التسامح فى الإسلام

التسامح فى الإسلام

مقدمة : التسامح قيمة من القيم التى رسخها إسلامنا المجيد ، ورسختها شريعتنا الغالية . وبالتسامح تتعاضد الامة وتتكاتف وتتكامل وتتوحد . وبالتسامح تشق طريقها بين الامم ويعلى قدرها . التسامح والتساهل والتيسير والوسطية قيم حث عليها الاسلام ، فالقرآن الكريم ملئ بالآيات التى ترسخ هذه القيم ، والسنة النبوية الشريفة مليئة بالاحاديث التى تقعد هذه القيم ، وهى مليئة أيضا بالمواقف التى تبين كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متسامحا مع أهله ومع جيرانه ومع أصحابه ، بل مع أعدائه . وهى مليئة ايضا بالمواقف التى كانت لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى تدل على أنهم بلغوا أعلى درجات التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه القيم . والتاريخ ملئ بنظريات التسامح بين علماء أمتنا وأئمتهم العظام الذين ضربوا المثل والقدوة فى تطبيق قيم الاسلام وترسيخ معانيها بين الناس قولا وفعلا . ومن خلال هذه الدراسة نتعرف على هذه المعانى الجليلة التى هى سبيل الى وحدة الامة ونسأل الله عز وجل ان يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم . فى اللغة [1] : السماح والسماحة : الجود . ورجل سمح وامرأة سمحة . وسمح وأسمح اذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء . وسمح لى فلان أى أعطانى ، وسمح لى بذلك : وافقنى على المطلوب . والمسامحة : المساهلة . وتسامحوا : تساهلوا وسمح وتسمح : فعل شيئا فسهل فيه . وقولهم : الحنيفية السمحة : ليس فيها ضيق ولا شدة . القرآن والتسامح : يقول الله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) [ الحجرات / 13 ] فقد أخبر الله تعالى فى هذه الآية [2] أنه خلق الناس جميعا من نفس واحدة وهى آدم ، وجعل من هذه النفس زوجها حواء ، ثم جعل الله شعوبا ـ وهى بطون الاعاجم ـ وقبائل ـ وهى بطون العرب ـ فجميع الناس فى الشرف بالنسبة الطينية الى آدم وحواء عليهما السلام سواء ، وانما يتفاضلون بالامور الدينية ، وهى طاعة الله تعالى ومتابعة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم . وقد خلق الله الناس على هذه الصفة ليحصل التعارف بينهم ، وجعل الله التفاضل عنده سبحانه وتعالى بالتقوى لا بالاحساب ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم ” خياركم فى الجاهلية خياركم فى الاسلام اذا فقهوا ” [3] وقال ايضا : ” إن الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ” [4] وقال ايضا : ” كلكم بنو آدم وآدم من تراب … ” [5]
ويقول الله تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) [هود/118 ، 119] فلو شاء الله تعالى لاضطرهم الى ان يكونوا أهل أمة واحدة أى ملة واحدة ، وهى ملة الاسلام ، ولكنه سبحانه وتعالى مكنهم من الاختيار الذى هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق ، واختار بعضهم الباطل ، فاختلفوا لذلك ، إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم ، فاتفقوا على دين الحق [6] . ويقول الله تعالى : ( لا إكراه فى الدين ) [ البقرة / 256 ] فالله عز وجل لم يجعل الايمان الا قائما على الاختيار ، فقد أمر الله عز وجل ألا يكره أحد على الدخول فى الاسلام ، وقد قال العلماء : إنها نزلت فى قوم من الانصار ، إلا أن حكمها عام . فهذه آية عظيمة فى سماحة الاسلام ، اذ لا يدخله أحد الا باختياره ولا يجبر أحد على اعتناق الدين ، وهذا يدل على ان الاسلام دين يتعايش مع الآخرين ، ومع غير المسلمين ، ويدل على ان المسلمين مطالبون بأن يعيشوا مع غيرهم فى سماحة ، ودون ان تكون العقيدة عائقا للمعاملات والتصرفات بينهم وبين بعضهم . وقال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) [ الممتحنة /8 ] . فقد أمرنا الله عز وجل أن نبر بهؤلاء الذين يخالفوننا فى العقيدة ، ورخص لنا فى ان نصل من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين أو بإخراجهم من الديار . وقد قيل فى مناسبة هذه الآية أن أسماء بنت أبى بكر قدمت أمها قتيلة بنت عبد العزى عليها ، وهى مشركة بهدايا فلم تقبلها ، ولم تأذن لها فى الدخول ، فنزلت هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن اليها [7] . ويقول الله تعالى : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان …… ) [ المائدة / 5 ] فقد أحل الله عز وجل ذبائح أهل الكتاب ـ وهذا أمر مجمع عليه ـ وكذلك أحل الله عز وجل الزواج من الحرائر والعفائف من أهل الكتاب . وهذا يدل على أن القرآن الكريم أحل التعامل مع الغير حتى فى أدق الامور وأخصها ، فأباح الطعام ، ويدل هذا على الاختلاط بينهم ، لان الطعام لا يكون إلا فى البيوت عادة ، كما أباح الزواج ، وهذا يدل على