طيماثوس والقرطبي ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم

طيماثوس والقرطبي ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم
"دراسة مقارنة"

بحث مقدم إلى ندوة: "الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي"

أ.د. أسعد السحمراني
أستاذ العقائد والأديان
كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية
بيروت-لبنان

1428هـ/2007م
طيماثوس والقرطبي ونبوة "محمد صلى الله عليه وسلم"
دراسة ومقارنة
أ.د. أسعد السحمراني

مقدمة:

إن الرسل والأنبياء صلوات الله تعالى عليهم جاءوا بالهدى وبعقيدة التوحيد، وحملوا الوحي السماوي المتضمن الدين: عقيدة وشريعة.
كان الإسلام خاتمة الرسالات السماوية، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقد حمل القرآن الكريم –كتاب الله- نصوصاً عديدة تؤكّد أن المسلم في أساس إيمانه أن يؤمن بالرسل جميعاً وهذا ركن، ثمّ كان في النص القرآني نصوص ومحاججات مع أصحاب العقائد الأخرى أياً كانت، وقد أسس هذا الأمر للمناظرات والمقارنات.

كما أن النص القرآني جاء يبيّن كيف أن المسيح عليه السلام بشّر بأن نبياً بعده سيأتي هو أحمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: "وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين."

والإنسان الذي يريد أن يعبد الله تعالى يحتاج مع العقيدة للشريعة ومصدر ذلك الرسل كي لا يكون للناس حجة على الله تعالى، فالإنسان الذي أعطاه الخالق سبحانه نعمة العقل يحتاج بلاغ رسول كي يكون مكلفاً، لقوله تعالى: "وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً."

لقد أيد الله تعالى الرسل والأنبياء بما شاء أن يؤيدهم به من المعجزات، كما أن الكتب جاءت فيها النصوص تبلغ وتبشر، لذلك كان من ادعى النبوة، وكان من قاتل وقتل الأنبياء، أو عمل على محاصرتهم أو تهجيرهم إلى غير ذلك من أشكال محاولات تعطيل دورهم الرسالي وصولاً إلى يومنا هذا، وما نقرأه أو نسمعه، وتمارسه بعض الجهات الخبيثة، أو بعض مرضى النفوس يبين كيف أن محاربة الرسل ديدن أعداء دين الله.

من الكاريكاتور في الصحيفة الدانمركية إلى منع الطالبات المحجبات من دخول المدارس بقانون من فرنسا إلى المفاهيم المتصهينة المعادية للإسلام ونبي الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية التي ينشرها قساوسة معادون للإسلام من أمثال جيري فالويل، وبات روبرتسون، وفرانكلين غراهام وسواهم.

إن المناظرات في العصور السابقة كانت تلتزم المنهج العلمي القائم على المنطق والشواهد، ولم تكن سطحية أو انفعالية، ولا هي حوت شتائم وسباب، ولا عرفت تعسفاً من الحاكم المسلم في التعامل مع المسيحيين، ولا مارس العلماء المسيحيون التطاول أو الكيد. لهذا يكون مفيداً أن تتم العودة إلى المناظرات السابقة للإستفادة من منهجها المعتدل في أيامنا هذه.

شهادة المسيح بنبوة محمد عليهما السلام:

طيماثوس الجاثُليق (البطريرك) بطريرك النساطرة في بغداد كانت له محاورة طويلة شملت المسيحية عقيدة مع الموقف من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في بلاط الخليفة المهدي العباسي، والحوار كان ردوداً من طيماثوس على أسئلة وجهها الخليفة نفسه، وكان ذلك سنة (781م) (165هـ).

بعد أسئلة حول العقيدة في التوحيد والأقانيم والتثليث في الوحدانية وطبيعة المسيح عليه السلام كان سؤال الخليفة المهدي للبطريرك طيماثوس: "لماذا لا تقبل شهادة الكتب عن محمد؟"

يقول طيماثوس في ردّه: "بعد ذلك ملكنا انتقل من هذا البحث إلى موضوع آخر، وقال لي: ما هو السبب أنك تقبل المسيح والإنجيل من شهادة التوارة والأنبياء، ولست تقبل شهادة المسيح والإنجيل عن محمد عليه السلام.........
فجاوبت قائلاً: أيها الملك، إننا اقتبلنا عن المسيح شهادات كثيرة من التوراة والأنبياء، جميعهم يشهدون اتفاقاً على ذلك.

..... تارة يشهدون عن أمه قائلين: (هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً) . ومن ذلك نعلم أنه قد حُبل به وولد من دون اقتران، رجل مع امرأة. كذا كان يليق بكلمة الله، الذي ولد من الآب دون أمّ، أن يولد من أم دون أبٍ، لتكون ولادته الثانية شهادة عن الولادة الأولى."

ومن النصوص التي عدّها طيماثوس شهادة لرسولية المسيح عليه السلام من العهد القديم نص يتحدّث عن المعجزات التي كانت على يدي المسيح، وقد أكمل في رده: "وتارة يتكلمون عن عجائبه ومعجزاته هكذا: ها إن إلهكم يأتي منتقماً، وجزاء الله نفسه يأتي ويخلصكم. حينئذ تتفتح عيون العميان، وتتفتح آذان الصم. حينئذ يقفز الأعرج مثل الغزال ويترنم لسان الأبكم."

والنص من سفر أشعيا من العهد القديم، وفي الطبعة الكاثوليكية العربية ورد بالشكل التالي: "تقووا ولا تخافوا. هوذا إلهكم، النقمة آتية، هذه مكافأة الله، هو يأتي فيخلصكم. حينئذ تتفتح عيون العميان، وآذان الصم تتفتح، وحينئذ يقفز الأعرج كالأيل ويهتف لسان الأبكم."

لقد ردّ طيماثوس بأن أشعيا النبي قد بشّر بالمعجزات التي سيجريها الله تعالى على يدي المسيح عليه السلام مما يؤكد الشهادة له، ويكمل أنه بالمقابل لم يجد ما يشهد عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهنا نجد مقدار احترام التنوع الذي أعطى فرصة لبطريرك مسيحي أن يقول قناعاته العقدية في مجال الإجابة عن أسئلة لخليفة عباسي مسلم وبحضوره رغم أن ردوده تخالف ما أكده الإسلام من شهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وبعد شهادات اقتبسها طيماثوس من العهد القديم ختم قائلاً: "فهذه الآيات وغيرها كثيرة تشهد جلياً عن يسوع المسيح. ولكن لم أرَ البتّة آية واحدة في الإنجيل أو الأنبياء وغيرهم، تشهد عن محمد وعن أعماله واسمه."

عند هذا الحد يدخل نص جديد من العهد الجديد يحتاج إلى المقارنة عند طيماثوس الجاثليق، والإمام القرطبي (أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري) (ت671هـ).

هو بشأن شهادة المسيح عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسم: الفارقليط.

والنصوص من إنجيل يوحنا: "إذا كنتم تحبوني تحفظون وصاياي. وأنا أسأل الآب ليعطيكم بارقليطاً آخر، يدوم معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لا يطيق العالم قبوله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، أما أنتم فتعرفونه لأنه يقيم عندكم، وسيكون فيكم."

ومن الإنجيل نفسه: "ولكني أقول لكم الحق: من الخير لكم أن أذهب، فإن لم أذهب، لن يأتيكم البارقليط، وإذا مضيت أرسلته إليكم. وهو متى جاء، يذلّ العالم بالخطيئة وبالعدل، وبالحكم. فبالخطيئة، لأنهم لا يؤمنون بي. بالعدل لأني ذاهب إلى الآب، ولأنكم لن تروني بعد. وبالحكم لأن أركون هذا العالم قد حُكِم عليه. وعند أيضاً أشياء كثيرة أقولها لكم ولكن لا تطيقون احتمالها. فحين يجيء ذاك روح الحق يقودكم إلى كل الحق لأنه لا يتكلم من عنده بل يقول كل ما يسمع ويطلعكم على ما سيكون. هو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويطلعكم عليه. جميع ما هو للآب هو لي لهذا قلت: يأخذ مما هو لي ويطلعكم عليه."

هذان النصان من "كتاب الإنجيل" ترجمة الخوري يوسف عون وهو ماروني المذهب وقد قدم للترجمة البطريرك مار انطونيوس بطرس خريش، وأذن بطباعته مطران بيروت السابق اغناطيوس زيادة وذلك في العام 1978.

وقد وضع المترجم في الحاشية تفسيراً لكلمة "بارقليط" هو "كلمة يونانية تعني في لغة القانون: المحامي عن المتهم والمدافع عنه. وبالتوسع، تعني المعزّي، والوسيط. فكل هذه المعاني تعني الروح القدس، المحامي والمدافع عن الكنيسة."

إن سبب ورود النص من هذه الترجمة قبل الحديث عن ردود طيماثوس والإمام القرطبي كي نقارن مع ترجمة أخرى كاثوليكية أجاز طبعها بولس باسيم النائب الرسولي للاتين (كاثوليك) في العام 1988 نشرتها دار المشرق.

وقد ورد فيها ما يلي: "إذا كنتم تحبوني، تحفظون وصاياي. وأنا سأسأل الآب فيهب لكم مؤيداً آخر يكون معكم للأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يتلقاه لأنه لا يراه ولا يعرفه أما أنتم فتعلمون أنه يقيم عندكم ويكون فيكم."

وقد ورد في هذه الطيعة في حاشية الصفحة 337 من العهد الجديد تفسيراً لكلمة مؤيّد هو: "في الأصل اليوناني: الباراقليط، وهو لفظ مقتبس من لغة القانون ويدل على من يُستدعى لدى المتهم للدفاع عنه؛ فالمعنى الأول هو المحامي والمساعد والمدافع. وبناء على هذا المعنى ظهرت معانٍ أخرى كالمعزّي الشفيع."

وفي هذه الطبعة كذلك: "ولكن المؤيد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي."

لقد ناظر القرطبي شخصاً مسيحياً ورد على أمور كثيرة تتعلق بالعقيدة المسيحية واللافت أنه قد ناظره بمنهج اعتمد فيه الشواهد والإقتباسات من العهد القديم والعهد الجديد مما يدل أنه يناظر ويرد وهو على علم، وهذا منهج علمي رصين وذلك لأنه كما قال الإمام أبو حامد الغزالي: "رد مذهب قبل الوقوف على كنهه ضرب في عماية". بناء على ذلك قال القرطبي: "لتعلم يا هذا المنتسب إلى دين المسيح: أني أجاوبك –إن شاء الله تعالى- بمنطق عربي فصيح. أسلك فيه مسلك الإنصاف، وأترك طريق التعصّب والإعتساف. على أن كلامك لا يستحقّ الإصغاء إليه، ولا الجواب عنه. لأنك لا تحسن السؤال، ولا تعرف ترتيب المقال..... ولكون كلامك هذا كثير الغلط، ظاهر التناقض والشطط. وأنت مع ذلك لا تعرف مذاهب النصارى المتقدمين، الذين كانوا بنوع نظر متمسكين،..... حتى أنهم لو سمعوا كثيراً مما ذكرته لتبرأوا عنه ولأنفوا منه."

يرد القرطبي بعدل وحكمة بعيداً من التعصب والفئوية هذا رغم أن المحاور لا يتمتع بالكفايات التي تضع في مستوى المناظر الحقيقي لأن النصارى الأوائل لو وقفوا على ما قاله هذا الشخص لرفضوه، ولكن مع ذلك ناظره القرطبي.

وحول مصطلح البرقليط بكسر الباء وهو عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم فإن القرطبي استند إلى نص إنجيلي كي يبين بأن المسيح عليه السلام قد شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والنص هو: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وسأرغب إلى الآب في أن يبعث إليكم البرقليط. ليكون معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا تقبله الدنيا، لأنها لا تراه، ولا تعرفه وأنتم تعرفونه لأنه نازل عليكم، وعندكم لابث، ولست أدعكم أيتاماً."

وأما النص الثاني الذي دعم فيه موقفه فهو: "سينفعكم ذهابي لأني إن لم أذهب لم يأتكم البرقليط وإن ذهبت سأبعثه لكم. وإذا قدم سيعرف الدنيا بالمأثم والعدل والحكم. فأما المأثم فتركهم الإيمان بي. وأما العدل فذهابي إلى الآب، ولا تروني بعدها. وأما الذي يحكم بي فيها فإنه يحكم على صاحب الدنيا ويقهر. وقد بقيت لي أشياء كثيرة، أعلمكم بها، إلا أنكم لا تحملونها الآن. فإذا قدم الروح الصادق فهو يعرّفكم بالصواب، وليس يعلّمكم من ذاته، إلا بما يسمع، وسيعلمكم بما يكون وسيعظمني، لأنه يصيب مني ويعلّمكم."

والنصان هما من مضمون إنجيل يوحنا مع اختلافات بسيطة كما يلاحظ القارئ بينهما كما وردا عند القرطبي، وفي "كتاب الإنجيل" بترجمة الخوري يوسف عون الماروني، وبين الترجمة الكاثوليكية التي سمت البرقليط: المؤيّد. لكن مدار الموضوع أن صاحب الدور الذي بشّر به النص الإنجيلي هو محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول القرطبي وسائر المسلمين بينما المسيحيون قالوا: البرقليط هو الروح القدس أو من يدافع عن الكنيسة.

أما طيماثوس الجاثُليق فينقل من حوار مع الخليفة المهدي ما يلي حول البرقليط أو الفارقليط: "حينئذ ملكنا الحليم الوديع أشار إلي أن لا أقول أكثر من هذا ثم سألني تكراراً: ألم تر شهادة محمد عليه السلام؟.
فجاوبته: كلا، أيها الملك محب البشر.
فسألني: ومن هو الفارقليط؟
فجاوبته: إن الفارقليط هو روح الله.
فسألني الملك: وما هو روح الله؟
فجاوبته: إن روح الله هو الله، ذو الطبيعة الإلهية، وله خاصة أن ينبثق، كما علّمنا عنه يسوع المسيح.
وملكنا المظفر قال لي: ومن هو الذي تكلّم عنه عيسى عليه السلام؟
فجاوبته: إن المسيح قال لتلاميذه: لما أصعد إلى السماء، أرسل لكم الروح الفارقليط الذ ينبثق من الآب؛ الذي العالم لم يقدر أن يقبله، وهو عندكم وفي وسطكم؛ الذي يعرف كلّ شيء، ويفحص كل شيء، حتى أعماق الله، وهو يذكركم بجميع الحق الذي قلته لكم. ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم."

لقد أكمل طيماثوس محاورته بكل حرية، وأعطى للمفهوم ما في عقيدته علماً أنه يخالف ما يفهمه به المسلمون والخليفة المهدي منهم لكن الأمر في المناظرات والمقارنات يعطي لكل ذي معتقد أن يعرض ما يعتقده شرط أن لا يذهب باتجاه التجريح والتطاول، وهذا مسلك طيّب تحتاجه الأمم في كل مصر وعصر.

وقال طيماثوس في ردوده بشأن مفهوم الفارقليط، وأنه ليس محمداً عليه الصلاة والسلام: "ثم إن الفارقليط هو من السماء ومن طبيعة الآب، ومحمد هو من الأرض من طبيعة آدم؛ فإذا محمد ليس بالفارقليط. ..... ثم إن الفارقليط كان مع الحواريين وفي وسطهم، كما قال المسيح إذ كان يخاطبهم. ومحمد لم يكن مع الحواريين ولا في وسطهم، فإذاً ليس هو بالفارقليط." وانتهى إلى رفض الإقرار بشهادة المسيح بنبوة محمد عليهما السلام، وأكد بكل حرية عقيدته علماً أن المسلمين فسروا كما فعل القرطبي البرقليط بأنه محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد أعطاه حق حرية المعتقد الذي قرره الإسلام بتوجيه رباني في الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين" الجرأة أن يقول موقفه المخالف لما هو عند المسلمين من الشهادة بالنبوة لخاتم النبيين في الإنجيل والذي أكّده النص القرآني في سورة "الصف"، وقد ختم موقفه وردوده ومناظراته في هذا الموضوع قائلاً: "لو كان صار له ذكر في الإنجيل، لكان ينبغي أن يُصرّح عن مجيئه واسمه وذكر أمه وشعبه في الكتب، كما يوجد محرّراً عن مجيء عيسى (عليه السلام) في التوراة والأنبياء بنوع واضح. فلا شيء من ذلك مذكور عنه البتّة وليس له ذكر في الإنجيل قطّ."

إنه الإسلام دين الرحمة والسماحة الذي تربّى في ظلاله وبهديه من أعطوا للآخرين حريتهم، وحقهم في القبول أو الرفض دون إكراه أو عسف في استخدام حق السلطة. ولو فحص المتابع واقع الحال فيما نشهده اليوم من تصنيفات ظالمة مؤسسة على تعصبات رديئة، ومبنية على جهل مطبق بحقيقة الإسلام من قادة سياسيين ودينيين وفكريين في أمريكا والغرب لعرف بأن الإسلام بمنهجه المتميّز يمتلك سفينة النجاة للبشرية مما وضعوها فيه من شرور وحروب وظلم وظلمات.

القرطبي وشهادة العهد القديم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

لقد عمد الإمام القرطبي في كلامه حول الشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العهد القديم (التوراة- الأنبياء- الكتابات) مقتبساً النصوص التي بشرت بهذه النبوة، ويظهر من خلال تمكنه من الموضوع وسعة اطلاعه، وأن أحكامه مبنية على أسس معرفية مكينة.

إن اسرائيل هو الإسم الثاني ليعقوب عليه السلام والكلمة من مقطعين إسرا: عبد، وإيل: الإله، فيكون إسرائيل: عبد الإله. ويعقوب هو ابن اسحق، واسحق أخوه اسماعيل، وقد استند القرطبي في إبراز الشهادة في التوراة من العهد القديم من بلاغ إلهي لموسى عليه السلام ورد فيه: "إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك. أجعل كلامي على فيه. فمن عصاه انتقمت منه."

والنص من طبعة دار الكتاب المقدس في القاهرة هو: "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون." "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به."

والنص من الطبعة الكاثوليكية في بيروت هو: "يقيم لك الرب إلهك نبياً مثلي من وسطك من إخوتك فله تسمعون." "سأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيخاطبهم بكل ما آمره به."

ويتوجه القرطبي لمن يناظره قائلاً: إذا زعمت بأن من جاءت هذه الشهادة أو البشارة به هو "يشوع بن نون"، فإننا نقول لك: لا. لأن في الإصحاح نفسه ما يدحض ذلك، ويؤكّد بأن هذا النبي ليس من سلالة يعقوب (بني إسرائيل)، وإنما هو من إخوتهم نسباً، وهم الروم أو العرب نسل اسماعيل عليه السلام. ففي النص: "لا يخلف من بني اسرائيل نبي مثل موسى."

والنص في طبعة دار الكتاب المقدس بالقاهرة: "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه."

وفي الطبعة الكاثوليكية ببيروت: "ولم يقم من بعد في إسرائيل نبي كموسى الذي عرفه الربّ وجهاً لوجه."

وهذا النبي الذي لن يكون من نسل يعقوب (بني اسرائيل) لن يكون من الروم كما بيّن القرطبي في مناظرته، وبالتالي فهو حكماً من العرب نسل إسماعيل عليه السلام. قال: "فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى (أيوب)، وكان قبل موسى بزمان. فلا يجوز أن يكون هو الذي بشّرت به التوراة، فلم يبقَ إلا العرب. فهو إذن محمد عليه السلام. وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب: (إنه يضع فسطاطه، في وسط بلاد أخوته.)

فكنّى عن بني إسرائيل بإخوة إسماعيل، كما كنّى عن العرب بإخوة بني إسرائيل."

وعند مراجعة نصوص العهد القديم في ترجماته المعتمدة حالياً نجد في سفر التكوين خطاباً لهاجر أم إسماعيل فيه حسب طبعة دار الكتاب المقدس بالقاهرة ما يلي: "وقال لها ملاك الرب: ها أنتِ حبلى، فتلدين ابناً وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلّتك. وإنه يكون إنساناً وحشياً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن."

وفي الطبعة الكاثوليكية ببيروت: "قال لها ملاك الرب: ها أنتِ حامل وستلدين ابناً وتسمينه إسماعيل، لأن الرب قد سمع صوت شقائك. ويكون حماراً وحشياً بشرياً يده على الجميع ويد الجميع عليه وفي وجه جميع إخوته يسكن."

ويبدو أن المقصود بالتوحش هنا البداوة لأنه ورد في حاشية الطبعة الكاثوليكية تعليقاً على نسل اسماعيل: "أحفاد إسماعيل هم عرب الصحراء وحياتهم حياة الترحال والإستقلال. وهذا ما يذكرنا بالعصر الجاهلي وشعره." والترجمة ملتبسة إذ كيف يكون إسماعيل وحشياً وهو سليل بيت نبوة؟ ثم ما الإرتباط بين النسل والشعر الجاهلي والتوحش والبداوة؟ من كل ذلك يلمس القارئ رائحة تعصب تؤسس لمفاهيم مغلوطة.

لم يكتف القرطبي بهذا الدليل بل انتقل إلى نص آخر من العهد القديم يؤكّد البشارة والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والنص عنده هو: "جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبل فاران، ومعه جماعة من الصالحين."

والنص موجود في طبعة دار الكتاب المقدس: "فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم."
وفي الطبعة الكاثوليكية: "فقال: أقبل الرب من سيناء وأشرق من سعير وسطع من جبل فاران وأتى من ربوات قادش."

بعد النص عمل الإمام القرطبي على شرح النص ربطاً بالمواقع الجغرافية فقال: "فمجيئه من جبل سيناء أن الله أنزل فيه التوراة، وكلّم عليه موسى، وإشراقه من جبل ساعير أن دين المسيح إنما أشرق من جبال ساعير، وهي جبال الروم من أدوم. واستعلانه من جبال فاران أن الله تعالى بعث منها محمد صلى الله عليه وسلم، وأوحى إليه فيها، ولا اختلاف أن فاران: مكة."

إن هذه الشهادة أكدتها نصوص من العهد القديم، وبذلك حاول القرطبي أن يحاجج الآخر الكتابي من نصوصه، وقد أيّد موقفه بنص آخر يبيّن أن فاران هي مكة المكرمة حيث كانت سكنى هاجر مع ولدها اسماعيل. ورد عند القرطبي: "إن الله أسكن هاجر وابنها إسماعيل فاران."

والنص كما جاء في طبعة دار الكتاب المقدس: "وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران وأخذت له أمه زوجة من مصر"

وفي الطبعة الكاثوليكية: "وكان الله مع الصبي حتى كبر فأقام بالبرية وكان رامياً بالقوس. وأقام ببرية فاران، واتخذت له أمه امرأة من أرض مصر."

فاران هي مكة، الشهادة بذلك لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تأتي من نصين في سفري التكوين وتثنية الإشتراع من العهد القديم. وفاران كما عند ياقوت الحموي في معجم البلدان: "كلمة عبرانية معربة: وهي من أسماء مكة ذكرها في التورة. قيل: هو اسم لجبال مكة، قال ابن ماكولا: ابو بكر نصر بن قاسم بن قضاعة القضاعي الفاراني الإسكندراني سمعت أن ذلك نسبته إلى جبال فاران وهي جبال الحجاز."
إن القرطبي اعتمد العودة إلى العهد القديم كي يفحم الخصم الذي يناظره، لأنه لو ناظره وحاججه بما عند المسلمين لما أفحمه، وهذا منهج للمناظرة الدافع إليه أن الأنبياء بشروا، ولكن يسلم ويؤمن بما جاءوا به من آمن بهم، ونُقِل إليه ما أتوا به نقل تواتر.

قال الإمام القرطبي: "وإنما قدمنا هذا النوع، وإن كان غيره أولى بالتقديم، لكون الأنبياء الخبيرين بعلاماته متقدمين عليه في الزمان، ولكون هذه البشائر كانت معروفة قبل مجيئه، ولكون السائل الذي كتبنا هذا الكتاب جوابه لم يطلب منّا بجهله، إلا بالاستدلال بما جاء في كتب الأنبياء. وليكون هذا الباب مؤنساً له، وباعثاً على النظر فيما بعده. ولتعلم أن الاستدلال بهذا النوع، لا يتنفع به إلا من صدّق بتلك الكتب وتواترت عنده.... ثمّ لتعلم أنّا إنما نذكر أخبار الأنبياء المبشرة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم التي بأيديهم، وعلى ما ترجمها مترجموهم من غير زيادة أو نقصان."

يخلص القرطبي إلى تأكيد هذا المنهج القويم في المناظرة، وهو المنهج الذي يأخذ حججه من الكتب والنصوص المتواترة والمعتمدة عند من يناظرهم.

طيماثوس واحترام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

إن العلاقات المستقرة بين المواطنين في البلد الواحد، وبين الأمم والشعوب لا تستلزم أن نلغي التباين والتغاير العقدي والديني، وإنما أن يقبل الإنسان الآخر ويكون ذلك بأن يحترم كل فرد أو فريق شعائر الآخر وما هو عليه لا أن يعتقد ما يعتقده، حتى لو كان الآخر من عابدي الأوثان علينا أن لا نتوجه بالشتائم والسباب لما يعبد كي لا نعطيه مبرراً للنيل من الذات الإلهية. والأمر الإلهي في الآية الكريمة: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم."

والمتابع لمحاورة طيماثوس مع الخليفة المهدي يجده قد أكد احترامه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، واحترامه مبني على أسس مشتركة مع الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم.
يقول طيماثوس: "وملكنا الحليم المملوء حكمة قال لي: ماذا تقول عن محمد؟. فجاوبته قائلاً: إن محمداً يستحقّ المدح من جميع الناطقين، وذلك لأجل سلوكه في طريق الأنبياء ومحبّي الله. لأن سائر الأنبياء قد علموا عن وحدانية الله، ومحمد علم عن ذلك. فإذا، هو أيضاً سلك بطريق الأنبياء."

يبيّن طيماثوس أم كل إنسان واجبه أن يقدّر محمداً صلى الله عليه وسلم لأن ما دعا إليه هو الإيمان بوحدانية الله تعالى وهذا أمر جامع للمؤمنين أكانوا أنبياء، أم كانوا من المؤمنين، وقوله هذه يؤكّد ما جاء في الآية القرآنية: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله."

فعقيدة التوحيد عقيدة الأنبياء جميعاً، وإليها دعا محمد صلى الله عليه وسلم لذلك قرّر طيماثوس تقديره كما دعا كل عاقل إلى أن يقدره. وهذا القدر كافٍ لاستقرار العلاقات لأن المسيحي لو تجاوز ذلك إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لكان عليه عندها أن يغادر المسيحية إلى الإسلام لأنه يشترك مع المسلم بالشهادة بوحدانية الله، ولو شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يكون قد نطق بالشهادتين وأصبح عندها مسلماً.

بعد عقيدة التوحيد يأتي دور جامع مشترك آخر هو العمل الصالح، والتزام خط الفضائل والمحاسن السلوكية، والإبتعاد عن الرذائل والشرور، وهذه طريق النبوة، وقد سار فيها محمد صلى الله عليه وسلم وبسبب ذلك يجب تقديره من الجميع. ويقول طيماتوس: "ثم كما أن جميع الأنبياء، أبعدوا الناس عن الشر والسيئات، وجذبوهم إلى الصلاح والفضيلة، هكذا محمد أبعد بني أمته عن الشر، وجذبهم إلى الصلاح والفضائل. فإذا، هو أيضاً قد سلك في طريق الأنبياء."

عاد طيماتوس من جديد إلى الأمر العقدي لأن أساس الإيمان عقيدة التوحيد، وكل الأنبياء الرسل جاءوا يواجهون عبادة الأصنام، ودعوة الناس كي يكرموا أنفسهم ولا يستعبدونها لوثن أو مخلوق مادي، وأن يكون السجود لله وحده، وطيماتوس لذلك يقدر محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه دعا أتباعه إلى العقيدة السليمة كما فعل كل ما من سبقه من الأنبياء.
قال طيماتوس: "ثم إن جميع الأنبياء منعوا بني البشر من سجدة الشياطين وعبادة الأوثان، وحرضوهم على عبادة الله والسجود لجلالته. هكذا محمد منع بني أمته من عبادة الشياطين والسجدة للأوثان، وحرضهم على معرفة الله والسجود لله تعالى، الذي هو وحده إله وليس بإله آخر سواه. فقد اتضح إذاً أن محمداً قد سلك في طريق الأنبياء."

ويرى طيماتوس أن الله تعالى ينصر رسله وعباده المؤمنين، وكذلك نصر محمداً حيث تمكن المسلمون من إلحاق الهزيمة بأمبراطورتي الروم والفرس، وقال في ذلك: "لأجل ذلك كرمه الله تعالى جداً، وأخضع تحت مواطئ قدميه الدولتين القويتين اللتين كانتا تزأران كالأسد، ... أعني دولة الفرس ودولة الرومانيين... فوسع الله تعالى سلطة مملكته..."

و طيماثوس المسيحي يتحدّث عن هزيمة دولتي الروم والفرس على يدي الفاتحين المسلمين، ويعلن إيمانه بالتأييد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وللمسلمين مما حقق لهم النصر، وهذا منطق إيماني يتوافق مع النصّ القرآني:" ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز."

وما قاله طيماثوس عن هذا الإنتصار للإسلام يستحضر ما كان في أسباب نزول الآيات الأولى من سورة الرّوم ،فقد انتصر الفرس على الروم والروم مسيحيون فحزن المسلمون لهذا النصر ولم يكن محل رضى منهم فكان البلاغ الإلهي بأنه وخلال أقل من تسع سنوات ستعود الكرة على الفرس وسينتصر المسيحيون وسيفرح بذلك المؤمنون بالإسلام ؛قال الله تعالى:" وغُلِبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم."

هكذا ظهر طيماثوس أنه عالم بالإسلام قرآناً وسنّة، ويعرف ما وجّه إليه الإسلام في النظرة إلى الآخر المسيحي فبادل المسلمين ذلك، وفي المقدمة التقدير للنبي صلى الّه عليه وسلّم.

إنّ هذا الموقف المعتدل لطيماثوس منذ أكثر من 1300 سنة يأتي برسم أدعياء الحضارة والتعددية والذين يزعمون الإلتزام بشرعة حقوق الإنسان.

لقد تبنّت بريطانيا منذ سنوات حماية سلمان رشدي، وعملت على تسويق كتابه الفتنة المعنون:" آيات شيطانية" والذي جاء محشوّاً بالتخرّصات والمزاعم الوضيعة ضد رسول اللّه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.

وموضوع الكاريكاتور في الصحيفة الدانيمركيّة والذي تولّت نشره صحف أوروبية أخرى وما رافقه اواخر العام 2005 ومطلع العام 2006 من توتيرات أسلامية- غربية لا تزال آثارها متفاعلة سلبياً.

وما يطالعنا به إعلام الولايات المتحدة الأمريكية كل يوم فحدّث عنه ولا حرج، من نماذجه ما قاله القس المتصهين بات روبرتسون في 18|9|2002 في برنامج لقناة فوكس نيوز حول الإسلام حيث جاء كلامه بحقّ رسول اللّه متجاوزاً كل أدب او شرعة فقال:"كان مجرّد متطرّف ذو عيون متوحشة تتحرّك عبثاً من الجنون." فهل هذا الكلام يندرج في سلك التعددية واحترام حرية المعتقد؟ وهل هذه الإنتكاسة في المواقف الأوروبية والأمريكية مقبولة في المسيحية كما هي وكما طرحها طيماثوس قبل قرون؟ .

خاتمة:

إن هذه المواقف الرصينة، والردود العلمية التي ناظر بها كل من البطريرك طيماثوس المسيحي، والإمام القرطبي المسلم تؤسس لمنهج الإعتدال في المناظرات تحقيقاً للتعارف، وتمهيداً للتعايش في الإجتماع البشري بما يوفر مناخات الإستقرار.

المسيحيون في الغرب خصوصاً يحتاجون العودة إلى مقررات المجمع الفاتيكاني في العام 1965 والتي نصت على التقدير للمسلمين وعلى أن العلاقات الودية هي المطلوبة، وهذا يستلزم أن يمارسوا سلوكاً مختلفاً عما يمارسونه حالياً.

والمسلمون مطالبون أن يلتزموا التوجيه الرباني بالجدل بالتي هي أحسن مع المسيحيين، وما وجهت إليه الآية الكريمة: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم يستكبرون."

إن الحوار مع الآخر يحتاج بالأصل والأساس أن نقول: من هو هذا الآخر؟ لأن كل آخر يكون معه نوع من الحوار، والحوار يكون وفق معايير، وله ضوابط فهناك آخر يكون معه حوار، وهناك آخر مقبول وآخر مرفوض، وذلك يستفاد الحكم فيه من الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الممتحنة وفيهما قول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون."

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك