجود حياة أخرى ، ويتصف بالرحمة الخالصة ، والحزم في الرأي والاعتقاد ، ويضاف إليه أنه رجل حكومة ، وأحياناً رجل سياسة وحرب ، ولكنه لم يكن ثائراً بل كان مسالماً )) .

الكفاءة العظيمة والقيادة الفذة

وكان الرسول  الحاكم ، متميزاً حسب اعتراف المستشرقين بالكفاءة العظيمة والقيادة السياسية الفذة . . . وكانت صفته القيادية بارزة طاغية على سجاياه الأخرى ، يقول المستشرق الإيطالي البنس كايتان في كتابه : « أديان العرب » :

(( أن مزية محمد هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه ، وليس في وسع أحد فهم محمداً أن يحط من كرامته ، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه وظلم محمداً )) .

محمد الحاكم العادل والإداري البارع

وتجلت عبقرية الرسول فيما تجلت به بأنه رجل حكم وإدارة من الطراز الرفيع يحسن تدبير شؤون الرعية ، بعيداً عن الأهواء ، تحركه دائماً سجيتان في ذاته هما العدل والرحمة ، يقودها عقل راجح يضع الأمور في نصابها . . .

فالإنسان ، النبي والإمام والحاكم، كان يرعى شؤون العامة ويصر على حسن تطبيق العدل على الجميع ، يقول المستشرق الألماني برتلمي سانت هيليار في كتابه : « الشرقيون وعقائدهم » :

((كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته ، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها ، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد ، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه وإن في شخصيته صفتين هما من أجل الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة )) .

ولقد تحدث المفكر عبد الرحمن عزام في كتابه : « بطل الأبطال » عن الرسول الحاكم وحسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور فقال :
(( صفة عظمى من صفات الرسول  وهي مثل لرجال الدولة والسياسة والقادة في جميع ميادين الإصلاح . لعلهم كذلك واجدون فيما ما يمكنهم من النجاح ، فإن محمداً بما أوتي من الأخلاق ، وما وهب من حسن السياسة ، و تصريف الأمور ، ووضعها في نصابها ، قد أوتي النجاح الذي لم يؤته أحد قبله ولا بعده .

هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد مثلاً عالياً لرجل الدولة ، وسترون بها ميزة على من سبقه من الأنبياء والرسل والأبطال ، ولقد كانت أكثر وضوحاً في المدينة حيث استلزمت الأحوال أن يكون نبي الأمة وزعيمها وقائدها ، وحيث أخذ التشريع الإسلامي يتناول الحياة السياسية والاجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة ، حين كانت الدعوة لا تزال في بدايتها ، متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بالله ، وإنذارهم حسابه وعقابه ، ذلك الفرق بين مظهري الدعوة في بيئتين مختلفتين ، جعل بعض كتاب الملل الأخرى يحاولون أن يصوروا محمداً في شخصيتين مكي ومدني يقولون هذا نبي ، وهذا رجل دولة وصاحب سلطان )) .

ويتحدث الباحث الإنكليزي مونتجمري وات في كتابه « محمد في المدينة » عن عظمة الرسول ومواهبه التي امتاز بها ، وكانت وراء نجاحه وإنجازاته الكبيرة ، فهو إلى جانب موهبته لرؤية المستقبل وإدراكه الواقع الاجتماعي ، ذو ميزتين اثنتين هما : كونه رجل دولة حكيماً وإدارياً بارعاً ، يقول :

(( وكان محمد  رجل دولة حكيماً . ولم يكن هدف البناء الأساسي الذي نجده في القرآن الكريم سوى دعم التدابير السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية . ولقد ألححنا خلال هذا الكتاب غالباً على استراتيجية محمد السياسية البعيدة النظر وعلى إصلاحاته الاجتماعية . ولقد دل على بعد نظره في هذه المسائل الانتشار السريع الذي جعل من دولته الصغيرة إمبراطورية ، وتطبيق المؤسسات الاجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلال أكثر من ثلاثة عشر قرناً .

وكان محمد  رجل إدارة بارعاً . فكان ذا بصيرة رائعة في اختيار الرجال الذين يندبهم للمسائل الإدارية ، إذ لن يكون للمؤسسات المتينة والسياسة الحكيمة أثر إذا كان التطبيق خاطئاً متردداً . وكانت الدولة التي أسسها محمد ، أصبحت عند وفاته ، مؤسسة مزدهرة تستطيع الصمود في وجه الصدمة التي أحدثها غياب مؤسسها ، ثم إذا بها بعد فترة تتلاءم مع الوضع الجديد وتتسع بسرعة خارقة اتساعاً رائعاً )) .

القيادة والتشريع بين مكة والمدينة

هذا ، وكان للاختلاف بطبيعة واقع الحال بين مكة قبل الهجرة وفي المدينة بعدها ، أن ذهب بعض المستشرقين إلى القول بأن محمداً  كان نبياً في مكة وقائداً سياسياً ومشرعاً ورجل دولة في المدينة ، وهذا ما دفع المستشرق الفرنسي بوازار إلى عرض هذه الفكرة ومناقشتها ، بقوله :

(( وكثيرا ما يذاع أن محمداً بين في المرحلة الأولى من دعوته أفكار الإسلام العقيديه الأساسية ، ثم بسط في زمن لاحق طرق العبادة و إقامة الشعائر ، والتشريع الاجتماعي والجزائي ، وجماع الشريعة القرآنية التي قام عليا الإسلام في أوائل عهده . وبعد أن كانت دعوته عربية بشكل أساسي في مكة ، غدت عالمية الطابع في المدينة . وقد أكد النقد التاريخي هذا التكهن بصورة جزئية على صعيد تسلسل الأحداث بمفهومه الدقيق غير أن المسلم يعلل الوقائع بشكل مغاير . فليس للتنزيل بالفعل في نظره مظهران ، مظهر ديني وآخر اجتماعي سياسي . بل هو يتمثله على العكس من ذلك كلا مقدماً بشكله الإجمالي. واعتمد الإسلام في أول أمره الأناة والإقناع ، وما كان للمرحلة التشريعية أن تتحقق إلا حين تكون جنين مجتمع تضامني ، وعليه يكون هذا المجتمع قد ظهر منطقياً في مرحلة تالية على مرحلة التبشير بالحياة الأخرى . وفي مكة بداً الإسلام بإعداد الأفراد - المسلمين الأوائل - الذين كانوا بحاجة ، وهم بعد أقلية مضطهدة ، إلى خلق لا إلى تشريع اجتماعي ما كانوا ليستطيعوا أن يطبقوه . وفيما بعد أقام الإسلام بالمدينة من الأفراد الذين سبق إعدادهم عن طريق الدين مجتمعاً قائماً على المساواة والتعاون و بادل المنافع ومزوداً نظم أوحى بها من الله أو مستلهمة من نور هدايته . ولا يقلل هذا التسلسل الزمني للأحداث الذي يرسم مسار ولادة المجتمع الإسلامي من طابع الدين الشمولي ، بل هو على العكس يعظم من شأنه )) .

وقد ناقش الباحث العربي الإسلامي عبد الرحمن عزام بعض آراء المستشرقين ، ممن رأوا في الرسول نبياً في مكة ، ورجل دولة في المدينة بقوله :

(( لو أن الذين يظنون هذا الظن كانوا بعيدي النظر لرأوا محمداً الواعظ في مكة ، هو محمداً الناسك في المدينة ، الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي الله ، والذي يموت وهو رأس الدولة ، ودرعه مرهونة عند يهودي .

بل لرأوا محمداً الذي يشيعه العبيد والصبية والسوقة في الطائف بالسخرية والحجارة ويقيمونه إذا جلس من الإعياء فيدعو الله لهم بالهداية هو محمداً الذي يناول مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة يوم الفتح ويقول : اليوم يوم بر ووفاء .

لو أن هؤلاء الذين جعلوه نبياً في مكة ، ورجل دولة في المدينة لاحظوا كيف وضعت نواة الدولة في أيام المحنة ، لما حسبوها من غرس يثرب بل علموا أنها نتيجة محتومة للصراع العنيف ، الذي دام ثلاث عشرة سنة ، ونتاج للدعوة من وقت أن قال الله عز وجل :  فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين  .

فذات الرسول التي وقفت في وجه المشركين ثلاثة عشر عاماً بمكة لا تعجز ، ولا تهن ، ولا تيأس ، هي ذاته التي فاضت في المدينة على شؤون الدنيا فدلت على ما فيها من الحيوية والقوى التي جعلتها أهلاً للتغلب على كل معضلة في وقتها ومناسبتها . تلك القوى والصفات التي لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده ، جعلته من أية ناحية نظرت إليه كاملا وأسوة حسنة ، بل من مجموع هذه القوى والصفات يبرز للناس رسول الله سواء كان في أيام الدعوة المجردة عن السلطة ، أم في أيام الدعوة المصحوبة بالرياسة الزمنية ، ذاتاً موفقة ناجحة ، انصرفت إلى الله بكليتها فجعلته أمامها ، ووضعت ما عداه وراءها ، هو في كلتا القريتين الناسك العابد ، الباكي بين يدي خالقه ، وهو فيهما الزاهد ، يعرض عليه أصحابه أن يوطئوا له فراشاً ، فيقول : « مالي وللدنيا ، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح و تركها . .» لم يغره السلطان بشيء من المظاهر ، ولا خرج به عن التواضع والتياسر .

فأي تنافر يجد النقاد في حياة الرسول ، ليجعلوا من شخصه شخصين وهو يكافح في مكة ولا سلطان له ، ويجاهد في المدينة على رأس الدولة التي خلقها؟ لقد كان همه فيهما جمعياً إلى اللحظة الأخيرة ، نشر دينه ، وغايته بسط سيادة الإسلام على الشرك .

وأي تناقض يجد نقاده بين حياته في مكة ، وحياته في المدينة ، وهو في الأولى يتوسل بالصبر على الأذى والسخرية ، ويتقى بعرف الجاهلية الموت مع أنه لا يقر ذلك العرف ، ويسعى لهدمه ، ويرسل المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة ، ويجادل على دينه ، ويدعو إليه ، ويخرج من كل كارثة برأي صائب ، ويعد لكل حالة تدبيرا محكماً . وفي الثانية يتخذ من نصرة أهلها تكأة ، فيعاهد اليهود والمشركين ، ويتقي الموت بدرع الدولة التي نظمها وينجو من ( الأحزاب ) بحسن الرأي ، ويغلب المصائب بموفق التدبير؟

ثلاث عشرة سنة قضاها في فم السد ، دون أن يستطيع الأسد أن يطبق عليه أنيابه ، وعشر سنين في المدينة يحاول فيها الأسد أن يمسك بالفريسة ، وفي هذه وتلك يبدي رسول الله من حسن الرأي ، وبارع السياسة والصبر ، وسعة الصدر والتدبير ما يوقع الأسد في شبكت الفريسة ، فإذا ما انتهى إلى النصر الحاسم المعجز ، وبهت الذين كفروا « قالوا : لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشاً ، لكان النبي الخالص من الشوائب . . لو أن الذين يأخذون على محمد أنه لم يقتصر على حياة الوعظ ، وظنوا أن أكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل ، ففكروا في مصير الدعوة نفسها ، لشاركونا في الإعجاب به مرشداً وواعظاً ، ومنظماً وفاتحاً )) .

الرسول ومجتمع الحرية والعدالة والمساواة

لقد أقام الرسول كقائد سياسي، مجتمع الحرية والمساواة ، بما ينسجم وروح الرسالة الإسلامية. . .

الرسول و مباديء الحرمة الفكرية

طبيعي أن تكون مباديء الحرية في المجتمع الإسلامي لا تنفصم عراها عن مباديء الحرية الدينية التي وقفنا عندها في بحث "محمد والقيادة الدينية " ، فالحرية الفكرية هنا هي حرية الاعتقاد أولاً ، ومن ثم الإيمان بحرية الإنسان ومحاربة العبودية . . .

ولقد رأى الباحث الأسباني العلامة سان اليار في مؤلفه : « تعاليم اللغة العربية » أن مباديء الحرية الفكرية التي دعا إليها الرسول محمد  تجاوزت أفكار الكثير من المفكرين والمصلحين ، بقوله :

(( إن أوضح مباديء الحرية الفكرية قد كشفت أمثال - لوثير وكالفين - وعاد الفضل فيها إلى رجل عربي من رجال القرن السابع ، ذلك هو صاحب شريعة الإسلام )) .

الحرية الإنسانية

وكان الإسلام دعوة لحرية الإنسان ، والقضاء على العبودية ، فأنزل الحرية الإنسانية أعلى عليين ، ولذا رأيناه عليه السلام يول عناية خاصة لتحرير الأرقاء ، عن طريق إلغاء مصادر الرق أولاً ، و تشجيع المؤمنين على تحرر عبيدهم ، انطلاقاً من قاعدة أن من أعتق عبداً أعتق الله له بكل عضو عضواً من أعضائه من عذاب النار .

وكان الرسول في مجتمعه الإسلامي إماماً في إقرار مبدأ تحرير العبيد ، حتى أن أسرى الحرب لم يعتبرهم عبيدا ، وسمح لهم بدفع الفدية أو تعليم أبناء المسلمين لفك إسارهم.

هذا ، وستكون لنا وقفة خاصة لدراسة الحرية في الرسالة الإسلامية .

الرسول وإقامة العدالة والمساواة

كان الرسول  كقائد سياسي ورجل حكم وإدارة بالغ الحرص على تطبيق المساواة على الجميع ، خاصة وقد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين ، يقول مولانا محمد علي :

(( وفي إقامة العدالة كان الرسول منصفاً حتى التوسوس . كان المسلمون وغير المسلمين ، والأصدقاء والأعداء ، كلهم سواء في نظره . وحتى قبل أن يبعث إلى الناس كانت أمانته وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام ، وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم فيما . وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكماً في منازعاتهم كلها . وعلى الرغم من حقد اليهود العميق الجذور على الإسلام فإن الرسول حكم - عندما عرض عليه ذات مرة نزاع بين يهودي ومسلم - لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر ، بذلك ، من الإسلام بل ربما بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفر بذلك من الإسلام . ولا حاجة بنا إلى تبيان أهمية خسارة كهذه بالنسبة إلى الإسلام في أيام ضعفه ومحنته تلك ، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى بيان . و باختصار ، فقد كان تجسيداً للآية القرآنية التي تقول :  يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون  . ولقد نبه ابنته ، فاطمة ، إلى أن أعمالها وحدها سوف تشفع لها يوم القيامة . وقال أيضاً : « لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » . وفيما كان على فراش الاحتضار ، قبيل وفاته بقليل ، سأل كل من له عليه دين أن يتقاضاه ذلك الدين ، ولكل من أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه .

و في معاملاته مع الآخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة . كان يضع نفسه على قدم المساواة مع سائر الناس . وذات يوم ، وكان قد احتل في « المدينة » مقاماً أشبه بمقام الملك ، وفد عليه يهودي يقتضيه ديناً ما ، وخاطبه في جلافة وخشنونه قائلاً إن بني هاشم لا يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر . فثارت ثاثرة عمر لوقاحة اليهودي ، ولكن الرسول عنفه ذاهباً إلى أن الواجب كان يقتضي عمر أن ينصح كلاً من المدين والدائن : أن ينصح المدين - الرسول - برد الدين مع الشكر ، وأن ينصح الدائن بالمطالبة به بطريقة أليق . ثم دفع إلى اليهودي حقه وزيادة ، فتأثر هذا الأخير تأثراً عظيماً بروح العدل والإنصاف عند الرسول ، ودخل في الإسلام . وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الآجام ، حان وقت إعداد الطعام ، فمهد إلى كل امرىء في القيام بجانب من العمل ، وانصرف هو نفسه إلى جمع الوقود . لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي . وكان يراعي ، في معاملته خدمه ، مبدأ المساواة نفسه ، وقال أنس : " خدمت رسول الله  عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته لم صنعته ، ولا لشيء تركته لم تركته . « ولم يبق أيما عبد على عبوديته . فما إن يؤل إليه عبد رقيق حتى يسارع إلى إعتاقه . وطوال حياته كلها لم يضرب قط خادماً أو امرأة »)) .

القائد السياسي والحاكم الإنسان

وفي ختام بحثنا هذا ، نقف عند نقطة أثيرت في أكثرة من مبحث وهي أن الرسول  الذي كان نبياً ومشرعاً وإدارياً وقائداً عسكرياً ، ظل إنساناً بسيطاً في حياته تتسم بسائر جوانبها بطابع البساطة والنبل ، يقول الباحث جيمس متشنر عارفاً جوانب من شخصية الرسول القائد السياسي والحاكم الإنسان :

(( أن محمداً هذا الرجل الملهم ، الذي أقام الإسلام ، ولد حوالي 570 ميلادية في قبيلة عربية تعبد الأصنام ، ولد يتيماً محباً للفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى والأرقاء والمستضعفين . وقد أحدث محمد بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفى الشرق كله . فقد حطم الأصنام بيديه ، وأقام ديناً يدعو إلى الله وحده ، ورفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء ، و نادى بالعدالة الاجتماعية وقد عرض عليه في آخر أيامه أن يكون حاكماً بأمره ، أو قديساً ، ولكنه أصر على أنه ليس إلا عبداً من عباد الله أرسله إلى العالم منذراً وبشيراً )) .

الفصل الرابع
محمد الداعية و القيادة الفكرية

أن الصفة القيادية للرسول بتعدد أشكالها تتجلى بتكامل تلك الشخصية فهو إلى جانب دوره الكبير الذي لعبه في إطار سيرته الحياتية كنبي وقائد سياسي وعسكري ومصلح اجتماعي كان يبرز دائماً كرجل فكر وداعية ، إلى جانب ما وهب من الخيال والنبوغ والبحث ، يقول المستشرق الإنكليزي المؤرخ داز (1812-1907 ) في كتابه « مع الشرق والغرب » :

((أن محمداً كان مجموعة من الخيال والنبوغ والبحث : كان محمد زراعياً وطبيباً وقانونياً وقائداً ، اقرأ ما جاء في أحاديثه تعرف صدق ما أقول )) .

أجل ، أن عودة إلى دراسة السنة النبوية وكتب الأحاديث والإطلاع على مواقفه المتعددة في السيرة الرشيدة لتوضح لنا أي رجل فكر كان . . وحسبنا علماً أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم .

الرسول  مفكراً

هذا، ولقد وقفنا في دراستنا السيرة الحياتية للرسول في أكثر من محطة ، لنشير إلى ميزة التفكير في حياته ، فقد عرفناه قبل البعثة ذلك الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة ويتفكر في أسرار الحياة والكون ، فكان أن تكشفت له الحقائق معرية زيف الوثنية قبل أن ينزل عليه الوحي ، بل استطاع بعميق تفكيره أن يقترب من الحقائق الأزلية ، وأصبح مهيأ لأن يكون نبياً بعد نضجه الفكري . . فطبيعي أن من سيكون قائداً لأمة بعد إعادة خلقها من جديد ، أن يكون عبقرياً في فكره ونابغة في منهجه . . .

وكانت الجوانب الفكرية للرسول تعتبر الركيزة الأولى لعبقريته وعظمته ، بل وضعها المستشرق مونتجمري وات في مقامة معالم تلك العبقرية الخالدة ، وتميزت بكونها تجمع الحدس إلى التفكير العميق الذي يحلل الواقع ويستشرف آفاق المستقبل ، يقول . وات في كتابه : « محمد في المدينة » :

(( لقد أوتي الرسول موهبة خاصة على رؤية المستقبل فكان للعالم العربي بفضله ، أو بفضل الوحي الذي نزل عليه حسب رأي المسلمين ، أساس فكري ( إيديولوجي ) حلت به الصعوبات الاجتماعية ، وكان تكوين هذا الأساس الفكري يتطلب في الوقت نفسه حدساً ينظر في الأسباب الأساسية للاضطراب الاجتماعي في ذلك العصر ، والعبقرية الضرورية للتعبير عن هذا الحدس في صورة تستطيع إثارة العرب حتى أعمق كيانهم )) .

وإذا كانت جوانب دراسة القيادة الفكرية عند الرسول أكثر من أن نستطيع حصرها فسنقف عند نقطة هامة في شخصيته كرجل فكر داعية ، ألا وهى فصاحته عليه السلام وبلاغته ...

رجل فكر و عمل

وإذا كان الرسول رجل فكر كان في الوقت نفسه رجل عمل .. فلم يقف البتة عند حدود التفكير فقط ، بل انتقل إلى ميدان النضال في سبيل دعم النظرية بالتطبيق ، والتأكيد على وحدة فكرة الفكر والعمل ...

فالرسالة الإسلامية هي دعوة يحتاج الجاهر بها إلى النضال في سبيل نشر التعاليم ، إلى قوة الإقناع الفكري وصلابة النضال العملي توسلاً لبلوغ الغايات المرجوة . . . يقول الباحث الأسوجي المستشرق السير ماكس سايكس (1876-1927) :

((إن محمداً قد استطاع بعبقريته الفذة والتعليمات الواسعة المعنى أن يجمع التفكير إلى العمل ، فكانت مملكته من هذا العالم كان نبياً ثاقب الفكر وكان مشرعاً ، وكان حاكماً بين الناس )) .

الداعية واكتساب الأنصار

لقد نشأت رسالة الإسلام ، في جو معاد، و تطلبت روحاً كفاحية عالية ، ولهجة داعية حارة تكسب القلوب في المرحلة الأولى لنشر الدعوة الإسلامية ، تحدث إتيين دينيه في كتابه : " محمد رسول الله " ، عن الرسول الداعية الذي يكسب الأنصار بصدق لهجته وعمق نظرته ، يقول :

((وكانت لهجة الداعي إليه ، تلك اللهجة التي تسمو فوق حدود الإنسانية ، وكانت نظرته التي يشع منها الضياء، تخرجهم من الظلمات إلى النور، فيسرعون إلى اعتناق الإسلام بين يديه )) .

فصاحة الرسول وبلاغته

إذا كان حامل الرسالة يحتاج فيما يحتاجه ليؤديها بنجاح إلى الشعوب والأمم ، وليؤلف بها القلوب ، إلى الفصاحة في اللسان ، والبلاغة في القلوب ، والقوة في البيان ، فقد عرف عن النبي محمد  أنه صاحب أسلوب رفيع ، ولسان فصيح ، فهو إمام البلغاء وسيد الفصحاء ، بأسلوبه السهل الممتنع المعجز ، وبجوامع كلمه الخالدة ، ومنطقه السليم ، وعباراته المشرقة .

ويتحدث دينيه عن قوة المعاني وسحر بيان الرسول  ، بقوله :

(( وكانت المعاني تتدفق غزيرة من ألفاظه الموجزة ، التي تعبر عن مراده خير التعبير . أما سحر بيانه فكان شيئا الهياً، يغزو القلوب ويأسر اللب ولا يقوى أحد على مقاومته )) .

أفصح من نطق بالضاد

ومن جانبهم ، أدرك المستشرقون المهتمون بقضايا اللغة ، ما تمتلكه العربية من ميزات تنفرد بها دون سائر اللغات ، وعن فصاحة الرسول وإعجازه ... يقول المستشرق الفرنسي بوستل غليوم (1581-1654 ) الذي اهتم بالعربية وأبجديتها :

(( اللغة العربية أفصح اللغات آداباً . وهى لغة أمة على رأسها محمد النبي العربي، وهو أفصح من نطق بالضاد ، ولقد جاء بأفصح ما يمكن في خلال كلماته المأثورة عنه ،
لذلك نحترمه و نحترم لغته )) .

ويتابع المستشرق الفرنسي برتلمي هربلو ( 1625-1695) في مؤلفه "المكتبة الثرية " فكرة مواطنه ، عن البلاغة العربية وفصاحة الرسول ، بقوله :

((إن اللغة العربية لهى أعظيم اللغات آداباً ، وأكثرها بلاغة وفصاحة ، وهي لغة الضاد ، ولقد تغنى محمد نبي الإسلام بما يدل على شرف هذه اللغة بقوله : " أنا أفصح من نطق بالضاد " وصحيح عنه ذلك لأن كلماته المأثورة تدل عليه )) .

خلود العربية و عظمة الرسول
وكان الرسول  قد أتقن العربية في بنى سعد وقومها بلغة قريش وأحاط بلهجات القبائل العربية ، إذ بقى أثره عميقاً في لغتنا هذه ، التي بلغت معارج الخلود ، يقول الأستاذ الباحث اللبناني حنا خير الله ، في احتفال بذكرى المولد النبوي :

(( يكفى النبي العربي عظمة أنه خلد اللغة العربية وقدمها ، وأوجب على جميع أتباع دينه تعلمها إلى أن قال :

إننا نعظم ذكر من خلد لأمتنا أعظيم مجد وأشرف تاريخ وأسمى منزلة ، وحفظ لغتنا مقدمة إلى أبد الدهر ، لنبرهن على أننا نكرم محمداً - النبي العربي ، ونحتفل .بذكرى مولده المبارك ، إننا نقدر محمداً وأعمال محمد وعظمة محمد وغاية محمد )) .

وكان لفصاحة الرسول وبلاغته أن جعلت منه - إلى جانب ما تحلى به من مزايا أخرى - أعظم القادة والمصلحين الدينيين ، يقول صموئيل زويمر :

(( إن نبي الإسلام كان ولا شك من أعظم القواد الدينيين ويصدق عليه القول أيضاً إنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجندياً مغواراً )) .

ويقول الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (1597 - 1650 ) في كتابه مقالة "في المنهاج" معرباً عن إعجابه ببلاغة العربية وفصاحة الرسول وإعجاز القران :

(( نحن والمسلمون في هذه الحياة ، ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية، ونحن لا نعمل بالثانية ، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب ، لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان ، وصاحب شريعتهم محمد ، الذي عجز العرب عن مباراة قرآنه وفصاحته ، بل لم يأت التاريخ برجل هو أفصح منه لساناً ، وأبلغ منطقاً ، وأعظم منه خلقاً، وذلك دليل على ما يتمتع به نبي المسلمين من الصفات الحميدة التي أهلته لأن يكون نبياً في آخر حلقات الأنبياء ، ولان يعتنق دينه مئات الملايين من البشر » .

بلاغة المنطق و سداد الرأي
ويتحدث المستشرق الفرنسي سيلفستير ساسي ( 1758 - 1838 ) في كتابه "الحياة" عن محمد الرسول المفكر ، وصاحب الآراء السديدة النيرة ، و المبادىء الخيرة ، الذي عرف عنه :
((أنه بليغ في منطقه ، رشيد في رأيه ، نشيط في دعوته )) .

الفصل الخامس
محمد و القيادة العسكرية

العبقرية و الفداء

من خلال الدراسة التي استعرضنا فيها سيرة رسول الله ، عبر المواقف الاستشراقية ، ركزنا على نقاط هامة ، في حياة الرسول ، الشجاعة والصبر والثبات على العقيدة ، سواء تعلق الأمر بمواجهة مشركي قريش في مكة ، عند بدء الدعوة واضطهاد المسلمين الأوائل ، أو في العمل العظيم الذي اضطلع به وهو انتقاله من مكة إلى يثرب التي غدت المدينة ، فيما عرف بالهجرة التي عدها المستشرق الروماني ك . جيورجيو أعظم عمل فدائي قام به محمد  في سبيل الإسلام حين انفصم عن قبيلته فداء " لعقيدته " أو في القيادة العسكرية السياسية التي خاضها طوال مدة إقامته في المدينة ، فكان أن صارع قوى المشركين طوال عشرة أعوام صراعاً توج بانتشار الإسلام في ربوع جزيرة العرب . .

القائد العسكري اللامع والمشرع العظيم

وجدير بالذكر أن الرسول ، قبل أن يصدع بالرسالة لم يكن بالرجل المحارب بل شهر بالوداعة والهدوء، لكنه غدا القائد العسكري اللامع والمشرع العظيم حين عمل على نشر الدين الإسلامي ، يقول المستشرق القس دافيد بنجامين كلداني ، الذي اعتنق الإسلام وتسمى بـ عبد الأحد داود_ يقول في كتابه : « محمد في الكتاب المقدس » :

(( وقبل أن يرسل الله محمداً بالدعوة إلى الإسلام وإزالة الوثنية ، الأمر الذي حققه بنجاح ، كان أهدأً وأصدق رجل في مكة . ولم يكن بالمحارب أو المشرع ، ولكن بعد أن تحمل رسالة النبوة ،أصبح أفصح المتكلمين وأشجع العرب ، وكان يحارب الكفار وسيفه في يده ، ليس لمصلحته الشخصية ، ولكن من أجل مجد الله ، وقضية دينه ، وهو الإسلام وقد عرض الله عليه مفاتيح كنوز الأرض ، ولكنه رفضها ، وعندما توفي كان فقيرا )) .

العبقرية العسكرية في وضع الخطط

لقد ظهرت عبقرية الرسول العسكرية في أخطر المعارك وأشدها هولاً ، أولاً معركة بدر ، حيث رتب قوى المسلمين بشكل مثلث ، وكان بوضع مكنه من جعل كل جندي مسلم أن يستقبل بمفرده العدو من غير استدبار حسب رأي جيورجيو( ) ، فحاز بفضل تلك العبقرية مع إيمان المسلمين العميق راية النصر ، وكانت بالتالي هزيمة جيش يفوق عدده ثلاثة أضعاف الجيش الإسلامي .

كما برزت عبقرية الرسول العسكرية في موقعة أحد، حين درس طبيعة الموقع العسكري ، وتنبه لمكمن الخطر، فكان أن وضع خطة مدروسة في تشكيل الصفوف المتكاملة المتراصة ، حتى لا يمكن للخصم أن يشق الصفوف ، مما مكن جيش المسلمين من مواجهة جيش العدو الذي يفوقه عددياً بأربعة أضعاف ، وكانت بشائر النصر مواكبة للمسلمين لولا الخطأ الذي ارتكبه النبالة مخالفو أوامر الرسول طمعاً في الغنام ..

النبوغ الفكري في استنباط الخطط و تنفيذها

كذلك برزت عبقرية الرسول العسكرية حين تبنى مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق في معركة الأحزاب ، هذه الخطة التي أثارت إعجاب الباحثين العسكريين في الشرق والغرب ، فالنبوغ العسكري _برأي جيورجيو_ ليس في استنباط الخطط وحسب ، بل في تنفيذها أيضاً ( ) . . .

ولا يغرب عن البال كيف برزت شخصية القائد العسكري للرسول في أحلك الظروف وخاصة في معركة حنين ، حين تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر ، ولقد حلل الباحث العسكري محمود الدرة ، هذه الواقعة بقوله :

(( ليس في حياة قادة الجيوش مواقف عصيبة وخطرة كموقفهم من هزيمة جيوشهم في ميدان المعركة، وقلائل في التاريخ هم الذين استطاعوا بفضل شخصياتهم وعزائمهم وقف تيار الهزيمة في جنودهم والحيلولة دون وقوع الكارثة والخسران . والنادر فيهم من حول الهزيمة إلى نصر . أما محمد القائد وقد تحدثنا عن موقفه في معركة أحد وتحويله تيار المعركة من هزيمة منكرة إلى انسحاب ناجح نراه في هذا الموقف في أوج عظمته ومجده العسكري الخالد ، ولا نغالي إذا قلنا إنه بز من كان قبله في هذا المضمار ولم يشاركه في مجده هذا أحد قبله ، حيث لم يستسلم للأمر الواقع ولم تخذله نفسه كما خذلت قبله ، حيث لم يستسلم للأمر الواقع و لم تخذله نفسه كما خذلت اثني عشر ألفاً من جنده نفوسهم )) .

شخصية الرسول و تحويل الهزيمة إلى نصر

ويتفق جيورجيو مع محمود الدرة بالرأي حول الدور الذي لعبته شخصية الرسول ، في تحويل الهزيمة إلى نصر، والفرار إلى ثبات ، فتجمع فانتصار، بقوله :

((وقد كانت صلابة محمد  وجلادته سبباً في توقف المحاربين عن هربهم .. فكان أن انتهت معركة حنين بنصر المسلمين )) .

أعظم القادة الدينيين

ويتحدث المستشرق الكندي الدكتور زويمر ( 13 18 - 1900 ) في كتابه : "الشرق وعاداته" عن جماع صفات الرسول ، التي من أرزها القيادة والجرأة إلى جانب كونه رجل فكر وإصلاح ، يقول :

(( أن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينين ، ويصدق عليه القول أيضاً انه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً ، ومفكراً عظيماً ، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات ، وهذا قرآنه الذي عمر صدره ، تاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء )) .

الدروس العسكرية المستقاة من حروب الرسول

هذا ، ولقد استخلص الباحث العسكري محمود الدرة ، في كتابه معارك العرب الكبرى ، الدروس العسكرية في حروب الرسول  التي نضعها بنقاط محددة :

1. في تأليف وتنظيم الجيوش ، فكان الرسول  أول من عبأ معباً كاملاً في هذه الحرب الدفاعية لحماية الدعوة الإسلامية . .

2. في أسلوب القتال : وضع الخطط العسكرية المناسبة واستخدامه طبيعة أرض المعركة .

3. وضع مباديء جديدة للحرب ، منها أولاً المباغتة ، إذ يتحرك بكتمان وسرية وحذر ، ويستخدم أسلوب التورية . . وثانياً الاستطلاع وترصد حركة الخصوم . . وثالثا المقدرة على الحركة ، فقد أثبت جيش المسلمين قدرته على السير مسافات بعيدة بسرعة فائقة مع الصبر على شظف العيش ، واحتمال قسوة الطبيعة والمناخ . . .

4. التوفيق بين السياسة والحرب ، وذلك بعقده العهود والمحالفات مع القبائل العربية والاهتمام بالجبهة الداخلية ، لئلا يؤخذ المسلمون على حين غرة ، ولم يكن الرسول يكتفي بالنصر العسكري بل يسعى دائماً إلى تحقيق نصر سياسي في كسب الخصوم والأعداء . . .

5. استخدام سلاح الدعاية ، وخلق ما يسمى بالرتل أو الطابور الخامس في قلب الأعداء ، ولنذكر كلمة الرسول  في وصف هذا السلاح حين قال : "نصرت بالرعب مسيرة شهر " ، كما يؤكد خطورة أسلوب الدعاية تمهيداً لتحقيق النصر العسكري في ميادين القتال ، وإلى جانب الحرب الدعائية استخدام الرسول أيضاً ، الخدعة والتمويه ، وهو القائل "الحرب خدعة" ، وكذلك حرب الأعصاب لبلبلة صفوف الأعداء وإدخال الوهن في عزائم المحاربين )) .

هذا ، وإن المعارك العديدة التي خاضها الرسول بنفسه خلال عشرة أعوام والتي بلغت تسع عشرة غزوة ، وكذلك السرايا التي أنفذها ، قد أثبتت مكانته العسكرية ومزاياه القيادية حتى تمكن من تحقيق النصر العظيم ، ففي السنة التاسعة للهجرة كان محمد  حسب تقرير جيورجيو : « قد فتح الجزيرة العربية كلها ، وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين ، وقد انتشر الإسلام من السنة الأول للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها 822 ألف كم2 تقريباً )) .

أن الإنجاز العظيم الذي حققه الرسول كقائد عسكري ومشرع ومناضل لمحو الوثنية من جزيرة العرب ، بله النصر العظيم الذي حققه في نشر الإسلام بسائر أرجاء الجزيرة العربية لم يكن سوى جانب واحد من جوانب عبقريته العسكرية ، إذ وضع كذلك أساس مجابهة الدولة البيزنطية ، حين قام بحملته العسكرية الأخيرة التي عرفت باسم غزوة تبوك ، وكان من نتائج ثمارها أن عقد الكثير من الأمراء العرب المسيحيين المتحالفين مع الدولة البيزنطية ، معاهدات معه " على عدم المهاجمة والحرب والوقوف على الحياد " . . . وليس هذا فقط بل صمم عملياً على غزو سورية وعقد لواء القيادة لأسامة بن زيد تنفيذاً لهذا الهدف قبل أن يلقى ربه بقليل .

يقول الباحث العسكري محمود الدرة :
(( وهذا جيش أسامة بن زيد الذي أمر محمد  بتكوينه كان آخر عمل يقوم به في هذا السبيل _تقرير حرية الدعوة للعقيدة وتحرر العالم من عبودية الطغاة المستبدين _ ولم تنسه حتى سكرات الموت الأمر بإنفاذه والدعاء لقائده بالنصر لتحرير العرب من حكم المتعبدين ليخطوا بعد ذلك خطواتهم الحاسمة لتحطيم قوى الشر والعبودية التي كانت تخيم على العالم المعروف )) .

الفصل السادس
محمد الرسول و المعجزات

لقد ذكرت الدراسات التاريخية الإسلامية ، وخاصة كتب السيرة والحديث علامات النبوة وبشائر الرسالة ، نقلاً عن الرواة الأوائل الذين أكثروا من ذكرها ، تعظيماً لمكانة الرسول وإعلاء لقدر الرسالة . . . ولقد وقف عدد من الباحثين والمفكرين العرب والمستشرقين الغربيين موقفاً نقدنيا من مسألة علامات النبوة هذه . . .

يقول صاحب العبقريات عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية محمد" عن بشائر الرسالة :

(( والمؤرخون يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية . . يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه ، وما أيدته الحوادث أو ناقضته ، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته ، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان ، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة ، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام ؟ لا موضع هنا لاختلاف . . فما من بشائرة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة ، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها .

لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد ، لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها ، ولا عرفوا أنها علامة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة . ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا للرسالة بعد البشائر بأربعين سنة ، لم يشهدوا بشائرة واحدة منها ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه .

وقد ولد مع النبي عليه السلام ، أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره . ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين ... يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين .

أما العلامة التي لا التباس فيا ولا سبيل إلى إنكارها فهي علامة الكون وعلامة التاريخ .

قالت حوادث الكون : لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة .

وقالت حقائق التاريخ : لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ...

و لا كلمة لقائل بعد علامة الكون و علامة التاريخ )) .

معجزات الرسول في المنجزات الحقيقية

إلا أن المعجزة الحية الباقية حتى يومنا هذا هي إنجازات الرسول التي كانت عملياً ضرباً من ضروب الخوارق الإنسانية حين أخرج العرب من ظلمات الجاهلية إلى حضارة الإسلام التي تشع بأنوار المدينة التي هيهات أن تنطفيء ، يقول الشاعر اللبناني الكبير بشائرة الخوري (1885 _1968 ) الكبير بالأخطل الصغير في صحيفة البرق متحدثاً عن الإصلاح الديني الاجتماعي للرسول :

(( أن للرسول محمد في عنفوان شبابه من المعجزات ما يقف دونه الفكر صاغراً ، ولكن له وهو في أيام الدعوة ما تصغر عنده عظمة العظيم ، ويبطل عنده سحر الساحر ، إنه وقد أخرج أمة بأسرها من ظلمات الجاهلية إلى أضواء المدنية ، إنه وقد أبدل معائب الجاهلية بمحاسن الإسلام ، و إنه وقد أبطل وأد البنات ، وحرم الزنى ، ونقى القلوب من العداوات ، إنه وقد أذل لسيفه كل سيف ، ولعرشه كل عرش ، إنه وهو كذلك ليس في عيني أعظم منه ، وهو الابن الناشيء فقيراً ، الدارج يتيماً ، الحامل السعد في وجهه ، والطمر في قلبه ، والأمل في عينيه ، والحكمة في شفتيه )) .

القرآن معجزة الرسول الخالدة

هذا ، ولقد اتفق العلماء والعرب والستشرقون الغربيرن على أن القرآن هو المعجزة الحقة للرسول : يقول المستشرق الإنكليزي بوسورث اسمث (1815-1892) في مقدمة كتابه : « الأدب في آسيا » :

((أن المعجزة الخالدة التي أداها محمد هي القرآن والحقيقة إنها لكذلك ، وإذا قدرنا ظروف العمر الذي عاش فيه ، واحترام أتباعه إياه احتراماً لا حد له ، ووازناه بآباء الكنيسة أو بقديس القرون الوسطي ، تبين لنا أن أعظم ما هو معجز في محمد نبي المسلمين أنه لم يدع القدرة على الإتيان بالمعجزات وما قال شيئاً إلا فعله وشاهده منه في الحال أتباعه ، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه ، فأي برهان أقطع من ذلك ، ولقد كان محمد يذهب من آخر حياته كما ذهب من مبدأ أمره إلى أنه رسول الله حقاً ، وإني أعتقد أن الفلسفة المسيحية المالية ستعترف له بذلك يوماً من الأيام )) .

بداهة الرسالة

ويتحدث المستشرق الفرنسي الفونس آتيين دينيه ( 1861 _ 1929 ) عن حياة الرسول  الحافلة بالعظام ، بأنه _عليه السلام _ لم يعتمد في نشر الرسالة الاسلامية على الخوارق و المعجزات المادية و تلك مأثرة عظيمة له ، يقول في كتابه : "محمد رسول الله" :

(( والحق أنا نرى من بين جميع الأنبياء الذين أسسوا ديانات ، أن محمداً هو الوحيد الذي استطاع أن يستغني عن مدد الخوارق والمعجزات المادية ، معتمداً فقط على بداهة رسالته ووضوحها ، وعلى بلاغة القرآن الإلهية ، وإن في استغناء محمد عن مدد الخوارق والمعجزات لأكبر معجزة على الإطلاق )) .

حقيقة مآثر الرسول

ويتابع الكبير الفرنسي في دراسة شخصية الرسول  مبرزاً عظمته وكمالاته العليا ، يقول :

(( إن في مرأى المؤمنين وفي أعمالهم لصورة تلمحها منعكسة من مآثر محمد ، وإذا ما كانت بالطبع باهتة قياساً إلى كمالاته العليا ، فإنها لا جدال في صحتها ، هذا على حين نجد قياصرة روما مع دقة تماثيلهم لا يطالعنا منهم سوى قناع مزيف لوجوههم الجامدة تحت صورة من الخيلاء ، أن صورهم تظل ميتة يعجز خيالنا عن أن يلمح لها شيئاً من الحياة ، وإنه لبوحي هذه الحقيقة المقررة أن قامت برؤوسنا فكرة نشر لوحات في تاريخ محمد هذا ، تمثل المآثر الدينية لأتباعه ، وبعض صور من حياة محمد ، وبعض مدن الحجاز الذي هو وطنه )) .

المعجزات بين الحقيقة التاريخية و المآثر الشعبية

ويتناول المستشرق جوستاف جرونيباوم مؤلف كتاب : « حضارة الإسلام » ، القصص التي نسجتها المخيلة الشعبية والدوافع التي كانت وراء تلك القصص التي هي مستلهمة من الأعمال العظيمة والخارقة والحقيقية في حياته . . يقول جرونيباوم :

(( إن انطواء حياة الرجل العظيم على قدر من الشرارة الإلهية أقوى بأساً مما لدى إخوانه الضعفاء لآية حافلة بالمعاني للعالم كافة !

ذلك أن رسالته تؤذن ببدء مرحلة جديدة في قصة هذا العالم .

ولا شك أن القوى التي يفك أسارها ستكون رهن إشارته ، وستكون أهم أدوار مقامه في هذه الأرض موضع الترحاب أو المحاكاة من العالم الذي كان مجرد ظهوره فيه ذا أثر في خطه ومجراه !

وإن القلوب الساذجة العقل لتروح تنسج الخوارق وشياً تحيط به حياة الرجل العظيم، غافلة عن أن هذه الخوارق تغض من شأن النصر الإنساني الذي يحرزه بطلها )) .

ويذكر جرونيباوم أن الرسول كان حريصاً على التأكيد بأنه بشر صدع بأمر من الله لنشر رسالة الإسلام ، يقول :

(( حرص محمد مدة رسالته على أن يؤكد للناس أنه بشر، ذو طبيعة إنسانية وأنه بفضل من الله اختير رسولاً و تعالى . .

وفيها عدا هذه الخصوصية _خصوصية اختياره للرسالة _ ليس ثمة شيء يفرق بينه وبين إخوانه من البشر .

وإن علمه بالغيب لمحدود بما يريد الله أن يعلمه إياه .

فكل ما لم يرشده إليه الوحي فأمر قد يضل فيه السبيل .

و كلما لج أعدائه في تحديهم إياه بأن يثبت أقواله بإحدى المعجزات أبى ذلك . غير عابيء بسخرية الساخرين ، و خيبة أمل المتشكيين .. ذلك أن رسالته هي آيته ، إمارته!.

 وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه ؟ قل إنما الآيات عند الله ، وإنما أنا نذير مبين ، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون  (29/50 – 51) .

ويحلل جرونيباوم الأسباب التي دفعت كتاب سيرة الرسول  في سياق تعظيم الرسول إلى إضفاء المعجزات والخوارق عليه تأكيداً لصورة القداسة والاحترام الماثلة في نفوس المسلمين ... يقول :

(( ولم يكد ينقض على وفاته طويل زمن حتى ثار الخيال الشعبي متغلباً على نصوص الوحي نفسها، ومغطياً الاحتجاجات الفاترة التي أبداها ذوو الضمير الحي من الفقهاء _وراح يقص من جديد سيرة النبي واضعاً إياه في صورة الساحر القوي_!!.

ولقد رانت عليهم تلك الرغبة الساذجة في تعظيم البطل برفعه فوق درجة الإنسانية إلى أقص حد مستطاع ، وظاهرها على ذلك التقليد العريق الذي يؤكد من الكبير الشخصية الفذة ، بما ينسب إليها من تعاون العالم الروحي كله وإياها )) . . . .

دين الفطرة و نفي الخوارق

ويخلص المفكر ديزيريه بلانشيه مؤلف كتاب : " دراسات في التاريخ الديني" إلى الرأي القائل إن حياة الرسول  قد خلت من الخوارق والمدهشات وإن الإسلام دين الفطرة ، لم يقبل بمبدأ الخوارق ، وإن معجزة الرسول الحقيقية قد استندت إلى الواقع الحي ، و الأرض الصلبة ، وانه لم يكن له إلا نبوءته ورؤاه للمستقبل ، يقول :

((ومن جانب آخر ينبغي أن نذكر أن الدين الإسلامي نحالف كل المخالفة لهذه الأبراج المتشامخة التي تسقط من ضربة واحدة ، لأن له قوة كامنة وصلابة ومتانة . .

وفي الواقع ، فبماذا يمكن أن يهاجمه النقد ، في تاريخ محمد أنه تقريباً خال من الخوارق والمدهشات ، وليس فيه تقريباً من المسلمات إلا ما في الديانة الكاثوليكية من معتقدات طاهرة نقية . فهل توجد هذه الخوارق في الشعائر والطقوس ، إنك لو رجعت بالدين الإسلامي إلى قواعده الأساسية لما وجدته قد زاد على الدين الفطري إلا نبوءة محمد، وإدراكاً حقيقياً وفهماً صحيحاً لمعنى القضاء والقدر الذي يعد صفة عامة لكل الذين يدركون بقوة عقولهم ، ودقة شعورهم : أنهم في احتياج شديد إلى أن يسيروا في هذه الحياة بنظام دقيق ، وخطة محكمة ، أكثر مما يعد عقيدة من العقائد ، أو أصلاً من أصول الأيمان الخ )) .

المعجزات الإلهية

أما المفكر الإنكليزي صاحب كتاب : "الأبطال " ، توماس كارليل فيرى أن الرسول في سيرته الحياتية لم يعتمد مطلقاً على المعجزات ، وإنما يذكر من يدعوهم إلى الإسلام بالمعجزة الإلهية التي تكمن في سر الوجود المبثوث في الكون ، إنها المعجزة التي تؤكد حقيقة الخالق وعظمته ، يقول كارليل :

(( وكان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال : حسبكم بالكون معجزة ، انظروا إلى هذه الأرض ، أليست من عجائب صنع الله وآية على وجوده وعظمته ؟ هذه الأرض التي خلقها الله لكم ونهج لكم فيها سبلاً تسعون في مناكبها وتأكلون من رزقه ، وهذا السحاب المسير في الآفاق لا يدرى من أين جاء وهو مسخر في السماء كل سحابة كمارد أسود ، ثم يسح بمائه ويهضب ليحيي أرضاً مواتاً ، ويخرج منها نباتاً وغيلاً واعانباً ، أليس ذلك آية ، والأنعام خلقها لكم تحول الكلأ لبناً وهي فخر لكم ، والسفن _وكثيراً ما يذكر السفن _ كالجبال العظمة المتحركة تنشر أجنحتها وتحتفز في سوا، اليم لها حاد من الريح ، وبينا تسير إذا هي قد وقفت بغتة ، وقد قبض الله الريح . معجزات و الله كل هذه ، وأي معجزات بعدها تريدون ، ألستم أنتم معجزات ؟ لقد كنتم صغاراً وقبل ذلك لم تكونوا البتة ثم لكم جمال وقوة وعقل ، ثم وهبكم الرحمة أشرف الصفات ، وتهرمون ويأتيكم المشيب وتضعفون وتهن عظامكم وتموتون فتصبحون غير موجودين "ثم وهبكم الرحمة" لقد أدهشتني جداً هذه الجملة ، فإن الله ربما كان خلق الناس بلا رحمة ، فماذا كان يكون أمرهم ! هذه من محمد نظرة نافذة إلى لباب الحقيقة ، وكذلك أرى في محمد دلاثل شعرية كبيرة ، وآيات على أشرف المحامد وأكرم الخصال ، وأتبين فيه عقلاً راجحاً وعيناً بصيرة وفؤاداً صادق ورجلاً قوياً عبقرياً ، لو شاء لكان شاعراً فحلاً أو فارساً بطلاً أو ملكاً جليلاً ، أو أي صنف من أصناف البطل )) .

عالمية المعجزة المحمدية

ولكن ، إن أجمعت غالبية الدراسات الاستشراقية على نفي صفة الخوارق والمعجزات عن إلى سول  ورأت في نضاله الملحمي معجزته الإنسانية الكبرى، فإن العلامة البريطاني المستشرق هيليار بلارن يرى في مؤلفه : « فكرة الحياة » معجزة رسالة الإسلام في الإنجازات التي حققتها حين وحدت بلاد العرب ، وأكدت كونيتها بخروجها من النطاق العربي إلى الصعيد العالمي ، فكانت حقيقة ثابتة وحضارة مشرقة ، يقول :

(( بينما كانت مدن الإمبراطورية البيزنطية ، تحتفل بانتصارات الإمبراطور هرقل على الفرس ، وبينما كان الناس في سرور وجذل عظيمين ، حدثت العجزة المحمدية ، حدث من لم يكن أحد ينتظره ولا يفطن له ، حدث أمر كان أقرب إلى الهزة الأرضية أو الفيضان العام في سرعته وشدته ، ووقوعه دونما سابق إنذار ولا إشارة .

لم يكن هناك أعراض سبقت هذا الحدث العظيم الضخم ، ولا إمارات تدعو إلى انتظاره والتهيؤ له ، ولم يكن مضى على انتصارات ، هرقل الكبير سنوات قلائل ، لما مشى إلى أرض الإمبراطورية فرسان من الصحراء ، ما سمع عنهم أحد شيئاً إلا ما كان يقال من أنهم جماعة يضربون أرض الصحراء على خيولهم وإبلهم طلباً للكلأ والماء ، وأنهم قوم من البدو )) .

ويمض هيليار بلارن فيقول :

(( إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها ، وبعد أثرها ،وعظيم نتائجها ، كانت مسوقة بقوة لا يستطاع تفسرها ، وإن كان ما لدينا من المصادر والوثائق يساعدنا على تفهم الأسباب التي جعلتها أمراً واقعاً منظوراً)) .

الفصل السابع
أخلاق الرسول و مناقبه

لقد عنيت كتب الحديث والسيرة النبوية وكذلك الدراسات التاريخية الإسلامية ، بشمائل الرسول ومناقبه ، ودرست بالتفصيل عاداته بل عمله اليومي ، ومنها ما أفردت لها فصولاً وأقساماً للتحدث عن مناقبه ، أو وضعت كتب مستقلة تناولت فيها عرف باسم الشمائل المحمدينة . . وكانت بدورها مجالاً للباحثين الغربيين والمستشرقين في دراساتهم ذلك الجانب الخلقي والخلقي للرسول . . . .

ويتحدث المستشرق ديسون عن اهتمام الباحثين الإسلاميين في سيرة الرسول ، يقول :

(( ولقد راح الكتاب المسلمون يصفون نبيهم فما تركوا ناحية من صفاته وأخلاقه إلا عرفوا بها وأشاروا إليها )) .

كان خلقه القران

كانت سيرة الرسول وأخلاقه الكريمة ، تعكس واقع التزامه العقيدي ، فكان " خلقه القرآن " حسب قول أم المؤمنين السيدة عائشة وهذا ما يؤكد مدى التطابق ما بين سيرته الحياتية وسلوكه مع مفاهيم الشريعة الإسلامية السصحة التي حملها للبشرية ، ولقد بحث المفكر الإسلامي مولانا محمد علي هذه القضية فقال :

((كانت حياته اليومية صورة صادقة للتعاليم القرآنية ، لقد كان هو تجسيداً، إذا جاز التعبير ، لكل ما أوصى القرآن الكريم به . وكما أن كتاب الله دستور أخلاق سامية لإنماء ملكات الإنسان المتعددة ، كذلك فإن حياة الرسول معرض عملي لتلك الأخلاق كلها . وهكذا فإن لدى المسلم هادياً من مزدوجاً : القرآن الكريم من الناحية النظرية ، وحياة الرسول كمثل كامل )) .

الرسول هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى

كان عليه الصلاة والسلام في سائر مراحل حياته القدوة الإنسانية والمثل الأعلى والنموذج الأمثل للكمال ، لكل مسلم ، بل منبع الهداية للبشرية جمعاء ، فسيد المرسلين خلقه العظيم إمام البشر والمعلم الأول والقدوة الحسنة ، وقد جاء في القرآن الكريم :  لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة  ( الأحزاب /21) وعند هذه النقطة يقول الكاتب الفرنسي الكسندر دوما :

(( كان محمد معجزة الشرق لما في دينه من معالم ، وفي أخلاقه من سمو ، وفي صفاته من محامد )) .

فالرسول هو القدوة الأخلاقية الحسنة ، وهو القائل عن صدق : " إنما بعثت لأتهم مكارم الأخلاق " وكان طبيعياً أن تكون سيرته _عليه السلام _ كاملة ناصعة نقية ، معصومة عن الآثام . . . هذا . . ولقد رأى المفكر الإنكليزية جون أروكس بعصمة الرسول معياراً لعظمته ، يقول :

(( لم نعلم ان محمداً تسربل بأية رذيلة مدة حياته لذلك نراه عظيماً)) .

الجدية والبعد عن العبث واللهو

لقد كانت السمة الأساسية في أخلاق الرسول الجدية والابتعاد عن اللهو والعبث ، في سائر مراحل حياته ،. . . إذ لا يمكن أن يتم نشر رسالة الإسلام إلاً في إطار سيرة عملية جادة ، يقول توماس كارليل :

(( وما كان محمد بعابث قط ، ولا شاب شيئاً من قوله شائبة لعب ولهو . بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح ، ومسألة فناء وبقاء . ولم يك منه إزاءها إلا الإخلاص الشديد والجد المر . فأما التلاعب بالأقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فما كان من شأنه قط . وذلك عندي أفظع الجرائم إذ ليس هو إلا رقدة القلب ، ووسن العين عن الحق ، وعيشة المرء في مظاهر كاذبة ، وليس كل ما يستنكر من مثل هذا الإنسان هو أن جميع أقواله وأعماله أكاذيب ، بل إنه هو نفسه أكذوبة . ورأى خصلة المروءة والشرف _شعاع الله_ متضائلاً في مثل ذلك الرجل ، مضطرباً بين عوامل الحياة والموت ، فهو رجل كاذب. لا أنكر أنه مصقول اللسان ، مهذب حواشي الكلام ، محترم في بعض الأزمان والأمكنة ، لا تؤذيك بادرته ، لين المس رقيق الملمس ، كحمض الكربون تراه على لطفه سما نقيعاً ، وموتاً ذريعاً )) .

براءة طبعه

لقد اتسمت بساطة الخلق المحمدي ، في سائر مراحل حياته بابتعاده عن الرياء والتصنع ، يعرف تماماً حق قدره ، فكان عظيماً في وقفته الشجاعة ، وإرادته الصلبة ، وعزمه الذي لا يلين ، ماضياً أبداً إلى ما أرسل إليه . . . يقول توماس كارليل :

(( وإني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع . ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي ، لا يعول إلا على نفسه ، لا يدعي ما ليس فيه . ولم يك متكبراً ، ولكنه لم يكن ذليلاً ضرعاً . فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد . يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم ، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة . وكان يعرف لنفسه قدرها )) .

كرم الأخلاق و حسن العشرة و صحة الحكم

إن سجايا الرسول وأخلاقه التي كانت محط اهتمام الباحثين الإسلاميين ، استأثرت بدورها باهتمام المستشرقين . يقول أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف المستشرق إدوار مونتيه ( 1856 _1927 ) في كتابه :" حاضر الإسلام ومستقبله " ، بأحثاً جماع خصاله وجميل سجاياه ونزاهة مقاصده وصحة أحكامه وطبيعته الدينية كمصلح عظيم يدهش الفكر ، ويثير مكامن الإعجاب ، يقول مونتيه :

((أما محمد فكان كريم الأخلاق حسن العشرة ، عذب الحديث ، صحيح الحكم ، صادق اللفظ ، وقد كانت الصفة الغالبة عليه هي صحة الحكم ، وصراحة اللفظ ، والاقتناع التام بما يقبله ويقوله ، إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد ، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص ، فقد كان محمد مصلحاً دينياً ، ذا عقيدة راسخة ولم ينهض - إلا بعد أن تأمل كثيرا ، وبلغ سن الكمال _ بهاتيك الدعوة العظيمة ، التي جعلته من أسطع أنوار الإنسانية ، وهو في قتاله الشرك والعادات القبيحة التي كانت عند أباء زمنه ، كان في بلاد العرب أشبه بنبي من أنبياء بي إسرائيل الذين كانوا كبارا جدا في تاريخ قومهم ، ولقد جهل كثير من الناس محمداً بخسوه حقه ، وذلك لأنه من المصلحين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها )) .

البساطة في حياة الرسول

هذا ، وقد درس مولانا محمد على أخلاق الرسول وعاداته ، فألف البساطة والإخلاص قوام الخلق المحمدي ، إذ أحب عليه السلام الفضيلة لذاتها ، وكانت لديه أخلاق سامية فطرية صميمة غير مكتسبة ، وليس أدل على رفيع خصاله من نهجه الحياتي في تنفيذ أعماله بيده ، بعيداً عن التكلف والرياء ، يتسم كل ما قام به من أعمال وحركات ، وكذلك طريقة حياته ولباسه وعاداته بالبساطة . . .

وكانت تلك البساطة منسجمة مع طبعه الهادي المفكر ، وهذا ما استدعى انتباه المؤرخ والمستشرق الأمريكي أورينج فقال في كتابه : "الحياة و الإسلام " :

((كان النبي الأخير بسيطاً خلوقاً ومفكراً عظيماً ذا آراء عالية ، وإن أحاديثه القصيرة جميلة ذات معان كبيرة ، فهو إذاً مقدس كريم )) .

القناعة و الرضى و مسألة الشهرة

إذ حقيقة حياة الرسول ، وبساطة طبعه وسلوكه ، إذ دلت على شيء ، فعل تلك القاعة التي هي أقرب للزهد والتقشف ، ابتعاداً عن أجواء الشهرة والجاه والسلطان التي غالباً ما تكوك وراء طموح عظماء التاريخ . . غير أن الرسول محمداً ما كان البتة بطامع بجاه ولا سلطان ، وإنما هدفه الأول والأخير نشر الدعوة الإسلامية وإعلاء كلمة الله ، فكان أن ترك الحياة الوادعة ، وعاش حياة كفاحية مريرة قاسية عرف فيها شظف العيش وقسوة الحاجة ، ولقد رد المستشرق الإنكليزي صاحب كتاب : "الأبطال " على أولك الذين جهدوا في اتهام الرسول _عليه السلام _ بالمطامع الدنيوية التي كانت وراء دعوته ، فقال :

((ويزعم المتعصبون والملحدون أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان . كلا و أيم الله ، لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات ، المتوقد المقلتين ، العظيم النفس ، المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجى وإربه ونهى ، أفكار غير الطمع الدنيوي ، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه ... ولحيف و تلك نفس صامتة كبيرة ، ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين . فينما ترى آخرين يرضون بالإصلاحات الكاذبة ويسيرون طبق الاعتبارات الباطلة، إذ ترى محمداً لم يرض أن يتلفع بمألوف الأكاذيب ويتوشح بمتبع الأباطيل ، لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة بحقائق الأمور والكائنات ، )) .

الزهد و التقشف و الابتعاد عن الشهوات

فالخلق المحمدي الذي هو خلق القرآن . يحيد عن العقيدة الإسلامية .. ولقد رد كارليل على أولك المتعصبين الحاقدين من المستشرقين الذين اتهموا الإسلام ورسول الإسلام بالشهوانية ، فالإسلام برأيه دين ينأى عن الشهوانية ، أما سيرة حياة الرسول التي اتسمت بالبساطة والزهد والتقشف ، فأبعد من أن تخفى على باحث ، يقول :

(( وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً ، وشد ما نجور ونخطيء إذا حسبناه رجلاً شهوياً ، لا هم له إلا قضاء مآربه من الملاذ، كلا فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أياً كانت ، لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله ، وكان طعامه عادة الخبز والماء ، وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار ، وإنهم ليذكرون _ونعم ما يذكرون _ أنه كان يصلح ثوبه ويرفوه بيده ، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة ؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس خشن الطعام ، مجتهد في الله ، قائم النهار ساهر الليل ، دائب في نشر دين الله ، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان ، غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت ، رجل عظيم وربكم ، وإلا فما كان ملاقياً من أولئك العرب الغلاظ توقيراً واحتراماً ، وإكباراً وإعظاماً ، وما كان ممكنا أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته ثلاثاً وعشرين حجة ، وهم ملتفون به ، يقاتلون بين يديه ، ويجاهدون حوله ، لقد كان في هؤلاء العرب جفاء وغلظة وبادرة وعجرفة ، وكانوا حماة الانوف ، أباة للضيم ، وعري المقادة صعاب الشكيمة ، فمن قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا ، فذلك وأيم الله بطل كبير ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا له ولا أذعنوا ، وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه ، وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده ، فكذلك تكون العظمة ، وهكذا يكون الابطال )) .

