وعي جديد!

وعي جديد!

خالد الحسن

ما العمل؟ السؤال الذي أرق الجميع، وأفنى البعض عمره لفك رموزه، والعجيب أن بعض القراء والمتابعين والغيورين ومن لدغ قلبه وعقله ينتظر الإجابة جاهزة دونما عناء ومشاركة جماعية لصياغة موقف معاصر ودليل عملي لتوجه يتجاوز التركة والتوابيت والقوالب الموروثة. نعم هي مهمة سهلة أن يمسك كاتب هذه السطور القلم ويبث أفكاره "الراديكالية" المتناثرة، ويسجل الملاحظات ويفتح الجبهات ويشن الهجمات، لكن هل أتى بجديد؟ وهل قدم البديل وعرض رؤية واضحة المعالم؟

 

الخطوة الأولى في عملية إعادة ترتيب الأوراق وصناعة وعي جديد هو القلق، الباعث على فك الحصار المضروب على العقل الحر..والذي فرضه منطق التسليم والافتتان بالمشيخة ووصاية التنظيم وإقالة العقل..إنه ليس الاسم الذي يصنع التأثير..ولا الرصيد وحده يكفي لتفعيل المواقف..ولا الألقاب تصنع الأفكار الحية.. ولا التمجيد والهالة والسابقة والمحنة والمنحة يوجه القطاعات الشعبية الواسعة التي تحتضن الوعي وتطالب بالتغيير والإصلاح وتتطلع إلى المشاركة في القرار والعملية السياسية والاجتماعية.

 

نعم.. إنه القلق.. يروي أحد الأصدقاء أنه لازم أكثر من شيخ "لامع"، وفي النهاية اعتزل الجميع..لأن هؤلاء راهنوا على أسمائهم وألقابهم وسابقتهم في عملية التأثير والتوجيه، دونما محاولة لتطوير الأداء والتفنن في صناعة التأثير وتفعيل المواقف والرؤى..إنه لا يكفي الحرف والحرفان..في عملية التأثير..وما عاد سحر الكلام يصنع وعيا..ولغة الشعر لا تصلح لدار القضاء..خاصة مع بروز جيل عميق الوعي ثاقب النظر واسع الأفق..تنكر لعقيدة التفويض والتسليم في الحراك الدعوي..وضاق صدره من الرؤوس المهيمنة والأسماء "اللامعة".

 

والمخرج إنما يصطنع اصطناعا وينضج بالمعاناة وإعمال العقل وإخصاب الرأي والمشاركة في الصواب وفك الحصار المضروب مما سبق وأن ذكرناه آنفا، والشجاعة الفكرية، أما أن ننتظر حتى ينضج، هذا المخرج، ويصل إلينا جاهزا، فهذا ولى عهده وانقضى، بعدما كاد أن يتحول إلى وصفة لازمة في عهد بروز الجماعات والتنظيمات الإسلامية، وتضخيم جانب التلقي على حساب النظر والمحاورة.

 

وأمامنا، لإنضاج هذا المخرج، تحدي تشكيل وعي جديد، وتوجه جامع ورأي عام ضاغط. بإمكان هذا الجيل الجديد أن يفعل الكثير، وأن يستفيد من موجة الوعي الجماهيري العارمة التي لا تخطئها عين المتابع، فكم من مؤشرات صحية تجاهلناها، وأن يخترق جدار الصمت المضروب على الحقائق الموءودة التي قتلناها بصمتنا.

 

ولعل أبرز تحديات هذا الجيل هو التحرك والانخراط في العملية السياسية والاجتماعية من خلال مؤسسات ومراكز أو تجمعات مدنية، حيث النزول إلى ساحات التأثير والاحتكاك بالقضايا والهموم، وإنضاج الرأي والاشتراك مع "الغير" في طلب الحق والظفر بالصواب والعمل به، حتى لا يرتهن في قبضة الحاشية ويحرر طباعه الذهنية من حضور السلطة الطاغي، ولا ينغمس في جزئية معينة مما تحجب عنه جوانب أخرى مهمة من القضية. فانظر مثلا في قضية العراق، كيف أننا أكثرنا من تحذير الشباب العربي إلى السفر في العراق، وتوقفنا عندها ولم نتجاوزها إلى قضايا أهم وأعمق في الشأن العراقي، ومنها الاستدراج نحر حرب طائفية والتوجه العدواني المركز من بعض تيارات الشيعة بما يتجاوز مصالحهم المشروعة وحقهم الطبيعي ويخترق حقائق التاريخ والجغرافيا.

 

وهناك ملامح لبروز جيل جديد في الأوساط الإسلامية على امتداد العالم العربي، وخاصة في بلاد الجزيرة، لا تخطئه عين المراقب. اكتشف أنه قد تورط في الأوهام حتى الثمالة، وأنه كان عليه أن يفهم حقيقة التحولات في النفس والمجتمع والسياسة. والتحدي الذي يواجهه ليس أفكارا مجردة ولا أشباحا، وإنما هو قوى تاريخية كابحة تتربص به وتحاول أن تروضه. يحس بضغط التاريخ، لكنه بخلاف من سبقوه، يمتلك الإرادة في تجاوز الإرث التاريخي القديم.

 

لا يعني هذا الجيل كثيرا الجدال القديم وأحيانا العقيم والمكرور والمستهلك والممل حول الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي ومقولات مدرسة النهضة والإحيائية والنقدية، لأنه ببساطة لا يهتم بمسألة "الارتباط" و"الولاء" و"التبعية" لجماعة أو مدرسة إصلاحية بعينها، ويستهويه كثيرا أمر التوجهات الكبرى، ويحاول الحفاظ على استقلاليته.

 

وأهم ما يؤرق هذا الجيل، غياب الخطة الشاملة والمشروع الفكري الباعث على الحركة، والدليل العملي للسير والحراك..التف يمينا وشمالا.. وجالس فلانا ولازم علانا..فاكتشف أن كل رأس ينتصر لفتوى أو قضية معينة، ويدندن عليها ولا يتجاوزها إلى قضايا أخرى إلا بعد ملل وضجر..ولم يجد تصورا واضحا ولا معالم لمشروع أو خطة تغري بالجاذبية والتأثير والفعالية.

 

ورغم أنه لا يشكك في أن حصيلة التحرك المنهجي الواعي تفوق ما يتمخض عن السير العفوي الطارئ من مردود، وإن بناء المؤسسات القوية التي تخضع لموازين الفقه الدعوي في عطائها الفكري أو السياسي أو الإعلامي أو العلمي أو الاقتصادي أو..عملية شاقة مركبة من مجموعة أجزاء ومهام وقابليات. إلا أنه استقر عنده أن تعثر عدد من المشروعات والأفكار في بداياتها، إنما مرده في بعض جوانبه إلى غياب خطة عمل واضحة وتحرك منهجي واعِ، كم من مشروع ومؤسسة ظهرت ولا زالت قائمة إلى الآن، لكن ينقصها التأثير والفاعلية، أو أنها ولدت مشوهة، لأن حضور القائد الفذ العالم البصير في مخيلتنا حجب عنا عجزنا وضعفنا وعوضنا عاطفيا عن حالة الفشل المؤسسي.

 

إننا ننتقد التنظيمات الإسلامية في سياساتها الداخلية والخارجية وندين جمودها الفكري، وهذا حق كل ناقد بصير غيور، لا ننازعه فيه، ولكن عندما نواجه الواقع والجمهرة بمشروع أو مؤسسة نتلبس ببعض ما كنا ندين به الغير.

 

ولعلنا بهذا نكتشف سرَ قصور كثير من الجهود لتجميع القابليات وأهل الرأي والعلم والخبرة وتركيب أجزاء الخير وإطلاقها، إنه التعويل على "القائد الفذ" الملهم، وتعليق الأماني عليه، ويكفي وجوده بيننا ليعوض نقص الطاقات والعقول، وهذا وهم تحول إلى مرض نفسي، أقعدنا عن الإبداع والتميز ضمن عمل تجميعي هادئ موزون، في انتظار إنجازات رجل الملحمة الذي جمع خصال الخير وفنوع العمل وأحاط بالمهارات، وبهذا نكون قد خدعنا أنفسنا ووضعنا هذا القائد الملهم في ورطة!.

 

وكثيرا من أعمالنا ينقصها العمق والدراية وأهل التخصص، لأننا لا نفكر في المشروع المؤسسة، وإنما نختزل المشروع والفكرة في شخص بعينه نبرز تصريحاته وفتاويه ونتناقل مقالاته ونعدَ خطواته ونحصي إنجازاته البطولية، ونكون بهذا قد ملأنا فراغا نفسيا وركنا إلى الاتكالية وعطلنا حواسنا وطمسنا الخير والحق الذي أودعه الله فينا ووهبنا عقولنا إلى القائد. والغريب أن هذا ليس مرده إلى غياب الهمة وروح العطاء والبذل، فهذا متوفر ويزخر به مجتمع الدعاة بنسب كبيرة، ولكن في استيعاب مفهوم القيادة والتوجيه، وأنها مؤسسة وتخصصات وتقاسم أدوار، وليس عملا فذا بطوليا يقوم به شخص مهما علا قدره ونبغ عقله. ولا تسأل عن دليل القيادة العملي أو طريقة عملها، فهذا موكول لعقل القائد واختياراته!.

 

وفي غياب منجية في الأداء القيادي الجماعي، أو قصور العملية القيادية المركبة، تكثر صور التطابق والتماثل، ولا يستقر للقائد مشروع ولا مؤسسة، ويضعف الأداء، ولا يُؤبه بالتخصص. إن القيادة عملية مركبة موزعة على قابليات وتخصصات وقدرات، وهي عصارة فكر وحصاد رأي قبل أن تكون كتلة مشاعر وتدفق عواطف.

 

إننا لا زلنا نعيش وهما اسمهه "رجل الملحمة"، ومؤسساتنا ومشاريعنا لا يمكنها أن تحقق الأثر وتبدع وتتميز في عطاءاتها وأدائها المنهجي، ما لم نرسخ مفهوم القيادة الجماعية باعتبارها عملية تركيبية.

 

المصدر: مجلة العصر

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك