مقارنة بين العقل المثقف والعقل الفقيه
مقارنة بين العقل المثقف والعقل الفقيه
يحي محمد
مدخل
نحن هنا بصدد تحديد هوية المثقف الديني من الناحية البنيوية. كما اننا بصدد دراسة واقع المثقف والفقيه رغم الالتباس الحاصل بينهما احياناً. ولاجل ذلك نحن بحاجة الى منهج مناسب للبحث يتم فيه تبرير ما نكونه من مفهوم خاص عن العقل المثقف الديني وتمايزه عن نظيره الفقيه. فما هو هذا المنهج؟ وما هو مفهوم كل من العقلين المتأسسين عليه؟
سننحو بداية الى تحديد طبيعة المثقف الديني من الناحية المعرفية وتمييزه عن الفقيه من خلال اعتماد المنهج الكيفي الشائع استخدامه في العلوم الاجتماعية، وهو الذي يقابل ما يطلق عليه منهج الاحصاء الكمي. ولكلٍّ خواصه ومزاياه. ورغم اهمية الاحصاء في تشكيل تصوراتنا عما يجري في الواقع الموضوعي؛ الا انه اذا اقتصرنا عليه فسوف لا يغنينا عن معرفة طبائع الاشياء وبلورة ماهياتها واسبابها.
كما لا ينفعنا تحديد ما نريده من خلال مبدأ: تعرف الاشياء باضدادها، وذلك لان الضدية الحاصلة بين العقل الثقافي والعقل الفقهي هي ليست ضدية تامة ومطلقة، فالمثقف يمكن ان يكون في الوقت نفسه فقيهاً، وكذا العكس صحيح ايضاً.
ان المنهج الكيفي بخلاف نظيره الكمي لا يعكس الكم الاجتماعي بتمامه عبر الاحصاء، ولا يهمه جميع الملابسات والعوارض، انما يلتقط من الواقع صوراً يراها تشكل جوهراً اساساً للمفهوم او النمط الذي يريد تكوينه، وذلك بعد دراسة حالات عديدة للواقع الاجتماعي ومقارنة بعضها بالبعض الاخر، اي انه يتبع طريقاً من التحليل الاستقرائي القائم على القرائن والشواهد المتغايرة بدل الاعتماد على مجرد الاحصاء.
ويمكن تقسيم عمل المنهج الكيفي الى دورين يشكلان حجر الزاوية من بناء وتكوين النمط او المفهوم. فهو اولاً لا يقوم بتجريد وتصوير كل ما يتعلق بالحالة الاجتماعية التي لها علاقة بالمفهوم، وانما يكتفي برصد وأخذ ما يراه عناصر اساسية في تكوين الحالة، ويدع كل ما يلابس الحالة من امور اخرى عارضة. ثم انه بعد عملية التجريد يُجري على الصورة المنتقاة نوعاً من التضخيم والتحليل العقلي وذلك لابراز ما تتضمنه هذه الصورة من عناصر لها الفاعلية والقدرة على تكوين الحالة. ولا شك ان هذين الدورين لا يقومان بمعزل عن الحدس العقلي الذي وظيفته انتزاع المفهوم وبلورته.
وبذا يكون هذا المنهج قد اعطى مفهوماً واضحاً ومبالغاً فيه كنمط يتصف بالنموذجية والمثالية وإن لم يكن الواقع حاملاً القدر نفسه من الوضوح وكمال الصورة تبعاً للعوارض والملابسات.
واذا اردنا ان نوظف هذا المنهج في دراستنا لكل من المثقف الديني والفقيه من الزاوية المعرفية الصرفة؛ نرى ان من الواجب فهم كل منهما بانه عبارة عن كائن صوري يتصف بنوع من النمذجة والمثالية، حيث نجرده من مختلف الملابسات التي تتداخل معه في الواقع، اي اننا نصنع منه ماهية محددة، وذلك بعد دراسة الحالات المختلفة والمقارنة بينها، فنستلهم من ذلك ما يحمله من عناصر اساسية عليها تتشكل ظاهرة ما نطلق عليه الثقافة، وكذا الفقاهة. وهو مفهوم مجرد يتصف بنصاعة الصورة ووضوحها. اي اننا بعد تحديد العناصر الاساسية المنتقاة من الحالة الاجتماعية نعمل بفضل التحليل العقلي على تكوين مفهوم جاهز مجرد كنمط يعبر عما نطلق عليه العقل المثقف الديني والعقل الفقيه. فهذا النمط كاشف عن العناصر الجوهرية التي من شأنها ان تبعث على تكوين الثقافة والفقاهة، سواء كان ذلك عن وعي من قبل الذين يؤسسونها او عن غير وعي.
فمع ان الواقع يشهد حالات متفاوتة ومختلفة للمثقف - وكذا الفقيه - فتارة نرى ازدياداً في الحالة الثقافية، واخرى نرى انخفاضاً فيها، وكذا فان الثقافة قد تختلط بغيرها من الممارسات الذهنية والسلوكية الاخرى، فتتداخل معها المواقف السياسية تارة، وتؤطر بها الممارسات الاجتماعية تارة ثانية، كما قد تندفع ضمن صور ايديولوجية مختلفة؛ كإن تشكل اطاراً فوقياً لطبقة اجتماعية معينة او غير ذلك من ملابسات الحالات الاجتماعية للثقافة.. لكن مع هذا فان ما يقع تحت المراقبة العقلية والتجريد هو الثقافة كنمط صوري مجرد تبرز فيه الوظيفة الثقافية كممارسة معرفية تنشأ بفعل مرتكزات محددة يعمل العقل على استظهارها وتحليلها بوضوح ونصاعة بعيداً عن الملابسات التي يبديها الواقع الاجتماعي، طالما ان العقل لا يصور كل ما يبديه هذا الواقع من ملابسات وتداخلات، وانما يكتفي بتسليط الضوء على العناصر الاساسية منه بعد الملاحظة والمقارنة بين الحالات التي تمر بها الثقافة على ارضه.
فمن حيث الاساس يلاحظ ان المفهوم الذي يراد له التأسيس هو مفهوم مستمد من العلم والمعرفة لا غير. فالفقه والثقافة كلاهما من العلوم والمعارف، ومن ثم لا يمكن افراغ الفقيه ولا المثقف من جوهر العملية المعرفية، والا كان فاقداً للمعنى. مع هذا يلاحظ ان معارف الفقيه وعلومه وكذا النتائج التي ينتهي اليها هي في الغالب تختلف عن تلك التي لدى المثقف. الامر الذي يساعدنا على تحديد هوية كل منهما واهمال ما قد يتداخل معها من ظواهر اخرى عارضة.
وتبعاً للمنهج الكيفي فانه لا يمتنع ان يحصل تداخل بين الثقافة والفقه على ارض الواقع فيلبس الفقيه عباءة المثقف، والمثقف عباءة الفقيه، وبالتالي نتحدث عن الفقيه المثقف والمثقف الفقيه. مع هذا وبحسب المنهج ذاته فان من الممكن اهمال هذا التداخل في تحديد الهوية والمفهوم لكل منهما، طالما ان الغرض هو تحديد الماهية وليس الواقع بكل ما يحمله من ملابسات وشوائب.
وواقع الامر ان تحديد هوية كل من المثقف الديني والفقيه يعتمد على تشخيص الوظيفة المعرفية لكل منهما، وان هذه الوظيفة تتشكل بحسب ما لدى كل منهما من مرتكزات معرفية، وبالتالي فان تحديد الهوية انما هو نتاج تعيين هذه المرتكزات. وسنلاحظ ان هناك اختلافاً تاماً حول طبيعة هذه المرتكزات بينهما. فما يتحكم بالحالات الثقافية من مولدات معرفية هو غير ذلك الذي يتحكم بالحالات الفقهية، حيث لكل منهما مشغلاته الخاصة بالتوليد والانتاج، وهو امر يجعل لكل منهما بنية خاصة تختلف عن الاخرى، بل وتتقاطع معها على صعيد المفهوم، وإن أمكن التداخل بينهما على ارض الواقع احياناً. وبالتالي فان الصورة المفهومية المنتزعة لا تبدي بالضرورة جميع ما لدى الواقع من تفاصيل وشؤون بما في ذلك تقلّب بعض حالات الظاهرة او تداخلها مع نظيرتها التي تخالفها في المفهوم.
ولعل المثال الذي نضربه الان يوضح هذه الصورة المعطاة. فمثلاً باستطاعتنا ان نتحدث عن مفهوم محدد للانسان القروي وتمييزه عن نظيره المديني، فنرسم لكل منهما مواصفاته الخاصة التي تبدي الكثير من التضاد في الشخصية والخصال العامة. لكننا من جهة الواقع قد لا نجد القدر ذاته الذي صورناه من الابعاد والتضاد بينهما، كما قد يبدو لنا ان بعض القرويين يحملون صفات تعود الى الانسان المديني او العكس، كما قد يبدو ان هناك الكثير ممن يحمل صفات مزدوجة، سواء كانوا مدينيين ام قرويين. ومع هذا فان ذلك لا يشكل عقبة في تأسيس المفهوم او النمط الخاص بكل منهما. فنحن على قناعة بان ملابسات الواقع وعدم تطابقه مع المفهوم المهذب لدى الذهن لا ينافي حقيقة الهوية التي يتضمنها هذا المفهوم.
فعلى سبيل المثال نعلم ان عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم قد صاغ قانوناً في الانتحار الاناني استخلصه من مقارنات لجملة من الظواهر الاجتماعية المختلفة، كان من بينها ما اعتمده على المقارنة في الانتحار بين ما يحصل في القرى وفي المدن، حيث ان زيادة الانتحار في المدن هي اكثر مما في القرى، وبالتالي فقد استنتج من ذلك ومن مظاهر اخرى تتعلق بزيادة الانتحار قانونه القائل: ان هناك تناسباً عكسياً بين الانتحار والتماسك الاجتماعي. ولو قمنا بمقارنة بين مدينة وقرية مشخصتين وتبيّن من خلالها ان الانتحار لدى الاخيرة اكثر نسبة مما لدى المدينة، اي على عكس ما أفاده دوركايم، فان ذلك لا يجعلنا نشكك في القانون الانف الذكر، ولا يجعلنا ننظر بالضرورة الى القرية بمفهومها العام نظراً مخالفاً لما كنا تصورناه عنها من حملها لجملة من المزايا، انما يمكن ان نتوقع وجود اسباب عارضة عملت على زيادة الانتحار في تلك القرية الخاصة. ويظل المفهوم العام للقرية هو انها ليست مصدراً قوياً للانتحار طالما كانت العلاقات الاجتماعية فيها شديدة التماسك، خلافاً لما هو عليه الحال في المدينة عادة. ولعل من ضمن الاسباب العارضة التي تقرب المدينة من القرية هو ما تفعله سهولة الاتصال من علاقات جديدة تجعل بين المدينة والقرية انواعاً من التأثير، الامر الذي قد يحدث بعض التغيير في التركيبة العامة للروابط الاجتماعية داخل كل من القرية والمدينة.
وبهذا فان المفهوم المنتزع من الواقع ليس معنياً بالعوارض التي يمكن ان تحدث وتقوم بالتأثير على مجرى الاحداث. وقد كان الفلاسفة المسلمون يقولون عن السقمونيا بأنها تسهل الصفراء، وهم يعنون بأن من شأنها ان تسهل وإن لم يحدث ذلك احياناً في الواقع لدخول بعض الاسباب العارضة المانعة، او لأن الظروف في غير ما لوحظ من اقتران بين السقمونيا والاسهال هي ظروف مختلفة لا تتفق مع ظروف الاقتران المشاهد. فكل ذلك لا يؤثر على حقيقة كون تلك النبتة من شأنها ان تحدث الاسهال بحسب الظروف العادية التي لوحظ فيها الاقتران.
مع هذا فقد تتحول البنية التركيبية للواقع من شكل الى آخر مغاير، وذلك عندما تنقلب الامور وتتحول الاحداث والمظاهر بشكل مختلف تماماً عما كانت عليه، وهو الامر الذي يدعو الى تكوين نمط جديد من المفهوم المنتزع يختلف كلياً عما كان عليه الحال من قبل.
وفي جميع الاحوال اجد من المبرر تماماً - بعد ما سلف من توضيح - ان نكوّن لكل من المثقف الديني والفقيه مفهومه الخاص المنتزع مما هو عليه في الواقع.
على انّا ندرك بأن تكوين مفهوم خاص عن العقل الفقيه هو ليس بمعضلة؛ لعلمنا بمصادر معرفته وكيفية تشغيله وتوظيفه لها في التوليد والانتاج المعرفي. فهي صورة تجد لها تأييداً كبيراً مما يحفل به التاريخ الطويل للفقه والفقهاء. كما انها معلنة وممنهجة بشكل جلي بلا لبس ولا غموض. لكن ذلك يختلف عما نجده لدى المثقف الديني رغم المنافسة المعرفية التي يقيمها مع الاول. فلكونه في الغالب غير مختص في العلوم الدينية فان ذلك يجعله لا يمتلك المنهجة الواضحة او المحددة مقارنة بنظيره الفقيه. وبالتالي ليس هناك تحديد مسبق او معلن لمصادر معرفته وكيفية توليده المعرفي. كما لا يوجد اتفاق عام في المسالك المعرفية بين المثقفين الدينيين كالذي نجده بين الفقهاء عادة. وبعبارة اخرى لا توجد روابط معرفية مشتركة تتأسس عليها التنمية العلمية بين المثقفين مثلما هو حاصل بين الفقهاء؛ حيث المشترك الذي يجمعهم معرفياً هو الارتباط التام بمضامين الكتاب والسنة، ولولا هذا الاساس ما كان لهم ان يكونوا فقهاء. اذن فالتيار الثقافي هو اقرب معرفياً الى التيار الفردي منه الى الجماعي. او انه اقرب الى اللامنتمي منه الى المنتمي. لكن علينا الاخذ بعين الاعتبار ان تاريخ ظهور المثقف كحالة بارزة ومؤثرة في الحياة العامة لا يمكن ان يقاس بالتاريخ الطويل للفقيه. فهو حديث النشأة وإن أخذ بالاتساع والانتشار بفضل التطورات الحديثة المتسارعة.
مهما يكن قد تكون الصورة المنتزعة عن الواقع للمثقف ليست واضحة مثلما هي الحال عن الفقيه. لكن مع هذا فبالارتكاز الى المنهج الكيفي يمكننا رسم الصورة بايضاح مصادر معرفته والمنهج الذي يتبعه والاصول التي يعتمدها في التوليد والانتاج حتى لو لم يكن ذلك عن وعي من المثقفين أنفسهم.
مع ذلك نحن نعترف بان تصورنا للعقل المثقف هو تصور غارق في التحليل العقلي مقارنة مع العقل الفقيه. ذلك ان الصورة المنتزعة عن هذا الاخير ينشأ اغلبها مما يقدمه هذا العقل بنفسه، اي انه ينشأ عبر دلالة الموضوع الخارجي مباشرة، طالما ان الفقيه يعلن بحق مصادر معرفته وطريقة تلقيه لهذه المعرفة ومنهجه في الفهم والانتاج، الامر الذي يتضاءل فيه الدور العقلي لرسم الصورة التي تخصه بالقياس مع الدور المقدم بصدد المثقف. فليست هناك صورة جاهزة يمكن انتزاعها مباشرة عن الموضوع الخارجي للعقل المثقف، اذ لا توجد مصادر معلنة ومتفق عليها للمعرفة، ولا طريقة ممنهجة توضح كيفية التوليد والانتاج المعرفي. وبالتالي ليس هناك ما يمكن ان يعيننا في كشف الصورة او المفهوم المعطى للمثقف غير التحليل العقلي، وذلك بعد متابعة النظر والمقارنة بين الحالات الثقافية المختلفة. فرسم الصورة المعبرة عن البنية المعرفية للمثقف تستمد مشروعيتها من الدور الأساس الذي يمارسه العقل في التحليل والاستجلاء بعد الانتهاء من عملية رصد الفعاليات المعرفية التي يؤديها هذا العنصر الفاعل.
هكذا قلنا انه ليس من الصعب تحديد هوية الفقيه - وغيره من اختصاصيي النزعة البيانية - من الناحية الابستمولوجية. فالفقيه يرتبط ارتباطاً لزومياً بالنص، ولولا هذا الاخير ما كان للفقيه من وجود ولا اعتبار، اذ ان نشأة الفقيه وتحديد هويته كلاهما مستمد من النص ذاته، والامر واضح باعتبارين: اولهما ما عليه الواقع، وهو ان جميع الفقهاء ملزمون من الناحية المعرفية بالارتباط بالنص نهجاً. فالذي لا يرتبط بالنص لا يمكن ان يحظى بصفة الفقاهة. اما الاخر فهو ان هذا الارتباط المعرفي معلن لدى الفقهاء صراحة، فالنص لديهم هو المصدر الاساس في البناء والتقويم، وبالتالي ليس هناك من مصدر اخر يضاهيه. لكن اذا كان من السهل علينا ان ننتزع بنية معرفية عامة للفقيه اعتماداً على الارتباط المعرفي بالنص؛ فان الامر مختلف مع المثقف تماماً، ذلك ان بناءه المعرفي ليس ملزماً بالارتباط الاساس بالنص مثلما هو عمل الفقيه، كما ان هويته المعرفية غير معلن عنها صراحة. وبالتالي فلأجل تحديد بنيته المعرفية كان علينا ان ننظر في مضامين ما يقدمه من طروحات واشكاليات وحلول ومن ثم نجتهد في اقتناص ما نعدّه بنية له. ورغم ما نجده لدى المثقفين من ابنية فكرية مختلفة تزخر بالتناقضات الحادة، ورغم ان فيهم حالات متفاوتة من حيث القرب والبعد عن التكوين المعرفي للفقيه، لكن مع هذا نجد ان هناك ميلاً يكاد يكون عاماً لدى المثقفين؛ يمكن من خلاله انتزاع البنية المعرفية للمثقف تبعاً للنهج الكيفي، والتي هي حصيلة ما لديه من مرتكزات معرفية وخصائص متولدة عنها.
فما هي هذه المرتكزات؟ وما هي تلك الخصائص المتولدة عنها؟ ماذا نعني بالمرتكزات المعرفية؟
نقصد بالمرتكزات المعرفية جملة المصادر والمناهج والاصول التي يُعتمد عليها في توليد وتوجيه الرؤى والمضامين المعرفية. اذن هي ثلاثة كالاتي:
المصدر المعرفي: وهو عبارة عن المنبع الذي عنه تصدر المعرفة بالنشأة والتكوين والتأسيس، كالنص والعقل والواقع.
الالية المعرفية: وهي الطريقة التي فيها تتم عملية تكوين المعرفة وتأسيسها بهيئة مفاهيم مستنبطة وقابلة للتوظيف؛ وذلك اعتماداً على المصدر المعرفي. اي انها عبارة عن منهج استكشاف المعرفة وتوظيفها. فهي بالتالي إما ان تتوسط لتمارس دور الانتاج والتوليد المعرفي، او انها تتوسط لتقوم بدور فهم الموضوع المراد تسليط الضوء عليه.
المولدات والموجهات المعرفية: وهي تلك الاصول التي تعوّل عليها الالية المعرفية في الفهم والتوليد، او الكشف والاستنباط، والتي بواسطتها يتم توليد المعرفة وانتاجها. والفارق بين المولدات والموجهات هو ان المولدات تعمل على انتاج المعرفة، في حين ان الموجهات لا تقوم بهذا الدور التوليدي، وانما بها يتم الاسترشاد في تكوين المعرفة او تفسيرها وفهمها باتجاه معين دون آخر، او توظيفها لاغراض معينة. اي انها تتخذ دور الادلاء على الطريق المناسب دون ان تمارس بنفسها عملية التوليد والانتاج. لكن يظل ان كل توجيه لا يخلو من توليد، مثلما ان كل توليد لا يخلو من توجيه. كما قد يجتمع المولد والموجه في اصل معرفي موحد يمارس دورين من التوليد والتوجيه للقضايا.
ويلاحظ ان هذه المرتكزات بعضها يتوقف على البعض الاخر ويستكمل به. فلولا المصدر المعرفي ما كان للمولدات والموجهات ان تقوم بدورها من التوليد والفهم والانتاج، ولا كان للالية المعرفية ان تقوم بدورها في تحديد النهج الذي به تتم عملية التوليد والاستكشاف. وكذا لولا الالية المعرفية ما كان للمصدر المعرفي ان يكون مصدراً يعتمد عليه في الفهم والتوليد، ولا كان للمولدات ان تقوم بدورها كمولدات لغيرها. كذلك فانه لولا المولدات والموجهات ما كان للفهم والتوليد ان يتم، فلا آلية معرفية ولا مصدر للتوليد. وفي جميع الاحوال لا تخلو اي ممارسة معرفية من ان تشترك في صنعها وتركيبها تلك المرتكزات الثلاثة، سواء كانت الممارسة المعرفية تعبر عن استكشاف جديد للمعرفة او فهمها وتفسيرها، اي سواء كانت توليدية او توجيهية. المرتكزات المعرفية لكل من المثقف والفقيه
سبق ان اشرنا الى ان لكل من المثقف والفقيه مرتكزاته المعرفية الخاصة، على الرغم من انها لدى الفقيه حاضرة حضوراً شاخصاً بالوعي والادراك، وهي ليست بذلك الوعي لدى الاخر لحداثته ولخلوه من التخصص في الغالب. لكن الوعي وعدمه، وكذا الشخوص وخلوه، لا يشكلان محوراً للتمايز في القابلية على الفهم والتوليد المعرفي. او بعبارة اخرى ان انعدام الوعي والشخوص لا يقفان عقبة في وجه الفهم والتوليد. ذلك انه كما للوعي دوره المنظم في تحديد المسار الذي تتم فيه حالة الفهم والتوليد من خلال الربط بين المصدر والآلية والاصول الموجهة او المولدة؛ فكذا الحال نفسه يمكن ان يتم عبر الممارسة اللاواعية التي يقوم بها العقل الباطن الذي بوسعه العمل على تحديد المسار للعملية المعرفية بما يضمن حالة الاتزان كما لو كانت ممنطقة، وذلك بعد اكتساب الخبرات والمهارات المعرفية من المصادر التي ينفتح عليها عقل الباحث. فمثل ذلك كمثل صاحب اللغة الذي يتمرس في ضبط استخدامها وإن لم يتعرف على آلياتها ومنطقها الجواني. مع هذا فالامر لدى المفكرين - وهم رؤوس المثقفين - ليس بهذا الحد من الضعف وفقدان الوعي، انما قصدنا بذلك الفئة العامة من المثقفين، الامر الذي يختلف فيه الحال مع فئة الفقهاء عمومهم وخصوصهم.
وفي القبال نجد ان الفقهاء كثيراً ما يخرجون عن الحد الذي رسموه من النهج الخاص بالفهم والتوليد، خصوصاً عند ضغط الحاجات الزمنية للواقع، كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد.
هكذا نقصد بان المنهجة المعرفية لدى الفقيه هي تامة وواضحة لا غبار عليها، خلافاً للمنهجة المعرفية للمثقف، حيث ما تزال غير واضحة، وهي مصابة بداء الايديولوجيا والانتقاء والتلفيق، كما انها لا تمثل اتجاهاً عاماً يركن اليها كل من توسم سمة المثقف الديني، بخلاف الامر مع الاتجاه العام للفقيه، كما سنعرف. 1ــ المصدر المعرفي
معلوم ان المصدر الاساس الذي يستمد منه الفقيه معارفه التخصصية هو النص، سواء كان كتاباً او سنة، وسواء اعتمد على ذلك مباشرة او غير مباشرة. ويمكن تمثيل العلاقة بين الفقيه والنص بعلاقة الجسد بالروح، حيث لولا الروح ما كان للجسد من حياة، وكذا لولا النص ما كان للفقيه من وجود. هكذا فان صورة الفقيه تتحدد في الاذهان بقدر ما له من علاقة مع النص. فهو المعني بفهم النص وهضم معناه وامتثاله، الى الدرجة التي من الممكن ان تنقطع صلته بسائر المصادر المعرفية الاخرى التي قد يكون لها شيء من الاثر على فكره؛ لكن لا يمكن قطع صلته بالنص، وبالتالي فالنص هو المعطى الرئيس والاساس للعقل الفقيه. فمصادر التشريع لدى الفقيه اول ما تبدأ عادة بالقرآن الكريم ثم السنة الشريفة وبعدهما الاجماع ككاشف عن النص او مستدل عليه به، ثم قول الصحابي وسلوكه ككاشف آخر، وبعد ذلك تأتي سائر مبادئ الاجتهاد الاخرى التي حرص الفقهاء على ان يجعلوها مستمدة من النص مباشرة وغير مباشرة.
أما بخصوص المفكر او المثقف الديني فاول ما يلاحظ ــ كما عرفنا ــ انه لم يتقيد بمصدر مرسوم ومعلن كما هو الحال لدى الفقيه، فليس هناك في الغالب من منهج ولا تنظير يعتمده في تبيان مصادره المعرفية، وكما قلنا ان ذلك يعود الى كونه حديث النشأة. فالمثقف الذي نتحدث عنه انما بلحاظ ذلك الذي انتجته تطورات المجتمع الحديث وظروفه. وعلى نحو التخصيص والتضييق ذلك الذي يحمل جملة من المعارف الاسلامية، لكن من غير اخلال بالكليات العامة.
مع هذا لما كان المثقف وليد المجتمع الحديث بكل ما يحمله من ظروف وملابسات، وحيث ان هذا المجتمع متأثر بعمق بتطورات الواقع وتغيراته؛ لذا كان من الطبيعي ان تكون المرجعية التي تشكل اساس الهوية للعقل الثقافي متمثلة بالواقع. فليس هناك مصدر يستعين به عقل المثقف أبلغ من الواقع والخبرة العقلية المتصلة به، كما يتجلى ذلك في منحاه المعرفي اتجاه مختلف علوم الواقع، وعلى رأسها العلوم الانسانية، كالنفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والفلسفية والجغرافية والطبيعية. وبالتالي فلا يمكن فصل المثقف عن الواقع مثلما لا يمكن فصل الفقيه عن النص، فكل منهما مدين بوجوده للمصدر الذي يستند اليه ويعتمد عليه.
فرغم ان المثقف ليس له في الغالب منهج محدد يتحرك ضمن إطاره، او انه لا يعي طبيعة المنهج الذي يسير على هداه؛ الا انه مع هذا ملزم بالانشداد والانفتاح على »الواقع«؛ يستجوبه ويستمد منه ما يثيره من قضايا، لا سيما تلك التي ترتبط بهمومه وطموحه وتطلعاته. وبالتالي فان للواقع اهمية خاصة بالنسبة للمثقف، وذلك باعتبارين: أحدهما من حيث انه مصدر معرفي يلجأ اليه المثقف بالانفتاح والاطلاع ليشكل منه مادة معرفية يعمل على صياغتها بملكة التحليل. والآخر بما يتصف به من خاصية افراز مختلف ضروب التأزم، الأمر الذي يحتاج الى عقل متفتح قادر على استيعابه وبلورة موقف معرفي إزائه سعياً نحو تغييره الى المستوى الذي يرتفع فيه ذلك التأزم.
هكذا فان الصورة الشاخصة عن المثقف الحديث، سواء كان ينزع نزعة اسلامية او غيرها، هي صورة مفعمة بروح الواقع قبل أي اعتبار آخر. فليس فقط ان مصادره المعرفية تمتد جذورها من حيث الاساس الى الواقع، بل كذلك ان عملية تصنيع الموقف المعرفي منها لا تجد هدفاً تستهدفه غير هذا الواقع. فمنه المبتدأ واليه المنتهى.
مما سبق تبين ان اساس القطيعة بين المثقف او المفكر والفقيه انما يعود الى الاختلاف الحاصل بينهما على صعيد المصدر المعرفي، ذلك ان ما يتولد عن النص هو ليس نفسه الذي يتولد عن الواقع، وان مدّ الجسور بينهما يستدعي تأسيس احدهما على الاخر، وهو ما يعمل عليه كل من المفكر والفقيه، ولكن بطريقة مغايرة. فبينما يقوم الاخير بتأسيس فهم الواقع على النص؛ يخالفه الاول بالعمل على العكس، رغم ان النص والواقع كلاهما عبارة عن كتابين لله تعالى؛ تدويني وتكويني. تساؤلات وشبهات
مع هذا يلوح في الافق عدد من التساؤلات والاشكالات التي تتعلق بالمصدر المعرفي، بعضها يخص المثقف او المفكر، والبعض الاخر يخص الفقيه، وذلك بحسب النقاط التالية:
أــ مرجعية الواقع للعقل المثقف
اذ قد يقال ما هو الدليل على ان الواقع ولو بتداخله مع العقل هو المصدر الاساس للمعرفة عند المثقف؟
لأجل الاجابة عن السؤال المطروح لابد اولاً من تشخيص انواع المصادر المعرفية على نحو الحصر والتحديد. ولأدنى تأمل نعلم انها عبارة عن كل من النص والعقل والواقع والالهام وما شاكله من صور الكشف. وواضح انه لا يوجد مصدر اخر غير هذه المصادر الاربعة التي ذكرناها. وبيّن انه لا يمكن اعتبار الالهام هو المصدر الاساس الذي يستقي منه عقل المثقف دائرته المعرفية. اذ على الاقل ان موارد الالهام قليلة لا تفي بما تتسع به هذه الدائرة. كذلك ان هذه الموارد انما تفسر المعارف التي تنقطع صلتها عن المسببات الاخرى من المصادر الثلاثة المتبقية، فاذا امكن تفسيرها ببعض هذه المصادر، ولو باضافة شيء من عامل الحدس الوجداني، فان ذلك يكفي دون حاجة لافتراض الاثر الالهامي المستقل.
وكذا الحال لا يمكن اعتبار العقل هو مصدر تحديد تلك الدائرة من المعارف، وذلك لان موارد العقل التي تتجرد عن الواقع كلياً هي موارد محدودة لا تصلح ان تفسر شبكة ما عليه تلك الدائرة من سعة.
كما انه لا يمكن عد النص هو مصدر الاسناد الرئيسي الذي يتكئ عليه المثقف في تكوين حوزته المعرفية. فعلى الاقل ان اغلب المثقفين الدينيين هم ليسوا من اهل الاختصاص بالشؤون الاسلامية كالفقه والتفسير وما اليهما. فلا معنى - اذن - للافتراض المشار اليه. ذلك انه إن اعتمد على النص فانما يعتمد عليه - عادة - طبقاً للتبعية للمختص، كإن يكون مقلداً له، او ناظراً في ادلته ليرجح بعضها على البعض الاخر تبعاً لمظنة الصواب. لكن هذا انما يتاح له عادة في جملة من قضايا الاحكام التي غالباً ما تكون جزئية. اما القضايا الاخرى التي لها مساس بشؤون الحياة العامة كالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذا تلك التي لها علاقة بكشف الواقع وتفسيره، فعادة ما يكون تقويمها لدى المثقف ليس بحسب اتباعه للفقيه ولا بحسب ممارسة اسلوب النظر في ادلته، وانما بحسب ما يعتمد فيه على خبرته واطلاعه؛ عندما يجد نفسه يقف على مسلك اصوب من المسلك الذي يسير عليه الفقيه، خصوصاً ان هذا الاخير غالباً ما يتصف بالانكماش والعزلة عن الاحتكاك بالواقع، او على الاقل انه لا يوليه حق الرعاية والاعتماد اتباعاً لنهجه المتشدد في النظر الدائم في النص وما يتطلبه من المعاودة المستمرة في التحقيق المنحصر بالسند والدلالة؛ بعيداً عن المنطق الاخر المستقى من الواقع وكتابه المفتوح.
مع هذا فهناك من المثقفين من يقف جامداً على التقليد، فلا هو يمارس النظر، ولا هو يسمح لنفسه ان يصيغ رؤاه الخاصة، رغم ما له من سعة وقدرة. لكنا نعد ذلك خلاف طبائع الامور، وهو يأتي في الغالب تبعاً للأثر النفسي المتولد عن هيبة الفقهاء للظن بأنهم حملة النص، مثلما يحصل ذلك عندما يكون المثقف ممالئاً للسلطان احياناً بسبب المخاوف او المطامع. والا فان ما يتصف به المثقف من تشرب مفتوح على الواقع وما يفرزه من تجددات تبعث على تجديد الفكر واعادة النظر فيه باستمرار؛ كل ذلك يبعث فيه روح الاستحكام بهذا الواقع والخبرة العقلية غير المنقطعة عنه.
ب ــ نفي مرجعية الواقع للعقل الفقيه
اذ قد يقال ان هذا الذي وصفته بحق المثقف وتأثره بالواقع الحديث يمكن ان ينطبق ذاته على الفقيه باعتباره بشراً لا يمكنه ان يكون بمعزل عن تأثير مجريات الحياة وظروفها، حتى اصبح من المعلوم ما للبيئة من اثر على توجهات الفقيه وقراراته واحكامه، ومن ذلك ما صرح به رشيد رضا قائلاً: »من الثابت من اخلاق البشر وطباعهم ان للبيئة التي يعيشون فيها تأثيراً في اجتهادهم وفهمهم، فالذين حرّموا على عباد الله تعالى ما لا يحصى من المنافع التي خلقها الله لهم وامتنّ بها عليهم في مثل قوله {هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعاً} كانوا عائشين في حضارة يتمتع اهلها بخيرات ملك الاكاسرة والقياصرة في مدائن كجنات النعيم كبغداد ومصر وغيرهما من الامصار، فكان من تأثيرها في انفسهم ان جعلوا ما يستقذره مترفو العرب في حضارتهم محرماً على البدو البائسين وعلى خلق الله اجمعين. ولولا تأثير هذه الحضارة لراعوا في اجتهادهم الاصول القطعية في يسر الشريعة وعمومها ولا يعقل ان يكلف الله جميع الامم التزام ذوق منعمي العرب في طعامهم..«. كما ان مطهري هو الاخر تحدث عن هذا الاثر فقال: »لو أن احداً أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف ان المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث ان فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدينة«. بل قد بات معلوماً ما للبيئة من اثر على الاراء والخلافات الفقهية لدى أئمة المذاهب الاربعة. ومن ذلك ان الشافعي غيّر الكثير من آرائه وفتاواه حين انتقل الى مصر فاطلق عليها المذهب الجديد في قبال مذهبه القديم. وانه بحكم الخبرة والممارسة العملية لابي حنيفة بالسوق والتجارة اتخذت فتاواه طابعاً خاصاً، حيث كان يترك العمل بالقياس لصالح العرف والاستحسان، خاصة حينما يتعلق الامر بموارد البيع والشراء.. من هنا اذا كان الفقيه هو الاخر ليس معزولاً عن الحياة، وان منظومته المعرفية والياته في التفكير ليس بوسعها ان تنقطع عن الواقع كمصدر؛ اذن فلماذا هذا الفصل والقطيعة بينه وبين المثقف او المفكر، خصوصاً وان كلا الطرفين واقع تحت سلطة تأثير الواقع ولو بصورة غير واعية؟
اقول انما جعلت الفقيه مستحكماً تحت سلطة النص لا الواقع؛ لا اعني من ذلك انه لا يتأثر بهذا الاخير معرفياً، طالما انه ليس من الممكن للبشر ان ينقطع عن هذا التأثير. لكني انما فصلته عن مرجعية الواقع وذلك باعتباره قد اتبع نهجاً صارماً في تحديد مرجعيته المعرفية التي استبعد فيها ان يكون للواقع اثر منتج فيما يؤول اليه نظره واجتهاده. فهو يحمل نهجاً محدداً عن وعي ووضوح، وان هذا النهج لديه لا يكاد يفارق النص - في الغالب - كمصدر اساس يعتمد عليه في المعرفة. فإن تأثر احياناً بالواقع او استسلم اليه فان ذلك يحصل إما بفعل التأثير اللاشعوري، او نتيجة الاضطرار وضغط الحاجة الزمنية، وفي جميع الاحوال ان الفقيه - في الغالب - لا يعد الواقع مصدراً يعول عليه في البناء المعرفي والتشريع. فالواقع من حيث عمومه وصراحته ليس له اثر بيّن ضمن مصادر التشريع. واذا كان هذا لا ينفي وجود بعض القواعد التشريعية التي توحي بتضمنها للواقع ضمن منظومة الفقيه المعرفية كما سيمر علينا عما قريب؛ الا انه حتى في مثل هذه الحالة لم يتخذ منها مصدراً رئيساً ومستقلاً، وانما ادرجها ضمن اطر ثانوية مهمشة.
أما المثقف فامره يختلف، حيث انه لم يتبع منهجاً محدداً في تعيين مصادره المعرفية على الغالب؛ لكن تحليلنا لهويته جعلتنا نعتبر ان منظومته المعرفية لا يمكن تفسيرها من غير ربطها بمرجعية الواقع والاعتبارات العقلية المناطة به. مع هذا فالمثقف الديني ليس منفكاً عن الارتباط الصميمي بالنص، سواء في ممارساته الشخصية والتزاماته التعبدية، او في مواقفه العامة. وهو في هذه الاخيرة لا يرتبط بالنص ارتباطا »تكوينياً« مثلما هو حاصل لدى الفقيه، بل له رابطة معرفية من نوع آخر هي أجل واسمى كما سنعرف.
اخيراً لابد من لحاظ ان هناك عاملين هما اللذان يجعلان الفقيه والمثقف مختلفين في مرجعيتهما، حيث ينتمي الأول الى مرجعية النص، في حين ينتمي الاخر الى مرجعية العقل والواقع، وذلك كالاتي :
الاول: ان الفقيه ملتزم بالحد الاعلى للنص، وهو يصرح بذلك من دون ان يضيف اليه مصدراً اخر ينافسه بالمرجعية. فالواقع يكاد ان يكون غائباً لديه، وان العقل المستقل إما معطل او غير معترف به استناداً الى مرجعية النص ذاته. وبالتالي فان مرجعية النص لدى الفقيه هي مرجعية تكوينية وتقويمية. فهي تكوينية من حيث ان ذهن الفقيه مكوّن منها، وهي تقويمية من حيث ان سائر المصادر الاخرى ليس لها محل في الاعتبار ما لم يتم عرضها على تلك المرجعية واحراز الموافقة عليها. وهو أمر يختلف فيه الحال عند المثقف الذي لا يجعل من النص حقلاً تكوينياً لذهنه، وانما يتخذ منه أداة توجيه كما سنعرف. وفي قبال ذلك انه لا يجد ملاذاً رئيساً يلجأ اليه في التكوين المعرفي غير الواقع.
الثاني: ان حركة المثقف في الواقع هي في الغالب اقوى واعمق من حركة الفقيه. فالفقيه لا يتحرك عادة الا لهدف الاسقاط والتطبيق. ذلك انه يعد نفسه حاملاً لفكرة جاهزة وثابتة يضفي عليها سمة القدسية باعتبارها مستمدة من النص. وبالتالي فهو يحمل مفهوماً كلياً ماهوياً يريد اسقاطه على ارض الواقع، دون ان يكون غرضه من الحركة استنطاق الواقع واستلهام المعارف منه. لذا فمن الناحية المبدئية ان الفقيه لا يضع في حسبانه امكانية ان يكون للواقع نوع من التأثير الفاعل، وانه لا يعي ما يحصل من مناهضة الواقع للمفاهيم الكلية الماهوية عند التطبيق. وهذا ما سبق ان أكده ابن خلدون، كما علمنا ذلك من قبل، وهو ان العلماء قد اعتادوا على تجريد المعاني بشكل امور كلية لتطبيقها على الوقائع الخارجية، رغم ان ما يجردونه لا يطابق الواقع، الامر الذي تكثر فيه اغلاطهم. وعلى العكس من ذلك ما نجده عند المثقف، حيث يضع جانباً مهماً من حركته لاجل التعلم من الواقع والاستفادة من خبراته واحواله وتقدير ما يجري فيه من تغيرات لها انعكاس مؤثر على تصوراته المعرفية ونواحيها المنهجية.
ج ــ مبادئ الاجتهاد ومرجعية الواقع
اذ قد يقال ان هناك عدداً من القواعد والمبادئ التشريعية التي اعتمدها الفقهاء والتي تتضمن الاعتراف بما للواقع من مرجعية في تحديد الاحكام والقرارات، كمبدأ المصلحة وقاعدة ان للزمان والمكان تأثيراً على تغير الاحكام وغيرهما. وبالتالي كيف يجوز الاقتصار في تحديد مرجعية الفقيه على النص ويغفل امر الواقع؟
والجواب هو ان التعويل على تلك القواعد والمبادئ انما جرى على هيئة صيغ ثانوية مهمشة. اذ ان المصدر الاساس والرئيس في مسلك الفقيه هو الاعتماد على النواحي الحرفية من النص وما يرتبط به من القياسات الفقهية، أما غير ذلك من الابعاد الواقعية للحاجات الانسانية فانه لم يستثمر الكشف عنها، حتى يمكن القول أن تغييب الواقع هو الحالة البارزة في التفكير الفقهي دون ان تنفع معه مقولات التعويل على تلك القواعد طالما ان الخضوع لها لم يتم في الغالب الا على نحو ثانوي او طبقاً للضرورة والاضطرار.
وعلى العموم نلاحظ اننا لا نجد حظاً من الالتفات والتفكير في الواقع لدى مختلف العلوم الاسلامية الا عند دوائر ضيقة كتلك المتعلقة بضغط الحاجة. اذ ان اشكاليتي العقل والنص هما الاشكاليتان الشاغلتان والمهيمنتان على اجواء الفكر الاسلامي. ففي علم الكلام كانت الحظوة لاشكالية العقل، حيث بدأ هذا العلم تشييد قنواته وقواعده المعرفية انطلاقاً من العقل وابعاده التجريدية المتعالية. اما في الفقه فقد ابتلي باشكالية النص بكل ما يحمله من حدود اللفظ واعتباراته، فضلاً عما يدور حوله من مقاربات كالقياس وما على شاكلته. ومع انه لا ينكر ما اعتمده الفقه على الواقع لدى الكثير من احكامه ومبانيه؛ الا ان ذلك لم يجرِ بحسب شاغل التفكير ضمن اشكالية النص والواقع على النحو الذي يشابه ما جرى في علم الكلام من اشكالية النص والعقل، وانما جاء بنحو من التلقائية والاتفاق تبعاً لما فرضته ظروف الواقع وحاجاته وضغوطه. وظل المسار لدى الفقهاء يعبر عن رفضه للاذعان لاعتبارات اخرى تنافس النص في احكامه القبلية. فالاصل هو حكم النص واسقاطه على الواقع مهما كانت حقيقة هذا الاخير.
من جانب اخر يمكن القول ان القواعد والمبادئ المشار اليها يمكن ارجاعها الى مقولة المصلحة، والفقهاء رغم اعترافهم بهذه المقولة الا انهم في الغالب لم يحددوها من حيث النظر الى الواقع، بل حصروها فيما يستكشف من النص والقياس، فكانوا بهذا الالتفاف اقرب الى نفيها، او بالاحرى نفي تأثير الواقع في العملية الاجتهادية. الامر الذي جعل التفكير الفقهي عاجزاً عن حل مشاكل المجتمع وتسديد حاجاته ومتطلباته. وكان ابن القيم من القلائل الذين وعوا عمق التأثير السلبي لمثل هذا الضيق من التفكير الذي قطع عن نفسه الافادة من الواقع كحبل متمم لحبل الشريعة. وعليه اعتبر ابن القيم ان هناك تقصيرين صدرا عن الفقهاء، احدهما يتعلق بمعرفة الشريعة، والاخر بمعرفة الواقع، ومن ثم تنزيل أحدهما على الاخر. وحديثاً التفت رشيد رضا الى آثار هذه الغلطة التاريخية في عدم تعويل الفقهاء على المصلحة المستمدة من النظر الى الواقع بجعل مسائل المعاملات التي تعود الى الحكام كالمعاملات القضائية والسياسية والحربية ترجع الى القاعدة النبوية (لا ضرر ولا ضرار)، لكنه اعتذر لما حدث لاغلب علماء الامة من عدم اقرار هذا الاصل وتعويلهم عليه صراحة مع اعتقادهم به، وذلك - كما قال القرافي - بسبب خوفهم »من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع اهوائهم وارضاء استبدادهم في اموال الناس ودمائهم، فرأوا ان يتقوا ذلك بارجاع جميع الاحكام الى النصوص ولو بضرب من الاقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها باجتهاد الامراء والحكام«.
د ــ مرتبة النص في العقل المثقف
اذ ما هو الاثر الذي يشكله النص عند المثقف الديني؟ وبعبارة اخرى: ما هي المرتبة التي يحتلها النص في عقل المثقف كمصدر معرفي؟ وما قيمة ذلك من حيث المقارنة مع الفقيه، وعلاقة ذلك بالواقع؟
ان المنزلة التي يحتلها النص في عقل المثقف هي ليست كتلك التي في عقل الفقيه. فالاول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً اكثر منه مكوناً، وعلى خلافه الفقيه الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً اكثر منه موجهاً. فالنص لدى العقل المثقف له صفة توجيه الفكر، ولدى العقل الفقيه له صفة تكوين الفكر. ولا شك ان الخلاف بين الحالين ينعكس على الموقف من الواقع. فالذي يوليه صفة التكوين لا يجعل للواقع مكاناً. والذي يمنحه صفة التوجيه لابد ان يكون بحاجة الى كتلة معرفية تكوينية تمارس عليها سمة التوجيه، وهو لا يجدها غنية الا في الواقع.
وهنا لابد من لحاظ الامر النسبي بين التوجيه والتكوين، ذلك ان التوجيه لا يخلو من تكوين مهما بدا ضعيفاً، وكذا فان التكوين هو الاخر لا يخلو بدوره من توجيه وان قلّ ذلك. والفارق بينهما هو كالفارق بين الجسم والضوء. فالجسم كمادة تكوينية لا يخلو من موجة وان تعسر ادراكها، كما ان الضوء كشكل موجي لا يخلو بدوره من جسيمات تكوينية وان استحالت رؤيتها.
مع هذا يرد السؤال عن طبيعة اعتبار النص ذا صفة توجيهية بالنسبة الى عقل المثقف؟ او كيف يمكن للنص ان يكون موجهاً للعقل المثقف من غير حمل تكويني؟
والجواب هو ان المثقف او المفكر يتعامل مع النص تعاملاً قائماً على محورين احدهما يكمل الاخر:
الاول: عبارة عن الارتباط الاجمالي بالنص. فالمفكر يميل الى اعتبار النص مفهوماً وواضحاً من حيث الاجمال، وهو بالتالي لا يشكل مادة تكوينية مفصلة، بخلاف الفقيه الذي يجعل منه حقلاً مفصلاً بالتنقيب والتدقيق.
الثاني: الارتكاز على مبادئ النص ومقاصده الاساسية. الامر الذي يجعل النص عند المفكر يحمل صفة التوجيه التي بدونها لا يأمن الانسان من التيه والضلال.
على ان هذين المحورين يكمل احدهما الاخر. فلا عبرة بالمقاصد وسائر الموجهات العامة إن لم يؤخذ النص بوصفه مجملاً يخلو من المضامين المفصلة التكوينية. كما ان الارتباط بالمجمل لا يكفي ما لم يكن هناك تفصيل يعتمد فيه على تلك المقاصد. اذن ان حاجة المفكر الى المادة التكوينية التي تعمل على تفصيل المجمل وتستهدي بهدي المقاصد وسائر الموجهات؛ انما يجدها في الدور الذي يؤديه الواقع كمصدر معرفي اساس. فالعلاقة - هنا - بين النص والواقع هي علاقة مجمل بمفصل، فالنص اشبه شيء بعصارة ما لدى الواقع من تفصيل. مع الاخذ بنظر الاعتبار ان المجمل فيه كلا المرتبتين من البيان والتشابه، وان هذا الاخير هو موضع الاختبار والتحقيق مع الواقع. لهذا ان المفكر لا يرضى بالتدقيقات والتنطعات التي ألِفها الفقهاء والمفسرون وغيرهم من اهل الاختصاص في الشؤون الدينية، بل ويميل الى اعتبار ذلك ليس من شأن الدين ومخالفاً لمقاصده. وكأنه بهذا لا يجد أجدر من الواقع مصدراً في التدقيق والتفصيل، وذلك لسعة قضاياه وغناها وكونه ذا قابلية اعظم على التحقيق.
هكذا فان النص من الناحية التكوينية لا يضاهي الواقع في المرجعية المعرفية. فما يستند اليه المفكر تكويناً هو معطيات الواقع وحقائقه التفصيلية. أما ما يستند اليه توجيهاً فهو النص بمقاصده وبياناته المجملة. وبالتالي فان ادراك معنى النص لدى المفكر هو ليس كادراك معنى الواقع، وان العلاقة التي تشده اليهما هي ليست كتلك التي لدى الفقيه. فهما يختلفان في صياغة الموقف منهما توجيهاً وتكويناً. وبالتالي فعند التعارض بين ظاهر النص والواقع نجد ان استجابتهما هي استجابة مختلفة عادة. اذ ينزع المفكر الى ترجيح الواقع تبعاً لعدم تنزيله النص منزلة التكوين الفكري، بخلاف الامر مع الفقيه الذي يميل نحو ترجيح النص لتنزيله مثل هذه المنزلة.
اخيراً لابد من لحاظ ان هناك تبادلاً في الادوار التي يسلكها كل من المفكر والفقيه وان بدرجة اقل كثيراً من الممارسة الاساسية التي يؤديها كل منهما في مجاله. فالفقيه ليس منقطعاً بالتمام عن الواقع كمصدر معرفي، كذلك فان المفكر في القبال هو الآخر يعتمد على النص بدرجة ما من درجات التكوين، لكنه يظل اقل كثيراً عن ذلك الذي يعتمده الفقيه. بهذا فما نعده افادة مجملة للفقيه من حيث اعتماده على الواقع هو نفسه عبارة عن افادة مفصلة للمثقف في هذا المجال. وكذا فان ما نعده افادة مفصلة للاول من حيث ارتكازه على النص هو نفسه عبارة عن افادة مجملة للثاني ضمن الاطار نفسه. لكن تظل الميزة الاضافية لدى المفكر والتي لا نجدها وافرة عند الفقيه انما هي ميزة التوجيه، وذلك من حيث اعتبار النص يمتلك صفة التوجيه الفكري للعقل المثقف. مع ما يلاحظ ان المفكر يزاول عملية مزدوجة في العلاقة بين الواقع والنص. فهو من جانب يولي الواقع صفة التوجيه لمكونات النص الجزئية، كما يلاحظ بالنسبة الى عمليات التوفيق التي يمارسها بين العلوم الطبيعية وبين مضامين النص الجزئية. لكنه من جانب اخر يتخذ من الكليات العامة للنص موجهات للعلاقة المعرفية التي تربطه بالواقع مثلما سنرى.
مهما يكن فان ما جعلنا نعتبر ان لكل من المفكر والفقيه مرجعيته الخاصة في المصدر المعرفي؛ انما هو بحسب الغلبة في الاعتماد والتأثير، سواء اعتمدنا في ذلك على ما هو مصرح به، او من حيث لحاظ واقع الفقهاء والمثقفين طبقاً للنهج الكيفي الذي سلكناه.
وعليه ليس هناك ممانعة في ان نجد للمثقف احياناً نزعة فقهية، وان نجد للفقيه نزعة ثقافية، فيكون المثقف فقيهاً والفقيه مثقفاً. وهذا الازدواج لابد وان تظهر عليه سمات الغلبة لاحد الطرفين على حساب الاخر، وان نقاط القطيعة لا تنمحي ما لم يتم الاتفاق على صياغة تقنينية تتم بها آليات المصالحة في المصدر المعرفي بين الواقع والنص. وهو امر شبيه بما شهده تاريخ الفكر الاسلامي من وجود قطيعة ضخمة بين نظاميه المعرفيين: الوجودي والمعياري على ما كشفنا عنه في كتاب (مدخل الى فهم الاسلام).
ج ــ المولدات الواقعية
أما من حيث مولداته الواقعية؛ فالملاحظ ــ كما عرفنا ــ ان العقل المفكر يرتبط بالواقع ارتباطاً تكوينياً، بحيث يكون مناطه الاستكشاف والتفصيل والتدقيق. وهو بفعل هذه الممارسات تتكون لديه جزئيات الواقع لتشكل الحجم الاكبر من منظومته المعرفية، كما يتحقق من خلالها حالات استكشاف السنن والقوانين التي تتحكم في الواقع، والتي بدورها تصبح مصادر لتوليد المعرفة وضبطها وإحكامها، ومن ثم اثراء الجدل بينها وبين تلك الجزئيات، او بينهما من جانب وبين كل من مضامين العقل والنص من جانب اخر. او انها مع سائر الجزئيات تشكل محوراً تنبني عليهما مظاهر تفصيل ما يجمله كل من العقل والنص.
هكذا ان استكشاف القوانين والسنن العامة من الواقع لابد ان تسبقها المعرفة الجزئية لهذا الواقع. وان عملية السبق هذه لا تجري من غير مولدات عقلية وكلية هي التي تضفي على المعرفة قيمتها ومصداقيتها مثلما اشرنا الى ذلك من قبل.
وعلى العموم يمكن القول ان سلطة التوليد التي تتحكم في العقل المثقف او المفكر بشتى اصنافه هي سلطة يمكن ارجاعها الى التجربة او الخبرة البشرية بمعطياتها الموضوعية. فهذه الخبرة تتحول بشكل من الاشكال الى مبادئ يستوحيها المثقف بفعل النظر اليها مباشرة او بفعل اتباع من قام بتحويلها الى تلك المبادئ المعرفية العامة. ففي كلا الحالين يكون المثقف حاملاً لمبادئ او افكار هي نتاج النظر في تلك التجربة، والتي تعبر تارة عن معطى تاريخي، واخرى عن معطى حديث، وثالثة عن معطى يتصف بالعموم والشمول.
فالمثقف الماركسي وهو يستنسخ فكر ماركس انما يعبر عن الشكل غير المباشر من النظر في التجربة البشرية والتي يراها تسير وفق ما استخلصه هذا الفيلسوف من قوانين بعد اجلاء النظر في الواقع وصيرورته التاريخية.
والمثقف العلموي هو الاخر يرى ان التجربة البشرية المتمثلة بالنهج الذي اختطه العلم الحديث والذي اثبت نجاحه الخلاق في العديد من النواحي؛ يكفي ان يُتخذ اصلاً مولداً للمعرفة الحقة في مختلف الاصعدة والمجالات. فهو بهذا يستند الى ما حققته التجربة البشرية من نجاح على الصعيد العلمي ليجعل منها حلقة وصل للتعميم في جميع القضايا التي يتطلع الانسان الى حلها.
كذلك فان المثقف العقلاني هو الاخر قد جعل من التجربة البشرية المتمثلة في عصر التنوير أساساً مولداً للنهضة المعرفية والاجتماعية، معولاً في ذلك على المبادئ التي نجح التنويريون في بثها ونشرها لدى اوساط المجتمع مثل العقلانية والحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها.
والمثقف الذرائعي، كما هو القومي، يرى في الامة مزايا تشكل اصلاً مجرباً يُعتمد عليه في النهضة وتحقيق الامال التي تصبو اليها. فكثيراً ما يرجع الى تجربة الامة في صيرورتها التاريخية ليؤكد ما عليه قدراتها في تحقيق التطور والازدهار؛ مستخلصاً من ذلك مزاياها الخصوصية كمبادئ يستضيء بنورها؛ جاعلاً منها اصلاً يتكئ عليه لغرض اعادة تشكيل الحاضر بما يتفق وضرورات العصر الحديث. الامر الذي يضطره الى الاستعانة بالتجربة الغربية واستلهام مبادئها المعرفية ليكون قادراً على التفاعل مع الاشكاليات الحديثة ومواجهة الواقع الراهن.
أما التجربة البشرية التي يتطلع اليها المثقف الديني ويستلهم منها افكاره ومبادئه فهي تتكون من رصيدين مهمين، احدهما التجربة التاريخية التي نتج عنها تراثنا الاسلامي وما ينطوي عليه من صور تعبر عن بعض التشكيلات الناجحة في عدد من المجالات كالمجال العلمي والاخلاقي والتربوي والسياسي، ومن ذلك التفكير في نظام الخلافة الراشدة كأصل يُعتمد عليه في الرؤية المتصورة عن طبيعة ما يكون عليه النظام السياسي والاجتماعي من مواصفات تبرز فيها صور العدالة والزهد والصفاء وحرية الرأي والنقد والشورى والتقويم وما اليها من مفاهيم مستخلصة من تلك التجربة الفذة لعصر الاسلام الذهبي. أما الرصيد الاخر فهو التجربة الحديثة المتمثلة بالدرجة الرئيسة بما حققه الغرب من نجاحات كبيرة في الكثير من المحاور بما فيها ما نحن بصدده من المجال المعرفي، فكان على المثقف ان ينتقي من المسالك والمفاهيم المعرفية ما شاء له، كما انه كثيراً ما قام بالمزاوجة بين التجربتين المحلية والاجنبية.
على ان التجربة او الخبرة البشرية من حيث كونها مصدر توليد للمعرفة فانها بهذا الاعتبار تمثل نقطة اسناد يلجأ اليها المثقف او المفكر في موارد الاخذ والرفض والفهم والتوجيه والاسقاط والتأويل، مثلما يلجأ الفقيه الى مرجعية البيان الماهوي ليحدد تلك الموارد من الاخذ والرفض والفهم وما الى ذلك.
والمثقف لا يلجأ الى التجربة البشرية بدواع ابستمولوجية معرفية علمية بحتة، انما هو عرضة للمنعطفات الايديولوجية ومنزلقاتها، بما فيها تلك التي لا تخرج عن اطار هذه التجربة ذاتها. فهو كثيراً ما ينحاز الى تجربة حيال اخرى، والى واقع ضد اخر. وينطبق هذا الامر على المثقف الديني، بحيث يزدحم عنده الدور الايديولوجي كلما ازداد احتكاكاً بالواقع، وعلى رأسه الواقع السياسي.
وبغض النظر عن البعد الايديولوجي لحركة المثقف بشتى اصنافه؛ تظل المعايير التي يعتمدها في الغالب معايير مستمدة من التجربة البشرية ومصاغة بشكل مبادئ وتصورات كلية تستهدف كلاً من الفهم والتوجيه والتوليد؛ فتارة توصف بمبادئ التنوير والعقلانية، وثانية توصف بمبادئ الثورة والتقدم والاشتراكية، وثالثة بكونها مبادئ الحرية والليبرالية، ورابعة بانها مبادئ العلم والمعرفة المنظمة الاكاديمية، وخامسة بانها مبادئ الوحدة القومية كالذي روّج له القوميون العرب تحت شعار: الوحدة والحرية والاشتراكية، واخرى بانها مبادئ العدل والمساواة والاخاء الانساني... الخ. فجميع هذه المبادئ والتصورات تتصف بكونها محملة بشحنات من تجارب الواقع؛ مع ما فيها من انتقاءات تتضمن التقريب والاستبعاد. وبالتالي فان المثقف مدين في توليده المعرفي الى تلك النماذج التي حققتها التجربة البشرية او يُفهم انها تدل عليها. فهو من ثم يعتمد على مثال ما من الواقع ليحتذي به، او ليجعل منه مصدراً للتوجيه والتوليد المعرفي. مع ما يلاحظ من انه كثيراً ما لا يُخضِع هذا الواقع الخاص الذي يلجأ اليه، كنموذج يؤسس عليه رؤاه وتوجهاته، الى التحليل والنقد. ومن ذلك انه احياناً يخلط بين الواقعين الغربي والمحلي فيسقط ما لدى الاول على الاخر؛ من غير ان يفكر جدياً بأهمية المكان ودوره وخصوصيته. كما انه كثيراً ما يقع تحت ضغط وتوجيه ما عليه الواقع المعاش بلا رؤية تاريخية - استشرافية تعمل على نقد الحاضر وعدم الاستسلام الى ضغوطه وتغريراته، اذ لم يفكر بأهمية الزمان واعتباراته، ولم يولِ التجارب التاريخية حقها من النظر، انما حصر تفكيره ضمن حدود الحاجات الزمنية ومتطلبات العصر. وبالتالي فانه يفتقر الى الرؤية الشمولية التي تأخذ كلاً من المكان والزمان بعين النظر والاعتبار.
وبعبارة اخرى، ان المثقف مع انه يعول على الواقع تعويلاً كبيراً في بناء وتكوين منظومته المعرفية؛ الا ان ما يشكل عليه هو ان هذه العملية من البناء والتكوين كثيراً ما تتم بشكل انتقائي من غير منهج محدد. فهو ينتقي صوراً جزئية ليشكل منها مفاهيم كلية يعمل على تعميمها واسقاطها بنوع ما من التعسف. اي انه يمارس ما يشابه الدور الذي يمارسه الفقيه عندما يحول جزئيات النص الى كليات عامة قابلة للاسقاط على مختلف اصناف الواقع. فالمثقف بهذا ليس محايداً في نظرته لما يجري أمامه من تجارب واحداث؛ طالما انه يعيش ازمة تعكس ما يدور في الواقع من تناقضات وتغايرات. وهو لكي يعمل على حل هذه الازمة يلجأ الى الانتقائية الواقعية. فالبعض يرى ان ما حلله ماركس للواقع الرأسمالي الغربي وما انتهى اليه من تصورات اجتماعية وتاريخية يمكن ان يصدق على مختلف الاحوال والبيئات، وبهذا تصبح الاطروحة الماركسية قابلة للتبني في مواجهة الازمات التي يشهدها واقعنا المحلي والعالمي، سواء بسواء. وبعض اخر يرى ان ما تم فعله وانجازه من تنوير وعقلانية في العالم الغربي منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا يمكن اختزاله وتطبيقه على مجتمعنا، وذلك بالعمل على تحليل افكارنا ضمن معيار مبادئ التنوير؛ فهي إما عقلانية او لا عقلانية، وتنويرية او ظلامية، وتقدمية او رجعية... الخ. وبعض ثالث يعول على الواقع التاريخي كملجأ نلوذ به من اجل اعادة ترميم ما نالنا من صدأ الانحطاط والفرقة والتشرذم، وذلك عبر اطروحة قومية تجمع شتات الامة وطاقاتها. واخيراً يرى البعض ان في التجربة الاولى للرسالة الاسلامية اعظم معين وسند يمكن الاتكاء عليه لاجل اصلاح واقع الامة واعادة دورها من جديد بمثل ما كانت عليه من قبل.
على ان هذا الاخير جمع في انتقائيته بين الواقعين الغربي والاسلامي. بل كثيراً ما كان يداخل بينهما، خصوصاً وقد غابت عنه ضوابط الانتقاء والمنهجية، سوى انه يلبي في الغالب تلك الذرائعية التي تخدم المرحلة، كما يلاحظ ذلك لدى الرواد من المفكرين الدينيين. ولا شك ان ذلك قد أثر على طبيعة قراءته لنص الخطاب، لكنها في جميع الاحوال تعد من الناحية البنيوية قراءة تختلف عن تلك التي اعتمدها الفقيه استناداً الى البيان الماهوي، الامر الذي جعل القطيعة بينهما امراً متحققاً فعلاً.
واذا اردنا ان نختصر ما لدى المفكر الديني من مولدات معرفية؛ فيمكن القول ان هناك اتساقاً عاماً في التشكيلة التي ربط فيها بين المصادر المعرفية الثلاثة: النص والعقل والواقع. فالنص لدى المفكر ذو تركيبة مجملة يفاد منه التوجيه عند التعامل مع الواقع، وكذا هو الحال مع العقل في قواعده الكلية الموجهة. أما الواقع فهو عنده محل التفصيل الذي به يتكون العقل الثقافي. ومن حيث انه عنصر تفصيل لذا فهو محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، بخلاف ما عليه الحال في المجملين الانفي الذكر.
ان مثلث التوليد لدى المفكر الديني يستبطن اذن جانباً من الوحدة والاتساق. ذلك ان الموجهات العامة للنص كمقاصد التشريع وغيرها تتطابق مع قرارات الوجدان العقلي من غير تضارب. وهي ايضاً لا يمكنها ان تكون في تعارض مع الواقع. فبين هذا الاخير والمقاصد وسائر الموجهات علاقة حميمة، بخلاف الحال فيما لو عكسنا القضية، كإن نعول - كما يفعل الفقيه - على تفاصيل النص ونطابقها مع الواقع بتفاصيله ومجملاته. فبين هذه وتلك لابد ان يظهر التعارض ما لم يتم فهم النص فهماً اخر يبعد عن البيان الماهوي ويقرب الى المقاصد والموجهات الكلية.
وعلى العموم ان اللجوء الى النص بحسب توليد الفهم الماهوي كما يزاوله الفقيه؛ لابد وان يصطدم مع كل من الموجهات الكلية كما تتمثل بالمقاصد والواقع. وبالتالي لا غنى عن العمل بهذه القواعد وجعل العلاقة بين النص والواقع علاقة قائمة على الاجمال والتفصيل. الامر الذي يميل اليه المفكر عادة. فرغم ممارساته الانتقائية، بل والتلفيقية احياناً في مزاوجته للنص والواقع مثلما يظهر ذلك بخصوص تعامله مع قضايا العلوم الطبيعية؛ فانه رغم هذه التلفيقية يميل الى قراءة النص قراءة مجملة وموجهة، ويشدد على اخذ التفاصيل من التجربة البشرية، خلافاً لما هو عليه مسلك الفقيه.
واذا عدنا الى النتائج الاخيرة من المولدات والموجهات المعرفية لدى المفكر؛ فسنجد انه يمكن اختصارها بأمرين معاً هما موجهات النص ومولدات الواقع. أما الموجهات العقلية فتتبدد تحت موجهات النص كما في القيم، وتحت مولدات الواقع كما في الارتباط السببي الذي تتضمنه التجربة او الخبرة البشرية، ويظل للعقل التحليل والنقد.
على ان اهم موجهات النص عبارة عن منظومة القيم وخلافة الانسان، وان المولدات الواقعية تتمثل بالتجربة البشرية في ابعادها الكونية والانسانية. فنحن اذن امام ثلاثة ابعاد يكامل بعضها البعض الاخر، وهي القيم والاستخلاف والتجربة او الخبرة.
فالاستخلاف هو ما يستهدفه المفكر عبر تأكيد ضرورة العمل لاستثمار الطاقة البشرية في اصلاح ما عليه الامة من اوضاع متردية في المجالات كافة. وان التجربة البشرية موظفة لاستكشاف العوالم التي يمكنها ان تساعد على تحقيق تلك العملية من الاصلاح والاستخلاف. أما القيم فهي بطبيعتها ثابتة ومحافظة؛ غرضها منع التجربة من ان تضل طريقها لتحقيق ذلك الهدف المنشود.
مصدر التعارض والقطيعة بين المثقف والفقيه
لا شك ان الخلاف في المرتكزات المعرفية بين المفكر والفقيه لابد وان يضع بصماته عليهما بشيء من التعارض والقطيعة في الرؤى. ومع ان ما يحصل بينهما من تعارض لا يعبر في جوهره عن وجود تقاطع ما بين المصدرين المعرفيين: النص والواقع، لكن هذين الاخيرين هما علة توليد ذلك التعارض؛ لا بحسب ذاتهما وانما من حيث طبيعة الفهم القائم عليهما. وبالتالي فالتقاطع بين المفكر والفقيه يتحدد بحسب ما عليه طبيعة الاليات الاجتهادية ونوع الموجهات والمولدات المعرفية. فالبيان الماهوي الذي يعبر عن آلية الفقيه ومولده المعرفي لا يتفق مع الطريقة العقلائية التي يعتمدها المفكر في الاستفادة من التجربة البشرية كمولد للمعرفة ضمن اطار الموجهات الكلية للنص.
فمثلاً ان الفقيه لا يقبل عادة الاعتماد على كشف الواقع عندما ينافي ما يتم تحصيله من البيان الماهوي. ويشتد الرفض حين يكون ذلك الكشف معبراً عن افرازات للتجربة الغربية. فهو مثلاً لا يتقبل قضايا من قبيل: الديمقراطية وحرية الرأي والتعامل مع البنوك واعتبارات الوطنية والخصوصية والمساواة وجملة من قضايا المرأة وحقوقها وغير ذلك من المسائل العامة التي يضعها المفكر ضمن الاعتبار والقبول عادة.
كما ان العكس حاصل. ذلك ان المفكر يرى في اجتهاد الفقيه الكثير مما يصادم اعتبارات كل من المقاصد والعقل والواقع. فهو مثلاً لا يتقبل ما عليه اغلب الفقهاء من تحريم نحت التماثيل ورسم الصور البشرية والحيوانية والكثير من مسائل الفن والاعلام. وليس من المتوقع ان يرضى بما عليه الفقهاء من فتوى التعامل بالقروض في العملات النقدية طبقاً لمبدأ المثلية؛ مع ما قد يفضي اليه من ظلم في حق الدائن او المدين، وذلك تبعاً لنواحي الهبوط والصعود في العملات. كما ليس من المتوقع ان يتقبل حكم بعض المذاهب الاسلامية في تحديد دية اصابع المرأة؛ باعتباره لا يتسق مع كليات العقل ومقاصد الشرع في نفي التعسف والظلم، حيث تبعاً للرواية تم تحديد دية قطع اصبع واحد للمرأة بعشرة من الابل، واصبعين بعشرين، وثلاثة اصابع بثلاثين، في حين اعتبرت دية قطع اربعة اصابع هي بقدر دية قطع اصبعين، اي عشرين من الابل. وكذا من المؤكد انه لا يقبل فتوى جماعة من الفقهاء في الحكم على بعض الاقوام والاجناس بكراهة التعامل معهم كما في البيع والشراء والتزويج، وذلك بحجة انهم من الجن، كما هو نص الحديث الذي لا يتفق مع منطق الواقع ولا مع مبادئ التشريع ومقاصده. ومثله ما جاء عن ابن حنبل من فتوى عدم قبول شهادة البدوي على القروي. وكذا ما جاء في كتاب (الميزان) للشعراني تعليقاً على فتوى ابن حنبل في حلية صيد الكلب الاسود، حيث عللها بأن هذا الكلب هو شيطان، وصيد الشيطان رجس، لانه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده. كذلك ليس من المتوقع للمثقف ان يثق بما يسلّم به فقهاء بعض المذاهب من ان هناك ميزة بايولوجية تمتاز بها المرأة القرشية عن غيرها، وهي ان سن اليأس لديها يكون متأخراً في المدة مقارنة بغيرها من النساء. وهو ايضاً لا يتقبل الفتوى التي لا تجيز للاعمى سماع صوت المرأة الاجنبية لانه عورة. وكذا الفتوى التي تعتبر ولد الكافر نجساً تبعاً لابويه باعتبارهما نجسين بسبب الكفر، كما هو عليه اكثر فقهاء الامامية. ومثل ذلك الفتوى التي تقول ولد الزنى كافر، والتي نسبت الى عدد من الفقهاء، او على الاقل انه لا خير فيه وانه شر الثلاثة، وانه لا تقبل شهادته ولا تجوز امامته، وذلك تبعاً لعدد من الروايات. واعظم من ذلك انه لا يتقبل عمل الفقهاء بالاطروحات المذهبية وتكريس مقولة الفرقة الناجية قبال ما يطلق عليه فرق الضلال، ومن ثم إبطال عبادات أهلها، وعدم الاعتراف لهم بالايمان. وعلى هذه الشاكلة يمكن لحاظ مواقف المفكر او المثقف من فتاوى الفقيه الخاصة بقضايا الدولة والسياسة والاقتصاد وما اليها، كفتاوى التمييز بين المسلم والكتابي بخلاف منطق المواطنة، وتقسيم العالم الى دارين؛ دار اسلام وحرب، واعتبار مطلق الكافر الاصلي هو حربي ما لم يدفع الجزية، وكشرط العصمة في الحاكم عند جماعة، والنسب القرشي عند جماعة اخرى، وكذا رفض التعددية السياسية، وتقييد صلاحيات المشاركة السياسية للمرأة مقارنة بالرجل.. الخ.
يمكن القول تبعاً لذلك ان المفكر يتحرك ضمن ثلاثة مسالك في موارد الرفض والقبول. فهو لا يعترض على نتاج الفقيه شرط ان يتجاوب مع التجربة البشرية ولا يتعارض مع حقائق الواقع وسننه. وكذا ان لا يكون خلاف مقاصد التشريع العامة، وعلى رأسها مبدأ العدل والمصلحة الانسانية. كذلك ان لا يكون مخالفاً لكليات العقل ووجدانياته. فهذه الاعتبارات الثلاثة هي ذاتها عناصر التوليد والتوجيه لدى المفكر، وهي في مجموعها متسقة وموحدة كما عرفنا.
اخيراً لابد من الاشارة الى العلاقة التي تربط بين العناصر الثلاثة الفاعلة: الفقيه والمثقف الديني والعلماني، وذلك من جهة التقارب والتباعد بحسب ما قدمناه من المرتكزات المعرفية. فطبقة المثقفين على عمومها لها من الوسع ما يجعلها تتموضع في مستويات متباينة من حيث التقارب والتباعد فيما بينها، وكذا من حيث مقارنتها بالفقيه. فقد تجد من المثقفين من هو اقرب للالتزام باعتبارات الفقيه، وهو من هذه الناحية قد يكون تابعاً للفقيه او مقلداً له او ملتزماً باشكاليات النظر والترجيح، وقد يكون له مسلك فقهي خاص، فيصبح مثقفاً فقيهاً. وفي الطرف الاخر قد يكون المثقف علمانياً لا يعترف بالنص كمصدر معرفي جملة وتفصيلاً، ولا بمقاصده العامة. وبين هذين الحدين المتضادين، اي حد الفقيه وحد العلماني، توجد درجات كثيرة يصعب تحديدها، الا ان فيها يتموضع المثقف الديني. فمع ان جميع المثقفين يلجأون الى الواقع والتحليل العقلي كمولدات للمعرفة وانتاج النظر؛ طبقاً لما تم عرضه في السابق، الا ان ما يمتاز به المثقف الديني عن غيره من المثقفين هو انه يضع نصب عينيه مصدراً اخر مهماً في التوجيه المعرفي، وهو ذلك القائم على النص، الامر الذي يقربه من هذه الناحية الى الفقيه، مثلما يكون ارتباطه بالواقع كمصدر توليدي مقرباً له من سائر المثقفين. ولعل الامر ذاته ينطبق ببعض الاعتبارات على الفقيه. اذ قد تجد من الفقهاء من هو اقرب للالتزام بمسلك المثقف واعتباراته، فيكون على هذا تابعاً للمثقف، وقد يحمل ذات المسلك الذي يحمله هذا الاخير، فتصبح لديه نزعتان فقهية وثقافية، اي انه يلجأ في مرجعيته المعرفية للتوليد الى كل من النص والعقل والواقع. وهو على الطرف الاخر قد يكون مقيداً كلياً بمرجعية النص دون سواه من المصادر الاخرى، مثلما يلاحظ لدى الاتجاهات السلفية والاخبارية المغالية. ولا شك ان بين هذا النمط من الفقيه المتشدد وبين ذلك الفقيه الذي يتماهى مع المثقف؛ توجد درجات متفاوتة يتموضع فيها الفقهاء، واغلبهم اليوم يقع في سلّم هذه الدرجات، لكن يظل انشدادهم المبدئي انما هو للاعتبارات التوليدية للنص من حيث الاساس، فهو مرجعهم الاول في تحديد الدائرة المعرفية، وعليه ينشأ الفهم والتوليد تبعاً للبيان الماهوي.
لكن يمكن تصوير العلاقة بين المثقف والفقيه بانها عبارة عن دوائر متباينة من التقارب والتباعد؛ أبعدها تلك التي احداها لا تكاد تكون مماسة لحدود الاخرى، مثلما هو حاصل بين الفقيه المتشدد والعلماني المتطرف، أما اقربها فهو التطابق، وذلك عندما يكون المثقف فقيهاً، وكذا العكس تماماً. لكن بين هاتين المرتبتين نجد تفاوتاً وتداخلاً في سائر الدوائر الاخرى لدى كل من المثقف والفقيه؛ قرباً وبعداً. ويمكن ابراز نماذج من الرسوم البيانية لهذا التفاوت حيث نرمز للفقيه بمربع موسوم بحرف (ف)، وللمثقف بدائرة موسومة بحرف (م)، وذلك كالاتي: الخصائص المعرفية
هناك خصائص معرفية عامة تترتب على طبيعة المرتكزات لكل من المفكر والفقيه. فالرؤى الناتجة عن الممارسة المعرفية لكل منهما تتصف بمواصفات خاصة تتسق وطبيعة ما عليه تلك المرتكزات. فللعقل الفقيه خصائصه المعرفية التي تميزه عما لدى العقل المفكر او المثقف من خصائص، وذلك لاختلاف المرتكزات بينهما.
وبعبارة ادق، ان لكل منهما ما يمكن ان نطلق عليه الحساسية المعرفية التي وظيفتها العمل على صبغ الرؤى المعرفية بصبغة المولدات. وبالتالي فان هذه الرؤى لا تتولد بصورة حتمية وآلية؛ وانما تنشأ بفعل التحسس والجذب الذي تثيره سلطة تلك المولدات.
ويمكن اجمال هذه الخصائص بالشكل التالي:
1ــ الهدف المعرفي
اول ما يلاحظ من خصائص معرفية للفقيه هو ان ما يستهدفه من التوليد المعرفي هو »تديين الواقع«، اي تنزيل الدين على الواقع وطبعه بطابعه الخاص، وبالتالي العمل ضمن اطار ما يطلق عليه الحق الالهي. في حين ان ما يستهدفه المفكر الديني من التوليد المعرفي انما هو »توقيع الدين«، او جعل هذا الاخير يتخذ صبغة واقعية تتحقق من خلالها المصلحة الانسانية. وبالتالي فان هناك منهجين متعاكسين؛ احدهما يرى ان الغاية التي يتوجه اليها عملاً وسلوكاً هي حق الطاعة، بخلاف الاخر الذي يرى ان غايته العظمى مجسدة بالمصلحة الانسانية. فبحسب نهج الفقيه ان حق الطاعة يدعو الى الالتزام التام بما يرد في النص دون غيره من المصادر المعرفية الاخرى، وان المصلحة الانسانية ليس لها من اعتبار الا من حيث جعلها تابعة ضمن ذلك الحق المستهدف، الامر الذي يفسر الاستغراق العميق للفقهاء في البحث عن الشكليات الحرفية للنص وما يترتب عنها من اجتهادات لا علاقة لها بمساهمة الواقع، الا عند الضرورة وضغط الواقع.
في حين ان الامر لدى المفكر يختلف كلياً طالما انه يجعل من المصلحة الانسانية هدفاً يرمي اليه في تحديد ابعاده المعرفية وما يترتب عليها من مواقف. وهو بالتالي لا يرهن نفسه بحدود ما يرد من تحديدات تكوينية ولفظية في النص، وانما يذهب الى الاستكشافات العقلية والواقعية التي تحدد طبيعة المصالح التي يراد تحقيقها على ارض الواقع. وهو لأجل هذا الغرض يسعى الى دراسة الواقع بكل تجلياته متخذاً من الخبرة البشرية رصيده المعرفي، ومن الموجهات النصية سبيله التقويمي، وذلك على عكس ما يقوم به الفقيه من سعي نحو استكشاف عوالم النص بمفرداته ودلالاته واسانيده لاجل معرفة كل ما يتعلق بحق الطاعة.
مع هذا يلاحظ انه لا الفقيه ينكر المصلحة الانسانية، ولا المفكر الديني يرفض حق الطاعة، الا ان بينهما اختلافاً حول الاولويات واسس التركيب والتوفيق بين الهدفين المشار اليهما. فالفقيه ينكر ان تكون المصلحة هي الهدف الرئيس من وراء ممارساته المعرفية، بل انه في الغالب لا يعترف بهذه المصلحة الا ان تكون صادرة عن دائرة حق الطاعة، اي من حيث هي مقررة بحسب النص والشرع، وذلك تبعاً لمقولة الاشاعرة في الحسن والقبح الشرعيين. وبالتالي لا اعتبار للمصلحة الا من حيث جعلها الله مصلحة لما يملكه من الحق المطلق. اذن طبقاً لهذا النظر تكون المصالح الانسانية مجرد تعبديات ليس للعقل فيها حكم ولا دخالة، بل المصلحة مصلحة بفعل اعتبار الشارع لا غير، مثلما أشار الشاطبي الى ذلك. ولا شك ان المفكر الديني لا يميل الى مثل هذه الاراء، فهو لا يسعه عادة ان يتقبل نظرية الاشاعرة في التحسين والتقبيح الشرعيين، وبالتالي فانه يفْصل قضية المصلحة الانسانية عن دائرة حق الطاعة، بل ويرى ان الاولى مرجحة على الاخرى عند التعارض، وذلك باعتباره يضعها هدفاً منشوداً يُدرك بها ما للدين من حِكَم وغايات، فلولاها ما كان للدين من هدف ولا معنى.
ومن الجدير بالذكر ان النصوص الدينية لا تجعل بين حق الطاعة والمصلحة الانسانية تنافراً، فبينهما مداخلة نسبية تجعل احدهما يدخل بنسبة ما في الاخر. فمصلحة الانسان هي ايضاً حق يريده الله تعالى ويأمر به. أي أنها من هذه الناحية تدخل ضمن اعتبار حق الطاعة، وإن كانت في حد ذاتها مطلباً انسانياً. وكذا بخصوص حق الطاعة الذي به تتحقق الفائدة في تقويم الانسان واصلاحه في الدنيا. الامر الذي يجعل للاحكام الشرعية وجهين، احدهما عبادي والاخر حضاري. فحيث انها دالة على امر الله ومولويته ووجوب طاعته والامتثال لاوامره فانها تكون من هذه الحيثية عبادية. لكن حيث ان غرضها مصلحة الانسان وتسديد حاجاته لنيل الكمال وسعادة الدنيا - ناهيك عن الاخرة - فانها تكون حضارية.
2ــ الوسيلة المعرفية
حيث ان المولدات المعرفية للمثقف تتحدد بكل من التجربة او الخبرة البشرية وموجهات النص؛ كان من الطبيعي ان تكون المعرفة لديه عبارة عن وسائل لتحقيق ما ينشده من مقاصد. وهو اذ يستند الى التجربة البشرية او خبرة الواقع؛ فان ذلك كفيل بان يجعله يكتشف حالة المرونة في تلك الوسائل، وبالتالي فانه لا يجمد على وسيلة ما قد يكون مشاراً اليها في النص. الامر الذي يختلف فيه مع الفقيه. فهذا الاخير تارة يتعامل مع وسائل النص ومقاصده بنفس الروح والدرجة من الثبات، واخرى - وهو الغالب - يرجح الاولى على الثانية، وذلك عندما تكون الاولى منصوصاً عليها بالتخصيص بخلاف الاخرى. مما يعني ان الفقيه لا يتعامل بمرونة مع الوسائل المعرفية طالما يستند في مولداته الى البيان الماهوي. وبذا تتولد الفجوة والصدام مع الواقع. فمثلاً ان الفقيه عادة ما يميل الى فهم جهاد العدو بانه جهاد حربي مقدس ينبعث مما يدل عليه النص صراحة، وان النهي عن المنكر ومحاربته يعتمد على ما هو مفصل بحسب البيان الماهوي ضمن الدرجات الثلاث المعروفة، وهو التغيير باليد او اللسان او القلب، طبقاً للحديث النبوي الشهير. في حين لا يعتبر المفكر هذه التعيينات تعيينات ثابتة الضرورة، وهو لا يعول عليها إن بدا له انها لم تعطِ في بعض الاحيان تلك الثمار المرتقبة التي تبرر مصداقيتها المشروعة، وانها على العكس قد تصادم الواقع بما يؤول الى خلاف ما عليه المقاصد، الامر الذي يجعله يستعيض عنها بوسائل اخرى يراها مناسبة لتحقيق ما يصبو اليه من مقاصد؛ سواء على مستوى مجاهدة الطرف الاخر، او من حيث محاربة المنكر. فقد يتولى في بعض الحالات دور الجهاد الحركي غير المسلح بغية تحقيق المقاصد الدينية. وهو في هذا الدور قد يسعه القيام بالامرين معاً: مدافعة الطرف الاخر، والعمل على محاربة المنكر. ومن ذلك قد يساهم في المشاركة السياسية مع مختلف الاتجاهات العلمانية وقبول مبدأ الديمقراطية كمنهج حركي عام تتحدد فيه المنافسة بين الاتجاهات المتباينة من دون الدخول في المعترك الحربي. اي انه يشترط ان يكون هناك احترام متبادل لدى جميع الاطراف حيال اي رؤية يتم انتخابها بحسب ما ترغب اليه الاغلبية؛ ضمن قواعد دستورية محايدة يتفق عليها الجميع. فهذا الشكل من المجاهدة يفتح المجال امام الرؤية الدينية ان تؤدي دورها في العمل البناء لتحقيق المقاصد؛ سواء كانت ضمن السلطة السياسية الحاكمة ام خارجها، وذلك بأقل الخسائر الممكنة مقارنة مع ما عليه الجهاد الحربي.
وواقع الامر ان هذا الشكل من المجاهدة يذكرنا بما كان عليه المتكلمون الاوائل، وعلى رأسهم المعتزلة، حيث انهم قاموا بمحاججة غيرهم من الطوائف غير الاسلامية بسلاح معرفي يتفق عليه الجميع، وهو الاحتكام الى العقل وليس اللجوء الى نص الكتاب والسنة؛ لبداهة انهم يختلفون في مرجعيته المعرفية. والحال نفسه ينطبق على الممارسة السياسية، حيث لا يوجد عنصر محايد يمكن ان يتفق عليه الجميع من دون اخلال بالمبادئ المتبعة؛ غير مبدأ التعددية او الديمقراطية. فهي آلية لا تختص بفئة ولا بفلسفة دون اخرى، بل انها وسيلة مشتركة قابلة للتوظيف والتطبيق على اي مضمون كان؛ سوى ذلك الذي يؤدي الى نفيها. وهي من هذه الناحية تشابه علم المنطق الذي آل امر المسلمين الى قبوله وتطويره رغم انهم يعلمون انه نتاج فكر يوناني. فهم وافقوا عليه طالما مثّل عندهم ذلك المبدأ الحيادي الذي يمكن توظيفه لدى مختلف العلوم والفلسفات. مع هذا فالفقيه الذي قبِل المنطق كعلم لا غنى عنه في الممارسة الاجتهادية؛ هو نفسه الذي لم يتقبل الديمقراطية لعدد من المبررات تعود الى مولده المتمثل بالفهم الماهوي. وقد يوافق البعض على قبولها مؤقتاً ريثما يتم استلام الحكم ثم لا يرى مناصاً من الانقلاب عليها، او انه يعمل على تكييفها بالشكل الذي تكون فيه اقرب الى الشورى ولا تتعدى حدود المفهوم الديني.
اذن فالخلاف بين المفكر والفقيه حول شكل الوسائل المعرفية المتبعة لتحقيق مقاصد التشريع؛ انما يعود الى دائرة ما يختلفان عليه من اصول مولدة. فالفقيه الذي يجعل مولده التكويني لا يتعدى حدود البيان الماهوي؛ لا محالة انه يضيق ذرعاً بالوسائل الاخرى التي تكشف عنها التجربة البشرية. وذلك خلافاً لما عليه المفكر الذي جعل مولده التكويني مفتوحاً على التجارب والخبرات التي يفرزها الواقع.
3ــ القيمة المعرفية
الملاحظ ان الرؤى التي يولدها الفقيه عبر آليته الاجتهادية هي رؤى ذات قيم مطلقة. ذلك انه لما كان التوليد قائماً على البيان الماهوي، وان هذا البيان يتصف بالثبات والاطلاق من حيث علاقته بالحوادث والقضايا الخارجية؛ لذا فان ما ينتج عن هذه الممارسة الماهوية لابد ان لا يتأثر من حيث المبدأ بأي تجديد يمكن ان يحدث في الواقع الخارجي. مما يعني ان القيم التي تحدد طبيعة تلك الرؤى هي قيم مطلقة.
وليس الامر كذلك مع المفكر. فحيث انه يعتمد في توليده على الواقع، وان لهذا الاخير مظاهر متغايرة ومتجددة على الدوام، لذا كان من الطبيعي ان يتعامل مع القضايا الخارجية تعاملاً مرناً، وبالتالي فان الرؤى التي يولدها لا تعدو كونها رؤى ذات قيم نسبية قابلة للتعديل والتغيير والتحوير. وهو ما يصدق على نماذج المثقفين والمفكرين كافة. صحيح ان للمثقف او المفكر خصوصية انتقائية يمارس من خلالها عملية الاسقاطات التعميمية، ومن ثم يلتزم بمواقف معرفية ذات قيم مطلقة شمولية. وصحيح كذلك ان ما يؤاخذ عليه اليوم هو حمله لمظاهر اللاتاريخية واللاعقلانية نتيجة ركونه الى المطلقات وتمسكه بالنماذج الجاهزة.. كل ذلك صحيح، لكن الملاحظ - مع هذا - انه كثيراً ما يتأثر بحالات الصدام مع حقائق الواقع وتجدداته، الامر الذي يضطره الى اعادة النظر فيما يطرحه من مواقف ومقولات، بل وما يلجأ اليه من مذاهب واتجاهات. وهذه العملية تكاد تكون ظاهرة متكررة تشهد تقلبات جذرية في مواقع المثقفين. والكثير من هؤلاء ينتهي الى ان يستظل بظل المثقف الديني بعد الطواف بالتجارب المعرفية العلمانية. واخص بالذكر هنا اليساريين منهم. وبالتالي فان ما يتعلمه المثقف من ذلك هو التسليم بكون ما يطرحه من رؤى انما هي رؤى نسبية وليست ذات قيم مطلقة شمولية. خاصة وان المثقفين يحملون تيارات متضادة لا تجمعها اصول مشتركة، وان المولد المعرفي وإن كان متفقاً عليه بينهم فيما يخص الخبرة البشرية الا ان الانتقائية التي مارسوها جعلت بعضهم يقف على الضد من الاخر. وهو وإن كان له من الدلالة على الخصوصية الاطلاقية للموقف المعرفي للمثقف، لكن من السهل ان يستلهم منه المثقف الوعي بحقيقة ما يرتكن اليه من نسبية معرفية، الامر الذي يختلف فيه الحال مع الفقيه. اذ الاصول التي يعتمدها هي اصول متفق عليها من حيث الاساس، والتوليد المعرفي الذي يمارسه ليس فيه صفة الانتقائية بالمعنى المشار اليه عادة، وانما له خصوصية بيانية ماهوية. وبالتالي كان من الصعب عليه ان يغير نهجه واتجاهه رغم التجارب الطويلة التي خاضها عبر القرون. فالمسار التاريخي للفقيه هو مسار يكاد يكون ثابتاً لم يمسّه شيء من التغيير الجذري، وان النهج التوليدي القائم على البيان الماهوي لا يدع مجالاً للتغيير والتحويل. وعليه فان ما ينتجه الفقيه من رؤى تميل الى ان تتصف بانها رؤى ذات قيم مطلقة وشمولية.
وكمقارنة بين الثبات المعرفي لدى الفقيه وما يقابله من التغير لدى المفكر؛ نلاحظ ان ما يتمسك به الاول من نهج بياني ماهوي يجعله يواجه على الدوام ازمة حادة من الصدام مع كل من الواقع والمقاصد، وذلك باعتبار ان ما يولده من رؤى انما هي رؤى ذات قيم مطلقة. في حين لا تلزم هذه النتيجة بالمقارنة مع ما لدى المفكر الديني. ذلك ان ما يولده من رؤى لما كانت قائمة - من الناحية التكوينية - على التجربة البشرية؛ فان صدامها مع الواقع او المقاصد او غيرهما ليس كفيلاً بان يجعله يعيش ازمة حقيقية كتلك التي لدى الفقيه، فلا مانع لديه من ان يبدل الرؤى برؤى اخرى مغايرة، وذلك بتبرير مستمد من الواقع ذاته، حيث يعي ان هذا الاخير يكشف عن مظاهر متغايرة ومتجددة ينتج عنها مضامين معرفية لا يمتنع ان تتصف بحالات من التغير والتبديل، وبالتالي فهو يعلم ان ما يحمله من مواقف معرفية انما يكتنفها الطابع النسبي نظراً لتجددات الواقع وتغيراته. الامر الذي نلمسه في شواهد كثيرة من المواقف المعرفية. ومن ذلك ان تبنيات المفكر الديني في القضايا العامة شهدت العديد من التحولات، مثل تحوله من الدفاع عن الاممية الاسلامية الى الخصوصية والوطنية الاسلامية، ومن الاعتماد على المستبد العادل الى الاحتكام الى الشورى والديمقراطية. وفي جميع الاحوال انها لديه ليست اكثر من وسائل يمكن توظيفها لاغراض مقصدية، وبالتالي جاز تعويض بعضها بالبعض الاخر تبعاً للاتساق ما بين الواقع والمقاصد.
4ــ الروح المعرفية
لما كان الفقيه يعتمد في مرجعيته التكوينية على النص، وان اغلب ما يعول عليه هو الاخبار والروايات، وحيث يكثر الطابع الاعجازي في هذه المنقولات الظنية الصدور؛ لذا فقد تشكلت لديه بنية يصح وصفها بانها بنية تجويزية. اي انه يستسيغ الحكم على الواقع ووصفه؛ سواء كان ذلك يتسق مع الطابع السنني للحياة او لا يتسق معها بنوع ما من الخرق والاعجاز. يضاف الى ذلك كون اغلب الفقهاء متأثرين بالمذهب الاشعري الذي لا يرى فاعلاً في الوجود غير الله؛ ناكرين بذلك سنن الخلق وتأثيرها، الامر الذي عمّق حالة التجويز لدى العقل الفقيه. فالروح العامة لهذا العقل هي روح تجويزية؛ سواء من حيث استناده الرئيس الى نص الحديث، او من حيث تعويله الغالب على المذهب الاشعري.
في حين ان المفكر الديني حيث انه يستند في مرجعيته التكوينية الى الواقع، وحيث ان هذا الاخير يؤكد الطابع السنني ولا يبدي نواحي خرق الطبائع والقوانين؛ لذا كانت روحه العامة روحاً سننية وليست تجويزية. فمن حيث المبدأ انه لا يميل الى ما يُنقل من تجاوز لحدود قوانين الواقع؛ ما لم تكن هناك شهادة قطعية على حالة الخرق كما يحصل في معاجز الانبياء لغرض اثبات النبوة.
فكما يقول رشيد رضا: »انما الذي يقضي به العقل ان لا نصدق بوقوع شيء على خلاف السنن الثابتة المطردة في نظام الاسباب العامة الا اذا ثبت ثبوتاً قطعياً لا يحتمل التأويل«. ويقول: »فكل خبر عن حادث يقع مخالفاً لهذا النظام - اي نظام الاسباب والمسببات - والسنن فالاصل فيه ان يكون كذباً اختلقه المخبر الذي ادعى شهوده او خدع به ولبس عليه فيه..«.
على ان هذا الاختلاف في الروح العامة بين المفكر والفقيه؛ جعل رؤى احدهما تتقاطع مع رؤى الاخر. وبالتالي فليس كل ما يولده الاول يكون مرضياً عند الثاني، وكذا العكس صحيح ايضاً. فمثلاً ان محمد عبده ورشيد رضا يرفضان الكثير من المنقولات التي يرويها اصحاب التفسير والحديث، واحياناً يقومان بتأويل المعنى إن كثرت الرواية واصبحت من المسلمات لدى العلماء، ومن ذلك انه عندما سُئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فانه قال: »إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والاخذ بأسرارها وحكمها، وان القرآن أعظم هاد الى هذه الحكم والاسرار، وسنة الرسول (ص) مبينة لذلك فلا حاجة للبشر الى اصلاح وراء الرجوع الى ذلك«. وقد تكرر ما يشبه ذلك مع المفكر محمد باقر الصدر، حيث نقل عنه أحد تلامذته (السيد كاظم الحائري) كيف انه احتمل لأحاديث الرجعة المسلّم بها لدى علماء الامامية معنى اخر اقرب الى التصور العلمي، وهو انه ليس المقصود منها رجعة الاموات الى عالم الدنيا كما هو ظاهر نصوص الروايات، وانما تمكّن الاحياء من الاقتراب الى عالم الموتى والاخرة، فتضيق الهوة بين العالمين، وهو امر قد لا يكون مستبعداً من ناحية مستقبل الكشف العلمي، وذلك على خلاف المعنى الاول الذي له صفة خرق السنن الطبيعية.
كذلك فان المفكر الديني لا يتقبل تفاسير القرآن القائمة على الخوارق غير الطبيعية طالما وجد لها ادنى دلالة على التفسير السنني. فمثلاً ما جاء في تفسير محمد عبده لقوله تعالى: {ألم ترَ الى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم احياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون} البقرة/٣٤٢ــ٤٤٢، حيث انه رفض كل الروايات ذات الصفة الخارقة للسنن الطبيعية التي فسرتها، واعتبرها من الاسرائيليات، وقام بتفسير النص على نحو واقعي وايديولوجي، معتبراً ان الله تعالى أمات القوم بتمكين العدو منهم، وانه أحياهم بمعنى انه أحيا غيرهم من الامة. وعلى هذه الشاكلة قام هذا الشيخ بتفسير قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} البقرة/٦٥، معتبراً ان المراد بالبعث هو كثرة النسل، اذ بعد ان وقع الموت في بني اسرائيل بسبب الصاعقة وغيرها وظنوا انهم سينقرضون؛ بارك الله في نسلهم إعداداً لهم للبلاء ليشكروا الله تعالى على ما تفضل عليهم من النعم التي كفر بها آباؤهم.
كذلك جاء في قوله تعالى: {ان اول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام ابراهيم} آل عمران/ ٦٩ــ٧٩. حيث ذكر المفسرون في المقصود من قوله {آيات بينات} هي ما كان لمقام ابراهيم او وقوفه من معاجز غير طبيعية، منها الاثر الذي ما زال لقدمي ابراهيم في الصخرة التي وقف عليها، حيث ألان الله تعالى جانباً منها دون الاخر، وغوصه فيها الى الكعبين. لكن رشيد رضا استبعد ذلك ومال الى ان الصخرة كانت رطبة عندما وطئ عليها ابراهيم ثم تحجرت بعد ذلك وبقي أثر قدميه فيها.
ومن حيث الموقف من المدونات الروائية يلاحظ ان فقهاء اهل السنة يسلمون بما تم تدوينه من احاديث فيما يطلق عليه الصحاح الستة، خاصة صحيحي مسلم والبخاري؛ رغم ان فيها الكثير مما لا يتفق وظاهر الواقع او سننه. وهذا ما جعل عدداً من المثقفين ينظرون بعين الريبة لمثل هذه الاحاديث المنسوبة الى النبي (ص)، كتلك الاشارات التي ابداها احمد امين، مما جعل الشيخ مصطفى السباعي يتولى الرد عليه بمنطق عقلية الفقيه، كما في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي). وكان من بين اعتراضات أمين ما جاء في صحيح البخاري عن حديث الكمأة القائل بأن »الكمأة من المَن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم«، وقد روي ان ابا هريرة قال: »أخذت ثلاث أكمؤ او خمساً او سبعاً فعصرتهن في قارورة وكحلت به جارية لي عمشاء فبرأت«. ومثل ذلك حديث التمرات القائل: »من اصطبح كل يوم سبع تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم الى الليل«، وكذا حديث: »لا يبقى على الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة«، وعلى هذه الشاكلة حديث الذبابة المروي في صحيح البخاري والقائل: »اذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فان في إحدى جناحيه داء والاخرى شفاء«، وغير ذلك من المرويات التي تحتاج الى اختبار وتحقيق قائم على الواقع لمعرفة صدقها من كذبها، كالذي دعا اليه أحمد أمين.
على ان هناك الكثير من مثل هذه الروايات ليس من السهل على العقل المثقف ان يتقبلها على ظاهرها، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري من ان التثاؤب من الشيطان، وان صياح الديكة ونهيق الحمار يفسران برؤية الملك للاول والشيطان للثاني، وان العظم والروثة من طعام الجن، وان المرأة مخلوقة من الضلع، ومثله ما جاء في صحيح مسلم، كما جاء في هذا الاخير ان الشؤم في الفرس والمرأة والدار، وانه يقطع الصلاة كل من المرأة والحمار والكلب الاسود، حيث ان الكلب الاسود هو شيطان، وان اشياء الارض من التربة والبحر والجبال والنور وغيرها مخلوقة كل منها في يوم من أيام الاسبوع، وما جاء في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث من ان الشمس عند غروبها تذهب حتى تسجد تحت العرش؛ وذلك كتفسير لقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}، وكذا ما جاء في غير الصحاح من تحديدات خاصة بعمر الدنيا وعمر الامة الاسلامية، وكالقول بأن النساء ناقصات عقل وايمان وحظوظ، والنهي عن تعليمهن الكتابة وسورة يوسف وتركهن بلّهاً، وان المرأة شرّ كلها وشرّ ما فيها انه لابد منها، وان الارض مرفوعة على حوت في الماء وهو على ظهر صفاة وهي على ظهر ملك وهو على صخرة في الريح.. الخ، مثلما كان يسلّم بذلك او بمثله المختصون من اهل البيان والتفسير، وقد افضى الامر في بداية العصر الحديث الى انكار الكثير منهم كروية الارض... وهكذا.
وقديماً سبق لابن خلدون ان وضع منهجاً خاصاً في نقد الحديث انطلاقاً من الروح السننية؛ وذلك بتمييز النصوص إن كانت ممكنة او مستحيلة من خلال عرضها على الواقع او السنن الكونية والعمرانية (الاجتماعية) التي يشهد عليها الحاضر قبل عملية فحص السند والتعديل والتجريح التي يتولاها علماء الحديث ويستند اليها الفقهاء. لهذا فهو ينبه على ما وقع به المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل من الاغلاط بما نقلوه من حكايات ووقائع لاعتمادهم على مجرد النقل غثاً او سميناً دون عرضها على طبائع الكائنات ولا قياسها على اشباهها مما نشهده في الواقع، ولا حكّموا فيها اصول العادة وقواعد السياسة والاجتماع، وعلى رأيه فان الماضي هو أشبه بالآتي من الماء بالماء.
مهما يكن، فالملاحظ ان العقل الفقيه محكوم بالالية المعرفية البيانية التي فرضتها عليه الصنعة طيلة قرون، مما جعله لا يولي اهتماماً لما عليه الواقع من سنن وحقائق.
5ــ الايديولوجيا المعرفية
ان القضايا المشتركة التي يتنافس عليها المفكر والفقيه في التفكير وابداء النظر هي تلك التي لها علاقة بالمجتمع، وذلك لغرض تغييره واصلاحه. فمن جانب تتصف هذه القضايا بالعموم لا الفردية، كما ان لها - في الغالب - دلالات معيارية تتعلق بمنظومة القيم والسلوك. ومن ذلك المسائل السياسية وحقوق الانسان والمرأة والمواطنة والقومية والدستور والعلاقة مع الغرب ومنتجاته الثقافية والمادية وغيرها. وبالتالي فان لكل منهما رسالة تتعلق بالاصلاح الاجتماعي، وإن بدا التنافس والاختلاف بينهما لاختلاف المعايير المتبعة في التفكير، وذلك انطلاقاً مما يحملانه من ركائز معرفية متقاطعة، مما يجعل رهانهما لحل المشكلة الاجتماعية مختلفاً. فبينما يلجأ الفقيه الى النص كمولد تكويني لكسب الرهان، مستعيناً في ذلك بكل ادوات التحقيق البيانية من السند والدلالة اللغوية؛ فان المفكر في القبال يعمد الى التجربة البشرية مع موجهات النص لتحقيق هدفه في الرهان، موظفاً لذلك كل الوسائل العلمية التي تتكفل بها المناهج والعلوم الانسانية كعلم الاجتماع والنفس والاقتصاد والاحصاء والتاريخ وغيرها. فمثلاً اذا كان الفقيه يلجأ لحل مشكلة الفساد الخلقي بالوعظ والتحذير؛ فان المفكر او المثقف يلجأ في علاجه الى البحث عن الاسباب والعوامل الكامنة وراء هذا الفساد لتغييرها، كإن يرى ان المشكلة الاساسية تكمن في البطالة، او صعوبة الزواج لغلاء المهور، او للكثافة السكانية، او غير ذلك. واذا كان الفقيه يستعين عادة في دعوته لاصلاح المجتمع على ما هو خزين لديه من تكوين بياني للنص دون اللجوء الى الطرق العلمية المساعدة؛ فان المثقف على خلافه يستخدم الوسائل العلمية في الاصلاح، ويعتمد على التخطيط قبل القيام بخطواته في التغيير.
أما من جهة محفزات حركة كل من المثقف والفقيه؛ فانه يمكن تصويرهما كأنزيمين لا ينشطان الا عندما يتحقق ما يناسب الحركة من مثيرات. فالمحفزات التي تدفع بالانزيم المثقف نحو الحركة والنشاط هي تلك التي تتحدد بتأزمات الواقع الاجتماعي؛ وخصوصاً السياسي منه. في حين ان محفزات الانزيم الفقيه التي تدفع به نحو الفعل والنشاط هي تلك التي تتعلق بتأزمات المظاهر الدينية في المجتمع. وبالتالي فان الايديولوجيا التي تحرك الفقيه هي ايديولوجيا دينية، بينما التي تحرك المثقف ايديولوجيا واقعية؛ سواء على نحو التبرير او التغيير، مع لحاظ ان تأزمات الحياة وتغيراتها قلما تحدث في المظاهر الدينية مقارنة بما يحدث في غيرها من المظاهر الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فان ذلك ينعكس على نشاط الانزيمين. فبينما يكون نشاط الانزيم الفقيه خاملاً عادة؛ فانه على العكس بالنسبة الى نشاط الانزيم المثقف، حيث تتأجج فيه روح الحركة باستمرار.
اذن لدى كل من العقلين المثقف والفقيه حساسية تنبعث مما يرجعان اليه من مرتكزات ومولدات معرفية، وهي تتحول الى نوع من النشاط الانزيمي بفعل ما تصادفه من محفزات خارجية تناسبها.
6ــ المحصلة المعرفية
من كل ما سبق يتبين ان النتائج التي تسفر عن العملية المعرفية للفقيه هي ظنون اجتهادية بيانية ماهوية في الغالب. فالفقيه يعي ان ثمرة جهده في استنطاق النص واستنباط ما امكن له من معارف واحكام لا تتعدى دائرة الظن في الغالب، وهو ظن يتصف بنمط خاص من المعرفة هو الظن البياني الماهوي، وذلك باعتباره نتاج المولد المعرفي للعقل الفقيه، لهذا نطلق عليه الظن البياني.
أما الحصيلة التي تسفر عن الممارسة المعرفية للمفكر فيلاحظ انها ليست بيانية وانما هي عقلائية خبروية، وذلك استناداً الى طبيعة المولد الذي يحتكم في تكوينه المعرفي الى ما عليه الخبرة البشرية واستنطاق الواقع؛ سواء كانت النتائج ظنية او قطعية، مع ما تتظلل به هذه النتائج من الموجهات الكلية للنص.
وحيث ان هناك نوعين من الحصيلة المعرفية؛ فالمتوقع ان تكثر حالات التعارض والتقاطع بينهما. لكن ايهما اقوى ترجيحاً وتقديماً؟ ما نراه في غالب الامر هو ان الظنون الخبروية هي المقدمة ترجيحاً على الظنون البيانية؛ لاعتبارين مهمين كالاتي:
اولاً: ان العملية المعرفية في حالة الظنون الخبروية تمر بطرق قريبة وقصيرة في الكشف عن الحقيقة، حيث يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون البيانية عبر سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الاستدلالية بما تتضمن من مدارات احتمالية متشعبة، الامر الذي يجعلها اضعف قوة وجاذبية مقارنة مع ما تتصف به الظنون الخبروية. فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فان على الفقيه ان يراعي جملة امور لتفضي قضيته الى المطلوب. فحيث ان مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ لذا فان عليه ان يبحث في الشروط الخارجية لصحة النص قبل النظر في شروطه الداخلية؛ فيقوم بفحص السند للتعرف على سلسلة رجال الرواية، وهو في هذه المرحلة يسعى للحصول على نوع من الظن في وثاقة الجميع، مع الاخذ بعين الاعتبار ان السلسلة الطويلة تضعف من القيمة الاحتمالية لوثاقة الجميع، كذلك فان التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الاخر يعمل على اضعاف هذه القيمة. وكل ذلك يواجهه الفقيه، اذ يلاقي أمامه سلسلة ليست قصيرة من الرواة، وهو من حيث التوثيق يعتمد على اخرين تناولوا تراجم الرجال بالاجمال المخل، خاصة وانه لم تكن بين الطرفين معاصرة واحتكاك مباشر. فالتوثيق غالباً ما يكون توثيقاً للغائب دون الحاضر. واذا اضفنا الى ذلك ان المنقول من الرواية قد لا يخلو من الزيادة والنقصان خلال مروره في السلسلة؛ خاصة وان اغلب المنقول هو منقول بالمعنى وليس باللفظ، وهو عادة ما يكون مقطوع الصلة بملابسات الخبر، الامر الذي يبعث على احتمال ان يكون المراد به خصوصية ظرفية غير قابلة للتعميم والاطلاق. فضلاً عن ان للفظ احياناً وجوهاً من الاحتمالات، مع وجود ما يعارضه من نصوص اخرى هي بدورها تخضع الى نفس ما مرّ علينا من تعقيدات احتمالية. فكل ذلك لا يدع مجالاً لاحراز الثقة بالظن البياني عادة. فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وهناك تردد اخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ او تخصيص وتقييد او غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. اذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والاحتمالات الواردة، كالتي صورناها قبل قليل، مع انه كلما ازداد عدد اطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة اكثر فاكثر. ولا شك ان هذه الحصيلة لا نجدها عادة تحدث بخصوص الظنون الخبروية العقلائية، وذلك باعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الاحتمالية التي بعضها يتوقف على البعض الاخر، وانما كثيراً ما يتم التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لأن تعطي المزيد من الوضوح؛ طالما ان هذه الدلالات والبينات هي مما يمكن النظر فيها تفصيلاً بشكل مباشر او شبه مباشر.
ثانياً: ان الظنون الخبروية هي ظنون تتقبل المراجعة والفحص والتحقيق بدرجة اقوى كثيراً مما عليه الظنون البيانية. حيث من السهل معاودة الواقع ومراجعته عندما يمر بسلسلة ما من التغيرات والتغايرات. اذ ان كل تنويع جديد يعبر عن بينة ودلالة اضافية يمكن توظيفها في سلك الممارسة المعرفية، وبالتالي فان لها أثراً على الحصيلة النهائية من العملية المعرفية. وهو امر يختلف كلياً عما هو الحال بالنسبة الى النظر في النص، وذلك لكونه يتصف بالمحدودية والثبات وعدم التغيير، وبالتالي فان الخبرة المستمدة منه هي خبرة محدودة وثابتة، وان الدلالات المعطاة عنه هي دلالات لا تقبل الاضافة الجديدة باستثناء ما يمكن ان يستكشفه الباحث من جديد غير ملتفت اليه من قبل، وحتى في هذه الحالة فان الغالب في الامر يعود الى فضل التأثر بحقائق الواقع في الكشف عن مضامين النص، كالذي يلاحظ في دلالات الاشارة الى العلوم الطبيعية والتي لم تُدرك في النص الا بعد ان شاعت الاكتشافات العلمية الحديثة في الغرب. مما يعني ان مراجعة الواقع بحسب التوليد الخبروي له دور في تصحيح الافكار والرؤى؛ سواء الافكار المستمدة من الواقع ذاته، او حتى تلك المستنبطة من النص عبر الاليات البيانية. في حين ليس بوسع البيان الماهوي ان يقوم بمثل هذا الدور في المراجعة المعتمدة على النص. وبعبارة اخرى ان هناك معلمين استكشافيين للواقع، في حين لا يوجد الا معلم استكشافي واحد للنص تتم المراجعة والبحث فيه. كما ان هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الاول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كالاتي:
ان النص لما كان ثابتاً ومحدوداً؛ فان كل ما يرجى منه هو استكشاف الدلالات التي يتضمنها دون انتظار المزيد من النص، حيث لا يوجد غيره. كما ان دلالاته لما كانت علاقتها بالكشف عن الواقع هي دلالات تتصف غالباً بالاشارات المجملة؛ لذا فان اي مراجعة فيه لا ينتظر ان تكون كاشفة عن جديد في هذا الواقع عادة. وبالتالي فان هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما ان المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي عادة حدود النص ذاته. في حين ان للواقع معلمين استكشافيين، احدهما ما يتعلق بالدلالات المعطاة مما هو حاضر امامنا من حوادث ناجزة، والاخر من حيث ما يضاف الى ذلك من دلالات منتظرة لها علاقة بالحوادث المستقبلية الجديدة، او التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد. واذا ما تم التقابل بين حروف النص وبين حوادث الواقع؛ فالملاحظ ان الاولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما ان مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار اضافة حرفية جديدة. في حين ان حوادث الواقع ليست محصورة امامنا بكاملها، فبعضها اصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الاخر ننتظر قدومه، وبالتالي فان الاستثمار المعرفي في هذه الحالة هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وان المراجعة في حوادث الواقع تارة تتم باعادة النظر فيما سبق دراسته من غير اضافة معتمدة، واخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا لحوادث الواقع وقضاياه غير منقطعة ومؤثرة على اكثر من مجال، ذلك انها تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما ان لها تأثيراً على تغيير افكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.
هكذا يتضح ان للظنون الخبروية وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي اعظم واوسع من تلك التي تعود الى الظنون البيانية. المثقف والفقيه وقضية الاصلاح لا حاجة للتذكير بان اول ما يجب ان يلتزم به كل من المثقف والفقيه هو الايمان والتقوى، فلا جدوى من الممارسة الاجتهادية لكل منهما إن لم تتأسس على هذين الركنين الثابتين.
نعود لنقول ان الفقيه بحاجة ماسة الى اصلاح طبيعة ما يعول عليه من مرتكزات معرفية. فهو بحاجة الى الاعتراف بمرجعية الواقع والوجدان العقلي كمصدرين معتبرين واساسيين في التكوين المعرفي؛ بحيث لا تقل رتبتهما في الممارسة الاجتهادية عن مرجعية النص، وذلك ليتحول نمط هذه الممارسة مما هو ذو طابع ماهوي الى وقائعي، وان مكوناته المعرفية بحاجة الى الموجهات الكلية العامة من المقاصد وغيرها.
وواقع الامر ان هذا النهج المقترح هو ذاته الذي سلكه الخطاب الالهي، بحيث لا يمكن عزله عن تأثير الواقع، كما لا يمكن فصله عن الموجهات الكلية.
أما ما يحتاج اليه المثقف الديني فهو الوضوح المنهجي والتخصص. ففي الاطار المنهجي هو بحاجة الى تنظيم ما يبديه من وجهات النظر بحيث يضفي عليها القوالب المنطقية والاولويات المنهجية بشكل واضح وصريح. فهو معني باضفاء الطابع المنهجي على مرتكزاته المعرفية، ذلك انه وإن جعل نصوصه التكوينية تتمثل بالواقع، ومارس آليات النظر والتكوين بنحو من العقلائية والنقدية، كما وجعل موجهاته الكلية عبارة عن مقاصد التشريع، وكذا مولداته عبارة عن التجربة البشرية.. لكن المطلوب هو المنهجة لهذه المرجعيات للكشف عن حدودها وقوانينها؛ بحيث لا تغفل كلاً من الضرورة الدينية ومتطلبات الواقع. ومن ذلك انه بحاجة الى التخلي عن الانتقائية المعهودة والاشكال المعرفية الجاهزة، وان يبتعد ما بوسعه عن تأثير الميول الايديولوجية عند المعالجة المعرفية.
أما في اطار التخصص فلا شك انه ليس من العسير على المثقف ان يسلك هذا الاطار ليضارع به الفقيه بما يقدمه من جديد معرفي ضمن الدائرة الاسلامية. ونرى ان اقرب العلوم التي تتفق مع تطلعات المثقف هو ما يطلق عليه اليوم علم الكلام الجديد. بل يمكن القول ان هذا العلم هو نتاج المثقف. فهو من جانب يشكل ثقافة لم تبلغ حد التخصص مثلما كان عليه الكلام القديم، وانه يبحث في الاطارات الكلية التي لها مساس بقضايا الواقع المعاصر وعلاقتها بالنص، وبالتالي فان اغلب مضامينه تقع تحت اهتمام المثقف الديني. فالمثقف كان وما زال يمارس دوراً كلامياً من النوع الجديد، وانه بهذا اصبح ينافس الفقيه، لكنه بحاجة الى تحويل ثقافته الكلامية الى علم تخصصي، مع العناية بعلم الطريقة الذي يولي اهتماماً بمناهج الفهم الاسلامي والنظر في الكليات
المصدر: موقع عفيف النابلسي