منهجية التفكير كما يبرزها القرآن الكريم
منهجية التفكير كما يبرزها القرآن الكريم
أبو زيد المقرئ الإدريسي
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتدبّر في كتابه وأمرنا من خلال كتابه بالتدبّر في كونه وخلقه وشؤونه ، أمراً يأتي في مساق الاستفهام والنفي الإنكاري (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) . والآية تورّي بطريقة غير مباشرة و تكنّي بأن حاصل من لا يتدبر هو الختم على قلبه و العياذ بالله . وهكذا ، تصبح الحالة الفكرية السلبية مؤشراً على الحالة الإيمانية السلبية فيما نفهمه من هذه الآية من الكتاب الكريم.
فماذا عن المنهج النبوي؟ إننا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في سلوكه وحاله ومقاله وسيرته قبل البعثة وبعدها يدعو إلى التدبر ويمارسه ويفجّره ويفتّقه ويستثمره وينجزه في أرض الواقع منهج دعوة وواقع دولة . وهو الذي قرأ قوله تعالى (إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)، ليقول معقباً في خشوع وتهيب من هذه الآيات الكريمات "ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن".
وما لاحظناه في آية (أفلا يتدبرون القرآن) من ربط الحالة الإيمانية بالحالة الفكرية يتأكد أيضا في الآية الثانية وفي تعليق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، فالذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض هم الذين يبيتون لربهم قياما ويذكرونه ويخشونه ويخافونه. وليس المقصود في هذين السياقين والتعليق النبوي عليهما مجرد التدبر الإيماني المحض ، فهذا من ضرورات تصحيح العقيدة ومن مستلزمات قيامها أصلاً ، وإنما يُراد بذلك أيضا التفكر العقلي الخالص والتأمل الذهني العميق الذي يفضي إلى الكسب المعرفي الصحيح.
نقول هذا انطلاقاً من الحالة التّعسة التي تعيشها جماهير الأمة الإسلامية ، التي ألغت العقل إلغاءً شبه كامل ، وحقّرت دورهُ وعطّلت استثماره ، بل وإنها فعلت ذلك أحياناً باسم الإيمان توهماً منها أن من مستلزمات الإيمان الصحيح أن يقوم الإنسان بكبح جماح العقل ولجم أسئلته المزعجة القلقة المشاغبة ، وظناً منها بأن هذه الأسئلة تؤدي إلى أن يتزعزع إيمانه ويتذبذب يقينه .
وهكذا كان الحصاد المر لخمسة قرون أسميها ويسميها غيري عصور الانحطاط والممتدة من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر، كان الحصاد المر فيها الخرافة والشعوذة وتعاطي السحر وتصديق التنجيم والاعتماد على العرافة والكهانة على مستوى الاعتقاد ، وكان الحصاد المر على مستوى السلوك التواكل، والتواكل يختلف عن التوكل ، فالتوكل جزء من مستلزمات الإيمان والعمل أما التواكل فنقيض الإيمان.
وقد قرأتُ كتاباً منذ عشرين سنة لأستاذةٍ أمريكية ، تدرّس الأدب العربي والتاريخ العربي والفكر العربي ، كتبتهُ لإرشاد بني جلدتها الأمريكيين للتعامل مع العرب إذا ذهبوا إلى بلادهم تعاملَ السائح أو التاجر أو السياسي أو الديبلوماسي وسمّته"Understanding Arabs" وتقول فيه: من الأمور التي عليك أن تعرفها أيها الأمريكي للتعامل مع العرب أنهم قوم لا يتحملون المسؤولية ويرفضون الاعتراف بالخطأ ويمسحون ذلك كله في إرادة الله وقدره . ولأنها جاهلة بالدين الإسلامي فإنها أضافت إلى ذلك أن هذا من مقتضيات دينهم الذي يرى بأن الفعل في الدنيا كله لله وأنه ليس للإنسان فيه كسب .
وهكذا كما قلنا ، كان التواكل وكان الجهل وكان الكسل الذهني وكان العزوف عن العلم، وتُوّجَ ذلك بإغلاق باب الاجتهاد وشيوع التقليد فالتعصب المذهبي فتقديس السابقين فالرضا بالعلم الجاهز ، وهو العلم الذي تعب فيه الأوائل ولكنه ليس علماً قابلاً للتطبيق أو صحيحاً لكل زمان ومكان لأنه ليس وحياً ولا شرعاً ، وإنما هو اجتهاد عقلٍ في زمان ومكان لتنزيل الوحي على واقعٍ محدد. وعندما يزول هذا الواقع المحدد نحتاج إلى إعمالِ الذهن من جديد في كل مقتضيات الفقه . ولهذا يوجد الفرق بين الفقه وبين الشريعة وهذا الفرق لا يجد مسوّغه إلا في هذه الحقيقة . ولهذا كانت الشريعة خالدةً أما الفقه فمتحرك ، وتنزيل الشرع إلى الواقع بجهد العقل يتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان .
وأخيراً ، انتهينا في القرن العشرين إلى التخلف التكنولوجي الذي أثمر تحكم الغرب فينا حتى أذلّنا هذا التحكم أيما إذلال ، فنحن نشحذ لقمة الخبز كما نشحذ منهم الصاروخ والطائرة . بل إننا نأخذ منهم أبسطَ ما استطاع الإنسان أن ينتجه منذ عهد الفينيقيين والسومريين والفراعنة وهو القمح ، ونأخذ منهم آخر تجهيزات التكنولوجيا في مجل الاتصال أو الحرب .
وهذا عجزٌ ولكنه عجز لا يتعلق بمقتضيات القوة والتدافع ، وإنما يتعلق بهذه الجذور التصورية والمعرفية التي بدأتها متسلسلة من سوء الظن بالعقل والخشية منه على الإيمان ، إلى وجود خللٍ في العقيدة وخلل في السلوك وضياع على مستوى الرؤية والمنهج . ولإنقاذ حالنا التعسة مما نحن فيه فإن علينا أن نعيد الاعتبار إلى العقل بصفته نعمةً من الله ، وهذه النعمة سوف نُسأل عنها ، وبصفة العقل وسيلة من وسائل التكريم والبقاء والتدافع فإننا سوف نُسأل عن هذه الوسيلة. وبصفة العقل قرين الإيمان فليس العقل متضارباً مع الإيمان ولا مُقللاً من قوته وعمقه ، ولا هازاً لأركانه ، بل على العكس العقل هو الذي يصون الإيمان تماما كما أن الإيمان هو الذي يصون العقل . ذلك أن الإيمان بدون عقلٍ يصبح خرافة كما أن العلم بدون إيمان يصبح إلحاداً ، فمن أجل دينٍ بلا خرافة وعلمٍ بلا إلحاد كما يقول المفكر الإسلامي الفذ "علي عزت بيكوفيتش" في كتابه القيم "البيان الإسلامي" وهو بضع ورقات سجن عليها خمسة عشر عاما بمعدل سنة سجن لكل ثلاث ورقات، والكتاب أُلّفَ قبل عام سبعة وستين وتسعمائةٍ وألف ، ومع ذلك فلا يزال لم يفقد بعدُ قيمته بل إنه لا يزال متقدماً على كثيرٍ مما تُدبجهُ يَراعاتُ الحركة الإسلامية في بلاد المشرق الإسلامي .
أقول ، من أجل ذلك كان لابد أن نعود إلى الأصول ، وقد عدت إلى القرآن الكريم وحاولت أن أستقي منه ضوابط وأسس لوضع منهجيةٍ عامة لهذا الاعتبار وخلصت إلى هذه التأملات الخالصات لم أتكأ فيها على كتاب للتفسير ولا علم أصول التفسير ، وإنما هي تأملاتٌ إن وُفقت فيها فمن الله عز وجل وإن أخطأت فلا يحسب ذلك إلا عليّ ، وهذا لا يُلزم الإسلام ولا عقيدة الإسلام ولا علم التفسير ولا علم القرآن بل لا يُلزم أحداً في الدنيا ، ولمن قبلها أن يستثمرها في بناء الذات الإسلامية ، ولمن رفضها أن يراسلني ويكاتبني تصويباً وتصحيحاً، فلا خير فيمن لا يقبل النصيحة ولا يستمع إليها .
المنطلق: ونبدأ من المنطلقات لأن المنطلقات دائما تكون ذات طابع تأسيسي . وفي المنطلقات نجد كيف أن القرآن الكريم يعيد الاعتبار للعقل ويضعه في مقام خاص في منطلقيه التأسيسين المنطلق النسقي والمنطلق التاريخي . أما المنطلق النسقي فيتمثل في أول حرف نزل في القرآن الكريم ألا وهو "اقرأ" . وهنا وقفةٌ لابد منها حتى نفقه هذه الأوّلية فليس الأمر متعلقا بأهمية القراءة وقيمتها وأهمية العلم وقيمته فقط ، كما توحي كل القراءات المتسرعة والسطحية والساذجة أو المتعمقة لأولوية "اقرأ" في القرآن الكريم .
وللتوضيح أقول: لنغمض أعيننا قليلا ولنتأمل حالة الجزيرة العربية عند نزول القرآن الكريم ، إن الجزيرة العربية كانت تغرق في الشرك فهي أحوج إلى أن يكون أول ما ينزل: وَحِّدْ ، وكانت تغرق في الكفر فهي أحوج إلى أن يكون أول ما ينـزل: آمن . إنها كانت لا تعبد الله بل تعبد الأصنام فكان أحرى أن يكون أول ما ينـزل: اعبد . إنها كانت تعيش ظلماً اجتماعيا قاهرا للمرأة والطفل والعبد والذين لا عصبية لهم يأكلهم ذووا العصبية الغالبة
وأحياناً على بكر أخيـنـا إذا لم نجد إلا بكراً أخانا
بغاة ظالمين وما ظُلمنا و لـكـنا سنـبـدأ ظالـمينا
كما قال زعيم بني تغلب عمرو بن هند الذي قالت عن قبيلته كلمة التاريخ "لولا الإسلام لأكلت بني تغلب الناس" ، أفما كان أولى أن يكون أول ما نزل هو: اعدل؟ لقد كان في قريش من عتاة وصناديد الملأ المكي - و هم طاغوتٌ يصد الناس عن دين الله ويحاربه - ما يحوج أن يكون أول ما نزل هو: جاهد. ولقد كانت القبيلة العربية مشتتةً ممزقة متصارعة ، أفما كان الأولى أن يكون أول ما نزل هو: وحّد؟ ولكنه لم تنزل آمن هي الأولى ولا نزلت وحِّد هي الأولى ولا نزلت جاهد هي الأولى ولا نزلت اعبد هي الأولى ولا نزلت انصر ولا أصلح ولا أي شيء من هذه الأوامر ، وإنما نزلت "اقرأ" ، وليس لذلك في رأيي المتواضع إلا تفسير واحد يتمثل في أنه لابد من تأسيس كل هذه الأفعال على هذا الفعل، لابد أن تتأسس كل هذه الأفعال على فعل المعرفة السليمة ذلك أن الإيمان بلا اقرأ سيصبح خرافةً ، وأن الدعوة بلا اقرأ ستصبح تنفيراً ، وأن العبادة بلا اقرأ ستصبح بدعةً ، وأن الجهاد بلا اقرأ سيصبح إرهاباً .
وهكذا كان لابد من إنارة العقل بالعلم باقرأ ، وتنزلُ اقرأ هذه على رجلٍ أمّي في مجتمع أمي يعتز بثقافته الشفوية ، حتى إن شاعرهم في المقدمة الطللية إذا أراد أن يصف اندراس أطلال حبيبته شبهها بالكتابة ، كما قال طرفة بن العبد "كما خط على الرسم راقم" ، لأن العربي كان إذا أخذ الرق المسطور فإنه لا يرى فيه إلا خيوطاً متشابكة تذكره بأطلال حبيبته إذا درست بعد مرور العاصفة على المكان الذي رحلت منه هذه القبيلة .
وأكثر من ذلك نرى أن التأسيس النسقي لم يكن فَلْتَةً في بداية الوحي ، وإنما استمر في نَسَغِ ونسيج القرآن من أوله إلى آخره . ويكفي أن نقول أن لفظة العلم ومشتقاتها وردت 750 مرة في القرآن الكريم ، وهذا كلام الله المبني على بلاغة الإيجاز وإعجاز الإيجاز ، ومن مقتضيات الإيجاز عدم التكرار فلا يكرر في مساق الإيجاز إلا ما كان ضرورياً أن يُكرر لأهميته . ثم إن هذا كلام الله وكلام الله فوق أن يُستخفّ به ، والعاقل إن حدّثك فإنه لا يحتاج أن يعيد كلامه نظراً لثقل كلامه في نفسك ولثقل اعتباره في وعيك وقلبك ، فكيف إذا كان كلام الله؟؟ إنه ليكفي للأمر الواحد أن يأتي مرةً واحدةً في القرآن الكريم حتى يحتل في نفوسنا ووعينا المكان الذي يليق به لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف إذا تكرر هذا 750 مرة . وكم أتمنى – في هذا المقام – أن يقرأ كل مسلم كتاب الدكتور "عماد الدين خليل" المسمى "مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم" ، من منشورات دار الرسالة في بيروت ، ففيه شفاء القول في هذا الباب .
هذا عن التأسيس النّسَقي ، وهذه إشارة واحدة من إشارات عديدة ، ولنأتِ الآن إلى التأسيس التاريخي . إن التاريخ حدثٌ يقع في زمان ومكان ، فما هو المكان الذي نزلت فيه "اقرأ"؟ إنه غار حراء، وهذا المكان مخالفٌ بكل المقاييس للمنهج العام لاختيار الوحي ، ذلك أن الوحي يتقصّدُ دائماً أن يبتعد عن مواطن الشبهات التي قد تثير في وجه الخطاب الدعوي النبوي زوابع الشك . ولذلك اختير رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعين عاما حتى لا يُنظر إليه ويُقال غلام ، واختير جميلاً كامل الخلق حتى لا يُتَنَقَصَ من جماله أو خلقته فيكون ذلك حاجزا بينه وبين الدعوة بالاستهزاء ، واختير أُمّياً فحُرِم نعمة القراءة التي جاء الإسلام يدعو إليها حتى يقطع الطريق على من سيتهمونه بنقل الكتب السابقة .
وهكذا اختار الله عز وجل اختيارات ليست بالضرورة من أصول الإسلام مسايرةً للوضع حتى لا يجد الخطابُ أمامه أي تشويش. فالإسلام لا يعتمد على جمال الخلقة وكمالها كما لا يعتمد على سن الأربعين دلالة على النضج ، وكذلك فإنه لا يحتاج إلى أن يحرم نبيه من القراءة قطعاً لأفواه المتشككين والمدعين ، وأضف إلى هذا ما شئت .
إذاً نجد كيف تقصّد الإسلام أن يأتي باختيارات لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدفها الأساسي الابتعاد عن الشبهات ، ونجد الإختلاف فقط في موضوع اختيار مكان الوحي ، فعوض أن تُختار لحظةٌ من اللحظات الواضحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحسباً لأن يتهم بما هو شائع في الثقافة السائدة آنذاك ، بأنه شاعرٌ أو كاهنٌ أو ساحرٌ أو عَرّافٌ أو يأتيه الرِّئي أو له علاقةٌ بالجن أو الشياطين ، وبدل أن تُختار لحظة نزول الوحي عليه وهو جالسٌ وسط القوم في صحن بيت الله الحرام ، أو جالسٌ وسط أهله أو ضيوفه يأكل ويشرب، أو يمشي في الشارع أو يعافس الناس في الأسواق ، بدل هذا كله اختيرت لحظةٌ قد تلقي بشيء من ظلال الشك على مصدرية الوحي وقد تربطها بشكل آلي مع ما هو سائد في الثقافة التفسيرية آنذاك ، لأن السحرة والكهنة والدجالين كانوا يخرجون إلى الخلاء ويناظرون الجن ويدخلون إلى الغيران وإلى الآبار ينزلون إليها يتلقون فيها ، وكان هناك وادي عبقر في ظاهر مكة إلى غير ذلك .
إن اختيار هذا المكان مع ما يمكن أن يثيره من شك لا بد أن يكون من وراءه غايةٌ أعظم أحوجت الإسلام إلى أن يركب هذا المركب الصعب وأن يتحمل هذا المثير المشكك من أجلها . إن لحظة غار حراء هي لحظة تأملٍ عقليٍ خالص في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن هذه اللحظة لم تكن أبداً لحظة عبادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يليق به أن يعبد الله على جهل ، ولقد كان معاصراً للأحناف وهي فئة قليلة ولكن كان لها وزنها من أهل الجزيرة العربية من أمثال ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن الصلت وغيرهم من الذين حافظوا على نقاء التوحيد في شكل فكرة عامة عنه ورفضوا عبادة الأصنام وطعنوا على قريش شركها ، ولكنهم كانوا متوقفين في أمر العبادة. فقد كان زيد بن عمرو بن نفيل يقوم إلى قريش في صحن بيت الله الحرام فيقول لهم والله يا قوم ما بقي فيكم من يعرف الله غيري وإني ما أرى في أصنامكم إلا ضلالةً وجهالة ، ثم يرفع يديه إلى السماء ويقول في خشوع والله يا رب لو علمت الوجه الذي أعبدك عليه لفعلت . وإن الإنسان ليتساءل أمام هذا الموقف المهيب: أما يَتَمعّرُ وجهُ المبتدعة من هذا الكلام؟ المبتدعة الذين يتركون عبادةً مُشَرعةً ممُنْهَجةً ثم يعبدون الله على جهالة ، أما يخجلون من رجل لم يجد أمامه منهجا للعبادة لأن الوحي غير موجود فتوقف وفهم بأن الله لابد أن يُعبد ، ولكن لابد أن يعبد بمنهج وأحسن عبادة له في غياب المنهج هو التوقف عن عبادته مع الإقرار بمبدأ ذلك . إنه نور اليقين وبصيرة الفهم النافذ يلهمها الله عز وجل لمن شاء من عباده حتى من أهل الفترة قبل الوحي .
أفيليق إذاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة ما قبل البعثة أن يقع فيما نُزِّه عنه هؤلاء الحنفاء؟ إن من المؤكد أنه لم يكن يعبد الله ، حتى لو كانت فطرته قد هدته إلى التوحيد الحنيفي المتحنث فإنه كان سيتوقف عن العبادة لغياب منهج العبادة . ولأن ما بقي موروثا من العبادات من أصل ديانة إبراهيم الدارسة كان قد حُرِّف إلى ضلالات كالحج ، العبادة الوحيدة التي بقيت للعرب فملؤوها بكل الأضاليل ، وليس أقلها أن يطوفوا حول الكعبة عراةً .
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذاً يقرأ ؟ لا ، فإنه كان أمياً وهذا الغار المخوف تطلع إليه من جبل مهول ثم تنزل إليه عموديا من ثقب لا يسع إلا رجلا واحداً بشكل عمودي فإن نزلت إلى فنائه بالداخل لم يكد يسع إلا ثلاثة متراصين متدافعي الركب . وفيه الظلام الدامس والصمت الأكثر إطباقا من هذا الظلام، حيث لا حشرة ولا نسمة ولا نأمة ولا نبتة .
فإن لم يكن يعبد ولم يكن يقرأ فماذا كان يفعل؟ لقد كان يتأمل. وفي رأيي المتواضع للإجابة على هذه المحطة في السيرة النبوية التي لم يولها كثير من علماء السيرة الأهمية التي أولوها لغيرها من المحطات. التفسير الوحيد إنها كانت مرحلة إعدادٍ فكري خصوصاً وأنها طالت خمس سنوات وأن التحنث فيها كان أحيانا يطول إلى أسابيع . ولا يعقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صُنع على عين الله وأُعدَّ برعايـة الله وهُيأ بأن شـُق صدره وطُهِّر وأُدِّب فأُحسِن تأديبه فصار على خلقٍ عظيم ، لا يعقل أبداً ولا يليق أن يكون شيءٌ من محطات حياته قبل البعثة عبثاً ، أي غير مندرجٍ في إعداده لهذا الوحي .
لقد أطال علماء السلف رضي الله عنهم الوقوف في محطتي الإعداد النفسي والإعداد التربوي ونحن نوافقهم على هذا . ذلك أن الإعداد التربوي يحتاج إليه كل إنسان سوف يُكلَّف بالرسالة حتى يكون نموذجاً مثالياً لما يدعو إليه فلا تُـنتقص دعوته مما يأتيه هو بنقيض ما يدعو إليه )وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت( ولهذا سمي الصادق الأمين باعتراف العدو والصديق ، إذاً فالإعداد الخلقي واضح .
وكذلك أيضاً فالإعداد النفسي واضح ، ذلك أن رجلا يُهيأ لقول الحق لابد أن يُهيأ للصبر (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ، فلابد من إعداد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبر وسعة الصدر وضبط النفس وضبط السلوك وعدم الغضب للذات والتحمل ، لأن أمراً بهذه الجِدّة ، وقوماً بتلك الشدّة ، لن يحدث عنهم إلا عنفُ رِدّة ضد هذه الدعوة وكان لابد أن يُعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الصدمة . لكن هناك إعدادا ثالثاً أُغفلَ أو لم يأخذ حظه في الحديث عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وهو الإعداد الفكري . لماذا؟ ذلك أنه في رأيي المتواضع لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعدّ لرسالة يبلغها كما بلغ المسيح عليه السلام أو كما بلغ كثير من الأنبياء لكان يكفيه الإعدادان النفسي والخلقي ، أما وهو يُهيأ للتبليغ ويهيأ أيضا للبناء ، وأما وهو يُهيأ لكي يقود الجهاد ضد الجاهلية حتى يبني دولة الإسلام ويؤسس المشروع الإسلامي والحضارة الإسلامية والدولة الإسلامية ، فإن رجلاً يهيأ لهذا الأمر لا يكفيه فيه خلقٌ حسن ولا يكفيه فيه صبرٌ جميل ، بل لابد من ذهنٍ لامعٍ يقوم بتنزيل هذا على أرض الواقع ، وللواقع فقهٌ خاص به له مقتضيات وشروط ، وهذا يحتاج إلى العقل ولا ينفع فيه القلب وحده .
وهذا الأمر لا يمكن أن يأتي من فراغ ، بل لابد من إعداد وتهيأة كما كان للمحطة الأولى والثانية إعداد خاص . فأين كان هذا الإعداد؟ بالنظر إلى أن للكسب المادي ولو كان لدُنيا – أي ولو كان نعمة من الله – أسباباً لا بد أن تظهر ، ففي رأيي المتواضع أن المحطة الوحيدة لهذا الإعداد كانت هي غار حراء ، واستغرقت خمس سنوات من إعداد العقل بين الخامسة والثلاثين إلى الأربعين . إن الإعداد الخلقي يحتاج إلى ما قبل الخامس عشرة"شابٌ نشأ في طاعة الله" ، أما الإعداد النفسي فيحتاج إلى ما قبل العشرين ، فهناك تتأسس البنية النفسية للإنسان القوي أو المهزوز الصبور أو ضيق الصدر ، أما الإعداد العقلي فتُركَ إلى المحطة الأخيرة لاكتمال النضج ، من خمسة وثلاثين إلى أربعين. وقد تم اختيار لحظة من لحظات هذا الإعداد وصل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قمة اكتمال تفتّحه العقلي وتهيئه الفكري بالاستغراق العميق في التأمل الجواني المفصول عن الواقع بالظلمة المطبقة والصمت الأشد إطباقاً لتكون هي اللحظة التي اختيرت لنـزول الوحي .
إن الاقتران بين ما هو نسقيّ وتاريخيّ اقترانٌ له دلالته ، وإن هذا الاقتران لَهُ أهمية تستحق معه أن تُكابَد لحظةٌ قد تثير شبهة، شبهة قوّالين متقولين للسحر أو الكهانة أو العرافة رغم أن منهج الإسلام هو الابتعاد عن هذه الشبه كلها (وما كنت تتلو من قبل من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) . فبينت الآية أن القصد من ابتلاءه بالأمية رغم أن العلم نعمة ، كان يتمثل فقط في ألا يكون ذلك مستمسكا للمتقولين والمتشككين والطعانين .
ثم إن الذي نزل في المحطة التاريخية هو الإعداد النسقي نفسه فمعنى هذا تزامنٌ واجتماعٌ وتكاملٌ واقترانٌ له دلالته . ولبيان ذلك نرى أنه ليس هناك أي تفسير آخر لاختيار غار حراء لنزول الوحي غير هذا ، أو أن يكون هذا الغار في نفسه شريفاً له مقامٌ معين ، أو يكون أرضاً مقدسةً كأرض البيت الحرام أو كغيره من المقدسات الموجودة في الإسلام . ولا شيء من ذلك يمكن أن يؤخذ من دليلٍ قوي وناصع ، فرسول الله لم يعد قطّ إلى غار حراء منذ نزل الوحي ، ولا أشار إليه ولا زاره ولا كان يعوده ولا عاد إلى ذكره ، لأنه مكانٌ عادي جداً دلالتهُ في وظيفته ، ووظيفته كانت الإعداد للتأمل ، حتى إذا انتهت الوظيفة انتهى الانتباه إليه . ولهذا لم يُشرع لنا في مناسك الحج ولا في زيارة الأماكن المقدسة ، ولا شُرِعَ لأهل مكة يومٌ يزورون فيه غار حراء أو يقومون عنده بنُسُكٍ ، بل إن ذلك يُعتبر بدعة . ومعنى هذا أن الغرض والاقتران كان محض اقتران وظيفي لا علاقة له بقدسية المكان إذ المكان الآن صار ككل الأمكنة ليس له من شرف إلا أنه احتضن تأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحنثه خمس سنوات ، وأنه الدقائق الأولى لنزول الوحي كما أنه كان مسرحا للّقاء الأول بين جبريل الأمين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذا فقهنا هذا ننتقل في الحلقة القادمة من هذه المقالة إلى المحطة الثانية بعد المنطلق وهي المنهج ، عبر إعطاء مثال واحد من آلاف الأمثلة من القرآن الكريم وسأختاره من القصص النبوي لأن القصص حكايات ووقائع مادية مجسمة ومبسطة.
* * *
بعد أن تحدثنا في الحلقة السابقة عن منهجية التفكير في القرآن من حيث المنطلق ، ننتقل في هذه الحلقة للحديث عن المنهج . ولا بدَّ من التذكير هنا أيضاً ما أكّدتهُ سابقاً من أنني في محاولتي هذه عدت إلى القرآن الكريم وحاولت أن أستقي منه ضوابط وأسس لوضع منهجيةٍ عامة لهذا الاعتبار وخلصت إلى هذه التأملات الخالصات لم أتكأ فيها على كتاب للتفسير ولا علم أصول التفسير ، وإنما هي تأملاتٌ إن وُفقت فيها فمن الله عز وجل وإن أخطأت فلا يحسب ذلك إلا عليّ ، وهذا لا يُلزم الإسلام ولا عقيدة الإسلام ولا علم التفسير ولا علم القرآن بل لا يُلزم أحداً في الدنيا ، ولمن قبلها أن يستثمرها في بناء الذات الإسلامية ، ولمن رفضها أن يراسلني ويكاتبني تصويباً وتصحيحاً ، فلا خير فيمن لا يقبل النصيحة ولا يستمع إليها . وكمدخلٍ للحديث عن المنهج في القرآن نتوقف عند قصتي إبراهيم وموسى عليهما السلام لنتساءل : لماذا عومل النبيان معاملتين مختلفتين قد توحيان بالنظرة المستعجلة بوجود تمييزٍ أو محاباة. بينما الله سبحانه هو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين ، وقد حرّم الظلم على نفسه وجعله محرماً بيننا ، ومن مستلزمات تحريم الظلم تحريم المحاباة .
كيف يجرؤ إبراهيم أن يطلب دليلاً مادياً على عظمة الله فيُستجاب له، ويطلب موسى ذلك فلا يُستجاب له . يقول إبراهيم ﴿رب أرني كيف تُحيي الموتى﴾ ويقول موسى ﴿ربّ أرني أنظر إليك﴾ ، فيُقال لإبراهيم ﴿فخذ أربعةً من الطير فصُرهنَّ إليك﴾ ويُقال لموسى ﴿لن تراني﴾.
والحقيقة أن بعض الناس ، وخاصةً منهم ذوي المنزع الخُرافي في فهم الدين ممن يحقِّرون من قيمة العقل في الإسلام ، يختار قصة موسى ليستخدمها كحصان طروادة ، يريد أن يركبه ركوباً عنترياً ويطيل الوقوف عنده ليقول : انظروا .. إن العقل يورد صاحبه المهالك ، ولو كان نبياً . لقد طلب موسى أن يرى الله فصعق ، ولولا أن الله تعالى حوّل غضبه إلى الجبل فاندكّ دكاً لكان موسى هو الذي يتبخر في الهواء تبخراً ، ولولا رحمة الله لأُلحق بغضب الله على يونس عندما ذهب مُغاضباً ، وبعتابه لنوح عندما سأله إنقاذ ابنه .
هكذا يظن ويقول أعداء العقل وخصومه في الإسلام . ولكننا نريد نحن أن نقف هنا وقفةً أعمق من هذه الوقفة السطحية المستعجلة . نعم، لقد تجرأ إبراهيم أن يُعمل عقله وتجرأ في أن يُفسح لعقله المجال، وتجرأ في أن يُرضي هذا العقل ويطلب إرضاءه من قِبَل الله عز وجل ، وهو خليله وأحد أنبيائه المميزين ، فهو نبيٌ ورسول ومن أولي العزم وخليلٌ وأمةٌ وقانت ، خمس درجاتٍ لا يفوقه فيها إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا وجده المصطفى في السماء السادسة ، في المقام الأعلى لكل الأنبياء قبل مقامه عليه الصلاة والسلام .
هذا النبي الكريم سأل الله عز وجل ﴿أرني كيف تحيي الموتى﴾ فقال له تعالى ﴿أولم تؤمن﴾ فقال ﴿بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ فأجابه تعالى إلى طلبه وقال له ﴿فخذ أربعةً من الطير فصُرهن إليك ثم اجعل على كل جبلٍ منهن جزءاً ثم ادعهنَّ يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيزٌ حكيم﴾ .
وأنا أقف خاشعاً أمام هذه الجرأة من نبي . الله سبحانه وتعالى يكلّمه بغير واسطة ، ويرفعه إلى مقام الخلّة ، وهو يتأكد تأكداً كاملاً أن الله موجود ، وأنه هو الذي أوحى إليه وأرسله ، فالأمر هنا ليس أمر شك أو ضعف إيمان ، ولا هو أمر اهتزازٍ في العقيدة ولكنه أمر اعتراف بحق العقل في أن يستجيب بمحض منطقه الخاص لما استجاب إليه العقل بمحض منطقه الخاص .
إن القلب يؤمن بظهر الغيب ولكن العقل لا يقبل ذلك ، فهو يريد أدلةً ماديةً ملموسة . أما العجب الذي لا ينقضي بعد الجرأة تلك فهو إصرار إبراهيم عليها بعد مراجعة الله له . والذي أراه هنا – والله أعلم ولا نتألى عليه سبحانه - أن الاختبار الإلهي المتمثل في مراجعة النبي ليس اختباراً إنكارياً ، وإنما اختبارٌ اختباري يريد عبره المولى سبحانه أن يرى حدود إصرار إبراهيم على الاعتداد بعقله .. إنه يريد أن يهزه هزاً بالمعنى الإيجابي ليشجعه على مزيدٍ من الإصرار حتى لا يكون هناك سببٌ لمن يأتي فيما وراء ذلك ويدّعي أن استجابة الله كانت فقط إكراماً لنبيه أو تجاوزاً ونوعاً من التدليل الخاص لأهل المقامات . إنه قرارٌ إلهي يسمح لإنسان بأن يقول ما يستجيش في عقله وأن يبحث له عن مسكن وعن جواب . ولو كان الاعتراض هنا إنكارياً لجاء بالصيغ التي جاء بها الاعتراض الإنكاري في القرآن الكريم .
ومعلومٌ أنه سبحانه اعترض على أنبيائه الكرام ، فقد اشتد في العتاب على نوحٍ حتى ارتعدت فرائصه ، واشتد في العتاب على يونس حتى عوقب بما عوقب به ، وعاتب المصطفى عليه وعلى إخوانه الأنبياء السلام في شأن ابن أم مكتوم ، ولمن شاء أن يرى هزّة (كلاّ) في سورة عبس ووقعها فليقرأ تفسيرها في الظلال .
فلو كان الأمر أمر خطأ لعوتب فيه سيدنا إبراهيم ، ولقد صُحِّحَ لإبراهيم شيءٌ لم يخطىء فيه ولكن خُشي أن يُؤخذ مأخذ الخطأ فيصير منهجاً ، وذلك في قوله تعالى ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه﴾ .
إذاً ، فالأمر هنا ليس أمر تخطئةٍ ولا عتاباً ، ولو كان كذلك لما تبعه استجابة ، فإن الله لا يُقرُّ أحداً على خطأ ولا يُسلّم له بالباطل ، لأنه سبحانه الحق ، والحق لا يمكن أن يكون إلا مع الحق . بل الأمر أمر عتابٍ اختباري لا استنكاري ، ﴿قال أولم تؤمن قال بلى ولكن﴾ ، فمن حق المؤمن أن يؤمن ثم يُعمل عقله في (ولكن) حتى ولو كانت في الإيمان بالله وفي التوحيد وفي العقيدة.
وقصة إبراهيم تُذكر هنا من باب ما يسميه الأصوليون قياس الأَولى. فإذا كنا نجرؤ في القرآن أن نُعمل عقولنا في هذه المقامات الإيمانية الخالصة ، فكيف بما في سواها ؟ كيف نُقلد في الفقه وكيف نقلد في السياسة وكيف نقلد في التربية وكيف نقلد في الشؤون الاجتماعية ؟؟ كيف نقلد في كل هذا وفي أكثر منه و نحن قد نُهينا عن التقليد فيما هو أقدس من ذلك ؟
وعوداً إلى قصة إبراهيم عليه السلام ، نجد أنه قد أُحيل على تجربة علمية أو مختبر عملي . إنه العقل الذي لا يستجيب إلا لمقتضياته ، وإنها الاستجابة الربانية لطلب العقل ، فهو سبحانه الذي خلق هذا العقل وهو الذي يعلم طبيعته . ولهذا نجد في القرآن تلك الإشارات إلى الإعجاز العلمي والإعجاز التاريخي والإعجاز البياني ، لكي تكون مُستمسكاً للعقل في مختلف مراحل المعرفة الإنسانية وفي مختلف جوانبها .
وهكذا أجزأ ذوي العقول في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينبهروا بالإعجاز البياني ، وهكذا صار لا يجزئنا اليوم إلا أن نقف على أوجه الإعجاز التاريخي والعلمي وغير ذلك من وجوه الإعجاز نبحث عنها ونستقصيها .
قد استُجيب إذاً لسيدنا إبراهيم ، فلماذا لم يُستجب لسيدنا موسى؟ أويُمكنُ أن يُقال كما يقول أعداء العقل أنه عوقب لأنه تجرأ على إرضاء عقله، وأن العقل يُهلك صاحبه ويورده موارد الضياع ؟ إن هذا لا يصحُّ فالأمر بين إبراهيم وموسى سيّان إذ الأصل واحد . هذا طلب دليلاً بعقله على وجود الله وعظمته والآخر طلب شيئاً يطمئن عقله وذلك بأن يرى الله .
إذاً لا يمكن أن يكون الخطأ في المقدمة ، وإنما هو في جزئيةٍ تقنية من جزئيات المنهج في وسط السير وليس في أوله . الخطأ في أنه لم يحسن البحث عن الدليل ، أما طلب الدليل فمشروع ، لأن أصل طلب الدليل ينسجم مع مقتضيات العقل الذي لا يقبل إلا الدليل ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ ، ﴿ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم﴾ .
إن مفرق الطريق فيما نرى - والله أعلم بمراده - أن موسى طلب أن يرى الله بينما طلب إبراهيم أن يرى خلق الله ، وبذلك أصاب إبراهيم في موافقة المأثور (تفكّروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا قدره) ، بينما لم يصب سيدنا موسى ، فكان الجواب سلباً بدل أن يكون إيجاباً ، واختلف التعامل ورد الفعل بين هذا وذاك .
والآن وقد سلّمنا بهذا مبدئياً ، نناقش الإخوة من أعداء العقل من الخرافيين والباطنيين وغيرهم لنرى فيما إذا كان صحيحاً أنه لم يُستجب لموسى على الإطلاق .
والجواب هو لا . بل قد استُجيب أيضاً لموسى استجابةً غير مباشرة ، استجابةً تصحيحية ، عندما طلب الدليل فقيل له لا ، هذا الطلب لا يوافق العقل ولا يتأتّى له . ﴿لن تراني﴾ بمعنى لست ممتنعاً عن ذلك أو رافضاً له ، والدليل أننا سنرى الله سبحانه إذا كنا من المقبولين يوم القيامة ، وأغلب المفسرين على أن ﴿ورضوانٌ من الله أكبر﴾ المقصود به هو تلك الرؤية حيث يحتقر المؤمن في الجنة كل نعيم دون هذا ويحتقر الكافر في النار كل عذابٍ دون هذا . المقصود إذاً ب﴿لن تراني﴾ أنت لن تستطيع ذلك الآن، لأن بنيتك البيولوجية هشّة ، إنها تلك المادّة الطينية التي ليس فيها من روحي إلا قبصةٌ صغيرةٌ قبستها في طينك ..
وعوداً إلى قصة إبراهيم والآيات التي تتحدث عن رؤيته للكواكب المختلفة ، نجد أنه عليه السلام عندما أعمل عقله وطلب الدليل في خلق الله إنما كان يتحسس نعمة العقل الذي هداه أصلاً إلى الله عز وجل ، وهاهنا مربط الفرس فالعقل يصون الإيمان وليس خطراً عليه . إنه العقل التأملي الذي رأى ظاهرة الأفول وتأمل في نقصها وأدرك أنها لا تليق بإله . بينما كانت صفة قومه أنهم لا يُعملون عقولهم حتى في لحظة الحقيقة الكبرى وهم يرون أصنامهم لا ترد أذىً ولا تصدُّ فأساً ولا حتى تصرخ استنجاداً .
بينما رفع عقل إبراهيم تفكيره من الأرض حيث الأصنام إلى السماء حيث الكواكب ، وهناك رفعه من الكوكب إلى القمر ثم الشمس أكبر المخلوقات وأكملها وأقواها ، حتى إذا ما تمت رحلة العقل بالكفر بالشمس إلهاً، كفر إبراهيم بكل المخلوقات التي هي دونها دونما تردد أو حيرة وقال ﴿إني بريءٌ مما تشركون﴾ . موضحاً بذلك خطأ القراءة المعكوسة لمنطق الأشياء التي تظن أن العقل يمكن أن يكون موبقاً ، بينما لعب هنا دوره التحريري بالتدريج من عبادة أشياء منحطة إلى الاعتقاد فيما هو أعلى ، إلى أن وصل بالتدريج النقطة التي أصبح فيها التحوّل نوعياً ، ألا وهي نقطة اليقين .
وليس هذا التحليل تقولاً بإذن الله ، فالآيات تحكي معاناة التحوّل حتى الوصول إلى مرحلة ﴿وليكون من الموقنين﴾ . لأن اليقين من مقتضياته التنقل من محطةٍ إلى محطة والمعاناة والتعب حتى يرسو الإنسان على حلاوة الإيمان التي لا تأتي عادةً إلا بعد التعب والكدّ.
وكل هذا لا يتضارب طبعاً مع الإيمان يتوفيق الله وفضله وهدايته في مسألة الإيمان . فالحديث هو في معرض رؤية وتمييز الأسباب التي يتحقق بها أمر الله وتظهر من خلالها إرادته المطلقة .
وبعد الحديث في المنطلق والمنهج نأتي إلى الحديث في النقطة الثالثة ألا وهي الحقائق . وسنقف هنا سوياً أمام ثلاث محطات ، الأولى من القرآن الكريم، والثانية من السيرة النبوية ، والثالثة من سيرة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
إن هناك نظريةً تقول أن القرآن ما ادّعى دعوى إلا وكان له فيها من نفسه دليل . وعلى سبيل المثال يأمرنا القرآن أن ندعو إلى الله بالحسنى، وفي منهجه الدعوة إلى الله بالحسنى ، والقرآن يدعونا إلى الجمال ، وفي أسلوبه الجمال ، والقرآن يدعونا إلى العدل والعلم ، وهو عين العدل والعلم . وهكذا، نجد أن النص القرآني مكتفٍ بذاته قائمٌ بنفسه . فلننظر في هذه الدعوى التي قلنا أن القرآن يدّعيها ولنكتفِ بمثال واحد من آلاف الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا المقام .
فنحن نعلم أن القرآن جاء ليصحح العقيدة ويؤكد على التوحيد ويقوّم الأخلاق ويعلّم العبادة ، ولكن البعض يعتقد أنه ليس كتاب علم . صحيحٌ أن القرآن ليس كتاب فيزياء أو كيمياء ، ولكنه ليس حصراً على الجانب الأخلاقي والإيماني والعبادي كما يتخيل أولئك . وسنحاول إبراز بعض السياقات التي تُظهر أن القرآن له نفس الغيرة على الحقيقة العلمية التي مكانها الجامعات التكنولوجية.
اقرءوا معي قوله تعالى ﴿ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل﴾ والحق هنا يتمثل في تصحيح القرآن لمعلومات بيولوجية محضة ، كما أن الحق يتمثل في مواضع أخرى من القرآن في تصحيح معلومات عقدية أو أخلاقية أو عبادية. ذلك أن العرب كانوا يخطئون خطأً معرفياً ، فإذا رأوا الرجل الشجاع الصلب الشديد القوة قالوا : هذا رجلٌ له قلبان في جوفه، فجاء القرآن وبنفس الغيرة التي يصحح بها انحرافات العقيدة والأخلاق ليطرح الصواب ويسميه بالحق . وكذلك الظهار من النساء في لحظة الغضب لا يُغيّر من الحقيقة البيولوجية في أن المرأة ليست أم زوجها الغاضب .
ومثالٌ آخر في قوله تعالى ﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض فلا تظلموا فيهن أنفسكم ذلك الدين القيم﴾ . الدين القيم الذي يصحح معلومةً فلكية خالصةً معروفةً علمياً . والآية مقرونة بذكر عادة جاهلية تتمثل في تلاعب العرب من ذوي العصبية بشهور السنة فإذا أقرض جعلها ثلاثة عشر وإذا اقترض جعلها أحد عشر . وقد جاءت هنا في صياغة عامة ، وحيث أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن ما يمكن أن نستخلصه هنا هو تأكيد القرآن أن الحقيقة العلمية تتأسس عايها حقائق سلوكية وأخلاقية واعتقادية ومعاملاتية . وبالتالي فإن تصحيح ذلك الخطأ العلمي يدل على أن القرآن حريص على أن تكون المعرفة الفلكية والبيولوجية والفيزيائية حقاً ، وهو يسميها حقاً ويشير إليها بأن تأكيدها هو الدين القيّم .
ونكتفي بهذين المثالين لننتقل إلى البحث في الأسلوب عبر ما حكاه القرآن عن مؤمن آل فرعون ﴿وجاء رجلٌ من أقصى المدينة يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون . وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه تُرجعون . أأتخذ من دونه آلهةً إن يردنِ الرحمن بضرٍ لا تُغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون إني إذن لفي ضلالٍ مبين . إني آمنت بربكم فاسمعون﴾ . وإني لأحسُّ بهذا المؤمن وكأنه أستاذٌ على السبورة يكتب استدلالاً رياضياً ، يبدأ بالدعوة المجردة المباشرة بقوله ﴿يا قوم اتبعوا المرسلين﴾ ثم يستدل عليهم بقوله ﴿اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون﴾ .
إن أعظم ما يميز الداعية الصادق عن غيره أمران : الأول أن يطبق هذا الداعية ما يدعو إليه، والثاني أن لا يكون مُرتزقاً مما يدعو إليه . والقرآن يعلمنا هنا كيف نميز بين الدعاة المرتزقين الدجالين وبين الدعاة الصادقين المخلصين . فانظروا إلى العلم يتأسس على منهج الاستدلال الذي يصعد درجةً في إثر درجة ﴿ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾ ثم ﴿وإليه تُرجعون﴾ لأنه لو كان إلهي مثل إله أرسطو الذي قال أنه فطره وتركه بعد ذلك لكان في وسعي أن أكفر به وأتركه لأنني نجوت منه ولم يعد لي به علاقةٌ أصلاً . ثم يأتي تصعيد الاستفهام الإنكاري ﴿أأتخذ من دونه آلهةً إن يردنِ الرحمن بضرٍ لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون﴾ في خطاب هو في غاية المنطقية والاستدلال بالواقع العملي المادي المحسوس الذي لا يستطيع المستمع إنكاره . حتى إذا ما وصل إلى قمة الدلالة بخطأ التوجه الآخر ﴿إني إذن لفي ضلالٍ مبين﴾ أعلن النتيجة التي يجب أن تنبني على ذلك ﴿إني آمنت بربكم فاسمعون﴾ . ولو اعتاد المسلمون على قراءة القرآن بهذا الشكل الاستدلالي الرياضي لوجدوا فيه مدرسةً للمعرفة لا يوجد لها نظير .
* * *
وننتقل بعد القرآن الكريم إلى سيرة المصطفى عليه السلام وأصحابه الكرام نتتبع فيها ملامح احترام العقل والعلم والمنطق .
فهذا المصطفى المؤمن الصوّام القوّام البكّاء الخاشع يموت ابنه إبراهيم فيحزن عليه حتى لتفيض عينه الكريمة بالدمع لأنه بشرٌ كغيره من البشر ، ولكنه يكبح لسانه فلا يفلته الحزن إلى ما يُغضب الله ، ويعبر عن هذه المعاناة بقوله (إن العين لتحزن وإن القلب ليخشع ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا) . ويكون من تصاريف القدر أن يحدث الكسوف فيملأ الناس بالدهشة والذهول ، لتنطلق التفسيرات والأقاويل ، وينزلق بعض الصحابة مع الطبع البشري ، ويميلوا كما يحدث حتى في هذا العصر إلى إسقاط الطبيعة الفيزيائية على الوضع النفسي ، فيقولوا بأن الشمس قد انكسفت حزناً على موت إبراهيم .
ولو قبل النبي عليه الصلاة والسلام هذا الكلام من الصحابة لربما حملناه على محمل الطبع البشري والجانب العاطفي من الإنسان ، ولكنه أبى عليه الصلاة والسلام إلا أن يقف في قمة الحزن وقفةً علميةً منطقيةً لكي يقول وعيناه تجللهما الدموع (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد) . ما معنى آيتان من آيات الله باللغة العلمية؟ المعنى أنه يقع عليهما ما يقع في إطار السنن الكونية، والقوانين الطبيعية التي وضعها الله في هذا الكون .
وإن المرء ليتساءل: ما هو سر هذا الموقف من رجلٍ بسيط الثقافة العلمية في بيئة بسيطة الثقافة وفي مجتمع لا يعرف إلا الشعر ولا يفكر إلا بالعاطفة ؟ لا شك أن من ورائه الوحي ، والتسديد الرباني والإعداد العلمي موازياً ومساوياً للإعداد الخلقي والنفسي . إن من ورائه وحياً يريد أن يعلّم الناس ضرورة الالتزام بالحقيقة العلمية حتى في أصعب المواقف ، وحتى فيما يخص أكرم البشر على الله ، خالق النواميس والسنن.
وهكذا علّم المصطفى تلاميذه وأصحابه فساروا على هذا المنهج . ففي سياق ذكر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كثيراً ما يُذكر عمر في مجال العزة العقلية ، ويُذكر أبو بكر في مجال القوة الإيمانية . حتى ليحسب البعض أن في قوة أبي بكر الإيمانية تناقضاً مع مقتضيات العقل والعلم ، فهل في هذا شيءٌ من الصواب؟ تعالوا بنا نتدارس القصة الأشهر في تبيان قوة تصديق وإيمان أبي بكر ونبحث فيها عن دلالات احترام العقل والعلم .
تلك هي حادثة الإسراء والمعراج التي سُمي فيها أبو بكر صدّيقاً ، والتي هزّت الناس هزاً لأنها كانت فوق العقول والتصورات البشرية ، حتى ارتدّ البعض من ضعاف الإيمان . وهنا نتساءل: أكان تصديق أبي بكر إيماناً بلا عقل؟ لقد جاء إليه المشركون واثقين بأنها ستكون الضربة القضية فقالوا : أرأيت إلى ما يقول صاحبك أنه أُسري به إلى بيت المقدس وعُرج به إلى السماء ثم عاد ولم يبرد فراشه ، وحن نضرب إلى بيت المقدس أكباد الإبل شهوراً ذهاباً وإياباً . فماذا كان جواب أبي بكر ؟ هل قال : نعم لقد صدق . لا ، إنه لم يقل ذاك وإنما قال : أَوَقَد قالها ؟ قالوا : نعم ، قال: لئن كان قالها فقد صدق، إني لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك ، يقول أتاني خبر السماء الآن وأنا أصدقه .
وهنا نرى ثلاث تأسيسات عقلية لموقفٍ إيماني باهر . أولاً ، قوله أَوَقَد قالها ، معناه أن المؤمن ليس غاوياً لأي شيء عجائبي فوق العقل ، وإنما هو إنسان يحقق ويحرر مناط مصدر المعرفة . فكل شيء فوق العقل إذا كان مصدره الوحي الصادق فهو مقبول ، وإن لم يأت من الوحي الصحيح فهو خرافة .
وهنا أشير إلى أن الخرافة دخلت إلى الإيمان من هذا المدخل . من قوم يقولون إننا لو أننا لم نرتفع على عقولنا لما آمنّا ، فلنؤمن بكل ما هو فوق العقل خشية أن يكون داخلاً في الإيمان ، فننكره ، فنكفر . وفي الفكر الصوفي الذي ساد في عصر الانحطاط يقولون لك : صدق كل شيء فلعله أنه يكون داخَلهُ الحق ، وإياك أن تُكذّب فلعل أول ما تُكذّب حقاً . وهذا هو عين الحطْب في الليل ، وبه نجمع الأفاعي السامّة مع الحطَب .
فعلى العكس من ذلك إن على المؤمن أن يحافظ على جرأة عقله في الاستهزاء بما يخالف العقل عندما يفوت الوحي قيد أنملة . وهو موقفٌ يحتاج إلى توازن صعب يرتفع على الاستدلال السفسطائي بأن الإيمان خارج العقل والخرافة خارج العقل إذن الإيمان هو خرافة . بينما الموقف السليم يقتضي القول بأن الإيمان فوق العقل ، فالعقل لا يطيق الإيمان لأنه أعلى منه ، والعقل لا يطيق الخرافة لأن الخرافة أحقر منه . والإيمان لا يضادُّ العقل ولو أنه فوقه والخرافة تضادُّ العقل . والعقل لا يرفض إلا ما كان ضدَّهُ ولكنه لا يرفض ما كان خارجه ، لأن العقل في التصور الإيماني ليس ضيقاً بحيث لا يقبل إلا ما كان في داخله .
وهذه هي بالتحديد آفة العلمانية الشمولية وآفة المادية التي تؤدي إلى تأليه العقل ، وإلى محاربة ورفض كل ما هو خارجه ولو كان لا يُضادّهُ ولا يتناقض مع منطقه . ذلك أن من الأشياء الخارجة على العقل ما هو مقبول وما هو مرفوض ، والضابط هو الوحي الصحيح من جهة وعدم التناقض من جهة ثانية . إذن ، نفهم عبارة أبو بكر (أوقد قالها) أنه تثبت من كونها وحياً لأنه ليس مستعداً لتصديق كل ما هو خارج عقله .
ثانياً : يقول أبو بكر (لئن كان قالها) وذلك زيادة في الحيطة العقلية المنهجية ، فيضع هذا الاشتراط العلمي الذي يؤكد الشرط الأول في الإجابة كما بحث عنه هناك في الاستفهام .
ثالثاً : يأتي بقياس الأَولى بقوله إني لأصدقه فيما هو أضيق زمناً لأن الوحي يأتس من السماء . أَوَلا يقطع الوحي كل هذه المسافة في تلك الرحلة الهائلة بكل تلك السرعة ؟ فكيف إذن أصدقه هنا و أكذبه هناك ؟ فالرجل منسجمٌ مع نفسه ومنسجمٌ مع عقله وليس مستعداً لأن يتشنج ويناقض نفسه و عقله باسم أن الخرافة قد تهزه أو تتجاوز مقتضياته .
ولكي تكتمل الصورة فإني أرجو من القاريء الكريم أن يتخيل معي لو أن نفراً من أذكياء قريش كانوا هم من اختلق قصة الإسراء ثم جاؤوا أبا بكر يخبرونه أنها صدرت عن محمد ، ليكون جوابه المباشر بالتصديق دون تلك التأسيسات العلمية العقلية . لنتخيل كم كان الموقف عندها سيكون محرجاً وهم يقولون له : نحن اختلقنا هذه القصة ولا أساس لها وأنت رجلٌ خرافي بليد تصدق كل شيء . أما لو كانت كذلك – أي اختلاقاً – وكان رد فعله كما رأيناه في واقع الأمر ، فقد كان في هذا الموقف خير منجاة ، وتأكيدٌ للمستوى العقلي الرفيع لأبي بكر .
فأمام احتمال صدق الخبر أسس أبو بكر لنفسه التصديق بالعقل ثلاث مرات في جملة واحدة . وأمام احتمال أن يكون باطلاً نجده قد احتاط لنفسه ولم يُبدِ الانبهار الشديد أو الاندهاش الصاعق.
وأخيراً ، نأتي إلى الفاروق عمر رضي الله عنه ، والذي يكاد بعض الخرافيين والصوفيين والباطنيين أن يخرجوه من الإيمان مستغربين صومه و صلاته و صدقته بعد قوله في صلح الحديبية (لا نرضى الدنية في ديننا) . والحقيقة أن أفعال عمر كانت تُمثِّلُ خير درسٍ للإيمان في أعلى موقفٍ للعقل، كما كانت أفعال أبي بكر تمثلُ خير درسٍ للعقل في أعلى موقفٍ للإيمان .
ففي البيت الحرم ، وأمام الحجر الأسود ، وفي موسم الحج حيث يعيش المسلمون عند اللقاء بالكعبة ما يمكن أن نسميه بلحظات الانخطاف الروحي ، يصل سيدنا عمر إلى الحجر ، وينظر إليه ، ثم يقول بصوته المجلجل (والله إني أعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع) ، فهذا مقامٌ متميز في قوة العقل في لحظة الإيمان ، ولكن الانتباه واجب خاصةً حين يستشهد البعض بالحديث مبتوراً مما يقوله عمر بعد ذلك (ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك أبداً) . وتلك هي قمّة الإيمان وقمّة التسليم وقمّة الطاعة وقمّة الخضوع . إن عمر الفاروق هنا يرتفع بعقله إلى قمّة الشموخ ، ثم إنه بعد ذلك يُطامن من هذا العقل لكي يسجد بين يدي الوحي .
إن الغرض من ختام المقالة بهذه القصة بيان أن العقل والإيمان يسدد كل واحدٍ منهما الآخر . وأن سيدنا عمر ما كان عقلانياً بالمعنى الإلحادي الذي يخطر ببال البعض ، وإنما كان عقله عقلاً جباراً ولكن بلا إلحاد ، وهذا هو التحدي الكبير أمام مسلم اليوم ، في أن يتعلم المنهج من كتاب الله ، ومن سنة رسوله ، ومن سيرة أصحابه الكرام ، لكي يعود العقل إلى موقعه الصحيح والمتوازن في الإسلام .
المصدر: مجلة الرشاد