الرسول و المرأة

هذا ، و قد حاولت الأقلام الاستشراقية المغرضة أن تنفث سمومها في رسول الإسلام حين ألصقت فيه تهمة الشهوانية وتهالكه على النساء . . يقول مونتجمري وات في كتاب : "محمد في المدينة" :

(( وهناك اتهام أوروبي مسيحي لمحمد بأنه شهواني أو أنه ، بلغة القرن السابع عشر ، الفظة « فحاش مسن » غير أن هذه التهمة تسقط إذا فحصناها على ضوء الأفكار السائدة في عصر محمد . كان الفكر الإسلامي في أول ظهور الإسلام يميل إلى تضخيم شخصية النبي ورفعها فوق مستوى البشر ، ويوجد حديث يقول ( إن محمداً قد أعطي من قوة الرجولة ما يجعله يستطيع أن يقسم ليلته بين جميع نسائه ) .

ولا شك أننا هنا بصدد حديث موضوع لان الحديث العادي يقول بأن محمداً كان يخصص ليلة لكل واحدة من نسائه ، ونستطيع على كل حال أن نحكم من وراء ذلك على موقف بعض أتباع محمد منه . كان المسلمون الاول سيئي الظن بالعزوبية ، وكانوا يعارضونها في كل مناسبة حتى الزهاد في الإسلام كانوا عادة متزوجين )) .

هذا ، ويرد إميل درمنغهم على هجوم المستشرقين الذين يتناولون حياة الرسول الخاصة ، وعابوا عليه تعدد زوجاته وشبقه الجنسي ، يقول :

((وإن بعضهم يعيب محمداً في كثرة ميله إلى النساء ، فإنه مما لا مشاحة فيه ، أن محمداً لم يكن شرهاً ولا فخوراً ولامتعصباً ولامنقاداً للمطامع ، بل كان حليماً رقيق القلب عظيم الانسانية )) .

ويناقش الباحث الفرنسي- المستشرق إتيين دينيه في كتابه : " محمد رسول الله " من يعيب على الرسول حبه النساء ، بقوله :

(( كان محمد يحب النساء ، وقد عاب عليه الكثير من الأعداء ذلك . وحقاً كان محمد رجلاً بكل ما في الكلمة من معان خلقية ومادية ، ورجولته امتازت بالعفة التي لا تتعارض مع أسباب اللذة البريئة المجردة من الدنس ، وعلى منواله سلك العرب الذين يمتازون حتى أيامنا هذه بالعفة والحياء الخاليتين من كل تكلف ورياء ، لا كحياء المغالين في الدين وعفتهم المصطنعة المدعاة .

وإذا كان محمد قد عقد على ثلاث وعشرين زوجة فإنه لم يتصل إلا باثنتي عشرة منهن . أما الأخريات فتزوجهن لأسباب سياسية محضة ، إذ كانت كل القبائل ترغب في شرف مصاهرته . وقد كثرت عليه الطلبات في شأن ذلك ويروى أن عزة أخت دحية الكلبي ماتت من شدة الفرحة عندما نبئت أن الرسول قبل الزواج بها وقد كان الرسول يعطف على النساء جميعاً وحاول في كل مناسبة أنصافهن . فحرم أول ما حرم وأد البنات ، تلك العادة القبيحة القاسية التي تحدثنا عنها فيها سبق . ثم وضع حداً لتعدد الزوجات ، فجعل العدد الأقصى منهن أربعاً ، وزاد على ذلك أن نصح المؤمنين بالتفكير في الآية :  . . . فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، مثنى و ثلاث ورباع ، فإن خفتم ألاً تعدلوا فواحدة . .  .

ومن أحاديثه : « أبغض الحلال إلى الله الطلاق » . . . وأتبع ذلك بأن منح المرأة حق المطالبة بالطلاق إن لم يوف الرجل بوجباته الزوجية )) .

(( وبفضل تشريعاته الحكيمة أصبحت البنت البالغ تستشار قبل زواجها ، وأصبح المهر لا يعطى للأب بل للعروس نفسها ، وقد وصف أعداء الإسلام تلك السنة الحكيمة بأنها : " شراء للمرأة " . وهم لم يسمعوا ، فيها أظن ، ذلك الجواب المفعم الذي يمكن أن يرد به المسلمون عليهم حينا يقولون لهم : إن المهر في بعض الأقطار الغربية يدفعه والد البنت إلى رجلها ! . . . وفوق ذلك ، فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أي حق في التصرف في مال امرأته .

ومنح الرسول المرأة كذلك حق في الميراث- . وحقها به : نصف حق الذكر ، وذلك لأن المرأة لا تدفع مهراً كالرجل وليس مكلفاً بحاجات البيت )) .

ومن جهته ناقش العقاد في كتابه « عبقرية محمد » آراء المستشرقين فيها خص علاقة الرسول بالمرأة ، وفند مزاعمهم عن انسياقه وراء رغباته الجنسية ونزواته . . فالرسول برأيه هو أولا يقيم علاقات طبيعية مع المرأة وثانياً هو طبيعي بحبه المرأة يقول :

(( ونحن قبل كل شيء لا نرى ضيراً على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها ، هذا سواء في الفطرة _ لا عيب فيه ، وهذه النفس السوية يمكننا أن نفهمها بجلاء حين نرى أن المرأة لم تشغله عما تشغل المرأة الرجل المفرط في معرفة النساء عن مهام الأمور والقيام بالأعباء الجسام . . فمهما قال هؤلاء فلن يستطيعوا أن ينكروا أن محمداً قد حقق ما لم يحققه بشر قبله ولا بعده ، لم يشغله عن هذا شيء ، لا امرأة ولا غير امرأة ، فإن كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها ، ويعطي المرأة حقها ، فالعظمة رجحان وليست بنقص ، وهذا الأستيفاء السليم كمال وليس بعيب )) .

ودلت الدراسات المنصفة عن حياة الرسول أن زواجه من نسائه كان بعيداً عن الاستلام للنزوات الجنسية والانغماس باللذة ، على عكس ما ذهب إليه المستشرقون المغرضون يقول العقاد :

((قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية ، قلنا إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لانه لم يتزوج قط . فلا ينبغي أن تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه جمع بين تسع نساء ، 0)) .

وإلى جانب الناحية الاجتماعية الأخلاقية ، كانت ، سياسية في زواجه يقول مولانا محمد على :

((ثم إن بعض الأسباب السياسية أفضت أيضاً إلى زواج الرسول من بعض نسائه . فزواجه من جويرية مثلاً كان نعمة عظمى على قومها . إنه لم يضع حداً لعداوة بني المصطلق المريرة فحسب ، ولكنه شدهم إلى المسلمين برباط من الصداقة قوي أيضاً ، وفوق هذا ، فقد كان من النتائج المباشرة لذلك الزواج إطلاق سراح مئات الأسرى من أبناء تلك القبيلة . فهل كان غرضه من هذا الزواج شيئاً آخر غير الغرض الديني ؟ وكذلك كان اليهود ألد أعداء الإسلام في بلاد العرب . وقد حاول الرسول أن يتألف قلوبهم أيضا من طريق البناء بامرأة من نبيلاتهم . ولكن حقد اليهود أثبت هذه المرة أنه أقوى من أن يتأثر بإجراءات الرسول الاسترضائية ، لقد أصروا على عداوتهم ، ولم يكنوا في أيما يوم عن إنزال الأذى بالإسلام . ومع ذلك فقد بذل الرسول قصارى جهده لتألفهم . وكانت ميمونة أرملة أيضاً ، وكانت تنتسب إلى قبيلة معادية ، برغم أن الظروف التي قادت إلى زواجها من الرسول كانت مختلفة بعض الشيء ، . كانت أختها قد تزوجت العباس ، عم الرسول ، ومن هنا لم تكد تعرض على الرسول الزواج منها حتى وجد نفسه غير قادر على الرفض ، )) .

بل إن زواج الرسول من رملة بنت أبى سفيان _حسب رأي العقاد_ كان إنسانياً سياسياً ، فقد تم بدافع النجدة الإنسانية .. والأمل في أن يكسب أبا سفيان إلى صفه " عسى أن يهديه ذلك إلى الدين" . و بما يعطف في قلبه و يرضي من كبريائه)) .

وكتب المفكر المصري واصف باشا بطرس غالي ، في مؤلفه : " فروسية العرب المتوارثة" رداً على افتراءات بيرون ضد الرسول و تعصبه الفاضح :

(( كان محمد يحب النساء ويفهمهن ، وقل عمل جهد طاقته . لتحريرهن ، وربما كان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها إضافة للقواعد والتعاليم التي وضعها ، وهو يعد بحق من أكبر أنصار المرأة ، إن لم يكن عظيم الاحترام والتكريم لهن ، لم يكن ذلك خاصاً منه بزوجاته ، بل كان ذلك شأنه مع جميع النساء على السواء )) .

ويخلص مولانا محمد علي إلى توضيح أن تعدد الزوجات في الإسلام استثناء للقاعدة ، وليس قاعدة ثابتة ، هدفها إصلاح المجتمع ، وصون الأخلاق ، وأن زواج الرسول بأكثر من واحدة جاء انسجاماً مع رسالة حياته الأخلاقية والدينية :

(( ومن هنا نرى أن زيجات الرسول كلها كانت تستهدف غرضاً أخلاقياً باطناً . فقد نشأت في حياته ظروف لم يكن في ميسوره تجاهلها، انسجاماً منه مع رسالة حياته الأخلاقية والدينية ، أن يقصر نفسه على زوجة واحدة ، لقد كان خير البشرية مرهوناً بسلوك هذه السبيل ، فلم يحجم عن سلوكها . وإنما قض زهرة حياته ، بل القسم الأعظم من كهولته ، في كنف امرأة مفردة ، مظهراً بذلك أن الزواج من واحدة هو القاعدة في الأحوال السوية . حتى إذا تهدد الخطر طهارة النساء وعفافهن ، ومس الأمر وضعهن الاجتماعي، لم يتقاعس عن الأخذ بالبديل الأوحد _أعني تعدد الزوجات _ ولكن علينا أن لا ننسى أن ذلك كان مجرد استثناء للقاعدة قصد به مواجهة حالات شاذة ، وليس القاعدة نفسها )) .

ومن هنا ، نجد أن التهم الاستشراقية التي تلصق بالرسول الشهوانية ، تتهاوى أمام النقد ، وتتساقط أمام الحقائق التاريخية . . بل إن رسالة الإسلام كانت خيراً للمرأة إذ جعلتها صنواً للرجل ، وعماداً للأسرة ، وأعطتا الحقوق القانونية والاقتصادية وعززت مكانتها الاجتماعية . . فرسالة الإسلام العالمية التي حملت الخير ، وحققت العدالة والمساواة لأبناء المجتمع الواحد ، والإخاء بين الشعوب المختلفة حري بها أن تكون حاملة الخير والعدل للمرأة ، وعملت على المحافظة على عفتها ، يقول الباحث والروائي الألماني ويلكي كولنز ، في كتابه : « جوهرة القمر » :

(( لقد جاء محمد بصيانة النساء وحثهن على العفاف ، وحذر من السير على خلافهما ، مشيراً إلى ما في هذين من النقص والخسة ، وكم لمثل هذا من نظير في شريعته السامية )) .

نكران ذاته

وكان الرسول في سيرته الحياتية معروفاً بنكران الذات ، وتضحيته بثروته في سبيل العقيدة ، يقول المؤرخ الأمريكي واشنطون إرفنج :

((كان الرسول في كل تصرفاته ناكراً ذاته ، رحيماً بعيداً عن الكبير في الثراء والمصالح المادية ، فقد ضحى بالماديات في سبيل الروحانيات )) .

وما أرسلناك إلاً رحمة للعالمين

إن الخلق المحمدي الذي هو خلق القرآن ، قد طبع بالرحمة والطيبة ، لا سيما وأن الله بعثه لينقذ البشرية من ضلالها ، ويكون هاديها إلى خير سبيل ، حاملاً لها الرحمة والخير . . . يقول المستشرق الأسباني جان ليك ( 1822-1897) في كتابه : " العرب " مؤكداً هذه الحقيقة :

))وحياة محمد التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله نفسه بألفاظ قليلة ، بين بها سبب بعث النبي (محمد) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين  .

وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ، ولكل محتاج إلى المساعدة ، كان محمد رحمة حقيقة لليتامى والفقراء وابن السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكد والعناء ، وإني بلهفة وشوق لأن أصلى عليه وعلى أتباعه )) .

رقته و سماحة طبعه

وإلى جانب بساطته وزهده وبعده عن الشهوات كان _عليه الصلاة والسلام _ء رقيق مع الآخرين يعامل أصدقاءه باحترام وتقدير ، مع لين عريكة وسهولة جانب ، ولطف ودماثة هي ملازمة لبطولته وشجاعته وكريم أخلاقه التي لا تعرف التصنع ولا التكلف ، تلك الصفات التي اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء . يقول المستشرق البريطاني لين بول ( 1652 _17 19 ) في مؤلفه : "رسالة في تاريخ العرب " متحدثاً عن سجايا الخلق المحمدي :

((إن محمداً كان يتصف بكثير من الصفات كاللطف والشجاعة ، وكرم الأخلاق ، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات في نفسه ، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميل أو هوى ، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشرته سنوات بصبر وجلد عظيمين ، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد مصافحه حتى لو كان يصافح طفلاً ، وأنه لم يمر بجماعة يوماً من الأيام رجالاً كانوا أم أطفالا دون أن يسلم عليهم ، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ، وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعيها ، و تجذب القلوب إلى صاحبها جذباً ، وقد كان محمد غيوراً ومتحمساً ، وما كانت حماسته إلا لغرض نبيل ، ومعنى سام ، فهو لم يتحمس إلا عندما كان ذلك واجباً مفروضاً لا مفر منه ، فقد كان رسول من الله ، وكان يريد أن يؤدي رسالته على أكمل وجه ، كما أنه لم ينس يوماً من الأيام كيانه أو الغرض الذي بعث من أجله ، دائماً كان يعمل له ويتحمل في سبيله جميع أنواع البلايا ، حتى انتهى إلى إتمام ما يريد )) .

وأما الكاتب الإنكليزي السير وليم موير فيتناول في مؤلفه : " حياه محمد " سجايا الرسول وشمائله ولين عريكته وتعامله مع الأطفال ، فيقول :

(( ومن صفات محمد الجليلة الجديرة بالذكر ، والحرية بالتنويه ، الرقة و الاحترام ، اللذان كان يعامل بهما أصحابه ، حتى أقلهم شأناً ، فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت في نفسه ، ورسخت محبته عند كل من حوله ، وكان يكره أن يقول لا ، فإن لم يمكنه أن يجيب الطالب على سؤاله ، فضل السكوت على الجواب ، ولقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها ، وقالت عائشة رض الله عنها ، وكان إذا ساءه شيء تبينا ذلك في أسارير وجهه ، ولم يمس أحداً بسوء الا في سبل الله ، ويؤثر عنه أنه كان لا يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيراً ، ولا يرفض هدية مهداة إليه مهما كانت صغيره ، وإذا جلس مع أحد أياً كان لم يرفع نحوه ركبته تشامخاً وكبراً ، وكان سهلاً لين العريكة مع الأطفال ، لا يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السلام ، وكان يشرك غيره في طعامه )) .

رجاحة عقله

ويتناول الباحث و المؤرخ – الفرنسي كاردفو ( 1872-1933 ) جانب بساطة الرسول ولين عريكته وسهولة خلقه مقروناً برجاحة العقل واتزان التفكير فيقول في كتابه :" العرب " :

((ومن المعروف عن _محمد_ أنه مع أميته كان أرجح الناس عقلاً ، وأفضلهم رأياً ، دائم البشر ، مطيل الصمت ، لين الجانب ، سهل الخلق ، يكثر الذكر ويقل اللغو ، يستوي عنده في الحق القريب والبعيد ، والقوي والضعيف ، يحب المساكين ، لا يحقر فقيراً لفقره ، ولا يهاب ملكاً لملكه ، يؤلف أصحابه ولا ينفرهم » ويساير من جالسه أو قاومه ، ولا يحيد عمن صافحه حتى يكون الرجل هو المنصرف ، يجلس على الارض ، ويخصف النعل ، ويرقع الثوب )) .

رقه قلب وأخو الإنسانية العظيم

إذ رقة قلب رسول الله و ، مشهودة له في سيرته الحياتية ، وكان فؤاده يتفطر حزناً على إخوانه في الإنسانية للفساد الواقعين به ، "والقرآن الكريم يشهد على ذلك حين يقول  ولعلك باخع نفسك إلا يكونوا مؤمنين  (26/3) ولقد عني عناية بالغة بمصلحة أتباعه وخيرهم " .

ويتناول المفكر الإنكليزي توماس كارليل في كتابه : " الأبطال " جوانب من حياة الرسول تظهر رقة قلبه ومحبته لأصدقائه و رحمته ، وأنه كان أخاً للإنسانية جمعاء ، يقول :

(( وكانت آ خر كلماته تسبيحاً وصلاة ، صوت فؤاد يهم بين الرجاء والخوف أن يصعد إلى ربه . ولا تحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله ، كلاً بل زادته فضلاً ، وقد يروى عنه مكرمات عالية ، منها قوله حين رزىء بغلامه : « العين تدمع ، والقلب يوجع ، ولا نقول ما يسخط الرب » . ولما استشهد مولاه زيد ( بن حارثة ) في غزوة " مؤتة " قال محمد : " لقد جاهد زيد في الله حق جهاده ، ولقد لقي الله اليوم فلا بأس عليه " ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلك يبكي على جثة أبيها ، وجدت الرجل الكهل الذي دب في رأسه المشيب يذوب قلبه دمعاً ! فقالت : " ماذا أرى ؟ " ، قال : " صديق يبكي صديقه " . مثل هذه الأقوال وهذه الأفعال ترينا في محمد أخا الإنسانية الرحيم ، أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق ، وابن أمنا الأولى وأبينا الأول )) .

و كانت رقة قلب الرسول و رحمته و خصاله الاخرى المتسمة بالانسانية تنطبق على مصداقية قوله : « الخلق كلهم عيال الله » ؟ يقول جان ليك في كتابه : " العرب " :

((ما أجمل ما قال المعلم العظيم ( محمد ) ( الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله )) .

محبة أصدقاءه

أما الباحث الإسلامي مولانا محمد علي فيتحدث عن جوانب الرحمة في حياة الرسول ومحبته أصدقاءه ، يقول :

(( وكان الرسول يحب أصحابه حباً جماً . وكان إذا ما صافح أحداً منهم لم يسحب يده إلا بعد أن يسحبها صاحبه . وكان لا يلقى الناس إلا بوجه باسم . وفي رواية عن جرير بن عبد الله أنه لم يمر النبي إلا وعلى وجهه ابتسامة . وكان في بعض الأحيان يمازح أصحابه ويداعبهم مداعبات بريئة . وكان يتحدث إليهم تاركاً نفسه على سجيتا غير مصطنع أيما تحفظ قد يوقع في نفوسهم أنه أسمى منهم مقاماً . . ، ولم يكن ليمتدح أو يثني على نفسه البتة . وكان يحمل أولاد أصحابه بين يديه ويحتضنهم . وكانوا يوسخون ملابسه في بعض الأحيان ، وكان أيما مسحة من الاستياء لم تكن لتطيف بوجهه . وكان يكره الاغتياب ويحظر على زائريه أن يذموا أحداً من أصحابه ، إذ كان _كما قال _ حسن الظن بهم جميعاً . وكان يبدأ أصحابه إذا لقيم ، بالسلام ، ويبدأهم بالمصافحة أيضاً . وكان يناديهم أحيانا بأسماء التحبب تعبيراً عن مودته لهم . وكان لا يصادقه أحد منهم إلا رعى صداقته وقدرها حق قدرها . وكان أبو بكر خليله وصفيه حتى اللحظة الاخيرة . وكان من دأب الرسول أن يتذكر _في تأثر غض _ وفاة خديجة وإخلاصها ، حتى بعد انقضاء سنوات طويلة على وفاتها . وكان زيد ، عبده المعتق ، شديد التعلق به إلى حد جعله يؤثر البقاء في كنفه على الذهاب مع أبيه إلى مسقط رأسه . وكان يتغاضى عن مناحي الضعف عند الناس ولايلمح إليها مجرد إلماح . وحتى إذا وقف في المسلمين خطيباً تحدث عن الوسيلة إلى التخلص من عيب معين من غير أن يدع أيما امرىء يشعر أن الرسول يشير إليه ، )) .

رحمته بالأعداء

والحديث عن سماحة الرسول ومحبته أصدقاءه ، لا بد أن يقود إلى موقف الرسول من الأعداء . . فالرحمة والسماحة هما سمتان طبيعيتان في جبلته تبرزان في تعامله مع أصدقائه أو أعدائه . يقول مولانا محمد على :
(( وسماحة الرسول نحو أعدائه يعز نظيرها في تاريخ العالم . فقد كان عبد الله بن أبي عدواً للإسلام ، وكان ينفق أيامه ولياليه في وضع الخطط لإيقاع الأذى بالدين الجديد ، محرضاً المكيين واليهود تحريضاً موصولاً على سحق المسلمين . ومع ذلك فيوم توفي عبد الله دعا الرسول ربه أن يغفر له ، بل لقد قدم رداءه إلى أهله كي يكفنوه به . والمكيون الذين أخضعوه وأصحابه ، دائماً وأبداً ، لأشد التعذيب بربرية منحهم عفواً عاماً . وفي إمكان المرء أن يخيل المعاملة التي كان يجدر بفاتح دنيوي النزعة أن يعاملهم بها . ولكن صفح الرسول كان لا يعرف حدوداً . فقد غفر لهم ثلاثة عشر عاماً من الاضطهاد والتآمر . وكثيراً ما أطلق سراح الأسرى في سماحة بالغة ، رغم أن عددهم بلغ في بعض الأحيان ستة آلاف أسير . وفي رواية عن عائشة أنه لم ينتقم في أيما يوم من الأيام من امرىء أساء إليه . صحيح أنه أنزل العقوبة ببعض أعدائه في أحوال نادرة جداً ، وفي فترات جد متباعدة . ولكن تلك الحالات كانت تطوى كلها على خيانات بشعة قام بها أناس لم يعد الصفح يجدي في تقويمهم وإصلاحهم . والحق أن ترك أمثال هؤلاء المجرمين سالمين غانمين كان خليقاً به أن يني استحسان الأذى والتشجيع عليه . والرسول لم يلجاً إلى العقوبة قط حيثما كان ثمة مجال لنجاح سياسة الصفح كرادع إن لم نقل كإجراء إصلاحي . ولقد أسبغ عفوه على أتباع الأديان جميعاً _يهود ، ونصارى ، وؤثنيين ، وغيرهم _ إنه لم يقصر إحسانه على أتباع دينه فحسب )) .

الرحمة و العنف

غير أن موقف الرسول من الأعداء لا بد أن يقود عملياً ، إلى مناقشة المواقف التي تفرض على القائد فرضاً فتدفعه إلى الشدة التي يراها البعض قسوة وعنفاً ، . . فالرسالة الإسلامية هذه النبتة التي نشأت في مناخ عدائي لا يمكن أن تظهر كدوحة جبارة دون أن تكون على مواقف جدية في مواجهة العنف المضاد ، في إطار المجابهة بين قوتين أو أحياناً القيام بأعمال رادعة تمنع تآمر الأعداء و تزيل أخطارهم المستقبلية ، يقول توماس كارليل :

(( ولم تخل الشعوب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قسوة ، ولكنها لم تخل كذلك من دلائل رحمة وكرم وغفران . وكان محمد لا يعتذر من الأولى ولا يفتخر بالثانية . إذ كان يراها من وحى وجدانه وأوامر شعوره ، ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ولا شعوره بالظنين )) .
ومن العجب أن بعض المستشرقين الحاقدين ألصقوا بالرسول تهمة القسوة والجبن .. فكان أن انبرى من صفوف رجالاتهم من عرفوا حقيقة الخلق المحمدي ، وطبيعة الرسالة الإسلامية السمحة ليدافعوا عن الرسول ، وينافحوا عن الرسالة ، مظهرين بطلان ما نفثته أقلام الحاقدين ، ومن بين أولئك المنصفين الذين قدروا الرسول حق قدره المؤرخ المستشرق الفرنسي سيديو الذي أعطى الحضارة الإسلامية حقها، يقول :

((من التجني على حقائق التاريخ ما كان من عزو بعض الكتاب إلى محمد القسوة والجبن. فقد نسي هؤلاء أن محمداً لم يأل جهداً في إلغاء عادة الثأر الموروثة الكريهة التي كانت ذات حظوة لدى العرب ، كحظوة المبارزات بأوروبة فيها مضى . وكأن أولئك الكتاب لم يقرأوا آيات القرآن التي قضى محمد فيها على عادة الوأد الفظيعة . وكأنهم لم يفكروا في العفو الكريم الذي أنعم به على ألا أعدائه بعد فتح مكة ، ولا في الرحمة التي حبا بها ، كثيراً من القبائل عند ممارسة قواعد الحرب الشاقة ، ولا إلى ما أبداه من أسف على بعض الأمم الشديدة ، وكأنهم لم يبصروا أن الأمة أم القبائل العربية كانت تعد الانتقام أمراً واجباً وأنها ترى من حق كل مخلص أن يقتل من غير عقاب من يكون خطراً عليها ذات يوم . . . وكأنهم لم يعلموا أن محمداً لم يسئ ، استعمال ما اتفق له من السلطان العظيم ، قضاء لشهوة القسوة الدنيئة ، وأنه لم يأل جهداً _في الغالب _ في تقويم من يجور من أصحابه ، والكل يعلم أنه رفض _بعد غزوة بدر_ رأي عمر بن الخطاب في قتل الأسرى ، وأنه عندما حل وقت مجازاة بني قريظة ترك الحكم في مصيرهم لحليفهم القديم سعد بن معاذ ، وأنه صفح عن قاتل عمه حمزة ، وأنه لم يرفض _قط _ ما طلب إليه من اللطف والسماح )) .

ليس الإرهاب من الخلق المحمدي

ولقد رد العقاد في كتابه : " عبقرية محمد " على أولئك المستشرقين الذين ادعوا أن الإسلام لم ينجح بغير الوعيد والوعود أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر ، والحور العين ، بقوله :

(( أي إرهاب وأي سيف ؟

(( إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف . . وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يعرضون أحداً لسيوفهم ، وكانوا يلقون عنتاً ولإ يصيبون أحداً بعنت ، وكانوا يخرجون من ديارهم لياذاً بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين ونقمة الناقمين ، ولا يخرجون أحداً من داره .

فهم لم يسلموا على حد السيف خوفاً من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه ، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين ، ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف ليدفعوا الأذى ، ويبطلوا الإرهاب والوعيد ، ولم يحملوه ليبدأوا أحداً بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان .

فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع .

أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين ، فلو كان هو باعثاً للإيمان ، لكان أحرى الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية هم فسقة المشركين وفجرتهم ، وأصحاب الترف والثروة فيهم ، ولكن طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة . فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين ، بل لعلها أشهي إلى الأولين وأدنى ، ولعلهم أحرص عليها وأحن ، لأن الحرمان بعد التذوق والاستمرار أصعب من حرمان من لم يذق ولم يتغير عليه حال .

لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر . . . ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه )) .

و بعد أن وقفنا عند منافحة المفكر العربي عباس محمود العقاد عن الرسول ونفي ما جاء به المستشرقون من اتهامات مغرضة ، ونظرات مجحفة ، وأقاويل باطلة نقف عند رد الباحث الإنكليزي توماس كارليل على تلك الفرية التي تذهب إلى أن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف ، يقول هذا الكاتب المنصف :

(( ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد دينه بالسيف ، فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه ، فشد ما أخطأوا وجاروا ، فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف ، ولكن ما هو الذي أوجد السيف ؟ هو قوة ذلك الدين ، وأنه حق . والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد ، فالذي يعتقده هو فرد _فرد ضد العالم أجمع _، فإذا تناول هذا الفرد سيفاً وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع . وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال ، أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً ، وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون ، وأنا لا أحفل كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أو بأية آلة أخرى ، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار ، لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها فإنها لن تزم إلا ما كان يستحق أن يهزم ، وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خير منها ، بل ما هو أحط وأدنى . فإنها حرب لا حكم فيها إلا الطبيعة ذاتها ، ونعم الحكم ما أعدل وما أقسط ، وما كان أعمق جذراً في وأذهب أعراقاً في الطبيعة ، فذلك هو الذي ترونه بعد الهرج و المرج والضوضاء والجلبة نامياً زاكياً وحده .

أقول الطبيعة أعدل حكم، بلى ما أعدل وما أعقل وما أرحم وما أحلم ، إنك تأخذ حبوب القمح لتجعلها في بطن الأرض ، وربما كانت هذه الحبوب مخلوطة بقشور و تبن وقمامة وتراب ، وسائر أصناف الأقذاء ، ولكن لا بأس عليك من ذلك ، وألق الحبوب بجميع ما يخالطها من القذى في جوف الأرض العادلة البارة فإنها لا تعطيك إلا قمحاً خالصاً نقياً ، فأما القذى فإنها تبلعه في سكون و تدفنه ، و لانذكر عنه كلمة ، وما هي إلا برهة حتى نرى القمح زاكياً يهتز كأنه سبائك الإبريز ، والأرض الكريمة قد طوت كشحاً على الأقذاء وأغضت ، بل إنها حولتها كذلك إلى أشياء نافعة ، ولم تشك منها شجواً ولا نصباً . وهكذا الطبيعة في جميع شؤونها ، فهي حق لا باطل ، وهي عظيمة وعادلة ورحيمة حنون ، وهي لا تشترط في الشيء ، إلا أن يكون صادق اللباب حر الصميم ، فإذا كان كذلك حمته وحرسته ، أو كان غير ذلك لم تحمه ولم تحرسه ، فترى لكل شيء تحميه الطبيعة روحاً من الحق ، أليس شأن حبوب القمح هذه والطبيعة هو ، وا أسفاه ، شأن كل حقيقة كبرى جاءت إلى هذه الدنيا أو تجيء ، فيها بعد ؟ أعني أن الحقيقة مزيج من حق وباطل نور في ظلام ، وتجيئنا الحقائق في أثواب من القضايا المنطقية و نظريات علمية من الكائنات ، لا يمكن أن تكون تامة صحيحة صائبة ، ثم لا بد من أن يجيء يوم يظهر فيه نقصها وخطأها وجوهرها فتموت وتذهب ، نعم يموت ويذهب جسم كل حقيقة ، ولكن الروح تبقى أبداً ، ويتخذ ثوباً أطهر ، وبدناً أشرف ، وما يزال يتنقل من الأثواب والأبدان ، من حسن إلى أحسن وجيد إلى أجود ، سنة الطبيعة التي لا تتبدل . نعم إن جوهر الحقيقة الكريم حي لا يموت ، وإنما النقطة الهامة والأمر الوحيد الذي يعرض في محكمة الطبيعة ومجلس قضائها هو هل هذا الروح حق وصوت من أعماق الطبيعة ؟ وليس بهام عند الطبيعة ما نسميه نقاء الشيء ، أو عدم نقائه ، وليس هو بالسؤال النهائي ، ليس الأمر الهام عند الطبيعة حينا تقدم اليها أنت لتصدر حكمها فيك ، هو أفيك أقذار وأكدار أم لا؟ وإنما هو أفيك جوهر وروح صدق أم لا؟ أو بعبارة تشبيية ليس السؤال الهام عند الطبيعة هو أفيك قشور أم لا؟ بل أفيك قمح ؟ أيقول بعض الناس إنه نقي ، إنى أقول له : " نعم نقي " نقى جداً ولكنك قشر ، ولكنك باطل وأكذوبة وزور وثوب بلا روح ، ومجرد اصطلاح وعادة ، وما امتد بينك وبين سر الكون وقلب الوجود سبب ولا صلة ، والواقع أنك لا نقي ولا غير نقي ، وإنما أنت لا شيء والطبيعة لا تعرفك وإنها منك براء )) .

غير أننا فيها يتعلق بفي الإرهاب . . عن الخلق المحمدي ، أن النضال البطولي الإنساني للرسول إن دل على شيء فعلى عظمة النبي وقوة شخصيته وصبره العظيم . فما أبعده عن الضعف والجبن والقسوة والإرهاب . . لقد كان قوي الكبير في جميع مواقفه ، جمع الرحمة إلى الحزم ، واللين إلى الثبات ، حتى تمكن أن ينشر رسالة ربه التي صدع بها ، يقول الكاتب ميخائيل طعمة في مقالة له نشرتها جريدة الكرمل التي كانت تصدر في حيفا قبل الاحتلال الصهيوفي :

(( لو لم يكئ خلق محمد عظيما لانقلب عليه محيطه ، ولو لم يكن خلق محمد عظيماً لضعف أمام ما اعترضه من العقبات ، ولرأى نفسه مضطراً إلى مجاراة محيطه ، ولما قوي على إحداث ما أوجده من الانقلاب العظيم ، فبدل الضلال بالهدى ، والجهل بالعلم ، والهمجية بالمدنية )) .

العفو عد المقدرة

ويقودنإ مبعث رحمة الرسول بالاعداء ، و نفي سمة الارهاب عن الخلق المحمدي ، إلى تناول جانب عملي في أخلاق الرسول ، وهو عفوه عن أعدائه عند المقدرة .

يقول المستشرق البريطاني لين بول في مؤلفه : " درسالة في تاريخ العرب ":

(( إن ما تصف به ( محمد ) من الصبر واحتمال المكاره ، والعمو عند المقدرة ، لبرهان لنا واضح على أنه كان صادقآ إذ يقول :  لا اكراه في الدين  ( 2/256) فمحمد ذو يقين راسخ وقوة عزم هاثله )) .

ويتناول الكاتب الإسلامي مولانا محمد علي مسألة العفو في أخلاق الرسول ، ما تشكله من جانب هام في شخصيته ، يقول :

(( وكان العفو جوهرة أخرى بالغة الإشعاع في شخصية الرسول . لقد وجدت فيه تجسدها الكامل . ولقد أوصاه القرأن الكريم بـ( أن يأخذ بالعفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين ).

ولقد جاءه تفسير ذلك من لدنه تعالى . على هذا النحو : ( صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، واغفر لمن أساء إليك ). والحق أن هذه الوصية ( تبق عند الرسول حرفاً ميتاً أو موعظة رخيصة . لقد عاش وفقها حتى في أحرج المواقف . وفي معركة أحد ، عندما جرح وسقط على الأرض ، سأله أحد الصحابة أن يستنزل اللعنة على العدو ، فأجاب : ( أنا لم أبعث لعاناً للعالمين ، ولكن بعثت هاديا ورحمة . . اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ). وذات مرة جذبه بدوي طارحاً دثاره حول عنقه ، وحين سئل الرسول لم لم يعامله بالمثل أجاب قائلاً : إنه لا يرد على الشر بالشر أبداً . وليس من ريب في أن ما أظهره عند فتح مكة من عفو كريم شيء يعز نظييه في تاريخ العالم كله . كان المشركون قد بذلوا كل جهد يمكن تصوره للقضاء على الإسلام واغتيال الرسول . ولكنه لم يوجه إليهم أي كلمة تعنيف على هذه الجرائم الرهيبة كلها . لقد أسبغ عفوه الجزيل حق على أعداء من مثل إبي سفيان الذي لم يدخر وسعاً في العمل على إيذاء الإسلام ، وعلى زوجته هند التي لم تتورع عن مضغ كبد حمزة على نحو بربري شنيع )) .

أما الباحث الإنكليزي ولير موير فقد تحدث عن معاملة رسول الله ، أعداءه تلك المعاملة التي اتسمت بالرحمة والعفو، حين فتحه مكة ، يقول :

(( وعامل حتى ألد أعدائه بكل كرم وسخاء حتى مع أهل مكة ، وهم الذين ناصبوه العداء سنين طوالاً ، وامتنعوا من الدخول في طاعته ، كما ظهر حلمه وصفحه في حالتي الظفر والانتصار ، وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له )) .

يقول مارسيل بوازار في كتابه : " إنسانية الإسلام " موضحاً نضال الرسول ومنافحته عن المجتمع الإسلامي الجنيني ، ورحمته وعفوه عند المقدرة :

(( وبالرغم من قتاليته ومنافحته ، فقد كان يعفو عنا المقدرة ، لكنه لم يكن ليلين أو يتساح مع أعداء الدين . ويبدو أن مزايا النبي الثلاث ، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة ، قد طبعت المجتمع الإسلامي في إبان قيامه ، وجسدت المناخ الروحي للإسلام الاتباعي ، ولا تنفك الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية تصور في الأذهان كرم الرسول و تواضعه ، كما تصور استقامته ونقاءه ولطفه وحلمه . وكما يظهره التاريخ قائداً عظيماً ملء ، قلبه الرأفة ، يصوره كذلك رجل دولة صريحاً قوي الشكيمة (ديمقراطياً) )) .

مضاء عزيمه  وثباته على المبدأ

والحديث عن أخلاق الرسول لا بد أن يستدعى وقفة عند مضاء عزيمته ، ووقوفه بثبات ورسوخ دفاعاً عن العقيدة ، يقول توماس كارليل :

((ولان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد . وطالما كان يذكر يوم « توك » إذ أبى رجاله السير إلى موطن القتال ، واحتجوا بأنه أوان الحصيد وبالحر ، فقال لهم : الحصيد؟ إنه لا يلبث إلا يوماً . فماذا تتزودون للآخرة ؟ وامحر؟ نعم إنه حر ، ولكن جهنم أشد حراً . وربما خرج بعض كلامه تهكماً وسخرية . إذ يقول للكفار ، : ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم ويوزن لكم الجزاء ، ثم لا تبخسون مثقال ذرة )) .

ويقول مولانا محمد على :
(( ان تراجم الرسول ، التي كتبها أصدقاء له وأعداء على حد سواء ، لتجمع كلها على الإعجاب بعزمه الراسخ وثباته الذي لا يتزعزع ، في أشد المحن قسوة . كان اليأس والقنوط لا يعرفان إلى قلبه سبيلاً ، فعلى إلرغم من أن المستقبل المظلم والمقاومة العنيدة كانا يكتنفانه من أقطاره جميعاً فإن إيمانه بالنصر النهائي لم يهن لحظة واحدة . لقد عجزت أعتى عاصفة من عواصف الشدائد عن أن تزحزحه عن موقفه قيد شعرة . كان من دأبه أن يتخذ للأمر كل عدة ممكنة ، وأن يصطنع للنجاح كل وسيلة متيسرة ، ثم يتوكل على الله . ولم تكن صروف الزمان و تقلبات الأيام لتقوى على إخماد عزيمته . فلم تكد تنقضي على كارثة أحد الرهيبة أربع وعشرون ساعة ليس غير حق انطلق مطارداً العدو . وبكلمة ، فقد كان قلبه ، مهما قست المحن ، متوهجاً أبداً بإيمان راسخ بأن الحق لا بد أن ينتصر في آخر الشوط )) .

خلوص في النية و انصاف بالحكم وحفاظ على الذمام

هذا ، وإن محمداً المناضل الصامد والنبي الملهم ، والقائد السياسي والمشرع العظيم عرف عنه دائماً خلوص انية وانزاهة في الحكم والانصاف ، وحفظه الذمام ، يقول المستشرق والفيلسوف الفرنسي إدوار مونتيه ، في كتابه : « العرب » :

(( عرف محمد بخلوص النية و الملاطفة و انصافه في الحكم ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق ، وبالجملة كان محمد أزكى و أدين وأرحم عرب عصره ، وأشدهم حفاظا على الذمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل ، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم)) .

الصدق والأمانه

وعرف الرسول منذ نعومة أظفاره أنه الصادق الأمين ، فكانت سيرته مفعمة بالاستقامة مشحونة بالإخلاص . . .

يقول المؤرخ الفرنسي لاتيس (1847-1909) في مقالة له نشرتها مجلة الهلال المصرية عن أمانة الرسول وصدقه في نضاله في سبيل نشر الرسالة ، ما جعله يحقق معجزة إشادة أول دولة إسلامية :

(( إن محمدا كان مشهورا بالصدق منذ صباه ، حتى كان يلقب بالأمين ، وما زال يسهر لحياة دينه والعرب حتى مات ، وما مات حتى أسس ديناً وأقام دولة )) .

أما المستشرق الفرنسي إميل برينغهام (1857-1924) فقد حاول أن يرسم صورة للرسول بالقلم ، إذ تقصى سائر مراحل حياته ليس في الكتب وحسب بل من روح الحضارة التي غرسها في نفوس أتباعه ، فكتب يقول في كتابه : « الشرق والإسلام » :

(( إنني أردت أن أصور محمداً صورة مطابقة للواقع على قدر الإمكان كما فهمتها كما قرأتها عنه في الكتب ، وكما رأيتها في أرواح أتباعه الحية ، إلى أن قال : فنشاً معتمداً على نفسه ، يرجح اليها في الكبيرة والصغيرة ، ويجهد ويعمل لحسب حياته من عرق جبينه ، إذ لم يكن ذا ثروة تكفيه مؤنة السعي ، فكانت ثروته عند نشأته ، صدقه وأمانته ونزاهته وإخلاصه ، وتلك لعمر الله الكبير الثروات وأغلاها ، تلك كانت صفأته محمد في وسط منحل لا يعرف أخلاقاً ولإنبلاً )) .

ويتحدث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل عن طبع الرسول المفكر وسداد أخلاقه ويقدم صورة قلمية عنه ، مظهراً مزاياه الخلقية والخلقية » التي ينبع منها النبل والشهامة والصدق ، يقول :

((ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً » وقد سماه رفقاؤه الأمين ، أي رجل الصدق والوفاء ، الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره » وقد لاحظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة ، وإني لاعرف عنه أنه كان كثير الصمت ، يسكت حيث لا موجب للكلام ، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة ، لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته ، وكشف ظلمته ، وأبان حجته ، واستثار دفينته ، وهكذا يكون الكلام وإلا فلا .

وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ ، صارم العزم ، بعيد الهم ، كريماً براً رؤوفاً نقياً فاضلاً حراً ، رجلاً شديد الجد مخلصاً ، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة ، جم البشر والطلاقة ، حميد المعشر حلو الإيناس ، بل ربما مازح وداعب . وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق ، لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأحواله ، هؤلاء لا يستطيعون أن يبتسوا . وكان محمد جميل الوجه ، وضيء الطلعة ، حسن القامة ، زاهي اللون ، له عينان سوداوان تلألآن ، وإنى لأحب في جبينه ذلك العرق الذي كان ينتفخ ويسود في حال غضبه (كالعرق المقوس الوارد في قصة القفازة الحمراء لوالترسكوت ) ، وكان هذا العرق خصيصة في نبي هاشم ، ولكنه كان أبين في محمد وأظهر . نعم ، لقد كان هذا الرجل حاد الطبع ناري المزاج ، ولكنه كان عادلاً صادق النية ، كان ذكى اللب شهم الفؤاد ، لوذعياً كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم ممتلئا ناراً ونوراً ، رجلا عظيما بفطرته ، لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم ، وهو غني عن ذلك كالشوكة استغنت عن التنقيح ، فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء )) .

ولكن رغم ما اتصف به النبي من صفات الكمال الخلقي ، كان هناك عدد من المتشرقين بدافع التعصب الأعمى والحقد الطائفي الدفين الذي هو وليد الحروب الصليبية ، دأبهم تشويه صورة الرسول و تروى الحقائق التاريخية . . فنهد لهم المستشرق الفرنسي ميسمر للرد عليهم مسفها تلك الأقاويل ، داحضاً تلك التخرصات في كتابه : « العرب في عهد محمد » ، وذهب إلى الرأي بأن كل من ينكر صدق محمد هو كاذب سفيه لا يتحدث بوحى من ضمره ونعما ذلك المنصف الذي يقول :

(( ان من تسافه و انكر صدق محمد فقد بت بهذه المسألة دون ان يحلها ، و حمل ضميره مسؤولية المكابرة ، و رمى بنفسه الى نهاية سيئة ، إذ ليس من وحي الضمير الحر ما يقارفه أولئك المغرضون على محمد الذي اتصف بكل صفات الكمال )) .

عظيم في أخلافه وسيد الأنبياء في شريعته

كان الرسول عظيماً في اخلاقه إنساناً وقائداً ونبياً ، لا ينطق عن الهوى . . ويرى المندوب الفزنسي على سورية ولبنان مكسيم ويغان ، أنه القدوة الحق بأخلاقه وشريعته ، هذا وقد قال في خطبة له القاها في بيروت عام 1925 بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوى :

((مهما احتفل المسلمون بعيد ميلاد محمد فهو قليل ، لأنه جاءهم بدين هو فوق الأديان ، وهو في نفسه كبير، وفي أخلاقه عظيم ، وفي شريعته سيد الأنبياء، فعلى المنصفين أن يحتفلوا بالذكرى عظماء التاريخ، وفي طليعتهم محمد الرسول العربي القائد الأعلى لتحقيق شريعة الله على الأرض ، و تركيزها في صدور الناس )) .

وإنك لعلى خلق عظيم

ليس بوسعنا هنا أن نستعرض سائر شمائل النبي محمد من جوده الذي لا حدود له ، وتهذيه الرفيع ، وشجاعته النادرة ، وحيائه الجم الذي يقرب من خفر العذارى . . وفي أسلوب تعامله مع الاخرين . . . إلاً أنا ندرك من الخطوط العريضة لمناقبه أنه اجتمعت فيه سائر الصفات الحميدة ، ومكارم الأخلاق ، كما ينطبق عليه وصف !لقرآن الكرم إياه بقوله تعال :  وإنك لعلى خلق عظيم  .

محمد المثل الكامل

ويتحدث اللورد هيدلي عن اخلاق الرسول راداً تهم الافتراء والتزوير التي حاولت المساس بمصداقية أخلاقه وعظمته .

((ليس في وسع الإنسان ، في الحقيقة ، إلا أن يعتقد أن مدبحبي وناسجي هذه الأفتراءات لم يتعلموا حتى ولا أول مبادىء دينهم ، وإلا لما استطاعوا أن ينشروا في جميع أنحاء العالم ، تقاير معروفاً لديهم أنها محض كذب وافتراء .

إن تعالير القرآن قد نفذت ومورست خلال حياة محمد الذي _سواء في أيام تحمله الألم وا.ضطهاد ، أو في زمن انتصاره ونجاحه _ أظهر أشرف الصفات الخلقية التي لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها .

فكل صفات الصبر والثبات في عصره كانت و ترى أثناء الثلاث عشرة سنة التي تألمها في مجاهداته الأولى بمكة . ولم يشعر في كل زمان هذا الجهاد بأى تزعزع في الثقة بالله ، وأتم كل واجباته بشمم و حمية.

كان  مثابراً ، لا يخشى اعداءه لانه كان يعلم بانه مكلف بهذه المأمورة من قبل الله . ومن كلفه بهذا العمل لن يتخل عنه ..

وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا تعرف الجفول _تلك الشجاعة التي كانت حقاً إحدى ميزاته وأوصافه العظيمة _ إعجاب واحترام الكافرين ، وأولئك الذين كانوا يشتهون قتله . . . ومع ذلك فقد تنبهت مشاعرنا ، وازداد إعجابنا به بعد ذلك في حياته الأخيرة ، أيام انتصاره بالمديية ، عندما كانت له القوة والقدرة على الانتقام ، واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل ، بل عفا عن كل أعدائه .

العفو والإحسان والشجاعة ، ومثل هاتيك الصفات ، كانت ترى منه في كل تلك المدة ، حتى إن عدداً عظيماً من الكافرين اهتدوا إلى الاسلام عند رؤية ذلك .

عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذبوه ، آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة ، وأغنى فقراءهم وعفا عن ألد أعدائه ، عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته ... !

تلك الأخلاق الربانية التي أظهرها النبي الكريمم ، اقنعت العرب بأن حائزها يجب أن لا يكون إلا من لدن الله ، وأن يكون رجلاً على الصراط المستقم حقاً ، وكراهيتهم المتأصلة في نفوسهم ، حولتها تلك الأخلاق الشريفة إلى محبة وصداقة متينة .

محمد المثل الكامل . . . .

ونحن نعتبر أن نبي بلاد العرب الكريم ، ذو أخلاق متينة ، وشخصية حقيقية ، وزنت واختبرت في كل خطوة من خطا حياته ولم ير فيها أقل نقص قط .

وبما أننا في احتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في خطوات الحياة ، فحياة النبي المقدس تسد تلك الحاجة . حياة محمد كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل الراقي ، والسخاء والكرم ، والشجاعة والإقدام ، والصبر والحلم ، والوداعة والعفو ، وباقي الاخلاق الجوهرية التي تكون الإنسانية .

نرى ذلك فيها بألوان وضاءة . . خذ أي وجه من وجوه الآداب تتأكد بأنك تجده موضحاً في إحدى حوادث حياته .

ومحمد وصل إلى أعظم قوة ، وأتى إليه مقاوموه ووجدوا منه شفقة لا تجارى، وكان ذلك سبباً في هدايتهم )) ...!

فضائل مجسمة لا نظير لها

وفي الختام نرى أن ما ذهب إليه المستشرق الإنكليزي السير وليم موير في كتابه : « حياة محمد » هو خير ما يمكن أن نختم به النظرة الاستشراقية المنصفة لأخلاق الرسول وشمائله ، إذ يقول :

((وباختصار فإنه مهما ندرس حياة النبي محمد  نجدها على الدوام عبارة عن كتلة فضائل مجسمة مع نقاء سريرته وخلق عظيم، وستبقى تلك الفضائل عديمة النظير على الإطلاق في جميع الأزمان : في الماضي وفي الحاضر والمستقبل )) .

القسم الثالث

الرسول و رسالة الإسلام

الباب الأول
صدق الرسول و صحة الرسالة

قيام الدولة الإسلامية و بدء الصراع الديني بين المسيحية و الإسلام

فمنذ أن صدع الرسول الكريم برسالة الإسلام ، وشرع ينشر الدعوة ،وقعت المجابهة ما بين الدولة الإسلامية والدولة المسيحية البيزنطية . . . . وترك مناخ الصراع هذا أثره على المرحلة اللاحقة في وقوع المجابهة المباشرة في أرض الإسلام إبان الحروب الصليبية ، وامتدت مع ظهور أوروبة البرجوازية ، وانتشار حركة الاستشراق التي كانت بادىء ذي بدء جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي . . . ومن ثم وقوع الشرق في براثن الغرب ، كما خلق مناخ عدم الثقة ما بين الشرق المسلم والغرب المسيحي ، وما زالت آثاره ملموسة حتى اليوم .

الاستشراق الأداة الفكرية للإمبريالية ما بين الشرق و الغرب

وإن كنا لسنا في معرض دراسة تاريخية لحركة الاستشراق، فلا مندوحة لنا من القول ، إن مناخ المجابهة ما بين الشرق والغرب غالباً ما جعل الاستشراق أداة في هذا الصرع ، فتكشفت المواقف المعادية للرسول محمد ولرسالة الإسلام في محاولة التشكيك بصدق الرسول لتطعن من ثم بمصداقية الرسالة .

الكنيسة المسيحية معقل الهجوم على الإسلام

لقد كانت الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى المعقل الأساسي للهجوم على النبي العربي _عليه السلام _ وعلى رسالة الإسلام ، فكان دورها الأول تغذية روح العداء ، وإثارة الأحقاد الدينية ، وإثارة روح التعصب الأعمى بذريعة أن الرسول  عدو المسيح ، وأن الإسلام ينقض إلى مسيحية ، ضاربة عرض الحائط بالحقائق الثابتة التي نادى بها الإسلام ، و هي أنه جاء ليتمم لا لينقض ، ناهيك باعترافه بسائر أنبياء التوراة ، وأنه أحل المسيح _عليه السلام _ منزلة رفيعة وكذلك والدته مريم البتول .

ورغم مواقف الإسلام الإيجازية من الشعوب والمعتقدات المسيحية ، فإن الإسلام ورسول الإسلام ظلاً موضع الهجوم الشرس والعنيف . ويبسط المستشرق الإنكليزي مونتجمري وات فكرته بدراسة الأحقاد المسيحية الموجهة ضد الإسلام بقوله :

((ليس بين كبار رجال العالم رجل كثر شانئوه كمحمد . ومن الصعب فهم السبب الذي دعا إلى ذلك . فلقد كان الإسلام خلال قرون عدة العدو الكبير للمسيحية ، ولم تكن المسيحية ، في الحقيقة ، على اتصال مباشر بأية دولة أخرى منظمة توازي الإسلام في القوة . فلقد هوجمت الإمبراطورية البيزنطية بعد أن فقدت مقاطعاتها في سورية ومصر في آسية الصغرى وافريقية ، بينما كانت أوروبة الغربية مهددة في أسبانية وصقلية .

وأخذت الدعاية الكبرى في العصور الوسطى ، حتى قبل أن توحد الحرب الصليبية اهتمام المسيحيين حول طرد العرب من الأرض المقدسة ، تعمل على إقرار فكرة (العدو الأكبر) في الأذهان ، ولو كانت تلك الدعاية خالية من كل موضوعية .

وأصبح محمد "ماهومد " ( أميو الظلمات ) حتى إذا ما حل القرن الحادي عشر كان للأفكار الخرافية المتعلقة بالإسلام والمسلمين والقائمة في أذهاك الصليبيين تأثير يؤسف له : فلقد أنذر الصليبيون بأن ينتظروا أسواً الأمور من الأعداء ، ولما وجدوا بين هؤلاء الأعداد كثيراً من المحاربين الفرسان شعروا بالريبة من السلطات الدينية المسيحية . ولهذا حاول بطرس الراهب أن يعالج هذا الوضع بإذاعة معلومات أصدق عن محمد والديانة التي يدعو لها . وقد حدث فيما بعد تطور كبير في هذا السبيل و لاسيما منذ قرنين من الزمن ، وإن ظل كثير من الأوهام عالقاً في الأذهان )) .

النقد الاستشراقي لموقف الكنيسة المتعنتة

ومع تكون الوعي لدى العسكرين الغربيين ، بعد تحررهم من سيطرة الكنيسة ومن أساليبا الدعائية المضللة ، اتجه الأستشراق إلى دراسة المواقف العدائية للكنيسة ، ووضعها تحت مجهر النقد بأقلام غربية منصفة . فقد ناقش الكاتب الأيرلندي برنارد شو بحيادية المفكر وموضوعية العالم مواقف الكنيسة المسيحية من الإسلام في القرون الوسطى ، وأظهر أنها لم تصدر إلا عن التعصب الذميم ، ورد على فرية أن محمداً عدو المسيح ، وجل ما عمله أنه أسقط الوثنية ونادى بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، فكان بذلك المنقذ والمحرر ، يقول :

(( لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين الإسلام بطابع أسود حالك ، إما جهلاً وإما تعصباً ، إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمد ودينه ، فعندهم أن محمداً كان عدواً للمسيح . ولقد درست سيرة محمد الرجل العجيب ، وفي رأي أنه بعيد جداً من أن يكون عدواً للمسيح . إنما ينبغي أن يدعى منقذ البشرية )) .

وما هو الكبير بشر يوحى اليه ، ونفي تهمة الألوهيه عن محمد

ويذهب الباحث الإنكليزي الكولونيل بودلي في كتابه : " حياة محمد " إلى أن كثيراً من المستشرقين والكتاب الغربيين قد وقعوا في شرك التعصب ، الذميم بسبب انجرافهم بتيار ترويج الأباطيل والسخافات عن الإسلام منذ الحروب الصليبية جراء (أنهم لم يفهموا محمداً وشريعته ) ، التي هي الدعوة إلى السلام والتسليم لإرادة الله ووحدانيته . كما كتب بودلي في دفاعه عن الرسول والرسالة مجاهراً بقوله :

((إن من أعظم الكبائر في نظر الإسلام ألشرك بالله . . ، وإن محمداً لم يدع لنفسه صفة إلهية ، وكثيراً ما صرح بأنه بشر يوحى إليه ، وأن السبب في سرعة انتشار الإسلام عن غيره من الأديان ، وهو عدم ادعاء النبي صفة إلهية ، وعدم دعوته إلى عبادة شخصه ، وكذلك تسليم القرآن بصحة الديانات المنزلة من قبل )) .

وبدوره يفند المستشرق هنري دي كاستري في كتابه : " الإسلام خواطر وسواخ " تهمة الألوهية عن محمد ، بقوله :

((وذهبوا إلى أن محمداً وضع دينه بادعائه الألوهية . ومن المستغرب قولهم : إن محمداً الذي هو عدو الأصنام ومبيد الأوثان ، كان يدعو الناس لعبادته في صورة وثن من ذهب . بل لقد أغرق خيالهم في الضلال . فذهبوا إلى أبعد من ذلك .

وذهبوا إلى صورة "ماهومت" كانت تصنع من أنفس الاحجار والمعادن بأحكم صنع وأدق إتقتان )) .

ومن ثم يخلص إلى القول :

(( ولقد أطلنا القول في تلك الأضاليل لأن تاريخ إسكندر• المذكور لم يزلها ، ولأنها تركت أثراً في الأذهان وصل إلى أهل هذه الأيام ، وتشبعت به أفكارهم في النبي وكتابه )) .

محمد و الحقيقة التاريخية

وكان فيمن تصدى للأقلام المغرضة المستشرقة الإيطالية لورا فكشيا فالييري ( 1839 _1897 ) التي طفقت تدافع _في القرن التاسع عشر عن الرسول العربي ، وتفند الأكاذيب التي كانت تشاع عنه في القرون الوسطى ، والتي لم تعد تمتلك القوة لتضليل العقول في عصر العلم والمعرفة ، والدراسات التاريخية والأجتاعية والدينية والفلسفية المقارنة ، وسلم العديد من المصدقين بصحة الرسالة الإسلامية وعظمتها ، وظهورها كانقلاب غير وجه العالم ، وأثر على سيرورة الحياة ألإنسانية ، ولم يتردد الكثير من المستشرقين أن رفعوا عقيرتهم إيماناً بالإسلام ، والجهر بأن الرسول محمداً  خاتم الأنبياء ، و لا يسعنا في هذا الصدد إلا أن نقل ما كتبته تلك الإيطالية الدارجة في أرض البابوية بكتابها : " الأديان ":

(( انه مما لا شك فيه أن وصف (محمد) بتلك الأكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسطى عنه وعن ديانته ، قد خفت كثيراً في هذا العصر ، وصاروا ينشدون الحقيقة التاريخية عن محمد ، وعن الإسلام الذي قلب وجه العالم ، وإن جماعة من المستشرقين يؤيدون رسالة محمد ، ويقولون إنه خاتم الرسل )) .

هذا ، ووقف المستشرق السويري حنا دا قنبرت ( 1826 _ 1912 ) مواقف جميلة في دفاعه عن الرسول بعد دراسته الوثائق التاريخية لاستنباط الحقائق الثابتة فيها يتعلق بمناقبه، فأكد في كتابه : "محمد والإسلام "، عظمة الرسول :

(( إنه كلما ازداد الباحث تنقيباً في الحقائق التاريخية الوثيقة المصادر فيها يخص الشمائل المحمدية ، ازداد احتقاراً لأعدائه الذين أشرعوا أسنة الطعن في محمد قبل أن يعرفره ، ونسبوا إليه ما لا يجوز أن ينسب إلى رجل حقير فضلاً عن رجل كمحمد الذي يحدثنا التاريخ عنه أنه رجل عظم )) .

شهرة الرسول في أوروبه عهد القرون الوسطى

ومهما يكن أثر الكنيسة البالغ في تشكيل اتجاهات الرأي العام الأوروبي المعادي أساساً للإسلام ، لان اسم الرسول معروفاً جيداً في أوروبة _القرون الوسطى_ ، وبأنه نبي مرسل جاء ليتمم الرسالات السابقة ، وقد ورد في الموسوعة الفرنسية الكبرى ما يؤكد هذه الحقيقة بما ترجمته :

((لان اسم محمد معروفاً في أوروبة في القرون الوسطى بأنه نبي ، وأنه خاتم النبيين ، وقد جاء ليتم التعاليم السابقة )) .

صحه الرسالة وصدق الرسول

لقد كان كتاب الأبطال الذي ألفه توماس كارليل أثره البالغ على حركة الأستشراق ، فكان لاقتناعه بصحة رسالة الإسلام وصدق الرسول ، ما حمل الكثير من العسكرين على إعادة حساباتهم ، وتخلي آخرين عن غلوائهم وتعصبم الديني . . . لقد قدر كارليل الرسول حق قدره ، وعرف مكامن عظمته ، ونواحي عبقريته ، فكان أن خلص إلى ما مؤداه : آن الأوان لبعض مفكري الغرب أن يدركوا صحة رسالة الإسلام ، التي لو لا اعتمادها على الصدق ، واشتمالها على الخير والعظمة والقوة » لما استمرت تاريخياً ، ولما استطاعت أن تنشي ، أمة و تبني حضارة ، فكانت سراجاً وهاجاً أضاء العالم الغارق في ظلماته ، وأنار السبيل أمام البشرية لإخراجها من دياجير الظلمة إل ساطع الأنوار . . .

يقول الباحث الانكليزي مونتجمري وات في كتابه : "محمد في مكة" ، دارساً صورة الوعي النبوى عند محمد ، متطرق لأثر كارليل على وعي الغرب وإدراكه الحقيقة المحمدية ، ومواقف الكتاب الغربيين السابقة ، يقول :

(( منذ أن قام كارليل بدراسته عن محمد في كتابه ( الأبطال وعبادة البطل ) أدرك الغرب أن هناك أسباباً وجيهة للاقتناع بصدق محمد . إذ أن عزيمته في تحمل الاضطهاد من أجل عقيدته ، والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به ، وكان لهم بمثابة القائد ، وأخيراً عظمة عمله في منجزاته الأخيرة ، كل ذلك يشهد على استقامته التي لا تتزعزع . فاتهام محمد بأنه (دجال ) يثير من المشاكل أكثر مما يحل . ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حط من قدرها في الغرب كمحمد . فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسواً الأمور عن محمد ، وكلما ظهر أي تفسير نقدي لواقعة من الوقائع ممكناً قبلوه )) .

ويتحدث مونتجمري وات في مكان آخر مفنداً الأتهامات التي وجهت إلى الرسول وجلها اتهامات تمس ضمير أخلاقه ، يقول :

((من الضروري في العالم الحديث حيث تتزايد الأتصالات الوثيقة بين المسيحين والمسلمين ، أن يحاول كل منهما الوصول إلى نظرة موضوعية عن خلق محمد . فلقد كان التشهير الذي لقيه الكتاب الأوروبيين يتبعه غالباً تعظيم رومانطيقي لشخصيته ، وهو تعظيم قام به غيرهم من الأوروبيين والمسلمين ، وهدف الدراسة التي تقوم بها أن تعمل على تكوين موقف واقعي من الأنتقادات المتعلقة بالاخلاق ، وكان موضوعها محمداً وقد خلفتها لنا القرون الوسطى . ة تدور هذه الانتقادات حول ثلاث مسائل رئيسية : الخداع ، الشهوانية ، عدم الوفاء .

لقد نفي كارليل منذ أكثر من مئة سنة تهمة الخداع ، ومن ثم جعل العلماء يرفضونها أكثر فأكثر ، ومع ذلك لا تزال ، في بعض الأحيان ، يتهم بها محمد .

وأقصى ما يصل إليه هذا إلرأي القول بأن محمداً لم يكن يؤمن بما يوحى إليه ، وأنه لم يتلق الوحى من مصدر خارجى عنه بل أنه ألف الآيات عن قصد ثم أعلنها للناس بصورة خدع بها الناس وجعلهم يتبعونه فضمن لنفسه بذلك من السلطة ما يرضي طموحه و حبه للمتعة.

ومثل هذه النظرة للأمور غير معقولة . وذلك لأنها لا تفسر لنا بصورة مرضية لماذا كان محمد ، في الفترة المكية ، مستعداً لتحمل جميع صنوف الحرمان ولماذا فاز باحترام رجال شديدي الذكاء ذوى اخلاق مستقيمة .

كما أن ذلك لا يجعلنا نفهم كيف نجح في تأسيس ديانة عالمية أنجبت رجالاً قداستهم واضحة للعيان ، لا يفسر كل ذلك بصورة مرضية إلا إذا افترضنا صدق محمد أي أن نعتقد بأنه كان مقتنعاً حقاً بأن القرآن ليس ثمرة خياله بل أن كل ما نزل عليه كان من الله فهو بذلك حق )) .

يتابع مونتجمري وات قوله دارساً آراء الرسول ومواقفه و تفريقه بين ما هو وحي إلهي، وما هو آراؤه الخاصة ، بقوله :

(( ومهما كانت طريقته ، على كل حال ، فقد كانت لديه وسيلة ما ، بدون شك ، لمعرفة ما إذا كان الوحي الذي ينزل عليه هو من عند الله حقاً . ويعني القول بأنه كان صادق ، إنه إذا كان ينظر للكلام الذي يسمعه على أنه نازل من عد الله ، فذلك لانه كان يعتقد ذلك حقاً ، و لا يخلط بينه وبين أفكاره الشخصية .

ليست هناك أسباب كامنة لاعتبار محمد دجالاً بل هناك على العكس أسباب قوية تؤكد صدقه . ونستطيع في مثل هذه الحالة الخاصة أن نبلغ درجة عالية من اليقين )) .

سقوط أدلة اتهام رسول الله

ومن جانبه أكد المستشرق السويسري جون وانتبورت في كتابه : « محمد والقرآن » أن الدراسات التاريخية تسقط كل الاكاذيب التي أشاعها أعداء الإسلام من جهة ، و تؤكد من جهة أخرى عظمة الرسول محمد  ومكانته التاريخية ، من عظمة الرسالة التي حملها للبشرية، يقول :

(( بقدر ما نرى صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة ، بقدر ما نرى من ضعف البرهان وسقوط الأدلة لتأييد أقوال الهجو الشديد » والطعن القبيح الذي اندفن على رأسه ، وانهار عليه من أفواه المغرضين ، والذين جهلوا حقيقة محمد ومكانته ، ذلك الرجل العظيم عند كل من درس صفاته العظيمة ، كيف لا وقد جاء بشرع لا يسعنا أن نتهمه فيه )) .

ما كان محمد مشعوذاً ولا ساحراً

أما العلامة والمستشرق الألماني كارل هينرش بيكر ( 1876 _1937 ) مؤسس مجلة العالم الإسلامي ، الذي شهر عنه محبته عالمي العروبة والإسلام ، فقد وقف موقفاً نزيهاً في الدفاع عن النبي محمد  مسخفاً من اتهمه بالسحر والدجل ، ورأى بالرسول رجلاً عظيماً ، جديراً بكل محبة وتجلة و تعظيم للمبادىء السامية التي نشرها ، والتي هي قمينة بأن تتبع ، يقول في كتابه : "الشرقيون " :

(( لقد أخطاً من قال إن نبي العرب دجال أو ساحر لأنه لم يفهم مبدأه السامي ، إن محمداً جدير بالتقدير ، ومبدؤه حري بالاتباع ، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم ، وإن محمداً خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال ، كما أننا لا نرى أن الديانة الإسلامية بعيدة عن الديانة المسيحية )) .
ويتحدث المسشرق والمؤرخ الروسي العلامة جان ميكائيليس ( 1717-1791 ) في كتابه "العرب في آسية " باللهجة نفسها التي تكلم بها كارل هينرش بيكر، في دحض مزاعم الشعوذة والسحر التي ألصقها بالرسول الستشرقون المتعصبون ، وشدد على اهمية الرسالة التي حملها للناس فكانت لصلاح الإنسانية ومتمشية وروح المجتمعات في كل العصور ، يقول :

((لم يكن محمد نبي العرب المشعوذ ولا الساحر ، كما اتهمه السفهاء في عهده، وإنما كان رجلا ذا حنكة وإدارة وبطولة وقيادة وأخلاق وعقيدة ، فلقد دعا لدينه بكل صفات الكمال ، وأتى للعرب بما رفع فيه شأنهم ، ولم نعرف عن دينه إلا ما يتلاءم مع العصور مهما تطورت ، ومن يتهم محمداً ودينه بخلاف هذا فإنه ضال عن الطريقة المثلى. ، وحري بكل الشعوب أن تأخذ بتعاليمه )) .

دفع تهمه الصرع والهستريا عن الرسول

هذا، وقد ذهب بعض الحاقدين على الدين الإسلامي في معرض هجومهم على الرسول محمد ، إلى اتهامه بالصرع والجنون للتشكيك بالدين الإسلامي ككل ، وأن ما جاء به ليس وحي الله أو لا يعدو حالة من حالات صرع تنتابه ....، ووقف المفكر ر.ف . بودلي موقفاً مفنداً هذه الترهات والأراجيف دافعاً هذه الادعاءات المغرضة بالنظرة العلمية الدقيقة والواعية ، يقول في كتابه : «الرسول ، حياة محمد» :

يذكر الأطباء أن المصاب بالصرع ، لا يفيق منه إلا وقد ذخر عقله بأفكار لامعة ، وأنه لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي يتمتع بها محمد حتى قبل مماته بأسبوع واحد ، وما كان الصرع يجعل من أحد نبيا أو مشرعاً، وما رفع الصرع أحداً إلى مركز التقدير والسلطان يوماً ، وكان من تنتابه مثل هذه الحالات في الأزمنة الغابرة يعتبر مجنوناً أو به مس من الجن ، ولو كان هناك من يوصف بالعقل و رجاحته فهو محمد )) .

أما المستشرق اسبرنغر ، فقد ذهب في كتابه : " حياة محمد وعمله " إلى أن عوامل البعثة كانت نوبات هستيريا اشترت باسم شوتلاين ، ولكن سوك هر غرنجه ، يرى ضحالة هذه الأراد وأسسها الواهية ، فيقول :

(( يجب ان نقر بأن قيمة محمد انما هي ما يميزه عن سائر الهستيريين )) .

ولقد رد كل من ول ديورانت ، وموتجمري وات ، وهنري دي كاستري وسواهم إصابة الرسول بنوبات الصرع والستيريا ، يقول ول ديورانت في كتابه : « قصة الحضارة » :

(( ولكننا لا نسمع أنه عض في خلالها لسانه أو حدث ارتخاء في عضلاته كما يحدث عادة في نوبات الصرع . وليس في تاريخ محمد ما يدل على انحطاط قوة العقل التي يؤدي إليها الصرع عادة ، بل نراه على الكفار يزداد ذهنه صفاء ، ويزداد قدرة على التفكير ، وثقة بالنفس ، وقوة في الجسم والروح والزعامة ، كلما تقدمت به السن حتى بلغ الستين من العمر . وقصارى القول إنا لا نجد دليلاً قاطعأ على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع . ومهما يكن ذلك الدليل فإنه لا ينقع أي مسلم متمسك بدينه )) .

أما مونتجمري وات فإنه يقول في كتابه : " محمد في مكة " :

((وليست طبيعة التجارب التي من هذا النوع _يجب الإلحاح على ذلك _ مهمة بالنسبة للفقيه المسلم والمسيحي، والتأكيد بأن رؤى محمد كانت أوهاما ، كما قال البعض ، هو إصدار حكم فقهي دون الأطلاع الكافي على ما حدث ، وبالتالي التدليل على جهل مؤلم بالعلم ، والرأي السلي ، لمؤلفين كـ برلين (Ponlain) و لعلم الفقه الصوفي الذي يمثلونه .

إن معرفة ما إذا كانت الرؤى خارجة أو خيالية أو عقلية لا يكون معياراً للحكم على حقيقتها أو صحتها .

ولا شك أن التجارب (الخارجية ) أكثر تأثيراً فيمن يهتم بها ولكن التجارب العقلية أسمى، لأن العقل اسمى من الحس .

وللمشكلة أهمية أساسية بالنسبة للأشخاص الذين يدرسون علم النفس الديني ، ومن المفيد، و لا شك ، مقارنة تجارب محمد بتجارب القديسين والمتصوفين المسيحين .

أما بالنسبة للفقيه والمؤرخ فإن الشيء الرئيسي هو أن محمداً قد ميز ما يوحى إليه وبين أفكاره الخاصة . وكذلك فليس للمظاهر الجسدية لتلقي الوحي أية أهمية بالنسبة للفقه ، وان كانت مهمة من الناحية التاريخية . ولقد أكد أعداء الإسلام غالباً أن محمداً كان مصاباً بالصرع ، وأن تجاربه الدينية لهذا لا قيمة لها . ولكن الأعراض الموصوفة لا تشبه أعراض الصرع لأن هذا النقص يؤدي إلى تخناذل جسدي وعقلي ، بينما ظل محمد حتى آخر حياته مالكاً لقواه العقلية ، حتى ولو أمكن إدعاء ذلك فإن الحجة تظل مناقضة لكل رأي سليم إذ لم تقم إلا على الجهل والوهم ، لأن المظاهر الجسدية الملازمة لا تثبت ولا تنفي قط بنفسها التجربة الدينية )) .

ويرد الكونت هنري دي كاستري في كتابه : « خواطر وسوانح » على أولئك الذين أعماهم التعصب عن رؤية الحقيقة ، بقوله :

(( ومن ذلك الحين _أي البعثة _ أخذت شفتاه تنطلقان بألفاظ بعضها أشد قوة وأبعد مرمي من بعض ، والأفكار تتدفق من فمه على الدوام إلى أن يقف لسانه ولا يطيعه الصوت ، ولا يجد من الألفاظ ما يعبر به عن فكر قد ارتفع عن مدارك الإنسان ، وسما عن أن يترجمه قلم أو لسان . وكانت تلك الانفعالات تظهر على وجهه بادية ، فظن بعضهم أن به جنة ، وهو رأي باطل ، لأنه بداأ رسالته بعد الاربعين ، ولم يشاهد عليه قبل ذلك أى اختلال في الجسم أو اضطراب في القوة المادية ، وليس من الناس من عرف الناس جميعاً أحواله في حياته كلها مثل النبي  فلقد وصل المحدثون عنه أنهم كانوا يعدون الشعر الأبيض في لحيته ، ولو أنه كان مريضاً لما أخفي مرضه ، لأن المرض في مثل تلك الأحوال يعتبر أمراً سماوياً عند الشرقيين . وليست حالة محمد سر في انفعالاته وتأثراته بحالة ذي جنة ، بل كانت مثل التي قال نبي بني إسرائيل في وصفها : لقد شعرت بأن قلبي انكسر بين أضلعي . وارتعشت مني العظام.
فصرت كالنشوان ، لما قام بي من الشعور عند سماع صوت الله وأقواله المقدسة )) .

ليس للكذب قوة الصدق

أما الشاعر الفرنسي الكبير ، الفونس دي لا مارتين ( 1790 _ 1869 ) الذي زار الشرق ، ترك كتاباً عن رحلته عنوانه : « السفر إلى الشرق » تحدث فيه عن البلاد الإسلامية ، و بحث في القيم التي نادى بها الإسلام ، ودرس بقلب الشاعر وعقل المفكر صدق دعوته ، فكان أن نافح عنه ضد من يرسل الترهات عن الخداع والنفاق . . فالكذب لن يستطيع الصمود طويلاً، وما كان بمقدور أي إنسان أن يحقق ما حققه رسول الله إلا بالصدق والصدق وحده . ترفده قدرة فكر ثاقب ، وصلابة في الموقف ، مكنه من أن ينقل أمته من الجاهلية الوثنية إلى نور الإسلام القائم على وحدانية الله كعقيدة ، وحضارة رائعة في مجتمع إسلامي متسم بالتسماح والعدالة و الاخاء بين المسلمين ، يقول لامارتين في سياق دفاعه عن صدق دعوة رسول الله.

(( أترون أن محمداً كان أخا خدع وتدليس ، وصاحب باطل ومين ، كلا بعدما وعينا تاريخه ، ودرسنا حياته ، فان الخداع والمين والباطل والتدليس كل أولئك من نفاق العقيدة ، كما انه ليس للكذب قوة الصدق إلى أن قال :

إن حياة محمد وقوة تامله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته ، وجاهلية شعبه ، وشهامته وجرأته وبأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان ، وثباته وتقبله سخرية الساخرين ، وحميته في نشر رسالته وحروبه التي كان جيشه فيها أقل نفراً من عدوه ، ووثوقه بالنجاح وإيمانه بالظفر ، وتطلعه إلى إعلاء الكلمة وتأسيس العقيدة ، ونجواه التي لا تنقطع مع الله ، كل هذا لأعظم دليل على أنه لم يكن يضمر خداعا ، أو يعيش على باطل أو مين ، بل كان وراءها عقيدة صادقة ، ويقين مضيء في قلبه ، وهذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة ، على أن يرد الحياة فكرة عظمة ، وحجة قائمة ومبدأ مزدوجاً ، وهو وحدانية الله سبحانه )) .

وأمام إنكار بعض المستشرقين نبوة الرسول محمد  ، يقف المستشرق الفرنسي القس لوازون في كتابه : « الشرق » ، مؤكداً أن محمداً نبى مرسل من الله ، حمل رسالة الإسلام رسالة الحياة ...

(( إن محمداً بلا التباس ولا نكران كان من النبيين والصديقين ، وهو رسول الله القادر على كل شيء ، بل انه نبي جليل القدر ، ومهما تحدثنا عنه فليس بالكثير في حقه ، لأنه جاء إلى العالم بدين جمع فيه كل ما يصلح للحياة )) .

إن دراسة سيرة رسول الله  تؤكد أنه نبي صادق في دعوته ليس بدجال ولا مزور ، وأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان ، يقول المستشرق الألماني ديسون ( 1817 _ ) في كتابه : "الحياة والشرائع ":

(( وليس يزعم أحد اليوم أن محمداً راح يزور ديناً ، وأنه كاذب في دعواه ، أفاك في دعوته إذا عرف محمدا ودرس سيرته ، وأشرف على ما يتمتع به دينه من تشريعات تصلح أن تظل مع الزمن مهما طال ، وكل من يكتب عن محمد ودينه ما لا يجوز ، فإنما هو من قلة التدبر وضعف الاطلاع )) .

وتحدث المستشرق الألماني دي تريسي فردرمك ( 1821-1903 ) في أحد مؤلفاته : « مقولات أرسطاطاليس » عن عظمة الإسلام الدين السماوي ، مؤكداً صدق الرسول ، وأن من يقول غير ذلك مكابر يقلب الحقائق ، ومتهم بالبلادة الذهنية ، بل الحق الصراح يتهم نفسه بنفسه ، يقول هذا الإنسان المنصف :

(( إنا لو أنصفنا الإسلام لأتبعا ما عنده من تعاليم وأحكام ، لأن الكثير منها ليس في غيره ، وقد زاده محمد نمواً وعظمة بحسن عنايته وعظيم إرادته ، ويظهر من محمد أن دعوته لهذا الدين لم تكن الا عن سبب سماوي ، انا نقول هذا لو أنصفناه فيما دعا إليه ونادى به ، وإن من أتهم محمداً بالكذب فليتيهم نفسه بالوهن والبلادة وعدم الوقوف على ما صدع به من حقائق )) .

ويرى الباحث الأستاذ ولز ، أن أسطع دليل على صدق الرسول يتمثل بإيمان أقرب المقربين إليه برسالة الإسلام حيث بشرهم بهاً ، يقول :

(( قد أجمعوا على أن أنصع الأدلة على صدقه كون أهله (أي النبي ) وأقرب الناس إليه أول من آمن به ، فقد كانوا مطلعين على جميع أسراره ، ولو أرتابوا في صدقه لما آمنوا به )) .

يقول المفكر اللبناني شبلي شميل ( 1860-1917 ) في إحدى مقالاته التي نشرها في مجلة المقتطف :

(( لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي لما يظن من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمداً خداع مزور ، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير )) .

أما المستشرق الأسوجي كازانوفا (1837 _1903 ) فقد كتب في مؤلفه : حضارة الشرق ، يقول :

(( يهمني أن أجهر أولاً بأني لا أسلم أصلاً بكل نظرية يفهم منها الريب بصدق محمد ، وان سيرة النبي العربي من بدايتها إلى نهايتا تدل على أنه ثبت رصين أمين ، لا مناص من الإقرار بأن محمداً كان على ذكاء عظيم )) .

حقيقه الوحي

وذهب المستشرق الأسوجي رودلف دوتوراك ( 1852 _ 1920 ) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة براغ ، الذي ترجم حياة أبي فراس الحمدانى ودرس شعره ، في مؤلفه هذا ، إلى تأكيد صدق النبوة ، ونزول الوحي على النبي محمد  من السماء ، بالشريعة الإسلامية التي هي خلاصة الكمال الفكري ، يقول :

(( ومما لا ريب فيه ، أن محمداً نبي العرب كان يتحدث إلى الناس عن وحى من السماء ، لأنه أتى إلى العالم بدعوة من ورائها المعجزات والآيات ، وهي أعظم شاهد على مدعاه ، ولا يجوز لنا أن نفند أراءه ، بعد أن كانت أيات الصدق بادية عليها ، فهو نبي حق ، وأولى به أن يتبع ، ولا يجوز لمن لم يعرف شريعته أن يتحدث عنها بالسوء ، لأنها مجموعة كمالات إلى الناس عامة )) .

ويؤكد المستشرق الفرنسي الكونت هنرى دى كاستري ( 1853-1915 ) في كتابه : « الإسلام » أن صدق الرسول نابع من صحة رسالته وعمق اقتناعه بها ، يقول :

(( ولسنا نحتاج في إثبات صدق ( محمد ) إلى أكثرمن إثبات أنه كان مقتنعاً بصحة رسالته وحقيقة نبوته . أما الغرض من تلك الرسالة بالأصل ، فهو إقامة إله واحد مقام عبادة الأؤثان التي كانت عليها قبيلته مدة ظهوره )) .

ويتابع الكونت هنري دي كاستري تأكيد صدق الرسول وصحة الرسالة ، بأنه كان أمياً لا يقراً ولا يكتب ، وبأنه كان يتلقى الوحي من السماء ، ويرد على المتقولين على الرسول بأنه أخذ فكرة التوحيد من مطالعته التوراة والإنجيل ، كما يؤكد حقيقة أن الآيات القرآنية لا يمكن أن تكون من صنع البشر ، يقول :

(( ما كان يقراً ولا يكتب ، بل كان كما وصف نفسه مرارا _ نبياً أمياً _ وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه . ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس ، لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان ، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار . ولم يكن بمكة قارىء أو كاتب سوى رجل واحد ذكره جارسين دي تاسي في كتابه الذي طبعه سنة 1874 ، كذلك من الخطاً _مع معرفة أخلاق الشرقيين _ أن يستدل على معرفة النبي للقراة والكتابة باختيار السيدة خديجة ( رضي الله عنها ) ، اياه لمتاجرها في الشام ، ولم تكن لتعهد إليه بأعمالها إن كان جاهلاً غير متعلم ، فإنا نشاهد بين تجار كل قوم غير العرب وكلاء لا يقرأون و لا يكتبون ، و هم في الغالب اكثرهم امانة و صدقاً.

أما فكرة التوحيد : فيستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي  من مطالعته التوراة والإنجيل ، إذ لو قرأ تلك الكتب لردها ، لاحتوائها على مذهب التثليث، وهو مناقض لفطرته ، مخالف لوجدانه منذ خلقه ، فظهور هذا الاعتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهر في حياته ، وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته في نبوته .

أما صدق الرسول وسمو رسالته ، فقد أخذ ، كثير من رجال الكنيسة ومن رجال الأستعمار يشككون فيها ، ورغم الوضوح الصارخ في صدق الرسول وفي سمو الرسالة الإسلامية ، فإن رجال الدين من المسيحين ورجال الأستعمار لا يزالون يبدئون ويعيدون في ترداد التشكيك ، إلى هؤلاء وأولئك يقول الكونت :

والعقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك الأيات عن رجل أمي ، وقد اعترف الشرق قاطبة بأنها آيات يعجز فكر بني الإنسان عن الأتيان بمثلها لفظاً ومعنى )) .

آخر الرسل

أما المفكر لرثروب سودارد ، مقد رأى بثاقب بصيرته أن محمداً آخر الرسل وأنه جاء مقفياً على آثارهم ، وان القرآن جاء مصدق للتوراة والإنجيل معاً :

((فالاعتقاد كل الاعتقاد بأنه لا إله إلا الله . وبأن محمداً رسوله من لدنه ، كما أنزل في القرآن أن محمداً قد جاء بالقرآن مصدق للتوراة والإنجيل . وأنه خاتم النيين . بعث من قبله موسى وعيسى )) .

أما المستشرق الفرنسي دي سلان ماك غوين ( 1810_ 1879 ) ، الذي وضع فهرس المخطوطات الشرقية ، وترجمة لمقدمة ابن خلدون ، تناول فيها الرسول العربي في إطاره التاريخي ، والشريعة الإسلامية السمحاء ، فوجده متقدماً على أقرانه من الرسل ، ووجد الإسلام يتميز عن باقي الشرائع ، يقول :

(( إن العرب أمة تمتاز بكثير من الصفات ، ولها دين جامع شامل ، لا يعيبه إلا من يجهله ، وصاحب دينهم محمد الفقير ، وقبل أن نعرف الدين يجب أن نعرف من أتى به ، وحقاً أقول ليس كمحمد في سلسلة الأنبياء، و لا كشريعته في سلسلة الشرائع ، لا نبالغ إذا قلنا إن محمداً خير من أتى بشريعة ، ولقد وقف في وجه الطغاة من قريش، حتى أتم ما أراد ، وبلغ منتهى الطريق الذي سلكه وعمل له ، وإذا به وبشريعته يتمتعان بذكر عاطر وحديث حسن ، وليس باستطاعتنا أن نثير عليمها غبار الأنتقاص )) .

ورأى المستشرق الألماني الدكتور وايل ( 1818-1889 ) أستاذ اللغات الشرقية ومدرس العربية والسريانية في جامعة باريس ، ومترجم أطباق الذهب إلى الفرنسية ، رأى في الرسول العربي مصلحاً كبيياً ، عظيماً في شخصه ، كبيراً في دعوته ، قميناً بالاحترام والتقدير، وكل من تحامل عليه جاهل قدره ، يقول في كتابه : « تاريخ الخلفاء » :

(( إن محمداً يستحق كل إعجابنا و تقديرنا كمصلح عظيم ، بل ويستحق أن يطلق عليه لقب النبي ، وألا يصفي إلى أقوال المغرضين وأراء المتعصبين ، فإن محمداً عظيم في دينه وفي شخصيته ، وكل من تحامل على محمد فقد جهله وغمطه حقه )) .

بينما وجد غوستاف الثالث الأسوجي ( 1746_ 1792 ) أن الإسلام دين حري أن يتبع لبساطته كدين ، وسماحته كشريعة ، يقول في كتابه : « الإسلام في الحجاز » :

(( إن الأساس للدين الإسلامي بسيط جداً وهو _لا إله إلا الله _ وأن محمداً هو الذي أتى بهذه الحقيقة ، ولا يوجد في هذه الحقيقة ما يصادم ويخالف علوم العصر الحالي ، فحري بهذا الدين أن يتبع )) .

وقد درس بعض المستشرقين الإسلام فوجدوا ألاً تعارض بين وبين المسيحية ، يقول الدكتور ويلسن اليوغسلافي ( 15 18 _1887 ) في إحدى محاضراته :

((ً إننا إذا لم نعتبر محمداً نبياً ، فلن نستطيع أن ننكر أنه مرسل من الله ، ذلك أنه ليس هناك غيره قد راح يفسر المسيحية الأولى تفسيراً رائعاً صادق ، وأن دينه الذي جاء به لا يعارض الديانة المسيحية ، وكل ما جاء به حسن )) .

ويتحدث المستشرق الكندي جيبون (1773 _1827 ) في كتابه : " محمد في الشرق" عن النبي محمد ورسالة الإسلام ، فيدفع كل الشكوك والظنون و الأقاويل التي تدور حول صدق الرسول والرسالة ، ويعتبر أن أي اتهام يوجه إلى هذا الدين هو من قبيل الجهل أو التعصب يقول :

(( إن دين محمد خال من الشكوك والظنون ، والقرآن أكبر دليل على وحدانية الله ، بعد أن مر محمد عن عبادة الأصنام والكواكب . وبالجملة فدين محمد أكبر من أن تدرك عقولنا الحالية أسراره ، ومن يتهم محمداً أو دينه فإنما ذلك من سوء التدبير أو بدافع العصبية ، وخير ما في الأنسان أن يكون معتدلاً في آرائه ، ومستقيماً في تصرفاته )) .

بينما دعا المستشرق الإسباني إريك بنتام ( 15 18 _1887 ) في كتابه : " الحياة " إلى وقوف المسيحيين والمسلمين على صعيد واحد ، وفي خندق واحد ، ونبذ العصبية العمياء والأطماع ، وذلك لتأكيده أن المسلمين عميقو الإيمان ، وأن الإسلام دين الاخلاق السامية الرشيدة ، يقول :

((إن الإسلام وتعاليم الرسول الكريم _محمد_ قد تأصلت في نفوس المسلمين ، وخلقت فيهم مناعة ضد قبول المذاهب الدينية المسيحية ، وإن الخلاف الجوهري بينها وبين الإسلام يعود إلى أنه لا يرضى أن يشرك مع ربه أحد ، وأن دين الإسلام هو دين الوداعة والوفاء والصدق والأمانة ، وكل ما جاء به لا ينكره الأذواق السليمة ، والعقول الناضجة لذلك فإننا لو أنصفنا أنفسنا لوحدنا صفوفنا مع المسلمين ولنبذنا ما بنا من عصبية عمياء خلقها لنا ذوو الأطماع ، وسنها لنا من دفعت به شهواته ، وفي النفس ما فيها من التأثر البالغ من تلكم الفوارق التي أثبتها الدين )) .

وفي هذا المنطلق يقول العلامة وأستاذ علوم الكيمياء والفلك الفرنسي لوزون ( 1786 _1837 ) في كتابه : « الله في السماء ، » » مقارناً ما بين الديانتين السماويتين الموسوية والمحمدية و الإسلام ) وفرق مابينهما من الأنضواء العرقي ، والسماحة العالمية :

(( وليس محمد نبي العرب وحدهم ، بل هو أفضل نبي قال بوحدانية الله ، وإن دين موسى وإن كان من الأديان التي أساسها الوحدانية إلا أنه كان قومياً محضاً وخاصاً ببني إسرائيل ، وأما محمد فقد نشر دينه بقاعدتيه الأساسيتين وهما الوحدانية والبعث ، وقد أعلنه العموم البشر في أنحاء المسكونة ، وإنه لعمل عظيم يتعلق بالإنسانية جملة وتفصيلاً عند من يدرك معنى رسالة محمد الذي اعتنق مبدأه ، وعمل على رسالته أربعمئة مليون من الناس . فرسول كهذا الرسول يجدر باتباع رسالته ، والمبادرة إلى اعتناق دعوته ، إذ أنها دعوة شريفة ، قوامها معرفة الخالق ، والحث على الخير ، والردع عن المنكر ، بل كان ما جاء به يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، هذا هو الدين الذي أدعو إليه جميع النصارى )) .

أما الشاعر الفرنسي الكبير الفونس دي لا مارتين فقد أكد في مؤلفه : « رحلة إلى الشرق » صدق الرسول وصحة الرسالة ، وكشف عن جوانب من عظمة النبي محمد ودين الإسلام ، يقول :

((إن محمداً فوق البشر ودون الإله ، فهو رسول بحكم العقل ، ودلالات المعجزات تعضد ذلك ، وإن اللغز الذي حله محمد في دعوته فكشف فيها عن القيم الروحية ، ثم قدمها لأمة العرب ديناً سماوياً ، وسرعان ما اعتنقوه ، هو أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر )) .

هذا ، وفي ختام مبحثنا عن الرسول في الدراسات الأستشراقية المنصفة ، نرى أن أقوال الباحث الإنكليزي توماس كارليل عن صدق الرسول والرسالة ، بما حوته من دفاع حار ، وعقلانية واعية ، وشاعرية جميلة ، تشكل خير رد على مختلف أراجيف وادعاءات الباحثين والمستشرقين المغرضين ، وأنارت السبيل أمام كل ناشد معرفة :

« لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر ، أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمداً خداع مزور ، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مئتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا ، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصار أكذوبة وخدعة ؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول ، فما الناس إلا بله ومجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث ، وأضلولة كان أول بها أن لا تخلق .

فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم ، وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة . وبعد ، فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات ، أن لا يصدق شيئاً البتة من أقوال أولئك السفهاء ، فإنها ننتائج جيل كفر ، وعصر جحود وإلحاد ، وهي دليل على خبث القلوب ، وفساد الضمائر ، وموت الأرواح في حياة الأبدان ، ولعل العالم لم ير قط رأياً أكفر من هذا وألأم ، وهل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره.

عجباً والله ! إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب ، فهو إذا لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت ، وإنما هو تل من الأنقاض ، وكثيب من أخلاط المواد . نعم ، وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس ، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم كأنه لم يكن . وإني لأعلم أنه على المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة ، وإلا أبت أن تجيب طلبه وتعطيه بغيته .

كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار ، وإن زخرفوه حتى خيلوه حقاً ، وزور وباطل وإن زينوه حتى أوهموه صدق ، ومحنة والله ومصاب أن ينخاع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل ، وتسود الكذبة و تقود بهاتيك الأباطيل . وإنما كما ذكرت لكم من قبيل الأوراق المالية المزورة ، يحتال لها الكذاب حتى يخرجها من كفه الأثيمة ، ويحيق مصابها بالغير لا به ، وأي مصاب وأبيكم ؟ مصاب كمصاب الثورة الفرنسية وأشباهها من الفتن والمحن تصيح بملء أفواهها : " هذه الأوراق كاذبة " أما الرجل الكبير خاصة ، فإني أقول عنه يقيناً إنه من المحال أن يكون كاذباً ، فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما به من فضل ومحمدة ، وعندي أنه ما من رجل كبير ، ميرابو أو نابليون أو بارنز ، أو كرمويل ، كفء للقيام بعمل ما ، إلا وكان الصدق والأخلاص وحب الخير أول باعثاته على محاولة ما يحاول ، أعني أنه رجل صادق النية ، جاد مخلص قبل كل شيء ، بل أقول : إن الإخلاص _الإخلاص الحر العميق الكبير_ هو أول خواص الرجل العضيم كيفما كان . لا أريد إخلاص ذلك الرجل الذي لايبرح يفتخر للناس بإخلاصه ، كلا فإن هذا حقير جداً وأيم والله ، هذا إخلاص سطحي وقح ، وهو على الغالب غرور وفتنة ، إنما إخلاص الرجل الكبير هو مما لا يستطيع أن يتحدث به صاحبه ، كلا، ولا يشعر به بل لأحسب أنه ربما شعر من نفسه بعدم اخلاص، إذ أين ذاك الذي يستطيع أن يلزم منهج الحق يوماً واحدأ؟.

نعم إن الرجل الكبير لا يفخر بإخلاصه قط ، بل هو لا يسأل نفسه أهي مخلصة أو بعبارة أخرى أقول إن إخلاصه غير متوقف على إرادته ، فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد ، فهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله ، حقيقة لا يستطيع أن يهرب من جلالها الباهر مهما حاول . هكذا خلق الله ذهنه ، وخلقة ذهنه على هذه الصورة هي أولى أسباب عظمته ، وهو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً وحقاً كالموت وحقاً كالحياة ، وهذه الحقيقة لا تفارقه أبداً وإن فارقت معظم الناس فساروا على غير هدى وخطوا في غياهب الضلال والعماية ، بل تظل هذه الحقيقة كل لحظة بين جنبيه ونصب عينيه ، كأنها مكتوبة بحروف من اللهب لا شك فيها ولا ريب . ها هي ، ها هي ، فاعرفوا هداكم الله أن هذه أولى صفات العظيم ، وهذا وحده الجوهري و تعريفه ، وقد توجد هذه في الرجل الصغير فهي جديرة أن توجد في نفس كل إنسان خلقه الله ، ولكنها من لوازم الرجل العظيم ، ولا يكون الرجل عظيماً إلا بها .

مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلا أصلياً صافي الجوهر ، كريم العنصر فهو رسول مبعوث من الأبدية المجهولة برسالة إلينا . فقد نسميه شاعراً أو نبياً أو إلهاً ، وسواء هذا أو ذاك أو ذلك فقد نعلم أن قوله ليس بمأخوذ من رجل غيره ، ولكنه صادر من لباب حقائق الأشياء . نعم ، هو يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه ذلك باطل الاصطلاحات ، وكاذب الاعتبارات والعادات والمعتقدات وسخيف الأوهام والآراء ، وكيف . .؟ وإن الحقيقة تسطع لعينه حتى يكاد يعشي لنورها ، ثم إذا نظرت إلى كلمات العظيم شاعراً كان أو فيلسوفاً أو نبياً أو فارساً أو ملكاً ، ألا تراها ضرباً من الوحى ؟ والرجل العظيم في نظرى لمخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون ، فهو جزء من الحقائق الجوهرية للأشياء ، وقد دل الله على وجوده بعدة آيات ، أرى أن أحدثها وأجدها هو الرجل العظيم الذي علمه الله العلم والحكمة ، فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء . . .

وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متمنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية ، أو يطمح إلى درجة ملك أو سطان ، أو غير ذلك من الحقائق والصفائر . وما الرسالة التي أداها إلا حق صراح ، وما كلمته إلا صوت صادق صادر من العالم المجهول . كلا ، ما محمد بالكاذب ولا الملفق ، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة ، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع . ذلك أمر الله ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكانوين )) .

الباب الثاني
الرسول و رسالة الإصلاح

في مبحث الرسول والقيادة الدينية ، تناولنا الإصلاح الديني الذي قام به  بنقل جزيرة العرب من الوثنية إلى الوحدانية . . . وفي مبحثنا هذا سنتناول جوانب أخرى من الإصلاح وخاصة ما يتعلق منها بجانبها الاجتماعي .

الإسلام والانقلاب الاجتماعي

لقد كانت الدعوة الإسلامية التي حملها النبي الكبير  انقلاباً اجتماعياً دك أسس المجتمع القديم ، المحكوم حسب الأعراف القبلية ، فكانت معجزة الحركة الإصلاحية الكبرى ماثلة في توحيد شتات القبائل وصهرها بتلك الكتلة الإنسانية المتراصة في وحدة اجتماعية جديدة، وكانت من العمق في أبعادها الإنسانية إعجازاً حقاً وصفه السير وليم موير في كتابه : "حياة محمد" بقوله :

((لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمد ، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي و تركه عند وفاته )) .

عظمة الإصلاح في صلاح المجتمع

إن عظمة الإصلاح الإسلامي في تحقيق الخير كل الخير للمجتمع العربي، في شبه الجزيرة أولاً ، والشعوب الإسلامية ثانياً ، تمثل منارة خير وهدى للإنسانية جمعاء ...

وقد بحث المستشرق الفرنسي العلامة كاردي فو ( 1969 - 1925) في مؤلفه : "مفكرو الإسلام " في طبيعة ذلك الإصلاح والإنجاز الذي حققه حين نقل العرب من الجاهلية إلى مشارق أنوار رسالة الإسلام فكانت رسالة الرقي والحضارة والتمدين ، يقول كاردي فو :

(( لقد كان العرب في جاهليتهم يرتكبون الجرائم ، ويفعلون المنكرات ، ويتخبطون في ضلالاتهم ، حتى جاء رجل منهم اسمه _محمد_ فحاربهم لاستئصال هذه العادات الموبوءة ، و دعاهم إلى دين جديد ومبادئ قويمة ، فوحد صفوفهم وأصلح أمورهم وإذا بالعرب أمة لها شأنها ولها كيانها حضارة وثقافة ، وتم لمحمد ما كان يريده منهم من اسمتاع أقواله واتخاذ آرائه ، وإذا دين محمد في طليعة الأديان السماوية رقياً وعظمة وحضارة )) .

دين الحق و الخير

أما الباحث الإنكليزي المستشرق روبرت اسميث ( 1856 _ 1901 ) فتحدث بدوره عن الواقع الاجتماعي لعرب الجاهلية الذين اتسموا بفظاظة الطبع ، وخشونة الخلق ، يعيشون حياة القبلية المتناحرة ، ديدنهم الغزو والنهب والقتل ، فكان الإسلام رسالة خير جاءت لإصلاح مجتمع فاسد ، قال هذا الباحث :

(( لقد كان العرب قبل الإسلام على جانب من الغلظة والخشونة ، ويعيشون عن طريق الغزو ، و قد نزعت الرحمة من صدورهم ، وكانوا يعبدون الأصنام ، ولكل قبيلة صنم حتى جمعوا في كعبتهم ثلاثمئة وستين صنماً ، وجاء _محمد_ في أواخر القرن السادس فدعاهم إلى الإسلام ، وأعلن أنه لا يجوز أن تتخذوا أصنامكم أرباباً من دون الله ، وكان محمد على خلق عظيم فاتبعوه بعد أن لاقى منهم الأذى ، حيث دعاهم إلى دينه القويم وعرفوا أنه دين لا يصادم الخير والإنسانية وأنه جاء لصلاح المجتمع )) .

ويبحث المستشرق إدوار لين بدوره ، واقع الحياة الجاهلية وما حوته من عادات مخالفة للشرائع السماوية ، يقول :

(( إنا لا ننكر أن العرب وإن كانت الأمية هي الغالبة فيهم ، إلا أنهم على جانب من الذكاء ، وأن أحدهم يحيد نظم الشعر ونثر الكلام ، وهو أمي عاش في البادية ، وأن لهم عادات قبل الإسلام يعكفون عليها ، من عبادة الأصنام ، ووأد البنات ، والغزو وغير ذلك ، ولكن جاء الإسلام بواسطة محمد النبي العربي فمنعهم من ذلك ، وما زال يدعوهم إلى دينه وهو عبادة الله حتى أحاطوا به وصدقوه ، وتركوا ما كان لديهم من عادات تأباها الشرائع السماوية )) .

الرسول أعظم المحسنين

وأما الباحث الفرنسي إدوار مونتيه فعد رسول الإسلام أعظم المحسنين للبشرية ، حين أنهي مسألة الأضاحي البشرية ، ووأد البنات وسواها من العادات الذميمة » يقول :

(( لقد منع محمد الذبائح البشرية ووأد البنات والخمر والميسر ، وكان لهذه الإصلاحات تأثير غير متناه في الخلق ، بحيث يجب أن يعد محمد في صف أعاظم المحسنين للبشرية وأن الانقياد لإرادة الله تتجلى في محمد والقرآن بقوة لا تعرفها النصرانية )) .

هذا ، ولقد حقق الإسلام للمرأة قفزة نوعية في شأنها الاجتماعي الحقوقي ، متقدمة على واقع المرأة في الأنظمة الفرية ، يقول غوستاف لوبون :

(( والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعية وشأنها رفعاً عظيماً ، بدلاً من خفضهما ، خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى ، والقرآن قد منح المرأة حقوق ارثيه أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوروبية )) .

المعلم الأكبر والمصلح الأعظم

كان الرسول المعلم الكبير والمصلح الأعظم لإبناء العروبة ، علمهم الحياة ، فأصلح شؤونهم بعد فساد ، ووحد كلمتهم بعد تفرقة ، يقول المستشرق الهولندي وث ( 1814 _ 1899) في كتابه : « محمد والقرآن » :

(( لقد جاء قرآن العرب على لسان نبيهم محمد العظيم ، وعلمهم كيف يعيشون في هذه الحياة ، وقد وحد صفوفهم وجمع كلمتهم وأدبهم حتى لا ترى أمة من الأمم أحسن منهم ، وبالنهاية اعتمدوه في كل أمورهم ، وكان يتلقى الوحي من ربه الذي يوحي إليه ، ثم ينقله إلى الناس ، بعد أن يكتبه له الكتاب الذين انتدبهم لذلك )) .

جوانب الإصلاح المتعددة

إن الحركة الإصلاحية التي قام بها الرسول متعددة الجوانب ، اجتماعياً وسياسياً ودينياً وثقافياً وحضارياً ، لقد كان العهد الإسلامي الذي بداً مع إقامة أول دولة إسلامية بقيادته في المدينة ، فاتحة عهد جديد : عهد علم ونور وخروج من الجهل والظلمات ، يقول الدكتور ماركس :

(( هذا النبي الذي افتتح برسالته عصر العلم والنور والمعرفة لا بد أن تدون أقواله وأفعاله على طريقة علمية خاصة ، وبما أن هذه التعاليم التي قال بها ( يعنى النبي محمد ) هي وحي الله المنزل ورسالته ، فقد كان عليه أن يمحو ما تراكم على الرسالات السابقة من التبديل والتحوير ، وما أدخله عليها الجهل من سخافات لا يعول عليها عاقل )) .

عظمة الإصلاح الإسلامي

إن عظمة الإصلاح الذي حققه الرسول ، أنه تم في مدة وجيزة ، يبتدئ مع السنة الأولى للهجرة حتى وفاته في السنة العاشرة منها ، فكان إنجازه إعجازياً خلال هذا العقد الذي أمضاه مناضلاً حتى لقائه الرفيق الأعلى ، يتحدث بندلي عن سعة هذا الإصلاح وعمقه يقول :

(( إنا لو بحثنا عما تم على يد النبي الأمي محمد من الإصلاح ، لما استطعنا أن ننكر أنه أنجز أكثر وعوده ، وحقق قسماً كبيراً من أمانيه ، ولو قدر له أن يعيش أكثر مما عاش ، لكان الإصلاح الذي أدخله على حياة الأمة العربية أتم وأوسع ، ومع ذلك فإن عمله الذي عمله في هذه السنين القلائل التي قضاها في المدينة بين الحروب والمنافسات الشخصية والدسائس والحرب والمكر والنفاق لهو شيء عظيم لا ينكره إلا مكابر عنيد أو متعصب أعمى)) .

المسألة الاجتماعية في الإسلام

لقد تناول الإسلام مختلف شؤون الحياة الاجتماعية ، آخذاً بعين الاعتبار سلاح الإنسان ورقيه ، فكان أن نظر إلى مرفوع المساواة والإخاء ، ونظمه في إطار حقوق وواجبات ، يقول ليورودتن :

(( وتد وجدت في الإسلام حد المسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم طراً، الأول في قول القرآن :  إنما المؤمنون إخوة  ، والثانية ، فرض الزكاة ، وتخويل الفقراء حق أخذها إذا امتنع الأغنياء من دفعها طوعا )) .

إن اهتمام الرسالة الإسلامية بالقضايا الاجتماعية وإيجاد الحلول الناجحة للمشاكل القائمة، وتحقيق إصلاح المجتمع وصلاحه ترتبط بالإسلام ليس مجرد دين وحسب ، بل لكونه ديناً ودولة ، فمن جهة ، نظم علاقة الإنسان بخالقه عن طريق العبادات التي أكدت على مبدأ الوحدانية ، ومن جهة ثانية نظم الحياة الاجتماعية الإنسانية في إطار نظام سياسي أقامه ، وتنظيم اجتماعي أوجده ، ناهضين على أركان الشورى الإسلامية والعدالة والمساواة والحرية ، يقول الدكتور شاخت :

(( إن الإسلام يعني أكثر من دين ، إنه يمثل نظريات قانونية ، وسياسية لا وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً )) .

والعلاقة بين الدين والنظام الإسلاميين علاقة عضوية ، مؤسسة علىوحدة متماسكة لا تنفصم عراها » وقد غدت مرتكزاً للتفكير الإسلامي ، يقول الدكتور فتز جيرالد :

((ليس الإسلام ديناً فحسب ، ولكنه نظام سياسي أيضاً ، ورغم أنه ظهر في العهد الأخير بعض أفراد المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين ، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين
متلازمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر )) .

فالإسلام كدين ودولة حقق صلاح المجتمع الإنساني ، يقول الباحث الإنكليزي المستشرق مونتجمري وات :

(( ويمكن اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسي اجتماعي واقتصادي على أسس دينية )) .

الرسول وإحياء الأخلاق الحميدة والفضائل الحسنة

ويتحدث الكبير الإنكليزي المستشرق السير وليم موير، عن الإنجازالعظيم الذي حققه النبي  فاستطاع تبديل القيم القديمة المهترئة بقيم جديدة فاضلة في تلك المرحلة الوجيزة يقول :

(( امتاز محمد بوضوح كلامه ، ويسر دينه ، وأنه أتم من الأعمال ما أدهش الألباب ، لم يشهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق الحسنة ، ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد )) .

كما حلل رئيس وزراء الهند الاسبق جواهر لال نهرو ، كيف أن محمداً خلق أمة ، بحركته الإصلاحية ، وأقام برسالته مدينة زاهرة وحضارة راقية ، ليخلص إلى القول :

(( كان محمد واثقاً بنفسه ورسالته . وقد هياً بهذه الثقة وهذا الإيمان لأمته أسباب القوة والعزة و المنعة )) .

بداية عصر النور والعلم والمعرفة

لقد افتتح الرسول حسب رأي العديد من المستشرقين عهداً جديداً ،وعصراً للنور والعلم والمعرفة ، فكان نضاله حين صدع بالوحي ، لنشر رسالات ربه ، لإزالة ما تراكم في ذلك المجتمع القبلي الوثني من معتقدات بالية ، وأنماط اجتماعية متخلفة ، بل وأن يزيل ما تراكم على الرسالات السماوية السابقة ، ما لحق بها من تبديل وتحوير ، وما أدخله الجهلاء من خرافات وسخافات يدحضها العقل ، ولا تثبت أمام الحقائق . . وهذا ما دفع بالمفكر الفرنسي الكبير أحد عمالقة فلاسفة الاجتماع العلامة غوستاف لوبون (1841-1931) إلى أن يدعو أبناء عصره إلى الإقتداء بالرسول الكريم ، واعتناق دعوته لأن فيها صلاح المجتمعات الإنسانية ، يقول في كتابه "الحضارة الإسلامية" :

(( أنني لا أدعو إلى بدعة محدثة ، ولا إلى ضلالة مستهجنة ، بل إلى دين عربي قدم أوحاه الله إلى نبيه محمد فكان أميناً على بث دعوته بين قبائل رحل تلهت بعبادة الأحجار والأصنام ، وتلذذت بترهات الجاهلية ، فجمع صفوفهم بعد أن كانت مبعثرة ، ووحد كلمتم بعد أن كانت متفرقة ، ووجه أنظارهم لعبادة الخالق ، فكان خير البرية على الإطلاق حباً ونسباً وزعامة ونبوة ، هذا هو محمد الذي اعتق شريعته أربعمئة مليون مسلم ، منتشرين في أنحاء المعمورة ، يرتلون قرآناً عربياً مبيناً _إلى أن قال _:

فرسول كهذا جدير باتباع رسالته ، والمبادرة إلى اعتناق دعوته ، إذ أنها دعوة شريفة ، قوامها معرفة الخالق ، والحض على الخير والردع عن المنكر ، بل كل ما جاء فيها ما يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه جميع النصارى )) .

الروح الإصلاحي الإسلامي والمجتمعات المعاصرة

ومن هذا المنطلق ، دعا رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت الدكتور بيردج عام 1923 . في ذكرى المولد النبوي ، إلى استيعاب مبادئ الرسالة الإسلامية ، لإصلاح المجتمعات المتخلفة بقوله :

((إنك تجتمعون اليوم محتفلين بمولد مصلح عظيم ، ألا وهو النبي محمد ، فهل لكم أن تتشربوا من روح الإصلاح الذي يحمله محمد ، فتخرجوا لإصلاح مجتمع ملؤه الجهل و الاضطراب )) .

رؤية شعرية للإصلاح الإسلامي

أما الشاعر الألماني الكبير غوته فقد كتب في مقدمته كتاب المحمديات "لديسون" عن الإصلاح الذي قام به الرسول بلغة الشاعر ، يقول :

(( أنظر إلى ينبوع الجبل يضطرب مليئاً صافياً ، كأنما هو شعاع دري فوق السحب ، أرضعت ملائكة الخير طفولته في مهداة يوم كان بين أفلاق الصخور المعشوشبة ، إنه ينحدر من السحابة فتياً نقياً ، ثم يتنزى منها جذلان فرحاً ، إنه يسير في الأخاديد الوعرة ، جارفاً أمامه من ألوان الحصباء ما لا يحصى ، ساحباً في إثره أخوات من العيون الثرارة ، كأنما هو مرشدها الأمين ، وأما في الوادي فالرياحين تنبثق عند قدميه ، والمروج تحيا من أنفاسه ، لا يثنيه الوادي الظليل ، و لا الرياحين التي تطوق ساقيه ، وتحاول أن تسبيه وتستهويه بلحاظها الفواتن . .

وها هو العباب طامياً زاخراً ، ترفده الروافد فيخلع في مجراه على الأمصار أسماءها ، وتنشاً عند أقدامه المدن ، بيد أنه لا يني ، فلا يبرح هادراً فيندفع ، لا يثنيه ثان ، غلفاً وراءه المنائر ، والصروح نتاج خصبه وإنتاجه ، ذلك هو محمد بن عبد الله )) .

فضل الرسول على العرب

لقد أثار موضوع فضل الرسول على العرب ، اهتمام المصدقين ، فهو الذي وحد الجزيرة العربية أول مرة في التاريخ في ظل حكم عربي إسلامي ، متنور نقل العرب من الجاهلية إلى الحضارة والمدنية ، يقول الباحث الروسي آرلونوف في مجلة الثقافة الروسية ، في مقالة النبي محمد جاء فيها :

(( في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسطين ظهرت ديانة أساسها الاعتراف بوحدانية الله » وهذه الديانة تعرف بالمحمدية أو كما يسميها أتباعها الإسلام ، وقد انتشرت هذه الديانة انتشاراً سريعاً ، و مؤسس هذه الديانة هو العربي محمد ، وقد قض على عادات قومه الوثنية ، ووحد قبائل العرب ، وأثار أفكارهم وأبصارهم بمعرفة الإله الواحد ، وهذب أخلاقهم ولين طباعهم وقلوبهم وجعلها مستعدة ، للرقي والتقدم ، ومنعهم من سفك الدماء ووأد البنات ، وهذه الأعمال العظيمة التي قام بها محمد تدل على أنه من المصلحين العظام ، وعلى أن في نفسه قوة فوق قوة البشر ، فكان ذا فكر نير ، وبصيرة وقادة ، واشتهر بدماثة الأخلاق ، ولين العريكة ، والتواضع وحسن المعاملة مع الناس ، قض محمد أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة ، وكان جميع أقاربه يحبونه حباً جماً ، وأهل مدينته يحترمونه احتراماً عظيماً ، لما عليه من المبادئ القويمة ، والأخلاق الكريمة ، وشرف النفس ، والنزاهة )) .

وهكذا فإن فضل الرسول محمد  على العرب لا حد له ، إذ أخرجهم من الجاهلية إلى أنوار الإسلام ، يقول المستشرق الأيرلندي المستر هربرت وايل في كتابه : "المعلم الكبير" :

(( بعد ستمئة سنة من ظهور المسيح ظهر محمد فأزال كل الأوهام ، وحرم عبادة الأوهام ، وكان يلقبه الناس بالأمين ، لما كان عليه من الصدق والأمانة وهو الذي أرشد أهل الضلال إلى السراط المستقيم )) .

ويتحدث الباحث الأمريكي جورج دي تولدز ( 1815-1897) في كتابه : « الحياة » ، عن فضل الرسول على العرب حين نقلهم من الهمجية إلى المدينة ، وعن دور الرسالة في تبديل أخلاق عرب الجاهلية ، حين عمر ضياء الحق والإيمان قلوبهم ، يقول :

(( إن من الظلم الفادح أن نغمط حق محمد، و العرب على ماعلمناهم من التوحش قبل بعثته ، ثم كيف تبدلت الحالة بعد إعلان نبوته ، وما أورته الديانة الإسلامية من النور في قلوب الملايين من الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل ، لذا فإن الشك في بعثة محمد إنما هو شك في القدرة الإلهية التي تشمل الكائنات جمعاء )) .

تقول الشاعرة الإنكليزية اللايدي إيفلين كوبرلد في كتابها : " الاخلاق " :

(( لعمري لقد استطاع محمد القيام بالمعجزات والعجائب ، لما تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام ، وقبول الوحدانية الإلهية ، ولقد كان محمد شاكراً حامداً إذ وفق إلى خلق العرب خلقاً جديداً ، ونقلهم من الظلمات إلى النور ، ومع ذلك كان محمد سيد جزيرة العرب ، وزعيم قبائلهم ، فإنه لم يفكر في هذه ، ولا راح يعمل لاستثمارها ، بل ظل على حاله ، مكتفياً بأنه رسول الله ، وأنه خادم المسلمين ، ينظف بيته بنفسه ، ويصلح حذاءه بيده ، كريماً باراً كأنه الريح السارية ، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه ، وكان يعمل في سبيل الله والإنسانية )) .

المؤسس الأول لرابطة العروبة

كان فضل الرسول على العرب من العمق وبعد الأثر لا يحصره زمان أو يحده مكان ، عاشته أمة الإسلام وما زالت وسيظل باقياً خالداً . . يقول الباحث السوري قسطاكي حمصي (1858-1941) في مقالة له نشرتها مجلة الفتح القاهرية عام 1930 :

(( إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم ، فهو أيضا نبي العرب ومؤسس جامعتهم القومية ، وكما أنه من الحمق والمكابرة أن ننكر أن ما لسيد قريش من بعيد الأثر في توحيد اللهجات العربية ، وقتل العصبيات الفرعية في نفوس القبائل ، بعد أن انهكها القتال في قتال الصحراء ، و تناحر ملوكها في الشام والعراق تناحراً طال أمد الحماية الرومانية والفارسية في البلدين الشقيقين حتى الفتح الإسلامي . فمن الخطل أن ننكر ما للرسول العربي الكريم وخلفائه من يد على أن الشرق ، في إثارة تلك الحماسة والبطولة النادرة االمتدفقة في صدور أولئك الصيد الميامين ، الذين كانوا قابعين في حزون الجزيرة وبطاحها ، في سبيل الفتح ، والمنافحة لتحرير الشرق من رق الرومان وأسر الفرس .

إن سيد قريش هو المنقذ الأكبر للعرب من فوضى الجاهلية ، وواضع حجر الزاوية في صرح نهضتهم الجبارة المتأصلة في تربة الخلود )) .

واضع أسس الدولة الإسلامية العظمى

أما المفكر والفيلسوف الفرنسي الكبير غوستاف لوبون ( 1841-1931 ) فيقول في كتابه : "الآراء والمعتقدات " :

(( لقد اعتنقت قبائل البدو في جزيرة العرب دنيا أتى به أمي ، فأقامت بفضل هذا الدين في أقل من خمسين سنة دولة عظيمة كدولة الإسكندر وزينت جيدها بقلادة من المباني الفخمة التي هي آية في الإعجاز . . .

ينشاً من المعتقد القومي يقين لا يزعزعه شيء ، ومن مثل هذا اليقين تشتق أكثر حوادث التاريخ أهمية ، فقد أيقن محمد أن الله أمر، بالدعوة إلى دين جديد أوحي به إليه لتجديد العالم فاستطاع بفضل يقينه أن يقلب الدنيا )) .

جاذبية الرسول

ولم يكن توحيد الجزيرة العربية بالقوة والسيف والبطش كما ذهب عدد من المستشرقين المغرضين ، بل وضع الرسول القوة حيث هي ضرورة ، بين استخدم الحب واللين والتسامح عندما يقتض الأمر ، فكان لجميل سجاياه الأثر العميق في جذب القبائل العربية إلى دائرة الإسلام . . . يقول المستشرق والمفكر الأيرلندي لويس توماس ( 1807-1887 ) في مؤلفه : « الحضارة في الشرق » :

(( لا توجد أسرة في الجزيرة العربية لا تسمى أحد أبناءها محمداً باسم محمد النبي ، وفي العالم ينتشر اسم محمد أكثر من انتشار بطرس ويوحنا ، لقد كان محمد أول من وحد بين قبائل الجزيرة وشعوبها ، وجمع كلمتها تحت راية واحدة ، وقد كان ظهوره حين الحاجة إليه ، ولقد جمع كلمة العرب لا بالقوة والشدة بل بكلام جذاب ، أخذ منهم كل مأخذ ، وتبعوه وصدقوه ، وقد فاق فتى مكة غيره من الرسل ، بصفات لم تكن معروفة لديهم ، وكان يجمع بين القلوب المتفرقة فتشعر كلها بشعور قلب واحد )) .

ومن هذا المطلق يتحدث المستشرق الأمريكي اندرا وليامس في كتابه : " أمريكي في البلاد العربية " :

(( قد يكون اسم محمد أكثر الأسماء شيوعاً في العالم ، وأشهر من حمل هذا الاسم على الإطلاق عربي أبصر النور في قرية نائية من أرض الجزيرة العربية هي مكة عام 571 للميلاد ، إليه أوحى الله كلمته فأجراها في كتاب ، و نشرها بين الناس ، ودعا أصحابه للإيمان بالإله الواحد رباً ، وبمحمد بن عبد الله رسولاً ، وبالعمل الصالح، والنهي عن المنكر قبلة ومصلى ، آذنت حياته بمغيب في الثالثة والثلاثين بعد الستمئة من الميلاد ، تاركاً لقومه دنيا جديداً ، وكتاباً منزلاً ، ورسالة ضخمة لنشر الدين ، وإقامة الحضارة ، ولقد دعا محمد في عهده إلى أخوية جديدة ، أخوية المسلم لأخيه المسلم ، لا فرق بين أول وآخر ، سواء كان أميراً أم عبداً إلا بالعمل الصالح والخير والإحسان ، ثم أرسل قومه بعد هذا لغزو العالم ، وتوحيد الأرض في صعيد واحد ، فإذا انقضت سنوات بعد وفاته ، وجدنا الإسلام ينتقل من نصر إلى نصر ، ومن فتح إلى فتح ، وإذا هو يضم العالم المعروف في عهده إلى سلطانه ، وإذا به يجمع بين الشرق والغرب )) .

الباب الثالث

عالمية الرسالة الإسلامية

الفصل الأول
الرسالة الإسلامية
نوعيتها و سر انتشارها

هوية الرسالة العالمية

لقد كان أثر الرسالة الإسلامية عميقاً في جزيرة العرب التي تحققت وحدتها العملية في المرحلة الأخيرة من حياة الرسول ، و مع أكتمال الدين الإسلامي . . . هذا ، وإن الثورة الكبيرة التي حدثت فيها لم تقف عند تلك الحدود ، بل سرعان ما خرجت ألوية الدعوة الإسلامية ، لتشمل سائر بلاد العرب ثم العالم الإسلامي ، لتؤكد هويتها العالمية ورسالتها الإنسانية فالإسلام ليس دين العرب وحسب ، بل هو لسائر الشعوب والأمم . . . يحدث الباحث الفرنسي المستشرق إتيين دينيه عن وثبة الإسلام ، بقوله :

(( عندما رفع الله إليه مؤسس الإسلام العبقري ، كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائياً ، وبكل دقة ، حتى في أقل تفاصيله شأناً .

وكانت جنود الله قد أخضعت بلاد العرب كلها ، وبدأت في مهاجمة إمبراطورية القيادة الضخمة بالشام . وقد أثار القلق الطبيعي المؤقت ، عقب موت القائد الملهم ، بعض الفتن العارضة ، إلا أن الإسلام كان قد بلغ من تماسك بنائه ، و من حرارة إيمان أهله ، ما جعله يبهر العالم بوثبته الهائلة التي لا نظن ان لها في سجلات التاريخ مثيلا .

ففي اقل من عام ، ورغم قلة عددهم ، استطاع العرب الأمجاد _وقد اندفعوا لأول مرة في تاريخهم ، خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم _ أن يستولوا على أغلب بقاع العالم المتحضر القديم : من الهند إلى الأندلس )) .

الفتح الإسلامي و نشر روح الحضارة

أما إلى رخ الفرنسي المستشرق سيديو فإنه رأى في انتشار رسالة الإسلام ليس مجرد توسع إقليمي ، بل نشر روح الحضارة والمدنية يقول :

(( وبعد ظهور محمد  الذي جعل قبائل العرب أمة واحدة ، تقصد مقصداً واحداً ظهرت للعيان أمة كبيرة مدت جناح ملكها من نهر تاج في أسبانية إلى نهر الغانج في الهند ، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدين في أقطار الأرض أيام كانت أوروبة مظلمة بحهالات أهلها في القرون المتوسطة )) .

سر جاذبية الإسلام

هذا ، ولقد أثارت مسألة ولادة الإسلام ومن ثم انتشاره بتلك الوثبة العملاقة اهتمام المستشرقين الغربيين ، فكان أن طرحت التساؤلات عن سر جاذبية الإسلام وهويته وقوته وانطلاقته العظيمة تلك . . يقول روجيه غارودي في كتابه " ما يعد به الإسلام " :

(( إن ولادة الإسلام وانتشاره يطرحان قضية نوعية خاصة إذ لا يجوز الاكتفاء بالإشارة إلى أن الجزيرة العربية بحاضرتيها مكة والمدينة ، كانت نقطة التقاء المعجزة التجارية الكبرى والقوافل المتوجهة من الشرق إلى الغرب ، ومن أوروبة والشرق الأدنى إلى الهند والصين ، ومن البحر المتوسط إلى المحيط الهندي ، لأن الاكتفاء بهذه الإشارة قد يفهم منه أنه بفضل وقوع الجزيرة العربية على مفترق طرق الحضارات قد تم تمازج الأديان والثقافات التي لم يكن الإسلام إلا محصلة لها ومبشراً بها ، بل إنه خلافاً لهذا فقد انطلق من مكة والمدينة وشبه الجزيرة العربية بصحاريها وواحاتها ، وراح يشع على مدى قرون ، عقيدة واحدة وروحاً جماعية مشتركة سينسجم عنها ثقافة نوعية أغنت الثقافات الأخرى وجددتها وذلك عبر ثلاث قارات من الهند إلى أسبانية ، ومن آسية الوسطى إلى قلب إفريقية . وظاهرة الانتشار هذه لا تشبهها أية ظاهرة أخرى سابقة أو لاحقة ، نعني هجرة الموجات البدوية العديدة من أقاسي آسية ، والغزوات الأوروبية الكبرى على أمريكة و إفريقية ، هذه الغزوات التي تتمتع بتفوق عسكري مطلق ، قوامه المدفع والبندقية أولا و الرشاش ثانياً .

ولم تكن الجزيرة العربية غزيرة السكان ، ولم يكن العرب يملكون ما يملك الفرس والبيزنطيون من أسلحة وفنون حربية . و هكذا فالإمبراطورية العربية لم تقم إذاً على أساس من علاقات ( القوة ) التي تؤمن لها تفوق ساحقاً .

زد على ذلك أنه ليس بالامكان تطبيق هذه الأطروحة أو تلك من مقولات ( ماركسية ) مطلقة مختزلة على الظاهرة الإسلامية ، هذه الأطروحة التي تفسر حركة التاريخ وثوراته وتحولاته بالمستوى التقني والعلاقات الاقتصادية وصراع الطبقات الناجم عنها )) .

لقد شغلت قضية انتشار الإسلام وقوة وثبته أفكار العظماء ، ومنهم نابليون الذي سحر _كرجل عسكري_ بالفتوحات العربية الإسلامية ، وكان يرى وراءها قوة سرية كامنة في نشأة الإسلام وقوته الذاتية ، وانتهى إلى النتيجة القائلة :

((إنه ، إذا طرحنا جانباً الظروف العرضية التي تأتي بالعجائب ، فلا بد أن يكون في نشأة الإسلام سر لا نعلمه ، وأن هناك علة أولى مجهولة جعلت الإسلام ينتصر بشكل عجيب على المسيحية وربما كانت هذه العلة الأولى المجهولة : أن هؤلاء القوم ، الذي وثبوا فجأة من أعماق الصحارى أمة قوية ، ومواهب عبقرية ، وحماس لا يقهر ، أو ربما كانت هذه العلة شيئاً آخر من هذا القبيل )) .

رسالة الإسلام النوعية

إلاً أن روجيه غارودي ، حاول أن يضع يده على السر ، الذي وجده كامناً في رسالة الإسلام النوعية ، وأن تفسيره لا يمكن أن يتم خارج إطار الإسلام نفسه ، أو بمعزل عن تفهم العقيدة والروح الجماعية في الإسلام .< ويخلص إلى القول :

(( ولكن إذا لم تكن مسلماً ولم تنظر إلى القرآن على أنه كتاب منزل من الله على محمد فمن المتعذر عليك كمؤرخ أن تنظر إلى تفجر ذلك الينبوع الحياتي الذي راح يزعزع العالم على أنه حقيقة دامغة ، وذلك دون الخوض في تبسيطات الفلسفة الوضعية وأحكامها السابقة .

إذ التسليم بهذه الحقيقة الأساسية لا يلزما الاستغناء عن اللجوء إلى التفسير ، وإنما يدعونا سلفاً بكل بساطة إلى أن لا نستثني هذا البعد الحياتي أو ذاك ، من حركة الولادة و النمو التي تمارسها الإنسانية في مسيرتها التاريخية .

وفي كل تاريخ مفعم بالإنسانية تلعب (الغايات ) والأهداف دورا فاعلاً لا يقل عن دور (الأسباب ) )) .

ومن هنا نجد أن انتشار الإسلام حدث بفعل قوته الذاتية ، و لم ينجم عن أسباب خارجية ، أو حصراً بالنشاط العسكري للمسلمين ، يقول غارودي :

(( إذاً لا يمكن تفسير ظاهرة انتشار الإسلام بعوامل خارجية كالضعف البالغ أو الأغلال الذي انتاب الإمبراطوريات المهزومة ( الإمبراطورية الرومانية الشرقية وإمبراطورية الفرس الساسانية وإمبراطورية الفيزيغوت في أسبانية ) كما لا يمكن تفسرها بعوامل عسكرية صرفة .

ولكن الأسباب العميقة لذلك الانتشار العاصف أسباب ( داخلية ) تتصل بجوهر الإسلام وروحه ، فعشية موت النبي وعلى مدى اثنتي عشرة سنة ( من 633_ 645م ) تمت سيطرة العرب على فلسطين وسورية وما بين النمرين ومصر . ولم تقف في وجه الموجة الأولى إلا الحواجز الطبيعية كسلسلة جبال طوروس في آسية الوسطى، وجبال شرقي إيران ، وصحارى ليبية والنوبة في الغرب )) .

رسالة تحرير لا استعباد

كان نضال المسلمين الملحمي في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر رسالة الخير والإنسانية لسائر أبناء البشر ، هذه الرسالة التي لم تقتصر على الجانب الديني ، وإقامة العبادات والشعائر فقط ، وإنما عملت اجتماعياً على تحقيق المساواة والأخوة ، وناضلت بروح من التسامح لا تعرف الأحقاد الطائفية الدينية . . فكانت رسالة تحرير للشعوب لا استعباد ، وكانت الشعوب تستقبل المسلمين استقبال المحرر من ، ويتابع غارودي بحث قضية سر انتشار الإسلام وقوة جاذبيته » بقوله :

(( وهكذا وفي كل مرة تتم فيها هزيمة الطبقة المسيطرة المكروهة من شعبها كان العرب يستقبلون على أنهم محررون من قبل ضحايا الإرهاب الاجتماعي أو السياسي أو الاضطهاد الديني.

كان انتصار العرب تحريراً وتخليصاً ، فلقد حرروا المسيحيين القائلين بطبيعة واحدة للمسيح المهتمين بالهرطقة من قبل الإمبراطورية البيزنطية ، كما حرروا النساطرة في بلاد الفرس ، وقبائل البربر التي كانت قد تبنت مذهب الأسقف (دونات) والتي استعدى عليها القديس أوغسطين ، إمبراطور رومة ليبطش بها ، لأنها مارقة في نظره ، كما كان انتصار العرب تحريراً لليهود والنصارى الأريوسيين وأتباع بريسيليان في أسبانية من اضطهاد ( الأكليروس ) المتعصب ، كما كان تحريراً للفلاحين الأقباط في مصر الذين كانوا يعانون من ابتزاز كبار ملاكي الأراضي في بيزنطة )) .

الفتح الإسلامي و الحريات الدينية

ومن جانبه ، اكد فلاسكو إيفانيز في كتابه : " في ظل الكاتدرائية " أن ظاهرة انتشار الإسلام لم تأخذ طابع الاستعمار ولا سمة الغزو ، يقول :

((إن أسبانية المعجزة من قبل ملوك لاهوتيين ، وأساقفة شرسين ، قد فتحت ذراعيها للفاتحين .. وفي مدى عامين استولى العرب على بلاد استغرق استرجاعها سبعة قرون . ولم تكن القضية قضية غزو أو اجتياح بحد السيف وإنما هي مسألة مجتمع جديد تترسخ جذوره القوية في جميع الاتجاهات . أما مبدأ حرية ممارسة الشعائر _وهو حجر الزاوية لعظمة كل أمة _ فكان العرب حريصين على تطبيقه ، ففي كل المدن التي حكموها كانت كنيسة المسيحيين تقوم إلى جانب معبد اليهود )) .

الديناميكية الداخلية لرسالة الإسلام

وحدة الإسلام الداخلية وتماسكه واندماج الفرد في حياة الجماعة وخلق الأخوة الإسلامية ، قد مدت الرسالة بتلك القدرة العجيبة على اقتراح المعجزات ، رسوخاً في البقاء كنظام متماسك رغم كل أسباب التمزق ، ورغم انقسام العالم الإسلامي . يقول مارسيل بوازار:

((لقد كان الدين حافزاً فعالاً على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، ولإ الاحتكاك بمختلف الحضارات على مر العصور.. ولقد تمكن المجتمع الإسلامي الذي قام على الدين من الصمود في وجه التفكيك السياسي، ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخوم بين الدول كبير التأثير)) .

تقدمية الرسالة القرآنية

وكان لتقدمية التعاليم الإسلامية إلى جانب العوامل الأخرى سر جاذبية الإسلام وخصيصة انتشاره السريع ، يقول بوازار :

(( لقد أظهرت الرسالة القرآنية وتعاليم النبي أنها تقدمية بشكل جوهري . وتفسر هذه الخصائص انتشار الإسلام السريع بصوره خارقة خلال القرون الأولى من تاريخه )) .

كما اعتبر المستشرق الفرنسي هليار بلوك انتشار رسالة الإسلام معجزة حملت للإنسانية الخير والعطاء ، ونادت بالمثل العليا ، يقول في كتابه : « محمد والقرآن » :

(( إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها وبعد أثرها ، وعظيم نتائجها ، كانت مسوقة بقوة لا يستطاع تفسيرها ، وإن كان ما لدينا من المصادر والوثائق يساعدنا على تفهم الأسباب التي جعلتها أمراً واقعاً منظوراً .

كانت الحركة دينية ، ما في ذلك شك ، فلم يخرج العرب من جزيرتهم للنهب والسلب ، وإنما خرجوا لنشر الدين الجديد الذي جاء به محمد ، والتبشير بالمثل العليا التي نادى بها محمد ، والصفات الجليلة التي دعا إليها محمد )) .

الفصل الثاني
الأخوة الإسلامية بين الأجناس و الشعوب

لا تفرقة عرقية أو جنسية في الإسلام

لقد سبق أن نوهنا في مبحث المساواة في الإسلام بالقول إن الرسالة حرصت على إقامة قواعد المساواة والإخاء في الدولة الإسلامية دونما أي خطر للعرق أو الجنس أو الشعوب والقوميات المختلفة ، ودونما تفريق بين أصحاب الديانات المتباينة أو اختلاف بين مسلم وذمي . . .

الأخوة الإسلامية و سر انتشار الرسالة

و بدهي أن يبحث المستشرقون قضية الأخوة الإسلامية والنزعة الإنسانية في الإسلام ، وأنها كانت وراء جاذبية انتشاره ، ولقد تناول المؤرخ الإيطالي كايتاني في كتابه : « حوليات الإسلام » كيف أن معاقل المسيحية في الشرق قد تهاوت أمام المد الإسلامي ، بسبب تلك الجاذبية وسطوع مبادئه ، يقول :

(( لما أهلت آخر الأمر أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء ، لم تعد المسيحية ، التي اختلطت بالغش والزيف ، وتمزقت بسبب الانقسامات الداخلية ، وتزعزعت عقائدها الأساسية ، واستولى على رجالها اليأس و القنوط من هذه الشكوك، نقول إنه لم تعد تلك المسيحية قادرة على مقاومة إغراء هذا الدين الجديد الذي بدد بضربة من ضرباته كل الشكوك التافهة ، وقدم مزايا جليلة إلى جانب مبادئه الواضحة التي لا تقبل الجدل ، وحينئذ ترك الشرق المسيح ، وارتمى في أحضان العرب . ولا عجب فقد منح الإسلام العبد رجاء ، والإنسانية إخاءً ، ووهب الناس إدراكاً للحقائق الأساسية التي تقوم عليها الطبيعة البشرية )) .

أثر الأخوة الإسلامية على الشعوب

وكان لهذه الأخوة الإسلامية أثرها على باقي الشعوب ، وحفرت عميقاً في وجدانها هذه النزعة الإنسانية الخيرة التي ترفض التقسيم العرقي أو الطبقي . .. ويتحدث جواهر لال نهرو زعيم الهند الراحل ، وباني نهضتها الحديثة ، عن هذا الجانب بقوله :

(( إن نظرية الأخوة الإسلامية ، والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ، ويعيشون فيها ، أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقاً . وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية )) .

الإخاء و المساواة

أن الأخوة الإسلامية وقفت دائماً بالمرصاد ضد النزعة العرقية ، فلا فرق بين عربي وأعجمي ، أو أبيض وأسود ، فالجميع سواسية كأسنان المشط ، ويعاملون على قدم المساواة ، يقول المستشرق والمؤرخ بودلي :

((و ليس هناك أي عائق لوني للمسلم فلا يهم أكان المؤمن أبيض أو أسود أو أصفر، فالجميع يعاملون على قدم المساواة )) .

الإخاء وفلسفته الاجتماعية في الإسلام

انطلاق من فلسفة الإسلام الاجتماعية التي تعلي كل ما هو في صالح المجموع و تقدمه على مصلحة الفرد ، والصالح العام للإنسانية فوق المصلحة العرقية ، تأكيداً على مبدأ الإخاء الإنساني ، يقول المفكر برج :

(( إن مبدأ الإخاء الإنساني هو أساس فلسفة الأخلاق الاجتماعية في الإسلام )) .

و تأسيساً على مبدأ الأخوة الإنسانية بين الأجناس والشعوب ، حقق الإسلام واقعياً لا نظرياً عملية توحيد مختلف الأجناس في ظل المساواة والعدل الإسلاميين ، يقول برج مؤكداً :

((إنه ليس هناك من مجتمع آخر سجل له التاريخ من النجاح كما سجل للإسلام في توحيد الأجناس الإنسانية المختلفة ، مع التسوية بينها في المكانة والعمل وتهيئة الفرص للنجاح في هذه الحياة )) .

ويتحدث المفكر الإنكليزي موير عن الرسالة الإسلامية وفق عقيدتها ، فيقول :

((ومن عقيدة الإسلام أن الإنسان أخو الإنسان )) .

ولادة المبدأ الديمقراطي الجديد

أن تلك الأخوة الإسلامية كانت جزءاً من الرسالة الخيرة وقاعدة لولادة مبدأ جديد ، مبدأ الديمقراطية . . ويتحدث جواهر لال نهرو عن نضال الرسول محمد  في نشر رسالته التي حولت القبائل العربية المتناحرة إلى أمة عظيمة ضمت شعوباً شتى وأجناساً مختلفة ، وأعراقاً متباينة ، كان الجميع فيها يعاملون على قدم المساواة تضمهم راية الأخوة ، ويوحدهم مبدأ الديمقراطية في ظل تلك الحضارة الإسلامية الإنسانية الزاهرة ، يقول في كتابه : « لمحات من تاريخ العالم » :

(( كان محمد واثق بنفسه ورسالته ، وقد هياً بهذه الثقة وهذا الإيمان لأمته أسباب القوة والعزة والمنعة ، وحولها من مكان صحراء إلى سادة يفتحون نصف العالم المعروف في زمانهم ، كانت ثقة العرب وإيمانهم عظيمين ، وقد أضاف الإسلام إليها رسالة الأخوة والمساواة والعدل ، بين جميع المسلمين ، و هكذا ولد في العالم مبدأ ديمقراطي جديد ، فوثب الشعب العربي بنشاط فائق أدهش العالم ، وقلبه رأساً على عقب . وإن قصة انتشار العرب في آسية وإفريقية وأوروبة ، والحضارة الراقية ، والمدينة الزاهرة التي قدموها للعالم هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ )) .

النزوع الديمقراطي وإزالة الفوارق الجنسية والعرقية

لقد نجح الإسلام بفضل هذه الأخوة والروح الديمقراطية في إزالة الفوارق في الجنس واللون ، ولم تعد الشعوب المغلوبة التي دخلت حظيرة الإسلام ، تشعر أنها شعوب مقهورة ، بل تشعر بحريتا وكرامتها في ظل الأخوة الإسلامية ، يقول الباحث الأمريكي ، وأحد كبار رجالات الخارجية الأمريكية السابقين فيليب إيرلاند :

(( يبدو من النظرة الأول أنه توجد ظروف ملائمة جداً للديمقراطية في داخل الإسلام . فإن الإسلام كان أعظم الديانات توفيقاً في إزالة فوارق الجنس واللون والقومية )) .

أصالة النظام الإسلامي

ويعود موقف الإسلام المتسامح من الشعوب والأجناس إلى نظرته للإنسان بشكل عام ، فجميع البشر عيال الله في إطار من المساواة والإنسانية ، إلى جهة بالعناية الإلهية . فالإسلام عقيدة وشريعة ، ديناً ودولة لا ينفصم فيه الروحي عن الزمني ، لذا أكتسب طابع العمومية ، وغدا شمولياً عالمياً إنسانياً ، للإنسان مكانته الرفيعة في المنظور الإسلامي . . . و هذا، وإن كان للجماعة الإسلامية قوانينها وحقوقها ، فقد سوى بينها الإسلام بتسامحه ونظرته العميقة للشعوب الأخرى ، فكان للإنسان إنسانيته ، ولذا حفظ مكانتها في المجتمع الإسلامي ، في إطار من النظم والدساتير ،.. يقول الباحث الفرنسي مارسيل بوازار :

(( وينبغي أن يحتفظ لغير إلمؤمنين بوضع خاص في مجتمع قائم بشكل أساسي على الدين . ومع ذلك فليس شأن الأجنبي كشأن « العدو » في المدينة القديمة . وتتمثل أصالة النظام الإسلامي بالنظر إلى ما كان سائداً في العصور الإغريقية والرومانية في شمولية الوحي و إرشادية الدين . ويمثل تفوقه في هذا المضمار على اليهودية والمسيحية في تقبله الديانات التوحدية السابقة ، التي يصدقها الإسلام . ولكنه يجاوزها في الوقت نفسه إلى جانب توكيده على الوحدة الجوهرية للأديان السماوية .

فالنسبية إذن قاعدة مقبولة في حقل التشريع لا حين يتعدى الأمر التوكيد الجوهري لعامة القانون الإلهي . وإليك إحدى أهم مساهمات الإسلام في تأليف مفهوم عالمي حديث : التسماح وهو واجب ديني وأمر شرعي . والقرآن واضح في الإشارة إليه : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه . فالحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات  .

وترتسم في هذا الإطار العام ثلاث فئات من غير المسلمين . فهناك أولاً المشرك المدعو للدخول في الدين الجديد دون أن يتخذ بحقه تدبير طرد ، وليس أمامه نظرياً إذا ناصب الإسلام والمسلمين العداء إلا أن يختار بين اعتناق الدين والقتال حتى الموت . وهناك ثانياً اعتنق لدين توحيدي القاطن خارج العالم الإسلامي (الحربي ) . ولكن في وسعه أن يقيم مؤقتاً فيه تبعاً لإجراء في غاية البساطة . ويبدو هذا النموذج الثاني أقرب إلى فكرة «الأجنبي» حسب المذهب الحديث . و تضم الفئة الثالثة أخيرا الموحدين الذين " تحميهم " الجماعة الإسلامية . و كثير ما لجأت الكتابات الغربية إلىعملية تعميم مفرطة في التبسيط فاعتبرت هؤلاء «المحميين » بمثابة «مواطنين من الدرجة الثانية » . والواقع أن هؤلاء القوم كانوا أجانب خاضعين لقوانينهم الخاصة . و«محميين » بالمعنى الفعلي للفظة ، لانهم مقيمون جغرافياً في المجال الخاضع سياسياً وثقافياً للإسلام . وكانوا يؤلفون أقليات دينية متناسقة تكفل أوضاعها نظم قانونية ملزمة إزاماً شديداً للأغلبية المسلمة لأنها جزء من التنزيل )) .

التعايش الأخوي

إن الإسلام قدم نفسه كعقيدة دينية وشريعة ظهرت في إطار تنظيم اجتماعي تبلور في الدولة الإسلامية عبر سائر المراحل التاريخية السابقة واللاحقة ، سابقاً إلى تحقيق فكرة التعايش بين الشعوب والأجناس والأديان ، وإن نظرة واحدة لأول دستور مكتوب في تاريخ البشرية ، وأقصد به دستور المدينة يقدم لنا القوانين السائدة في أول دولة إسلامية قامت بعد الهجرة وحققت التعايش بين المسلمين واليهود والقبائل العربية التي لم تكن تعتنق الإسلام ، ومن ثم تطورت جوانب هذا التعايش مع قيام الدولة الإسلامية التي ضمت شعوباً وأمماً مختلفة ، حققت بينها الانسجام والعدل والمساواة ، بعيداً عن العصبية العرقية أو الاستعلاء الديني . يقول مارسيل بوازار :

)) وقد فتح الإسلام الباب للتعايش على الصعيد الاجتماعي والعرقي حين اعترف بصدق الرسالات الإلهية المنزلة من قبل على بعض الشعوب ، وجعل المسلمين منحدرين من نسل مشترك هم اليهود والنصارى عبر إبراهيم . لكنه بدا أنه يرفض الحوار في الوقت ذاته على الصعيد اللاهوتي حين ربط التنزيل القرآني بما جاء في الكتاب المقاس وأزال من العقيدة كل ما اعتبر زيفاً مخالفاً للتوحيد بالمعنى الدقيق للكلمة. وأتاح منطق تعاليمه القوي وبساطة عقيدته ، وما يرافقها من تسامح أتاح كل هذا للشعوب التي فتح بلادها حرية دينية تفوق بكثير تلك التي أتاحتها الدول المسيحية نفسها ، ولا سيما في حوض المتوسط الشرقي ، حيث كانت تحارب بقسوة الهرطقات التي غالباً ما كانت تتخذ شكل المطالبة القومية . وبهذا لا تغطي "الجماعة الإسلامية" رقعة « دار الإسلام ، » فالفكرة الأولى تتخذ طابع الموافقة الدينية ، و تضمن الثانية بنية سياسية ودينية معاً تضم غير المسلمين تبعاً لإجراء محدد .

ويتيح التوحيد لكل إنسان شرف الاندماج في الجنس البشري دون حصر ولا مراعاة خاصة . و تستتبع وحدة الرسالات احترام معتنقي التنزيلات السابقة ، في حين أن اعتناق الإسلام يحقق للفرد في موازاة ذلك ، مكان بلوغ الدرجة القصوى من الكمال بالانخراط في مجتمع المؤمنين . وبالفعل فإن شهادة أن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " التي ينخرط بها الفرد ، ويشارك مشاركة تامة في الأمة الإسلامية تتضمن اعترافاً مزدوجاً : الاعتراف بوحدانية الله ، والاعتراف بأن النبي محمداً رسول من الله. و تبقى القيمة الجوهرية هي هي لجميع الناس بوصفهم أناساً . ومع هذا فإن شعور المسلم بالدعوة الربانية أهي موضوعياً من شعور أي إنسان آخر لأنه يتبع أمر الله :

 ويا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم أن الله عليم خبير  .

المجتمع الإنساني المنفتح

إن أصالة الإسلام وعالميته ، تجاوزتا إلى الموقف العملية للعقائد والديانات السابقة ، حين قدم نموذجاً عملياً في إطار نظامه ، فلم تبق الرسالة مجرد تعاليم راقية بل ظهرت كحقيقة تاريخية ثابتة متطورة ، وكمجتمع إنساني منفتح على الجميع ، دون مساس بالصالح العام ، فكان أن ظهرت فيه أقليات عرقية ودينية ، أوجد لها الإسلام الحلول قديماً ، بينما كانت المجتمعات الأوروبية غارقة في ظلام القرون الوسطى . . . يقول مارسيل بوازار :

(( وبالرغم من كون هذا المجتمع مفتوحاً للجميع ، فإنه ليس في مكنة الجماعة أن تقبل الذين رفضوا مقدماتها الأساسية . أي الإسلام ، بصورة أعضاء كاملين . إلا أنه ليس ما يمنع المؤمنين من إقامة علاقات صداقة مع غير المسلمين . ما دامت هذه الروابط لا تشكل خطراً على الجماعة . وفي وسع الموحدين غير المسمين القاطنين في قلب وسلطة زعيمهم الديني المسؤول تجاه السلطات الإسلامية . وقد تألفت "أمم" من نوع معين ، واتحدت ، وخضعت لنظامها الديني الخاص . وانخرطت في البنية الاجتماعية الفوقية للمجتمع الإسلام ي الذي يحميها.

وتعني كلمة (الذمة ) في أصل وضعها حسب المعجمات العربية ، الإيمان والعهد ، والميثاق ، فالقضية إذاً قضية عقد تسمح الجماعة الإسلامية بموجبه للأقوام الموحدة الخاضعة لها أن تحتفظ بدينها بكفالة الإسلام ، لقاء دفع ضريبة تعويضية واحترام بعض موجبات حددتها الشريعة بدقة . ويستمد مبدأ الجزية أساسه من القرآن ، أما طرق تطبيقها فقد وضعت فيما بعد ، و لا سيما خلال حقبة الفتوحات .

وليس طابع معاهدة الحماية ( الذمة ) التشريعي قابلاً للمقارنة أو المماثلة بأفكار المذهب التشريعي الغربي الرائجة . أضف إلى ذلك أن المؤسسة تطورت بتطور تاريخ الإمبراطورية الإسلامية ، بتأثير النقول الخارجية وما نتج عنها من تطور بنى العالم الإسلامي نحو نوع من العلمانية . وإنه ليكتفي أن نستخرج خطوط النظام العامة الكبرى من ركام كثير التشويش من الأحداث التاريخية ، والآراء التشريعية ، والعلاقات بين الأحداث »، لنبين كيف حاول الإسلام منذ القرن السابع للميلاد أن يقدم حلاً لمشكلة الأقليات فريداً في نوعه . والمقابلات القانونية التاريخية خطرة ، لان المؤسسات القديمة نتاج مفاهيم بعيدة جداً في الأغلب عن تطلعاتنا أو إنجازاتنا الحديثة .

وتستحق جماعة غير المسلمين على أرض الإسلام أن تتناول بالتحليل ، لأنه ثبت أنها نهج لا مثيل له ، في الوقت الذي كان فيه الغرب على أهبة الخروج من العصور الوسطى وإدراك ضرورة وضع الأنظمة المحددة للعلاقات مع الغرباء )) .

الإسلام وصياغة القوانين الدولية

هذا ، وفد رأى ماسينيون أن نظرة المجتمع الإسلامي إلى الأقليات العرقية القاطنة في كنفه قد كنفه دوراً بالغاً في صياغة القوانين الدولية ، إن شكلت هذه التنظيمات القانونية الخاصة والإلزامية ، حسب رأى المفكر الفرنسي " إلى تكوين جنين قانوني دولي عام لدى فقهاء المسلمين قبل أن يفكر بذلك غروتيوس في العالم المسيحي بزمن )) .

لا إكراه في الدين

ويتابع الباحث الفرنسي بوازار عرفه مظاهر التسامح الإسلامي، إن كفلت الشريعة لحماية الأقوام المفتوحة بلادهم ، دون أن تمس حقوقهم وأوضاعهم ، رغم ظهور بعض التجاوزات الطفيفة بين ويخلص إلى القول :

((ويظهر أن الإسلام يتراءى أكثر تسامحاً كلما قوي واشتد على الصعيدين الداخلي والخارجي . وينم نص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق الدين عن تأكيد لا يتزعزع . وقوة الأمة توفر للمؤمن ألا يخش اليهودي و لا المسيحي ، وأن يحترم بالتالي شخصهما ودينهما ومؤسساتهما . وقد استوحت الجماعة الإسلامية أثناء الموجة الأول لانتشارها في الأرض استيحاء كبيراً الترتيبات التحررية التي أغدقها النبي وخلفاؤه . وقد أهمل معظم القيود التي جدت بالتدريج . ولم يرجع إليها بشكل منظم إلا تبعاً لظروف خاصة جداً )) .

ومنذ البدء أكد الإسلام أنه دين عالمي حضاري صالح لكل الأجناس ولمختلف الشعوب، يقول المؤرخ والمستشرق الأسباني ريتين في كتابه : "التاريخ الخاص لسورية ولبنان " :

(( دين محمد قد أكد منذ الساعة الأول لظهوره وفي حياة النبي  أنه دين عام. فإذا كان صالحاً لكل جنس كان صالحا بالضرورة لكل عقل ، ولكل درجة من درجات الحضارة )) .

تجربة الإسلام التاريخية ومستقبل الإنسانية

ويتوسع المستشرق البريطاني جب في تناول جانب كالمساواة التي أقامها الإسلام بين مختلف الشعوب في تلك التجربة الإنسانية الفذة ، التي جمعت في بوتقة الإسلام شعوباً مختلفة وأجناساً متباينة ، وأن هذه التجربة التاريخية الكبرى يمكن أن تخدم الإنسانية مستقبلاً في تحقيق الإخاء بين الشعوب ، وكسر الجليد بين الشرق والغرب ، وينتهي إلى القناعة بضرورة تشكيل موقف موحد ما بين الإسلام والغرب لخدمة الإنسانية ، يقول في كتابه : " اتجاه الإسلام " :

(( وكذلك كم قام الإسلام بخدمات أخرى أسداها للإنسانية وله ماض بديع من تعاون الشعوب وتفاهمها ، وليس هنالك مجتمع آخر له ما للإسلام من ماض كله نجاح في جمع كلمته مثل هذه الشعوب المعجزة المتباينة على بساط واحد ، في الحقوق والواجبات ، وقد برهنت الطوائف الإسلامية في إفريقية والهند والهند الشرقية والجماعات الصغيرة منهم في الصين واليابان ، على أن الإسلام يستطيع أن يوفق بين العناصر التي لا سبيل إلى التوفيق بينها ، وإذا ما أريد إحلال التعاون محمل الخلاف بين المجتمعات في أن الشرق والغرب فإن وساطة الإسلام ضرورية لا غنى عنها ، فهو وحده الكفيل بحل المشكلة التي تواجه أوروباً في علاقاتها مع الشرق ، فإذا اتحدا عظم الأمل في أن تكون النتيجة سلاماً ، وأما إذا رفضت أوروبة معاونة الإسلام وألقت بنفسها في أحضان خصومه فلن تكون العاقبة إلا نكبة لهما معاً )) .

و بكلمة فإن الإسلام وحده القادر على تحقيق الإخاء الإنساني والمساواة بين سائر الشعوب ، يقول :

(( ما زال في مستطاع الإسلام أن يقدم للإنسانية خدمة جليلة ، فليس هناك أية هيئة سواه يمكن أن تنجح مثله نجاحاً باهراً في تأليف هذه الأجناس البشرية المتنافرة في جبة واحدة أساسها المساواة )) .

الفصل الثالث
رسالة الإسلام و مستقبل الإنسانية

الدور العالمي لرسالة الإسلام

إن الأخوة الإسلامية بين الشعوب والأجناس المختلفة ، وعالمية الديانة الإسلامية الناجمة عن كونها ديانة تبشر بالسلام والصداقة بين الشعوب حققت للإسلام إمكانية الانتشار الواسع ، ومتمكنة من أن يكون له دوره العالمي في صنع مستقبل الإنسانية ، لقد جاء في مجلة العالم الإسلامي التي يرأس تحريرها مؤسسها القس البريطاني صموئيل زويمر ، في الكلمة لتي ألقاها جورج بروك عضو البرلمان البريطاني في جمعية المسلمين في مدينته بردفورد بإنجلترة، قوله :

((إنه يستطيع أن يرد الاهتمام بالدين الإسلامي إلى أنه دين عالمي بطبيعته ، ثم قال : أن الإسلام دين السلام والمحبة بين البشر، وإنه يلعب دوراً خطيراً الآن في شؤون العالم ، و أني أعتقد أن خطره وتأثيره في مستقبل العالم سيزداد جيلاً بعد جيل )) .

الإسلام دين الإنسانية

ولقد بحث المستشرق ديون سر عالمية الإسلام فتوصل إلى أن مفتاح ذلك يمكن في انه دين الإنسانية جمعاء ، وليس مقصوراً على شعب دون آخر ، يقول :

((ذلك أن الإسلام لم يكن ديناً للعرب فحسب ، وإنما هو دين الإنسانية من أقصى الأرض إلى أقصاها )) .

أما الباحث جورج رو فينظر إلى عالمية الإسلام في ابتعادها عن الشكلية وأداء الشعائر، يقول :

((ليس الإسلام مجرد شكل ، و لا هو مجرد شعائر دينية تتفاوت درجات أصحابها في العمل بها . ولكن الوصف المميز للإسلام هو أنه دين عالمي معمول به أكثر من أي دين غيره )) .

نحو نظام عالمي جديد

ومع إفلاس الحضارة الغربية التي أثارت حربين عالميتين ، وظهور العالم الثالث كقوة ما بين المعسكرين الشرقي والغربي ، شرع بالتفكير جديا بخلق نظام عالمي جديد ، ووجد كثير من المفكرين والمستشرقين في الغرب أن النظام الإسلامي هو خشبة خلاص البشرية ، وأنه يقدم السبيل الصحيح كمنظومة اجتماعية سياسية ، واقتصادية روحية ، يقول المفكر الأيرلندي برناردشو :

(( إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد  هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال ، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدينات ، خالد خلود الأبد ، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة ، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في القارة الأوروبية بعد هذه الحرب ، وإذا أراد العالم النجاة من شروره فعليه بهذا الدين ، إنه دين التعاون والسلام والعدالة في ظل شريعة محكمة لم تدع أمراً من أمور الدنيا إلا رسمته ووزنته بميزان لا يخطئ أبداً)) .

الإسلام و المشروع الحضاري الإنساني المتكامل

إن الإسلام في القرن العشرين ، أخذ يظهر كقوة عالمية يستمد قوته ، ليس من القدرة العسكرية الاقتصادية ، التي تحمل مخاطر إشعال الحرائق والحروب تنافساً على الثروة ، وفرضاً لمبدأ الهيمنة ، بل كمقدم لمشروع حضاري إنساني متكامل ، حاملا الخلاص للعالم ، والنجاة للإنسانية المهددة بالانهيار الروحي والتشويه الإنساني ، وانحطاط القيم الثقافية والحضارية . . .

يقول الكبير الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه : "إنسانية الإسلام " :

((و تسمح ديمومة القناعة الدينية بالتشديد على صلاح الإسلام للزمن الراهن عن طريق أمثلة مستقاة من الحقبة المعاصرة ومن الماضي . وقد احتفظنا من القانون الإسلامي بما اعتبرناه ثابتا لا يتحول ، لا بوصفه قواعد ابتدعها أو استنتجها الفقهاء ، أنما بوصفه تعبيراً عن إجراء روحي مرتبط بحضارة خاصة . وجوهر القانون وهبته الإرادة الإلهية ، فهو من هذه الناحية ، وبصورة عامة جداً ، مثالي وثابت . و هكذا اهتم التفكير القانوني الإسلامي بالمحافظة على النظام المجتمعي أكثر من اهتمامه ببناء مجتمع . وراح يتطور مع نمو المجتمع ، وأكسبه مظهره الذممي مراناً كبيراً . ولم يعمل المظهر القانوني على عكس صورة عن الواقع بالتطابق مع الأحداث ، بل كان مفروضاً فيه على العكس أن يوجهها بوصفه علماً نظرياً مرتبطاً بجوهر القانون _الوحي_ وخاضعاً له ، كما أن الأغصان جزء من الشجرة . وقد كان من الممكن أن تتلافى الواقعية العملية الممارسة في حدود الأطر التي فرضها نظام أسمي اقتصار القانون على قتل أعلى مجرد أو على نمط سلوك لا يمكن بلوغه ، وباختصار ، بدا لنا أن روح القانون الإسلامي أصلح لبحثنا من طريقة تطبيقه )) .

ويتابع الباحث فكرته ، فيقول :
(( ويبرز الإسلام بمجمله مجدداً من خلال مظهره التقليدي في النقاش الدائر حول مختلف مفاهيم الإنسانية في المستقبل . وتعتمد حركيته على استقامة المسلمين طوال القرون وعلى محاولة لرد الاعتبار تاريخياً إلى المجتمع الإسلامي )) .

صلاحية الإسلام في تقديم الحلول الناجحة لمشاكل الإنسانية

هذا ، وإن صلاحية الإسلام وعالميته تستمد قدرتها من أنه يقدم الحل الناجع للإنسانية ، من القلق والضياع والخوف على المصير ، لا يعطي نموذجاً للحياة الاجتماعية الأفضل ، تقول الباحثة الإيطالية لورافيتشافا لبرى :

(( أن الناس ليتلهفون على دين يتفق وحاجاتهم ومصالحهم الدنيوية ، ولا يكون قاصراً على إرضاء مشاعرهم وإحساساتهم ، ويريدون أن يكون هذا الدين وسيلة لأمنهم وطمأنينتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، وليس هناك من دين تتوفر فيه هذه المزايا كلها بشكل رائع سوى الإسلام ، إي أنه ليس مجرد دين فحسب ، بل إن فيه حياة للناس، لأنه يعلمهم كيف يحسنون التفكير والكلام ، ويحضهم على فعل الخير وصالح الأعمال ، ولذلك سرعان ما شق طريقه إلى القلوب والأفهام )) .

صلاحية الإسلام لكل زمان و مكان

فالإسلام هو دين عام حسب قول المستشرق الفرنسي إتيين دينيه "صالح لكل زمان ومكان ، فهو دين الإنسانية ودين المستقبل" .

ولقد أكدت التجارب التاريخية القديمة مدى ثباته وصلاحيته ، يقول الدكتور ف . ف . بارتولد :

(( لقد أثبت الإسلام خلال مئات السنين والأعوام مقدرته على البقاء ، وضرب المثل الأعلى في الإخاء والمساواة )) .

ومن هذا المدلول يذهب المستشرق الإنجليزي صوئيل مارغوليوث (1868_ 1940 ) _الذي تحدث عن رسالة الإسلام في يوم مولد الرسول _ إلى أنها رسالة حضارة تحمل في ذاتها طابع صلاحية البقاء والاستمرار:

(( أن يوم ميلاد محمد ليوم عزيز على العالم لا على العرب فقط لأنه لم يولد إلا للأمر عظيم ألا و هو رسالته التي بلغها للعام فاعتنقها قوم وتركها آخرون ، وهي طافحة بالحضارة والتعاليم التي تخدم البشرية وتوليها زمام الحياة ، ولكنها رسالة أخذت بها أمة جهلت ما فيها ، وخير ما فيها طابع صلاحية البقاء مع الزمن مهما طال وامتد )) .

لا جمود في رسالة الإسلام

ورسالة الإسلام التي لا تعرف الجمود وتدفع المجتمع الإسلامي إلى التقدم كفيلة في عصرنا الراهن بإصدار أحكام تتفق وروح العصر ، وبما يكفل للدول المتخلفة أن النهوض ، وللإنسانية التقدم ، يقول الباحث الأمريكي وأستاذ الفلسفة في جامعة هارفرد الدكتور هوكنج :

(( وأحياناً يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة ، وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية :

فالجواب عن هذه المسألة ، هو أن في نظام الإسلام كل استعداد داخلي للنمو ، بل هو من حيث قابليته للتطور يفضل كثيراً النظم المماثلة . . . وإني أشعر بكوني على حق ، أقدر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض )) .

قابلية الإسلام للتطور واستيعاب احتياجات العصر

ويلتقي الدكتور ازيكو بالتوخين مع الدكتور هوكنج حول قابلية الإسلام للتطور والتمشي مع مقتضيات العصر الراهن والحاجات المستجدة بما يمتلكه من قوة مرونة كانت سر تفوقه كشريعة على الشرائع الأوروبية ، يقول بالتوخين :

(( إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل خلال القرون ، ويبقى محتفظاً بكل ما لديه من قوة الحياة والمرونة . فهو الذي أعطى العالم أرسخ الشرائع ثباتاً ، وشريعة تفوق كثيراً الشرائع الأوروبية ، )) .

ويتحدث المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه : « إنسانية الإسلام » ، عن القانون الإسلامي وعالميته وأنه قابل « للتطبيق » :

(( ويبقى القانون الإسلامي في أيامنا أحد الأنظمة القانونية الكبرى لا إن أنه ينظم العلاقات بين حوالي سبعمائة مليون نسمة . ويستلهم لإنشاء القواعد الدستورية في عدة بلدان . وتكبح القناعة الدينية جماح الوسط الاجتماعي برمته . والتصور الذي يفرضه التنزيل ماثل بشكل خاص في الجماهير الشعبية التي تزداد أهميتها السياسية في موازاة تطور بعض الصيغ الديمقراطية . فكل حركة من الحركات يشتد تلونها بالدين بازدياد نفاذها إلى الجماهير . فهذه الجماهير تقدم الانفعالات بالنظام الاجتماعي والتعبير عنه ، كما تقدم في كثير من الأحيان مادته بالذات . ويشكل الدين عنصراً حيوياً مؤثراً في العلاقات بين الأفراد و الزمر والأمم ، تزداد فعاليته تدريجاً على ما يبدو ، و تؤكد الظاهرة ، وتدعم قابلية القانون الإسلامي للتطبيق ، و تسهم في الوقت نفسه مرونته ومطاوعته )) .

أصالة النظام الإسلامي و مرونته في استيعاب التحولات الاجتماعية

لقد ربط الإسلام الروحي بالدنيوي ، وعمل على توجيه السلوك الفردي لصالح الجماعة، وإقامة المؤسسات العامة التي تسعى لصالح خير المجتمع ، وكان للقانون الإسلامي الذي يستمد أصوله من الدين الإسلامي المندمج به في وحدة عضوية أثره على إقامة صرح الحضارة ، ذات السمات العالمية ، وكان التشريع الإسلامي البعيد عن الجمود رغم تخرصات الكثير من المستشرقين ، والذي تحمل ذاتيته قوة التطور والتحول لما يمتلكه من مرونة في استيعاب التحولات الاجتماعية ، قد ثبتت مكانته العالية ورفعة شأنه ، ومن هنا ظهر الإسلام في مرحلتنا المعاصرة لشريعة عالمية إنسانية ، كحل أمثل من الحلول المشتركة التي تطرحها فكرة مستقبل الإنسان والمجتمع ، يقول بوازار :

(( ويعود الإسلام بصورة إجمالية إلى الظهور في العالم المعاصر بوصفه أحد الحلول للمشكلات التي يطرحها مصير الإنسان والمجتمع ، ويخلق التطور السياسي الداخلي للدول حلولاً و تغييرات خاصة . ولقد تأكد أن جميع الانتفاضات التي ساورت البلدان الإسلامية في عشرات السنين الأخيرة كانت إسلامية بصورة حقيقية ، مهما تكن صبغة الأزياء التي ألبستها و لا تزال هذه الحركات جادة في استلهام الماضي المجتمعي .

و أصالة النظام الإسلامي الأولى في مفهومه للإنسان الاجتماعي الذي يعارض في آن معاً الشيوعية التي تلاشي الفرد في الجماعة ، والليبرالية التي تعادي ما بين الفرد والمجتمع . ويكفل التضامن بين أفراد المجتمع احترام حقوق الإنسان داخل الزمرة وفي الخارج ، لأنه معتبر أحد رعايا القانون الدولي . ويضع الإسلام ثم روحيته في مقابل المادية الوضعية التي تسلخ عن الإنسان إنسانيته ، حائلاً بذلك دون أن تصبح الدولة يوماً « الإله الآلة » الذي عرفه الغرب ، والذي تجهد الدول المزعوم أنها « اشتراكية » في فرضه . ويحول المعنى الجازم للمسؤولية الفردية _وهي أحد عوامل التحرر الهامة _ دون أن يخلى الإنسان عن شخصه للزمرة الفائقة القدرة : ويوجه الإخلاص أول ما يوجه لمثل الدين العليا لا للمؤسسات الحكومية . و ترسيخ غايات الإنسان المترفعة عن الدنيا ينزع إلى إخضاع الدولة للقانون بدلاً من إخضاع الفرد للجهاز السياسي . وفي نظام فكري مماثل ينادي الإسلام على المستوى الدولي بالتعاون بين الشعوب أكثر مما ينادي بالاكتفاء الذاتي للأهم ، وينادي مذهبه القانوني باختصار : بالاستقامة ، والعالمية السلمية ، والواقعية ، والاعتدال ، وكلها فضائل متوافقة مع طبيعة الإنسان الروحية )) .

ومن هنا تظهر أفضلية الرسالة الإسلامية على سواها من الرسالات السابقة على لسان المستشرقين والمفكرين الأوروبيين المنصفين ، ومن هذا الاتجاه يدلي المستشرق الفرنسي شانليه في حديث عن رسالة الإسلام بقوله :

(( إن رسالة محمد هي أفضل الرسالات التي جاء بها الأنبياء قله ، لأنها جاءت إلى الشعوب نقية من كل عيب ، وخالية من كل نقص ، بل إنه يوجد فيها من التعاليم القيمة مالا يوجد في غيرها من الديانات )) .

بينما تحدث الفكر بارتلمي سانت هيلر بإعجاب عن الرسول محمد  وعن الرسالة الإسلامية بقوله :

(( وقد كان دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده ، جزيل النعم على جميع الشعوب التي اعتنقته )) .

انتصار الإسلام لصالح الإنسانية و خير العالم

وتحدث الفيلسوف الايرلندي برنارتشو بنظره الثاقب ، عن مستقبل الإسلام وانتصاره انطلاق من صلاحيته للحياة ، وملاءمته للحضارة الصحيحة ، وأن بالإسلام _مستقبلاً_ صلاح الإنسانية وخير العالم ، يقول :

«إني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تكون حائزة لجميع الشرايط اللازمة وتكون موافقة لشتى مراحل الحياة )) .

ويقول في مكان آخر :

(( لا تمض مائة عام ، حتى تكون أوروبة _ولا سيما إنجلترة _ قد أيقنت بملائمة الإسلام للحضارة الصحيحة )) .

ويحدث بمكان آخر وبالمعنى ذاته :

(( لقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوروبة عداً )) .

ويخلص إلى القول :

(( لن يتعش العالم من كبوته ، إلا إذا أخذ بتعاليم الديانة الإسلامية ، ولا بد أنه منته إلى هذه النتيجة ، في نحو قرنين من الزمان )) .
أما المفكر أرثر هاملتون ، فيرى بدوره :

« لو توخى الناس الحق لعلموا أن الدين الإسلامي هو الحل الوحيد لمشاكل الإنسانية )) .

الخيار الإسلامي

قد تناول المستشرق النمساوي ليبولد فايس الذي اعتنق الإسلام وعرف باسم محمد أسد ، في كتابه : الإسلام على مفترق الطرق ، موضوع روح الإسلام الذي جاء لخير البشر جميعاً ولصالح الإنسانية قاطبة ، فنبي الإسلام قد بعثه الله ، وصحة للعالمين ، والإسلام اليوم يقدم لنا حلاً للمعضلة الإنسانية ولقضايا البشر ، إنه خيار يبرز على المستوى العالمي إلى جانب الخيارات الأخرى كعقيدة دينية ونظام اجتماعي سياسي ، وحين تعقد المقارنة ما بين الخيار الإسلامي والخيارات الأخرى تظهر أرجحية الإسلام على ما سواه ، كرسالة عالمية تحمل الحلول العملية لقضايا الإنسان ، يقول محمد أسد :

(( نحن نعد الإسلام أسمى من سائر النظم المدينة ، لأنه يشمل الحياة بأسرها : انه يهتم اهتماماً واحداً بالدنيا والآخرة ، وبالنفس والجسد ، وبالفرد والمجتمع ، انه لا يهتم فقط لما في الطبيعة الإنسانية من وجود الإمكان إلى السوء ، بل يتم أيضاً لما فيها من قيود طبيعية . إنه لا يحملنا على طلب المحال ، ولكنه يهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من استعداد ، وإلى أن نصل إلى مستوى أسمى من الحقيقة _حيث لا ثقات و لا عداء بين الرأي وبين العمل . إنه ليس سبيلاً بين السبل ، ولكنه السبيل ، وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاوياً من الهواة » ولكنه الهادي . فأتباعه في كل ما فعل وما أمر أتباع للإسلام عينه » وأما اطراح سنته فهو اطراح لحقيقة الإسلام )) .

مهمة الإسلام التاريخية

ويرد محمد أسد على ادعاءات المفكرين الغربيين من المستشرقين وعلى الباحثين العرب المتنصلين من الدين ، الذين يرون أن الدين الإسلامي فقد صلاحية استمراره ، وأنه لا فائدة ترجى منه ، لأنه استنفذ مهمته التاريخية ، وقدم للعالم وللإنسانية كل ما ينتظر منه أن يقدمه ، لاسيما وأن الدول الإسلامية اليوم تعيش حالة التخلف والتبعية ، يقول مناقشاً روح الحضارات ، وتقدم الثقافات ، وحوار المدنيات :

((يخبرنا التاريخ أن جميع الثقافات الإنسانية وجميع المدنيات أجسام عضوية تشبه الكائنات الحية ، إنها تمر في جميع أدوار الحياة العضوية التي يجب أن تمر بها : إنها تولد ثم تشب وتنضج ثم يدركها البلى في آخر الأمر . فالثقافات ، كالنبات الذي يذوي ثم يستحيل تراباً ، تموت في أواخر أيامها وتفسح المجال لثقافات آخر ولدت حديثاً )) .

الثقافة الإسلامية بين النهوض و التخلف

ويتابع المستشرق النمساوي المسلم عرض فكرته هذه ليرى مدى صلاحيتها فإذا ما بحث الإسلام ، كثقافة إسلامية لعبت دوراً حضارياً عظيماً ، ليرى إلى أين تسير ، هل تمض إلى أمام أم تتراجع إلى الخلف . .. يقول :

(( هذه إذاً حال الإسلام ، ربما ظهرت كذلك عند إلقاء أول نظرة سطحية . كما لا شك فه أن الثقافة الإسلامية شهدت نهضة مجيدة وعهداً من الازدهار ، وكان لها من القوة ما يلهم الرجال جلائل الأعمال وأنواع التضحية ، ولقد غيرت معالم الشعوب وخلقت دولاً جديدة ثم سكنت وركدت وأصبحت كلمة جوفاء ، وها نحن أولاء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحلالها ، ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟

إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنية بين المدنيات الآخر ، وليس نتاجاً بسيطاً لآراء البشر وجهودهم ، بل هو شرع سنه الله لتعمل به الشعوب في كل مكان وزمان ، فإن الموقف يتبدل تماماً . ولكن إذا كانت الثقافة الإسلامية في اعتقادنا نتيجة لاتباعنا شرعاً منزلاً فإننا حينئذ لا نستطيع أبداً أن نقول بأنها كسائر الثقافات خاضعة لمرور الزمن ومقيدة بقوانين الحياة العضوية ثم إن ما يظهر انحلالاً في الإسلام ليس في الحقيقة إلا موتاً وخلاء يحلان في قلوبنا التي بلغ من نحولها وكسلها أنها لا تستمع إلى الصوت الأزلي . ثم ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانية _مع نموها الحاضر_ قد استطاعت أن تشب عن الإسلام ، بل إنها لم تستطع أن تخلق نظاماً خلقياً أحسن من ذلك الذي جاء به الإسلام . إنها لم تستطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي ما كما استطاع الإسلام أن يفعل حينما أتى بفكرة القومية العليا : " الأمة" إنها لم تستطع أن تشيد صرحاً اجتماعياً يتضاءل التصادم والاحتكار بين أهله فعلاً على مثال ما تم في النظام الاجتماعي في الإسلام . إنها لم تستطع أن ترفع قدر الإنسان ولا أن تزيد في شعوره بالأمن ولا في رجائه الروحي ولا سعادته )) .

أفضلية المنهاج الإسلامي

وتعود أفضلية الإسلام كنظام اجتماعي متكامل ، لأن الإسلام كعقيدة وشريعة قد جاء كاملاً ، فهو كامل بذاته لا يحتاج إلى إصلاح من داخله ، بل أن يكون الإصلاح في طريقة تطبيقه ، والتمسك بروحه ، وذلك بأن ينظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي يحكم به على العالم وعلى العقائد الحديثة والنظم المدنية ، لا أن يخضع الإسلام للمقاييس الفعلية الأجنبية الغربية . . وأن أية مقارنة ما بين المنهاج الإسلامي والمناهج الغربية الأخرى تظهر جلياً مدى أهمية الهدى الإسلامي ، يقول محمد أسد :

(( ففي جميع هذه الأمور نرى الجنس البشري في كل ما وصل إليه مقصراً كثيراً عما تضمنه المنهاج الإسلامي . فأين ما يبرر القول إذاً بأن الإسلام قد ذهبت أيامه ؟ أذلك لأن أسسه دينية خالصة ، والاتجاه الديني زي غير شائع اليوم ، ولكن إذا رأينا أن نظاماً بني على الدين قد استطاع أن يقدم منهاجاً عملياً للحياة أتم وأمتن وأصلح للمزاج النفساني في الإنسان من كل شيء آخر يمكن للعقل البشري أن يأتي به من طريق الإصلاح والاقتراح ، أفلا يكون هذا نفسه حجة بالغة في ميزان الاستشراق الديني؟

لقد تأيد الإسلام _ولدينا جميع الأدلة على ذلك _ بما وصل إليه الإنسان من أنواع الإنتاج الإنساني ، لأن الإسلام كشف عنها وأشار إليها على أنها مستحبة قبل أن يصل إليها الناس بزمن طويل .

ولقد تأيد أيضاً على السواء بما وقع أثناء التطور الإنساني من قصور وأخطاء وعثرات لأنه كان قد رفع الصوت عالياً بالتحذير منها قبل أن تتحقق البشرية أن هذه أخطاء . وإذا صرفنا النظر عن الاعتقاد الديني ، نجد من وجهة نظر عقلية محض ، كل تشويق إلى أن نتبع الهدى الإسلامي بصورة عملية وبثقة تامة )) .

إسلام المستقبل و دور المسلمين في العلاقات الدولية

إن طبيعة الإسلام العالمية وصلاحيته لكل زمان ومكان ، ومقدرته على الصمود أمام صروف الدهر ، وامتلاكه بذرة التطور والتقدم والمرونة والانسجام ، إن جميع هذه الأمور التي هي السمات الأساسية للإسلام والقوة الكامنة وراء انتشاره ، وإنشائه حضارة إنسانية كبرى ، كل هذه الأمور لا تنفي مطلق الدور الإنساني الذي يمكن للمسلمين أن يلعبوه . . . . فالإسلام الذي هو خشبة خلاص المسلمين من تخلفهم ، وخلاص الإنسانية من قيودها لتحررها من العبثية والقلق والفردية والانهزامية ، يطرح أمام المسلمين مهمة كبرى لتحدد موقع الإسلام في العلاقات الدولية ، يقول بوزار :

(( والحاصل أن إسلام المستقبل ودوره في العلاقات الدولية رهن بما يصنعه بهما المسلمون أنفسهم . ويقدم التنزيل في هذا السياق ثقة مطمئنة وحافزاً قوياً في وقت معاً )) .

و يستشهد المستشرق الفرنسي بأقوال محمد عبده لتأكيد مقولته ، فيتابع فكرته :

(( وبالفعل فإن الإسلام _حسب قول محمد عبده _ لم يغفل الحديث عن فضيلة واحدة من الفضائل الرئيسية . ولا أهمل إنعاش مصدر واحد من مصادر عمل الخير . ولا تغاضى عن تحديد قانون واحد من قوانين النظام ، فقد هياً للإنسان الذي بلغ سن الرشد أن يتحرر فكره ويستقل عقله في أبحاثه ، فينشاً عن هذا الاستقلال وذاك التحرر تفتح ملكاته الطبيعية ، و تيقظ إرادته ، وانطلاقه على طريق الجهد . ومن يقراً القرآن كما يجب أن يقراً يجد فيه من هذه الناحية كنوزاً لا تفنى وغناءً لا حد له )) .

ميزات الإسلام ورسالته العالمية

وأخيراً نختتم دراستنا عن الرسول ورسالة الإسلام في الدراسات الاستشراقية المنصفة بما جاء به إتيين دينيه في كتابه : " محمد رسول الله " إذ يتحدث عن ميزات الرسالة وعالميتها ودورها الممكن في المستقبل يقول :

(( وهناك شيء مهم ، وهو انتفاء الواسطة بين العبد وربه ، وهذا هو الذي وجده العقول العملية في الإسلام ، لخلوه من الأسرار وعبادة القديسين ، ولا حاجة به إلى الهياكل والمعابد لأن الأرض كلها مسجد لله ، وفوق ذلك قد يجد بعض أهل مذهب الاعتقاد بالله دون غيره من العصريين المتحيزين في التعبير عما عاج نفوسهم من التطلع ، قد يجدون في الإسلام المذهب النقي للاعتقاد بالله ، فيجدون فيه أبدع وأسمي أعمال العبادة ، وما يمكن أن يتخيله من معنى ألفاظ الدعاء . ثم نزيدك شاهداً آخر ، وهو قول شرفيس : " الإسلام محقق أبلغ معنى لفضيلة الإيثار على النفس بأقل بحث فيها من الوجهة النظرية " . وقد حصل في فرنسا وفي بلاد أخرى من أوروبة وإفريقية وآسية دخول أشخاص في الإسلام فرادى ، وربما كان ذلك مصداقاً لهذا الحديث النبوي الذي معناه " قد يؤيد الله هذا الدين بالغرباء منه " .

ومن مميزات الإسلام الأصيلة ملاءمته لجميع الأجناس البشرية ، فلم يكن العرب وحدهم هم الذين اتبعوا الإسلام ، بل كان من ضمنهم من هو من فارس كسلمان الفارسي ، وبعضهم من النصارى كورقة ، وبعضهم من اليهود كمخيرق وعبد الله بن سلام ، وبعضهم من الأحباش كبلال وغيرهم ، وجاء في القرآن الكريم :

و وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيراً  ( 24/27) .

فدين الرسول محمد عليه السلام ، قد أكد ، من الساعة الأولى لظهوره ، وفى حياة النبي عليه السلام ، أنه دين عام صالح لكل زمان ومكان . ولم إذا كان صالحاً بالضرورة لكل جنس كان صالحاً بالضرورة لكل عقل ، إن هو دين الفطرة ، والفطرة لا تختلف فكان إنسان عن آ خر . وهو لكل هذا صالح لكل درجة من درجات الحضارة، وهو على ما فيه من تسامح وبساطة ، سواء بالنظر لمذهب الصوفية يؤدي للعالم هداية و توفيقاً ، سواء في ذلك الأوروبي المتحضر و الزنجي الأسود ، من غير أن يعوق حرية الفكر عن أحدهما ، ثم زيد على ذلك بالنسبة لزنجي انتشاله من عبادة الأوثان .

ثم هو لا يعوق الرجل العملي الذي يرى حياته في العمل ، ويعتبر الوقت من ذهب ، كالرجل الإنجليزي وكذلك لا يعوق الرجل الصوفي والشرقي التأمل في بدائع الصنع ، ويأخذ بيد الغربي المأخوذ بسحر الفن والخيال لا وليس هذا فحسب ، بل هو يستولي على لب الطبيب العصري أيضاً ، بل فيه من الطهارة المتكررة في اليوم والليلة ، وتناسق حركات المصلي في الركوع والسجود ، وما فيها من نماء للجسم ، وإفادة للصحة الجسمية والنفسية .

وعلى هذا فليس من الجرأة إذاً ، أن نظن أنه إذا هدأت الزوبعة المروعة القائمة ضد الإسلام ، وضمن هو الاحترام لكل الشعوب والديانات ، أنه سوى مستقبلاً حافلاً بأعظم الآمال وأعلاها شأناً . فإذا ما دخل في الحضارة الأوروبية بفضل اشتراكه العظيم في الحوادث ، فسيتضح سناه الحقيقي ، وستعرف الأمم المختلفة حقيقته التي حجبت عنهم زمناً ، وسيمد الكل يده لمحالفته ، متنافسين في ذلك ، لأن قيمته قد خبروها ، وعرفوا ما يستكن فيه من وسائل القوة التي لا حد لها و لا نفاد . . . ولو نهض أتباع محمد عليه السلام وأفاقوا من سباتهم العميق لرجع لهم عزهم السالف ، وتاريخهم المجيد ، وصاروا أمة لا تعرف الجور في معاملتها لكل رعاياها ، لا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي ، و تبؤوا مكانهم الذي يليق بمجدهم )) .

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك