موقف الأنبياء من الليبرالية في القرآن الكريم
موقف الأنبياء من الليبرالية في القرآن الكريم
ربما يكون عنوان المقال صادماً للعديد من القراء ، إذ أن الليبرالية فلسفةٌ دخيلةٌ علي العالم الإسلاميّ ، ومفرداتها وجذورها الفكرية ونواتجها العملية من نواتج تعرض بلادنا للإحتلال الغربي والموجات المتتابعة من الإستشراق ، ثم الإستغراب – أو التغريب – بعد ذلك ، إلا أن الليبرالية لاتزال تشترك مع العديد من النسق الفلسفية القديمة في مبدأ هام للغاية ؛ ألا وهو (اعطاء سلطة تحديد الصواب والخطأ للبشر) وهذا المبدأ نابعٌ من اعتبار أن العقل البشري (قادر علي الاستدلال علي الحقائق المطلقة أو العليا).
يخبرنا الله تبارك وتعالي في القرآن الكريم عن العديد من المواقف التي حدثت في حضارات مختلفة والتي توضح لنا أن هذا
المبدأ كان موجوداً عند تلك الحضارات والثقافات ، بشكل أو بآخر ، وتذكرنا تلك الآيات – علي الرغم من غياب الكثير من التفاصيل – بأن الصراع دار دائماً بين الرسل والأنبياء من جهة و قومهم من جهة أخري عندما أصر هؤلاء القوم علي (الاحتفاظ) بتلك السلطة ورفضوا (التسليم) لله عزوجل وتصديق ما يخبر به أنبيائهم عن (الحقائق العليا) كما يبلغهم الوحي الإلهي المعصوم. أسعي في هذا المقال لاستعراض بعض هذه المواقف مع إدراج تفسير مختصر لها للربط بين الآيات ووضعها في سياق الموضوع ، وقد اعتمدت علي تفاسير الحافظ ابن كثير والقرطبي بشكل رئيسي بجانب تفسيريْ الألوسي و السعدي.
يخبرنا الحق تبارك وتعالي عند التعرض لقصة شعيب عليه السلام وقومه ، أهل مدين ، عن الحوار الذي دار بين النبي وبين قومه ، وقد أرسل الله عزوجل شعيب إلي قومه لأنهم ارتكبوا جملة من الأفعال التي لا يرضي عنها الله عزوجل ، فقد أشركوا بالله فنهاهم شعيب علي السلام عن ذلك (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هود-84 ، وظلموا الناس في شرائهم وبيعهم فنهاهم نبيهم عن ذلك أيضاً (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) هود-85 و قاموا بفرض المكوس علي المارّين من خلال أرضهم وبلادهم فبيّن لهم شعيب عليه السلام حرمة ذلك (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) هود-85 ، وقد قام شعيب عليه السلام ببيان الحق لهم وأنه نبيٌّ مرسلٌ من الله لتقويم ذلك المجتمع والقضاء علي تلك المفاسد فيه ، وما يهمنا هنا هو نظرة ذلك المجتمع ؛ مجتمع مدْين ، إلي الأفعال التي كانوا يفعلونها واستحقت نهي الله تبارك وتعالي لهم عنها وإرساله لشعيب عليه السلام لذلك الغرض ، فيخبرنا الله تبارك وتعالي بأن هؤلاء القوم (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) هود-87 ، فيقولون له علي سبيل التهكم (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة ، فهم في هذا الخطاب يتهكمون علي صلاته ويتساءلون باستنكار: “هل يمكن أن تكون هذه هي نتيجة صلاتك ؟ أنها تأمرك بأشياء مثل (أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) ؟” وهم بنسبة معبوداتهم الباطلة للآباء يعظمونها لأن الإنسان بطبيعته يحترم ويقدس ما كان يفعل آباءه وأجداده ، ويزيدون في استنكاره عليهم فيقولون (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) ولسان حالهم يقول : “هي أموالنا نحن وليست أموالك أنت ، فإذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه ؟!” وأتموا قولهم الباطل بالسخرية منه بقولهم (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وهو تعبير يراد به التعريض بالسب والاستهزاء كما قال المفسرون.
فالمبدأ الذي رجع إليه قوم شعيب في رفضهم لدعوة نبيهم هو نفس المبدأ الذي تقوم عليه الليبرالية: إذا تراضي المجتمع علي أمر ما ، فما الذي يعطي لأي أحد السلطة أن يلغي هذا الأمر أو حتي ينكره ؟! حتي وإن كان ذلك الإنكار مبلَّغاً عن الوحي المعصوم كما كان حال شعيب ، ويتجلي هذا المبدأ بوضوح شديد في قولهم – قبحهم الله – (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) ! فالتشابه بين قولهم وبين دعوي الليبراليين اليوم بتقنين زواج المسلمة من النصراني ، أو تقنين الشذوذ الجنسي أو تقنين الدعارة أو ما إلي ذلك تشابه واضح كالشمس ، لا يمكن أن يُخطأه عقل عاقل ولا فهم لبيب !
مشهدٌ آخرٌ نقف عنده في إنكار الله تبارك وتعالي علي من يظن في نفسه القدرة علي تحديد ماهية الصواب والخطأ والخير والشر بعيداً عن الوحي الإلهي المعصوم ، هو مشهد قوم لوط عليه السلام ، فلما فشا الشذوذ في أولئك القوم ، وانتشرت فيهم تلك الفاحشة الكبري ، أرسل الله تبارك وتعالي لهم نبياً وهو لوط عليه السلام فدعاهم إلي ترك تلك الفاحشة التي كانوا يستحلونها ولا ينكرونها فيما بينهم ، فكانت بمثابة الكفر العمليّ الفعليّ ، فقال لهم لوط عليه السلام (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) الأعراف 80-81 ، فأرسله الله تبارك وتعالي لقومه ، وهم أهل سدوم وما حولها من القري ، يدعوهم إلى الله عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور. وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل “سَدُوم” عليهم لعائن الله. فماذا كان رد قومه ؟ أو بمعني آخر ، كيف كان قومه يرون فعلهم لتلك الفاحشة فيما بينهم…؟
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) الأعراف-82 ، فهؤلاء القوم كانوا مقتنعين بما يفعلونه من الفواحش لدرجة أنهم رؤوا في (تطهر) لوط ومن آمن برسالته سبباً كافياً لنفيهم من بلادهم !!
وهذا يدل – إن دلّ علي شئ – علي درجة الاقتناع التي يمكن أن يصل إليها مجتمعٌ ما بشئ تعتبره الشريعة الإلهية من أكبر الفواحش ! وفي هذا جواب علي من يقول أن تحكيم الشريعة غير ضروريّ لأن الناس مؤمنون بطبعهم ومنفذون لأوامر الشريعة بفطرتهم ، فتلك الفطرة وهذه الطبيعة يمكن أن تفسد كما فسدت فطرة هؤلاء القوم إلي درجة اعتبارهم أن التطهر من الشذوذ سبباً موجباً للعقاب (القانوني) إن جاز التعبير ، وهو النفي من البلاد ! ويقول العلامة الألوسي في تفسيره تعليقاً علي هذا القول من قوم لوط : “ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد”. وهذا يزيد في الدلالة علي مدي تقبل المجتمع آنذاك لهذه الفاحشة الكبري ، وعلي هذا يدعو ليبراليو اليوم إلي التخلص من كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بدعوي أنه (عدو الحريات) و(رجعي) و(غير مؤمنٍ بالحداثة) و (غير مؤمنٍ بالمساواة الإنسانية) ، وغير ذلك من الألفاظ المستوردة مع معدات الليبرالية الحديثة القادمة من الغرب !
والقصص غير ذلك كثيرة في القرآن مما لايتسع المقام لحصره ، وكلها تُرينا كيف كانت العديد من الحضارات السابقة تعتز بما وضعته لنفسها من سلطةٍ (لتقرير الحق والباطل ، والخير والشر ، والصواب والخطأ بمعزلٍ وبتضاد مع الوحي الإلهيّ) ، ولكن الله تبارك وتعالي قد أنزل لنا آية محكمة لا يزيغ عنها المؤمن الموحد ، يقول تبارك وتعالي:
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف-157
والعبرة من هذه الآية في قوله تبارك وتعالي : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) فالمعروف والمنكر ، والطيبات والخبائث إنما تلك التي حددها الله تبارك وتعالي وفصلها وشرحها النبي صلي الله عليه وسلم ، وبالتالي فأي نظام اجتماعي يصيغه المسلمون ، وأي نظام سياسي يضعه المسلمون يجب أن يقرر تلك الحقيقة الثابتة : أن النظم الأخلاقية ومعايير الصواب والخطأ والخير والشر بالنسبة للفرد والمجتمع المسلم هي التي تحددها الشريعة الإسلامية وحدها ، وما يتعارض ويتضاد مع تلك النظم الأخلاقية والمعايير الربانية التي تعلمتها الأمة الإسلامية من نصوص الوحي المعصوم يجب أن يحاربها المجتمع بكل ما أوتي من قوة ، امتثالاً لأمرالله تبارك وتعالي : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران-104
المصدر: نشر هذا المقال في موقع المركز العربي للدراسات والأبحاث بتاريخ 05-07-2011