وحدة الأمة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية
وحدة الأمة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشيخ علي يافع
بسم الله الر حمن الر حيم
مقدمة:
إن الإسلام هو دين الوحدة والألفة، يدعو أتباعه أن يكونوا على قلب رجل واحد، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا، ويحذر الإسلام من الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة ومن الإعتداء والبغي، ومن إعتداء فرد على فرد أو جماعة على جماعة، أو دولة على دولة أخرى ومن كان كذلك، أي إعتداء على الغير، وخرج على الجماعة، فقد وضح الإسلام نهايته.
فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبه أو يدعو الى عصبة أو ينصر عصبة، فقتل، فقتله جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه) رواه مسلم.
ومن حاول تفريق الأمة الإسلامية، أو عمل على تصدع الأمة فإن حكم الإسلام أن يضرب بالسيف حتى لا يتفاقم شره، ولا يعم أذاه.
قال عليه الصلاة والسلام: (ستكون هنات وعنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان) رواه مسلم.
وفي هذا التوجه النبوي الحكيم، دلالة على مقاومة الخارجين الذين يريدون تفريق كلمة المسلمين، إنهم ينهون عن ذلك أولا، فإن لم ينتهوا، ولم يندفع شرهم إلا بالقتل فقتلوا، كان القتل هدرا.. إنه الحرص الأكيد من الإسلام على وحدة الأمة، وإن الذي يكون سببا في تفريق كلمتها يستحق هذه العقوبة، لأن يترتب على تفريقها الضياع والإنهيار، فتصبح لقمة (سائغة) لأعدائها، ولذا حذر القرآن الكريم من التنازع، لأنه سبب الفشل والضياع.
كما قال اللّه العلي القدير في كتابه المبين: (وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(الانفال / 46).
وحدة الأمة الإسلامية
من الواجب لإعادة بناء الوحدة للأمة الإسلامية دينا وعقيدة، فكرا وسياسة، منهاجا وسلوكا، أصوليا وفقهيا (مذهبيا)، أي العودة إلى وحدة الأمة الإسلامية الأولى في عهد السلف الصالح، والطريقة الراشدية التي التزمت منهج النبوة والرسالة القرآنية المعبرة عن وحي اللّه تعالى في آياته وأصول القرآن المجيد في بناء مجد الأمة الإسلامية الموحدة غير الممزقة ولا المفككة أو المجزأة، وإقامة قاعدة صلبة للمجتمع الإسلامي الواحد، المترفع عن الأحقاد والخلافات السياسية أو المذهبية، أو الطائفية والإقليمية والقبلية، وبمعنى آخر: الوطنية أو القومية.
إن الإسلام رحمة للعالمين، وأول ما قضى عليه الإسلام: هو هدم برج العصبية القبلية أو العرقية، وغرس أصول شجرة الأخوة الإسلامية، من خلال عقيدة الإيمان الواحد، والأصول الواحدة المشتركة.
ومن هنا كان لابد من تجاوز المجال القومي أو الوطني لإقامة الوحدة الشاملة بين المسلمين، وإذا كان هذا المجال هو الأساس الذي يقوم عليه نظام المجتمع الدولي الحديث القائم على وحدة الأرض أو الإقليم، فإن هذا المجال وإن أبقينا عليه مؤقتا، أو لظروف ضيقة متوارثة، وحفاظاً على مصالح ذاتية معينة، فإن الإتجاه العالمي الأحداث أو النظام العالمي الجديد يتجه نحو الوحدة الشاملة; التي تتجاوز الجنسيات والأعراق والقوميات، مثل الوحدة الأوروبية، وغيرها. لأن المصالح الإقتصادية أصبحت تفرض هذا الإتجاه، وتوجب الوصول إليه.
وبهذا عودة إلى الأصل الذي نادى به الإسلام، وقامت على وحدة الخلافة الإسلامية، التي عمل الغرب والشرق على إجهاضها، فألغيت الخلافة سنة 1924 من الميلاد على يد السفاح الماكرعميل الصهيونية العالمية مصطفى كمال أتاتورك. ولابد من ذوبان فكرة القوميات في إطار الوحدة الإسلامية، فلا تطفو فوق السطح إمتيازات عربية أو فارسية أو بربرية أو كردية ونحو ذلك.
أما الأصل الديني والعقيدي: فهو أن الإسلام وحدة متكاملة، والأمة الإسلامية في التوجية القرآني والواقع المصيري تمثل أمة واحدة، فلا يصح بحال من الأحوال التفريط بهذين المبدأين الضروريين لوجود أمة الإسلام، وتطبيق شرعة القرآن، والعمل على إحياء نظام الإسلام الذي لا يتجزأ في السياسة والإجتماع والإقتصاد، والقيادة المشتركة أو الموحدة بقدر الإمكان، وإذا كنا نصطدم أمام واقع تجزؤ الدولة الإسلامية في العصر الحاضر إلى أكثر من خمسين دولة في الأمم المتحدة، فمن السهولة بمكان التركيز على عوامل إتحاد إسلامي مشترك من النواحي العسكرية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية، والتوصل الى تمثيل دبلوماسي خارجي موحد.
وعلى هذا يشار للمبدأين السابقين (وحدة الإسلام ووحدة الإمة الإسلامية).
نصوص تشريعية جوهرية في القرآن والسنّة النبوية الثابتة، كما قال اللّه تبارك وتعالى: (واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا)(1).
(أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه)(2).
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء)(3).
وأما وحدة الأمة فتعبر عنها الآيتان:
(إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون، وتقطّعوا أمرهم بينهم، كل إلينا راجعون)(4).
(وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون، فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون)(5).
وأما النصوص من السنّة الصحيحة كثيرة في هذا المجال، منها قوله (صلى الله عليه وآله):
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.
وعن أبي موسى الأشعري أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
ومنها الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم).
وأما وحدة الفكر الإسلامي:
فهي نابعة من وحدة العقيدة الإسلامية وعلى المفكرين الإسلاميين من مختلف المذاهب أن يختاروا أيسر الطرق، وأهمها لبناء فكرة إسلامية رشيدة موحدة، تعتمد على منطلقات الأصول الاعتقادية الواحدة، وتراعي المصالح المشتركة، وتعمل على توجيه الفكر والفقه و السياسة والإجتماع والإقتصاد نحو أبعاد واحدة، بحيث تمس واقع الأمة الإسلامية، وتتفاعل مع وحدة المصير المشترك التي تهدد وجود الأمة الإسلامية، بل وجود عنصر الدين أمام نزعة الإلحاد والمادية والعلمانية، والحرص فقط على حماية مصالح الدول الكبرى أو الدول العظمى أو الاستكبار العالمي.
وبالنسبة للوحدة السياسية:
هذه ضرورة إسلامية مصيرية، لأن المسلمين اليوم يواجهون تحديات ثقافية بالتكنولوجية الحديثة وتطوراتها السريعة، وأيضا عنصرية وفلسفية غربية مادية، ويلمسون تيارات وألوانا من الغزو الفكري والحضاري لتقويض معالم وأصول الحضارة الإسلامية المتميزة، القائمة على المادة والروح، والدين والمجتمع، والفضيلة والواقعية غير الجائرة. ولا تقوم والوحدة الإسلامية مالم تتحقق الوحدة السياسية.
وإن المسلمين في عصرنا هذا بأشد الحاجة إلى توحيد العمل السياسي، لأن بقاءهم أعز كرامة. ووجودهم على الدوام، يقتضي تحركاً مشتركاً يخدم مصالح الأمة، ويحمي قضاياها، ويحافظ على مقدّراتها، ووجودها، ويصون الأوطان والحمى والكيان، ويدرأ مخاطر إفساد الدين والأخلاق والمقدسات، وذلك على أي نحو مقبول: وحدوي أو إتحادي; فيدرالي أو كونفيدرالي، وتكون الحرية في هذا الشكل الدولي مسموح بها، في حدود النظام القرآني ووحدة الدولة والسياسة.
أما منهاج العمل الواجب إتّباعه والسلوك المطلوب إلتزامه، فهو الإنطلاق من مبادئ الأخوة الإيمانية والتشريعية والحضارية، وتدارك أوجه التقصير والتخلف، وتجاوز مرحلة الضعف والإنقسام والتمزق. وإنني في حقلي التوجيه الجامعي والحركة الجامعية الإسلامية بالدعوة الحتمية الى وحدة صفوف المسلمين، ونبذ العصبية المذهبية، والقضاء على عوامل الفرقة والإنقسام الفكري والعملي، وإحياء مبدأ العمل لتوحيد المسلمين على هدى القرآن وأصول السنّة الثابتة.
أما وحدة الأصول الإسلامية:
فهي وللّه الحمد متوافرة، فإن جميع أئمة المذاهب الإسلامية، السنّية والشيعية، والمعتزلة وبقية علماء الكلام أو التوحيد متفقون على أن مصدر جميع الأحكام الشرعية هو اللّه سبحانه وتعالى. وفي مجال التفصيل والإبانة ترجع جميع مصادر الشريعة إلى اللّه تعالى، فالسنّة النبوية: وحي من عند اللّه، وإجماع الأمة: يعتمد على الأصل القرآني، والنبوي، والقياس: إلحاق بما فيه نص أو أصل شرعي. وبقية المصادر التشريعية الأخرى: ترجع في الحقيقة إلى الأصل القرآني، مثل الإستحسان والإستصلاح والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع والإستصحاب.
وهذه الأصول، وإن كان بعضها عقلياً كالبراءة والإحتياط العقليين، وبعضها شرعياً كالإستصحاب والبراءة الشرعية، وبعضها في دائرة الشبهات الموضوعية مثل سوق المسلمين ووحدة إقتصادهم، وإصالة الصحة في فعل الغير، فإنها ترجع في النهاية إلى مراعات مقاصد الشريعة المفهومة من جملة النصوص التشريعية، والقائمة على مراعات المصالح العامة ودرء المفاسد والمضار.
وإذا كانت المصادر عند الشيعة الإمامية مثلاً ثلاثة وهي القرآن والسنّة والعقل، فإنها في الحقيقة مجرد تصنيف، لأن الحاجة العقلية ينبغي أن تكون عندهم قطعية حتى تعتبر مصدراً، ولا تكون قطعية إلا بمراعات ما سمّاه أهل السنة: مقاصد الشريعة، وما يدور في فلكها من العمل بالمصادر الشريعية التبعية: الإستحسان والمصالح المرسلة والعرف إلى آخر ما ذكرناه.
ووحدة الأصول الإستنباطية في الجملة عند المذاهب: مذاهب أهل السنة ومنها المذاهب الأربعة، والظاهرية والإباضية، ومذاهب الشيعة الزيدية والجعفرية، تيسر الوصول إلى وحدة المسلمين على الساحة الفكرية والسياسية والتشريعية والإجتماعية والإقتصادية.
الوحدة الفقهية والتقارب بين المذاهب
هذه أمر ضروري في جانب الأصول العامة، إذا كان لا يمكن إيجاد وحدة إسلامية أو إتحاد إسلامي إلا بترك المفهوم المذهبي والقضايا الأصولية، وأما في الجانب التفريعي أو الجزئي الضيّق فلا مانع من بقاء الخلافات المذهبية الفقهية، لأن وجود هذه المذاهب ضرورة تشريعية، ودليل على خصوبة الفكر والعقل الإسلامي، ومظهر من مظاهر الثراء والعطاء والتفرق الحضاري، وهذا لا يعد عيبا أو مظهر تخلف أو تفرقة كما يتوهم البعض، وإنما هو ظاهرة صحية وعلمية، فإن شرّاح القانون يختلفون بينهم إختلافات كثيرة، وينقسمون إلى مدارس متعددة هي أشبه بالمدارس الفقهية المذهبية لدى علماء الإسلام.
نعم، أن الإنقسام إلى الشيعة والسنة والخوارج وغيرها كان له تأثير سلبي خطير في تاريخ المسلمين، ولكن ضرورات النهضة الإسلامية اليوم، وإثبات الذات الإسلامية، والعمل الجاد المخلص لإعادة بناء الوحدة الإسلامية، يتطلب كل ذلك تجاوز المخلفات التاريخية التي لا فائدة إطلاقاً من بعثها أو إحيائها أو إثارتها واستمرارها، وإلاّ كان أي مناد للوحدة الإسلامية، سواء أكان سنيّا أو شيعيا، مجرد متحدث نظري غير عملي، بل خائنا لأمانة الدين والإسلام ومصالح الأمة الإسلامية.
وإنني أؤيد كل الجهود المخلصة الكريمة للتقريب بين المذاهب الفقهية الإسلامية، سواء في مجال النظريات السياسية أو الخلافات المذهبية. ولابد من تضييق سبل الخلاف بالقدر الممكن، وإذا تعذر القضاء على أصابع الخلاف المتعصية، فلابد من توجيه هذا الخلاف لما يفيد واقع الوحدة، ويتفاعل إيجابياً معها، ويحمي الأمة من تحول هذا الخلاف إلى صراع وإثارة أحقاد.
وفي هذا التوجه المخلص الذي أؤكد وأدعو إليه ينبغي الإتفاق على ثوابت الدستور الإسلامي والوحدة الإسلامية الإقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وإذا اتفق أئمة الإسلام وعلماؤهم المخلصون الصفوة على نقاط الوحدة الضرورية، فوجب عليهم أن يتفقوا على دفن حصاد الماضي، وإنهاء جذور الخلاف، ومحاربة كل معاني الفرقة والإنقسام، وشق عصا الجماعة الإسلامية، ومحاولة تفريق كلمة المسلمين، والخروج على مبدأ وحدة الأمة، لأن خلايا التجزئة والدعوات المهدمة لكيان الأمة أكبر خطر يهدد حصون المسلمين وقلاعهم من الداخل.
إن الوقفة الإسلامية الموحدة ضد العدو الواحد فكرياً وثقافياً وعسكرياً وسياسياً وإقتصادياً، هو واجب على كل مسلم ومسلمة، وكل قائد ومفكر، وكل عالم ومتعلم، وإلاّ كان الطوفان والدمار للجميع.
يد اللّه مع الجماعة:
يقول الرسول(صلى الله عليه وآله): (يد اللّه مع الجماعة، ومن شذ، شذ في النار).
إن هذا الحديث عظيم في معناه، واضح في مبناه ومرماه، إذ يهدف إلى توعية الأمة، وجمع شملها قبل أن تبادرهم الخطوب، وتنزل بهم المصائب.
وإن في وحدة الأمة وتجمعها القوة والمنعة والشوكة، وفي تفرقها الضعف والتخاذل والضياع. لقد أكد الإسلام على الوحدة في كل ما يتعلق بالأمة من تقدم وازدهار وبناء وعمران، وجهاد ونضال، فنلاحظ أن المخاطبة في القرآن الكريم غالبا ماتكون بصيغة الجمع أي كل فرد من أفراد الأمة، ولكن صورة الجمع تنبئ عن معنى عظيم وهو إجتماع الأمة دائما وإمكان التلاقي والتفاهم والتشاور، حتى أن تأدية الصلاة جماعة أفضل منها منفردا.
أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنذر الذين يخرجون عن وحدة الأمة وإرادتها الإيمانية الخيرة، نار جهنم وبئس المصير، فمن ذا الذي يرتضي لنفسه عذاب النار وهو مؤمن، لكنه خرج عن وحدة الكلمة وارتضى لنفسه الوحدة، أي يعيش وحيداً دون ملاصقة الأمة والأحساس بما يصيبها أو ما تتعرض له من محن، وما تواجهه من تحديات وأزمات. ومن ذا الذي يقبل العار لأمته وهو يرد موردها ويستظل سقفها وسماءها ويعيش من ثمارها وما توجد به بإذن ربها.
وعلى كل ذلك فنحن من حكام وعلماء الأمة الإسلامية علينا ضرورة توحيد الكلمة، وجمع الصفوف، ولم شتات العالم الإسلامي في زمن تكالبت فيه قوى الإعداد عليها فعملت على تمزيقها وتفتيت وحدتها وكيانها.
الدين الإسلامي بطبيعته يجمع ولا يفرّق
فنحن المسلمين جميعا لنا نبي واحد وسيدنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب العربي القريشي الهاشمي.
ولنا كتاب واحد وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولنا كتاب وقبلة واحدة وهي الكعبة المعظمة في مكة المكرمة نستقبلها كل يوم وليلة خمس مرات حين نؤدي صلواتنا المفروضة وفي كل مناسبة.
ونحج إليها كل عام وفي هذا التوجية من ربنا لنا إشارة إلى أمره بأن يكون إتجاهنا واحد دائما فلا ننحرف ولا نختلف.
لهذا قال (صلى الله عليه وآله): (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة اللّه وذمة رسوله، فلا تخفروا اللّه في ذمته). رواه البخاري والنسائي. ومتفقون أيضا على كل ماهو معلوم من الدين بالضرورة سواء كان من الأوامر أم من النواهي.
فلا اختلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية في هذه الأسس ولا في أصول دينهم التي يرجعون إليها كما قدّمنا.
الإختلاف إنما هو في الفروع
والإختلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية إنما هو في الفروع والمفاهيم والإستنباطات التي يقوم بها الأئمة المجتهدون فهو ضروري.
ولما وجّه رسول (صلى الله عليه وآله) معاذا (رضي الله عنه) قاضيا إلى اليمن سأله بماذا تحكم بينهم قال معاذ: (بما أجده في كتاب اللّه فإن لم أجده في كتاب اللّه فبما أجده في سنّة رسول اللّه فإن لم أجد شيئاً، أجتهد برأيي، وفي الحديث من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر) رواه البخاري في صحيحه، بل قيل له أجران أيضا أحدهما لاجتهاده والآخر لحرصه على الصواب وإن أخطأه.
وكان العهد بعد وفاة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في زمن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين أن يسأل المسلم العادي أو العامي من يعرفه من علماء زمانه فيفتيه بما يراه ويفهمه من كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه.
وكان أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته يسأل بعضهم بعضا عما يخفي عليه ويفتي العالم منهم من هو أقل علماً في وقائع الأحوال فكثير منهم رضي اللّه عنهم ليسوا بعلماء.
وذكروا أن المتصدين منهم للإفتاء لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة أو اليدين.
ولم تدّون المذاهب إلاّ في القرن الثاني والثالث من الهجرة ولم تنتشر إلاّ فيما بعد ذلك بعشرات السنين وذلك بعد أن تلقى عن كل من المجتهدين علماء تتلمذوا عليهم ونشر أصحاب كل إمام مذهبه.
ولما كمان العلماء الشرعيون المختصون البارزون هم القدوة والأسوة لأهل زمانهم ومكانهم إنتشرت الغالبية من المتمذهبين بالمذاهب تبعاً لذلك حيثما أقام ورحل مؤسسو تلك المذاهب والطبقة الأولى من علماء أصحابهم.
ثم فيما بعد نشأ التوارث المذهبي والإنتساب إلى المذاهب جيلاً بعد جيل كما هو معلوم من تاريخ التشريع الإسلامي، وبما ذكرته يعلم أن هذا شيء لابد منه أيضاً لأن السواد الأعظم من المسلمين وهم الذين نسميهم العامة ينقصهم الإطلاع الكافي على أمور دينهم وتشغلهم مشاغلهم عن الوعي اللازم لأسرار الشريعة الإسلامية وأحكامها، وقال عنهم العلماء: (العامي لا مذهب له).
العامي لا مذهب له
ومعنى ذلك أنه إذا صادف عملهم في العبادات والمعاملات أي مذهب من المذاهب الإسلامية صح ذلك منهم فيترك أصحاب المذاهب والفرق الإسلامية على ماهم عليه تبعا لأئمتهم وعلمائهم وهذا هو التقليد الذي يعتنقه العوام.
وكل من اتصف بما ذكرته من عدم الإطلاع على الأحكام الشرعية يعد عاميا وإن كان عالما بارزاً ومثقفاً كبيراً في علوم أخرى سواء كانت صناعية أم عسكرية أم طبية أم سياسية أم غير ذلك، ولكنهم كلهم جنود للإسلام مؤمنون به.
ومن قلد عالماً لقي اللّه مسلماً، وروي عن الإمام الشافعي أنه قال ما معناه: من عمل عملا تبع فيه إماماً لم يعذبه اللّه عليه، وقال الإمام مالك: إن إختلاف العلماء رحمة منّ اللّه من بها على هذه الأمة كلّ يتبع ما صح عنده وكل على هدى وكل يريد اللّه.
وقال أيضاً للمنصور العباسي: قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به ورد العامة عن مثل هذا عسير. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من كبار التابعين وعلمائهم: أهل العلم أهل توسعة وما برح المفتون يختلفون فيحلل هذا ويحرم هذا فلا يعيب هذا على هذا ولا هذا على هذا، ولو ذهبنا نستقصي عمل الأئمة وأقوالهم في التوسعة والتيسير لطال بنا الكلام وهو موجود في تراجمهم وطبقات مذاهبهم وغيرها، والإسلام كله يسر.
إن أئمة المسلمين المجتهدين جميعاً يغترفون من ذلك المعين العذب معين الكتاب والسنّة كما قدمنا، والشريعة الإسلامية أوسع وأعمق وأهدى من أن تنحصر في مذهب فلان أو في فريق فلان وإنما هي كالبحر المحيط العذب الذي يغترف منه كل إمام وكالشمس المشرقة التي يستضيء منها كل ذي عينين بصيرتين.
ولهذا لايجوذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما فيه خلاف بين العلماء سواء كان بين علماء المذاهب أم بين علماء المذهب الواحد كما سأبينه إن شاء اللّه في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الإختلاف بين المذاهب والفرق الاسلامية ليس معناه التباغض والتنافر وإنما يلزم له الإحترام المتبادل
من المعلوم لما بيناه من قبل من أن الإختلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية في الفروع شيء ضروري أو شيء طبيعي إن صح التعبير من المعلوم بمقتضي هذا أن ليس الإختلاف المشار إليه معناه التباغض أو التحاسد أو التنافر فضلا عن الشتائم والتقاتل والتناحر.
وبذلك قال اللّه تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)، وقال رسول (صلى الله عليه وآله): (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره فحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).
وقال (صلى الله عليه وآله): (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
وقال(صلى الله عليه وآله): (المسلمون كالبنيان يصد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى). وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تشتمل على الأدلة القطعية الصريحة بوجوب المحبة والإحترام والتعاون والوحدة بين المسلمين.
فعلى المسلم أن يطيق جميع المسلمين لأنه أصل من أصول الدين من أي المذاهب كانوا ومن أي الفرق كانوا، وأي مسلم ينطق بالشهادتين ويؤمن بما تضمنه الكتاب والسنّة بـإعتقاده هو وبمقتضى مذهبه هو لا يخرج عن دائرة الإسلام وله كل حقوق المسلم، وبالمقابل عليه واجبات المسلم نحو أخيه المسلم وإضافة إلى ماتقدم من الأحاديث أورد لك ما أعلنه رسول (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع.
البيان العام الذي أعلنه رسول اللّه(ص) في حجة الوداع عن حرمة المسلم
ذكر علماء الحديث وعلماء السير أن رسول (صلى الله عليه وآله) لما ألقى خطبته البلاغية العظيمة في حجة الوداع يوم النحر العاشر من ذي الحجة في السنة العاشرة بمعنى سألهم أثناءها قائلا:
أتدرون أي يومكم هذا؟ أتدرون أي شهركم هذا؟ أتدرون أي بلدكم هذا؟ وهم يجيبون.. اللّه ورسوله أعلم. ثم قال لهم: فإن اللّه حرّم عليكم دماءكم وأعراضكم وأموالكم كيومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ يرددها مرارا.
وإنما مثّل وشبه حرمة دماء وأعراض وأموال المسلمين بحرمة اليوم والشهر والبلد مع أنها أعظم حرمة من اليوم والشهر والبلد بناء على ماكانوا يعتقدون قبل الإسلام بأنها أعظم حرمة فلا يفعلون فيها شيئا من إنتهاك الدماء والأعراض والأموال دون سائر الأيام والشهور والبلاد.
هذا هو الإعلان الذي أعلنه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في أكبر إجتماع للمسلمين في أخر حياته في حجة الوداع وقد حضرها أكثر من مائة ألف حاج.
وهناك أحاديث كثيرة صحيحة في عصمة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم إلاّ بحقها فلا أطيل بذكرها كما أن هناك أحاديث أيضا تبشر بأن من نطق بالشهادتين وهو مخلص فهو مسلم ومصيره الجنة فإن كان عاصيا فأمره إلى اللّه إن شاء اللّه عذبه إن لم يتب توبة صحيحة وإن شاء غفر له، وفي كلا الحالتين فمصيره الجنة كما ذكرت.
الحج مظهر عملي من مظاهر الوحدة الإسلامية لمن عرفه
كما ذكرنا في السابق البيان العام الذي أعلنه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع عن حرمة المسلم.
ونستنبط من حجة الوداع هذه ومن سابقتها ومما بعدها كيف يكون الحج بالنسبة للأمة الإسلامية، وكيف تكون الأمة الإسلامية فيه.
ففي الحج يجتمع كل مستطيع مؤهل للتفرغ للحج ولما اشتمل عليه من منافع مع أمثله من إخوانه المسلمين.
كما قال اللّه تعالى: (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم).
إنها منافع لاحد لها فهي في عبادتهم وعقائدهم وفي تعارفهم وفي تزاورهم وفي مواساتهم وتوعياتهم وفي مشاورتهم وفي معاهدتهم التي يقوم بها الحاضرون من رؤساء دولهم إقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا، كل ذلك في دائرة دينهم الإسلام الذي يتسع صدره لكل شيء فيه منفعة لهم وللإنسانية ويرفض كل مافيه ضرر عليهم أو على الإنسانية ضمن الحدود والأنظمة التي سنتها شريعته السمحة.
فالحج يمكن أن نسميه أعظم مؤتمر إسلامي بناءً على قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم).
لبيك اللهم لبيك إنهم كلهم يجيبون ذلك النداء الموجه إليهم من ربهم بواسطة أبيهم إبراهيم يجيبونه بالقول والعمل خالصا لوجه اللّه (وللّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)ويدافع من قوة الإيمان وصفاء العقيدة كذلك.
والكعبة إنما هي رمز وإشارة للإرتكاز الذي تدور حوله صفوفهم وللإتجاه الذي يوحد وجهتهم في صلواتهم وحجهم وعمرتهم وطوافهم فلا يختلفون ولا ينحرفون كما تقدم في أول هذا الكتاب.
إن المسلمين حين يلتقون في الأماكن المقدسة بمكة المشرفة ومنى وعرفات ومزدلفة، إنما يمثلون الإسلام في أشخاصهم وكل واحد منهم مسلم قبل كل شيء يأتون من مشارق الأرض ومغاربها، وقد ذابت مذاهبهم وفرقهم وألوانهم ولغاتهم وعادتهم وتقاليدهم ورتبهم وانصهرت في الإسلام الذي لا يفرق بينهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم). التعارف الذي تتوقف عليه حياتهم الفردية والإجتماعية.
إنهم يلبسون البياض الذي يرمز إلى نور الإيمان ونور القلوب المعمورة به وإلى المساواة التي هي مبدأ من مبادئ دينهم الحنيف. إن المسلمين اليوم ومن بينهم الحجاج (مريد للحج) ينقصهم الوعي وإدراك لحقيقة دينهم حين ضاعت من بينهم التربية الإسلامية الحقة التي هي بمثابة حجر الزاوية لبناء الشخصية المسلمة أو الإنسان المسلم إن صح هذا التعبير. وهذا هو الحج الركن الخامس من أركان الإسلام الذي تتمثل فيه ألوان من الوحدة الإسلامية في أيام معدودات، تتكرر كل عام ولكنها في كثير من هذه الألوان شكلية لغلبة الجهل والغفلة على معظم المسلمين.
فعلى حكومات العالم الإسلامي وشعوبة وأفراده أن تنتبه من هذه الغفلة وأن تؤنب ضمائرها على ما فرط منها وأن تزود كل حاج (مريد للحج) بمعرفة أحكام الحج وحكمه (بكسر الحاء وفتح الكاف) ليؤدي الغرض المطلوب من حجه.
إنه لابد أن يأتي اليوم الذي ينتشر ويرتقي فيه الوعي بين المسلمين فيكونوا مسلمين حقا. (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)(1).
ومصير المسلمين إلى الجنة في النهاية بعد أن يتوب على من تاب ويعذب اللّه من يستحق العذاب ولكنه ليس العذاب الأبدي الذي يخلده في النار كما سيأتي.
ما من أحد يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه صدقا من قلبه إلا حرمه اللّه على النار: قال يا رسول اللّه أفلا أخبر به الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا.
والشريعة الإسلامية في قواعدها تعتبر وتقرر أن الإسلام ملة واحدة والأديان الأخرى ملة واحدة. فلا يرث المسلم الكافر ولا العكس كما في الحديث. ولا يجوز للمسلم أن يقلد الكفار فيما هو خاص بأديانهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية الموجودة في كتب الفقه، كقوله تعالى: (فريق في الجنة وفريق في السعير)(2)فسر كثير من المفسرين أن العباد في يوم القيامة فريقان فقط أو قسمان فقط فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير وهم الكافرون.
وقد آن الأوان لأن يحمل كل مسلم مبدأ - أنا المسلم قبل كل شيء - ومبدأ مت مسلماً ولا تبال - وأن نتفرغ للقيام صفاً واحداً متمسكين مجاهدين ضد أعدائنا الذين لا يهمهم إلا تدميرنا. الشيخ حسن البنّا يقول: (نتفق في المبدأ والهدف والأسس، ولكن نتعاون ونعفو في المسألة الإختلافية).
الخاتمة:
وفي هذه الفرصة الغالية السعيدة; إسمحوا لي بسم الهيئة الرئيسية لمجلس العلماء الإندونيسي والأمة الإسلامية في إندونيسيا حكومة وشعبا بأن أقدم أخلص التحية وأطيب التمنيات إليكم جميعا، خاصة الأمانة العامة للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية والحكومة الإيرانية الشقيقة بدعوتكم إلينا للحضور في المؤتمر العالمي الثاني عشر للوحدة الإسلامية بطهران وبمناسبة ذكرى مولد سيدنا ونبينا محمد(صلى الله عليه وآله) رسول الهدى والرحمة أرسله اللّه رحمة للعالمين في شهر ربيع الأول عام 1420 هجري، تحت عنوان: (الإسلام والأمة الإسلامية في القرن القادم).
نسأل اللّه العلي القدير بأن يكون هذا المؤتمر ناجحا برعاية اللّه وعنايته في خدمتنا للإسلام والمسلمين.
واخيرا أقول: (وما توفيفي إلا باللّه، عليه توكلت وإليه أنيب).
1- آل عمران / 103 .
2- الشورى / 13 .
3- الأنعام / 159 .
4- الأنبياء / 92 - 93 .
5- المؤمنون / 52 - 53 .
6- النور / 55 .
7- الشورى / 7 .
* البروفسور الشيخ الحاج علي يافع : الرئيس العام لمجلس العلماء الاندونيسي
المصدر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية