الحـوار والاخـتــلاف : خصائص وضوابط
الحـوار والاخـتــلاف : خصائص وضوابط
طه عبد الرحمن
كم من الحقائق الجليلة في أنفسنا ومن حولنا يمضي علينا زمان غير قصير لا نتعجب منها ولا نندهش لها ، على اعتبار أنها جلية لاخفاء فيها ، وقريبة لا ُبعد معها ، وفجأة نتفطن إليها تفطن الذي ألقي في روعه وكأنها لم توجد إلا ساعة تفطننا ، وأدعوكم قي هذا الدرس الافتتاحي المبارك إلى أن نتأمل جميعا في بعض هذه الحقائق الجلية ، عسى أن نقف على ما خفي علينا منها على قربها وجلائها .
أولا : طرح الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي
1- حقيقتان كلاميتان
حسبنا من هذه الحقائق الجلية الخفية حقيقتان جميلتان اثنتان :
1-1 الأصل في الكلام الحوار
فلا نتكلم إلا ونحن اثنان ، بل نتكلم إلا ونحن زوجان؛ لأن الزوجين هما الاثنان المتواجدان ، والكلام لا يكون إلا بين اثنين موجودين هما : " المتكلم " و" المخاطب " فالمتكلم يزدوج بالمخاطب أو يتزاوج معه ، وميزة اللسان العربي لأنه يتضمن لفظا آخر يجري استعماله كمرادف للفظ " الكلام " لفظا يفيد لغة معنى هذا الإزدواج ، ألا وهو " الخطاب " فلا خطاب إلا مع حصول التوجه إلى الغير ، فالمتخاطبان اثنان متوجهان أحدهما إلى الآخر .
وليس لقائل أن يقول إن المرء قد يتكلم مع نفسه – أو يخاطب ذاته - ، فيكون واحدًا لا اثنين ؛ لأن الجواب على اعتراضه يكون من وجهين :
أولهما ، أن " الكلام مع النفس " - أو مخاطبة الذات – ليس حقيقة أصلية ، وإنما هي متفرعة عن حقيقة " الكلام مع الغير " – أو مخاطبة الغير – ذلك أنها تحصل منها بطريق المماثلة أو المشابهة ، حيث إنك تشبه علاقتك بنفسك بعلاقتك بغيرك ، فيعمل خيالك في الاختراع لها ما هو قوام العلاقة بالغير ، وهو صورة الكلام ، فتجعل نفسك متكلمة مع نفسك كما تتكلم مع غيرك ، أو قل -بإيجاز- إنك تقيس كلامك الداخلي على كلامك الخارجي قياسا موجبا .
الوجه الثاني : أن ذات المتكلم وإن كانت في حال الكلام النفسي ، واحدة خلقا ، فإنها اثنان خلقا ، ألست حين تكلم ذاتك تتصرف كما تتصرف الذاتان المتمايزتان فيما بينهما : وقد أقول ، -باصطلاح النظار- ، بأن لها تعددا اعتباريا لا واقعيا أو - باصطلاح البلاغيين-إن لها تعددا مجازيا لا حقيقيا .
وعلى الجملة ، فحيثما وجد اثنان متزاوجان ، بل زوجان ، فثمة حوار ، فإن كان الزوجان متمازيين خلقيا أو واقعيا أو حقيقيا ، كان الحوار حوارا مظهرا أو صريحا ، وإن كانا متمايزين خلقيا أو اعتباريا أو مجازيا ، كان الحوار حوارا مضمرا أو ضمنيا .
1-2 الأصل في الحوار الاختلاف
إننا لا ندخل – أنا وأنت – في الحوار ، إلا ونحن مختلفان ، بل إننا لا نتحاور إلا ونحن ضدان ؛ لأن الضدين هما المختلفان المتقابلان ، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين هما ،في الاصطلاح "المدَّعي" وهو الذي يقول برأي مخصوص ويعتقده و " المعترض " وهو الذي لا يقول بهذا الرأي ولا يعتقده .
وليس لقائل أن يقول إننا قد نلج باب الحوار ونحن على اتفاق في آرائنا كما نكون عندما نتجاذب أطراف الحديث أو نتذاكر في مسألة مشتركة ؛ لأن الجواب عن هذا الاعتراض يكون من هذين الوجهين :
أولهما ، أن " الحوار مع الاتفاق " – ولنسمه الحوار الاتفاقي – ليس حقيقة كلامية أصلية ، وإنما هي متفرعة عن حقيقة " الحوار مع الاختلاف – ولنسمَّه الحوار الاختلافي – ذلك أن هذا الاتفاق لا يخلو إما أن يكون قد تقدمه اختلاف أو لم يتقدمه ، فإن كان الأول ، فظاهر أن الاتفاق قد تفرع من الاختلاف ، لأنه يكون بمنزلة النتيجة التي أثمرها حوار صادق دخلت فيه أو دخل فيه غيرك وكان مداره على رفع الاختلاف الحاصل ، وإن كان الثاني ، فإن الاتفاق يحصل من الاختلاف بطريق المقابلة ، ومعلوم أن المقابلة نوع راسخ من الاختلاف ، فتكون قد قابلت علاقتك بموافقك بعلاقتك بمخالفك ، نافيا عن الأول ما ثبت بصدد الثانية ومثبتا لها ما انتفى عن هذه أو قل –بإيجاز- إنك تقيس حوارك الاتفاقي على حوارك الاختلافي قياسا منفيا ، فحقيقة قياسك المنفي هذا إذن أنه ممارسة اختلافية صحيحة .
والوجه الثاني ، أن الواقع الحواري للناس يشهد على غلبة هذا الحوار الاختلافي ، فلا نزاع في أن المخاطبات منتشرة غاية الانتشار في حياة الناس ، ابتداء من الحديث اليومي العام وانتهاء بالحديث العالمي الخاص ، وإذا أنت تأملت في هذا الواقع التخاطبي قليلا ، وجدت أصنافا كثيرة منها غالبا ما يكون الداعي إليها حصول اختلاف من نوع ما أو بقدر ما ، منها الحوارات ذات الفائدة العامة نحو " الاستجوابات الصحافية بمختلف وسائل الإعلام " و " المطارحات المذهبية داخل الأحزاب " و " المداخلات السياسية داخل المجالس " وكذلك " الجلسات القضائية داخل المحاكم " و " المفاوضات التجارية داخل الأسواق " و " المناظرات المهنية داخل المؤسسات " و " المباحثات العلمية داخل المؤتمرات " ومنها الحوارات ذات الفائدة الخاصة نحو " المناقشات بين الأفراد في الأوساط العائلية " و " المجادلات بين الأقران في الأندية " و " الخصومات بين الأزواج في البيوت " .
ولا ريب أن هذه الأنواع من الحوار الاختلافي تفوق بكثير أمثالها من الحوار الاتفاقي نحو " الحوار الاستخباري " الذي يكون الغرض منه الحصول على معلومات معينة ، و " الحوار " الاستشاري الذي يقصد الوصول إلى اتخاذ قرار في مسألة ما و" الحوار التربوي " الذي يكون الغرض منها التكوين والتعليم و" الحوار التدبيري " الذي يستهدف تحديد غرض مخصوص أو وسيلة مخصوصة لتحقيقه ، وحتى هذه الأنواع الاتفاقية لا تخلو من وجود هذا الوجه أو ذاك من وجوه التنازع فيها ، فمثلا الحوار التدبيري يدور أصلا على أهداف أو أعمال مختلفة فيما بينها ، فتقارن بين فوائدها وآثارها المتفاوتة ، حتى تقف على أولاها بالتحقيق ضمن أولوياتك المعتبرة ، بل ليس يمتنع أن ترد هذه الأنواع الاتفاقية على مقتضى الاختلاف في الآراء فمثلا بالنسبة للحوار التدبيري ، يجوز أن نجعل منه جملة من الآراء المتنازعة ، كل رأي منها يقول بهدف مخصوص وعمل مخصوص ، وحينئذ ، لا نستغرب أن يغلب على لفظ " الحوار " في استعمال إفادة معنى " الحوار الاختلافي " .
وعلى الجملة ، فحيثما وجد اثنان مختلفان ، بل ضدان ، فثمة حوار اختلافي فإن كان الضدان متواجهين ، كان الحوار الاختلافي حوارا مباشرا أو قريبا ، وإن كان الضدان أحدهما واسط إلى الآخر ( كالقياس على المقابل ) ، كان الحوار الاختلافي حوارا غير مباشر أو بعيدا .
2-النتيجتان المتعارضتان
بعد أن فرغت من بيان الأصلين اللذين يقوم عليهما الكلام ، وهما : " الأصل في الكلام الحوار " و " الأصل في الحوار الاختلاف " فلننظر معا في بعض النتائج التي تترتب على هاتين الحقيقتين الجميلتين ، إذ جمالهما آت من ازدواج الجلاء بالخفاء فيهما .
يترتب على الأصل الأول أن الكلام يقتضي بالضرورة وجود الجماعة ، لا وجود الواحد ، والجماعة قد تتكون من فردين عاقلين – أي زوجين – فأكثر ، حتى تسع المجتمع القومي كله – أو " الأمة " – كما هو الشأن الحوار بين الأحزاب في الحكومة وبين الأحزاب في المعارضة ، بل إن هذه الجماعة قد تسع المجتمع الإنساني بأسره أو " العالم " ، كما هو شأن ، الحوار بين الغرب والشرق، والحوار بين الشمال والجنوب .
ويترتب على الأصل الثاني أن الحوار يقتضي بالأساس وجود المنازعة ، لا وجود الموافقة ، فقد يتنازع الفردان العاقلان في الرأي ، كما قد تتنازع الطائفتان في المذهب كما هي حال النزاعات المشهورة في تاريخ الإسلام والتي مازال بعضها قائما إلى يومنا هذا مثل النزاع بين أهل السنة وأهل الشيعة أو النزاع بين السلفية والصوفية أو النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كما قد يتنازع المجتمعان في توجهاتهما كالنزاع بين المجتمع الأمريكي والمجتمع الصيني أو يتسع التنازع إلى مجموع العالم كالنزاع الذي أخذ يشتد بين أهل الفكرية الغربية وأهل الفكرية الإسلامية .
وهاهنا لا إخال إلا أنك تبادر إلى إيراد الاعتراض التالي على هذا الاستنتاج ، وهو : كيف يجوز عقلا أن يجتمع في الحوار مقتضى " الجماعة " ومقتضى " المنازعة " أليس ينظر إلى الجماعة على أنها تقتضي الألفة والتعارف ، في حين أن المنازعة تضادهما ؟ وعلى العكس من ذلك ، أليس ينظر إلى المنازعة على أنها تقتضي المنافرة والمناكرة في حين أن الجماعة تضادهما ؟
ومن تم تكون هذه الشبهة عبارة عن مفارقة ، علما بأن المفارقة هي الجمع بين الضدين أو
النقيضين ، والمشهور أن مثل هذا الجمع يرتفع به مقتضى العقل ؛ لأنه يندرج في باب المحال ، لذلك تراني أجعل من هذه الشبهة التي قد توردها عن استنتاجي الإشكال الفكري الأساسي الذي يدور عليه هذا الدرس ، فكيف إذًا يكون الحوار في ذات الوقت جماعيًا ونزاعيًا ؟
ثانيا : حل الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي
لو كان الأمر يتوقف على الحل الصوري ، لجاز أن أقول إن الوصفين : " الجماعة " و " المنازعة " يتواردان على موضوع " الحوار " باعتبارين مختلفين ، فلا يتعارضان : إذ يتقوم الحوار باعتبار عدد الأفراد الذين ينهضون به ، - وهو اعتبار كمي - ، ويتقوم بالمنازعة باعتبار نوع العلاقة التي تقوم بينهم – وهو اعتبار كيفي - ، وواضح أن الكم والكيف لا يتدافعان ، بحيث يصح أن تقوم الجماعة ويقوم النزاع بين أفرادها .
لكن هذا الحل الصوري -على وجاهته- يفترض التسليم المسبق بمبدأ بطلان الجمع بين المتعارضين ، هذا المبدأ الذي رسخ في العقول منذ زمن بعيد ( أرسطو) كما يفترض ثبوت التعارض بين " المنازعة " و " الجماعة " في الممارسة الحوارية كما يثبت في غيرها ، وهما افتراضان اثنان يجوز للواحد منا أن يعترض عليهما ، فقد يشكك في صحة مبدأ عدم الجمع بين المتعارضين ، وليست بي حاجة هاهنا إلى الاشتغال بهذا التشكيك ، لذلك ، أسلم بصحة هذا المبدأ ، كما قد نشكك في وجود تعارض بين" المنازعة " و " الجماعة " كما هما متحققان في الممارسة الحوارية ولو أنهما يتعارضان في غيره ، وهذا التشكيك الثاني بالذات هو الذي يمكن من رفع الإشكال المطروح ؛ لذا يتعين أن أبين كيف أن اجتماع " المنازعة " و " الجماعة " في الحوار ليس أمرا محالا ولا مردودا ، وإنما هو أمر ممكن ومقبول معا .
ولبيان ذلك ، أتخير نوعا متميزا في أنواع الحوار الاختلافي ، إذ تضرب جذوره بعيدا في تاريخ الفكر الإسلامي خصوصا ، وهو ما يسميه منظرو الحوار المعاصرون ب " الحوار النقدي " او " الحوار العقلي " أو " الحوار الإقناعي " ، وقد أسميه كذلك ب " الحوار الاعتراضي " ، وقد سماه علماء المسلمين من قبل ب " المناظرة " وأضع له التعريف التالي :
" الحوار النقدي " هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو الاعتراضات التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على رأي أو دعوى الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معا .
ولنضرب له مثالا من أحداث الساعة .
زيد : أرى أن المغرب على مشارف عهد جديد ؟
عمرو : لا أدري إن كان الأمر كما ترى.
زيد : أليس التناوب السياسي والملكية الجديدة من معالم مغرب جديد
عمرو : بلى .
فواضح أن زيدا هو صاحب الدعوى ، وهي : " المغرب على مشارف عهد جديد " وأن عمرًا هو صاحب الاعتراض ، إذ يشكك في صدقها كما لو أنه قال لزيد : " لا أسلم لك ما تدعيه " ، وحينئذ تقوم بينهما منازعة في الرأي ، فيتعين إذ ذاك على زيد أن يتولى دفع الاعتراض بإقامة الدليل على دعواه ، ودليله هو : " وجود التناوب مع تجدد الملكية " ، الذي قبله المعترض .
وبعد هذا التعريف للحوار النقدي والتمثيل عليه ، أشرع الآن في توضيح كيف أن عنصري " الجماعة " و " المنازعة " في الحوار النقدي يتوافقان ، وأقوم بهذا التوضيح من خلال النظر في مقابلات ثلاث .
1- المقابلة بين الاختلاف النقدي والعنف
قد نميز في العنف الممكن حصوله في نطاق الحوار بين قسمين اثنين : أحدهما ، العنف أشد ، وقد يسمى ب " القمع " ، والمقصود به إنهاء الاختلاف بين المتحاورين بواسطة القوة ، فمعلوم أنه لاشيء يضاد الحجة مثل القوة ، فحيث لا يوجد البرهان لا يمكن أن يوجد إلا السلطان ، وحيث لا يوجد الحوار لا يمكن أن يوجد إلا الحصار ، والعنف الأشد هو نفسه على ضربين اثنين : فهناك العنف المادي الذي تستخدم فيه قوة اليد – أو قل تستخدم فيه المقمعة ( أو المقرعة ) – لإلحاق الأذى الخلقي بالغير ، وهناك أيضا العنف المعنوي الذي تستخدم فيه قوة اللسان لإلحاق الضرر الخلقي بالغير ، والقسم الثاني ، العنف الأخف ، وأسميه ب " الحسم " ، والمقصود به هو فض الاختلاف بواسطة تحكيم جانب ثالث ، حكما كان أو حكما أو وسيطا أو باللجوء إلى الحل الوسط أو بإجراء القرعة ، فلما كانت نهاية الاختلاف لا تأتي على يد المتنازعين نفسيهما بفضل أدلتهما الخاصة ، وإنما على يد طرف ثالث سواهما أو بطريق غير تدليلي ، فإن ذلك يشعرهما بأنهما غير قادرين على تحمل مسؤوليتهما في رفع الاختلاف بينهما ، وفي هذا المعنى من التأديب لهما ما هو أشبه بالتعنيف ، إلا أنه - إن جاز هذا التعبير - عنف فيه لطف .
أما الاختلاف في الرأي داخل دائرة الحوار النقدي ، فلا يندفع أبدا بواسطة " القمع " بل إن ممارسة القمع قد تزيد في حدة الاختلاف ، حتى لا سبيل إلى الخروج منه ؛ لأن الطريق الموصل إلى هذا الخروج إنما هو طريق الاقتناع ، فكل واحد من المتحاورين يسعى إلى أن يقتنع الآخر برأيه اقتناعا منبعثا من إرادته ، لا محمولا عليه بإرادة غيره ، فالإقناع والإقماع ضدان لا يجتمعان ، كما أن هذا الاختلاف لا يندفع بواسطة الحسم ، لأن أحد المتحاورين على الأقل قد يجد في نفسه حرجا مما حسم به ، فلا يسلم ، وإنما الذي يندفع به هو ، على العكس من ذلك ، ارتفاع الحرج والإقرار بالصواب الذي ظهر على يد محاوره ، وهو بالذات مقتضى " الإذعان " ، وعلى هذا ، فالحسم لا ينفع في تحصيل الإذعان الضروري للخروج من الاختلاف .
ومن هنا ، يتضح أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتضعفها إنما هي المنازعة التي تلجأ إلى العنف ، قمعا كان أو حسما ؛ لأن المعنف لابد أن ينتهي به الأمر ، إما إلى أن يهلك أو أن ينشق أو أن يتآمر ، وفي كل واحدة من هذه الأحوال الثلاث يتسبب في خلخلة الجماعة ، زيادة أو نقصانا ، أما المنازعة التي ينبني عليها الحوار ، فإنها توافق الجماعة كل موافقة وتقويها أيما تقوية ، إذ تقضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها ، من جهة ، على فعل الإقناع الذي يحمل تمام الاعتبار لذات الغير ، ومن جهة ثانية ، على فعل الإذعان الذي يحمل تمام الاعتبار للصواب ، ولابد لمثل هذه المنازعة أن تكون خادمة للجماعة بما يورثها مزيدا من التماسك في البنية الجامعة والتناصح في المصلحة العامة ، ولولا أني أنفر مما تجتره الألسن تحت ضغط الإعلام ، لقلت : " يكسبها مزيدا من الشفافية " .
2- المقابلة بين الاختلاف النقدي والخلاف
معلوم أن الرأي رأيان : رأي يبنيه صاحبه على دليل أو حجة من عنده ، - أي يكون رأيا مدللا تدليلا ذاتيا – ورأي لا يثنيه صاحبه على دليل من عنده – أي يكون رأيًا تحكميا - ، والرأي التحكمي على ضربين : رأي مبني على التقليد ورأي مبني على التشهي ، أما الرأي المقلد ، فهو الذي يتسول فيه صاحبه بدليل هو لغيره أو يورده بغير هذا الدليل ، مكتفيا بمضمونه مجردا ، ومعولا في ذلك على قدرة من يقلد ( أي إمامه ) في إمداده بهذا الدليل متى شاء ، وأما الرأي المتشهي فهو الذي لا يتوسل فيه صاحبه لا بدليل لغيره ، ولا بالأولى بديل من عنده .
ومقتضى الخلاف أن يكون تنازعا في الآراء التحكمية ، فإن كان في آراء مقلدة ، فهو تنازع لا اجتهاد فيه ؛ لأن مبنى الاجتهاد أساسا على اختراع الدليل ، وإن كان في آراء متشهية ، فإنه تنازع لا تعقل معه ، لأن مبنى التعقل أساسا على الاشتغال بالتدليل ، أما مقتضى الاختلاف أن يكون تنازعا في الآراء المدللة ذاتيا لا تشهي فيه ولا تقليد ، فيثبت له الوصفان معا : التعقل والاجتهاد ، وعلى هذا ، فإذا كان الخلاف يحصل بين الجلاء والمقلدين ، فإن الاختلاف ، على نقيضه ، يحصل بين العقلاء والمجتهدين .
وإذا تقرر هذا ، تبين أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتضرها إنما هي تنازع الخلاف ، أما تنازع الاختلاف ، فإنه يوافق الجماعة كل موافقة وينفعها أيما منفعة ، إذ يوجد أن تقوم علاقات التعامل فيها ، من جهة ، على مقتضيات العقل التي تحدد للمتنازعين أدوارهم ، ومن جهة ثانية ، على مقتضيات الاجتهاد التي تضمن لهم مواجهة أطوار حياتهم ، فمثل هذا التنازع – تنازع الاختلاف – لابد أن يكون بانيا للجماعة ، فيتعين لا حفظ وجوده فحسب ، بل أيضا تقوية أسبابه .
3 – المقابلة بين الاختلاف النقدي والفرقة
ذلك أن الافتراق داخل دائرة الجماعة قد يكون بمعنيين اثنين ، أحدهما ، التفاوت بين الأفراد ، والمراد به هنا تمتع بعض الأشخاص بامتيازات وحظوظ وسلط تؤدي إلى محو المساواة بين عناصر الجماعة ، بما يكون منه انتشار مظاهر التخلخل في بنائها ، والمعنى الثاني ، الانشقاق في الصفوف ، والمراد به – كما هو معروف – تصدع صرح الجماعة ، بحيث يذهب كل عنصر منها إلى وجهة مخصوصة ، معتقدا ما لا يعتقده غيره وقائلا بما لا يقول به ، وقد ينجم هذا الانشقاق عن أسباب أخرى غير عدم المساواة ، مثل الأزمات الاقتصادية والتصارعات على السلطة والفتن الاجتماعية والمفاسد الأخلاقية . أما الاختلاف في الرأي الذي هو مدار الحوار النقدي ، فلا يمكن أن يفضي إلى " التفاوت " لأن قوانين الحوار النقدي تجري على الداخلين فيه ، كائنا ما كانا ، بالسوية ، ولاشيء يستحق أن يتميز في علاقاتهما الحوارية إلا الصواب الذي يكونان قد توصلا إليه ، وحتى إذا ظهر هذا الصواب على يد أحدهما ، فلا يجيز له ذلك أن يدعي الاختصاص به ، لأن الاتفاق جرى مع الحوار في البداية بأن يطلبا معا الوقوف عليه ، فيكون الوصول إليه مشتركا بينهما ، ثم لأن ابتدار المحاور إلى قبول الصواب يجعل علاقته به ، إن قولا أو فعلا ، لا تختلف عن علاقة صاحبه به وعلى هذا ، فإن الحوار لا يفرق أبدا بين المتحاورين ، بل يسوي بينهما على الوجه الأتم .
كما أنه لا يمكن لهذا الاختلاف أن يتولد منه " الانشقاق " ، لأن الغرض الأول الذي اجتمع عليه المتحاورون هو رفع حالة الاختلاف في رأيهما ، وحفظ هذا الغرض أثناء ممارسة لا محالة أنه يِؤدي إلى إحدى الحالات الثلاث : إما الظفر الفعلي بالصواب المطلوب أو تمحيص الطرق التي يتحمل أن، توصل إليه أو زيادة المعرفة برأي الجانب الآخر ، ولا مراء في أن كل واحدة من هذه الحالات تسهم في محو الافتراق الذي بدأ في الآراء وفي جمع العقول على رأي واحد ، بحيث يكون الحوار النقدي أداة تجميع للآراء ، لا أداة تفريق لها كما يتوهم .
وبهذا ، يتبين أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتنسفها إنما هي المنازعة التي تنبني على التفرقة الراجعة إلى انتفاء المساواة بين الأفراد أو إلى انتشار أسباب الانشقاق الأخرى في المؤسسات الجماعية ، أما المنازعة الحوارية ، فإنها تلائم الجماعة كل ملاءمة وتخدمها أيما خدمة ، إذ تقضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها ، على مقتضى المساواة في الحقوق والواجبات بين أفرادها من جهة، وعلى مقتضى طلب جمعهم على الرأي الصائب من آرائهم منه جهة أخرى، وعليه فلا يمكن أن، تكون الجماعة التي تأخذ بالمنازعة الحوارية إلا جماعة " ديموقراطية " صريحة ، ولا شك أن منازعة كهذه توطد أركان الجماعة بما قد تضاهي فيه ضدها – أي الموافقة – هذا إذا لم تجاوزه في ذلك درجة متى وضعنا في الاعتبار أن الأمر المتنازع فيه يكون موضع اجتهاد ، بينما الأمر المتفق عليه يكون موضع تقليد ، وفضل الاجتهاد على التقليد في تقوية الشعور بالالتزام والمسؤولية يكاد يكون بداهات من بديهات العقل .
ثالثا : ضوابط الحوار الاختلافي
لقد وضح لنا كيف أن الصورة النزاعية للاختلاف في الحوار النقدي لا تتعارض مطلقا مع الصورة الجماعية التي ينطوي عليها هذا الحوار ، وقد تناول هذا التوضيح وجوها تعارضية ثلاثة هي " التعارض بين الاختلاف والعنف " و " التعارض بين الاختلاف والخلاف " و " التعارض بين الاختلاف والتفرق " ، وإذا كان الحوار النقدي يتصف بهذه الميزة الوفاقية المثلى ، فذلك لأنه ينضبط بمبادئ تصرف عن الاختلاف في الرأي – الذي هو مداره – الآفات التي تمثلها أضداده المذكورة ، أي " العنف " و " الخلاف " و " الفرقة " ، ويبقى أن أبين أصول الضوابط الحوارية ، فأقسمها إلى أقسام ثلاثة ، وهي : " الضوابط الصارف للعنف " و " الضوابط الصارف للخلاف " و" الضوابط الصارف للفرقة " .
واعتبارا للمبدأ الذي تبيناه من قبل وهو أن حقيقة الكلام إنما هي حقيقة حوارية ، فإني أورد لهذه الضوابط صيغتين اثنتين ، إحداهما عامة يجري مقتضاها على الكلام بوجه عام ولا أخوض فيها هاهنا ، والثانية خاصة يجري مقتضاها على الحوار بوجه خاص ، وهي التي أبسط القول فيها .
1- الضوابط الصارفة لآفة العنف :
لقد تقدم أن الاختلاف في الرأي لا تنفع في دفعه أبدا المواجهة بالعنف ، كائنا ما كان شكلها أو حجمها ، وإنما الذي ينفع فيه هو فتح المجال لممارسة الإقناع بالحجة و الإذعان للصواب ، ولا إقناع ولا إذعان إلا إذا توسل المختلفان في الرأي في ذلك بالقدر المشترك بينهما من المعارف والأدلة ، إذ لابد أن تكون هناك - بحكم المجال التداولي الذي يجمعهما - جملة دنيا من الحقائق وجملة دنيا من الاستدلالات لا يختلفان فيهما ، وبناء على هاتين الجملتين ، ينبغي أن يدخل كل منهما في إقناع الآخر ، بحيث إذا تبين أحدهما بوضوح الطريق الذي يوصل من هذه الحقائق والاستدلالات المشتركة إلى الرأي المتنازع فيه ، لزمه الإذعان به ، وعلى أساس هذه الاعتبارات أضع الضوابط التي تمكن من دفع العنف ، وهي الآتية :
1-1 ضابط حرية الرأي وحرية النقد
ومقتضاه في صورته العامة هو :
- " لا يجوز منع أحد المتكلمين من أن يرى رأيا ولا لغيره من أن يوجه إلى الرأي نقدا ".
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
- " لا تمنع المعترض من الاعتراض إن كنت مدعيا ولا تمنع المدعي من الادعاء ولا من إثبات ادعائه إن كنت معترضا " .
فلا يترجح ارتفاع العنف إلا إذا جاز لكل واحد قبل العمل بمبدأ الحوار النقدي أن تكون له وجهة نظر في كل مسألة معروضة حين يشاء ، ومتى كانت له وجهة نظر ، صار مدعيا ، فلزمته إقامة الدليل على دعواه لا يتعداها ، كما جاز له أن يتعرض لأية وجهة نظر معلومة حين يشاء ، ومتى قام بهذا التعرض ، صار معترضا ، فلزمته مطالبة المدعي بالدليل ، لا يتعداها ، وليس في هذه الحرية ما يضر الجماعة في شيء ؛ لأن هذا النوع من الحوار الذي دخل فيه المرء ، وهو الحوار النقدي أو العقلي ، كفيل بأن ينهض بتصحيح رأيه أو دعواه أو تصحيح نقده أو اعتراضه ، فيعود إلى التزام الجماعة كما كان قبل المنازعة إن لم يعد إلى هذا الالتزام بأقوى مما كان .
2-1 ضابط الحقائق المشتركة
ومقتضاه في صورته العامة هو :
-" يثبت الرأي بالبناء على المعارف والأحكام المشتركة "
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" اجتهد في إثبات دعواك بالاستناد إلى أقوى المقدمات المشتركة "
لا يترجح ارتفاع العنف إلا إذا عمل كل واحد من جانبه على استخراج آرائه أو دعاويه من الوقائع والقيم التي تعد رصيدا مشتركا ، ويكون التسليم بهذه الآراء على قدر قوة هذه الوقائع والقيم ؛ لأن درجة الاشتراك فيها ليست واحدة ، و إنما درجات متعددة يعلو بعضها ، فمنها ، مثلاً ، ما يعد إنكاره خروجا عن طور العقل ، ومنها ما يعد الشك فيه جهلا بمجرى الطبيعة ، ومنها ما يعد القدح فيه خروجا عن مقتضى العادة ، كما أن نطاق هذا الاشتراك ليس واحدا ، و إنما نطاقات متعددة يزيد اتساع بعضها على بعض ، فمن الوقائع والقيم ، مثلا ، ما يشترك فيه جميع أفراد الجماعة بحيث يكون ملزما لهم على السوية ، ومنها ما تشترك فيه هذه الفئة أو تلك من الفئات المكونة لهذه الجماعة ، ومنها ما يختص به المتحاوران ، بحيث لا يكون ملزما لغيرهما .
وعلى قدر ما تكون الوقائع والقيم المأخوذ بها أعلى رتبة وأوسع نطاقا ، يكون الاقتناع بها أضمن وتكون نهاية الاختلاف أكثر يقيناً ، على ألا يسيء المتحاوران استخدام هذا الرصيد المشترك من الحقائق ، فينكر المعترض ما حقه أن يكون أمرا مشتركا ، ويقر المدعي ما حقه أن يكون غير مشترك .
1-3ضابط قواعد الاستدلال
ومقتضاه في صورته العامة هو :
-" يثبت الرأي بالتسول بقواعد الاستدلال المشتركة "
ومقتضاه في صورته الخاصة ، فهو :
-" اجتهد في إثبات دعواك باستخدام أقوى قواعد الاستدلال المشترك "
لا يترجح ارتفاع العنف إذا عمل كل واحد من جانبه على التوسل في استنتاج آرائه أو دعاويه من أقوى المقدمات المشتركة بواسطة أقوى القواعد الاستدلالية المقررة ، وهذه القواعد هي الأخرى أنواع متفاوتة ، فمنها ما يتولد به اليقين الذي لاشك معه ، ومنها ما لا يتولد به إلا يقين مقيد بمجال مخصوص ، ومنها ما ينتج الظن الذي لا تقل فائدته عن اليقين ، ومنها ما ينتج الظن الذي لا يستغنى عنه ، ثم إن نطاق الاشتراك في هذه القواعد هو أيضا ليس واحدا ، وإنما نطاقات مختلفة ، بحيث نجد فيها ما يعم الجماعة كلها ، ومنها ما يغلب عند هذه الفئة أو تلك من فئاتها بحسب طبيعة المجال الذي تشتغل وتجري فيه حواراتها .
وعلى قدر ما تكون القواعد الاستدلالية المتوسل بها أنسب للمجال أو أوسع دائرة ، يكون الإذعان بها أسرع وتكون نهاية الاختلاف أقرب ، شريطة ألا يسيء المتحاوران استخدام هذه القواعد، كأن يستخرج أحدهما حكما عاما من تصفح جزئيات غير كافية ( ممارسة سيئة لقاعدة التعميم ) ، أو يثبت حكما لشيء ما بقياسه على شيء آخر وهو لا يقاس عليه ( ممارسة سيئة لقاعدة القياس ) أو يستنتج ، بناء على ما لاحظه من التتالي الظاهر بين شيئين ، أن أحدهما سبب في الآخر ، وليس الأمر كذلك ( ممارسة سيئة لقاعدة التعليل ) .
2-الضوابط الصارفة لآفة الخلاف
لقد تقدم كذلك أن الاختلاف شيء والخلاف شيء آخر ، إذ الخلاف ليس معه أصلا دليل ، فيكون الواقع فيه – أي المخالف – متشهيا ، وإذا وجد معه دليل ، فلا يكون من وضعه أبدا ، وإنما من وضع غيره ، ولما لم يكن المخالف واضع هذا الدليل وكان مقلدا فيه ، لا يأمن ألبتة أن يأتي به على وجه لا يناسب بوجه ما الرأي أو الدعوى المتنازع فيها ، فيزيد الخلاف حدة حيث يحسب أنه يسعى في تخفيفه ، في حين أن الاختلاف لا تشهي معه ، لأنه لا اعتبار فيه إلا للدليل العقلي ، ولا تقليد معه ، لأنه لا اعتبار فيه إلا للاجتهاد الشخصي ، لذلك ترى صاحبه – أي المختلف – يسعى على قدر الطاقة ، لا في أن يضع دليله من عنده فقط ، بل أيضا في أن يكون هذا الوضع على أنسب وجه ، ولا يسعى كذلك في أن يورد نقده أو اعتراضه على دليل غيره فقط ، بل أيضا أن يكون هذا الإيراد على أنسب وجه ، كل ذلك ليقوي من حظوظه في الإسهام في رفع الاختلاف ، وبناء على هذه الاعتبارات ، أذكر الضوابط -التي تمكن من دفع الخلاف- الآتية :
1-2 ضابط واجب الإثبات
ومقتضاه في صورته العامة هو :
- " يجب أن تكون الآراء مثبتة "
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
" عليك أن تدفع الاعتراض على دعواك بإثباتها بدليل مقبول " (3)
لا يمكن اجتناب الوقوع في الخلاف إلا إذا نهض المدعي بواجبه في إقامة دليل عقلي على دعواه التي ورد عليها اعتراض المعترض . طبقا للمبدأ المعلوم : " البيَّنة على من ادعى - ومتى أقام المدعي هذا الدليل العقلي ، حقَّ للمعترض أن ينظر فيه ، فإن أرضته معقوليته أمضاه ، وإلا عاود اعتراضه فأورده على مقدمات هذا الدليل ، بعضها أو كلها ، بوصفها دعاوى جديدة ، فيتوجب على المدعي أن يشتغل بإثباتها بدورها ، وهكذا حتى ينتهي إلى مقدمات مشتركة لا اختلاف فيها أو مسلمة عند المعترض تضطره إلى الإذعان ، وإلا اضطر المدعي إلى السكوت ، مقرا بعجزه في إثبات ما ادعاه ، إلا أن يسيء القيام بهذا الواجب ، فيوهم محاوره بفراغ ذمته من هذا الواجب كما إذا عرض دعواه على أنها بينة بنفسها أو أنه هو الضامن لصدقها أو يعمد إلى نقل هذا الواجب إلى ذمة المعترض كما إذا طالبه أن يبرهن على اعتراضه .
2-2 ضابط الإثبات الأنسب
ومقتضاه في صورته العامة هو :
-" يجب أن يكون الإثبات ملائما للرأي المثبت " .
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" عليك أن تثبت دعواك بأنسب دليل ممكن " (5)
لا يكفي في اجتناب الخلاف أن يجتهد المدعي في الإتيان بالدليل ، بل عليه كذلك أن يطلبه من الطريق الذي يبدو له أنه أدل على دعواه من غيره ، إذ يجوز أن، تكون هناك طرائق تدليلية متعددة لتعقب المطلوب ، لكن بعضها يكون أعلق بهذه الدعوى من بعض ، فيكون التخير أعلقها بهذا أقوى على منع الخوض في غيرها ، وبالتالي منع انتشار الحوار والخبط فيه ، أما إذا تخير المدعي غير هذا الطريق، فلا يأمن من أن يقع فيما يقع فيه " المخالف " . الذي يأخذ من سواه دليله ، نحو الابتعاد عن الدعوى والاشتغال بالتدليل على غيرها .
2-3 ضابط الاعتراض الأنسب
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" يجب أن يكون النقد ملائما للنقد المنقود "
ومقتضاه في صورته الخاصة ،فهي :
-" عليك أن تعترض على دعوى المدعي على أنسب وجه ممكن "
لا يكفي في اجتناب الخلاف أن ينتقد المعترض الدعوى ، بل يتعين عليه أيضا أن يأتي بهذا الانتقاد على الوجه الذي يبدو له أنه أكثر ملاءمة من غيره لهذه الدعوى ، إذ يجوز أن تكون هناك وجوه متعددة للتعرض لها ، لكن بعضها يكون أعلق بها من بعض ، فيكون اختيار أعلقها بها أقوى على حفظ الدعوى الأصلية وجمع المتحاورين عليها ، وعلى قدر ما يكون هذا الحفظ والجمع ، يكون القرب من النتيجة ، ولا يبعد أن يفضي اختيار غيرها إلى تقويل المدعي ما لم يقل ، إن تحريفا لقوله أو حتى افتراء عليه ، صراحة أو ضمنا .
3-الضوابط الصارفة لآفة الفرقة
لقد تقدم أخيرا أن الفرقة هي إما عبارة عن افتراق في الحقوق بين الأفراد داخل الجماعة – أي تفاوت – أو افتراق في بنية الجماعة – أي انشقاق – والحال أن الاختلاف في الرأي ليس فيه شيء من هذا ولا من ذاك ؛ لأنه يقوم على التساوي في الحقوق بين المتحاورين ، ثم لأن الغرض من الدخول في الحوار هو بالذات الخروج من الاختلاف في الرأي إلى الاتفاق فيه فحينئذ ، يبدو أنه لا شيء يمكن أن يحول دون هذا الاتفاق بحيث يفضي إلى الفرقة إلا واحدة من ثلاث آفات : إما أن تكون اللغة التي يستعملها المتحاوران مضطربة ( آفة لغوية ) أو يكون السلوك الخلقي الذي يتخذه أحدهما إزاء الآخر مختلا ( آفة خلقية ) أو يكون موقفهما من النتيجة المنطقية للحوار موقف المعاندة ( آفة منطقية ) ، ومن هنا ، نتبين نوع الضوابط التي نحتاج إلى وضعها والتي من شأنها أن تقي أهل الاختلاف في الرأي شر الفرقة .
2-3 ضابط إحكام العبارة
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" ينبغي اجتناب آفات التعبير والتأويل " .
مقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" على كل واحد من المتحاورين أن يطلب الإحكام في صياغة أقواله وتحديد معانيه " .
لا سبيل إلى منع الفرقة إلا باجتهاد المتحاورين في أحكام اللغة التي يستعملانها بالقدر الذي يتيح لهما أن يتواصلا فيما بينهما تواصلا مبينا غير مشوش ، و لا يخفى أن هذا الإحكام يقتضي أن تكون العبارة سليمة وواضحة و دقيقة في غير إيجاز مخل ولا تطويل ممل ، لأن خلوها من هذا الإحكام – بأن تكون ركيكة أو غامضة أو ملتبسة مع إيجاز أو تطويل . قد يتسبب في حالات من سوء الفهم وسوء التفاهم تصل إلى درجة أن المتحاورين قد يحسبان أنهما متفقان في مسائل وليس الأمر كذلك ، فيكون اتفاقهما الكاذب سببا في ترك حوار كانا في حاجة إليه ، أو على العكس من ذلك ، قد يحسبان أنهما مختلفان في مسائل وليس الأمر كذلك ، فيكون اختلافهما الكاذب سببا في الدخول في حوار كانا في غنى عنه .
2-3 ضابط استقامة السلوك
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" ينبغي اجتناب آفة السلوك ".
و مقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" على كل واحد من المتحاورين أن يطلب الاستقامة الخلقية في أقواله وأفعاله " .
لا سبيل إلى منع الفرقة إلا باجتهاد المتحاورين في تحصيل الاستقامة في سلوكهما بالقدر الذي يتيح لهما أن يتفاعلا فيما بينهما تفاعلا مثمرا غير مجدب ولا يخفى أن هذه الاستقامة توجب أن يجعل الواحد منهما اعتبار الغير فوق اعتبار الذات ، فلا يأتي من الأفعال ما يشوش على هذا الغير في القيام بحجته أو في إيراد اعتراضه كمقاطعته أو تجريحه أو احتقاره لأن فقد المحاور لهذه الاستقامة . بأن يجعل اعتبار ذاته فوق اعتبار غيره لا يبالي إن أساء إليه أو أحسن – قد يتسبب في حالات من سوء العمل وسوء التعامل بينهما إلى حد أن أحدهما يحسب أنه يصلح في أمور وهو في الحقيقة يفسد فيها ، فيكون هذا الإصلاح الكاذب سببا في ترك عمل كان أنفع له ، أو يحسب أن محاوره يفسد في أمور وهو في الحقيقة يصلح فيها ، فيكون هذا الفساد الكاذب سببا في الدخول في عمل هو أضرُّ به .
3-3 ضابط قبول الصواب
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" ينبغي اجتناب المعاندة "
و مقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" على كل واحد من المتحاورين أن يقبل النتيجة التي توصل إليها حوارهما ، كائنة ما كانت " .
لا سبيل إلى منع الفرقة إلا إذا سلم كل من المدعي واعترض بنتيجة الحوار تسليمهما بالمقدمات المشتركة التي بنياها عليها وبالقواعد الاستدلالية المشتركة التي توسلا بها في هذا البناء ، وقد تكون هذه النتيجة هي إثبات الدعوى – أو الرأي - ، فيلزم المعترض – أو المنقد – إذ ذاك أن يترك اعتراضه ؛ لأنه عجز عن التعرض للدعوى ، أو تكون هي توجه الاعتراض ، فيلزم المدعي إذ ذاك أن يترك دعواه ؛ لأنه عجز عن إقامة الدليل عليها ، وإثبات الدعوى لا يعني أن الدعوى صادقة بالضرورة ، لأن المدعي قد يثبتها بناء على ما سلم به محاوره من مقدمات ، فيكون صدقها متوقفا على صدق هذه المقدمات المسلمة عنده ، وهو ما لم يثبت بعد كما أن توجه الاعتراض لا يعني أن، نقيض الدعوى صادق بالضرورة ؛ لأن عدم إثبات القول لا يلزم منه كذبه ولا صدق مقابله ، نقيضا كان أو ضدا ، فقد يجوز أن يصدق القول ولو لم نظفر بالبرهان عليه كما يجوز أن يكون هناك قول ثالث فيه توقف عن الحكم ، إيجابا وسلبا .
وإذا نحن تأملنا قليلا هاتين الصفتين لنتيجة الحوار ، أولهما ، " التعلق بالمسلمات " ، والأخرى ، " زيادة الصدق عن شرط الإثبات والاعتراض "، أدركنا كيف أن هذه النتيجة تكون نسبية لا مطلقة ، واحتمالية لا قطعية ، وتقريبية لا تقريرية ، لذلك ، الغالب على الظن أن أنسب الأوصاف لهذه النتيجة ليس هو وصف الحق ، وإنما وصف الصواب ، لأن الحق حكم على الأمر في نفسه ، بينما الصواب هو حكم على الأمر بالنسبة إلينا ، وما صدق بالنسبة إلينا لا يصدق بالضرورة في نفسه ، وما صدق في نفسه ينبغي أن يصدق بالنسبة إلينا ، إن عاجلا أو آجلا ، فكل حق صواب لكن ليس كل صواب حقا .
و إذا كانت نتائج الحوار التي يتعاون فيه اثنان فأكثر ، على صوابها ، محدودة في صلاحيتها ومعرضة للتصحيح على الدوام ، فما الظن بالنتائج التي يتوصل إليها المرء منفردا بنفسه ، فلا يمكن أن تكون إلا أشد محدودية وأكثر عرضة للخطأ .
والعبرة من هذا كله هو أنه لا مشروعية علمية للتعصب في الرأي الذي يكون ثمرة الحوار العقلي ، ولو كثر عدد المتحاورين المشتركين فيه ، عقلاء ومجتهدين ، ناهيك عن الرأي الذي ليس ثمرة للحوار ، وإنما هو نتاج نظر لفرد واحد ، لا يوجد معه من يمتحن أنه مجتهد ولا حتى من يمتحن أنه عاقل ، إذ وجود الاجتهاد ووجود العقل -عند الفرد- موقفان على شهادة الغير بهما ، ولا يمكن أن يشهد له بهما ، حتى يستبينهما في حوار نقدي على تمام شرائطه المعلومة ، لهذا فلا رأي ، كائنا ما كان ، يستحق أن نحمل عليه بالقوة ولو كان رأي الجماعة الصالحة ، فما بالك بالفرد الواحد الذي لا يمكن أن نمتحن صلاحه مادام لا يحاورنا ولا يحاوره .
وفي ختام هذا الدرس ، استجمع أمهات الفكر التي دار عليها في أربع :
أولاها أن بنية الكلام أصلا بنية حوارية وأن بنية الحوار أصلا بنية اختلافية .
والثانية : أن الاختلاف في الرأي لا يسوى بالعنف ، وإنما بالحوار العقلي ، ولا هو أيضا يساوي الخلاف ، وإنما الوفاق ، ولا هو أخيرا يفضي إلى الفرقة ، وإنما إلى الألفة .
والثالثة: أن الاختلاف في الرأي يتقيد في سياق الحوار بضوابط محددة تصرف عنه المهلكات الثلاث : " العنف " و " الخلاف " و " الفرقة " .
والرابعة: أن وجود الاختلاف في الآراء لا يضر أبدا وجود الجماعة الواحدة ، بل يكون خير مثبت لهذا الوجود لقدرته على تحريك وتقليل أطوارها، وبالتالي تجديد الشعور بالالتزام المشترك عند أفرادها والشعور بالمسؤولية الجماعية عند فئاتها .
والسلام عليكم ورحمة الله ...
(*) د. طه عبدالرحمن – أستاذ الفلسفة والمنطق- جامعة الرباط
http://www.alwihdah.com/fikr/adab-ikhtilaf/2010-04-26-1182.htm