الحِوار في قصص إبراهيم - عليه السلام - في القرآن الكريم

الحِوار
في قصص إبراهيم - عليه السلام -
في القرآن الكريم
دروس ودلالات
أعده
أ . د . محمد بن عبد الرحمن الشايع

مقدم لمؤتمر :
الحوار في الفكر الإسلامي
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة -
ملخص البحث
عرض القرآن الكريم لقصص إبراهيم - عليه السلام - ومواقفه التي مر بها في حياته ، بتفصيل دقيق فيما يتعلق بجوانب العظة والعبرة ، وما يكون فيه لمن بعده تربية وتزكية ، ومواعظه ومواقفه التي هو فيها إمام وأسوة .
وقد عرض هذا البحث الوجيز لذلك الحوار الباهر في تلك المواقف والقصص ذلك الحوار الذي تنوعت موضوعاته ، واختلفت أجناس ومستويات أصحابه ، وتعددت أساليبه وطرائقه ، فتكاملت بذلك عناصره ومعالمه ودروسه .
فكان هناك الحوار مع الذات ، وحوار القرابة المتمثل بحوار الأب ، والابن ، وحوار القوم والمجتمع ، وحوار الضيف المَلَك ، والرئيس الملِك ، ثم حوار الإله جل في علاه ؛ فكان هذا الاختلاف في المستويات من الذات إلى الإله .
وتنوعت الموضوعات من البحث عن الإله إلى الدعوة إلى الله في صورها ومواقفها المختلفة ، وتجلى في كل ذلك أدب الخطاب ، وحسن الجواب ، وقوة الحجة .
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ ( ) .
وكما تنوعت الموضوعات تنوعت الأساليب من التقرير ، إلى السؤال ، إلى العدول عن اللجاج ومتاهة التفصيلات .
وحاول البحث استنتاج الكثير من المعالم والدروس ، مما سنحتاجه اليوم وكل يوم في بيان الحق ، والدعوة إليه ، والقدوة فيه .

الحوار لغة :
يقول ابن فارس : « الحاء والواو والراء . ثلاثة أصول : أحدها اللون ، والآخر الرجوع ، والثالث أن يدور الشيء دورا »( ) .
والأصل الأول غير مراد هنا ؛ وأما الأصلان الآخران فمرادان .
ولذا قال الزمخشري في أساس البلاغة : « حاورته وراجعته الكلام وهو حسن الحوار»( ) أي حسن الكلام .
وقال ابن منظور في «لسان العرب» : « حور : الرجوع عن الشيء ، وإلى الشيء ، حار إلى الشيء وعنه ... رجع عنه وإليه ... والحَوْر : النقصان بعد الزيادة ، لأنه رجوع من حال إلى حال » .
وقال : « المحاورة : المجاوبة ، والتحاور : التجاوب .... وهم يتحاورون : أي يتراجعون الكلام » ( )
وفي «القاموس» : ( .. المحاورة : .. الجواب ، ومراجعة النطق ، وتحاوروا : تراجعوا الكلام بينهم ..»( )
فالحوار لغة : المراجعة في الكلام .

الحوار في الاصطلاح :
يمكن تعريفه بأنه : (مراجعة الكلام مع النفس ، أو بين طرفين أو أكثر ، حول موضوع محدد ، بغرض الوصول إلى الحقيقة وتجليتها) ( ) .
وقد تختلف عبارات الباحثين بزيادة بعض الأوصاف أو نقصها .
وبعضها أوصاف زائدة عن التعريف .
ولن نقف هنا طويلاً حول التعريفات ، أو المرادفات للحوار ، وإنما نريد أن نستجلي الحوار في قصص إبراهيم عليه السلام ، ومواقفه في القرآن الكريم ، نتعلم منها الدروس ، ونستهدي بها في السلوك ، نتأمل الآيات ونستنطقها لندرك تلك المعالم والدروس والهدايات من أنواع تلك الحوارات . وهي تأملات أكثر منها نقولات .

* * *

1- الحوار مع النفس
( أو التفكير بصوت مسموع )
أعطى الله إبراهيم عليه السلام رشده ، وأكمل عقله ، ومنحه من الصفات ما جعله أمة وحده ، ففكر في نفسه وحاله ، ومن حوله ، فرأى قومه يعبدون الأصنام ، وهي حجارة لا تضر ولا تنفع .
وقلّب بصره في الكون من حوله ، فرأى آيات باهرة ، وشَدّتهُ السماءُ بأفلاكها وكواكبها ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ ( ) .
فلما جاء الليل ، وأسدل ستاره ، وحلكت ظُلمته ، رأى الكواكب في كبد السماء، تزينها ، وتُلفِت النظر إليها ؛ وأعجبه أحدها ، فأخذ يرقبه ويتابعه ، ورآه أعجب من حجارة الأصنام ، وأولى منها بالعبادة والربوبية ؛ وحين أَفَل وغاب ، عبّر عن رأيه بإلاه يغيب ، فقال : ﴿ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ ( ) .
وفي ليلة أخرى رأى القمر بازغاً ساطعاً ، يزين السماء ، ويعجب أهل الأرض بمنظره وضيائه ، فرآه أولى من غيره بالعبادة والربوبية ، وفكّر بصوت مرتفع مسموع ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾( ) ؛ فلما اختفى وغاب رأى أن الكون كبير والأمر خطير ، فقال : ﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ ( ) .
وتحول من التأمل في الليل إلى التأمل في النهار ، فرأى الشمس بازغة ، بحجمها الكبير ، ونورها العظيم الذي يعم الأرض ، وينفع الناس ؛ فقال : ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ ( ) . فلما زالت وغابت ، أعلن براءته من معبودات قومه وقال : ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ ( ) ، وهداه التفكير السليم ، والخلق القويم ، والرغبة في الحق إلى أن يتجه بقلبه وقالبه ، وبجسمه وروحه للذي فطر السماوات والأرض ، يلتمس هدايته وعنايته ، وأنه لا بد من إله لا يغيب ، له كامل القدرة على كل شيء ، ومن ثم يكون له الحق في الإفراد بالعبودية فهذه المشاهد آيات على الوجود والقدرة والحكمة .
ففي كل شيء له آلة تدل على أنه واحد
فكان هذا الحوار الصادق مع النفس والتفكير بصوت مرتفع مسموع بحثاً عن الحق والحقيقة والاستدلال بالأدلة الموصلة إليها , والمعينة عليها.
ومن أراد الحق سهل الله له من يعينه عليه , ويهديه إليه . وهذا بعض ما حكته آيات سورة الأنعام في قول الحق تبارك وتعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ  فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ  فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ  إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ  وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ ( ) .

2- حوار الأبوة
قال تعالى في سورة مريم : ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً 
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ : يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ؟ 
يَا أَبَتِ : إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً 
يَا أَبَتِ : لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً 
يَا أَبَتِ : إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً 
قَالَ : أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً 
قَالَ : سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً 
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ﴾ ( )
ذكر الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات حوار إبراهيم - عليه السلام - وهو الابن النبي مع الأب الكافر , كما ذكر تعالى حوار نوح - عليه السلام - وهو الأب النبي , مع ابنه الكافر في سورة هود ( ) . وهما صورتان متكاملتان في حوار الأبوة والنبوة في قضية الإيمان الكبرى يعرضها القرآن الكريم لتكون لنا فيها التربية والتزكية , وتكون لنا فيها العبرة والقدوة .
في حوار إبراهيم - عليه السلام - هنا مع أبيه الكثير من معالم الهداية , ودروس الثقافة الدينية والدنيوية , وأدب الحوار مع المخالف وإن عظم الاختلاف , وحقوق القرابة وإن تباينت الديانة , نستجلي أهمها , فيما يلي :
أولاً : لطف الخطاب , وأدب الحوار مع المخالف رغم عظم المخالفة , فالقضية المطروحة للبحث والحوار هنا قضية كفر وإيمان ، وهما ضدان لا يجتمعان لكن إبراهيم - عليه السلام - يبدأ خطابه لأبيه بلين وأدب جميل ، واستعطاف يبدأه بنداء الأبوة ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ يستثير بهذا النداء أبوته الحانية ، ويحرك مشاعره الراكدة ، يلامس بهذا شغاف قلبه، ليس هذا فقط ، بل يكرر هذا النداء المؤثر أربع مرات مع كل خطاب لأبيه ، إن لم تؤثر الأولى فعسى أن تؤثر الأخرى .
ومع عدم انتهاء الحوار بين الابن والأب إلى نهايةٍ سعيدة حميدة كان يرجوها إبراهيم لأبيه ، ومع غضب أبيه عليه ، وتهديده له بقوله : ﴿ .... لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾( ) يختم إبراهيم حواره مع أبيه بالسلام عليه ، والدعاء له : ﴿ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ... ﴾ ( ) فكان لطف الخطاب ، وحسن الجواب ، وأدب الكلام شعار الحوار في البدء والختام ، وأثناء الكلام .
فحسن الكلام هو أدب القرآن للمسلم في دعوته ، وموعظته ، وحواره ، وسائر كلامه مع سائر الناس : ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ ( )
وهو أدب الدعوة في قوله تعالى : ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ ( )
بل قال الله تعالى لموسى وهارون في بيان أسلوب خطاب فرعون الطاغية ودعوته : ﴿ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ ( )
فإذا كان هذا الأدب مع غير المسلم ، فمع المسلم أولى وأوجب . وليس من الإسلام في شيء جفاء الخطاب ، فضلاً عن الشتم والسباب .
ثانياً : حسن المدخل لمسائل الخلاف وقضاياه ، حيث بدأ إبراهيم - عليه السلام- أباه بالتساؤل : ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ﴾ ( ) .
وهذا أسلوب جميل ، يحمل المحاور المخالف على التفكير ، وإعادة النظر في الأمر ، للوصول إلى الحق بنفسه ، حتى لا يشعر بأنه أُفحِم وبُهِت ، فتأخذه العزة بالإثم ، ويمتنع عن قبول الحق انتصاراً للنفس ، ولو بالباطل .
ثالثاً : البدء ، بل حصر الحوار في القضايا الكبرى ، دون الانشغال في الجزئيات والتفصيلات ، فعبادة الله وحده دون شريك هي غاية الخلق ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( ) ؛ وهي دعوة الرسل جميعاً لأقوامهم ، وهي دعوة إبراهيم لأبيه ، وهي ما اقتصر عليه دون الدخول في القضايا الأخرى .
رابعاً : تناول المسلّمات التي لا يختلف عليها . فآلهة آزر التي يعبدها هي الأصنام المنحوته من الأحجار ، وقد روي أن آزر ممن كان ينحتها بيده ( ) .
وهذه الأصنام الآلهة في حقيقتها وواقعها لا تسمع دعاء ، ولا تفهم ثناء ، ولا تجيب نداءا ، ولا تبصر خضوع خاضع ، ولا خشوع عابد خاشع ، ولا تملك نفعاً ، ولا تدفع ضراً . وبناءً على هذه الحقيقة القائمة الواضحة ، فهي لا تملك من مقومات وصفات الإله شيئاً .
﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ﴾ ( )
وبمثل هذا الأسلوب والتقرير ينتبه العقل من غفلته ، ويصحو الضمير من غفوته ، ويستيقظ الحس من رقدته ، لمن ألقى السمع وهو شهيد .
خامساً : التنبه والتنبيه لدور العلم في تبين الحق والوصول إلى الصواب ، فالعلم شرط في المُحاور المؤثر ، ومحفّز للمحاوَر من أجل قبول الحق : ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ ( )
سادساً : إظهار الحرص على المخالف ، والخوف عليه من التشبث بالباطل والقناعة به ، وأن الرغبة في إقناعه وبيان وجه الحق له لمصلحته وفائدته ، ولسعادته ونجاته في دنياه وآخرته ؛ فمن دعاك لما هو عليه ، ساواك بنفسه ، ويبقى عليك تمييز ما هو عليه من حق أو باطل ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ﴾ ( ) .
سابعاً : أن هدف الحوار ليس حمل المخالف قهراً وقسراً على الموافقة ، وإنما بيان الحق له ، وإقامة الحجة عليه ، عسى أن يعود للحق ، وغالباً أن من يبحث عن الحق ويحرص عليه يهتدي إليه ، ويعان عليه ؛ ومن تحكمه أهواء نفسه، وشهوات جسده ، وتتحكم به مصالح ذاته التي يبحث عنها ، أو يخاف عليها من رئاسة وسيادة وشهرة وعصبية ومال ونحو ذلك ، فإنها تحجبه عن رؤية الحق ، وتحمله على المعاندة ، وتمنعه من القبول .
ولذا نرى هنا أن أدب إبراهيم - عليه السلام- مع أبيه ، وأسلوب حواره ، وقوة حجته ، ووضوح محجته ، وشدة حرصه ، لم تبلغ به إقناع أبيه بالحق الذي معه ، والإيمان الذي يدعوه إليه ؛ لأن أمر الهداية بيد الله ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ ( ) .
ولذا انتهى أبو إبراهيم إلى الغضب والتهديد ، تمسكاً بعادته ، وتعصباً لآلهته ، وتقليداً لآبائه ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾ ( ) .
ولما أثمر الحوار ثمرته من بذل النصح ، والتعريف بالحق ، وإقامة الحجة ، وتبين تمايز المواقف ، وظهرت عداوة آزر لربه ؛ اعتزل إبراهيم أباه ، وأعلن براءته منه ، لأن واجب إبراهيم تجاه ربه ودينه أعظم من حق أبيه عليه .
ومما يستدعي الانتباه هنا ، اكتفاء إبراهيم باعتزال أبيه دون تهديد ووعيد أو إيذاء ( ) ، بل كان ذلك الاعتزال مع الدعاء له بالاهتداء .

3- حوار البنوة :
( حوار إبراهيم مع ابنه إسماعيل - عليهما السلام - )
حينما شب إسماعيل عليه السلام عن الطوق ، وأطاق السعي مع أبيه ، واستطاع العمل معه ، والشد من أزره ، وإبراهيم - عليه السلام - في حاجة ابنه الكبير والوحيد الذي رزقه على كبر في حاجة إليه حاجة عاطفية ، وحاجة عملية ، يتعرض إبراهيم - عليه السلام - لامتحان عظيم لم يسبق إليه ، ولا يقدر أحد عليه ، حين رأى في المنام - ورؤيا الأنبياء حق ، وأحلامهم صدق - أنه يؤمر بذبح ولده ، فلذة كبده . محنةُ عظيمة تنوء بها الجبال والرجال ، لكن كمال الإيمان وثبات اليقين يدفع إبراهيم للاستجابة لهذا الأمر الجلل - وكم في طي المكاره من نعم - ويدور الحوار العظيم بين الأب الكبير الكريم ، والابن البار الحليم في قوله تعالى : ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم  فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( ) .
هنا يأتي نداء البنوة الذي يذوب له القلب ، ليعرض عليه الأمر ، ويطلب رأيه فيه ، عسى أن يقتنع به ويعينه عليه ، فلا يحوجه أن يأخذه قسراً ، ويذبحه قهراً ( ) .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ ( ) .
وهنا يأتي الجواب ، وأدب الخطاب ، ويتجلى كمال البر للأب ، وكمال الإيمان بالرب ، والاستسلام لأمره ، فيعلن إسماعيل عن رضاه وصبره ، ويساعد أباه على طاعة ربه ، وتنفيذ أمره ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( ) .
ويتحول الحوار النظري في هذا البلاء العظيم ، إلى أمر عملي ، فيصرع إبراهيم ابنه ، ويتله للجبين ، ويلقيه على الأرض ، وتأتي لحظة الحسم الرهيبة بمشاعرها النفسية الكبيرة ؛ فتسبق رحمة الله الحدث ، فينجي الله إسماعيل من الذبح ، وإبراهيم من الضعف ، فيأتي الفداء ، ويبقى الأجر والفضل والذكر لإبراهيم وإسماعيل ، ويبقى الشكر على الأمة في ذبح الأضاحي كل عام ، شكراً على النعمة ، واتباعاً للسنة .
نستخلص من هذه القصة المؤثرة والمواقف المعبرة معالم ، أهمها :
1- أهمية حسن الخطاب ورقة الكلام في الحوار ، حتى بين الآباء والأبناء .
2- أهمية الإقناع وفائدته .
3- أثر الاقتناع في عمل الأشياء وتنفيذ القضايا .
4- أهمية الإيمان ، وأثره العظيم في امتثال أشق الأمور ، والقيام بأشد الأعباء .
قال تعالى في سورة القصص تصويراً للحدث ، وبياناً لبليغ الحوار :
﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ  فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ  فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ  وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ  وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ  سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ  كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( ) .

4- ( حوار إبراهيم - عليه السلام - مع قومه )
دعا إبراهيم أباه إلى الوحدانية على انفراد ، وحاوره باستقلال ، قياماً بحق القرابة والأبوة ، وحاور أباه مع قومه جميعاً قياماً بحق الرسالة .
وقد ظهر من خلال الآيات : المنهج الإبراهيمي في الحوار ، وذلك بالبدء بالسؤال الذي يثير العقل من غفوته ، وينبه النفس من غفلتها .
فسألهم ابتداءً عن ماهية هذه الآلهة والتماثيل التي يعبدون ، وعليها يعكفون : ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ ( ) ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ  إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾ ( ) وقال : ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴾ ( ) فما كان لهم من حجة إلا حجة ضعيفة هالكة ، هي التقليد للآباء ، ومتابعتهم على ما كانوا عليه دون النظر إلى صواب الأمر من خطئه ، وصحته من خطله ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ ( ) فواصل حواره معهم بأسلوبه الهين اللين المقنع يثير الأسئلة في عقولهم ، ونفوسهم . حتى يصلوا للجواب والصواب بأنفسهم ، فلا تأخذهم عن الحق عزة . ولا يصرفهم كبر :
﴿قَالَ : هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ؟
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ ؟
أَوْ يَضُرُّونَ ؟ ﴾ ( ) .
وحين يتأملون هذه الأسئلة المثيرة . فسيجدون أنها لا تسمع ثناءاً ، ولا تجيب دعاءا . ولا تجلب نفعا لنفسها فضلا عن غيرها . ولا تدفع ضرا .
فكيف تُعبد آلهة بمثل هذا العجز والضعف ؟
وهنا يعودون للجواب القديم العنيد :
﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ ( ) .
وتبقى تلك الأسئلة التي أثارها إبراهيم - عليه السلام - تحوك في الصدور تعمل عملها . وكادت أن تؤثر وتثمر حين غضب إبراهيم - عليه السلام - من ضلالهم . وأراد بخطوة عملية أن يدلل لهم على عجز أصنامهم ، وضلال أحلامهم حين راغ على تلك الأصنام تحطيماً وتكسيراً . وأبقى كبيرها ليحتكموا إليه ، فيرون عجزه . وضعفه وأنه لا يملك جوابا ولا يعرف صوابا . ولا ينطق بحق أو باطل . وإنما هو حجر لا ينفع ولا يضر . وذلك حينما تساءلوا من فعل ذلك بآلهتهم . فأجابهم إبراهيم بجواب عليم حكيم . وقال لهم : ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ  فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ( ) .
لكن هذه الصحوة النفسية والعقلية ما لبثت أن غابت وتلاشت ، وفعلت الحمية والعصبية للآباء فعلها . فنكسوا على رؤوسهم ، وأغفلوا عقولهم ، وذهبوا في غيهم وضلالهم ، كأنما فكروا بأقدامهم ، وأجابوا : ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ ( ) .
وهنا يدفع بحجته في نحورهم فيقررها ويؤكدها : ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ﴾ ( ) .
ويعبِّر عن ضجره منهم ومن آلهتهم مبيناً ضلالهم وعدم معقولية عملهم في عبادتهم لتلك الآلهة ﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ ( ) .
ويتحول المشهد من الحوار بالدليل والحجة ، والتي كانت الغلبة فيها لإبراهيم على قومه إلى مواجهة الحجة بالقوة ، وإساءة استعمال السلطة . ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ ( ) ، فأخذوا أمام هذا الخيار بالأشق الأشد حين اختاروا الإحراق بالنار ، فكان ابتلاء آخر لإبراهيم عليه السلام - ﴿ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ ( )

وحينما ظهر الحق بدليله ، وتمايزت المواقف : أعلن إبراهيم - عليه السلام - عقائده ومواقفه . ولهذا الحوار بين إبراهيم وأبيه وقومه وأصنامهم دلائله ومعالمه ، من ذلك :
1- العناية في الحوار بالقضايا الكبرى ، وهي قضية تعبيد الناس لله الواحد الأحد ، وباقي المسائل هي فرع وتبع لها ، فإذا آمن الناس بالله ورسله وكتبه ، كان التحاكم إلى ذلك ، وافتُرض تناهي النزاع .
2- التساؤل أو المسائلة منهج نبوي في المحاجة ، تكشف الغشاوة عن العقل ، وتجعل الإنسان يراجع نفسه ، ويحاكم عقله ، ويلتمس الحق بنفسه ، فيقبل الحق باقتناع ، وتجعل الإنسان لا يشعر بأنه مغلوب مقهور ، فتحمله نوازع نفسه إلى المكابرة والمعاندة .
3- أن التقليد والمتابعة العمياء للآباء تلغي العقل ، وتحجب الحق . وتقود للضلال .
4- أن غاية الحوار والمحاجة ؛ إظهار الحق ، وإقامة الدليل ، وإسقاط الأعذار ، وليست الغاية حمل المخالف بالإكراه على الحق والدين : ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ ( )
5- أن إساءة استعمال السلطة باللجوء إلى القوة في مقابلة الحجة ، لا تلغي الحق ، بل تغذيه وتدل عليه ، وتلفت النظر إليه . وتدل على ضعف الحجة ، وخطأ المسلك .

5- ( حوار إبراهيم عليه السلام مع الملك )
قال تعالى في سورة البقرة ، حاكياً محاجة إبراهيم - عليه السلام - مع النمرود : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
قَالَ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ( )
في هذه الآيات يعرض القرآن الكريم لصورة واضحة ، ومجادلة صريحة ، وحوار جريء حين تنتقل مواقف الحياة بإبراهيم – عليه السلام – إلى أن يقف أمام الملك النمرود الذي عظم ملكه ، وطال مكثه ، وادعى الربوبية ، يحاج إبراهيم في ربه ، منكراً لوجوده ، ولقدرته سبحانه ، وأحقيته بالعبادة وحده ، مدعيا ذلك لنفسه ، وقائلاً لإبراهيم في مقام محاجة أمام ملئه :
من ربك الذي تدعو إليه وتنادي بعبادته ؟
فأجابه إبراهيم في ثبات جنان ، وطلاقة لسان ، ونصاعة بيان : ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ يوجد الأشياء والأحياء من العدم ، ويميتهم بعد إيجادهم ، ويحييهم ويبعثهم بعد موتهم ، وتلك آية عظمى على الوجود والقدرة ، وهي آية وحجة كافية لمن يبحث عن الحق ، ويريد الحقيقة .
لكن النمرود أخذته العزة بالإثم ، وما رضي أن تنقطع حجته من أول الأمر ، فكابر وجادل ، وألبس الحق بالباطل .
فقال لإبراهيم : وأنا أعفو عمن حُكم عليه بالموت فرآه عياناً بيانا ، فأكون أحييته ، وأقتل من أشاء من الأحياء فأكون أمته ، فأنا إذاً أحيي وأميت ، فلا جديد في قولك ؛ وفرح النمرود بحجته – وهي حجة داحضة – فشتان بين الحقيقتين والحجتين ، ولكنها المكابرة والمراوغة ، وغرور السلطة ، وظن النمرود أن إبراهيم سوف يجادله في اختلاف الحالتين ، فتضيع الحقيقة بما يثور حولها من جدال .
ولكن إبراهيم – عليه السلام – يتركه يغتر بحجته التي لم تقنع إلا نفسه ، ولا يقتنع بها غيره ، ويترك الجدال معه فيها ، وينقله إلى حجة أخرى لا يملك لها رداً ، ويقول له بسهولة ظاهرة ، وحجة قاهرة : هذه الشمس التي يراها كل البشر تأتي كل يوم من المشرق في نظام محكم ، ومسير دائم ، فغيّر هذا النظام ، وأَفسِد هذا الإحكام ، واعكِس مَسارها ، وات بها أنت من المغرب إن كنت كما تزعم مالك قادر متصرف . ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ ( )
وحينما سمع هذا الملك حجة إبراهيم الظاهرة لكل أحد ، والقاهرة لكل مكابر : أسقط في يده ، وأعجم لسانه ، وطاش عقله ، وبهت في جداله وحجاجه ، وبان كذبه وضلاله ، وصدمته الآية البينة ، وصفعته الحجة البالغة ( ) . ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ( )

ومن هذا الحوار نستجلي معالم هداية كثيرة وكبيرة ، أهمها :
1- تقدير المقامات ، حيث لم يجادل إبراهيم الملك في دعواه مماثلة الحالتين وتساوي الحجتين في ادعاء الإحياء والإماتة .
2- أن العدول أحياناً عن التفاصيل أبلغ من الدخول فيها .
3- الآيات الكونية أدلة ومعجزات شرعية .
4- استعمال الأدلة العقلية لإقناع المخالف وإقامة الحجة عليه .
5- أن العناد والمكابرة لا تغني عن الحق شيئا .
6- ثبات الجَنان وقوة الحجة من وسائل الإقناع الهامة ، ومن صفات المحاور الناجح .

6- ( حوار إبراهيم مع ضيفه )
ويحكي القرآن الكريم بتفصيل مثير قصة إبراهيم مع ضيفه من الملائكة المقربين ،وحواره معهم ، ووجله منهم ، وإكرامه لهم .
وتبدأ أحداث القصة بدخول الملائكة عليه ، ويبدأ الحوار بالسلام منهم عليه ، ويرد عليهم التحية بأحسن منها ، ويسارع إلى ضيافتهم وإكرامهم ، وحين امتنعوا عن تناول الطعام اللذيذ من عجل سمين حنيذ ، خافهم وأنكرهم ، فبادروه بإزالة خوفه منهم ، وتعريفهم بأنفسهم بأنهم رسل الله إليه بالبشارة ، وإلى قوم لوط بالعذاب ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ  فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ ( ) .
بشروه بما كان يتطلع إليه ، بغلام عليم ، بوليد وحفيد ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ ( ) ولأنه كان على كبر في السن وعجز في الزوجة ، تعجب هو وزوجه من هذا، بحكم التجربة البشرية ، ولكن قدرة الله ورحمته فوق الأعراف والعادات البشرية .
ولما ذهب روعه ، وفرح بالبشرى ، ونفى القنوط من رحمة الله : بدأ يجادلهم في قوم لوط ، لكن الأمر قد قُضِي والقضاء قد حم .
فأمر الله نافذ ، وحكمه ماضٍ ، وهو العليم الحكيم .
وفي القصة معانٍ كثيرة في حق الضيف في الإكرام ، وأدب الكلام ، وحسن الحوار ، موضوعاً ومضموناً ، لفظا ومعنى

7- (حوار إبراهيم - عليه السلام – مع ربه تعالى )
اتخذ الله إبراهيم خليلا ، وحكا الله في القرآن الكريم صوراً من مشاهد ومواقف إبراهيم - عليه السلام – وخطابه له ، وحواره معه :
أولها : دعوته للإسلام ومبادرة إبراهيم – عليه السلام – للإيمان والاستسلام لرب العالمين ، وجعلها وصيته لبنيه من بعده ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ
قَالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( ) .
وثانيها : ابتلاء الله له بكلماته ، ونجاحه في إتمامهن ، فكان أن قال الله له : ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ ( ) وهذه منزلة عظيمة ، وكرامة جليلة من الله تعالى لخليله ، أطمعت إبراهيم - عليه السلام - في استمرار هذه الإمامة لبنيه من بعده، فطلب من ربه قائلاً : ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ فكان الجواب : أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالتقوى واليقين ، ولا ينالها أحد من الظالمين . ﴿ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ ( ) .
وثالثها : حوار إبراهيم – عليه السلام – مع ربه في أن يلمس الآية البينة على البعث وإحياء الموتى ، وأن يرى ذلك رأي العين ، ليس شكاً في القدرة ، ولكن رغبة في الرؤية لتلك العظمة في القدرة .
وإلا فإبراهيم – عليه السلام – آية في كمال الإيمان وتمام اليقين . وإمام في ذلك .
فقد ترك وليده ووحيده في صحراء جرداء ، ثقة بالله . وأراد ذبحه قربة وطاعة لله .
وجادل النمرود الملك الطاغية ثقة بنصر الله .
ورأى من آيات الله ما يبهر ، حين جعل الله النار برداً وسلاماً عليه .
وطلب رؤية إحياء الموتى ، إنما هو ثقة بالله تعالى وإدلالا عليه ، فإن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فكان أن أكرمه الله وأبره فأجاب طلبه ، وأمره أن يأخذ أربعة أنواع من الطير ، ويضمها إليه ، ويتعرف أنواعها وألوانها وأجزاءها ، ويتأمل خلقها ، ثم يجعلها أجزاء ، ويفرقها أشلاء ، ويباعد بين تلك الأعضاء ، فيجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم يدعوهن إليه؛ فلما فعل ما أُمر به ، رأى العجب ، فبمجرد هذه الدعوة عادت الأشلاء وتكاملت الأجزاء مع بعضها ، وسرت فيها الحياة ، وعادت إليها الروح ، وبقدرة الله سعت إليه وسارت بين يديه ( ) .
وما كان ذلك إلا بقدرة العزيز الحكيم ، فتبارك الله رب العالمين .
فكان أن رأى إبراهيم البعث وإحياء الموتى عياناً بعد أن آمن به خبراً ، وتلك كرامة له، ومعجزة بين يديه .
ومن أنواع هذا الحوار تظهر إمامة إبراهيم في الدين ، وما أعطاه الله تعالى من كمال اليقين .
وما خصه الله به من بناء بيته ، وفداء ولده ، وقوة حجته ، وجعل النبوة في ذريته، وإجابة دعوته ، ونجاته من نار قومه ، وتحقيق رغبته في رؤية إحياء الموتى عياناً بياناً .
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

أ . د . محمد بن عبد الرحمن الشايع
كلية أصول الدين . جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . الرياض

المراجع
«القرآن الكريم»
1- «أساس البلاغة» . للزمخشري
2- «الأنبياء في القرآن» . سعد صادق محمد . دار اللواء . ط ر .
3- «الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية» . خالد المغامسي
- مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني
4- «الحوار النبوي مع المسلمين وغير المسلمين» . د . سعيد إسماعيل صيني .
- مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني
5- «في ظلال القرآن» . سيد قطب .
6- «القاموس المحيط» . للفيروز آبادي .
7- «قواعد ومبادئ الحوار الفعّال» . عبد الله الصقهان ، ومحمد الشويعر .
8- «قصص القرآن» . محمد أحمد جاد المولى . وآخرون . ط العاشرة .
9- «القصص القرآني تفسير اجتماعي» . د . راشد البراوي
10- «لسان العرب» . لابن منظور
11- «معجم مقاييس اللغة» . لابن فارس

الأكثر مشاركة في الفيس بوك