وسائل القرآن في حوار الآخر
وسائل القرآن في حوار الآخر
بقلم
د. محمد رفعت أحمد زنجير*
أستاذ مشارك بجامعة عجمان للعلـوم والتكنولوجيا
كلية التربية والعلوم الأساسية/عجمان
ص. ب: 21474
هاتف وفاكس: 7490824 –6- 00971
البريد الالكتروني:
mohdrifat@hotmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دكتوراة في البلاغة والنقد من جامعة أم القرى عام 1416هـ/1995م. عضو هيئة التدريس بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا سابقا، صدر له (14) كتابا في الدراسات التخصصية بالإضافة إلى عدد من البحوث والدراسات الفكرية والإسلامية، شارك بـ: (25) بحثا محكما في عدد من الدوريات العلمية المحكمة الرصينة، وأكثر من 100 مقال علمي في المجلات والصحف، من آثاره المطبوعة: الإمام الطيبي حياته وجهوده العلمية، تحقيق فتح الجليل للسيوطي، أهمية الإيمان وآثاره في بناء الفرد والمجتمع، مسرحية في ظلال اليرموك، مسرحية صلاح الدين الأيوبي، اتجاهات تجديدية متطرفة في الفكر الإسلامي المعاصر.
موجز بحث
وسائل القرآن في حوار الآخر
هذا البحث مقسم إلى مقدمة وتمهيد و(22) فقرة، ومذيل بخاتمة
في المقدمة ذكرت سبب كتابة هذا البحث وأنه يأتي ضمن الرد على حملة شرسة تتهم الإسلام بعدم احترام الفكر والرأي لدى الناس.
وفي التمهيد بينت أن الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وأن القرآن الكريم كتاب يحترم العقل والمنطق، ويدعو إلى التفكر والحوار مع مختلف البشر ممن لا يؤمنون به، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا الصدد، مما يدل على حيويته وملامسته لواقع الناس الديني والفكري
وذكرت أن للدعوة أساليبها ووسائلها في إقناع الآخر، وإلزامه الحجة، وقد ناقشنا هذه الوسائل مناقشة علمية هادئة من خلال ما يقوله الله عز وجل في كتابه مباشرة للكافرين والمعاندين، أو من خلال ما يعلمه لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أساليب الحوار والحجاج، وكانت المناقشة ضمن (22) فقرة وفق التالي:
1- الاحتكام إلى العقل
2- الاحتكام إلى النفس
3- الاحتكام إلى الفطرة
4- الاحتكام إلى البيئة
5- الاحتكام إلى الكون ومظاهره
6- الاحتكام إلى التاريخ
7- الاحتكام إلى المستقبل
8- الاحتكام إلى أهل العلم والخبرة
9- الاحتكام إلى القيم الفاضلة
10- الاحتكام إلى المصلحة العامة
11- الاحتكام إلى خوارق العادات (المعجزات)
12- الاحتكام إلى المعجزة القرآنية
13- استخدام التشبيه
14- المذهب الكلامي
15- تسخير طاقات اللغة
16- طلب الدليل والبرهان
17 - دحض شبهة الخصم
18- الاحتكام إلى القيم الجمالية
19- الاحتكام إلى السيرة النبوية
20- الاحتكام إلى المنهج التجريبي
21- الوعد والوعيد
22- الاحتكام إلى الله عز وجل
وفي الخاتمة ذكرت نتائج البحث وأهم المقترحات، وتوصلت إلى أن القرآن استخدم جميع الوسائل المتاحة في الكون والحياة والإنسان ذاته من أجل إثبات قضاياه التي يطرحها، واستخدم سجل الحياة الإنسانية ماضيها ومستقبلها للغرض السابق أيضا، وسخر طاقات اللغة التعبيرية والعلوم والمعارف جميعها، واعتمد على الفطرة السليمة ولم يأل جهدا في إيقاظها وتنبيهها، واستخدم أجود أساليب التعبير والحوار لإقامة حجته، وأشاد بالمعجزات على أنها دلائل إثبات صدق المرسلين، وأعظمها هذا القرآن العظيم، واحتكم إلى مصالح العباد التي تقتضي الإيمان من أجل سيرورة الحياة وبقائها.
وأوصيت بما يلي:
1- تشجيع الدراسات الحوارية بين الإسلام ومخالفيه أو خصومه.
2- استخدام المزيد من الوسائل المتاحة لهذا الغرض كالصحف والأفلام والشبكة الإلكترونية.
3- نؤكد على أن الحوار هو في صالح الإسلام أولا.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقدمــــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعباده الذين اصطفى.
وبعد:
فإننا نعيش في فتن متلاطمة الأمواج، وفي جهل مركب، ضمن عالم يختال فيه الناعقون، ويُصفد فيه أهل الرأي والحجى، فصرنا نجد من يهاجم دين الله تعالى، ورسوله الكريم، بصورة أسوأ من الجاهلية الأولى. في حين أن السواد الأعظم من المسلمين مشغول في البحث عن لقمته، أو غارق في أهوائه وشهواته، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي هذا الجو الموبوء صار الدين ينعت بكل فرية، ولا من يرد ولا من يجيب، اللهم إلا أصواتا ضعيفة، لا تضارع جعجعة الباطل وحزبه.
وكان من أفرى الفرى أن يقال: إن القرآن انتشر بالسيف والإكراه، وأن ديننا لا يؤمن بلغة العقل والحوار، فكان لزاما على أهل الرأي والنهى أن يتصدوا لهذه الحملات الظالمة.
وقد أحببت المشاركة بهذا البحث ضمن كوكبة من الباحثين وأهل العلم في ندوة دعت إليها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة في شهر نيسان من عام 2007م، وموضوع الندوة: (الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي).
أسأل الله عز وجل أن يثيب القائمين على هذه الندوة، وأن يكتب النفع والقبول للبحوث لتحقق الندوة الغرض المقام منها، كما أسأله أن يتقبل مني، وأن يختم لي بخاتمة السعادة، وهو حسبي ونعم الوكيل
تمهيد حول أهمية البحث
الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهي ينبغي أن تكون بأسلوب اللين والرفق، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125).ز
وليست الدعوة مقصورة على الرسل، بل هي واجب على أتباعهم أيضا، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
والدين الإسلامي الذي ندعو إليه هو دين الأنبياء والمرسلين جميعا، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13). وقد حصل الاختلاف بين أتباع الرسل السابقين، وقد حصل التغيير والتبديل عن المنهج الثابت الذي شرعه الله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (الشورى:14). ومن ثم كانت رسالة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرد الناس إلى المنهج القويم الذي كان عليه الأنبياء جميعا، قال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى:15).
والقرآن الكريم كتاب يحترم العقل والمنطق، ويدعو إلى التفكر والحوار، فمن ذلك ذكره لموقف أحد المشركين المنكرين للبعث وهو أبي بن خلف الجمحي، الذي (أخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويقول: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نعم، ويبعثك، ويدخلك جهنم) . قال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يّـس:78).
ومن ذلك دعوته بني إسرائيل إلى إحضار توراتهم لإثبات كذبهم، قال تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:93).
ومن ذلك دعوته نصارى نجران للمباهلة، قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران:61).
ومن ذلك حواره لأهل الكتاب في شأن إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (آل عمران:65).
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا الصدد، مما يدل على حيويته وملامسته لواقع الناس الديني والفكري، فهو كتاب يهتم بالحوار وإقامة الحجة والبرهان، كما يهتم بآداب الحوار والتعامل مع الآخرين برفق، وهو أمر يفتقده معظم المعارضين للقرآن الكريم.
وللدعوة أساليبها ووسائلها في إقناع الآخر، وإلزامه الحجة، وهذا البحث الذي نقدمه يتكامل مع بحث محكم سابق نشرناه بعنوان: (منهجية القرآن في التعامل مع آراء معارضيه)، وقد نشرناه في كتاب مستقل أيضا، وذلك لما للموضوع من أهمية، وكنا قد استعرضنا فيه الأسس المنهجية للحوار مع الآخر، واليوم نستعرض في هذا البحث الوسائل المنهجية التي استخدمها القرآن في حوار الآخر، وهو بحث هام من أجل أن نتعلم من هذه الوسائل المساعدة في طرائق التفكير والتعبير والحوار حتى نقيم حجة الله على خلقه.
وهذا البحث مقسم إلى (22) فقرة، ومذيل بخاتمة، فإلى أولى فقرات هذا البحث
1- الاحتكام إلى العقل
من خصائص القرآن الكريم أنه كتاب يؤمن بالعقل ويعلي من شأنه، وقد جعله مناط التكليف، وهو يحتكم إليه في شئون الدين والدنيا، وفي خطابه للمسلمين وغيرهم.
فالكون في المنظور القرآني كتاب ناطق يهدي العقلاء من الناس إلى ربهم، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164) والكون يهدي أيضا إلى معرفة الغرض من الخلق؛ وهو الفتنة والابتلاء، ليعقب ذلك الجزاء في عالم البقاء، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190). وعقب هذه الآية بين صفة أولي الألباب، وكيف يستدلون بوحدة الخلق على وحدة الخالق سبحانه، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191).
وتبيان الآيات من أجل إدراكها والتفكر فيها، قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:242).
والحياة الدنيا ليست إلا ممرا للآخرة لمن تفكر، قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنعام:32).
والتشريع ليس إلا وسيلة لحفظ العقل وديمومة الحياة، قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام:151).
والوثنية ليست سوى انحطاط عقلي، لا يليق بالآدميين، قال تعالى: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء:67).
والشرك بالله ـ الذي هو أكبر جريمة يعاقب الله عليها ـ لا يتناغم مع العقل في شيء، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأنعام:74).
وليس ثمة دليل واحد للمشركين يعتمدون عليه، قال تعالى: (هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف:15).
والآلهة المزيفة لا تستطيع أن تغالب رب العالمين، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء:42) والمعنى: "لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض" .
بل هي لا تستطيع نصر أصحابها، قال تعالى: (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأحقاف:28).
وهي لم تخلق شيئا أصلا حتى تغالب الرب سبحانه، أو تنصر أصحابها، قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً) (الفرقان:3).
والشرك يقتضي الصراع بين الآلهة، مما يترتب عليه فساد الكون في جملته، وطالما أن الكون يجري وفق نواميس وسنن ثابتة، فمعنى هذا أنه ليس ثمة شرك ولا شريك، قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء:22).
وهذا الشرك ـ بكل أشكاله وصوره ـ قائم على الجهل ولا يستند إلى شيء من الحقائق المعتبرة، قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:24).
وأهل الشرك عطلوا حواسهم فصاروا شر الخليقة، قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (الأنفال:22).
وأهل الكتاب يتناقضون مع العقل في كثير من أحكامهم، كزعمهم انتساب إبراهيم إليهم، مع أنهم جاؤوا بعده، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (آل عمران:65).
وسلوك أهل الكتاب يتناقض مع معتقداتهم، فهم في فصام نكد بين المثال والواقع، مما يجعل العقل يتقزز من ممارساتهم اللامسئولة، قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
وأكثر أهل الكتاب يركنون إلى الحياة الدنيا وأسبابها، وقد توحدوا أمام الناس في حين أن حقيقتهم التشرذم والاختلاف، قال تعالى: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر:14).
وبعض الأعراب لم يتعلموا أدب التعامل مع الآخر، وفيهم حماقة وقلة عقل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:4) وقد وردت بعض الكلمات والمواد اللغوية المتصلة بالعقل كثيرة في القرآن الكريم، فمن ذلك:
المادة مع مشتقاتها، أو الكلمة* عدد المرات
عقل 49
ألباب 16
فكر 17
فقه 20
نظر 127
بصر 148
علم 855
سمع 185
فؤاد* 16
قلب* 135
وهذا التكرار لمواد ذات صلة بالعقل، يعتبر كله إعلاء من شأن العقل وأدواته من حواس وعلم في خطاب الناس على مختلف توجهاتهم ونحلهم وأديانهم، وليس هذا موضع تفصيل تلك المواضع، واكتفينا بالإشارة إليها على موضع الإجمال، لنؤكد على أن العقل هو الأداة الأولى التي يحتكم إليها الخطاب القرآني.
2- الاحتكام إلى النفس
النفس: لها معان عدة، فهي الروح، والذات ، والنفس البشرية من أعظم الأشياء التي استخدمها القرآن في الدلالة على وحدانية الله، وعظمة آياته، قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات:21)، والمعنى: "في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق، ما تتحير فيه الأذهان" .
وللإنسان أن يتأمل بدء خلقه، قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق:5).
وله أن يتأمل خط سيره من الرحم إلى القبر مرورا بالحياة، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر:67).
وله أن يتأمل كيف يدب الوهن والضعف فيه بعد رحلة الصحة والشباب، قال تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّـس:68).
وله أن يتأمل حياته الجنسية والعاطفية ليدرك عظمة الله تعالى، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).
وله أن يتأمل دقائق صنع الله تعالى في النفس البشرية وما بث فيها من مشاعر الفجور والتقوى، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس:7-8). وليستعذ بالله مما توسوس به نفسه، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16)، وليتأمل كيف تزين له نفسه السوء والمنكر، قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف:53).
وله أن يتأمل في جسده وحسنه وقوامه، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)، وليتأمل جوارحه ولسانه وبيانه، قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) (البلد:8-9).
وله أن يتأمل تعدد الألوان واختلاف اللغات، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم:22) ليدرك من خلال ذلك كله، أن الله خلقه في أحسن تقويم، وأن أكبر آية على وحدانية الله هو هذه النفس القريبة التي نعيش بين جنبيها، فتبارك الله أحسن الخالقين!
3- الاحتكام إلى الفطرة
الفطرة مشتقة من فطر، "وفطر الله الخلق: وهو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال، فقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية30) فإشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته تعالى، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان، وهو المشار إليه بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )(الزخرف: من الآية87)، وقال: )الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )(فاطر: من الآية1).."
ورد الناس إلى فطرتهم، وبعث ما فيها من كوامن الخير والفلاح، هو منهج الأنبياء جميعا، فهذا نوح عليه السلام ينكر على قومه نبذ الإيمان بالله خالقهم، وعدم إجلال ربهم عز وجل، قال تعالى: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح:13-14) وهذا إبراهيم يتبرأ من قومه حتى يردهم إلى الإيمان بالله الواحد، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبراهيم وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إبراهيم لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4) وهذا لوط ينعى على قومه سلوكهم المشين الذي يخالف الفطرة، قال تعالى: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:80) ولم يكن سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمعزل عن هؤلاء الأنبياء أيضا، فهم قد بشروا به، وكل ما نادى به هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحليل الطيبات وتحريم الخبائث، وفك الغلال عن البشر، مما يقتضي على كل ذي لب اتباعه، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).
والخلاصة أن الإيمان بالله هو فطرة في النفس البشرية، قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(التغابن: من الآية11)، ومبادئ الدين وقيمه وأحكامه منسجمة تماما مع الفطرة السليمة، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30). فلا غرو بعد هذا أن تكون الفطرة السليمة إحدى الوسائل المنهجية التي يحتكم إليها الرسل وأتباعهم في الدعوة إلى الله.
4- الاحتكام إلى البيئة
البيئة في اللغة: "المنزل والحال، يقال: بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية وبيئة سياسية" .
والبيئة بهذا المفهوم إحدى وسائل التي يتحاكم إليها الخطاب القرآني، فالطعام والشراب من معجزات الله عز وجل، حيث هنالك دورة للماء والنبات حتى يصلا صالحين للاستعمال الآدمي، قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً) (عبس:24-26).
والأرض وما فيها من النباتات والأشجار المختلفة، ذات الطعوم المختلفة، بيد أن الماء واحد، وفي هذا إشارة إلى علم الوراثة في النبات، فالمورثات هي التي تتسبب في اختلاف المذاق، قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد:4).
ويد الإنسان تمتد لرزق الله تعالى، فتتخذ منه الحلال والحرام، قال تعالى: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل:67) والسكر: الخمر ، وكأن الإنسان هو الذي يتمادى في طغيانه فيجعل نعمة الله خمرا، فيفسد ما وهبه الله إياه من نعمة. والماء هو سر الحياة على هذه الأرض، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(الأنبياء: من الآية30)، وعنه تنبثق المزروعات والثمار، قال تعالى: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:11)، ومن هذه الثمار يكون العسل الذي فيه شفاء للناس، فهو غذاء ودواء، قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:68-69). وحيث ما نظر الإنسان، فسيجد من حوله نعم الله تحوطه وتغمره، فالبيئة بما فيها من ثروة ومال وطعام وشراب وزرع وماء وحيوان وحشرات، كلها آيات تدل على وحدانية الله عز وجل، وإذا تجاوزنا البيئة الطبيعية إلى البيئة الاجتماعية وما فيها من سنن الاجتماع والتطور والتغيير، أو إلى البيئة السياسية وما فيها من خير وشر وتقلبات ونزاعات، وجدنا آيات الله وسننه الثابتة التي لا تتغير، فالعدل جوهر الحياة، وأساس البقاء، والتغيير يبدأ من النفس أولا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(الرعد: من الآية11). والظلم يعصف بالأمم والممالك عبر التاريخ، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59). وهذا بحث كبير، جدير بالتفصيل في دراسة مستقلة.
5- الاحتكام إلى الكون ومظاهره
تعتبر المنهجية القرآنية الكون وما فيه من مظاهر الحكمة والإبداع وسيلة لإثبات الخالق ووحدانيته عز وجل، فالله سبحانه هو الموجد لهذا الكون، ومدبر أمره، بيده أسباب الخلق والرزق، وأمر الليل والنهار، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164).
وهو رب الأجرام العلوية النيرة، التي سخرها من أجل حياة الإنسان، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل:12).
وهو رب الأرض بما فيها، وقد أمدها سبحانه بما يحقق فيها الأمن من جبال تقيها الزلازل، وأنهار تعد شرايين الحياة للبشر، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد:3)
وهو رب الجهات كلها سبحانه، قال تعالى: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:28)
وهو واهب الرزق والحياة لمن في الأرض حتى بإقرار المشركين، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:63)
وقد جعل وميض البرق شعاع أمل ورعشة خوف في قلوب عباده، فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم:24)
ومن يملك الكون يملك أمر الموت والحياة، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (المؤمنون:80).
وهو سبحانه وحده أهل لأن يعبد ويطاع، لأن بيده كل شيء، وغيره لا يملك شيئا، قال تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل:17)، ومن ابتغى ربا سواه فهو أحمق وجاهل، قال تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64).
6- الاحتكام إلى التاريخ
التاريخ خير شاهد على صدق الأنبياء، وإثبات الرسالات، فآثار الأمم البائدة بالعقاب الرباني تنطق بالحق عبر التاريخ، قال تعالى يذكر بأسه في قوم لوط، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (هود:82)، ثم ذكر العبرة من بقاء قرية لوط: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:35). وقال يذكر عادا وثمود: (وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (العنكبوت:38)، وقال يذكر معهما أصحاب الرس وهم من عبدة الأوثان: (وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً) (الفرقان:38)، وقال يذكر قوم تبع: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (الدخان:37)
والظلم هو سبب الهلاك، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59)، وأشنع أنواع الظلم هو الشرك بالله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13). وليس ثمة عذر لمن أهلكهم الله بعد أن أرسل الرسل وأيدهم بالمعجزات البينة، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (يونس:13)
والاحتكام إلى تجارب الأمم السابقة خير سبيل للنجاة، فالتاريخ في معظمه يسطر تجارب مريرة للبشرية بسبب بعدها عن دين الله تعالى، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يّـس:62)، وهذه قرية لوط يمر عليها المشركون في كل الأوقات فلا يتدبرون ولا يعتبرون، قال تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات:138- 138). وهذه آثار مملكة فرعون البائدة بسبب الظلم، قال تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ) (الدخان:25- 28)
وفي التاريخ قصص كثيرة، قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف:3)، وينبغي أن تؤخذ العبرة من القصص الصادقة، لا أن تسرد القصص لمجرد لتسلية، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111).
وفي القصص القرآني نذير لقريش وغيرهم من المعاندين: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) (محمد:13)، فقد بعث الله إليهم رسولا وهم على أبواب العذاب، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (طـه:134).
وقد جعل الله عز وجل النصر حليف عباده المتقين، قال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128). وهذه سنة جارية من قبل الرسول محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبعده، فإقامة منهج الله هو مفتاح الرزق والفرج والخير كل الخير، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه:132). ودراسة التاريخ لا تعني الجمود والتقديس لكل ما هو قديم، إذ لا بد أن تكون دراسة نقدية مبصرة لمعرفة المحاسن والمساوئ في عقيدة وتراث من كانوا قبلنا، وقد نعى الله على الكافرين تحنطهم في متحف التاريخ، وتكلس عقولهم عند مقولة الآباء والأجداد، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170).
ولا بد من تحكيم التاريخ في المسائل المهمة، إذ لا يصح منهجيا أن ينتسب الجد الأعلى للأدنى، ولا المتقدم تاريخيا للمتأخر، ومن ثم فلا يجوز أن يكون إبراهيم المتقدم زمانيا على موسى وعيسى ـ عليهم السلام ـ يهوديا ولا نصرانيا، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:65-67)
7- الاحتكام إلى المستقبل
المستقبل غيب مخبأ، لا يستطيع العقل البشري أن ينفذ إليه على سبيل اليقين، وإنما هي تنبؤات وإرهاصات يعتمد عليها أصحاب الفراسة والخبرة، أو الكهان والمشعوذون، فيصيبون مرة ويخطئون مرات!.
وفي القرآن الكريم حديث طويل عن الغيب بشكل عام أو عن حوادث غيبية معينة تحققت، وهذا مما يزيد أهله إيمانا به، ويوقع الحجة على مناوئيه وأعدائه.
فمن ذلك وعد الله عباده المؤمنين بالتمكين لهم في الأرض، وهذه سنة ثابتة لا تتخلف عن جيل دون جيل، ولا تتبدل طول الدهر، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، وقال أيضا: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)، فالنصر حليف الإيمان في كل عصر ومصر على قلة أهل الإيمان عددا وعدة، ولقائل أن يقول: فكيف قتل بعض الأنبياء والرسل بشهادة القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران:21). والجواب أن الشهادة هي نصر، بل هي أعظم نصر، ولذلك قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (التوبة:52). فليس ثمة شيء أعظم من الإيمان بالرسالة والثبات عليها من الاستشهاد في سبيلها، فيكون هذا الدم الطاهر وساما لصاحبه يوم القيامة تنبعث منه رائحة المسك، كما يكون صاحبه منارا للأجيال القادمة من المؤمنين، تعلمهم معنى التضحية والفداء. ويتوعد الله الكافرين بالخذلان عند الجولة الأخيرة، قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:42)، وهي سنة ثابتة، فمهما علا الباطل، فإغنه إلى الحضيض يمضي في النهاية.
وقد بشر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بفتح مكة، وتم له ذلك، قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1)، وبشره بنصر دينه على جميع الأديان، وتم له ذلك في حياته، واستكمل بعد وفاته حتى عم نور الله مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).
على أن أعظم بشارة غيبية تحديه ببقاء القرآن دون تحريف، في مجتمع أمي، يتكون من مزيج متعدد، ففيه المسلمون والمشركون والمنافقون وأهل الكتاب أصحاب الخبرة في التبديل والتحريف، ولكن الله حفظ كتابه في هذا المجتمع المتعدد المشارب، والحفظ مستمر إلى قيام الساعة، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
ولا يقل أهمية عن هذه البشارة أن بعجز البشر عن محاكاته أو المجيء بسورة تشبهه، وأن يستمر التحدي إلى قيام الساعة، وأن لا نجد من أعداء القرآن ـ على كثرتهم في كل زمان ـ من يستطيع أن يقف لهذا التحدي، وقد مر زهاء خمسة عشر قرنا منذ نزول القرآن، وليس ثمة من نجح في هذا، بل جميع المحاولات من مسيلمة، إلى كذاب ثقيف، إلى ابن الراوندي... إلى عصرنا، لا تعدو أن تكون عبثا صبيانيا، فليس بوسع أحد أن يتحدى البشر جميعا بفعل شيء هو من صنعتهم ـ أي البيان ـ فلا يقدرون عليه لو لم يكن هذا المتحدي هو رب الكون وخالق الزمان والمكان والحدث الذي يجري فيهما، وهو يعلم من وراء الغيب أنه ليس ثمة أحد يستطيع أن يقف أمام هذه المعجزة القرآنية الخالدة، ومن ثم دعاهم للإيمان لكي يقوا أنفسهم من النار، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:23- 24)
8- الاحتكام إلى أهل العلم والخبرة
من مزايا القرآن الكريم تنويهه بالعلم وأهله، فالعلم مطلب شريف، قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(طـه: من الآية114). وأهل العلم في مرتبة لا يدانيها غيرهم، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)(الزمر: من الآية9)، وهم المرجعية المعتمدة للمعرفة الصحيحة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43).
وعليه فلكل علم مرجعيته، فهناك علم الشريعة، ومرجعيته الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام:151).
وهنالك علم الرياضيات، ومرجعيته علماء الحساب، قال تعالى: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (المؤمنون:113)، وهؤلاء يستقون معرفتهم من حركة الجرام السماوية وما يتولد عنها من ليل ونهار، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الإسراء:12).
وهنالك أرشيف الأخبار والسير قبل البعثة المحمدية، ويمكن الاحتكام فيه إلى الصادقين من أهل الكتاب، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) (الشعراء:197) فهؤلاء "يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها، والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ" .
وقد امتدح الله تعالى الصادقين من علماء أهل الكتاب، قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران:113)، وكبار علمائهم يؤمنون بالقرآن مثل ما يؤمنون بكتبهم أيضا، قال تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:162)، وهؤلاء وعدهم الله بالمثوبة والأجر يوم القيامة، قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:199).
ويمكن الرجوع إلى أهل الكتاب لمعرفة نتائج تجاربهم الدينية، وما ترتب عليها من ثواب وعقاب، قال تعالى: (سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:211)، وينبغي من خلال الاحتكاك بأهل الكتاب دعوتهم بالحسنى إلى الإرث المشترك بيننا وبينهم من التوحيد الخالص والانقياد لمنهج الله سبحانه، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64).
9- الاحتكام إلى القيم الفاضلة
القيم الفاضلة من فطرة البشر جميعا، ونعني بالقيم الفاضلة: الصدق والأمانة والعفة والشجاعة والعدل ونحو ذلك من مكارم الأخلاق، وهذه القيم متفق عليها بين الأمم والشعوب جميعا، لذلك يمكن الاحتكام إليها عند الضرورة من أجل استقامة الحياة الإنسانية.
فالنبي لوط ـ عليه السلام ـ دعا قومه إلى العفة ونبذ الشذوذ الجنسي، لأنه عمل ينافي فطرة البشر، ولم يفعله أحد من السابقين، قال تعالى: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:80)، وقد حاول عليه السلام أن يثير في قومه البصيرة والتفكر في سفاهة فعلهم الشنيع، قال تعالى: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (النمل:54).
والذين يحبون نشر الفاحشة، متفكهين بأعراض الناس من هذه الأمة لا بد من تحذيرهم من مغبة فعلهم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19).
وهذا شعيب ـ عليه السلام ـ يدعو قومه للأمانة في المعاملات الاقتصادية والتجارية، لأن الأمانة أساس النجاح في حياة البشر، وفقدانها يسبب الفساد الذي تنعكس آثاره سلبا على جميع المجتمعات، قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف:85).
ودفع الظلم عن حياة الفرد والجماعة ضرورة إنسانية، والذين يمارسون الظلم بحق الآخرين لا بد من تهديدهم وردعهم حتى تستقيم حياة البشر، قال تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:41-42).
والعدل ينبغي أن يكون سمة المؤمنين حتى مع أعدائهم الذين يبغضونهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
والمساواة بين البشر، تكون بشعورهم بالانتماء لأسرة آدمية واحدة، ثم حصل التنوع لكي يحصل التعاون والتعارف، والأفضلية لمن كان عمله صالحا، وسلوكه ملتزما بالقوانين الإلهية الثابتة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
والصدق كان في الأول والآخر دعامة الحياة، ولا سيما في التبليغ عن الله، وألا ينسب إليه شيء لم يشرعه أو يأمر به، قال تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (المائدة:103).
والقرآن كتاب يفيض بمكارم الأخلاق، ولم يأت بشيء من أحكامه إلا وللأخلاق السامية فيه نصيب، وعليه فإن الاحتكام للقيم الأخلاقية هو انتصار للقرآن الكريم الذي يعلن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوضوح أن رسالته دعم الخلاق، حيث قال: (إنما بعثت لتمم مكارم الأخلاق) .
10- الاحتكام إلى المصلحة العامة
خلق الله الخلق لغاية واحدة وهي عبادته سبحانه، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56). وقد سخر لهم كل شيء في هذا الكون من أجل هذه الغاية، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثـية:13).
لذا فمصلحة العباد الدينية والدنيوية هي في اتباع أمر خالقهم، إذ لو فعلوا ذلك فسرعان ما يمدهم بالغيث الذي هو عنوان الحياة، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) (نوح:10-11).
وهذا هود يعد قومه بالغيث وجميع أسباب القوة إذا أنابوا إلى ربهم، قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود:52).
وتحكيم دين الله عز وجل سبب للازدهار الاقتصادي والحضاري بكل صوره، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة:66) والإعراض عن دين الله سبب ماحق للأمم والمدن والحضارات، وهو يؤدي للهلاك العاجل في الدنيا، والذي سيعقبه عذاب أشد منه في الآخرة، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96).
ولا يستطيع أحد غير الله ـ مما يعبد من دونه سبحانه ـ أن يرزق العباد أو ينفعهم، قال تعالى: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:17).
وعليه فالطاعة مفتاح الرزق، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه:132)، ولا حاجة لتحديد النسل أو التخلص من المواليد عبر الإجهاض أو القتل خشية الفقر، قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً) (الإسراء:31).
وعليه فعلى المؤمن أن يبذل نفسه لله طائعا مختارا، طالما أن الله بيده الخير والرزق، وقد وعده بالمثوبة في الدارين: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الحج:58).
واستقراء الواقع المعاين والتاريخ المجرب يبين أن الازدهار قرين الإيمان، والخراب قرين الكفر، وهذه قاعدة ثابتة، وإذا شوهد غير هذا فإما هو استدراج للكافر، أو ابتلاء للمؤمن، أو عقاب دنيوي للمؤمن إذا تخلف عن إقامة دين الله تعالى أو تهاون في تطبيقه.
11- الاحتكام إلى خوارق العادات (المعجزات)
المعجزة كما عرفها القرطبي هي: (واحدة معجزات الأنبياء الدالة على صدقهم صلوات الله عليهم، وسميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها، وشرائطها خمسة فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة)
والشروط التي ذكرها القرطبي هي:
الشرط الأول: أن تكون مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه.. كفلق البحر وانشقاق القمر
الشرط الثاني: هو أن تخرق العادة، وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعي للرسالة: آيتي مجيء الليل بعد النهار، وطلوع الشمس من مشرقها، لم يكن فيما ادعاه معجزة.
الشرط الثالث: هو أن يستشهد بها مدعي الرسالة على الله عز وجل، فيقول: آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا، أو يحرك الأرض عند قولي لها تزلزلي؛ فإذا فعل الله سبحانه ذلك حصل المتحدَّى به.
الشرط الرابع: هو أن تقع على وَفْق دعوى المتحدِّي بها، المستشهد بكونها معجزة له، وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعي للرسالة: آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدي أو هذه الدابة، فنطقت يده أو الدابة بأن قالت: كذب وليس هو بنبي، فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي للرسالة.
الشرط الخامس: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدِّي على وجه المعارضة
وهذه المعجزات كانت إحدى وسائل إقامة الحجة على المكذبين والمعاندين، وقد سجل القرآن عددا من معجزات الأنبياء السابقين، من ذلك ناقة صالح عليه السلام، وأصلها صخرة في جبل، فحولها الله تعالى ناقة، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (الإسراء:59).
ومن المعجزات عصا موسى عليه السلام، والتي انقلبت حية تسعى، والتقمت عصي السحرة، قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) (الأعراف:117).
ومن المعجزات ما فعله عيسى عليه السلام من الخوارق، كبث الروح في الجمادات وإحياء الموتى وشفاء المرضى بإذن الله تعالى، وكذلك إخباره عن بعض الغيوب، قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:49).
ومن المعجزات الحسية التي أيد الله بها نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ انشقاق القمر، قال تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (القمر:1)، والدخان الذي عن سماء مكة نذيرا بالعذاب، قال تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) (الدخان:10)، والإسراء والمعراج، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)، وحفظ الله لنبيه يوم الهجرة، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30). ونزول الملائكة يوم بدر، (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123). وإرسال الريح على الأحزاب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الأحزاب:9). وتعليم الله تعالى لنبيه عليه السلام بعض أمور الغيب، قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم:3).
والمعجزات الحسية دليل صدق لمن رآها أو سمع بها، ولا سبيل لتفسيرها أو تعليلها سوى أنها تأييد من الله لرسله عليه السلام.
12- الاحتكام إلى المعجزة القرآنية
قد ينازع الملاحدة في عصرنا بشأن المعجزات الحسية، وقد يرفضونها بحجة أنها أخبار تتناقض مع الواقع المألوف، وهنا اقتضت حكمة الله أن تكون هنالك معجزة حسية باقية تخاطب عقل الإنسان إلى يوم الدين، هذه المعجزة هي القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من أي جهة، والذي تحدى البشر أن يأتوا بمثله فعجزوا، وقد تكفل الله ببقائه إلى قيام الساعة، وعليه يقول القرطبي: (المعجزات على ضربين: الأول: ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
والثاني ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله، واستفاضت بثبوته ووجوده... وهذه صفة نقل القرآن)
والقرآن كتاب فيه تفصيل كل شيء من أمر الدنيا والآخرة، وقد جاء به رجل أمي، فلا يعقل أن يكون لأمي كتاب كهذا لو لم يعلمه أحد، وطالما ثبت أن محمدا لم يدرس على أحد، ولم يكن في بلده مدرسة، ولم يبتعث في رحلة علمية خارج بلاده، فقد ثبت بالضرورة أن من علمه جبريل عليه السلام، وأن محمدا رسول الله.
وعلم الإعجاز يرتكز أساسا على علوم البلاغة، فالقرآن جاء بأروع بيان عرفته العربية، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2)، وهذا الكتاب فخر للعرب لو آمنوا به وتفاعلوا معه، قال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء:10)، ولو أن كتابا فعل المعجزات الحسية التي ليست بمقدور بشر لكان هذا القرآن، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (الرعد:31).
وقد تحدى الله البشر أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن فعجزوا، وبين أن عجزهم سيبقى ملازما لهم إلى قيام الساعة، فاجتمعت معجزة التحدي مع معجزة الإنباء بالغيب، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:23-24). على أن في القرآن وجوها كثيرة من الإعجاز التشريعي والإخبار بالغيوب، والإعجاز العلمي، وغير ذلك، فهو كتاب لا تنقضي عجائبه، والإيمان به تثبيت لنبوة الأنبياء والمرسلين جميعا، والكفر به هو كفر بهم جميعا، إذ لا سبيل لإثبات معجزاتهم بالعين المجردة الآن، ولكن لما صدقنا بالقرآن صدقنا بكل ما فيه من أخبار، فمن جحد نبوة محمد فقد جحد نبوة نبيه أيضا، لألن الإيمان بالقرآن والاحتكام إليه هما السبيل الوحيد لإثبات الحق في هذه الحياة ولجم المنافقين والملحدين على مر العصور.
13- استخدام التشبيه
التشبيه هو: (الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى) ، وهو كثير في القرآن كما هو الحال في اللغة أيضا، وهو أحد وسائل القرآن لتوضيح الفكرة، وإقامة الحجة.
وتشبيهات القرآن جميعها سواء كانت مفردة أو مركبة، تمثيلية أو غير تمثيلية تدفع بالفكر في آفاق عليا، وتحرك الخيال في اتجاهات متعددة وعوالم مختلفة، خذ مثلا قوله تعالى: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) (القارعة:4) وتأمل كيف ربط في هذا التشبيه بين حركة الناس وما يصحبها من تدافع وتصادم وهول واقتحام بحركة الفراش المتطاير المتدافع المقتحم، فقد تحدث عن المستقبل كما لو كان حاضرا، وربط بين الدنيا والآخرة في آية واحدة، ثم أعقبها بقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة:5)، والعهن هو الصوف والمنفوش: الذي شرع في الذهاب والتمزق، فانظر إلى ثبات الجبال وقوتها كيف صار هباء، ففي آيتين اثنتين تبين ما تؤول إليه صورة العالم من التبدل والمغايرة يوم القيامة، وذلك من خلال التشبيه الذي يثري الخيال تدفقا وحيوية وإثارة.
ولنتأمل من التشبيه المركب قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة:5)، وهي صورة دقيقة مفعمة بالحركة لأولئك الذين حملوا وهنا استخدم صورة الماضي ثم أعقبها بصورة المضارع (كمثل الحمار يحمل) استحضارا للذهن وتشخيصا للصورة أمام الناظرين، وماذا حمل هؤلاء؟ لقد حملوا التوراة التي هي نور الله، بيد أنهم رفضوا الحمل، وناءوا به، فتلاعبوا كي يتخلصوا منه، فمثل هؤلاء كالحمار الذي يحمل أسفار لا ينتفع بها، ولا ينال منها إلا مؤونة الثقل، ووجه الشبه عقلي، وهو: (حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه) ، فانظر كيف نقلك التشبيه بين أمور متعددة أعطت الفكر صورة حية نابضة لحقيقة بني إسرائيل الذين لم يستفيدوا من مصاحبة كتاب ربهم شيئا سوى العناء والمقت الإلهي.
لنتأمل أيضا قوله تعالى في صفة شجرة الزقوم: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات:65)، وهو من التشبيه الوهمي عند البلاغيين، كيف ربط القرآن من خلال التشبيه بين الطلع وبين رؤوس الشياطين وبين الزقوم بحيوية جمعت بين الدنيا والآخرة والغواية وسببها ونتيجتها، فرؤوس الشياطين هي التي ضللت الكافرين وساقتهم إلى هذا الغذاء الذميم، في عملية مدارها كله على القبح، فرأس الشيطان قبيح، والضلال قبيح، وعقابه قبيح، وشجرة الزقوم قبيحة، والأكل من هذه الشجرة قبيح.
ومن التشبيه نوع خاص يسمى بالأمثال القرآنية، وقد استخدمها القرآن لأغراض كبرى، فمن ذلك استخدامه لها في نفي الشريك عنه سبحانه، قال تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم:28). والمعنى: "هل ترضون لأنفسكم ـ وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد ـ أن يشارككم بعضهم (فيما رزقناكم) من الأموال وغيرها، تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفصلة بين حر وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟"
واستخدمت الأمثال في بيان سرعة زوال الحياة وتقلبها من حال إلى حال كما هي حال المياه النازلة من السماء التي سرعان ما تنمحق وتزول، قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس:24).
واستخدمت الأمثال في بيان إمكانية البعث، فمن يحيي الأرض الميتة يحيي من دفن فيها من البشر، قال تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:50).
واستخدمت الأمثال في وصف حقيقة الكفار الذين يعطلون حواسهم ويردد بعضهم قول بعض، قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (البقرة:171).
واستخدمت الأمثال في بيان عظمة القرآن الكريم، قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21).
.. وهكذا نجد أن التشبيه والأمثال من أدوات القرآن التعبيرية التي سخرها القرآن في بيان أغراضه.
14- المذهب الكلامي
المراد بالمذهب الكلامي: (إيراد حجة المطلوب على طريقة أهل الكلام) ، ومثاله قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )(الأنبياء: من الآية22)، فالشراكة تكون بسبب الضعف عن تحقيق الشيء من دون معونة الآخرين، والآلهة يجب أن تكون قوية بنفسها غنية عن غيرها، ثم إن الشراكة قد ينتج عنها صراعات وعداوات وخلافات بين المتشاركين، مما يفسدها من أساسها، ولو كان هنالك آلهة متعددة لهذا الكون لفسد الكون، ولما كان الكون صالحا محكما متوازنا علمنا بالضرورة أنه صنع إله قوي واحد وهو الله العزيز الحكيم.
ومثاله أيضا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وكيف استدل من ظواهر الكون على الخالق المبدع: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (الأنعام:76)، فقد استثاره جمال الكوكب، فقال: هذا ربي! ولكن الرب ينبغي أن يكون حاضرا شاهدا قيوما لا ينام ولا يغفل ولا يغيب، فعدل عنه إلى القمر، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام:77)، وحصل معه في القمر ما حصل في الكوكب، فاتجه على الشمس، ومنها إلى عبادة الحي القيوم، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام:78).
والقرآن سنده العقل، وهو قائم على الحجج والبراهين، وهذا ما يقويه وينصره في كل زمان ومكان، وهذا الذي يعطيه القبول والخلود، فهو صالح لأهل قرطبة وغرناطة كصلاحه لأهل مكة والمدينة، وهو صالح لأهل القرن الخامس عشر الهجري كصلاحه لأهل القرن الأول، وهذا أحد أهم العوامل في حيوية القرآن وسر بقائه معجزا خالدا إلى يوم الدين.
15- تسخير طاقات اللغة
البناء اللغوي للقرآن هو قاعدة الإعجاز الأساسية فيه، فلقد كانت اللغة بين يدي القرآن الكريم مطواعة لأغراضه ومقاصده، يشكلها كما يريد، ويوظفها كما يشاء، يختار من مفرداتها أخفها وأيسرها وأعذبها، ويصنع منها نظما غريب المنوال، ليس له في اللغة سابق مثال، وهذا النظم البديع قادر على أن يزلزل الجبال، وأن يهز الكون كله، والأهم من هذا كله أنه يهز الإنسان من داخله، ويخلقه خلقا جديدا، وذلك لما فيه من الطاقة الفعالة.
ولقد تكلم أهل العلم عن أساليب القرآن وبديعه ونظمه، وما أكثر ما قيل في هذا الصدد!، ولكن ما يعنينا هنا في هذه الأساليب: الطاقة، ونقصد بها استخدامه لأساليب تثير الحركة والانتباه في ذهن الإنسان، مثل: الاستفهام الذي يراد به التعجيز والتحدي، كما في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (يونس:34).
والاستثناء الذي يقرر حقيقة المرسلين، كما في قوله (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إبراهيم:11).
والنداء المقرون بالنهي الذي يراد به التيئيس، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التحريم:7).
والأمر الذي فيه التهكم بالشركاء كما في قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف:4)
وقد استخدم القرآن تعابير مختلفة، وكرر بعضها بصيغ مختلفة، وتناول موضوع المشترك والمترادف والمبهم ونحو ذلك، وذلك كله مما ذكره العلماء في بحوثهم عن القرآن، وهذه الأساليب استخدمها القرآن في حوار الكافرين والمعارضين خير استخدام، وكان لها دور كبير في هداية أعداد غفيرة من البشر.
16- طلب الدليل والبرهان
طلب الدليل والبرهان إحدى وسائل الحوار مع الآخر وإقامة الحجة عليه في منهجية القرآن الكريم، والقرآن لا يفعل ذلك إلا لاطمئنانه بأن المشركين ليسوا على شيء، لذلك يقف على أرض صلبة في الحوار، فقد تحدى البشر أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23).
وتحدى أهل الكتاب أن يأتوا بدليل على أمانيهم الكاذبة بأن الجنة لهم وحدهم، قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111).
وتحدى بني إسرائيل أن يتمنوا الموت، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:94).
كما تحداهم أن يأتوا بالتوراة التي يفترون عليها، قال تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:93).
وكذبهم في مسألة ربط الإيمان برسول معه قربان، قال تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:183).
وتحدى المشركين أن تستجيب لهم أصنامهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف:194).
وتحدى المشركين أن يأتوا ببرهان على وجود إله غير الله تعالى، قال تعالى: (أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل:64)، وطالبهم بأي دليل على ما يذهبون إليه من الشرك، قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف:4)، وزادهم تهكما حين طالبهم أن يحضروا شركاءهم، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (القلم:41).
17 - دحض شبهة الخصم
قد يكون لمن يقف معاندا للقرآن أو معارضا لدعوته شبهات لا تقوم بها حجة، ولا تستند إلى حقيقة، فهي أوهى من بيت العنكبوت، بيد أنها تقف عائقا بينه وبين الإيمان، فهو بحاجة إلى من ينقذه من شراكها، ويستخلصه من عقدها، وهذا ما فعله القرآن الكريم بكل نجاح.
فهؤلاء الذين يجهدون أنفسهم بعبادة الأوثان التي لا طائل من ورائها إنما يصرفون جهدهم في شيء لا ينفعهم، وإلا فليجربوا دعاءها، هل تستجيب لهم؟ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف:194). إن هذه الأوثان لا تعدو أن تكون حجارة معطلة الحواس، وهي مع أصحابها لا تستطيع أن توقع الضرر بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (الأعراف:195).
وهؤلاء الذين عبدوا عجلا من ذهب، ألا يرون أنه كالحجارة الصماء لا يتكلم ولا يملك لهم أي شيء من خير أو شر، قال تعالى: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً) (طـه:89).
وهؤلاء الذين يزعمون أن الجنة لهم وحدهم، لماذا لا يتمنون الموت حتى يذهبوا ويدخلوها؟ قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:94)
والذين يزعمون أنهم لا يؤمنون برسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار، لماذا كذبوا الرسل وقتلوها لما جاءتهم بما زعموا، قال تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:183).
وهذا المشرك الطاغية الضال، الذي زعم الربوبية، وادعى إحياء الموتى، ما له لا يستطيع أن يأتي بالشمس من المغرب لو كان صادقا فيما يدعيه من ربوبية، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
إن دحض شبهات الخصوم خير وسيلة لهدايتهم، لأن هذه الشبهات ليست أكثر من عقد نفسية، نحتاج أن نحرر المريض منها لينطلق نشيطا إلى ميدان الحياة.
18- الاحتكام إلى القيم الجمالية
القيم الجمالية المبثوثة في الكون والحياة والقرآن وجميع الأشياء من حولنا هي من أهم الوسائل في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أن حب الجمال فطرة في الإنسان، ومن شأن الجمال الحسي أن يجمع ذوي الأبصار، ومن شأن الجمال المعنوي أن يجمع ذوي البصائر ويقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتفسر المعاجم الجمال بالحسن، وبالعكس ، ويستخدم القرآن في الحديث عن هذه القيم لفظ أحسن على وزن أفعل، والحسن هنا بمعنى الفضل، ويندرج الجمال في الفضل مع غيره من الكمالات، فالله أحسن الخالقين، قال تعالى: (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) (الصافات:125) ، وقال تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:14).
وهو الذي أبدع كل شيء، قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117). وقد أحسن كل شيء خلقه، قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (السجدة:7).
وجعل الإنسان في أحسن صورة، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4). وجعل لنا الجمال في ما رزقنا من وسائل النقل الحيوانية، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل:6).
وقد أنزل أحسن الحديث، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23).
وقص أحسن القصص في كتابه، قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف:3).
وحكمه أحسن الأحكام، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).
ودينه أحسن الأديان، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبراهيم خَلِيلاً) (النساء:125).
وتطهيره لعباده بالإيمان أحسن تطهير، قال تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138).
وخلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(هود: من الآية7).
ودعاهم إلى أن يقولوا التي هي أحسن، قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53).
ونبه نبيه إلى أن يكون الجدال مع الآخر بالتي هي أحسن، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125).
وقد كان المسلمون الأوائل حريصين على القيم الجمالية، وبخاصة المعنوي منها، كالتفوق بالأدب من خطابة وشعر ونحو ذلك، وكان هذا التفوق سببا لإسلام بعض القبائل، فحين قدم وفد تميم على المدينة قالوا: يا محمد جئناك نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. فأذن لهم، وقام خطيبهم عطارد بن حاجب فتكلم، فانتدب له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثابت بن الشماس، وتكلم شاعرهم الزبرقان بن بدر، فانتدب له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حسان بن ثابت، فلما فرغ حسان، قال الأقرع بن حابس رئيس الوفد: (وأبي، إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأحسن جوائزهم).
وحري بالمسلمين اليوم إتقان صناعتهم الإعلامية بما يضمن لهم التفوق واستجلاب المخاطبين نحو دينهم بالكلمة الطيبة والتعبير الجميل.
19- الاحتكام إلى السيرة النبوية
إن دراسة سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة وبعدها، ودراسة نسبه وبيئته وتاريخ بلده مكة، ودراسة أخلاقه وشمائله، تدل دلالة صادقة على أنه رسول من عند الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيئة أمية، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2).
وهو نبي أمي، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:157).
ولد يتيما فتعهده الله تعالى برعايته، قال تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) (الضحى:6).
ولم يدرس أو يتعلم على أحد، قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48)، ولم يكن له ثمة معلم من العرب أو غيرهم، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل:103).
ولم يسافر إلا باتجاه الشام مرتين ، الأولى وهو صغير مع عمه أبي طالب، والثانية في تجارة لخديجة في العقد الثالث من عمره.
ولم يكن يقرض الشعر، قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يّـس:69).
ولم يكن له وضع اجتماعي خاص، كأن يكون ساحرا أو مجنونا، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذريات:52).
ولم يكن كاهنا، قال تعالى: (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (الحاقة:42).
ولم يكن يتعامل مع الجن الذين يسترقون السمع، قال تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) (التكوير:25).
ولم يكن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قواد الحروب، فمن أين له بقيادة الحروب والانتصار فيها لولا أن الله كان مؤيده وناصره ومعينه؟
ولم يكن محمد من أسرة مالكة، ولم يصاحب ملوك الأرض أو يقرأ سيرهم، فمن أين له بسياسة الأمم والشعوب؟
ولم يكن قبل البعثة من ملوك البيان، فكيف يصبح بعدها أفصح العرب؟
ولم يكن من أطباء الزمان، فمن أين له بالطب النبوي؟
و لم يكن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علماء النفس، فكيف ربى الناس وهذب النفوس أحسن تربية وأسواها، لو لم يكن يوحى إليه؟.
ولم يكن من علماء الحساب فمن أين له بقسمة المواريث؟
وكيف علم أن الحيض أذى، وخالف أهل الكتاب، وصحح لهمن وتحدى البشر بهذا القرآن، لو يكن ربه معه يؤيده ويحفظه؟
ومن أين له بهذا الكتاب وهذه المعجزات إن لم يكن رسولا من عند الله تعالى، قال تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يونس:16).
إن الاحتكام إلى السيرة النبوية هو أحد وسائل القرآن في حواره مع الآخر، وهو منهج يقيم من الواقع المشاهد أدلة ملموسة على أن القرآن وحي من الله تعالى، وأن محمدا رسول الله.
20- الاحتكام إلى المنهج التجريبي
يقال: التجربة أكبر برهان، والمنهج التجريبي منهج احتكم إليه القرآن في إثبات الدعوة، فالدعوة إلى تحطيم الأصنام وعدم الخوف منها هو بداية المنهج التجريبي، قال تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (لأعراف:195).
وفي القرآن حديث عن المنهج التجريبي عند الأنبياء والمرسلين، نورده اقتضابا، فهذا الخليل إبراهيم يريد أن يعاين إحياء الموتى بنفسه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).
ونجد إبراهيم أيضا يتحدى أحد الطغاة المتجبرين أن يحيي الموتى، أو أن يجرب محاولة الإتيان بالشمس من المغرب، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258) وإبراهيم هو من حطم الأصنام فلم تضره، وطلب من قومه أن يجربوا سؤالها لتخبرهم، قال تعالى: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء:63) وهو من ألقي في النار فلم تحرقه، وإن من حصل له مثل هذا جدير بأن يكون للناس إماما.
وهذا موسى كليم الله تعالى يطلب رؤية ربه، فيرشده الله إلى رؤية الجبل، فلما رأى الجبل يندك أمامه أدرك بالتجربة أنه لا يمكن ذلك، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:143).
وهذا سليمان ـ عليه السلام ـ يستعرض جنده ويتفقدهم، قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) (النمل:20)، وحين غاب الهدهد أراد أن يتحقق من سبب غيابه قبل أن ينزل فيه العقاب، قال تعالى: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27). والله تعالى يرشد عباده الضالين أن يجربوا مخاطبة الأصنام، فهي لا تحس ولا تتحرك ولا تتكلم، ولا تصلح لشيء إلا أن تحرق، من ذلك عجل بني إسرائيل الذي عبدوه من دون الله تعالى، قال تعالى متهكما بإسفافهم وانحطاطهم العقلي: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً) (طـه:89)، ولم يكن جزاء هكذا إله إلا النار، وأن ينسف رماده في البحر!، ولذلك قال موسى للسامري: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(طـه: من الآية97). والمنهج التجريبي مما علمه الله للبشر من عهد آدم، فحين قتل أحد الأخوين الآخر، لم يدر ما ذا يفعل بالجثمان، حتى أرسل الله غرابين يقتتلان، فتعلم من الغراب القاتل كيف يدفن أخاه، فقلده وحاكاه، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة:31).
وفي قصة ذي القرنيين حديث طويل عن المهج التجريبي وكيف أنه عاين بنفسه المشرق والمغرب، وأوتي من كل شيء سببا، وقصته مفصلة في القرآن، قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:83-84). والمنهج التجريبي يثبت أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بالقرآن، بل لا صلاح للأمم والشعوب إلا بهذا الدين، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124).
كما يثبت المنهج التجريبي أن محمدا رسول الله، فما جربوا عليه كذبا قط، ولم يجدوه يتلاعب بآيات الله أبدا، ولقد ناقشوه وجادلوه، وراقبوه واستمعوا إليه، واتبعوا آثاره وتجسسوا عليه، فما وجدوه إلا كالشمس وضوحا وإشراقا، فشهدوا بصدقه وعدالته، ولكنهم جحدوا بدين الله ودعوته، قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام:33). ولقد حاولوا قتله حين لم يجدوا عليه ريبة يتمسكون بها، فقد أعيتهم المناهج كلها في محاربته، ولم تسعفهم كل الوسائل في إطفاء نور دعوته، لأنه كان على صراط مستقيم، فلا تغيير ولا تبديل، ولا بيع ولا مزاودات بشأن القرآن، قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس:15).
21- الوعد والوعيد
الوعد والوعيد من وسائل الحوار مع الآخر، لأنهما متحققان بعون الله في الدنيا والآخرة، فقد وعد الله عباده المتصدقين بالزيادة، وهذا متحقق مشاهد ملموس عند من يتصدقون، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268). ووعد عباده المؤمنين ببدر بالعير أو النفير وتحقق وعده، قال تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال:7).
ووعدهم بالنصر والتمكين لهم في الأرض إذا عبدوه ووحدوه سبحانه، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55). وهذه سنة ثابتة لا تتخلف أبدا، وما هزم المسلمون يوما ما إلا لأنهم قصروا في أمر دينهم أو لأنهم تركوا الأسباب الموجبة للنصر التي يأمرهم بها دينهم، من وحدة واستعداد مادي ومعنوي لملاقاة عدوهم.
وهذه السنة ماضية في الرسل جميعا قبل الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالغلبة للحق في جميع القصص القرآني، ولكن بعد أن يمحص الله أهل الحق فينجحوا في التمحيص، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:13-14). وقال أيضا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
وأما وعد الشيطان لحزبه وحلفائه فهو وعد كذوب لا يتحقق أبدا، وإذا صدف أن تحقق فهو من ترك المؤمنين لسنة من سنن النصر، لا من صدق الشيطان في وعوده، فهو الكاذب على الدوام، ومن كذبه وعده للمشركين بالنصر يوم بدر حتى يغريهم بالخروج للمعركة، قال تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:48).
ووعود المنافقين أيضا هي من جملة المواعيد الكاذبة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الحشر:11).
والوعد والوعيد من سنن الأنبياء والرسل ـ عليهم السلام ـ السابقين في الدعوة إلى الله تعالى، فقد كان موسى ـ عليه السلام ـ يعد من يؤمن بالفوز والثواب، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر:28).
ووعيد الله عز وجل لا يتخلف عن أعدائه أبدا، وإن في أخبار الأمم البائدة لعبرة، قال تعالى: (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (قّ:14).
وهذا القرآن ليس إلا تذكرة، ووعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، فعلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يذكر به المؤمنين دوما الذين يرجون ربهم ويخافون عذابه، قال تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (قّ:45).
والخلاصة في هذا الموضوع أن هنالك وعود دنيوية وأخروية ومثلها وعيد أيضا، وأسلوب الوعد والوعيد مما استخدمه القرآن في تعامله مع الناس في دعوتهم إلى الله، واستقراء ما جاء من الآيات في هذا الصدد نجد أن القسم المتعلق بالدنيا منها قد تحقق، وأما ما يتعلق بالآخرة فهو سيتحقق بإذن الله تعالى، وهنالك إرهاصات على تحققه، ومن ثم فهذا الأسلوب هو وسيلة يمكن استخدامها في الحوار مع الآخر لإثبات صدق القرآن العظيم، ولدعوة هذا الآخر ليندرج مع أصحاب الوعد لا الوعيد.
22- الاحتكام إلى الله عز وجل
الله تعالى هو أحكم الحاكمين، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين:8). وله الأمر كله، قال تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (هود:123). وله الحكم أيضا، (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)(الأنعام: من الآية62).
والإيمان بالله يقتضي تحكيم كتابه، قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49).
وهو يحكم بين عباده في الدنيا، قال تعالى: ( ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(الممتحنة: من الآية10)
وهو سيحكم بين عباده يوم القيامة، (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الحج:69).
وقد كان المرسلون سباقين إلى شهادة الله عز وجل لهم بالرسالة، قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (الرعد:43)، وقال تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (الإسراء:96). وقال تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (العنكبوت:52). وقال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1).
ولأن الله هو المرسل والحاكم والشهيد فهذا يقتضي من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلب المعونة من الله تعالى، والخوف والحذر من التغيير والتبديل، قال تعالى: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجـن:22).
ويكفي أن أيد الله تعالى نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الكتاب، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:51).
ولا يضير رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكذبه قومه، فتلك سنة تاريخية مر بها الرسل السابقون برغم ما معهم من كتب ومعجزات، قال تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (آل عمران:184).
ومن رحمة الله أن يعطي للمكذبين فسحة، ولا يعجل لهم العذاب، قال تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:147).
وما على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا الصبر والمضاء في التبليغ، قال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور:48).
وعليه أن لا يخاف أحدا من المشركين، فالله يعصمه ويحميه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة:67).
وعليه أن يقول بقوة المؤمن بربه، الواثق بنفسه ورسالته، إن مظاهر الشرك وأهلها لا تستطيع أن تهزني مثقال ذرة، لأنها لا تملك ضرا ولا نفعا، قال تعالى: ( قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)(الأعراف: من الآية195).
وشهادة الله أقوى الشهادات وأعظمها وأهمها وأقومها، ولا يجترئ عاقل على ربه أبدا، ولذلك لما دعا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض النصارى إلى المباهلة امتنعوا خوفا من عاقبة ذلك، قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران:61).
وأهل الحق ـ وفي مقدمتهم الرسل عليهم السلام ـ لا يجرؤون على القول على الله بلا علم، فليس كذب على الله ككذب على أحد غيره، قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:44-47).
وأما ما يقع من أهل الضلال من جرأة على الله، وعدم معاجلة الله لهم بالعقوبة، فهو لهوانهم على الله، أو لاستدراجهم، أو لأن الله أعد لهم من عذاب الآخرة ما ينوؤن به، وليست خطيئة وزير عند ملك كخطيئة واحد من رعيته، فكلما ازداد القرب اشتدت المحاسبة، وهذا مشاهد معاين، والأمر بالنسبة إلى الله أعظم، ولله المثل الأعلى في الدنيا والآخرة.
وخلاصة الأمر أن شهادة الله عز وجل لنبيه أقوى الشهادات، ويمكن الاعتماد عليها في حوار الآخر، ومن لم يقبل شهادة الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا قبل الله له شهادة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، قال تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (الحشر:13). الخاتمة
وهذا البحث مقسم إلى مقدمة وتمهيد و(22) فقرة، ومذيل بخاتمة
في المقدمة ذكرت سبب كتابة هذا البحث وأنه يأتي ضمن الرد على حملة شرسة تتهم الإسلام بعدم احترام الفكر والرأي لدى الناس.
وفي التمهيد بينت أن الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، والدين الإسلامي الذي ندعو إليه هو دين الأنبياء والمرسلين جميعا وأن رسالة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرد الناس إلى المنهج القويم الذي كان عليه الأنبياء جميعا، وأن القرآن الكريم كتاب يحترم العقل والمنطق، ويدعو إلى التفكر والحوار مع مختلف البشر ممن لا يؤمنون به، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا الصدد، مما يدل على حيويته وملامسته لواقع الناس الديني والفكري، فهو كتاب يهتم بالحوار وإقامة الحجة والبرهان، كما يهتم بآداب الحوار والتعامل مع الآخرين برفق، وهو أمر يفتقده معظم المعارضين للقرآن الكريم.
وذكرت أن للدعوة أساليبها ووسائلها في إقناع الآخر، وإلزامه الحجة، وهذا البحث الذي قدمته يتكامل مع بحث محكم سابق نشرناه، وكنا قد استعرضنا فيه الأسس المنهجية للحوار مع الآخر، واليوم نستعرض في هذا البحث الوسائل المنهجية التي استخدمها القرآن في حوار الآخر، وهو بحث هام من أجل أن نتعلم من هذه الوسائل المساعدة في طرائق التفكير والتعبير والحوار حتى نقيم حجة الله على خلقه،.
وقد ناقشنا هذه الوسائل مناقشة علمية هادئة من خلال ما يقوله الله عز وجل في كتابه مباشرة للكافرين والمعاندين، أو من خلال ما يعلمه لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أساليب الحوار والحجاج، وكانت المناقشة ضمن (22) فقرة وفق التالي:
14- الاحتكام إلى العقل
15- الاحتكام إلى النفس
16- الاحتكام إلى الفطرة
17- الاحتكام إلى البيئة
18- الاحتكام إلى الكون ومظاهره
19- الاحتكام إلى التاريخ
20- الاحتكام إلى المستقبل
21- الاحتكام إلى أهل العلم والخبرة
22- الاحتكام إلى القيم الفاضلة
23- الاحتكام إلى المصلحة العامة
24- الاحتكام إلى خوارق العادات (المعجزات)
25- الاحتكام إلى المعجزة القرآنية
26- استخدام التشبيه
14- المذهب الكلامي
15- تسخير طاقات اللغة
16- طلب الدليل والبرهان
17 - دحض شبهة الخصم
23- الاحتكام إلى القيم الجمالية
24- الاحتكام إلى السيرة النبوية
25- الاحتكام إلى المنهج التجريبي
26- الوعد والوعيد
27- الاحتكام إلى الله عز وجل
وقد توصلنا في هذا البحث للآتي:
1- استخدم القرآن جميع الوسائل المتاحة في الكون والحياة والإنسان ذاته من أجل إثبات قضاياه التي يطرحها.
2- استخدم سجل الحياة الإنسانية ماضيها ومستقبلها للغرض السابق أيضا.
3- سخر طاقات اللغة التعبيرية والعلوم والمعارف جميعها أيضا لهذا الغرض.
4- اعتمد على الفطرة السليمة ولم يأل جهدا في إيقاظها وتنبيهها.
5- استخدم أجود أساليب التعبير والحوار لإقامة حجته.
6- أشاد بالمعجزات على أنها دلائل إثبات صدق المرسلين، وأعظمها هذا القرآن العظيم.
7- احتكم إلى مصالح العباد التي تقتضي الإيمان من أجل سيرورة الحياة وبقائها، وسرد من سير السابقين ما يؤيد هذا.
ونوصي في هذه الخاتمة بما يلي:
4- تشجيع الدراسات الحوارية بين الإسلام ومخالفيه أو خصومه.
5- استخدام المزيد من الوسائل المتاحة لهذا الغرض كالصحف والأفلام والشبكة الإلكترونية.
6- نؤكد على أن الحوار هو في صالح الإسلام أولا، وإن كثيرا من أعدائه سوف يكونون من خيرة أبنائه لو عرفوا الإسلام على حقيقته، وانزاحت عن أعينهم سحب الظلام.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر
- التلخيص في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح: عبد الرحمن البرقوقي، دار الفكر العربي.
- الجامع الصغير، للسيوطي، دار الفكر.
- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، تصحيح أحمد عبد العليم البردوني، الطبعة الثانية. مطبعة دار الكتب المصرية، 1373هـ/ 1954م.
- السيرة النبوية، لابن هشام، مراجعة طه سعد، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/ 1989م.
- الكشاف، للزمخشري، تصحيح مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1406هـ/ 1986م.
- مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة السابعة، 1402هـ/1981م.
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، إستانبول، 1984م.
- المعجم الوسيط، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.
- مفردات في غريب القرآن، للراغب، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الفكر.