الاختلاط فى بأدق معانيه ، والبر فى أحسن صوره . ويقول الله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) [ الانعام / 108 ] فبالرغم من أن سب آلهة المشركين فى ذاتها تعتبر طاعة ، الا أن القرآن نهى عن ذلك واعتبر ذلك معصية ، لانها تكون مفسدة فى هذه الصورة ، وذلك كالنهى عن المنكر فإنه طاعة ، بل من أجل الطاعات ، إلا أنه اذا علم أنه يؤدى الا زيادة الشر انقلب معصية ووجب النهى عنه [8] ويقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ) [ النساء / 94 ] وقد ورد عن ابن عباس : كان رجل فى غنيمة له فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله فى ذلك هذه الآية ، قال ابن عباس : عرض الدنيا تلك الغنيمة [9]. فقد أمرنا الله عز وجل أن نسلم من ألقى علينا السلام ، ولا نعتدى عليه ، فقد جعل الله تحية الإسلام السلام ، فلا ينبغى علينا أن نغض الطرف عن هذه التحية ، ونعادى من يلقيها علينا . ويقول الله تعالى : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون) [ الجاثية / 14 ] فانظر الى سماحة القرآن الكريم التى تتسع المعادى للدين الاسلامى فشملت الذين لا يرجون لقاء الله ولا يرجون الآخرة ، فهؤلاء طلب منا القرآن الكريم أن نسامحهم وأن نغفر لهم ، وأن نعفو عنهم ، ثم يكون الجزاء والحساب فى الآخرة . آيات العفو : ذكرت مادة ” العفو ” فى القرآن الكريم فى حوالى خمسة وثلاثين موضعا . والعفو صفة من صفات الله عز وجل ، فهو العفو الغفور . قال الله تعالى ( ولقد عفا الله عنهم ) [ آل عمران / 155 ] وقال الله تعالى ( عفا الله عما سلف ) [ المائدة / 95 ] وقال تعالى ( وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) [ الشورى / 25 ] وقد أمرنا الله عز وجل أن نحتذى هذه الصفة ، وأن يكون العفو سلوك المؤمن الصالح . فأمرنا أن نعفو وإن كنا نملك الجزاء . قال تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [ الشورى /40] فمن عفا عن من ظلمه وأصلح ما بينه وبين من عفا عنه فإن الله عز وجل يكافئه بالاجر . وجعل العفو أقرب شئ من التقوى ، وذلك فى مجال الزواج والطلاق ، قال تعالى ( إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ) [ البقرة / 237 ] فقد ذكر الله عز وجل فى بداية الآية ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) فيجب للمرأة اذا طلقت قبل المسيس أو الدخول النصف ، ويرجع النصف الآخر للمطلق ، ثم قال سبحانه وتعالى ( إلا أن يعفون ) أى لكن أن يتم العفو من الزوجات فيتركن للازواج هذا النصف ( أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح ) وهو الزوج فيترك كل المهر ، ثم قرر أن العفو أقرب للتقوى . فندب الى العفو من الجانبين الزوج والزوجة . هنا يجعل الله العفو والتسامح أساسا فى معاملة كل واحد مع الآخر وان كان بينهما ما بينهما من شقاق . وحثنا على العفو عن السوء وندب اليه : فقال تعالى ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ) [النساء/ 149 ] وهنا يتحدث القرآن الكريم عن إظهار الخير أو إخفائه ـ بأن يعمل سرا ـ أو العفو عن الظلم كل ذلك سبب لعفو الله ومغفرته . وندب ايضا الى العفو : فقال تعالى ( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ) [ التغابن / 14 ] وقال تعالى ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) [النور/22] ففى الآية الاولى يطلب منا الله عز وجل ان نعفو عن الازواج والاولاد فى تثبيطهم إيانا عن الجهاد والهجرة فى سبيل الله معتلين بمشقة الفراق . والآية الثانية نزلت فى أبى بكر فقد حلف ألا ينفق على مسطح وهو ابن خالته ، وكان مسكينا مهاجرا لما خاض فى الإفك وناس من الصحابة أقسموا الا يتصدقوا على من تكلم بشئ من الإفك ، فأمرهم الله بالعفو حتى يكون ذلك سببا للغفران . وحث على العفو بكظم الغيظ ، فقال تعالى ( الذين ينفقون فى السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) [ آل عمران / 134 ] فيتحدث القرآن عن الذين ينفقون فى طاعة الله فى اليسر والعسر ، ويكظمون غيظهم مع قدرتهم ، ويعفون عن من ظلمهم ويتركون عقوبتهم ، فإن هذه الافعال سبب للاثابة والمغفرة ، ويكون الاحسان بهذه الافعال . وقد أوصى القرآن الكريم بأن ندفع ونرد ونجازى السيئة بالحسنة ووعد الله عز وجل بأن من فعل ذلك كان له عاقبة محمودة . فقال تعالى ( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ) [ الرعد / 22 ] وقال تعالى ( ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصنعون ) [ المؤمنون / 96 ] وقال تعالى : ( وعبار الرحمن الذين يمشون على الارض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ الفرقان / 63 ] فأمرنا أن نسالم السفهاء والطائشون . وقال تعالى : ( … ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ) [فصلت / 34 ] فبين لنا الله سبحانه وتعالى ان دفع السيئة بالحسنة بلا قسوة ولا غلظة ، يجعل بينك وبين من كانت عداوته ظاهرة ، كأنه صديق قريب مهتم بأمرك وشئونك . وقد أمرنا القرآن الكريم بالاحسان فى عدة آيات : فقال تعالى : ( …. وقولوا للناس حسنا … ) [ البقرة / 83 ] أى قولوا للناس قولا حسنا . وقال تعالى ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون ) [ البقرة / 112 ] فبين سبحانه وتعالى ان الاحسان بعد إخلاص النفس لله تعالى وحده بالعبادة له الأجر الذى لا يخشى بعده خوف ولا حزن . وقال تعالى : ( وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [ البقرة / 195 ] فأمر تعالى بعد الانفاق فى سبيل الله ، والبعد عما يؤدى الى الاهلاك ، وهو ترك الجهاد وطلب بعد ذلك الاحسان . وقال تعالى : ( فأثابهم بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) [ المائدة /85 ] . فجعل الله جزاء هؤلاء المحسنين الجنة بأنهارها وخلودها . وقال تعالى : ( ….. ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم / 31 ] وقال تعالى ( وهل جزاء الاحسان الا الاحسان ) [ الرحمن / 6 ] وقال تعالى : ( … إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الاعراف / 56 ] فقرر سبحانه وتعالى ان الرحمة قريبة من هؤلاء الذين أحسنوا فى حياتهم . وقرر القرآن ان المحسنين لا يضيع أجرهم أبدا فقال تعالى : ( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) [ هود / 115 ] وقال تعالى ( إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ) [ الكهف / 30 ] ووعد الله المحسنين بالبشرى ، فقال تعالى : ( وبشر المحسنين ) [ الحج / 37 ] وقرر القرآن معية الله للمحسنين ، فقال تعالى : ( وإن الله لمع المحسنين ) [العنكبوت/69] وقد أمرنا القرآن الكريم أن نجادل الذين يخالفوننا فى العقيدة بالتى هى أحسن ، فقال تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن ) [ العنكبوت / 46 ] فما بالك بمجادلة من يوافقوننا فى العقيدة والتوحيد والاصول . السنة والتسامح : فى الكتب الصحيحة أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأمر بالتسامح والتساهل فى أمور الحياة كلها ، كما أن فى سيرته صلى الله عليه وسلم مواقف عظيمة لهذ التسامح مع غيره . أما الأحاديث : فعــن ابن عــباس رضــى الله عــنه أنه قال قــال رســول الله صلى الله عليه وسلم ” اسمح يسمح لك ” [10] قال الاصمعى : معناه سهل يسهل لك وعليك . فهو أمر عام بالسماحة والتسامح والتساهل فى كافة الامور ، فإذا سهل الانسان فى تصرفاته ومعاملاته سهل الله عليه وسهل الله له حياته وطريقه فى الدنيا والاخرة ، فما أعظم أن يقف الانسان بجوار أخيه لفك كربته أو لمساعدته أو لتسهيل أمر من الامور عليه ، فإن ذلك مدعاة لتسهيل الله عز وجل له فى الدنيا ومجازاة الله له على هذا العمل فى الآخرة . هكذا التسامح فى الاسلام . وعن أبى أمامة الباهلى قال قال النبى صلى الله عليه وسلم : ” إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكنى بعثت بالحنيفية السمحة ” [11]
وعن ابن عباس قال قيل لرسول الله أى الاديان أحب الى الله ، قال ” الحنيفية السمحة ” [12] وعن عاشئة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لتعلم يهود أن فى ديننا فسحة إنى أرسلت بحنيفية سمحة ” [13] وقال ايضا صلى الله عليه وسلم : ” أحب الدين الى الله الحنيفية السمحة ” [14] وفى هذه الاحاديث كلها يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين الاسلامى بأنه دين الحنيفية السمحة ، دين السماحة ، دين التساهل ، دين اليسر ، دين الوسطية ، دين الفسحة التى لا توجد فى غيره من الاديان . فأحب الدين الى الله هذا الدين الذى هو مبنى على السماحة والتسامح . وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلخص الدين كله فى هذه الكلمة ” السماحة ” وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول : إن كل ما فى هذا الدين قائم على التسامح والتساهل . وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول : إن عصب هذا الدين هو السماحة . وكأنه يقول صلى الله عليه وسلم إن أوامر هذا الدين سمحة . فالحديث الذى روته عائشة ، والذى فيه قوله صلى الله عليه وسلم ” لتعلم يهود أن فى ديننا فسحة ” كانت مناسبته أنه كانت جاريتان تلعبان وتضربان وتغنيان فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يوم عيد ، فدخل أبو بكر ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه ـ وقال : أمزمور الشيطان فى بيت رسول الله ـ قالها ثلاثا ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ” ثم قال : ” ليعلم يهود أن فى ديننا فسحة …. ” .
وفى حديث طويل عن الشفاعة ، عن أبى بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ………… ثم يقول الله عز وجل انظروا فى النار هل تلقون من أحد عمل خيرا قط . قال فيجدون فى النار رجلا فيقول له هل عملت خيرا قط ، فيقول لا غير أنى كنت أسامح الناس فى البيع والشراء ، فيقول الله عز وجل : ” أسمحوا لعبدى كإسماحه إلى عبيدى وأكثر …………. ” [15] وهذا الحديث يبين الشفاعة ، وكيف ان من عمل خيرا ، فإنه ينال من هذه الشفاعة ، وهذا الرجل الذى خرج من النار لم يعمل خيرا قط فى الدنيا إلا أنه كان متصفا بصفة عظيمة وهى السماحة ، كان يسامح الناس بيعا وشراء ، كان يسامح الناس فى تعامله معهم ، فكان ذلك سببا فى خروجه من النار ودخوله الجنة ، ونيله الشفاعة . فقد يسر الله عليه وسهل عليه ، لانه يسر وسهل مع عبيد الله ، وتيسير الله أعظم وأجل ، فهو سبحانه وتعالى يكافئ بالاحسن . وهذا ينقلنا الى حديث آخر يوضح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المساحة فى المعاملات . فعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى ” [16] وهنا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم الى السماحة فى البيع والى السماحة فى الشراء والى السماحة فى القضاء والاقتضاء ، ففى كل المعاملات يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم الى السماحة التى هى صراط الى الجنة ، كما ظهر فى الحديث السابق عن الشفاعة . فرحمة الله تنال هؤلاء المسامحين المتساهلين ، وغفران الله ينال هؤلاء المؤمنين الذين اتصفوا بالتساهل واليسر والجود . وهذا ينقلنا الى حديث آخر عن الزهرى قال : مر النبى صلى الله عليه وسلم على أعرابى يبيع شيئا فقال : ” عليك بأول سوم أو أول السوم فإن الأرباح مع السماح ” [17] فأمره ان يتسامح وان يبيع مع أول من يطلب منه الشراء ، ويبين له ان ذلك هو السماح ، لان من يؤخر وينتظر السوم الثانى والثالث والعاشر ، فإنه غير مسامح . إنما ينتظر الاعلى ثمنا والاكثر ربحا فى نظره ، فيبين له أن الربح الحقيقى مع الاول ، وليس هذا ـ فيما أظن ـ قاصرا على الربح فى الدنيا ، وإن كان يشمله ولكن الربح فى الآخرة ، وما أجدر أن يسعى الانسان فى معاملاته الى السماحة لينال الربح الحقيقى المؤجل الذى يسعى اليه كل راشد . وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يوصى به الامة بالوصية بالقبط . فعن عبد الرحمن بن شماسة المهدى قال سمعت أبا ذر رضى الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنكم ستفتحون ارضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لهم ذمة ورحما ….. ” [18] وروى أيضا عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما ” وهذا يدل دلالة لا ريب فيها على سماحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمره بالتسامح مع غير المسلم ، فقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلب المسلمون الوصية من أنفسهم بإتيان أهلها خيرا ، وأن نقبل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم اذا دخلنا مصر وأن نحسن إليهم ونقابلهم بالعفو . ويخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا الولاة والحكام بهذه المساحة فهم على رأس من يفتح البلاد . وقد تعددت مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم فى التسامح وكثرت ، وقد ضرب للمسلمين بهذه المواقف الاسوة والقدوة التى تحتذى فى هذه الحياة الدنيا . · فقد استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران فى المسجد واستضافهم ، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم متسامحا ومتساهلا فى عرض الاسلام على غيره ، وترحيبه بالناس أيما ترحيب . وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية غير المسلم ، فقبل هدية المقوقس له . وعن جابر أن راهبا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبة [19] . وقد كان من مواقفه صلى الله عليه وسلم التى تدل على تسامحه وتيسيره ، معاملته للاعرابى الذى بال فى المسجد وهم الناس أن يقعوا به ويثوروا عليه ، فقد ورد عن أبى هريرة أن أعرابيا بال فى المسجد ، فثار اليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ” دعوه ، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ـ أو سجلا من ماء ـ فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ” [20] وفى بعض الروايات ” لا تزرموه ” أى لا تقطعوا عليه بوله . فانظر كيف كان تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الاعرابى الذى بال فى مكان العبارة ، فلوثه ونجسه ، وانظر الى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يقطعوا عليه بوله ونهيه أن يثوروا عليه ، أو أن يقعوا به ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلاج ما حصل بأن أمر بتطهير المكان بالماء . وانظر الى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ” فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ” فأمرهم بالتيسير والتسامح والعفو . وخاطبهم بقوله ” بعثتم ” مع أنهم لم يبعثوا ، وإنما أراد أن يعلمهم التيسير فى التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له غلام يهودى يخدمه ، وعندما مرض قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده . فعن أنس قال كان غلام يهودى يخدم النبى صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له ” أسلم ” . فنظر الى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم . فأسلم ، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول ” الحمد الله الذى أنقذه من النار ” [21] لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بسماحته حريصا على أن يعود المريض ويزوره ، حتى لو كان المريض يخالفه فى العقيدة ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على أن ينقذ الناس لا من شرور وآلام الدنيا فحسب ، وإنما من نار الآخرة ، فما أعظم هذا النبى صلى الله عليه وسلم . وقد تعددت مواقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التسامح وكثرت ، اقتداء بخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وامتثالا لأوامر هذا الدين الذى يمثل الوسطية والاعتدال . فعن محرز بن قيس بن السائب أن عبد الله بن عمرو أمر بشاة فذبحت فقال لقيمه : هل أهديت لجارنا اليهودى شيئا ؟ فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ” [22] هكذا فهم الصحابى أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتسى بسلوكه ، فكان تسامحه حتى مع اليهودى الذى يعيش فى دار الاسلام ، فكانت العلاقة الطيبة القائمة على البر والتسامح . ومن مواقف الصحابة التى تدل على التسامح أنه مر أمير المؤمنين عمر بشيخ كبير من أهل الذمة يقف على الابواب يسأل الناس ، فقال له : ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك المال فى شبيبتك وضيعناك فى شيبك ، ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه . فهو موقف عظيم يدل على ان الاسلام يراعى مصالح الناس جميعا ، لا مصالح المسلمين فحسب ، فهو دين أصحابه يقفون بجوار من يحتاج ، بغض النظر عن عقيدته . ومن المواقف ايضا انه اشتكت امرأة قبطية عمر رضى الله عنه من عمرو بن العاص رضى الله عنه ، والذى ضم بيتها الى المسجد ، فأرسل اليه عمر ، وسأله عن ذلك ، فقال : إن المسجد ضاق بالمسلمين ، ولم أجد بدا من ضم بعض البيوت والدور المحيطة بالمسجد ، وعرضت على هذه المرأة ثمنا باهظا لأسترضيها وأشترى منها بيتها ، فأبت أن تأخذه ، فادخرته لها فى بيت المال ، وانتزعت ملكيتها مراعاة للمصحلة ، فأمر عمر أن يهدم هذا الجزء من المسجد ، وأن يعاد بناء البيت كما كان لصاحبته .
هكذا يكون العدل بين المسلمين وبين غيرهم ، وهكذا يطبق الصحابة هذا المنهج ويصححون الأوضاع لما هو أفضل وأحق ، فالعدل هو الغاية والتسامح وسيلة الى هذا العدل . ومن مواقف التسامح لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لما فتحوا البلاد وأقاموا حكم الاسلام ، وأقاموا العدل فى هذه البلاد لم يهدموا الكنائس التى كانت فى هذه البلاد ، وإنما تركوها مراعاة لحرية العقيدة . فعندما دخل عمرو بن العاص مصر فاتحا ، ودافع عن أهل مصر من ظلم الرومان الذين قتلوا وسفكوا دماء القبط وظلموهم ، فإن عمرو لم يأمر بهدم الكنائس ، وإنما تركها حرية لعقيدة أصحابها ، فلا إكراه فى الدين ، والدليل على ذلك هذه الكنائس القديمة التى ما زالت موجودة حتى الآن . ومن مواقف الصحابة أيضا قصة الرجل الذى سابق نجل عمرو بن العاص ، فلما سبقه غضب ولطمه أو جلده ، وقال له أنا ابن الأكرمين ، فلما اشتكى هذا الشاب الى عمر بن الخطاب استدعى عمر بن الخطاب رضى الله عنه الرجل وابن عمرو بن العاص وعمرو بن العاص واستمع الى كل ، ولما عرف الحق أمر الرجل أن يضرب الرجل ابن عمرو بن العاص ، كما ضربه وبذلك تحقق العدل . وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” . ومن المواقف العظيمة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التسامح هو أنه رغم اختلافهم [23] فى الفروع والامور الفقهية ، بعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الاعلى ، إلا أن هذا الاختلاف لم يفرق وحدتهم ، ولم يحملهم هذا الاختلاف على البغض والكره ، وانما كانوا متحابين أمة واحدة ، بل كانوا إذا سئل أحدهم عن أمر أحال الاجابة والفتوى الى غيره . وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حروبهم لا يقتلون شيخا كبيرا ، ولا امرأة ، ولا وليدا ، ولا راهبا ، ولا يقطعون شجرة …. فعن صالح بن كيسان قال : لما بعث أبو بكر يزيد بن أبى سفيان الى الشام على ربع من الأرباع خرج أبو بكر معه يوصيه ويزيد راكب وأبو بكر يمشى فقال يزيد : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تركب وإما أن أنزل فقال : ما أنت بنازل وما أنا براكب ، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله . يا يزيد إنكم ستقدمون بلادا تؤتون فيها بأصناف من الطعام فسموا الله على أولها واحمدوه على آخرها ، وإنكم ستجدون أقواما قد حبسوا أنفسهم فى هذه الصوامع فاتركوهم وما حبسوا على أنفسهم ، وستجدون أقواما قد اتخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعد فاضربوا تلك الاعناق ، ولا تقتلوا كبيرا هرما ولا امرأة ولا وليدا ولا تخربوا عمرانا ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ، ولا تغدر ولا تمثل ولا تجبن ولا تغلل ، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز ، أستودعك الله وأقرئك السلام ، ثم انصرف [24] . وقد تعددت مواقف العلماء فى التسامح وكثرت ايضا ، اقتداء بمورثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالعلماء ورثة الانبياء ، واقتداء بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم المصابيح التى يقتدى بها فى الطريق الى الجنة . هؤلاء العلماء والأئمة بالرغم من اختلافهم فى الاحكام الشرعية والقضايا الفقهية نتيجة لاختلافهم فى مناهج البحث وطرقه أو نتيجة للاخذ بالقياس والاجماع ، أو نتيجة لاختلافهم حول دلالات الالفاظ والاساليب الواردة فى القرآن والسنة ، من العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والالفاظ المشتركة ، أو نتيجة للنظر الى أدلة الاحكام ، فهى ليست فى درجة واحدة من ناحية الثبوت ، فهناك القطعى والظنى ، ومن ناحية الدلالة ، فهناك القطعى والظنى أيضا .. أو غير ذلك . فبالرغم من اختلافهم هذا ، الا انهم كانوا يحترمون بعضهم ، ويوقرون بعضهم ، وكل منهم يقر الحق لاهله ، بل يمدح بعضهم بعضا فى أحيان كثيرة . فالإمام أبو حنيفة كان يقول : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق . وقد جاء فى المناقب للموفق المكى أن أبا جعفر المنصور قال : ” يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فيهئ له من المسائل الشداد ، فهيأ له أربعين مسألة ، وإن أبا حنيفة يقول عندما دخل على أبى جعفر وهو بالحيرة : أتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلتنى من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلنى لأبى جعفر المنصور ـ أى أمير المؤمنين ـ فسلمت عليه وأومأ فجلست ، ثم التفت إليه ، فقال : يا أبا حنيفة ألق على أبى عبد الله من مسائلك ، فجعلت ألق عليه فيجيبنى ، فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا ، وربما تابعتم ، وربما خالفنا ، حتى أتيت على الاربعين مسألة ، ثم قال أبو حنيفة : إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس . وقال أبو حنيفة فى زيد : شاهدت زيد بن على كما شاهدت أهله ، فما رأيت فى زمانه أفقه منه ، ولا أعلم ولا أسرع جوابا ، ولا أبين قولا ، لقد كان منقطع القرين .
وكان مالك يقول فى جعفر الصادق : ” ما رأيت جعفر بن محمد إلا صائما أو مصليا أو تاليا للقرآن ” . وقال الشافعى فى أبى حنيفة : الناس كلهم عيال على أبى حنيفة فى الفقه . وقال فى مقاتل : الناس كلهم عيال على مقاتل بن سليمان فى التفسير ” ومقاتل بن سليمان شيعى زيدى . وقال أحمد ابن حنبل فى الشافعى : الشافعى فيلسوف فى أربعة أشياء فى اللغة واختلاف الناس والمعانى والفقه . وكان هؤلاء العلماء يقرون بأن رأيهم هو أقصى ما وصلوا اليه من صواب ، وقد يكون الصواب فى جانب غيرهم ، ومن السهولة أن يرجع عن رأيه اذا وجد دليل المخالف واضحا لديه وجليا ، فلم يكن غرضهم الهوى ، وإنما الوصول الى الحق . لم يكن فى سلوكهم هذا التكفير للغير والتبديع الذى نجده فى أيامنا هذه ، والذى هو دليل على قلة العلم والأدب ، فالكفر شئ عظيم لا ينبغى أن يبادر الانسان إلى إطلاقه على المؤمن أو المسلم ، إلا اذا فعل أوقال ما يوجب ردته وتفكيره ، أما اذا تكلم بكلام يحتمل غير ذلك ، فلا ينبغى أن يطلق عليه الكفر ، حتى ولوكان هذا الاحتمال فى غاية البعد . فإنه لا يخرج الرجل من الايمان إلا جحد ما أدخله فيه ، وهذه الامور لابد فيها من اليقين ، ومناط الكفر هو التكذيب أو الاستخفاف بالدين ، والمراد بالتكذيب أن يكذب ما كان معلوما من الدين بالضرورة . فهؤلاء العلماء والائمة ضربوا المثل فى التسامح . وقد روى عن على زين العابدين ، وعن رحمته وسماحته أن جارية كانت تحمل الابريق ، وتسكب منه الماء ليتوضأ ، فوقع على وجهه وشجه ، فرفع رأسه إليها لائما ، فقالت الجارية له : إن الله تعالى يقول : ( والكاظمين الغيظ ) فقال : كظمت غيظى ، فقالت : (والعافين عن الناس ) ، فقال : عفا الله عنك ، فقالت : ( والله يحب المحسنين ) ، قال : أنت حرة لوجه الله تعالى . هكذا كان التسامح مع الغير فى سلوك هؤلاء الائمة الاعلام ، وآل بيت الله الكرام . حكى أن أبا يوسف ـ رحمه الله ـ صاحب أبى حنيفة . وكان قاضيا قال فى مناجاته عند موته : اللهم إن كنت تعلم أنى ما تركت العدل بين الخصمين إلا فى حادثة واحدة فاغفرها لى ، قيل له : ما تلك الحادثة ، قال : ادعى نصرانى على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكننى أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ، ولكنى رفعت النصرانى الى جانب البساط بقدر ما أمكننى ، ثم سمعت الخصومة قبل أن أسوى بينهما فى المجلس ، فهذا كان جورى . فانظر كيف كان هذا الامام العالم العامل يعتبر أنه جار فى الحكم وظلم وتعدى حقوق الله لانه سمع مقالة الخصمين قبل أن يسوى بينهما أمامه . فالقاضى مأمور بأن يسوى بين الخصمين فى المعاملة والمجلس معا مهما كانت منزلة أحدهما ، فقد كان أحدهما الخليفة وهو أكبر سلطة على وجه الارض آنذاك ، وأما الآخر فكان رجلا من عامة الناس ، وبالاضافة الى ذلك لم يمنعه اختلاف عقيدته عن عقيدة القاضى أن يحاول التسوية بينهما فى الحكم ، وبالرغم من أنه سوى بينهما بقدر استطاعته ، فرفع النصرانى الى جانب البساط بقدر ما أمكنه إلا انه كان يعتبر ذلك ظلما وجورا لانه لم يرفعه الى سرير عرش الخليفة ، أو ينزل الخليفة عن مكانه الى بلاط الخلافة ، فكان حقا عليه ألا يسمع الخصومة الا بعد أن يفعل ذلك . إن هذا القاضى نموذج يحتذى فى العدل ومعاملة أهل الكتاب . إن التسامح سلوك حث عليه ديننا وحثت عليه شرعيتنا ، وأجدر بنا أن نتأسى بهذا السلوك . المؤسسات ودورها فى ترسيخ مفهوم التسامح : أما المؤسسات الدينية والمساجد والعلماء فإن لهم دورا عظيما وكبيرا فى بث روح التسامح فى المجتمع الاسلامى ، فالمسملون عادة ما يستجيبون للعلماء والدعاة ، ويتأثرون بمن يدعون الى الله عز وجل ويوقرونهم . ولذلك كان العبأ كبيرا وصعبا على هؤلاء العلماء والدعاة فى المساجد ، وفى الأزهر كمؤسسة تعليمية ، وفى كل مكان فى الارض . عليهم أن يبثوا روح التسامح نظريا ـ بأن يعلموا الناس الدين الصحيح الوسطى المبنى على هذه القيم وأوامره وتاريخه ـ وتطبيقيا ـ بأن يسلكوا قيم التسامح فى معاملاتهم ، حتى لا يكون قولهم مناقضا لفعلهم ـ . عليهم أن يبينوا للناس ويعلموهم هذه القيم التى تدعو الى الترابط والتلاحم والوحدة ، لا إلى التفريق والتفتت ، فعدونا يتربص لنا . عليهم أن يبثوا فى الناس روح احترام الرأى الآخر ، ومناقشته ، لا روح التكفير والتبديع والتفسيق لمن يخالفهم فى الرأى والاجتهاد . وأما الإعلام : فإنه بكل وسائله مؤثر فى الناس بدرجة قد تكون أكبر من أى مؤسسة أخرى . ولو وظف الاعلام فى نشر الفضائل والقيم وتعليم الناس لوصل الى نتائج غير متوقعة ، فقد أصبح التلفاز فى كل بيت وفى القرى والحضر . ونحن فى حاجة الى الاعلام ليبث قيم التسامح بين الناس فى برامجه وفى مسلسلاته ، لا قيم التناحر والتشاجر والتذبذب ، فالاعلام قادر على ان يصل بالناس فى وقت قصير الى نتائج لو بذلتها مؤسسات أخرى لكان تأثيرها ضئيلا . وقد نجح اليهود فى أن يغيروا الحقائق بالاعلام ، وأصبح الناس فى العالم يبكون على الهيكل وعلى انتهاك حقوق اليهود ، أكثر مما يبكون على الفلسطينيين والمسلمين والاقصى . فقد صور الاعلام اليهودى فى العالم اليهود على أنهم مظلومون . ونجح الامريكان فى أن يسخروا الاعلام لاقناع الناس بأن الاسلام دين الارهاب . فهل ننجح نحن فى ان نقدم صور القيم الاسلامية المتنوعة للعالم أم أننا سنكون مقلدين فنعمل مثل عملهم ؟ وأما المؤسسات التعليمية : بما فيها المدارس والجامعات فإن لها دورا كبيرا فى نشر قيم الاسلام عامة وقيم التسامح خاصة . فالتلميذ يتعلم من معلمه ويتأثر به ، ويعلم أن هذه المؤسسة ـ المدرسة أو الجامعة ـ هى التى تقدم له المفاهيم الصحيحة البعيدة عن الغلو والتطرف والبعيدة عن الخيال والبعيدة عن الجهل . التلميذ يعلم أن هذه المؤسسة هى التى تقول الكلمة النهائية والفكر الوسطى ، لانه منهج قد وضع من قبل مفكرى الامة وعلمائها ، فهو يطمئن الى انه بين يدى فكر صحيح ورؤية ناضجة ، ولذلك كان لهذه المؤسسات دور عظيم فى ترسيخ هذه القيم ، سواء فى مناهجهم ، أو فى السلوك ،فالتربية لها نفس الاهمية التى للتعليم ، بل إن التربية أهميتها أكبر وأجل . وبالتعليم والتربية والاهتمام بالمدارس والجامعة وصلت أوربا وألمانيا واليابان وأمريكا الى أعلى درجات التقدم العلمى ، فالبداية كانت من المدرسة ليكون لهم هذا الشأن . وقد كانت الامة الاسلامية فى وقت من الاوقات من أفضل الامم فى هذه العلوم ، بل هى أفضل الامم حينئذ ، ولكنا تراجعنا ولم نعط لهذه المؤسسات التعليمية اهتماما ، ولم نلق لهذه الامور بالا ، فوصلنا الى ما وصلنا اليه . إن الرجوع الى الاهتمام بمؤسساتنا التعليمية هو الغرض الذى ننشده والذى ينشده كل من يحمل فى قلبه أملا لهذه الامة . e]] لسان العرب لابن منظور : مادة سمح [2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، جـ 4 ، ص ص 333-335 [3] أخرجه البخارى عن أبى هريرة [4] أخرجه البزار فى مسنده عن حذيفة . [5] أخرجه مسلم عن أبى هريرة . [6] الكشاف للزمخشرى : جـ 2 ، ص 268 [7] السابق : جـ 4 ، ص 92 [8] السابق : جـ 2 ، ص 43 [9] تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير : جـ 1 ، ص 817 [10] أخرجه أحمد [11] أخرجه احمد [12] أخرجه أحمد [13] أخرجه أحمد [14] أخرجه البخارى [15] أخرجه أحمد [16] أخرجه ابن ماجه . [17] أخرجه البيهقى [18] أخرجه البيهقى [19] أخرجه أحمد [20] أخرجه البخارى [21] أخرجه البخارى [22] مسند الحميدى [23] اختلف الصحابة فى أمور كثيرة وأحكام متعددة ، منها اختلافهم فى المفقود ماذا تفعل امرأته ؟ ومنها اختلافهم فى حجب الجد للأخوة كالآب ، ومنها اختلافهم فى وقوع طلاق السكران … .الى غير ذلك [ ارجع الى : الخلاف المذهبى ونشأته : جواد رياض ] [24] أخرجه البيهقى

المصدر: http://zaionews.com/?p=5064

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك