التقريب بين المذاهب وإشكالية المنهج
التقريب بين المذاهب وإشكالية المنهج
حسن جابر
بسم الله الرحمن الرحيم
للوهلة الأولى يبدو عنوان التقريب الذي ازدادت في الآونة الأخيرة وتيرة النقاش فيه، ذا دلالة إيجابية منتجة، إلا أن ثمة فارقاً كبيراً بين التقريب والتقارب، بين ما يدفع من الخارج وبافتعال وما يحصل تلقائياً ويتفاعل، فالصيغة الأولى توحي بالسكونية والجمود خلافاً للثانية التي تشي بفعالية ذاتية جاذبة. والاختلاف في الصيغتين لا ينبع من مجرد الدلالات اللفظية للتفعيل والتفاعل – تقرب تقارب – وإنما هو وليد قناعات راسخة لدى المشتغلين والمنهومين – بالمصالحات – بأنّ المذاهب مجرد وحدات كيانية مستقلة ومتباعدة عصية على التشكل في وحدة منهجية مؤثرة وفاعلة وأنّ أكثر ما يمكن فعله هو الاعتراف المتبادل وإقامة شكل من العلاقات يشبه إلى حدود ما، ما ترسمه الدول في علاقاتها السياسية بما يسمى بمعاهدات حسن الجوار، وبالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في هذا المضمار لم يطرأ تبدل يعتد به على مستوى النتاج العلمي وإن أحدثت هذه المحاولات بعض التبدلات في النظرة وجلها ذات طبيعة قانونية كمسألة الاعتراف المتبادل ورفع الحظر عن تدريس الفقه المخالف في الجامعة والمعاهد الدينية.
ومع إيماننا بأهمية هذه الخطوات التي أسهمت وتسهم في خلق مناخات الحوار، إلا أنها ليست كافية، ولا تعدو كونها خطوات إجرائية مساعدة لا تمس جوهر المشكلة، بل نقول أن مجرد التفكير بالتقريب لا يسمح بأكثر مما أنجز.
أما الاسهامات العلمية التي باشرتها بعض مراكز الدراسات والباحثون المنفردون، فقد بقيت محصورة داخل إطار المقارنة بين فقه المذاهب، أما في صيغة إبراز التباينات أو إضاءة المساحات المشتركة والأحكام المتقاربة. لكن هذا الجهد العلمي بقي محكوماً للفقه المنتج وأسير عقلية الاجتهاد والتي ترى إلى المباني الأصولية والكلامية والفقهية لكل مذهب على أنها وحدة متكاملة ومغلقة عصية على الاختراق والتفاعل.
في الواقع، لا يمكننا محاكمة كل ما قدّم من انجازات خارج إطار العقل المذهبي الذي حكمها ومنهج التفكير السائد لدى حماة المذاهب كلها، ومن المفيد القول هنا، أن ثمة كيفية واحدة تسُوق طرق المعالجة وأكيانها، بدءاً من علم الكلام وانتهاءً بالفقه.
والاختلاف الذي يميز تلك الوحدات المذهبية لا يتعدى بعض التفاصيل والمفردات المتناثرة هنا وهناك.
علم الكلام والعصبيات المذهبية:
إذا أجرينا عملية تحليل عميقة للعناصر التي تتكون فيها عملية الاستنباط الفقهي لدى جميع الوحدات التاريخية وتقصينا عن المشتركات والمتغايرات يتبين بوضوح أن لا خلاف جوهري في الأصول ومصادر الاستنباط وآليات إنتاج الأحكام الشرعية والفتاوى.
وإذا كان الأمر كذلك فأين يكمن الاختلاف إذاً؟
يستحكم الخلاف في أكثر العناصر احتجاباً وتخفياً، وإن كان في الواقع الأكثر حضوراً وتأثيراً، أعني علم الكلام خازن مختلف أشكال التباينات والاختلافات السياسية على امتداد التاريخ الإسلامي، وهو الذي يطبع الأبحاث الأصولية والفقهية بملامحه وخصائصه ويضفي عليها تلويناته، فإذا ما تعرى علم الاستنباط من هذا اللباس ذي اللون التاريخي المتصرم ومكّن المجتهدون من رفع سيفه والتحرر من سطوته وسيطرته لأمكن القول بأن النتاج الفقهي أضحى ممحصاً بالروح العلمية المجردة التي هي منتهى ما يبتغيه الباحث الموضوعي.
للوهلة الأولى قد يفهم أن المطلوب هو اختزال علم الكلام نهائياً من منظومة علوم الاستنباط والإجهاز الكامل عليه لوقوفه حجر عثرة أمام وحدة البحث العلمي والروح الموضوعية في الأبحاث الفقهية، لكن حقيقة ما نريد تقديمه هنا، هو البوح برقابة الكلام والاعتراف بمحاكميته القسرية من جهة، والتجرؤ على نقده ونقضه وبالتالي تحريره من وهم كونه مقدساً ومتعالياً، من جهة أخرى.
والنقد المتقدم لآليات ومناهج الاستنباط ليس مجرد استعادة لملاحظات من سبق، أو مراكمة تستهدف تقويض البناء القائم دون إيجاد بدائل أو اقتراح حلول علمية يفترض بها المساهمة في إعادة رسم مسار منهجي جديد مؤمل منه ردم الهوة السحيقة بين الفقه والاجتهاد وبين الزمن الذي نحياه.
في هذا المقام، يمكن تقديم تصور لآلية جديدة لعملية الاجتهاد تستبطن فعالية خاصة تبقي أفق المعنى مفتوحاً انفتاح القرآن الكريم على الحياة. قد يلاحظ هنا، أن هذه الآلية لا تبتعد كثيراً عن السائد، لكنها أكثر جرأة على البوح بتحقيقها من سابقتها.
تقوم الآلية المقترحة على اعتبار علم الكلام أساساً نظرياً لا بدّ منه، ينبغي الاشتغال عليه وصياغته قبل المباشرة الفعلية في عملية الاستنباط، وهذا لا يعني أن الاجتهاد السائد لم يكن كذلك فعلياً، وإنما كان المجتهدون يحاذرون الكشف عن حضوره من جهة، ومن جهة ثانية يرون المنجز من علم الكلام المتوارث على أنه حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش، علماً أن الظروف التي حكمت إنتاج هذا الحقل سابقاً قد تبدلت إلى حدود كبيرة بينما المقصود من الكلام في الآلية الجديدة، الرؤية النظرية النزعة من دراسة معمقة للبنية المعرفية للقرآن الكريم أولاً، ثم التشريعية بحيث تُمكّن الأولى من توجيه ورعاية الثانية، بمعنى أن تبدأ عملية الاجتهاد من علم الكلام لا من الفقه، وعلى كل فقيه أن يقدم أطروحته في الأول ثم يُحاكم فقهه على ضوئه، أما العناصر العلمية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في عملية الصياغة فتنتظم على الشكل التالي:
1- اعتبار الكتاب العزيز المصدر الأول والأساسي في عملية البناء النظري على أن يستعان بالسنة لا باعتبارها مصدراً رديفاً يوازي الكتاب، وإنما كعنصر مساعد يُمكنه إسعاف المجتهد على تبصر المعنى والوقوف على المقيدات والمخصصات المكانية والزمانية.
2- تطوير علم البيان والمعنى والاستزادة من الإبداعات الحديثة والمعاصرة فيما يعرف بعلمي القصر والتأويل، أي ألا يُكتفى بعلم البلاغة الذي أبدعه العقل العربي – التاريخي، وإنما الأخذ بكل ما ابتكره العقل الإنساني في مجال البحث في دلالات النص ومناهج وآليات الكشف عن المعنى.
3- الاستعانة بعلم التاريخ، وتحديداً التاريخ الاجتماعي والسياسي يقدم للمجتهد صورة عن واقع الحياة وتطويرها في عصر ما قبل وخلال وما بعد النص بحيث تتاح الفرصة للمجتهد كي يطلع على مجرى الحياة وكيفية مواكبة النص للتحولات التي حصلت في صدر الإسلام ومرحلة التأسيس تحديداً.
هذه العناصر وغيرها، يمكن وكما هو ملاحظ أن تسعف المشتغل في علم الكلام على تقديم تصور قد لا يكون بالضرورة هو عينه الذي توصل لصياغته مجتهد آخر ويبقى أمر الصياغة النظرية متروكاً لمدى وحجم معرفة المختص بالحيثيات والمقتضيات والمقاصد.
ما يمتاز به علم الكلام الجديد الذي نعول عليه هو كونه يشكل الأساس النظري لعملية الاجتهاد برمتها ويتصنف بالمعاصرة الدائمة والتحديد المتواصل، وهو ما يسمح بعزل المؤثرات التاريخية التي كانت منشأ للعصبيات والتناحرات والنظر إليها على أنها جزء من الماضي على أساس القاعدة القرآنية {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألن عما كانوا يفعلون}. وبذلك تُسدّ إحدى أهم وأخطر المنافذ التي كانت تتسلل منها مشاعر التباغض والعصبية.
أما بقية مشهد الاستنباط الذي نقترحه في عملية انتاج الفتاوى والأحكام، فلا يختلف من حيث عناوينه عن المتعارف عليه أي الاجتهاد في علمي الأصول والفقه مع تبدلات لا بد أن تطال مضمون العلمين، وهذه تفترضها عملية التجديد في علم الكلام، خاصة في دائرة القواعد الفقهية التي كانت تشكل سابقاً ما يعرف بالعموميات الفوقانية حيث لا تبقى هذه في موقعها المرسوم، وإنما تتراجع إلى مرتبة وسطى بين المقاصد الكلية للشرع والأحكام والفتاوى الجزئية في سلسلة مترابطة محكمة الضبط والمعنى.
بين الاجتهاد في الدين والاجتهاد في المذهب:
إذا كانت المقاصد الكلية للشرع، لا بالمعنى الذي قدمه في صيغة ناضخة "الشاطبي" في نهايات القرن الثامن الهجري أو إمام الحرمين الجويني، فتلميذه الغزالي في مرحلة مبكرة عند حدود نهايات القرن الخامس الهجري وإنما بالمعنى الذي نأمل أن يعطيه علم الكلام الجديد، إذا كانت هذه المقاصد هي التي ستتولى عملية الضبط والتحكم في عملية الاستنباط، فإن الوقوف على محدداتها وعناوينها التي ليست فوقها ما يحكمها يقتضي بحثاً معمقاً ومدققاً في كل مصادر المعلومات سنيّة كانت أم شيعية، فضلاً عن الإحاطة بكل ما قدمه الباحثون من غير المسلمين ممن اختصوا بدراسة الفكر الإسلامي عموماً والقرآن الكريم بشكل خاص، ومع اتساع دائرة المصادر والمراجع وتنوعها تضيف فرص التحكم المسبق بالمعنى وتضعف لدى الباحث المجتهد حالة الاسقاطات المذهبية، فمع تعدد الزوايا ووجهات النظر تكثر الخيارات ويترك أمر البت بالمعنى النهائي إلى الباحث عينه، وهكذا يخرج إلى الوجود اجتهاد في الدين متحرر من كل الإكراهات المذهبية والعصبيات التاريخية.
أما واقع الاجتهاد الراهن الذي يراد منه الاقتراب من مساحة الاختلاف لضمها إلى ميدانه فهو محكوم بالعجز وعدم القدرة لأنه لم يفتح آفاقاً أمام مصادر البحث ليكسر الحلقة المذهبية المحكمة الإغلاق، فالمعاهد الدينية رغم تقدمها خطوة باتجاه الاعتراف بمشروعية المذاهب المخالفة، فإنها لم تتعد العتبة القانونية وبقي كل مذهب ينظر إلى سواه على أنه من غير الفرقة الناجية.
فانفتاح الأبحاث الاجتهادية والاستنباطية على النتاج العلمي دون مواقف مسبقة وبذهنية التفحص والإفادة فنياً بإخراج الفقه من الدوائر الضيقة والرؤى المقولية والجامدة، وبذلك يتحقق الاقتراب الفعلي بين المسلمين لا التقريب الذي يُشعر بالافتعال والدفع من الخارج.
مذاهب بلا تمذهب:
هذا التصور الجديد لعملية الاستنباط المؤسس على رؤى كلامية جديدة متحررة من كل أشكال العصبيات التاريخية المتراكمة، يسمح بتواجد مسارات اجتهادية ونتاجات فقهية معاصرة، على أن يترك الخيار للمكلفين في تخير الرؤى والتصورات وفق قناعاتهم في إطار حركة بحث علمي دائم، تخضع فيه التصورات النظرية المستندة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية فالمراجعة المستمرة بحيث يتم في كل مرة استيعاب أسئلة الواقع وتقديم إجابات مناسبة في حركة جدل بين النصر الإلهي والواقع لا تنتهي.
هذه الصورة المرتجاة في عالم متحول، أما الواقع الذي تتخبط فيه مؤسسات التعليم وبالتالي حركة الاستنباط فهو عاجز عن تقديم مسوغات مقبولة تفسر جمود المسلمين عند المباني الاستدلالية المؤسسة للمذاهب وكأن أئمة المدارس الفقهية الذين ظهروا في القرنين الثاني والثالث قد أودعت فيهم علوم الأولين والآخرين والمسلمون لا ينفكون عن استرجاع المقولات الكلية والأحكام الجزئية فيما يشبه تعطل العقل المقلد عن إبداع صنيعة جديدة تتلاءم وروح الزمان والمكان.
وأخيراً أخلص إلى القول بأنّ مهمة الاجتهاد اليوم لم تعد محصورة في تتبع جزئيات المواقف التي درج عليها السلف من الفقهاء، وإنما بذل الجهد والسعة لتصيّد كليات المقاصد الشرعية لتكون الضابط الأعلى للأحكام الجزئية كي لا تتيه الجزئيات اللامتناهية عن كلياتها المحدودة والمستفادة بصورة أساسية من القرآن الكريم والسّنة النبوية الشريفة كمصدر مساعد.
المصدر: موقع تجمع علماء لبنان