الإعلام ما بين حق الحرية وانتهاك الخصوصية

الإعلام ما بين حق الحرية وانتهاك الخصوصية
الأستاذ علي جعفر الشريمي * - 10 / 6 / 2011م - 10:37 م

"حق المطاردة" هو حق من الحقوق المتناسلة كلاسيكياً من "حقوق الإنسان"، والمنصوص عليها في القوانين الوضعية، ولكن هنا وفي هذا السياق ليس مقصودي من "حق المطاردة" هو استعمال الطائرات الحربية في مطاردة الخصم، ولا حق التدخل الذي حاولت الدول الغربية فرضه ليصبح من حقها التدخل في أي بلد في العالم بدعوى حماية "حقوق الإنسان"، وإنما المقصود هو مطاردة من نوع آخر لا تقل دراماتيكية عن المطاردة العسكرية ألا وهي "المطاردة الإعلامية".

المطاردة الإعلامية هي الأخرى ليست خالية من الأسلحة الحربية المخادعة والمدمرة، فأسلحة الإعلام المصوبة نحو أهدافها لا تقل براعة عن أدق العمليات الحربية والعسكرية، في محاولة منها للاحتفاظ بالفريسة، الهدف في دائرة الزوم ليتم الضغط على الزناد الذي هو بمثابة الضربة القاضية.

إمبراطوريات إعلامية تعزز "حق المطاردة" والتي باتت قادرة على تصعيد أو إسقاط حكومات بأكملها، لأنها أصبحت متخصصة في صناعة الرأي العام، حيث تقوم ثلاث وكالات أنباء أميركية باحتكار 80% من تدفق الأخبار على الساحة الدولية وهي: "رويتر" و"يونايتد" و"اسوشيتد بريس"، واستطاعت أن تسوق جيداً لبضائعها الإعلامية مع تطور الأقمار الصناعية، لدرجة أن أوروبا أحست بهذا التفوق الأميركي وعدم التكافؤ الإعلامي على المستوى الدولي فأوروبا تقوم ببث ما يقارب 50% من البرامج الأميركية المختلفة في حين لا توزع ولا تنشر الولايات المتحدة الأميركية إلا 3% من المنتوجات الإعلامية الأوروبية.

كنت أتصور أن الإعلام الجديد بفضل تطوره التقني وتقليصه لحجم كوكب الأرض استطاع أن يجعل من المجتمع العصري مجتمعا تواصليا، لكن الحقيقة غير ذلك فقلما تجد جارا يكلم جاره ويتابع أخباره أو حتى يبادله التحية، لكنه في ذات الحال تجده متعطشا إلى أخبار التظاهرات الرياضية والفنية والسياسية وحتى إذا ما تعلق الأمر بالفضائح والإثارات، تجده يفضل ما تنقله وسائل الإعلام على تلك التي يشاهدها بأم عينه.

وبجانب هذه الحمى الإعلامية الكاسحة التي تطال كوكب الأرض بأكمله وتعزيز "حق المطاردة" فإن الإعلام الجديد اليوم بات يهدد حقاً آخر هو الحق في الخصوصية الفردية والمرتبطة بحرية الأفراد، واختياراتهم الشخصية، وعلاقاتهم، ومأكولاتهم، وتصيد همساتهم ولمزاتهم، فأصبح من السهولة اليوم التعرف على خصوصيات الآخرين بضغطة زر واحدة لمبرمج ماهر في عالم الحاسوب وتقنية المعلومات.

بل أكثر من ذلك فنرى التفنن في صناعة الصورالإيهامية في ميدان الحواسيب حيث أصبح بإمكان الصناعات السينمائية مثلاً أن تستغني عن اللجوء إلى المشاهد الخارجية لتصنع للمتفرج مشاهد وهمية وكأنها حقائق واقعية، وأصبح من الممكن أيضاً أن نرسم صورة شخص معين ونصنع له صوتاً مطابقاً لصوته في محاولة منا لقلب الحقائق.

إن حقوق الخصوصية الفردية تتجسد في عدد من الوثائق القانونية الدولية: تنص المادة «17» من الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أنه "لا يجب أن يتعرض أي أحد إلى التدخل الاعتباطي أو غير القانوني بالخصوصية، والعائلة، والمنزل أو المراسلات. " وتضمن المادة «18» من الميثاق الأوروبي بطريقة مشابهة "حق الاحترام لحياته الخاصة والعائلية، ولمنزله ومراسلاته. "

على الصعيد القومي، يمكن ضمان حقوق الخصوصية بموجب الدستور، أو التشريعات، أو بموجب القانون العام. تعلن المادة 5 من دستور البرازيل، على سبيل المثال، أن "الحياة الخاصة للفرد طبيعية ولا يمكن انتهاكها. " ويضمن القانون الجنائي الدانمركي الحق بالخصوصية وتضمن ألمانيا "حق الخصوصية الشخصية" في قانونها الأساسي. وفي جنوب أفريقيا حق الخصوصية مضمون في كل من القسم 14 من الدستور وبموجب القانون العام.

إنه أمر يدعو للغرابة! كيف يمكننا التوفيق بين شبكة كاملة من الحقوق المتداخلة على الصعيد الإعلامي؟ فبعد ما كنا نتحدث عن "الحق في الصحافة" و"الحق في الحرية الإعلامية" أصبح الحديث الآن يدور حول حماية الإنسان من مخاطر وسائل الإعلام.

وهكذا أصبح الجمهور لا يطالب فقط بإعطاء معلومات حول الوقائع والأحداث بل يطالب بإثبات حقيقة الحادثة ووقوعها من عدمه انطلاقاً من أن الأخبار والصور المقدمة في الإعلام مموهة ومضللة.

هذا على نطاق الأفراد، أما على نطاق الدول فالسؤال الذي يفرض نفسه: هل "حق المعرفة والحصول على المعلومة" والذي يؤسس لـ "حق المطاردة" يهدد كذلك "خصوصية الدول" كحال "الخصوصية الفردية"؟ بعبارة أخرى هل حق الحصول على المعلومة في أي دولة ما متاح للجميع، ومن حق أي فرد تداولها أم أن هناك أسرارا وخفايا لا تُعرض إلا في الغرف المغلقة والتي تعتبر من خصوصيات الدولة لا يحق لأي أحد الحصول عليها؟

من الناحية الحقوقية الإجابة بشكل واضح هي من حق أي فرد الحصول على المعلومة التي يريد، تطبيق هذا الحق يظهر بشكل واضح في الدول المتقدمة لأنها تأخذ بمواصفات الدولة الحديثة "دولة المؤسسات"، "دولة سيادة القانون"، "حق الحصول على المعلومة ورفع السرية" هو حق أصبحت تُعقد له المؤتمرات والملتقيات الحقوقية في العالم، ولعل وثائق "ويكليكس" وطريقة التعاطي العالمي معها هو خير دليل على ما نقول.

وهذا ما حدث بالضبط في إعلام الثورات العربية والتي قلبت مقاييس الإعلام العربي التقليدي بعدما غزته وسائل الإعلام الجديد بالصوت والصورة "يوتيوب" و"فيسبوك" و"تويتر"، ضاربة عرض الحائط بكل محاولات القمع والتعتيم التي تنتهجها أنظمة هذه الشعوب، وهو ما ظهر جلياً في ثورة مصر ونشر وثائق أمن الدولة على كافة وسائل الإعلام المختلفة.

إن الوثائق والأخبار والمعلومات والصور بين "انتهاك الخصوصية" و"الحرية الإعلامية" أصبحت محط صراع وتصادم أيديولوجي وسياسي بين الأنظمة العربية وشعوبها، صراع يتراوح بين المطالبة بالحقوق والمطالبة بالحقيقة.

المصدر:
http://www.esharh.net/?act=artc&id=5776

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك