ما بعد التقريب، قراءة في فقه التقريب وغاياته
ما بعد التقريب، قراءة في فقه التقريب وغاياته
محمد حبش
زادت صيحات التقريب بين المذاهب الإسلامية منذ مطلع هذا القرن، وإن كانت في الواقع لم تتوقف عبر التاريخ الإسلامي، منذ أن ابتليت هذه الأمة بداء الأمم في الفرقة والأهواء، كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: "لتتبعن سنة من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع".
وعلى الرغم مما تحقق من نشاط طيب في القريب، فإن الغايات التي أرادها الشرفاء من مؤسسي حركة التقريب لا تزال بعيدة المنال، ولا يزال العالم الإسلامي مغيّباً عن أداء دوره الحقيقي في العالم، بسبب عدم قيام شكل مقنع من أشكال الوحدة الإسلامية بين هذه الشعوب في العالم الإسلامي.
وإذا كانت الوحدة الإسلامية تتوقف من جهة قيامها على إرادة سياسية في المقام الأول، فإن هذه الإرادة السياسية تبدو عاجزة عن فعل أي شيء بدون قيام رجال الفكر والوعي والرسالة بدورهم في التقريب والوحدة، وإزالة الحواجز النفسية والفكرية التاريخية بين المسلمين.
ولقد ابتلي المسلمون في العصر الحاضر بأربع إثنيات قاصمة، جعلت وحدتهم تشهد تأزماً، وتحتم على الشرفاء أن يتعاونوا لرفع هذه الأسباب من الفرقة، فقد انقسم العالم الإسلامي أولاً على سنة وشيعة، ثم انقسم على صوفية وسلفية، ثم انقسم إلى ظاهرية ومؤولة – وهو الخلاف الذي يتخذ اليوم شكلاً حاداً على هيئة نزاع أشعري تيمي، ثم انقسم مرة رابعة إلى أصوليين وعلمانيين.
إن قراءة العالم الإسلامي من خلال هذه الإثنيات الأربعة، واستعراض مواقف أهل التعصب في كل طرف من هذه الإثنيات، يكشف عن واقع الفرقة المخيف الذي يمكن أن ينجر إليه العالم الإسلامي إذا تقاعس عن أداء دوره في التقريب والوحدة.
نحن هنا بالطبع شريحة منتخبة من شرائح الوحدة، ولا شك أن صيغ التسامح والوحدة والتقريب تسكن نفوسنا، ولولا ذلك لم نجتمع في هذه الساعة، ولكن علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فهذه الروح المتسامحة غائبة في كثير من البلدان الإسلامية، وهناك كثيرون من أصحاب النفوذ الذين ينفخون في كير البغضاء والفرقة والحقد.
قبل شهور قدمت إحدى القنوات الفضائية برنامجاً مطولاً عن بلد إسلامي عزيز وكبير وهو باكستان، واستعرضت فيه كعادتها صور التعصب والبغضاء التي تتأسس في تلك البلاد الإسلامية، فقد اتخذ الصراع السني الشيعي ثمة بعداً آخر، غير البعد الفكري والتاريخي المألوف، وتحول إلى واقع سياسي وعسكري، واجتمعت جهود أهل التعصب من السنة على تأسيس ما يسمى (جيش الصحابة) فيما اتجهت جهود أهل التعصب من الشيعة على تأسيس (جيش محمد).
وفي الواقع فإن كل جيش من هذين الجيشين يحتوي أحقاد متبادلة ومسدسات وخناجر وسكاكين وقنابل موجهة فقط إلى صدور المسلمين.
إنني أدق هنا ناقوس الخطر، ومع ثقتي برجال التقريب والتسامح في باكستان، ولكني أعتقد أن بلداً كباكستان إذا اشتعل طائفياً فليس في إمكان أحد أن يوقف هذه المذبحة، ثمة مائة وعشرون مليون سني ونحو أربعين مليون شيعي، والأرقام نفسها تتكرر تقريباً في الهند وبنغلادش، وكير البغضاء الذي ينفخ فيه أهل التعصب يمكن أن يحرق المنطقة بأكملها.
وفي لقاء مباشر مع رئيس (جيش الصحابة) ورئيس (جيش محمد) لم يتردد كل منهما من إطلاق صفة الكفر والردة على أتباع المذهب الآخر، وهي دعوة كافية لهدر الدم والمال والعرض للفئتين جميعاً.
وبالفعل فقد قام بعض المتحمسين من كل فرقة، بوضع (القنابل) في مساجد الفرقة الأخرى في الصلوات الجامعة (تقرباً إلى الله تعالى) وأريقت دماء زاكية بريئة، {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
ومع أنني لا أشك أن كلاً من الجيشين يمول أمريكياً، فإن ذلك لا يقلل من رسالة رجال الدعوة والبلاغ والتسامح في تحقيق التقريب المنشود، الذي يمكنه – وحده – أن يقضي عل بؤر صراع وتوتر كهذه.
لقد فقدت لبنان واحداً من رجالها وهو الشيخ نزار الحلبي على خلفية صراع ظاهري تأويلي، ولم يتردد القتلة عن التصريح بأنهم فعلوا ما فعلوه تطبيقاً لقناعاتهم في مسائل تأويل النصوص.
وفي غياب رجال كبار من قادة الفكر الإسلامي في لبنان كالمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد والشيخ صبحي الصالح واختفاء الإمام موسى الصدر، فإن دوافع الشقاق المذهبية لم تكن غائبة في هذه المآسي.
إن تعليل ما يجري بمؤامرات خارجية لا يحل المشكلة، ناهيك أنه لا يعكس واقعاً صحيحاً، بل يجب الاعتراف أن غياب رجال التسامح والتقريب هو الذي يفعل هذه المآسي.
بل إن سيد الشهداء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، استشهد على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم، ولم يتردد القاتل في أنه فعل ما فعل انتصاراً لرأيه ومذهبه، وغيرة على الدين، وهذا يفسر لنا إلى أي مدى يمكن أن يمضي التعصب المذهبي، في إشعال الفتنة، وغسل أدمغة الدهماء.
أيها الإخوة:
إن ما قدمته هنا من أشكال الخصام المذهبي الذي يتحول إلى فتنة حقيقية لا ينبغي أن يقود إلى اليأس، فثمة جانب آخر من المسألة يحمل في طواياه بوارق الإشراق.
فهذه الشريعة الجامعة جعلت بذور الوحدة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ونظرة واحدة إلى مناسك الحج الجامعة، تكشف كم ينضوي في ذلك الجمع الخالد من سنة وشيعة وصوفية وسلفية وأهل ظاهر وأهل تأويل وأصوليين وعلمانيين، يجتمعون على صعيد واحد وفي ميقات واحد، ولا بد أن نشير هنا إلى أن آخر ظواهر الفرقة في الحج قد زالت تماماً يوم أفتى الإمام الخميني بوجوب اتباع رأي أهل الحجاز في تحديد مواقيت الحج وقطع بذلك سبباً رئيساً كان يستغله أهل التعصب والجمود لفرقة المسلمين في المشاعر.
وهكذا فإن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، رصيد هائل للوحدة الإسلامية، حققه على الأرض صاحب الشريعة الغراء صلى الله عليه وآله وسلم ولا زلنا نعيش في ظله وفيئه وبركته.
وبين هذه الحقائق المتقابلة، فإن قيام الوحدة الإسلامية في المقاصد والسلوك، أمر ممكن المنال إذا تم تحقيقه على أسس علمية موضوعية.
وعلينا هنا أن لا نخلط بين تحقيق الوحدة الإسلامية، وبين إلغاء المدارس الاجتهادية الفكرية التي هي مصدر ثراء هذه الأمة في الفقه والتشريع وحرية الفكر.
إن البعض يتصور أن الوحدة الإسلامية لن تقوم إلا إذا ضربنا بمعاول الهدم جهود أئمة الفقه الإسلامي، وأعلنا البراءة من مذاهبهم وأحرقنا فكرهم واجتهادهم، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى ضياع الشريعة أكثر مما يؤدي إلى وحدة الأمة.
إن المذاهب الإسلامية حقيقة قائمة في هذا العالم الإسلامي، ولا نملك تجاهلها، وهي منذ قرون موجودة في كل بلد إسلامي، وليست محسومة جغرافيا، حتى إنه ليعسر القول بأن ثمة بلداً إسلامياً واحداً لا يوجد فيه اختلاف مذهبي، ولم يحصل أن عاش المسلمون قرناً واحداً بدون مذاهب، ومن هنا فإن ما يتصوره البعض من اتحاد المواقف الاجتهادية إزاء سائر القضايا الفرعية هو أمر لا وجود له في الزمان ولا في المكان في هذا العالم الإسلامي. وقد قامت تاريخياً عدة محاولات سياسية لفرض مذهب إسلامي واحد، باستخدام القوة، لعل أشهرها محاولة المعتزلة فرض آرائهم الاجتهادية عن طريق السلطة السياسية أيام المعتصم والواثق، ولكنها لم تؤد في النهاية إلا إلى إضافة الضغائن على الخلافات الاجتهادية التي كان ينبغي ألا تبرح ساحة الفكر.
إن ما نبحث عنه هنا ليس قراراً سياسياً يتبنى اتجاهاً محدداً في الفقه الإسلامي ويحظر ما سواه، بل إن ذلك سيؤدي إلى زيادة الفرقة والشتات، وهو موقف رفضه بشدة سائر الحكماء في التاريخ الإسلامي، ونستشهد هنا بالموقف الحكيم للإمام مالك بن أنس حين قدم للعالم الإسلامي كتابه النفيس (الموطأ) الذي نال استحسان الأمة، وأراده أبو جعفر المنصور منهجاً ملزماً للأمة في القضاء والاجتهاد والفتيا، ولكن الإمام مالك رفض ذلك بشدة، في موقف حضاري فريد، وقال: "يا أمير المؤمنين.. إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار فحدثوا، فعند كل أهل مصر حديث علموه، وكل مصيب".
وهكذا فقد أظهر الإمام مالك ترفعاً شريفاً عن اقتناص هذه الفرصة التي يتمناها كثيرون ليدخلوا بها التاريخ، ورسم ملامح الوحدة الإسلامية التي تفرق بوضوح بين المذهبية والتعصب المذهبي. المذهبية التي حفظت لنا كنوز الفقه العظيمة، وبين التعصب المذهبي الذي يحول دون انتفاع كل منا بأخيه، وهو التكامل المنشود بين حركة الاجتهاد ووحدة الجماعة.
وفي الختام.. فإنني أتوجه بالشكر للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وعلى رأسه سماحة الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني، وللإخوة العاملين في تجمع العلماء المسلمين في لبنان، على الجهود الكبيرة التي تم بذلها لإقامة هذا اللقاء، الذي صار بفضل الله معلماً بارزاً من معالم الوحدة الإسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(بحث قدم في أحد مؤتمرات تجمع علماء لبنان)
المصدر: موقع تجمع علماء لبنان