المنظورات الدينية في تحليل العلاقات الدولية
المنظورات الدينية في تحليل العلاقات الدولية
The Religious Paradigm فى دراسة وتحليل العلاقات الدولية.
شكلت التطورات التى شهدها العالم المعاصر وخاصة مع انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشيوعي، الذى عرف بطبيعته الإلحادية وتغييبه للجانب الدينى والقيمي، دافعاً لتصاعد التيارات الفكرية المنادية بإعادة الاعتبار للأبعاد الدينية والقيمية فى دراسة العلاقات الدولية، وأصبح هناك ما يمكن أن نطلق عليه ـ ولو بتحفظ ـ المنظور الدينى
يدعم ذلك أنه من الصعب تجاهل تأثير المعتقدات الدينية التى يؤمن بها العديد من الباحثين على ما ينادون به من مقولات، وما يضعونه من مداخل واقترابات تحليلية فى مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، ومنها علم العلاقات الدولية، فهناك تأثير كبير للديانات السماوية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) على قطاع عريض من الباحثين والمحللين، فى حقل العلاقات الدولية، وجانب كبير من مقولاتهم الفكرية والتحليلية، تجد جذورها فى المعتقدات الدينية التى يؤمنون بها.
واستناداً لذلك، يمكن التمييز بين ثلاثة مداخل دينية أساسية، لدراسة العلاقات الدولية، يرتبط كل منها بديانة محددة، مع الأخذ فى الاعتبار احتمالات التداخل بين هذه المداخل، فى ظل ما ينادى به البعض من تراث حضارى مشترك، وموروث ثقافى متشابك، وتتمثل هذه المداخل، وفق الترتيب التاريخي لنزول الرسالات السماوية التي ترتكز إليها في:
أولاً: المنظور اليهودي الصهيوني:
يمكن التمييز فى إطار المرتكزات التوراتية التى تحكم الفكر السياسى المعاصر، ببن مجموعتين من المرتكزات:
الأولى: تلك التى نشأت عليها دولة إسرائيل، والتى تشكل جوهر العمل السياسى لكل التيارات والقوى الفكرية والسياسية الإسرائيلية، فالجميع توراتيون يتوافقون على مصلحة إسرائيل العليا ويعملون متحدين للوصول إلى غاياتهم السياسية الدينية، وتتمثل هذه المرتكزات التوراتية في: إنَّ اليهود هم شعب الله المختار وإن إسرائيل هى أمة الله المفضلة وإن الشعوب الأخرى يجب أن تكون عبيداً لهم وهم من الضالين عن معرفة الله، وأنّ القدس مدينة يهودية وهى عاصمة أبدية لدولة إسرائيل لأجل تحقيق الوعد التوراتى بظهور المخلص (المسيح). ويجب تدمير كل الأبنية والأماكن الغير مقدسة سواء فى القدس أو خارجها، أي الأماكن الغير اليهودية.
كما أن بناء الهيكل أمر أساسى وضرورى لأنه لا قدس دون الهيكل، وإن دولة إسرائيل هى دولة كل اليهود المنتشرين فى كل أنحاء العالم، وهى قد وجدت بأمر إلهى تحقيقاً للنبوءة التوراتية، وأنّ أرض فلسطين هى أرض الوعد وهى الأرض التى اختارها الله لشعبه المختار لكى يقيم عليها دولته التى ستمتد من الفرات إلى النيل.
الثانية: تلك السائدة فى الولايات المتحدة الأمريكية وتتمثل فى إنَّ اليهود هم شعب الله المختار، وإنَّ وعداً إلهياً يربطهم بالأرض المقدسة فى فلسطين ومن حقهم العودة إليها تنفيذاً لهذا الوعد، وإنهم قد انشأؤوا دولتهم انتظاراً لقدم مخلصهم (المسيح) وعند المسيحية المتصهينة (عودة السيدة المسيح)، والمحافظة على إسرائيل ومساعدتها ودعمها وهذا يشكل عملاً دينياً إلهياً لأن إسرائيل تمثل قوى الحق الإلهى ويجب أن تربح صراعها لأن ذلك يحقق نبوءة الله.
وأمام هذا التوافق فى المرتكزات فإن اليهود يعملون على تحقيق أهدافهم بدعم أميركى شامل فالإدارة الأميركية فى مختلف عهودها ملتزمة بالنسبة لإسرائيل بثوابت أساسية لا تخرج عنها استناداً على مفهوم دينى توراتى يربطها بشكل مباشر وعميق بدولة إسرائيل، لهذا فإن الولايات المتحدة تتبنى بشكل دائم الموقف الإسرائيلى بخطوطه العامة وبتفاصيله المختلفة وتقوم بجميع الوسائل لأجل الوصول إلى الهدف الذى يخدم مصالح إسرائيل، كما تعمل على دعم القدرات العسكرية الإسرائيلية وتطويرها والمحافظة عليها على أساس أن أمن إسرائيل وسلامة المجتمع اليهودى هما فى أساس عمل الإدارة الأميركية، وكذلك تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، كما تدعم وبشكل دائم رفض إسرائيل تنفيذ مختلف القرارات الدولية على اعتبار أن اليهود هم شعب الله المختار مما يجعلهم غير خاضعين لأحكام وضعية من صنع البشر إنهم فقط ينفذون حكم الله ولا ينفذون حكم البشر.
وفى إطار هذه الاعتبارات تقوم الرؤية الصهيونية فى النظر إلى إسرائيل والعلاقات الدولية على عدد من المقولات الأساسية، من بينها: إنّهم شعب الله المختار والمميز من بين كل شعوب الأرض، والرب قد اختار واصطاف، وأن فلسطين لا وجود لها فى تاريخ هذه الأرض، هى أرض إسرائيل وهى أرض الوعد التى وعدهم بها إلههم، وإسرائيل هى دولة كل اليهود، وإنّ يهود العالم يرتبطون بهذه الأرض دينياً وقومياً، والتوراة هى الكتاب السياسى لليهود ولدولة إسرائيل، وثروة الأمم يجب أن تكون لهم وحدهم، وهم الذين يوزعونها على الأمم الأخرى، وإنّهم على الأرض يمارسون عملهم وفق إرادة إلهية، ويعملون ما يأمرهم به إلههم.
كما يعتقدون أنّ القدس عاصمة دولة إسرائيل ولا يمكن أن تكون القدس إلاّ موحّدة، وفى مفهومهم، أن لا إسرائيل دون القدس، ولا قدس بدون الهيكل، وأنّ بناء الهيكل يجب أن يتم تمهيداً لظهور المخلص اليهودي، وأنّه لا أماكن مقدسة فى أرض الميعاد (فلسطين) إلا أماكنهم اليهودية فقط، فهم سكان أرض فلسطين، وكل من جاءها من شعوب أخرى هم من الدخلاء، كما أنهم لا يمكنهم أن يتجانسوا مع شعوب الأرض، فقد اختارهم يهوه ليكونوا له "خاصة من بين جميع شعوب الأرض، مملكة كهنة وأمة مقدسة".
وخلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، تلقى المشروع الصهيونى قوى دفع جديدة من بينها تصاعد أيديولوجية صهيونية صرفة فى الولايات المتحدة يقودها عدد من المفكرين الذين يعكسون بروز عقيدة اليهودى من ناحية, والاعتقاد فى استقرار الهيمنة الأمريكية وإمكان توظيفها دون حدود لنقل المشروع الصهيونى إلى مرحلة جديدة أكبر وأوسع من ناحية أخري.
ويعتقد عدد من المفكرين اليهود أن التحولات الجوهرية فى المركب الاقتصادى ـ الاجتماعى خلال عقد التسعينيات، تقود للانتقال إلى مجتمع تسمو فيه الثروة المنقولة والمنتجة عبر قطاعات الصناعة الأكثر تطورا والتكنولوجيات الحديثة على الثروة غير المنقولة، ويؤدى ذلك إلى انكماش قيمة السيطرة الفعلية المباشرة على الأرض المحتلة والعلاقة الاستعمارية الإحلالية، التى ميزت المشروع الصهيونى الكلاسيكى وتهدئة أو إنهاء التوترات مع البيئة المحيطة, وبالتوازى مع هذه التحولات تعاد صياغة الأطر الأيديولوجية للدولة, ومن ثم طبيعتها, بحيث تخفض النزعات العسكرية والاستبعادية فى مقابل إنتاج أيديولوجيا أكثر تواؤما مع الثقافة الليبرالية العالمية المعاصرة, وأكثر قبولا للاندماج مع الآخرين, وإنهاء أسطورة العداء أو الصراع الكونى بين اليهودي/ غير اليهودى .
لقد ساد اعتقاد أن التحول الداخلى إلى ما بعد الصهيونية يتوافق مع التحول إلى ما بعد الحداثة فى النسق الاقتصادى والسياسى للنظام الدولى فيما بعد نهاية الحرب الباردة، وقد أسهمت قوى الدفع الجديدة للمشروع الصهيونى فى إنهاء نظرية ما بعد الصهيونية إنهاء مبكرا. فإذا كان مصطلح "ما بعد الصهيونية" يعنى الانتقال إلى طور أعلى من المشروع الصهيونى يتعلق أكثر بإنتاج العقول وليس بمنتجات الأرض, فإن الواقع يقوم على أن "ما بعد الصهيونية" مثل "ما بعد الحداثة" أيديولوجية قابلة للتدهور إلى عنف ليست له مسوغات أخلاقية، ويحاول أنصارها إيجاد مثل هذه المسوغات، مثلما حاولت الصهيونية الكلاسيكية، فقد مثلت الصهيونية الكلاسيكية أيديولوجية مقبولة من جانب الغربيين لأنهم اعتقدوا أن لها عائدا تحريريًا وتقدميًا، ولكنها خسرت هذا التأييد لأنها صارت أيديولوجية عنفوية دون أى مسوغ معنوى أو أخلاقي.
ثانياً: المنظور الأصولى الإنجيلي:
يرتبط هذا المدخل بأفكار اليمين الدينى والسياسي فى الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك بالعديد من التيارات اليمينية التى تصاعد تأثيرها فى الدول الغربية، بعد نهاية الحرب الباردة، والتى تغذت بالعداء للشيوعية وبمواجهة مظاهر العلمنة السياسية التى تصاعدت فى النصف الأول من القرن العشرين. ويضم اليمين الدينى تنظيمات متنوعة (جماعات مصالح، وشبكات تلفزيونية عديدة، هذا فضلاً عن المدارس، والجامعات، والكنائس) ويتمتع بشعبية كبيرة فى هذه الدول، وخاصة فى الولايات المتحدة، ويحاول أن يسيطر على مقاليد السياسة الأمريكية، ليوجهها وجهة جديدة تحكمها المسلمات الدينية الإنجيلية.
ويرى منظرو المدخل الأصولى الإنجيلى أن مناخ العلاقات الدولية إنما هو مناخ الصراع الدائم، ولكنه "صراع العقائد" لا "صراع المصالح القومية"، وفى مجال الصراع العقائدى على هذا المستوى، يستدعي الأصوليون اليمينيون مجموعة مفاهيم قدرية، أهمها مفهوم "نهاية الزمن" الذى سبق وتناوله كل من، "أوغسطين"، ثم "هيجل" الذى غذاه بمضامين علمانية ذات طابع قومي، ثم واصل المهمة "فرنسيس فوكوياما" فى كتابه عن "الإنسان الأخير ـ ونهاية التاريخ".
وفى تقديرهم فإن التاريخ البشرى يسرع الخطى نحو نهاياته بطريقة قدرية لا تحكمه فيها عوامل سياسية ولا اقتصادية، وإنما تجره عوامل قدرية نحو الفصل الخاتم، فصل الصراع الدامى والمعارك المهلكة التى ستتمخض عن جيل الخلاص الذى سيمسح أوضار الشرك والعلمانية ويجلب "عهد السلام الأبدى".
وهكذا فإن بيئة النظام العالمي، ستظل بيئة الصراع الدائم والشر المستفحل، وليس ثمة أمل للسلام قبل انتهاء المعركة العظمى التى يسمونها أحياناً بـ "الهولوكوست النووى"، وأحياناً باسمها التاريخى "هرمجدون" وهى المعركة التى ورد خبرها فى الكتب المقدسة، وتقع فى آخر الزمان فى أرض إسرائيل، ويسيل فيها الدم لمسافة 200 ميل من القدس، وتتحطم على أثرها كل مدن الأرض بالسلاح النووي، حتى إذا بدا الجنس البشرى وكأنه قد تحطم عن آخره، ظهر المخلص المسيح الذى سيجهز على بقايا الشر، ويصون حياة المؤمنين، ويصنع من بنى إسرائيل أقوى دعاة الخلاص والإيمان.
وهذه الآراء حول مناخ الصراعات الدولية، مستخلصة من الكتب الدينية، وخاصة سفر الرؤيا، وقد خضعت لتأويلات وتنزيلات على أحداث كثيرة فى هذا العصر، وربطت بمسألة نهاية الزمن وتدمير الأرض. وقد غلب عليها الجانب الدينى القدري، حتى أطلق عليها البعض اسم "سياسات يوم القيامة".
وفى إطار هذه الاعتبارات تقوم المقولات الأساسية للمنظور الأصولى الإنجيلى فى تحليل العلاقات الدولية علي:
1ـ أن "المجتمع الديني" وحدة تحليل أساسية للعلاقات الدولية، فالمجتمع الدينى هو مجتمع عابر للقوميات، لا ينحصر فى دولة قومية، ولا فى تجمع شعبى بعينه، ومن هنا فإن الدولة القومية لا تشكل وحدة التحليل المثلي، ولا يصح استخدامها إلا بقدر ما تمثل مجتمعا دينيا بعينه، ولا يشير الأصوليون إلى النظام الرأسمالى العالمى إلا بقدر تمثيله للمجتمع الدينى ولا إلى الاشتراكية إلا على أنها رديف للكفر، فالمجتمع الدينى هو أعلى وحدات التحليل، التى انتهى إليها خط الزمن الصاعد من مستوى (الأسرة )، إلى مستوى (القبيلة)، إلى مستوى "دولة المدينة" وإلى مستوى "الدولة القومية" ثم إلى مستوى "المجتمع الدينى العالمي".
2ـ أن المشكلات العالمية الكبرى هى مشكلات ذات جذور عقيدية وروحية، فافتقار البشر إلى عقيدة حنيفية، وإلى الاطمئنان الروحي، هو سبب اندفاعهم الجامح إلى ارتكاب الشر والخطيئة، وبدون جهود روحية فائقة فإن العالم قد يصبح "مملكة للشر والشيطان". فضلال البشر هو مشكلة العالم الكبرى، وهدايتهم إلى المعتقدات الإنجيلية هى أهم واجبات السياسة العالمية، وفى تقديرهم أن هناك حوالى 1.5 مليار من البشر لم يصل إليهم الخطاب الأصولى بعد، وأنهم بحاجة عاجلة إلى الهداية والإنقاذ الروحي. وأكثر هؤلاء احتياجا للهداية واستعصاء عليها فى الوقت نفسه هم المسلمون والهندوس وأتباع كونفوشيوس.
وكانت الحكومات الشيوعية أهم العقبات التى يجب أن تتحطم أولا، وقبل أن ينهار الاتحاد السوفيتى كتب المنظر الأصولى "لاهي" يقول: إن الحكومة الشيوعية فى الاتحاد السوفيتي هى أعظم حكومة شريرة ظهرت فى تاريخ الإنسان... إنها أسوأ من إمبراطوريات هتلر، والقيصر ويلهلم، ونابليون بونابرت، وجنكيز خان، ومحمد، مجتمعة".
3ـ أن الأحادية العالمية الراهنة هى الفرصة التى يجب أن تنتهز لتعميم المذهب الأصولى فى العالم، وفى هذا السياق يوجه أنصار هذا التيار العديد من الانتقادات لقادة الغرب على الفرص التاريخية التي فرطوا فيها لتحقيق الهيمنة العقيدية على العالم، الأمر الذى أضر كثيرا بالأداء الرسالى لحضارة الغرب، والأمثلة التى يسوقونها لذلك التفريط التاريخى تجاه العقيدة تتمثل فى عدم الاهتمام بتنصير العالم الإسلامى أيام استعماره، ورفض الاستجابة لنداء "كابلاى خان" الذى أرسله عبر الرحالة "ماركبولو" إلى حكام الغرب، ليرسلوا رسلهم لنشر العقيدة بين رعاياه الذين كانوا وقتها يمثلون نصف تعداد البشر، وكذلك الفرصة التى ضاعت فى اليابان عقب انكسارها فى الحرب العالمية الثانية، وتولى الجنرال "ماك آرثر" لشئونها.
4ـ ضرورة استخدام القوة لحل تلك المشكلات ذات الطابع الإيمانى والروحى والأخلاقي، ويتذرعون فى ذلك بأن القوة إنما تستخدم ضد تعدى الكفر على حرمات الإيمان، ويدعون أن سياسة الاحتواء التى أفرزها التيار الواقعي، ليست هى السياسة الخارجية المثلي، ويطالبون بتصميم سياسة خارجية جديدة قائمة على الاقتحام وتغليب اعتبارات" الدين" على اعتبارات "الأمن" أو" الاقتصاد" وحل مشكلات العالم دفعة واحدة بحل مشكلة الإيمان، وتأسيس النظام العالمى الإلهى الجديدGod’s New World Order.
ثالثاً: المنظور الإسلامى للعلاقات الدولية:
اتضحت الطبيعة العالمية لدين الإسلام منذ آيات التنزيل الأولى، التى أشارت إلى أن رسالته مخاطب بها العالم أجمع. وفى إطار تعميم تلك الدعوة، كانت مخاطبات رسول الله صلى الله عليه وسلم لقادة الدول والإمارات والممالك المختلفة، ثم جاء انتشار الدعوة الإسلامية خارج جزيرة العرب، وامتداد الفتح الإسلامى من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، تجسيداً آخر لتلك الدلالة.
وقد نما فقه العلاقات الدولية مترافقاً مع تلك التفاعلات، وبلور عدد من الفقهاء مجموعات كبيرة من الاجتهادات، التى تحدد أهداف تلك التفاعلات وضوابطها، فى حالتى السلم أو الحرب على حد سواء، ويمكن اعتبار كتاب "السير" لمحمد بن الحسن الشيبانى أول كتاب فى مادة القانون الدولى، حيث سبق فى الظهور كتاب "قوانين الحرب والسلام" للهولندى "هيوجو جرسيوس" بأكثر من ثمانية قرون.
ولم تنفرد كتب السير والخراج أو كتب الفقه وحدها، بتسجيل الرؤى الإسلامية فى قضايا العلاقات الدولية، وإنما توزعت تلك الرؤى فى كتب التاريخ والتفسير ومقارنة الأديان وغيرها من الأعمال الموسوعية التراثية. ومع دخول العالم الإسلامى فى أطوار التراجع طرأت علامات الضعف على فقه العلاقات الدولية المنطلق من النظرة الإسلامية، ثم تراجع ذلك الفقه عندما فقد العالم الإسلامى إرادة المبادرة والتحرك، وسقط فى قبضة الاستعمار.
وحتى بعد استقلال دول العالم الإسلامي، فإنها قد ظلت أسيرة حالة "القابلية للاستعمار"، وعلاقات التبعية التى رسختها سنوات الاستعمار الطويلة، ولم تعمد تلك الدول إلى استلهام الإسلام إطاراً توجيهياً لعلاقاتها الدولية، ولذلك لم يسجل فقه العلاقات الدولية الإسلامى أى تطور يذكر، خلال هذه المرحلة.
وتركز الجهد المبذول عن العلاقات الدولية، فى إطار المنظور الإسلامي، حول بعض الجوانب النظرية العامة، لاسيما الجوانب القانونية والأخلاقية المثالية. وحتى فى هذه الجوانب ليست هذه الكتابات إلا مجرد إعادة صياغة لفقه السير القديم، أو محاولات لنقد القانون الدولى الحديث وتقويمه من وجهة نظر إسلامية. ويندر فى تلك الكتابات وجود أبحاث ناضجة حول القضايا الراهنة التى تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام باحثى ومنظرى علم العلاقات الدولية، مثل القوة النسبية والتحالفات والنظام العالمي، والعلاقات الاقتصادية العالمية، وحل النزاعات، وغير ذلك من القضايا التى تحتاج إلى بذل المزيد من الاجتهاد سعياً نحو تكوين رؤية حضارية تجديدية تأخذ فى اعتبارها التراث المتراكم الذى وضعه علماء وفقهاء المسلمين عبر مختلف العصور، والإسهامات الرائدة التى قدمها العلماء والباحثون فى مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى المرحلة الراهنة.
وتقوم المقولات الأساسية للمنظور الإسلامي فى تحليل العلاقات الدولية علي:
1ـ مناخ العلاقات الدولية ومحركاتها: يقرر عدد من منظرى العلاقات الدولية فى الرؤية الإسلامية أن مناخ العلاقات الدولية، إنما هو مناخ الصراع والتدافع الدائم بين الأمم والأقوام. فهذه هى الصفة التى ميزت تاريخ الإنسان منذ القدم، إذ ظلت تجمعاته وتكتلاته فى حالة صراع وتدافع دائمين، صراع وتدافع بين الحق والباطل والخير والشر، ولا تمثل صراعات المصالح القومية، أو الطبقات الاقتصادية، سوى صور مصغرة أو أنواع محدودة من جملة ذلك الصراع، وتاريخ الإنسان بشكل عام هو تاريخ الأديان السماوية، فتاريخ العالم كان سجالاً بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، فى دورات لا تتوقف.
فلم يخل أى عهد من عهود تاريخ البشر من صورة من صور ذلك الصراع، ففى كل مرحلة كان الخير يدافع الشر، ويناهضه، ويقوض شيئاً من سطوته وسلطانه على البشر، ويستندون فى ذلك إلى العديد من الآيات القرآنية، مثل قول الله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"(البقرة :251) وقوله: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً". (الحج:40).
كما أقرت نصوص القرآن الكريم، حتمية التمايز والتفرق بين بنى الإنسان، فقال تعالي: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فى ما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (المائدة: 48)، فالله تعالى لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة، ولذلك كثرت بين البشر الشرائع والمناهج، ابتلاءً للناس، ودعوة لهم لاستباق الهدى والخير.
وهذا النص تظاهره نصوص أخرى تؤكد وجود تلك الظاهرة فى طبيعة التمدن الإنساني، منها قول الله تعالى: "ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" (هود: 118– 119)، وقوله تعالى: "وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" (الأنعام:53).
ويرى المنظرون الإسلاميون أن الإسلام مع إيمانه بواقع التدافع، لا يعمل على فرض إرادته، ولا يتجه إلى استئصال الأديان أو الأفكار الأخرى، ويكتفى بعرض نفسه فى أجواء الحوار، ولا يستعين بالقوة أو الجهاد إلا لحماية حقه فى البقاء وللمحافظة على وضع الحريات الدينية والفكرية فى العالم.
ويدعو القرآن ـ فى آيات كثيرة ـ للمحافظة على حالة السلم متى وجدت، والسعى إليها متى فقدت، والعمل على إقرارها ولو بشن الحرب على المعتدى، الذى يهدم حالة السلم، من هذه الآيات، قوله تعالي: "وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190)، وقوله تعالي: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" (البقرة: 193)، وقوله تعالي: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (البقرة: 194)، وقوله تعالي: "يا أيها الذين أمنوا أدخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" (البقرة: 208)، وقوله تعالي: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم" (الأنفال: 61)، وقوله تعالي: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة" (النساء: 94).
ويقرر الإسلام أن للمسلمين مجموعة قيم ملزمة، يستصحبونها فى تفاعلهم عبر محيط التبادل السياسى العالمي، ويجب عليهم الالتزام بها، حتى ولو لم يلتزم بها الأعداء، وقد التزمها المسلمون فعلاً حينما احترمها الخصوم، وهو ما دفع الكثيرين للتأكيد على أن القانون الدولى الإسلامى يقف أحيانا فى صف خصوم المسلمين ويرعى مصالحهم على حساب مصلحة المسلمين.
2ـ وحدات التعامل الرئيسية فى العلاقات الدولية ومستوياتها: يقول عدد من المفكرين المسلمين أن هناك نوعين من وحدات التعامل ذات التأثير فى محيط السياسة العالمية، الأول، ذو طابع قيمى (Normative)؛ والثاني، ذو طابع علمى (Empirical)، فالنوع الأول حدده الفقه الإسلامى انطلاقا من مواقف تلك الوحدات تجاه الإسلام ودولته، وأما النوع الثانى فتقره الملاحظة العملية والبحث العلمي:
(أ) التقسيم القيمى: وفي إطاره تحدث فقهاء المسلمين عن ثلاثة أنواع من وحدات التأثير، بناءً على نوع علاقة تلك الوحدات بالمسلمين، وأضاف بعض الفقهاء المعاصرين نوعا رابعا لتلك الوحدات وهذه الوحدات هي:
الأولى: دار الإسلام: وهى وحدة إقليمية تسيطر عليها عقائد الإسلام وقوانينه، وتقوم على رقعة أرضية محددة، ولكنها تختلف عن الدول القومية فى أنها لا تقوم على جنسية محددة، وهذا لا يمنع أن تتطابق حدودها مع حدود انتماءات قومية بعينها، لأن القومية بإمكانها أن تتوافق ولا تتعارض مع الإسلام، ولكن الدولة الإسلامية لا يسعها أن تكون مجرد دولة قومية، تقوم فقط على تلك الانتماءات والولاءات، وإنما تقوم على الانتماء للإسلام والولاء له، وهو بمثابة الجنسية والقومية فى هذه الحالة.
ويمكن أن تتطابق حدود الدولة الإسلامية، مع الحدود القائمة حاليا لدول العالم الإسلامي، فهذه الحدود وإن كانت مصطنعة، فليس ثمة ما يمنع من الاعتراف بها، طالما أن الدولة التى تقوم فى نطاقها تقوم بحق الإسلام وتنهض برسالته، ويمكن لدار الإسلام أن تتكون من دولة واحدة، وتلك هى الصيغة المثلى؛ ويمكن أن توجد دولتان إسلاميتان، أو أكثر، بشرط أن يكون ولاؤها جميعا للإسلام، وتوجهها لخدمة رسالته، بل يمكن أن توجد دول إسلامية متخاصمة متحاربة، وهذا لا يوجب أن يطلق على واحدة منها دار الإسلام، وعلى سواها دار الكفر، ذلك أن اختلاف المسلمين فى شئ، بل حتى اقتتالهم فى ذلك، لا يخرج بهم عن الإيمان.
الثانية: دار العهـد: وهى الدار التى دخلت فى حماية دار الإسلام من غير أن تعتنق عقائد الإسلام أو تمتثل لشرائعه، بل أخذت موثقا من دار الإسلام بالدفاع عنها ضد اعتداءات من أطراف أخرى.
الثالثة: دار الحياد: وهى تلك الدول التى تعلن عن رغبتها فى إقامة علاقات تعايش سلمى مع دار الإسلام، وتعرب عن رغبتها فى التعاون على تحقيق السلم والمصالح المشتركة، ولا تناصر عدوا شن الحرب على المسلمين. ويمكن للدولة (أو الدول الإسلامية) من خلال حركتها السياسية أن تحيد كثيرا من دول العالم إزاءها، إن لم تستطع أن توطد معها علاقات إيجابية، ويدعو القرآن المسلمين ليحترموا رغبة كل من أراد أن يعتزل القتال وأن يذروه وإرادته.
الرابعة: دار الحرب: لا يكفى مجرد عدم التزام دولة ما بعقائد الإسلام وشرائعه، سببا لاعتبارها دارا للحرب، وإنما لابد من تحقق شرط العدوان، سواء بشن الحرب على دار الإسلام أو منعها من نشر دعوة الإسلام فى العالم.
(ب) التقسيم العملى: على المستوى العملى الخاضع للملاحظة والاستقراء، يمكن تحديد وحدات تأثير أخرى مختلفة، ومثل هذا التحديد يخضع لعاملى الزمن والبيئة، فمعظم هذه الوحدات قد يظهر فى عصر ويختفى فى آخر، وقد يستتبعه وجود بيئة سياسية عالمية معينة، ثم ينقرض وجوده أو يضعف بتغير تلك البيئة، وفى المرحلة الراهنة من مراحل تطور العلاقات الدولية، يرى عدد من منظرى العلاقات الدولية فى المنظور الإسلامى أن أبرز وحدات التأثير والنفوذ فى النطاق العالمى هما: الدولة القومية: وما يرتبط بها ويدور فى فلكها من وحدات كالشركات متعددة الجنسيات، الأحلاف والتكتلات الدولية، والمؤسسات الدولية، والحركات الدينية العالمية، وشبكات الإعلام العالمية، وحركات التحرير القومي، وهذه الوحدات تتفاوت فى أقدار تأثيرها وحدودها، كما تتأرجح أحجام ذلك تبعا لعوامل القوة التى تتمتع بها تلك الوحدات، وهذه مسألة أخرى ترجع للبحث الاستقرائي، والأمة.
ويمكن ملاحظة أن كلا المستويين النظريين ـ القيمى والعلمي ـ يمكن أن يتداخلا مع بعضهما، أى أن وحدات التحليل القيمية يمكن إثباتها عمليا فى بعض الأحيان، والعملية يمكن أن تنطبق عليها المعايير القيمية، فالأحلاف ـ وهى ظاهرة عملية ـ تبدو آثار التقسيم القيمى فيها واضحة جلية.
وفى إطار هذه المقارنة، بين المنظورات الثلاث، تأتي أهمية التأكيد على أن المنظور الإسلامى لتحليل العلاقات الدولية، يشكل مدخلاً يمكن أن تتكامل فى إطاره إيجابيات المداخل الأخرى. وإذا كان تكامل حصاد تلك المداخل قد تعذر حتى الآن، أمام تعدد الرؤى وتفاوت الاتجاهات فى إطار دراسة وتحليل العلاقات الدولية.
· باحث وأكاديمي مصري.
المصدر: http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=1566&PHPSESSID=4b509354461bb7a98dc12db52b11cd4c